رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
خطبة الجمعة في الجامع الكبير بسبت تنومة
يوم الجمعة 16 / 6 / 1426هـ .
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
الخطبة الأولى
=-=-=-=
الحمد لله الذي بشر عباده المؤمنين بالرحمة والرضوان والجنات والنعيم المقيم فقال جل من قائل : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } ( التوبة :21 ) .
والشكر لله القائل جل في عُلاه : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ } ( الزمر : 18 ) .
والصلاة والسلام التامان الأكملان على من أرسله الله بشيراً ونذيراً فقال سبحانه في وصفه صلى الله عليه وسلم : { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( المائدة: من الآية 19 ) .
وبعد : فإن البُشرى من أميزِ وأنبلِ وأجملِ صفات المؤمنين الذين يُحبون الخير لأنفسهم كما يُحبونه لغيرهم ، وقد علّمنا نبينا ومعلمنا وقدوتنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أن يكون المسلم مُبشراً لا مُنفراً ، وأن يحرص كل فردٍ منا على أن يُبشر بالخير في كل وقتٍ وحين ؛ لأن البُشرى تُدخل البهجة إلى النفوس ، وتنبىءُ عن حبٍ للخير ، وصفاءٍ للسريرة ، ولأنها التزامٌ بمنهج النبوة المبارك وتربيته الإسلامية التي يجب علينا جميعاً أن نلتزم بها ، وأن نحرص على آدابها وتوجيهاتها القولية والفعلية .
عباد الله ؛ إذا كانت البشرى أمراً مطلوباً ومُستحباً ؛ فقد جاءت الأحاديث النبوية الشريفة للحث على ذلك الأمر في كل شأنٍ من شؤون الحياة ، وكل جزئيةٍ من جزئياتها , ولذلك فإن علينا أن نُبشر دائماً ، وأن نستبشر بالخير لاسيما فيما بيننا وبين خالقنا العظيم الذي هو أرحم بنا من الأم بولدها .
وإذا كانت البُشرى مما أمرنا به ديننا الإسلامي الحنيف ، وأرشدتنا إليه تعاليمه الكريمة ؛ فإن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت في مُجملها هاديةً إلى هذا النهج القويم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً لبني النجار من الأنصار باحثاً عنه ؛ فلما رآه سيد الخلق داخلاً عليه قال : " يا أبا هريرة اذهب ؛ فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مُستيقناً بها قلبه ؛ فبشره بالجنة " ( رواه مسلم ) .
وجاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل فبشرني أن أُبشِّر أُمتي أن من لقي الله تعالى لا يُشرك به شيئاً دخل الجنة " .
فهل هناك أعظم أو أجل من هذه البُشرى التي بشّر بها جبريل عليه السلام نبينا محمدٍ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، ليُبشر بها الأمة المسلمة المؤمنة صافيةً نقيةً لا شك فيها ولا ريب ، أن من شهد شهادة الحق وعمل بمقتضاها ، ثم مات ولقي الله تعالى وهو على شهادة التوحيد مُستيقناً بها قلبه فإن له الجنة وعداً من الله تعالى وهو الذي لا يُخلف الوعد سبحانه .
كما روي عن أبي يوسف عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلُّوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " ( رواه الترمذي ) .
وإذا تأملنا هذا الحديث العظيم وجدنا أن حبيبنا وقدوتنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم يأمرنا ويرشدنا ويدلنا على بعض الخصال اليسيرة في أدائها ، لكنها عظيمةٌ في أجرها وثوابها ،أما هذه الخصال الأربع فهي على النحو التالي :
الأولى إفشاء السلام على من عرفت يا عبد الله ومن لم تعرف وهذا أمرٌ كما نعلم جميعاً لا يُكلف الإنسان شيئاً أن يُسلّم على الناس في كل مكان ويُحييهم بتحية الإسلام .
والثانية إطعام الطعام للضيوف والفقراء والمساكين والمحتاجين دونما إسرافٍ أو تبذير.
والثالثة صلة الأرحام والتواصل مع الأقارب والإخوة وأبناء العمومة وإن كان منهم تقصيرٌ أو جفاء .
والرابعة الصلاة في جوف الليل عندما ينام الناس ، والقيام بين يدي الله طاعةً وامتثالاً وخضوعاً ولو بعدة ركعات .
فمن حافظ على هذه الخصال فقد بشّره الصادق المصدوق بدخول الجنة ولا أعظم من هذه البُشرى ، جعلنا الله وإياكم من أهلها .
كما أن من المُبشرات تلك البُشرى التي يمكن أن يحصل عليها المسلم بكل سهولةٍ ويسر ، ودونما تعبٍ أو مشقة فقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده ، حتى تخرج من تحت أظفاره " ( رواه مسلم ) .
فأبشروا يا من تُحافظون على الوضوء لكل صلاة .
وأبشروا يا من تُسبغون الوضوء طمعاً فيما عند الله .
وأبشروا يا من تُحسنون الوضوء امتثالاً لهدي النبوة .
كما أن من المبشرات التي جاءت بها تعاليم وتوجيهات الدين ، ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخُطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ؛ فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " ( رواه مسلم ) .
فيا عباد الله ، هنيئاً لمن رابط على طاعة الله .
وهنيئاً لمن التزم وحافظ على ما دلنا عليه الحبيب المصطفى من الأعمال الصالحة والأقوال الجميلة .
وهنيئاً لمن توافرت فيه هذه الصفات التي لا تعب فيها ولا نصب ، ولا مشقة ولا عناء .
ويأتي من البشريات العظيمة للمؤمنين الصادقين المُتطهرين الملتزمين بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث الشريف الذي روي عن فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيبلُغُ أو يُسبِغُ الوضوء ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخُل من أيها شاء " ( رواه مسلم ) .
فهل هناك أعظم من هذه البُشرى النبوية ؟
وهل هناك فضلٌ بعد هذا الفضل العظيم الذي يجعل أبواب الجنة الثمانية مفتوحةً لمن أحسن الوضوء ثم شهد شهادة الحق ؟
إنها عطايا الرحمن يا من الهتكم الدنيا ، ويا من أشغلتكم بزينتها الفانية .
ومن البشريات التي يُبشر بها نبينا العباد سواءً الأغنياء منهم أو الفقراء ، الكبار أو الصغار ، الذكور أو الإناث ، المتعلمين وغير المتعلمين هذا الحديث الشريف الذي تعجز الألسن عن وصف فضله وتعجز الحاسبات عن حصر ثوابه ، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضةً من فرائض الله ؛ كانت خطواته أحدها تحط خطيئةً والأُخرى ترفع درجةً " ( رواه مسلم ) .
فهنيئاً لكم يا من تمشون إلى المساجد .
وهنيئاً لكم يا من يُكرمكم الله في كل خطوةٍ للصلاة مرتين الأولى بحط ومسح الخطايا ، والثانية برفعة الدرجات وزيادتها .
وبُشراكم يا من تقومون إلى الصلاة ، ولا تتكاسلون عن أدائها في بيوت الله في الأرض .
ومن أعظم البُشريات هذا الحديث الذي يقول فيه جندب بن سفيان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى الصبح فهو في ذمة الله ؛ فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيءٍ " ( رواه مسلم ) .
فيا من تفوتهم صلاة الفجر مع الجماعة أين أنتم من هذه البُشرى ؟
ويا من تسهرون الليل كله ثم تنامون عن الصلاة ولا تؤدوها إلا بعد فوات وقتها ..كم تظلمون أنفسكم بهذا الفعل ، وكم يفوتكم من الأجر العظيم بهذا التقصير؟
عباد الله ، إن فضل الله تعالى عظيمٌ عظيم ، وعطاياه لا يحدها حدٌ ولا يُحصيها أحد ، فمن البشريات العظيمة أن يحصل العباد على أجرٍ عظيمٍ كالجبال ، وثوابٍ كثيرٍ لا يعلمه إلا الله تعالى بمجرد ذكر الله تعالى وتحريك اللسان بالقول الجميل والمنطق الحسن ؛ فعن أبي ذرٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل تسبيحةٍ صدقةٌ ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ ، وأمر بالمعروف صدقةٌ ، ونهيٍ عن المنكر صدقةٌ " ( رواه مسلم ) .
فيا عباد الله أكثروا من ذكر الله تعالى وأبشروا بالجنة .
ويا من تُكثرون القيل والقال أشغلوا ألسنتكم بالتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد .
ويا من غفلتم أوقاتاً طويلةً عن ذكر الله لا تلهكم الدنيا والشيطان عن ما بشّركم به الحبيب المصطفى من الأجر العظيم والخير الكثير .
وكم هو عجيبٌ وغريبٌ ومدهشٌ أن يتنافس الناس في كل زمانٍ ومكان على الأموال والأملاك والمناصب وزينة الدنيا الفانية ؛ في حين أن الشرع والعقل والواقع يفرض ويوجب عليهم أن يكون تنافسهم وتسابقهم إلى ما عند الله من الأجر والثواب والخير ، قال تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } ( المطففين
: من الآية 26 ) .
أيها الكرام ، إليكم هذه البُشرى العظيمة مِن خير مَن طلعت عليه الشمس صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الحديث عنه أنه قال : " ما من مسلمين يتلاقيان فيتصافحان إلا تحاتت عنهما ذنوبهما كما يتحات عن الشجرة ورقها " .
وفي روايةٍ أُخرى يقول صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يتفرقا " ( رواه أبو داود والترمذي ) .
فيا إخوة الإسلام ، هل هناك أكرم من أن يلتقي المسلم مع أخيه المسلم فيمد كلٌ منهما يده ليُصافح الآخر ، ويُسلم عليه ، ويبتسم في وجهه ، ويطمئن على أحواله ؛ فتكون النتيجة أن تتساقط عنهما الذنوب والخطايا ، ويغفر الله تعالى لهما قبل أن يتفرقا كرماً منه جل في علاه .
فأين نحن من هذه البُشرى النبوية ؟
ولماذا نرى البعض يُعرض عن أخيه المسلم إذا رآه ؟
وكيف يمكن أن نُفرّط في مثل هذه البُشرى التي تكفل لنا محو الذنوب وحصول المغفرة من الله تعالى ؟
وليس هذا فحسب ؛ فمن البُشريات أن يُبتلى الإنسان أو أن يُصاب بمصيبةٍ في أمرٍ من أمور الدنيا فيصبر ويحتسب ويرضى بقدر الله وقضائه وهو ما ورد في الحديث عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما يُصيب المسلم من نصبٍ ( أي تعب ) ، ولا وصبٍ ( أي مرض ) ، ولا همٍ ، ولا حزنٍ ، ولا أذى ، ولا غمٍ ، حتى الشوكة يُشاكها ؛ إلا كفّر الله بها من خطاياه " ( متفق عليه ) .
فيا من ابتُليت بأمرٍ من أمور الدنيا وصبرت واحتسبت هنيئاً لك الأجر من الله .
ويا من أصابك الهم أو الغم أو المرض أو التعب أو نحو ذلك مما يُحزنك ويُكدِّر عليك صفو حياتك ؛ عليك بالصبر والاحتساب والرضا ، وأعلم أن الله تعالى على لسان نبيه يُبشرك بالخير وتكفير الذنوب والخطايا جزاء ذلك .
وأخيراً ، تأتي البشرى العظيمة لمن تاب من الذنوب ، وأقلع عن المعاصي ، وأستغفر الله تعالى وعزم على التوبة والإنابة الصادقة خوفاً من الله تعالى ، ففي الحديث الذي يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تاب قبل أن تطلُع الشمس من مغربها تاب الله عليه " ( رواه مسلم ) .
فتوبوا يا عباد الله ، واستغفروا الله تعالى من الذنوب ، وعودوا إلى الله في كل وقتٍ وحين ، واستبشروا خيراً بما عند الله تعالى من الأجر والثواب والفضل العظيم .
وبعد ؛ فليس هذا كل شيء ، وليست البُشريات محصورةً فيما ذكرناه وأشرنا إليه فقط ، فهي كثيرةٌ جداً ، وأكثر من أن تُحصى ، لأن فضل الله تعالى عظيم ، وخيره عميم ، فاتقوا الله عباد الله وأعلموا أن الله واسع الرحمة ، عظيم المغفرة ، وأنه سبحانه يعطي الأجر الكثير جداً على العمل القليل ، وأن من كرمه جل جلاله أنه يُثيب العباد على صلاح النيات وإن لم يقولوا أو يعملوا ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغُرنكم بالله الغرور .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .
=-=-=-=
الخطبة الثانية
=-=-=-=
الحمد لله القائل : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ( سورة غافر : من الآية 60 ) . والصلاة والسلام التامان الأكملان على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدٍ بن عبد الله القائل : " ليس شيءٌ أكرم على الله تعالى من الدعاء " ( رواه الترمذي ، الحديث رقم 3370 ، ص 765 ) . وعلى آله وصحبه والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان في كل زمانٍ ومكان ، أما بعد ؛
فقد ورد في تراثنا الإسلامي العظيم مُصطلح " سهام الليل " الذي يُقصد به رفع اليدين بالدعاء إلى الله تعالى ، والابتهال إليه سبحانه في خشوعٍ وخضوع . وهذه السهام هي السلاح الفتّاك ، والقوة الكبرى التي لا يعرفها إلا المؤمنون الصادقون ، ولا يُجيد استعمالها إلا عباد الله المخلصين الذين يُطلقونها بأوتار العبادة وقِسي الدموع في وقت السحر ، يرفعونها إلى الله تعالى فيُجيب من يشاء من عباده ، متى شاء ، بما شاء ، وكيفما شاء ، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ( سورة البقرة : من الآية 186) .
نعم ، إنها تلك الدعوات الصادقة التي يطلقها عباد الله المخلصين بقلوب خاشعة ، ونفوس واثقة ، وألسنة صادقة ، وعيون دامعة ، وهم يرفعون أيديهم الطاهرة لترتفع الدعوات الصادقات إلى رب الأرض والسموات ، الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء عمن ناداه . قال الشاعر :
يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم
يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
فالدعاء عبادة روحية عظيمة يلجأ فيها المخلوق الضعيف إلى الخالق العظيم ، بعد أن تنقطع به الأسباب وتنعدم عنده الحيل ولا يجد له ملجأ إلا إلى الله الواحد الأحد ، فيتوجه بقلبه وقالبه إلى الله سبحانه ليجد عنده ما لم يجد عند أحد من البشر .
والدعاء أكرم شيء عند الله سبحانه وما ذلك كما قال أهل العلم ؛ إلا لما فيه من إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله سبحانه وقدرته.
كما أن الدعاء عبادة يؤجر عليها فاعلها ويثاب ؛ وإن لم تحصل الإجابة ، والعجيب أن ترك الدعاء وعدم سؤال الله تكبراً واستغناءً أمرٌ لا يجوز في حق الله ، بل إنه ربما أغضب الله سبحانه على العبد ، قال الشاعر :
الله يغضب إن تركت سؤاله وترى ابن آدم حين يُسألُ يغضب
ولذلك جاء في الحديث عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن ربكم حييٌّ كريمٌ يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه، فيردّهما صفراً – أو قال : خائبتين " ( رواه ابن ماجة ، الحديث رقم 3865 ، ص 637 ) .
فيا إخوة الإسلام ، أين نحن من الدعاء ؟
وأين نحن من سؤال الله القادر على كل شيء ؟
ولماذا لا نرفع الأيدي في كل وقتٍ وحين ، إلى مالك الملك وملك الملوك سائلين و راجين ؟
ولم لا نلجأ إليه سبحانه وتعالى في السراء والضراء ؟
ولم لا ندعوه عز وجل في السر والعلن ؟
ولم لا نكثر من الدعاء الصادق ونتحرى أوقاته ؟
ولم لا نحرص على أن نتعلم شروطه وآدابه ؟
ولماذا لا نحسن استعمال الدعاء الذي أكرمنا الله وميَّزنا به عن غيرنا ، لاسيما وأن الدعاء هو العبادة كما صح في الحديث الشريف ، وأن كثرته علامة الإيمان ، ودليل اللجوء إلى الواحد الديان ؟
وأختم بما يؤثر عن عملاق الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " والله ما أحمل هم الإجابة فهي بيد العزيز القدير ، ولكني أحمل هم الدعاء وأنا العبد الفقير " . وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
وإني لأدعو الله حتى كأنني أرى بجميل الظن ما الله صانع
فاللهم يا من لا يُسأل غيره ولا يُرتجى سواه ، ويا من لا يَردُ من دعاه ، وفقنا إلى خير الدعاء ، وجميل القول ، وصالح العمل ، وأهدنا وسدّدنا ، وأعطنا ولا تحرمنا .
اللهم أغفر لنا وارحمنا . ولآبائنا وأمهاتنا ، وأبنائنا وبناتنا ، وإخواننا وأخواتنا ، وأزواجنا وزوجاتنا ، وأحيائنا وأمواتنا .
اللهم اجعلنا مبشرين لا مُنفّرين ، وارزقنا البشرى في الدنيا والدين ، ووفقنا اللهم للإكثار من ذكرك ، وشكرك ، وحُسن عبادتك .
اللهم يا عظيم العفو ، يا واسع المغفرة ، يا قريب الرحمة ، يا ذا الجلال والإكرام ، هب لنا العافية في الدنيا ، والعفو في الآخرة .
اللهم يا حي يا قيوم فرِّغنا لما خلقتنا له ، ولا تُشغلنا بما تكفلت لنا به ، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك ، ويرضى بقضائك ، ويقنع بعطائك ، ويفوز برضوانك يا رب العالمين .
اللهم يا من يعلم حوائج السائلين ، ويعلم ما في صدور الصامتين ، يا قاضي الحاجات ، ويا مجيب الدعوات ، هب لنا من واسع فضلك ما سألنا ، وحقق بكريم عطائك رجاءنا فيما تمنينا .
اللهم أحفظ علينا نعمة الأمن والإيمان ، ولا تُبدل أمننا خوفاً ورُعبا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ، أبداً ما أبقيتنا .
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتؤتي المال من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، وتؤتي الجاه من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، اللهم يا من تُعز من تشاء ، وتُذل من تشاء ، أعزنا بالإسلام ، وارفعنا بالإيمان ، ولا تضعنا بالكفر والفسوق والعصيان .
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة ، وارحمنا وارحم أمواتنا ، واغفر لنا ولوالدينا ، ولمن له حقٌ علينا ، وصل اللهم وسلم على سيدنا ونبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
عباد الله :
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . فاذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، واستغفروه يغفر لكم ، وأقم الصلاة ....
يوم الجمعة 16 / 6 / 1426هـ .
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
الخطبة الأولى
=-=-=-=
الحمد لله الذي بشر عباده المؤمنين بالرحمة والرضوان والجنات والنعيم المقيم فقال جل من قائل : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } ( التوبة :21 ) .
والشكر لله القائل جل في عُلاه : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ } ( الزمر : 18 ) .
والصلاة والسلام التامان الأكملان على من أرسله الله بشيراً ونذيراً فقال سبحانه في وصفه صلى الله عليه وسلم : { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( المائدة: من الآية 19 ) .
وبعد : فإن البُشرى من أميزِ وأنبلِ وأجملِ صفات المؤمنين الذين يُحبون الخير لأنفسهم كما يُحبونه لغيرهم ، وقد علّمنا نبينا ومعلمنا وقدوتنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أن يكون المسلم مُبشراً لا مُنفراً ، وأن يحرص كل فردٍ منا على أن يُبشر بالخير في كل وقتٍ وحين ؛ لأن البُشرى تُدخل البهجة إلى النفوس ، وتنبىءُ عن حبٍ للخير ، وصفاءٍ للسريرة ، ولأنها التزامٌ بمنهج النبوة المبارك وتربيته الإسلامية التي يجب علينا جميعاً أن نلتزم بها ، وأن نحرص على آدابها وتوجيهاتها القولية والفعلية .
عباد الله ؛ إذا كانت البشرى أمراً مطلوباً ومُستحباً ؛ فقد جاءت الأحاديث النبوية الشريفة للحث على ذلك الأمر في كل شأنٍ من شؤون الحياة ، وكل جزئيةٍ من جزئياتها , ولذلك فإن علينا أن نُبشر دائماً ، وأن نستبشر بالخير لاسيما فيما بيننا وبين خالقنا العظيم الذي هو أرحم بنا من الأم بولدها .
وإذا كانت البُشرى مما أمرنا به ديننا الإسلامي الحنيف ، وأرشدتنا إليه تعاليمه الكريمة ؛ فإن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت في مُجملها هاديةً إلى هذا النهج القويم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً لبني النجار من الأنصار باحثاً عنه ؛ فلما رآه سيد الخلق داخلاً عليه قال : " يا أبا هريرة اذهب ؛ فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مُستيقناً بها قلبه ؛ فبشره بالجنة " ( رواه مسلم ) .
وجاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل فبشرني أن أُبشِّر أُمتي أن من لقي الله تعالى لا يُشرك به شيئاً دخل الجنة " .
فهل هناك أعظم أو أجل من هذه البُشرى التي بشّر بها جبريل عليه السلام نبينا محمدٍ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، ليُبشر بها الأمة المسلمة المؤمنة صافيةً نقيةً لا شك فيها ولا ريب ، أن من شهد شهادة الحق وعمل بمقتضاها ، ثم مات ولقي الله تعالى وهو على شهادة التوحيد مُستيقناً بها قلبه فإن له الجنة وعداً من الله تعالى وهو الذي لا يُخلف الوعد سبحانه .
كما روي عن أبي يوسف عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلُّوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " ( رواه الترمذي ) .
وإذا تأملنا هذا الحديث العظيم وجدنا أن حبيبنا وقدوتنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم يأمرنا ويرشدنا ويدلنا على بعض الخصال اليسيرة في أدائها ، لكنها عظيمةٌ في أجرها وثوابها ،أما هذه الخصال الأربع فهي على النحو التالي :
الأولى إفشاء السلام على من عرفت يا عبد الله ومن لم تعرف وهذا أمرٌ كما نعلم جميعاً لا يُكلف الإنسان شيئاً أن يُسلّم على الناس في كل مكان ويُحييهم بتحية الإسلام .
والثانية إطعام الطعام للضيوف والفقراء والمساكين والمحتاجين دونما إسرافٍ أو تبذير.
والثالثة صلة الأرحام والتواصل مع الأقارب والإخوة وأبناء العمومة وإن كان منهم تقصيرٌ أو جفاء .
والرابعة الصلاة في جوف الليل عندما ينام الناس ، والقيام بين يدي الله طاعةً وامتثالاً وخضوعاً ولو بعدة ركعات .
فمن حافظ على هذه الخصال فقد بشّره الصادق المصدوق بدخول الجنة ولا أعظم من هذه البُشرى ، جعلنا الله وإياكم من أهلها .
كما أن من المُبشرات تلك البُشرى التي يمكن أن يحصل عليها المسلم بكل سهولةٍ ويسر ، ودونما تعبٍ أو مشقة فقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده ، حتى تخرج من تحت أظفاره " ( رواه مسلم ) .
فأبشروا يا من تُحافظون على الوضوء لكل صلاة .
وأبشروا يا من تُسبغون الوضوء طمعاً فيما عند الله .
وأبشروا يا من تُحسنون الوضوء امتثالاً لهدي النبوة .
كما أن من المبشرات التي جاءت بها تعاليم وتوجيهات الدين ، ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخُطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ؛ فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " ( رواه مسلم ) .
فيا عباد الله ، هنيئاً لمن رابط على طاعة الله .
وهنيئاً لمن التزم وحافظ على ما دلنا عليه الحبيب المصطفى من الأعمال الصالحة والأقوال الجميلة .
وهنيئاً لمن توافرت فيه هذه الصفات التي لا تعب فيها ولا نصب ، ولا مشقة ولا عناء .
ويأتي من البشريات العظيمة للمؤمنين الصادقين المُتطهرين الملتزمين بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث الشريف الذي روي عن فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيبلُغُ أو يُسبِغُ الوضوء ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخُل من أيها شاء " ( رواه مسلم ) .
فهل هناك أعظم من هذه البُشرى النبوية ؟
وهل هناك فضلٌ بعد هذا الفضل العظيم الذي يجعل أبواب الجنة الثمانية مفتوحةً لمن أحسن الوضوء ثم شهد شهادة الحق ؟
إنها عطايا الرحمن يا من الهتكم الدنيا ، ويا من أشغلتكم بزينتها الفانية .
ومن البشريات التي يُبشر بها نبينا العباد سواءً الأغنياء منهم أو الفقراء ، الكبار أو الصغار ، الذكور أو الإناث ، المتعلمين وغير المتعلمين هذا الحديث الشريف الذي تعجز الألسن عن وصف فضله وتعجز الحاسبات عن حصر ثوابه ، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضةً من فرائض الله ؛ كانت خطواته أحدها تحط خطيئةً والأُخرى ترفع درجةً " ( رواه مسلم ) .
فهنيئاً لكم يا من تمشون إلى المساجد .
وهنيئاً لكم يا من يُكرمكم الله في كل خطوةٍ للصلاة مرتين الأولى بحط ومسح الخطايا ، والثانية برفعة الدرجات وزيادتها .
وبُشراكم يا من تقومون إلى الصلاة ، ولا تتكاسلون عن أدائها في بيوت الله في الأرض .
ومن أعظم البُشريات هذا الحديث الذي يقول فيه جندب بن سفيان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى الصبح فهو في ذمة الله ؛ فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيءٍ " ( رواه مسلم ) .
فيا من تفوتهم صلاة الفجر مع الجماعة أين أنتم من هذه البُشرى ؟
ويا من تسهرون الليل كله ثم تنامون عن الصلاة ولا تؤدوها إلا بعد فوات وقتها ..كم تظلمون أنفسكم بهذا الفعل ، وكم يفوتكم من الأجر العظيم بهذا التقصير؟
عباد الله ، إن فضل الله تعالى عظيمٌ عظيم ، وعطاياه لا يحدها حدٌ ولا يُحصيها أحد ، فمن البشريات العظيمة أن يحصل العباد على أجرٍ عظيمٍ كالجبال ، وثوابٍ كثيرٍ لا يعلمه إلا الله تعالى بمجرد ذكر الله تعالى وتحريك اللسان بالقول الجميل والمنطق الحسن ؛ فعن أبي ذرٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل تسبيحةٍ صدقةٌ ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ ، وأمر بالمعروف صدقةٌ ، ونهيٍ عن المنكر صدقةٌ " ( رواه مسلم ) .
فيا عباد الله أكثروا من ذكر الله تعالى وأبشروا بالجنة .
ويا من تُكثرون القيل والقال أشغلوا ألسنتكم بالتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد .
ويا من غفلتم أوقاتاً طويلةً عن ذكر الله لا تلهكم الدنيا والشيطان عن ما بشّركم به الحبيب المصطفى من الأجر العظيم والخير الكثير .
وكم هو عجيبٌ وغريبٌ ومدهشٌ أن يتنافس الناس في كل زمانٍ ومكان على الأموال والأملاك والمناصب وزينة الدنيا الفانية ؛ في حين أن الشرع والعقل والواقع يفرض ويوجب عليهم أن يكون تنافسهم وتسابقهم إلى ما عند الله من الأجر والثواب والخير ، قال تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } ( المطففين
: من الآية 26 ) .
أيها الكرام ، إليكم هذه البُشرى العظيمة مِن خير مَن طلعت عليه الشمس صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الحديث عنه أنه قال : " ما من مسلمين يتلاقيان فيتصافحان إلا تحاتت عنهما ذنوبهما كما يتحات عن الشجرة ورقها " .
وفي روايةٍ أُخرى يقول صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يتفرقا " ( رواه أبو داود والترمذي ) .
فيا إخوة الإسلام ، هل هناك أكرم من أن يلتقي المسلم مع أخيه المسلم فيمد كلٌ منهما يده ليُصافح الآخر ، ويُسلم عليه ، ويبتسم في وجهه ، ويطمئن على أحواله ؛ فتكون النتيجة أن تتساقط عنهما الذنوب والخطايا ، ويغفر الله تعالى لهما قبل أن يتفرقا كرماً منه جل في علاه .
فأين نحن من هذه البُشرى النبوية ؟
ولماذا نرى البعض يُعرض عن أخيه المسلم إذا رآه ؟
وكيف يمكن أن نُفرّط في مثل هذه البُشرى التي تكفل لنا محو الذنوب وحصول المغفرة من الله تعالى ؟
وليس هذا فحسب ؛ فمن البُشريات أن يُبتلى الإنسان أو أن يُصاب بمصيبةٍ في أمرٍ من أمور الدنيا فيصبر ويحتسب ويرضى بقدر الله وقضائه وهو ما ورد في الحديث عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما يُصيب المسلم من نصبٍ ( أي تعب ) ، ولا وصبٍ ( أي مرض ) ، ولا همٍ ، ولا حزنٍ ، ولا أذى ، ولا غمٍ ، حتى الشوكة يُشاكها ؛ إلا كفّر الله بها من خطاياه " ( متفق عليه ) .
فيا من ابتُليت بأمرٍ من أمور الدنيا وصبرت واحتسبت هنيئاً لك الأجر من الله .
ويا من أصابك الهم أو الغم أو المرض أو التعب أو نحو ذلك مما يُحزنك ويُكدِّر عليك صفو حياتك ؛ عليك بالصبر والاحتساب والرضا ، وأعلم أن الله تعالى على لسان نبيه يُبشرك بالخير وتكفير الذنوب والخطايا جزاء ذلك .
وأخيراً ، تأتي البشرى العظيمة لمن تاب من الذنوب ، وأقلع عن المعاصي ، وأستغفر الله تعالى وعزم على التوبة والإنابة الصادقة خوفاً من الله تعالى ، ففي الحديث الذي يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تاب قبل أن تطلُع الشمس من مغربها تاب الله عليه " ( رواه مسلم ) .
فتوبوا يا عباد الله ، واستغفروا الله تعالى من الذنوب ، وعودوا إلى الله في كل وقتٍ وحين ، واستبشروا خيراً بما عند الله تعالى من الأجر والثواب والفضل العظيم .
وبعد ؛ فليس هذا كل شيء ، وليست البُشريات محصورةً فيما ذكرناه وأشرنا إليه فقط ، فهي كثيرةٌ جداً ، وأكثر من أن تُحصى ، لأن فضل الله تعالى عظيم ، وخيره عميم ، فاتقوا الله عباد الله وأعلموا أن الله واسع الرحمة ، عظيم المغفرة ، وأنه سبحانه يعطي الأجر الكثير جداً على العمل القليل ، وأن من كرمه جل جلاله أنه يُثيب العباد على صلاح النيات وإن لم يقولوا أو يعملوا ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغُرنكم بالله الغرور .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .
=-=-=-=
الخطبة الثانية
=-=-=-=
الحمد لله القائل : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ( سورة غافر : من الآية 60 ) . والصلاة والسلام التامان الأكملان على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدٍ بن عبد الله القائل : " ليس شيءٌ أكرم على الله تعالى من الدعاء " ( رواه الترمذي ، الحديث رقم 3370 ، ص 765 ) . وعلى آله وصحبه والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان في كل زمانٍ ومكان ، أما بعد ؛
فقد ورد في تراثنا الإسلامي العظيم مُصطلح " سهام الليل " الذي يُقصد به رفع اليدين بالدعاء إلى الله تعالى ، والابتهال إليه سبحانه في خشوعٍ وخضوع . وهذه السهام هي السلاح الفتّاك ، والقوة الكبرى التي لا يعرفها إلا المؤمنون الصادقون ، ولا يُجيد استعمالها إلا عباد الله المخلصين الذين يُطلقونها بأوتار العبادة وقِسي الدموع في وقت السحر ، يرفعونها إلى الله تعالى فيُجيب من يشاء من عباده ، متى شاء ، بما شاء ، وكيفما شاء ، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ( سورة البقرة : من الآية 186) .
نعم ، إنها تلك الدعوات الصادقة التي يطلقها عباد الله المخلصين بقلوب خاشعة ، ونفوس واثقة ، وألسنة صادقة ، وعيون دامعة ، وهم يرفعون أيديهم الطاهرة لترتفع الدعوات الصادقات إلى رب الأرض والسموات ، الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء عمن ناداه . قال الشاعر :
يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم
يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
فالدعاء عبادة روحية عظيمة يلجأ فيها المخلوق الضعيف إلى الخالق العظيم ، بعد أن تنقطع به الأسباب وتنعدم عنده الحيل ولا يجد له ملجأ إلا إلى الله الواحد الأحد ، فيتوجه بقلبه وقالبه إلى الله سبحانه ليجد عنده ما لم يجد عند أحد من البشر .
والدعاء أكرم شيء عند الله سبحانه وما ذلك كما قال أهل العلم ؛ إلا لما فيه من إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله سبحانه وقدرته.
كما أن الدعاء عبادة يؤجر عليها فاعلها ويثاب ؛ وإن لم تحصل الإجابة ، والعجيب أن ترك الدعاء وعدم سؤال الله تكبراً واستغناءً أمرٌ لا يجوز في حق الله ، بل إنه ربما أغضب الله سبحانه على العبد ، قال الشاعر :
الله يغضب إن تركت سؤاله وترى ابن آدم حين يُسألُ يغضب
ولذلك جاء في الحديث عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن ربكم حييٌّ كريمٌ يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه، فيردّهما صفراً – أو قال : خائبتين " ( رواه ابن ماجة ، الحديث رقم 3865 ، ص 637 ) .
فيا إخوة الإسلام ، أين نحن من الدعاء ؟
وأين نحن من سؤال الله القادر على كل شيء ؟
ولماذا لا نرفع الأيدي في كل وقتٍ وحين ، إلى مالك الملك وملك الملوك سائلين و راجين ؟
ولم لا نلجأ إليه سبحانه وتعالى في السراء والضراء ؟
ولم لا ندعوه عز وجل في السر والعلن ؟
ولم لا نكثر من الدعاء الصادق ونتحرى أوقاته ؟
ولم لا نحرص على أن نتعلم شروطه وآدابه ؟
ولماذا لا نحسن استعمال الدعاء الذي أكرمنا الله وميَّزنا به عن غيرنا ، لاسيما وأن الدعاء هو العبادة كما صح في الحديث الشريف ، وأن كثرته علامة الإيمان ، ودليل اللجوء إلى الواحد الديان ؟
وأختم بما يؤثر عن عملاق الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " والله ما أحمل هم الإجابة فهي بيد العزيز القدير ، ولكني أحمل هم الدعاء وأنا العبد الفقير " . وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
وإني لأدعو الله حتى كأنني أرى بجميل الظن ما الله صانع
فاللهم يا من لا يُسأل غيره ولا يُرتجى سواه ، ويا من لا يَردُ من دعاه ، وفقنا إلى خير الدعاء ، وجميل القول ، وصالح العمل ، وأهدنا وسدّدنا ، وأعطنا ولا تحرمنا .
اللهم أغفر لنا وارحمنا . ولآبائنا وأمهاتنا ، وأبنائنا وبناتنا ، وإخواننا وأخواتنا ، وأزواجنا وزوجاتنا ، وأحيائنا وأمواتنا .
اللهم اجعلنا مبشرين لا مُنفّرين ، وارزقنا البشرى في الدنيا والدين ، ووفقنا اللهم للإكثار من ذكرك ، وشكرك ، وحُسن عبادتك .
اللهم يا عظيم العفو ، يا واسع المغفرة ، يا قريب الرحمة ، يا ذا الجلال والإكرام ، هب لنا العافية في الدنيا ، والعفو في الآخرة .
اللهم يا حي يا قيوم فرِّغنا لما خلقتنا له ، ولا تُشغلنا بما تكفلت لنا به ، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك ، ويرضى بقضائك ، ويقنع بعطائك ، ويفوز برضوانك يا رب العالمين .
اللهم يا من يعلم حوائج السائلين ، ويعلم ما في صدور الصامتين ، يا قاضي الحاجات ، ويا مجيب الدعوات ، هب لنا من واسع فضلك ما سألنا ، وحقق بكريم عطائك رجاءنا فيما تمنينا .
اللهم أحفظ علينا نعمة الأمن والإيمان ، ولا تُبدل أمننا خوفاً ورُعبا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ، أبداً ما أبقيتنا .
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتؤتي المال من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، وتؤتي الجاه من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، اللهم يا من تُعز من تشاء ، وتُذل من تشاء ، أعزنا بالإسلام ، وارفعنا بالإيمان ، ولا تضعنا بالكفر والفسوق والعصيان .
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة ، وارحمنا وارحم أمواتنا ، واغفر لنا ولوالدينا ، ولمن له حقٌ علينا ، وصل اللهم وسلم على سيدنا ونبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
عباد الله :
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . فاذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، واستغفروه يغفر لكم ، وأقم الصلاة ....
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى