رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
حكم السفر إلى بلاد الكفار يوم الجمعة الموافق : 30/05/1423هـ
أما بعد: فإنكم عن دنياكم هذه راحلون وإلى ربكم منقلبون، أفلا يعتبر المغرور بمن دفنه؟, كم من جبار فارق بالموت قصره ومسكنه، ونزل بعد ذلك دار مسكنة؟، هل رحم الموت مريضاً لضعف أوصاله؟, هل ترك كاسباً لأجل أطفاله وعياله؟, كم دخل على شريف في قصره فلم ينظر إلى خلاله؟, كم خرق درعاً نبيلاً لوقع نباله؟, كم أيتم صغيراً ولم يباله؟, {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، فتزودوا لذلك المصير والمنقلب بصالحات الأقوال والأعمال فلنعم الزاد التقوى.
أيها الناس: هذا الدين العظيم مبناه على التَبَرِّي من دين المغضوب عليهم والضالين، فالصراط المستقيم يقتضي مخالفة أصحاب الجحيم حتى يكون الدين كله لله، فكل ما يفضي إلى الخلط بين الحق والباطل, وإلى تمييع معالم الحق وطمس أنواره منع منه الشارع وحرَّم, لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال, {وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلرشِدُونَ * فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌْ}[الحجرات:7، 8] والدين رأس مال المسلم، فيجب الحفاظ عليه وعدم التفريط فيه.
وفي هذه الأعصر ومع دعوات الشوملة والكوكبة والعولمة سعى أعداء الدين ولا يزالون للخلط بين الإسلام ونقيضه, حتى يُشوَّه الإسلام ويُساء إليه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فجاءت دعوات التقريب والحوار بين الإسلام والديانات الأخرى، على أن يتنازل المسلمون عن معالم دينهم والاعتزاز به ليلتقوا بأولئك الكافرين في نقطة رماديَّة مشتركة يسترضون بها أهواءهم.
وقامت تلك الجهود على قدم وساق تسلك مسالك عديدة من أبرزها تسهيل الأمر لمن قدم على الكفار بلادهم وسافر إليها دون داع أو ضرورة، مع أن نصوص الوحيين تنهى عن ذلك إلاّ في حدود ضيقة, وللضرورة حينئذ أحكامها, والضرورة تُقَدَّرُ بقدرها، وأصبح لتلك الدعوات رواج كبير, لاسيما في الإجازات الصيفية، فيسافر إلى تلك الديار فئام من أبناء المسلمين لقضاء العطلات، وآخرون لقضاء شهر العسل زعموا، وآخرون بل وأخريات يشدون أحزمة السفر للدراسة تارات أخرى.
ولكن ما الحكم الشرعي في ذلك السفر؟, وما هي الضوابط التي قيد بها العلماء الفتوى بجواز السفر إلى ديارهم؟, هذا ما سنلقي عليه الضوء في هذه العجالة عظة لأولى العقول والألباب.
الأصل المقرر والقاعدة الشرعية المضطردة: أنه لا يجوز للمسلم أن يساكن اليهود والنصارى والمشركين في ديارهم, ولا يقيم ببلادهم لأنه من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً فإنه بذلك الرضا يؤثر محبة الله ومرضاته, ويغار على محارم الله وينحاز لصف أولياء الرحمن ويبغض أولياء الشيطان, قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً % إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:97،98] قال ابن كثير رحمه الله:"هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع", والوعيد في القرآن الكريم جاء على من ترك الهجرة من تلك الديار مع القدرة عليها فكيف بمن يذهب إليها برغبة منه ورضا، ويتعذر بأعذار دنيَّة كسياحة وعطلة فإن ذلك لا يزيده إلا مقتاً, يقول سبحانه وتعالى: {فَفِرُّوا إلى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات:50] فما عُذرُ من يسافر إلى بلاد الكفار وهو مطلوب منه الفرار إلى الله؟!, ومن صح فراره إلى الله صح قراره مع الله.
صح عن جرير البجلي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله بايعني وأشترط علي فأنت أعلم, قال صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة, وتناصح المسلمين وتفارق المشركين)) رواه النسائي وصححه الألباني, وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ((أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) رواه أبو داود, فكيف بمن يؤاكلهم، ويدخل نواديهم، ويدعم اقتصادهم، ويروّج للسياحة عندهم، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم أو يفارق المشركين)) رواه النسائي وابن ماجه وأحمد, والمعنى: حتى يفارق المشركين، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قام يومًا خطيبًا فكان مما قال: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)) رواه أبو داود وصححه الألباني, وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خَثْعَم فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العَقل وقال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين))، قالوا: يا رسول الله، ولِمَ؟, قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تتراءى ناراهما)) رواه الترمذي وأبو داود, قال السيوطي:"يعني: لا يساكن المسلم الكفار في بلادهم بحيث لو أوقدوا ناراً ترى كل طائفة نار الأخرى".
لقد قرر علماء الإسلام بيان الحكم الشرعي في عدم جواز الإقامة ببلاد الكفار, ولا فرق بين المدة القريبة والبعيدة, لأن السفر إلى بلادهم لغير غرض شرعي ترجحت مصلحته وظهرت فائدته ضرر محض على الدين والنفس والعرض والأخلاق، ولأن دين الإسلام مبناه على التبري من كل ما يناقض شريعة الله ومن مستلزمات ذلك التباعد عن المغضوب عليهم والضالين وديارهم, والانحياز إلى أولياء الله وتوليهم, هذا هو الأصل المقرر ويستثنى من ذلك ما كان وفق ضوابط شرعية واضحة لأفراد من المسلمين، كأن يسافر للعلاج الذي لا بديل له، أو يحتاج إلى جلب بضاعة أو تخليص حق, فالحاجة تنزل منزلة الضرورة.
وشرط الإقامة في ديارهم أن يأمن المقيم على دينه بقوة الإيمان والعزيمة التي يتحلى بها, والعلم الشرعي الذي يتسلح به, وأن يكون مضمراً العداوة والبغض للكافرين مبتعدًا عن موالاتهم ومحبتهم, فلا يخشى من نفسه الميل إليهم ولا الركون لهم, وكذلك اشترطوا له أن يتمكن من إظهار دينه بأداء شعائره دون ممانعة كالجُمع والجماعات والصوم والزكاة.
والناس في الإقامة بديار الكفر أقسام, منهم من يقيم للدعوة إلى الله وهداية الخلق إلى الحق, فهذا نوع من الجهاد الشرعي امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية)) وهو من فروض الكفايات لمن قدر عليها, ومنهم من يقيم لدراسة أحوال تلك الديار وأهلها لأخذ العبرة مما وقعوا فيه من ضلال وانحراف, ولتحذير الناس مما هم فيه، أو أن يكون عيناً للمسلمين يأتيهم بأخبار القوم وما يكيدون للإسلام والمسلمين, فهذا لا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل حذيفة بن اليمان إلى معسكر المشركين في غزوة الخندق ليأتي بأخبارهم, ومنهم من يقيم لحاجة الدولة المسلمة وما تمس إليه الحاجة من تنظيم مصالحها بتلك الدول الكافرة, كموظفي السفارات فحكمهم حكم ما أقاموا لأجله، فالملحق الثقافي الذي يتابع مصالح الطلبة المسلمين, ويبحث عن سبل وقايتهم من الشرور يحصل بعلمه هذا اندفاع شر كبير فعمله مبرور وسعيه مشكور, ومن الناس من يقيم لمصلحة خاصة مباحة كالتجارة أو العلاج, فتباح الإقامة بقدر الحاجة, ومتى زالت الضرورة عاد التحريم إلى الجريان, وقد نص الفقهاء على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة, واستلوا لذلك بفعل بعض الصحابة, إلا أنهم ومع هذا قالوا يختار المرء أقلها إثمًا، مثل أن يكون بلد فيه كفر وبلد فيه جور خير منه, فيختار أقلها إثما من باب ارتكاب أدنى المفسدتين, أما من يذهب لتلك الديار ويقيم بها للدراسة فهذا شأنه أعظم وأخطر, فتشترط فيه شروط أخرى زيادة على ما مضى بأن يكون رشيداً لا يخادع ولا يمكر به لئلا يقع في المنكرات، وأن يكون عنده علم شرعي يدفع به الشبهات, لئلا يكون لقمة سائغة في أيدي المنصِّرين، وأن يكون عنده دين يحميه من نزغات الشياطين والشهوات، وأن تدعوا الحاجة إلى تعلم ذلك العلم في تلك الديار, وأن لا يكون لذلك التخصص وجود في بلاد المسلمين, فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر, وعليه يتضح أن فتح باب الإبتعاث التعليمي لكل أحد من البنين والبنات مزلَّة أقدام لا يمكن الإقدام عليه, وقد جدَّ جديد في الأمر يوم قصد فئام من أبناء المسلمين تلك الديار وساكنوا أهلها في بيوتهم, واستظلوا بظلّهم وحصل الاختلاط بهم تحت دعوى اكتساب اللغة وإتقانها, فسكنوا مع عائلات نصرانية أجنبية في بلادهم تحت ذريعة إتقان لغة القوم، وهذه إحدى الدعوات التي لها رواج بين العامة والخاصة, يدعى إليها أبناء المسلمين وبناتهم عبر عروض مغرية تشمل تكاليف السفر والإقامة، وتلك دعوى عار عنك عارها, فيغضون الطرف عن نوازع الفتنة التي تتلقف الأبناء, وتعرضهم لدواعي الفاحشة في عُرى وتهتك وإبراز للمفاتن في مجتمعات لا تعرف للحرام معنى, إذ ليس بعد الكفر ذنب, فضلا عن تبلد الحس والفتور عن الأعمال الصالحة, وفي أخذ اللغة عن طريق المحادثة والزملاء والدورات التدريبية مندوحة عن السكنى مع عباد الصلب والصليب.
أما السفر إلى ديار الكفر لقضاء ما يسميه الناس بـ "شهر العسل" فهو من العادات المذمومة والمنكرة التي انتشرت في أوساط المسلمين، ويترتب عليها أضراراً تعود على الزوجين معاً ففي ذلك تقليد لغير المسلمين، وإضاعة لأموال كثيرة، وفيه أيضاً تضييع لكثير من أمور الدين, ناهيك عما يكتسبونه من عادات ضارة عليهم وعلى مجتمعهم مما يكون خطراً عظيماً على الأمة, وفيما أباح الله من صور الفرح والترويح مندوحة عمَّا حرّم, وفي بلاد المسلمين كفاية وغنية عن بلاد غيرهم.
وبعد: كيف يهنأ المسلم بترك نعمة الله عليه وراءه ظهريا فيترك بلاد المسلمين, وينزل أماكن الهلكات وبُؤَر الدركات بلاد المغضوب عليهم والضالين فيقر الكفر والمنكر, ويسمع آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها, بلاد يُدعى فيها بالتثليث وتُضرب فيها النواقيس وتعبد الصلبان, ويُعظم فيها الشيطان ويُكفر فيها علنًا بالرحمن, وتنتشر فيها الرذيلة, أفلا يكون العبد عبدا شكورا؟ فيحمد نعمة الله عليه ويقرِّها ويستقر عندها, {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] .
كتبه: بلال بن عبد الصابر قديري
أما بعد: فإنكم عن دنياكم هذه راحلون وإلى ربكم منقلبون، أفلا يعتبر المغرور بمن دفنه؟, كم من جبار فارق بالموت قصره ومسكنه، ونزل بعد ذلك دار مسكنة؟، هل رحم الموت مريضاً لضعف أوصاله؟, هل ترك كاسباً لأجل أطفاله وعياله؟, كم دخل على شريف في قصره فلم ينظر إلى خلاله؟, كم خرق درعاً نبيلاً لوقع نباله؟, كم أيتم صغيراً ولم يباله؟, {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، فتزودوا لذلك المصير والمنقلب بصالحات الأقوال والأعمال فلنعم الزاد التقوى.
أيها الناس: هذا الدين العظيم مبناه على التَبَرِّي من دين المغضوب عليهم والضالين، فالصراط المستقيم يقتضي مخالفة أصحاب الجحيم حتى يكون الدين كله لله، فكل ما يفضي إلى الخلط بين الحق والباطل, وإلى تمييع معالم الحق وطمس أنواره منع منه الشارع وحرَّم, لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال, {وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلرشِدُونَ * فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌْ}[الحجرات:7، 8] والدين رأس مال المسلم، فيجب الحفاظ عليه وعدم التفريط فيه.
وفي هذه الأعصر ومع دعوات الشوملة والكوكبة والعولمة سعى أعداء الدين ولا يزالون للخلط بين الإسلام ونقيضه, حتى يُشوَّه الإسلام ويُساء إليه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فجاءت دعوات التقريب والحوار بين الإسلام والديانات الأخرى، على أن يتنازل المسلمون عن معالم دينهم والاعتزاز به ليلتقوا بأولئك الكافرين في نقطة رماديَّة مشتركة يسترضون بها أهواءهم.
وقامت تلك الجهود على قدم وساق تسلك مسالك عديدة من أبرزها تسهيل الأمر لمن قدم على الكفار بلادهم وسافر إليها دون داع أو ضرورة، مع أن نصوص الوحيين تنهى عن ذلك إلاّ في حدود ضيقة, وللضرورة حينئذ أحكامها, والضرورة تُقَدَّرُ بقدرها، وأصبح لتلك الدعوات رواج كبير, لاسيما في الإجازات الصيفية، فيسافر إلى تلك الديار فئام من أبناء المسلمين لقضاء العطلات، وآخرون لقضاء شهر العسل زعموا، وآخرون بل وأخريات يشدون أحزمة السفر للدراسة تارات أخرى.
ولكن ما الحكم الشرعي في ذلك السفر؟, وما هي الضوابط التي قيد بها العلماء الفتوى بجواز السفر إلى ديارهم؟, هذا ما سنلقي عليه الضوء في هذه العجالة عظة لأولى العقول والألباب.
الأصل المقرر والقاعدة الشرعية المضطردة: أنه لا يجوز للمسلم أن يساكن اليهود والنصارى والمشركين في ديارهم, ولا يقيم ببلادهم لأنه من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً فإنه بذلك الرضا يؤثر محبة الله ومرضاته, ويغار على محارم الله وينحاز لصف أولياء الرحمن ويبغض أولياء الشيطان, قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً % إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:97،98] قال ابن كثير رحمه الله:"هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع", والوعيد في القرآن الكريم جاء على من ترك الهجرة من تلك الديار مع القدرة عليها فكيف بمن يذهب إليها برغبة منه ورضا، ويتعذر بأعذار دنيَّة كسياحة وعطلة فإن ذلك لا يزيده إلا مقتاً, يقول سبحانه وتعالى: {فَفِرُّوا إلى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات:50] فما عُذرُ من يسافر إلى بلاد الكفار وهو مطلوب منه الفرار إلى الله؟!, ومن صح فراره إلى الله صح قراره مع الله.
صح عن جرير البجلي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله بايعني وأشترط علي فأنت أعلم, قال صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة, وتناصح المسلمين وتفارق المشركين)) رواه النسائي وصححه الألباني, وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ((أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) رواه أبو داود, فكيف بمن يؤاكلهم، ويدخل نواديهم، ويدعم اقتصادهم، ويروّج للسياحة عندهم، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم أو يفارق المشركين)) رواه النسائي وابن ماجه وأحمد, والمعنى: حتى يفارق المشركين، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قام يومًا خطيبًا فكان مما قال: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)) رواه أبو داود وصححه الألباني, وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خَثْعَم فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العَقل وقال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين))، قالوا: يا رسول الله، ولِمَ؟, قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تتراءى ناراهما)) رواه الترمذي وأبو داود, قال السيوطي:"يعني: لا يساكن المسلم الكفار في بلادهم بحيث لو أوقدوا ناراً ترى كل طائفة نار الأخرى".
لقد قرر علماء الإسلام بيان الحكم الشرعي في عدم جواز الإقامة ببلاد الكفار, ولا فرق بين المدة القريبة والبعيدة, لأن السفر إلى بلادهم لغير غرض شرعي ترجحت مصلحته وظهرت فائدته ضرر محض على الدين والنفس والعرض والأخلاق، ولأن دين الإسلام مبناه على التبري من كل ما يناقض شريعة الله ومن مستلزمات ذلك التباعد عن المغضوب عليهم والضالين وديارهم, والانحياز إلى أولياء الله وتوليهم, هذا هو الأصل المقرر ويستثنى من ذلك ما كان وفق ضوابط شرعية واضحة لأفراد من المسلمين، كأن يسافر للعلاج الذي لا بديل له، أو يحتاج إلى جلب بضاعة أو تخليص حق, فالحاجة تنزل منزلة الضرورة.
وشرط الإقامة في ديارهم أن يأمن المقيم على دينه بقوة الإيمان والعزيمة التي يتحلى بها, والعلم الشرعي الذي يتسلح به, وأن يكون مضمراً العداوة والبغض للكافرين مبتعدًا عن موالاتهم ومحبتهم, فلا يخشى من نفسه الميل إليهم ولا الركون لهم, وكذلك اشترطوا له أن يتمكن من إظهار دينه بأداء شعائره دون ممانعة كالجُمع والجماعات والصوم والزكاة.
والناس في الإقامة بديار الكفر أقسام, منهم من يقيم للدعوة إلى الله وهداية الخلق إلى الحق, فهذا نوع من الجهاد الشرعي امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية)) وهو من فروض الكفايات لمن قدر عليها, ومنهم من يقيم لدراسة أحوال تلك الديار وأهلها لأخذ العبرة مما وقعوا فيه من ضلال وانحراف, ولتحذير الناس مما هم فيه، أو أن يكون عيناً للمسلمين يأتيهم بأخبار القوم وما يكيدون للإسلام والمسلمين, فهذا لا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل حذيفة بن اليمان إلى معسكر المشركين في غزوة الخندق ليأتي بأخبارهم, ومنهم من يقيم لحاجة الدولة المسلمة وما تمس إليه الحاجة من تنظيم مصالحها بتلك الدول الكافرة, كموظفي السفارات فحكمهم حكم ما أقاموا لأجله، فالملحق الثقافي الذي يتابع مصالح الطلبة المسلمين, ويبحث عن سبل وقايتهم من الشرور يحصل بعلمه هذا اندفاع شر كبير فعمله مبرور وسعيه مشكور, ومن الناس من يقيم لمصلحة خاصة مباحة كالتجارة أو العلاج, فتباح الإقامة بقدر الحاجة, ومتى زالت الضرورة عاد التحريم إلى الجريان, وقد نص الفقهاء على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة, واستلوا لذلك بفعل بعض الصحابة, إلا أنهم ومع هذا قالوا يختار المرء أقلها إثمًا، مثل أن يكون بلد فيه كفر وبلد فيه جور خير منه, فيختار أقلها إثما من باب ارتكاب أدنى المفسدتين, أما من يذهب لتلك الديار ويقيم بها للدراسة فهذا شأنه أعظم وأخطر, فتشترط فيه شروط أخرى زيادة على ما مضى بأن يكون رشيداً لا يخادع ولا يمكر به لئلا يقع في المنكرات، وأن يكون عنده علم شرعي يدفع به الشبهات, لئلا يكون لقمة سائغة في أيدي المنصِّرين، وأن يكون عنده دين يحميه من نزغات الشياطين والشهوات، وأن تدعوا الحاجة إلى تعلم ذلك العلم في تلك الديار, وأن لا يكون لذلك التخصص وجود في بلاد المسلمين, فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر, وعليه يتضح أن فتح باب الإبتعاث التعليمي لكل أحد من البنين والبنات مزلَّة أقدام لا يمكن الإقدام عليه, وقد جدَّ جديد في الأمر يوم قصد فئام من أبناء المسلمين تلك الديار وساكنوا أهلها في بيوتهم, واستظلوا بظلّهم وحصل الاختلاط بهم تحت دعوى اكتساب اللغة وإتقانها, فسكنوا مع عائلات نصرانية أجنبية في بلادهم تحت ذريعة إتقان لغة القوم، وهذه إحدى الدعوات التي لها رواج بين العامة والخاصة, يدعى إليها أبناء المسلمين وبناتهم عبر عروض مغرية تشمل تكاليف السفر والإقامة، وتلك دعوى عار عنك عارها, فيغضون الطرف عن نوازع الفتنة التي تتلقف الأبناء, وتعرضهم لدواعي الفاحشة في عُرى وتهتك وإبراز للمفاتن في مجتمعات لا تعرف للحرام معنى, إذ ليس بعد الكفر ذنب, فضلا عن تبلد الحس والفتور عن الأعمال الصالحة, وفي أخذ اللغة عن طريق المحادثة والزملاء والدورات التدريبية مندوحة عن السكنى مع عباد الصلب والصليب.
أما السفر إلى ديار الكفر لقضاء ما يسميه الناس بـ "شهر العسل" فهو من العادات المذمومة والمنكرة التي انتشرت في أوساط المسلمين، ويترتب عليها أضراراً تعود على الزوجين معاً ففي ذلك تقليد لغير المسلمين، وإضاعة لأموال كثيرة، وفيه أيضاً تضييع لكثير من أمور الدين, ناهيك عما يكتسبونه من عادات ضارة عليهم وعلى مجتمعهم مما يكون خطراً عظيماً على الأمة, وفيما أباح الله من صور الفرح والترويح مندوحة عمَّا حرّم, وفي بلاد المسلمين كفاية وغنية عن بلاد غيرهم.
وبعد: كيف يهنأ المسلم بترك نعمة الله عليه وراءه ظهريا فيترك بلاد المسلمين, وينزل أماكن الهلكات وبُؤَر الدركات بلاد المغضوب عليهم والضالين فيقر الكفر والمنكر, ويسمع آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها, بلاد يُدعى فيها بالتثليث وتُضرب فيها النواقيس وتعبد الصلبان, ويُعظم فيها الشيطان ويُكفر فيها علنًا بالرحمن, وتنتشر فيها الرذيلة, أفلا يكون العبد عبدا شكورا؟ فيحمد نعمة الله عليه ويقرِّها ويستقر عندها, {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] .
كتبه: بلال بن عبد الصابر قديري
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى