لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

مَظَاهِرُ التَّوْحِيْدِ فِيْ الحَجِّ (5) الْتَّوْحِيْدُ فِيْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ Empty مَظَاهِرُ التَّوْحِيْدِ فِيْ الحَجِّ (5) الْتَّوْحِيْدُ فِيْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ {الجمعة 19 أغسطس - 22:16}

مَظَاهِرُ التَّوْحِيْدِ فِيْ الحَجِّ (5)
الْتَّوْحِيْدُ فِيْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ
إبراهيم بن محمد الحقيل
6/12/1431
الْحَمْدُ لله الْرَّحِيْمِ الْرَّحْمَنِ الْكَرِيْمِ الْوَهَّابِ؛ يُنَزِّلُ رَحَمَاتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَيُفِيْضُ مِنْ خَزَائِنِهِ عَلَى خَلْقِهِ [وَهُوَ الَّذِيْ يَقْبَلُ الْتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ الْسَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُوْنَ * وَيَسْتَجِيْبُ الَّذِيْنَ آَمَنُوْا وَعَمِلُوْا الْصَّالِحَاتِ وَيَزِيْدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ] {الْشُّوْرَىْ:25-26} نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ، وَنَشْكُرُهُ فَقَدْ تَأَذَّنَ بِالْزِّيَادَةِ لِمَنْ شَكَرَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ لَا نَدْعُو وَلَا نَرْجُوْ سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ خَيْرُ مَنْ صَلَّى وَزَكَّى وَصَامَ وَحَجَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ.. عَلَّمَنَا دِيْنَنَا، وَأَرَانَا مَنَاسِكَنَا، وَاخْتَبَأَ دَعْوَتَهُ ذُخْرَاً لَنَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَاسْتَشْعِرُوا عَظَمَةَ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَفَضِيْلَةَ الْأَعْمَالِ الْصَّالِحَةِ فِيْهَا؛ فَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْعِيْدِ الْكَبِيْرِ، وَهِيَ أَيَّامُ الْذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، وَذَكَرُ الله تَعَالَىْ إِعْلَانٌ بِتَوْحِيْدِهِ سُبْحَانَهُ [وَيَذْكُرُوْا اسْمَ الله فِيْ أَيَّامٍ مَّعْلُوْمَاتٍ] {الْحَجِّ:27} هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ [وَاذْكُرُوْا اللهَ فِيْ أَيَّامٍ مَّعْدُوْدَاتٍ] {الْبَقَرَةِ:203} هِيَ أَيَّامُ الْتَّشْرِيقِ، وَفِيْ يَوْمِ الْنَّحْرِ [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] {الْكَوْثَرَ:2} وَالْصَّلاةُ مِنْ أَعْظَمِ الْذِّكْرِ.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مَنَاسِكُهَا وَشَعَائِرُهَا [لِكُلٍ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً] {الْمَائِدَةِ:48} وَفِيْ آَيَةٍ أُخْرَى [لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكَاً هُمْ نَاسِكُوْهُ] {الْحَجِّ:67}.
وَفَرِيْضَةُ الْحَجِّ مَنْسَكٌ مِنْ مَنَاسِكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَعَلَّمَهُ الْنَّبِيُّ ^ أُمَّتَهُ فَقَالَ:«لِتَأْخُذُوْا عَنِّيْ مَنَاسِكَكُمْ». وَغَرَضُ هَذَا المَنْسَكِ الْعَظِيْمِ إِعْلَانُ تَوْحِيْدِ الله تَعَالَى، وَإِقَامَةُ ذَكْرِهِ، وَتَكْرِيسُ الْعُبُوْدِيَّةِ لَهُ سُبْحَانَهُ فِيْ أَظْهَرِ صُوَرِهَا، وَأَبْيَنِ شِعَائِرِهَا؛ حَيْثُ الْسَّفَرُ لِأَدَائِهِ، وَالتَّجَرُّدُ مِنَ المَلَابِسِ لِلْإِحْرَامِ بِهِ، وَكَثْرَةُ الْأَعْمَالِ الَّتِيْ فِيْهَا مَشَقَّةٌ..
إِنَّ مَظَاهِرَ الْتَّوْحِيْدِ فِيْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ كَثِيْرَةٌ، وَمَا مِنْ شَعِيْرَةٍ مِنْ شَعَائِرِهِ، وَلَا مَشْعَرٍ مِنْ مَشَاعِرِهِ إِلَّا وَفِيْهِ مِنْ تَكْرِيسِ الْتَّوْحِيْدِ قَوْلَاً وَفِعْلَاً مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المَنَاسِكَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَيَكْفِيْ دَلِيْلَاً عَلَيْهِ قَوْلُ الْنَّبِيِّ ^:«إِنَّمَا جُعِلَ الْطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الْصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ الله»رَوَاهُ أَبُوْ دَاوُدَ.
فَالَإِحْرَامُ وَالْإِهْلَالُ وَالْطَّوَافُ وَالْسَّعْيُ وَالمَبِيْتُ بِمِنَىً وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَكُلُّ مَنَاسِكِ الْحَجِّ هِيَ لِإِعْلَانِ الْتَّوْحِيْدِ، وَإِقَامَةِ الْذِّكْرِ.
وَمَشْعَرُ عَرَفَةَ مَشْعَرٌ تَهْفُوا إِلَيْهِ قُلُوْبُ المُوَحِّدِيْنَ، وَتَشْرَئِبُّ لَهُ أَعْنَاقُ المُؤْمِنِيْنَ، وَكَمْ سَالَتْ المَدَامِعُ لِرُؤْيَةِ الْحُجَّاجِ فِيْهِ؛ غِبْطَةً لَهُمْ، وَشَوْقَاً إِلَى الْوُقُوْفِ فِيْهِ..
عَرَفَةُ.. وَمَا أَدْرَاكُمْ مَا عَرَفَةُ؟! عَرَفَةُ رُكْنُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الَّذِي قَالَ فِيْهِ الْنَّبِيُّ ^:«الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوْعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ»رَوَاهُ أَهْلُ الْسُّنَنِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ.
قَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:«تَوَاطَأَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُوْلِ الله ^ وَعَنِ الْصَّحَابَةِ وَالْتَّابِعِيْنَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنْ إِدْرَاكَ الْحَجِّ هُوَ أَنْ يَطَأَ المَرْءُ عَرَفَاتٍ مَعَ الْنَّاسِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قُرْبِ الْصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ الْنَّحْرِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ الْصُّبْحُ وَلمَّا يَدْخُلْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيْ ذَلِكَ».
وَقَدْ وَقَفَ الْنَّبِيُّ ^ فِيْ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيْمِ، وَالْوُقُوْفُ بِعَرَفَةَ مُظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْتَّوْحِيْدِ؛ إِذْ تَؤُمُّ ذَلِكَ المَوْقِفَ جُمُوْعُ الْحَجِيْجِ لَا غَايَةَ لَهُمْ إِلَّا امْتِثَالُ أَمْرِ الله تَعَالَى، وَالْإِذْعَانُ لِشَرِيْعَتِهِ حِيْنَ جَعَلَ الْوُقُوْفَ بِعَرَفَةَ مَنْسَكَاً مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَشَعِيْرَةً مِنْ شَعَائِرِهِ.. وَإِظْهَارُ الْشَّعَائِرِ الْدِّيْنِيَّةِ دَلِيْلٌ عَلَى الْإِذْعَانِ وَالانْقِيَادِ، وَدَعْوَةٌ صَرِيْحَةٌ لِلْتَّوْحِيْدِ.. فَكَمْ تَأَثَّرَ بِمَظْهَرِ الْحَجِيْجِ وَهُمْ وُقُوْفٌ بِعَرَفَةَ مِنْ عُصَاةٍ فَتَابُوْا، وَمِنْ كُفَّارٍ فَآَمَنُوا، وَمِنْ مُؤْمِنِيْنَ بَكَوْا؛ تَعْظِيْما لله تَعَالَى حِيْنَ رَأَوْا هَذِهِ الْجُمُوْعَ الْغَفِيرَةَ قَدِمَتْ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيْقٍ، وَتَحَمَّلَتْ بُعْدَ الْشُّقَّةِ، وَبَذْلَ الْنَّفَقَةِ، وَشِدَّةَ الْزِّحَامِ، لَا لِطَلَبِ شَيْءٍ مِنَ الْدُّنْيَا، وَإِنَّمَا لِتَعْظِيْمِ شَعَائِرِ الله تَعَالَى، وَإِظْهَارِ دِيْنِهِ، وَإِعْلَانِ تَوْحِيْدِهِ.
إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ هُوَ يَوْمُ الْدُّعَاءِ: دُعَاءِ الْثَّنَاءِ وَدُعَاءِ المَسْأَلَةِ، وَالْدُّعَاءُ أَبْلَغُ الْعِبَادَاتِ وَأَظْهَرُهَا، وأَدَلُّهَا عَلَى انْعِقَادِ الْقَلْبِ عَلَى الْتَّوْحِيْدِ، وَأَكْثَرُ الَشِّرْكِ فِيْ الْبَشَرِ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ جِهَةِ الْدُّعَاءِ [وَأَنَّ المَسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدَاً] {الْجِنِّ:18} وَقَالَ الْنَّبِيُّ ^:«الْدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»رَوَاهُ أَهْلُ الْسُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الْتِّرْمِذِيُّ.
وَقَدْ جَاءَ فِيْ الْحَدِيْثِ المُرْسَلِ:«خَيْرُ الْدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالْنَّبِيُّوْنَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ»رَوَاهُ مَالِكٌ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:«وَجَاءَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيْثِ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ عَرَفَةَ مُجَابٌ كُلُّهُ فِي الْأَغْلَبِ إِنْ شَاءَ اللهُ إِلَّا لِلْمُعْتَدِيْنَ فِيْ الْدُّعَاءِ بِمَا لَا يُرْضِى اللهَ تَعَالَى».اهـ
فَإِذَا كَانَ الْدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةَ، وَكَانَ إِخْلَاصُهُ لله تَعَالَى إِخْلَاصَاً فِيْ عِبَادَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا هُوَ الْتَّوْحِيْدُ الْخَالِصُ، وَكَانَ دُعَاءُ عَرَفَةَ خَيْرَ الْدُّعَاءِ؛ كَانَ ظُهُوْرُ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ وَالْتَّوْحِيْدِ الْخَالِصِ فِيْ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيْمِ فِيْ مَشْعَرٍ عَرَفَةَ..
بَلْ لَا يَوْمَ مِنْ أَيَّامِ الْسَّنَةِ يَظْهَرُ فِيْهِ إِخْلَاصُ الْدُّعَاءِ لله تَعَالَى كَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَلَا مَكَانَ فِيْ الْأَرْضِ يَصْعَدُ مِنْهُ دَعَوَاتٌ إِلَى الله تَعَالَىْ أَكْثَرُ مِنَ مَشْعَرِ عَرَفَاتٍ؛ فَأَكُفُّ مَلْيُونَي حَاجٍّ مَرْفُوْعَةٌ إِلَى الله تَعَالَى تَدْعُوهُ، فِيْ أَطْوَلِ وَقْتٍ لِلْدُّعَاءِ مِنْ الْعَامِ كُلِّهِ، مِنْ زَوَالِ الْشَّمْسِ إِلَى مَغِيْبِهَا.. يَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ فِيْ أَبْلَغِ حَالٍ مِنَ الْاسْتِكَانَةِ وَإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ لله تَعَالَى..
إِنَّهُمْ يَرْفَعُوْنَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى الْكَرِيْمِ الْوَهَّابِ شُعْثَاً مِنْ طُولِ الْسَّفَرِ، غُبْرَاً مِنْ شِدَّةِ الْزِّحَامِ وَالسَّيرِ، ضَاحِيْنَ لَا شَيْءَ يُغَطِّي رُءُوْسَهُمْ.. يُلِحُّونَ فِيْ دُعَائِهِمْ، وَيُقِرُّونَ بَتَقْصِيرِهِمْ، وَيَسْأَلُوْنَ رَبَهُمْ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيَعْرِضُوْنَ حَاجَاتِهِمُ الْدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ مُنْطَرِحِينَ عَلَى بَابِهِ، يَضْرَعُونَ فِيْ دُعَائِهِمْ وَيَبْكُوْنَ.. فَيَا لله الْعَظِيْمِ: أَيُّ مَظْهَرٍ مِنَ مَظَاهِرِ الْتَّوْحِيْدِ أَبْيَنُ مِنْ دُعَاءِ الْحُجَّاجِ فِيْ يَوْمِ عَرَفَةَ؟!
كَيْفَ وَالْوَاقِفُوْنَ بِعَرَفَةَ -وَهُمْ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى وَيُلِحُّونَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِيْ دُعَائِهِمْ- يَعْلَمُوْنَ بِدُنُوِّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَمُبَاهَاتِهِ بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، وَيَرْجُوْنَ الْعِتْقَ مِنَ الْنَّارِ؛ لِقَوْلِ الْنَّبِيِّ ^:«مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيْهِ عَبْدَاً مِنَ الْنَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ المَلَائِكَةَ فَيَقُوْلُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَلَا دُعَاءَ أَكْثَرُ مَنْ دُعَائِهِمْ، وَلَا تَضَرُّعَ أَشَدُّ مِنَ تَضَرُّعِهِمْ، وَلَا رَجَاءَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَرَجَائهِمْ، وَلَا حَالَ أَوْلَى بِالْإِجَابَةِ مِنْ حَالِهِمْ وَهُمْ مُسْتَكِيْنُوْنَ مُتَضَرِّعُونَ.. وَالرَّجَاءُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْتَّوْحِيْدِ عَظِيْمٌ، وَهُوَ بُرْهَانُ الثِّقَةِ بِالله تَعَالَى، وَالْتَّصْدِيْقِ بِوَعْدِهِ، وَالْيَقِينِ بِثَوَابِهِ.
فَإِذَا غَرَبَتْ شَمْسُ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيْمِ نَفَرُوْا إِلَىْ مُزْدَلِفَةَ مُلَبِّينَ وَمُكَبِّرِيْنَ.. قَدْ اسْتَرْوَحَتْ قُلُوْبُهُمْ مِنْ مُنَاجَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِ، وَالْبُكَاءِ لَهُ..فَلَا سَاعَةَ فِيْ الْدُّنْيَا أَلَذُّ مِنْ تِلْكَ الْسَّاعَةِ..
وَفِيْ مُزْدَلِفَةَ يَبِيتُونَ، وَلَا يُحْيُوْنَ الْلَّيْلَ، مُمْتَثِلِيْنَ سَنَةَ الْنَّبِيِّ ^، وَامْتِثَالُ الْسُّنَّةِ تَوْحِيْدٌ، فَإِذَا بَزَغْ فَجْرُ يَوْمِ الْنَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ صَلَّوا الْفَجْرَ فِيْ أَوَّلِ وَقْتِهَا لِلْتَّفَرُّغِ لِلْذِّكْرِ وَالْدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْفَارِ جَدَّاً قُبَيْلَ طُلُوْعِ الْشَّمْسِ، وَهُوَ وَقْتٌ طَوِيْلٌ يُظَنُّ حُضُوْرُ الْقَلْبِ فِيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ نَوْمٍ وَرَاحَةٍ فَتَكُوْنُ قُلُوْبُهُمْ حَاضِرَةً لِتَعْظِيْمِ الله تَعَالَىْ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ، وَهُوَ ذِكْرٌ مَنْصُوْصٌ عَلَيْهِ فِيْ الْقُرْآَنِ الْكَرِيْمِ [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوْا فَضْلَاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوْا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوْهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْضَّالِّيْنَ] {الْبَقَرَةِ:198}
فَمَا أَرْوَعَهَا مِنْ لَحَظَاتٍ! وَمَا أَلَذَّهَا مِنْ طَاعَاتٍ! وَمَا أَرْجَاهَا مِنْ دَعَوَاتٍ! ذِكْرٌ وَدُعَاءٌ وَرَجَاءٌ فِيْ مَشْعَرَي مُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَاتٍ.. ثُمَّ يُفِيْضُونَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنَىً لِرَمْيِّ الْجِمَارِ [ثُمَّ أَفِيْضُوْا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الْنَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوْا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ] {الْبَقَرَةِ:199}. وَهَلْ هَذَا إِلَا تَرْسِيْخٌ لِلْتَّوْحِيْدِ، وَعَمَلٌ بِمُوْجَبِهِ، وَدَعْوَةٌ إِلَيْهِ؟!
فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَقْبَلَ مِنَّا وَمِنَ الْحُجَّاجِ، وَأَنْ يَجْعَلَ حَجَّهُمْ مَبْرُوْرَاً، وَسَعْيَهُمْ مَشْكُوْرَاً، وَذَنْبَهُمْ مَغْفُورَاً، وَأَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى أَهْلِيْهِمْ سَالِمِيْنَ غَانِمِينَ، إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ..
وَأَقُوْلُ هَذَا الْقَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

الخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسْولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَىْ وَأَطِيْعُوْهُ وَكَبِّرُوهُ وَاشْكُرُوْهُ وَعَظِّمُوْهُ [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيْهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوْا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوْبُهَا فَكُلُوْا مِنْهَا وَأَطْعِمُوْا الْقَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ * لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُوْمُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ الْتَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوْا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِيْنَ] {الْحَجِّ:36-37}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: إِنَّكُمْ فِيْ أَيَّامٍ عَظِيْمَةٍ تَسْتَقْبِلُوْنَ فِيْهَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَيُشْرَعُ صِيَامُهُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بِعَرَفَةَ مُحْرِمَاً بِالْحَجِّ، وَصَوْمُهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ، كَمَا قَالَ الْنَّبِيُّ ^:«صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى الله أَنْ يُكَفِّرَ الْسَّنَةَ الَّتِيْ قَبْلَهُ وَالْسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَبَعْدَهُ يَوْمُ الْنَّحْرِ، وَقَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى فِيْهِ إِرَاقَةَ دِمَاءِ بَهِيْمَةِ الْأَنْعَامِ تَقْرُبَاً لله تَعَالَى بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] {الْكَوْثَرَ:2} ذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ الْسَّلَفِ أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِيْدِ يَوْمَ الْنَّحْرِ ثُمَّ الْتَّقَرُّبُ لله تَعَالَى بِالضَحَايَا.
وَفِيْ حَدِيْثِ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«وَنَحْنُ وُقُوْفٌ مَعَ رَسُوْلِ الله ^ بِعَرَفَاتٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِيْ كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَةً»رَوَاهُ أَهْلُ الْسُّنَنِ وَقَالَ الْتِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيْبٌ.
وَقَدْ ضَحَّىْ الْنَّبِيُّ ^ كَمَا فِيْ حَدِيْثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «ضَحَّى الْنَّبِيُّ ^ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعَاً قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ»رَوَاهُ الْشَّيْخَانِ.
وَالْسَّنَةُ أَنَّ يَذْبَحَ أُضْحِيَتَهُ بِيَدِهِ لْيُباشِرَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ الْعَظِيْمَةَ بِنَفْسِهِ، وَالْعُلَمَاءُ يَسْتَحِبُّوْنَ ذَلِكَ، قَالَ أَبُوْ إِسْحَاقَ الْسَّبِيعِيُّ: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ يَذْبَحُوْنَ ضَحَايَاهُمْ بِأَيْدِيْهِمْ. وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَذَلِكَ مِنْ الْتَّوَاضُعِ لله تَعَالَى وَأَنَّ رَسُوْلَ الله كَانَ يَفْعَلُهُ... وَقَدْ كَانَ أَبُوْ مُوْسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَأْمُرُ بَنَاتَهُ أَنْ يَذْبَحْنَ نُسُكَهُنَّ بِأَيْدِيْهِنَّ».
وَكُلُوا مِنْ ضَحَايَاكُمْ وَتَصَدَّقُوْا وَأَهْدُوا، وَأَخْلِصُوْا فِيْ أَعْمَالِكُمْ لله تَعَالَى، تُقَبَّلَ اللهُ تَعَالَى مِنَّا وَمِنْ المُسْلِمِيْنَ أَجْمَعِيْنَ [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِيْ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِيْ لله رَبِّ الْعَالَمِيْنَ * لَا شَرِيْكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِيْنَ] {الْأَنْعَامِ:163} ..
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
مظاهر التوحيد في الحج (5)
التوحيد في عرفة ومزدلفة
إبراهيم بن محمد الحقيل
6/12/1431
الحمد لله الرحيم الرحمن الكريم الوهاب؛ ينزل رحماته على عباده، ويفيض من خزائنه على خلقه [وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ] {الشُّورى:25-26} نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا ندعو ولا نرجو سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ خير من صلى وزكى وصام وحج البيت الحرام.. علمنا ديننا، وأرانا مناسكنا، واختبأ دعوته ذخرا له، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستشعروا عظمة هذه الأيام، وفضيلة الأعمال الصالحة فيها؛ فهي مقدمة العيد الكبير، وهي أيام الذكر والعبادة، وذكر الله تعالى إعلان بتوحيده سبحانه [وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ] {الحج:27} هي أيام العشر [وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ] {البقرة:203} هي أيام التشريق، وفي يوم النحر [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] {الكوثر:2} والصلاة من أعظم الذكر.
أيها الناس: لكل أمة من الأمم مناسكها وشعائرها [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا] {المائدة:48} وفي آية أخرى [لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ] {الحج:67}.
وفريضة الحج منسك من مناسك هذه الأمة، فرضه الله تعالى على عباده، وعلمه النبي ^ أمته فقال:«لتأخذوا عني مناسككم».
وغرض هذا المنسك العظيم إعلان توحيد الله تعالى، وإقامة ذكره، وتكريس العبودية له سبحانه في أظهر صورها، وأبين شعائرها؛ حيث السفر لأدائه، والتجرد من الملابس للإحرام به، وكثرة الأعمال التي فيها مشقة..
إن مظاهر التوحيد في مناسك الحج كثيرة، وما من شعيرة من شعائره، ولا مشعر من مشاعره إلا وفيه من تكريس التوحيد قولا وفعلا ما يدل على أن المناسك إنما شرعت لأجل ذلك، ويكفي دليلا عليه قول النبي ^:«إنما جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ الله»رواه أبو داود.
فالإحرام والإهلال والطواف والسعي والمبيت بمنى ورمي الجمار وكل مناسك الحج هي لإعلان التوحيد، وإقامة الذكر.
ومشعر عرفة مشعر تهفوا إليه قلوب الموحدين، وتشرئب له أعناق المؤمنين، وكم سالت المدامع لرؤية الحجاج فيه؛ غبطة لهم، وشوقاً إلى الوقوف فيه..
عرفة.. وما أدراكم ما عرفة؟! عرفة ركن الحج الأكبر الذي قال فيه النبي ^:«الْحَجُّ عَرَفَةُ من جاء لَيْلَةَ جَمْعٍ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ»رواه أهل السنن إلا أبا داود.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:«تواطأت الأخبار عن رسول الله ^ وعن الصحابة والتابعين من بعدهم من علماء الأمصار أن إدراك الحج هو أن يطأ المرء عرفات مع الناس أو بعد ذلك إلى قرب الصبح من ليلة النحر فان أدركه الصبح ولما يدخل عرفات قبل ذلك فقد فاته الحج ولا اختلاف بين أهل العلم في ذلك».
وقد وقف النبي ^ في ذلك اليوم العظيم، والوقوف بعرفة مظهر من مظاهر التوحيد؛ إذ تؤم ذلك الموقف جموع الحجيج لا غاية لهم إلا امتثال أمر الله تعالى، والإذعان لشريعته حين جعل الوقوف بعرفة منسكا من مناسك الحج، وشعيرة من شعائره.. وإظهار الشعائر الدينية دليل على الإذعان والانقياد، ودعوة صريحة للتوحيد.. فكم تأثر بمظهر الحجيج وهم وقوف بعرفة من عصاة فتابوا، ومن كفار فآمنوا، ومن مؤمنين بكوا؛ تعظيما لله تعالى حين رأوا هذه الجموع الغفيرة قدمت من كل فج عميق، وتحملت بعد الشقة، وبذل النفقة، وشدة الزحام، لا لطلب شيء من الدنيا، وإنما لتعظيم شعائر الله تعالى، وإظهار دينه، وإعلان توحيده.
إن يوم عرفة هو يوم الدعاء: دعاء الثناء ودعاء المسألة، والدعاء أبلغ العبادات وأظهرها، وأدلها على انعقاد القلب على التوحيد، وأكثر الشرك في البشر إنما وقع من جهة الدعاء [وَأَنَّ المَسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا] {الجنّ:18} وقال النبي ^:«الدُّعَاءُ هو الْعِبَادَةُ»رواه أهل السنن وصححه الترمذي.
وقد جاء في الحديث المرسل:«خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ ما قلت أنا وَالنَّبِيُّونَ من قَبْلِي لَا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له له الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وهو على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ»رواه مالك.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى:«وجاء الاستدلال بهذا الحديث على أن دعاء عرفة مجاب كله في الأغلب إن شاء الله إلا للمعتدين في الدعاء بما لا يرضى الله تعالى».اهـ
فإذا كان الدعاء هو العبادة، وكان إخلاصه لله تعالى إخلاصا في عبادته سبحانه، وهذا هو التوحيد الخالص، وكان دعاء عرفة خير الدعاء؛ كان ظهور العبادة الخالصة والتوحيد الخالص في ذلك اليوم العظيم في مشعر عرفة..
بل لا يوم من أيام السنة يظهر فيه إخلاص الدعاء لله تعالى كيوم عرفة، ولا مكان في الأرض يصعد منه دعوات إلى الله تعالى أكثر من مشعر عرفات؛ فأكف مليوني حاج مرفوعة إلى الله تعالى تدعوه، في أطول وقت للدعاء من العام كله، من زوال الشمس إلى مغيبها.. يفعلون ذلك في أبلغ حال من الاستكانة وإظهار الفقر والفاقة والحاجة لله تعالى..
إنهم يرفعون أيديهم إلى الكريم الوهاب شعثا من طول السفر، غبرا من شدة الزحام والسير، ضاحين لا شيء يغطي رءوسهم.. يلحون في دعائهم، ويقرون بتقصيرهم، ويسألون ربهم أن يعفو عنهم، ويعرضون حاجاتهم الدنيوية والأخروية منطرحين على بابه، يضرعون في دعائهم ويبكون.. فيا لله العظيم.. أي مظهر من مظاهر التوحيد أبين من دعاء الحجاج في يوم عرفة؟!
كيف والواقفون بعرفة -وهم يدعون الله تعالى ويلحون عليه سبحانه في دعائهم- يعلمون بدنوه تعالى منهم، ومباهاته بهم ملائكته، ويرجون العتق من النار؛ لقول النبي ^:«ما من يَوْمٍ أَكْثَرُ من أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فيقول ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ»رواه مسلم.
فلا دعاء أكثر من دعائهم، ولا تضرع أشد من تضرعهم، ولا رجاء عند غيرهم كرجائهم، ولا حال أولى بالإجابة من حالهم وهم مستكينون متضرعون.. والرجاء باب من أبواب التوحيد عظيم، وهو برهان الثقة بالله تعالى، والتصديق بوعده، واليقين بثوابه.
فإذا غربت شمس ذلك اليوم العظيم نفروا إلى مزدلفة ملبين ومكبرين.. قد استروحت قلوبهم من مناجاتهم لربهم، وكثرة سؤاله، والبكاء له..فلا ساعة في الدنيا ألذ من تلك الساعة..
وفي مزدلفة يبيتون، ولا يحيون الليل، ممتثلين سنة النبي ^، وامتثال السنة توحيد، فإذا بزغ فجر يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر صلوا الفجر في أول وقتها للتفرغ للذكر والدعاء إلى الإسفار جدا قبيل طلوع الشمس، وهو وقت طويل يُظن حضور القلب فيه؛ لأنه بعد نوم وراحة فتكون قلوبهم حاضرة لتعظيم الله تعالى وذكره ودعائه، وهو ذكر منصوص عليه في القرآن الكريم [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] {البقرة:198}
فما أروعها من لحظات! وما ألذها من طاعات! وما أرجاها من دعوات! ذكر ودعاء ورجاء في مشعري مزدلفة وعرفات.. ثم يفيضون من مزدلفة إلى منى لرمي الجمار [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {البقرة:199}. وهل هذا إلا ترسيخ للتوحيد، وعمل بموجبه، ودعوة إليه؟!
فنسأل الله تعالى أن يقبل منا ومن الحجاج، وأن يجعل حجهم مبرورا، وسعيهم مشكورا، وذنبهم مغفورا، وأن يردهم إلى أهليهم سالمين غانمين، إنه سميع مجيب..
وأقول هذا القول وأستغفر الله...

الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه وكبروه واشكروه وعظموه [وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ] {الحج:36-37}.
أيها الناس: إنكم في أيام عظيمة تستقبلون فيها يوم عرفة ويشرع صيامه لمن لم يكن بعرفة محرما بالحج، وصومه يكفر سنتين، كما قال النبي ^:«صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ على الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ التي بَعْدَهُ»رواه مسلم.
وبعده يوم النحر، وقد شرع الله تعالى فيه إراقة دماء بهيمة الأنعام تقربا لله تعالى بهذه العبادة العظيمة [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] {الكوثر:2} ذكر جمع من السلف أنها صلاة العيد يوم النحر ثم التقرب لله تعالى بالضحايا.
وفي حديث مِخْنَفِ بن سُلَيْمٍ رضي الله عنه قال:«وَنَحْنُ وُقُوفٌ مع رسول الله ^ بِعَرَفَاتٍ قال: يا أَيُّهَا الناس إِنَّ على كل أَهْلِ بَيْتٍ في كل عَامٍ أُضْحِيَّةً»رواه أهل السنن وقال الترمذي: حسن غريب.
وقد ضحى النبي ^ كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: «ضَحَّى النبي ^ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ على صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بيده»رواه الشيخان.
والسنة أن يذبح أضحيته بيده ليباشر هذه العبادة العظيمة بنفسه، والعلماء يستحبون ذلك، قال أبو إسحاق السَبِيعِيُ: «كان أصحاب محمد يذبحون ضحاياهم بأيديهم. وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: وذلك من التواضع لله تعالى وأن رسول الله كان يفعله... وقد كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يأمر بناته أن يذبحن نسكهن بأيديهن».
وكلوا من ضحاياكم وتصدقوا وأهدوا، وأخلصوا في أعمالكم لله تعالى، تقبل الله تعالى منا ومن المسلمين أجمعين [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] {الأنعام:163} ..
وصلوا وسلموا على نبيكم...

الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى