عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ملخص الخطبة
1- بضدِّها تتميّز الأشياء. 2- ثلاث خصال جاهليّة. 3- أمر الرسول بتوحيد الله تعالى. 4- أمر الرسول بالاجتماع. 5- أمر الرسول بطاعة ولاة الأمر. 6- التحذير من التفرق والاختلاف.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيَا عبادَ الله، اتّقوا الله واذكروا أنّه خَلقَكم لعِبادتِه وحدَه دونَ سواه، فأخلِصوا له الدّين، وأحسِنوا العمَل، فالسّعيد من أخلَص دينَه لله وتابَع رسولَ الله حتى أتاه أمرُ الله.
أيّها المسلمون، إنّه إذا كانتِ الأشياء تتميَّز بضدِّها وإذا كان الضّدُّ يظهِر حُسنَه الضّدّ فإنّ الأمورَ التي خالف فيها رسولُ الله أهلَ الجاهليّة هي من أعظمِ ما يبيِّن ذلك ويجلِّي حَقيقتَه؛ ولِذا كانَت معرفتُها متعيِّنةً والوُقوفُ عَليها متأكِّدًا والعلمُ بها مما لا يُستغنَى عنه.
وإنَّ من أظهَر ذلك ثلاثَ خِصال قام عليها دينُهم ومضى عليها أسلافُهم واستبانَ بها جَهلُهم وضلالهم وعِظَمُ خُسرانهم: أما الأولى فإِشراكهم بالله ودعاؤُهم غيرَه، وأمّا الثانية فتفرُّقهم وعدَم اجتماعِهم، وأمّا الثالثةُ فمخالفتُهم وليَّ الأمر وعدَمُ الانقياد له.
فقد كانوا يتعبَّدون بالشّركِ فيدعونَ غيرَ الله تعالى؛ مَلَكًا مقرَّبًا أو نبِيًّا مرسَلاً أو عَبدًا صالحًا أو صَنمًا أو شجَرًا أو كَوكبًا أو غيرَ ذلك، ويرَونَ في هذا الإشراكِ تعظيمًا لهذا المعبودِ من دونِ الله، ويطلبون شفاعتَه عند الله تعالى، ظنًّا مِنهم أنّ هذا المعبودَ يحبّ مِنهم ذلك كما حكَى عَنهم سبحانه قولَهم فيهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
ثمّ هم بعدَ ذلك منتهِجون نهجَ التفرُّق والاختلاف، راضون به، مستحسنون له، حتى أورثَهم أحقادًا واحتِرابًا، وأفقَدَهم أنفُسًا وأموالاً وأولادًا.
ويَرونَ معَ ذلك أنّ مخالفةَ وَليِّ الأمرِ وعصيانَه وعَدمَ الانقياد له فضيلةٌ تُحمَد وشَرَفٌ يُقصَد ومَنقَبةٌ تطلَب، وأنّ السَّمعَ والطاعة مهانةٌ يجِب الترفُّعُ عنها وضَعَة تلزَم الأنَفةُ منها ومذمَّةٌ تتأكَّد البراءةُ منها ويتعيَّن التجافي عنها، بل كان بعضُهم يجعل ذلك دينًا يتعبَّد به وقُربى يزدلِف بها.
فخالفهم رسول الهدَى صلوات الله وسلامُه عليه بما جاءَه مِن ربِّه من البيِّنات والهدَى في كلِّ ذلك، فأمرهم بالإخلاصِ لله وحدَه في العبادة، وأعلَمَهم أنَّ هذا هو دين الله الذي لا يقبَل سبحانه من أحدٍ سواه، وأخبرهم أنَّ كلَّ من تنكَّب عن هذا الصراط وحادَ عن هذا السبيل ففعَل ما استحسَنوه من عبادةِ غيرِه بِصرفِ أيِّ نوعٍ من أنواعِ العبادةِ له فقد حرَّم الله عليه الجنّةَ ومأواه النارُ كما أخبَره بذلك ربُّه الأعلى سبحانه، وبَيَّن لهم أيضًا أنَّ هذا الأمرَ هو قِوام الدين كلِّه وأساسُه ولُبّه، ولأجلِه افترقَ الناس إلى مسلمٍ وكافر.
كما أمَرَهم عليه الصلاة والسلام بالاجتماعِ والاعتصام بحبلِ الله الذي هو دينُ الله في قَولِ حَبرِ الأمّة وترجمان القرآنِ عبد الله بن العباس رضي الله عنهما[1]، أو الجماعةُ في قول عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه[2]، أو القرآنُ في قول غيرهما من السّلف[3]، وحبلُ الله شامِلٌ لذلك كلِّه، والله تعالى أراد أن يكونَ هذا الاعتصام بحبلِه سببًا لأن يكونَ اجتماع الأمّة ووحدتُها متماسِكَةُ راسخة؛ ولذا فإنه وضَع لها أساسين لا صلاحَ لها إلاَّ بهما:
أمَّا الأوّل فهو أن يكونَ الاجتماع والاتِّحاد حولَ كتابِ الله، وذلك يضمَن الأساسَ المتين للوَحدة، إذ ليس من الممكِن اجتماع القلوب على غيرِ شيء، وليس من المقبولِ شَرعًا أن تجتمعَ على باطل، بل يجب أن يكونَ اجتماعهم على الحقِّ الذي لا يأتيهِ الباطل من بَين يدَيه ولا مِن خَلفِه، وإذا تَوافَر لهذا الاجتماعِ دستورُه الذي تلتقِي عندَه القلوب وتنتفِي الأهواءُ فقد سلِم البناءُ واستبان المنهَج واطمأنَّ المسلمون، وبذلك تَتَوافر لهذا الاجتماعِ كلُّ الضوابطِ التي تصحِّح تصرُّفات الفرد وتوجِّه سلوكَ المجموع وتُسعِد حياةَ الناس؛ لأنّه قائم ـ أي: هذا الاجتماع ـ على أساسِ كتابٍ جمع الله فيه خَيرَي الدّنيا والآخرةِ، ونهى بِهِ عن كلِّ شرّ في الدنيا يكون مآلُه الخسران في الآخرة.
وأمّا الثاني فهو أن يكونَ هذا الاعتصامُ والاجتماع مستغرِقًا جميعَ أبناءِ المجتمع المسلم، لا يتخلَّف عنه شخصٌ واحد، ولا يشذّ عنه صوتٌ، وذلك هو ما جاءَ جلِيًّا واضحًا في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا الآية [آل عمران:103]، فإنَّ الله تعالى في هذهِ الآيةِ كما ـ قال بعض أهلِ العلم ـ لم يقتصر على مجرَّد الأمر بالاعتصامِ بحبل الله، بل جاء فيها قولُه سبحانه: جَمِيعًا ليؤكِّدَ بذلك شمولَ هذا الاعتصام لكلِّ أبناء المجتَمَع المسلم، وهي الصّفةُ التي أرادَها الله لهذا الاجتماع، فالأمّةُ كلُّها على هذا متّحِدةُ الصّفِّ بأمر الله مجتمعةٌ على هَدَفٍ واحدٍ هو عبادةُ الله وحدَه والسّعيُ إلى رضوانِه كَما قالَ سبحانه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
وأوجب عليهم كذلِك السّمعَ والطّاعةَ لوليِّ الأمرِ المسلِم والنّصيحةَ له، وحرَّم عليهم مخالفتَه وعدَمَ الانقيادِ له إلاَّ أن يأمُر بمعصيةٍ أو يَرَوا كُفرًا بواحًا ـ أي: بيِّنًا محقَّقًا ـ عندهم مِنَ الله فيه بُرهان.
فقال في الحديثِ الذي أخرجَه مسلِم في صحيحه ومالكٌ في الموطَّأ واللّفظ له عَن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رَسول الله أنّه قالَ: ((إنّ الله يرضَى لكم ثلاثًا ويسخَط لكم ثلاثًا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحبلِ الله جميعًا ولا تَفَرَّقوا، وأن تناصِحوا مَن ولاّه الله أمرَكم، ويَسخَط لكم قيلَ وقالَ وإضاعةَ المال وكثرةَ السّؤال))[4]، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديثِ الذي أخرجَه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ أنه قال: ((مَن كرِه من أميرِه شيئًا فليَصبِر، فإنّ مَن خرجَ من السّلطان شِبرًا مات مِيتةً جاهليّة))[5]، وفي الصّحيحين أيضًا عن جُنادة بن أبي أميّة أنّه قال: دَخلنا على عُبادةَ بنِ الصامت وهو مَريض وقلنا: أصلحك الله، حدِّث بحديثٍ ينفعُك الله به سمعتَه من النبيِّ ، فقال رضي الله عنه: دَعَانا النبيّ فبايَعَنا، فكانَ فيما أخَذَ عَلينا أن بايَعنا على السّمعِ والطّاعة في منشَطِنا ومَكرهنا وعُسرِنا ويُسرِنا وأَثَرةٍ علينا، وأن لا نُنازعَ الأمرَ أهلَه إلاَّ أن يكونَ كُفرًا بَواحًا عندكم مِنَ الله فيه برهان[6].
ولا ريبَ أنَّ في الأخذِ بهذا الهدي النبويِّ الحكيم انتظامَ مصالح الدين والدنيا بسدِّ أبوابِ الفِتنة وتوجيهِ الطاقات وصَرف الجهود في كلِّ ما تُجتَلَب بهِ المنافع وتُستَدفَع به المضارّ ويُصان به كيانُ الأمّة وتُحمَى به الحَوزَة ويُكبَت به الأعداء ويَعمُّ به الأمن ويَكثُر به الخير والرّخاء، فأيُّ النّهجَين إذًا أحقّ بالاتّباع يا عباد الله: نهجُ رسولِ الله وهديُه أم نهجُ الجاهلية وضلالها وإِفكُها؟! وكيفَ تصِحّ الحيدةُ عن هذا النّهجِ النبويِّ والطريقِ المحمديّ إلى طريقِ أهلِ الفتنةِ والفُرقَةِ والاختلاف وما أفضى إليهِ هذا الطريقُ مِن تكفيرٍ وتفجير واستباحةٍ للدماء المحَرَّمة وقتلٍ للأنفسِ المعصومَةِ واختطافٍ وترويعٍ وتخريب في العمران وإضاعةٍ للأموال وتبديدٍ للطاقات إلى غيرِ ذلك من الأضرار والأوزار التي أحدَثها هذا العدوانُ الذي تعرَّضَت له هذه البلادُ الطيِّبة المبارَكة الآمِنة في هذهِ الآونة الأخيرة؟! فحذارِ مِن سلوكِ طريقِ الفِتنة حذارِ، فليس وراءَ ذلك واللهِ إلاّ البوار والدّمار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102، 103].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّةِ نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه كان غفَّارًا.
[1] انظر: زاد المسير (1/433).
[2] جامع البيان للطبري (4/30).
[3] انظر: جامع البيان للطبري (4/31)، وزاد المسير (1/432-433).
[4] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1715)، موطأ مالك: كتاب الجامع (1863).
[5] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7053)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1849).
[6] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7056)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1709).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يهدِي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم، أحمده سبحانه وهو البَرّ الرؤوفُ الرحيم، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله صاحبُ الخُلُق الراشِد والنّهج القويم، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، قال بعضُ أهل العلم: إنّ الله يبغِّض إلينا التفرّقَ والاختلاف لأنّه أوّلُ الوَهن وبابُ الفَشَل والضياع، والفاشِلُ لا وَزنَ له في هذِه الدنيا ولا مكانةَ له في الآخرة: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ الآية [الأنفال:46]، بل إنّه سُبحانه يحذِّرنا من السّيرِ على نهج المتفرِّقين أو الاقتداءِ بهم لأنّه أعدّ لهم أسوأَ العقابِ عندَه جزاءَ تفرُّقِهِم فقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
فإذا مَضَينا في طريق الفرقةِ وأضعنا هَدفَ الأمّة وتقطَّعنا فِرَقًا وأحزابًا وتمزَّقنا رؤوسًا وأذنابًا فإنّ أوَّل ما فرضَه ربّنا علينا هو براءَةُ رسول الله منَّا وانفصالُه عنّا؛ لأنّ الأمةَ التي دعا إليها وأرادها لحملِ دعوتِه لا تعرف الفرقةَ، إنما هي أمّةٌ واحدة؛ ربُّها واحِد وكتابها واحدٌ وصفّها واحِد كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]. وإنّه ـ يا عباد الله ـ لترهيبٌ شديد جديرٌ بأن تَعِيَه العقول وتحذَرَه القلوب.
فاتقوا الله عباد الله، واعمَلوا على كلِّ ما يكون به اجتماعُكم، تحظَوا برِضوان ربّكم وتستَقِمْ حياتُكم وتبلُغوا آمالَكم.
واذكُروا على الدّوَام أن الله تعالى قد أمَرَكم بالصّلاة والسلام على خاتَمِ النبيّين وإمامِ المتّقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتابِ المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
1- بضدِّها تتميّز الأشياء. 2- ثلاث خصال جاهليّة. 3- أمر الرسول بتوحيد الله تعالى. 4- أمر الرسول بالاجتماع. 5- أمر الرسول بطاعة ولاة الأمر. 6- التحذير من التفرق والاختلاف.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيَا عبادَ الله، اتّقوا الله واذكروا أنّه خَلقَكم لعِبادتِه وحدَه دونَ سواه، فأخلِصوا له الدّين، وأحسِنوا العمَل، فالسّعيد من أخلَص دينَه لله وتابَع رسولَ الله حتى أتاه أمرُ الله.
أيّها المسلمون، إنّه إذا كانتِ الأشياء تتميَّز بضدِّها وإذا كان الضّدُّ يظهِر حُسنَه الضّدّ فإنّ الأمورَ التي خالف فيها رسولُ الله أهلَ الجاهليّة هي من أعظمِ ما يبيِّن ذلك ويجلِّي حَقيقتَه؛ ولِذا كانَت معرفتُها متعيِّنةً والوُقوفُ عَليها متأكِّدًا والعلمُ بها مما لا يُستغنَى عنه.
وإنَّ من أظهَر ذلك ثلاثَ خِصال قام عليها دينُهم ومضى عليها أسلافُهم واستبانَ بها جَهلُهم وضلالهم وعِظَمُ خُسرانهم: أما الأولى فإِشراكهم بالله ودعاؤُهم غيرَه، وأمّا الثانية فتفرُّقهم وعدَم اجتماعِهم، وأمّا الثالثةُ فمخالفتُهم وليَّ الأمر وعدَمُ الانقياد له.
فقد كانوا يتعبَّدون بالشّركِ فيدعونَ غيرَ الله تعالى؛ مَلَكًا مقرَّبًا أو نبِيًّا مرسَلاً أو عَبدًا صالحًا أو صَنمًا أو شجَرًا أو كَوكبًا أو غيرَ ذلك، ويرَونَ في هذا الإشراكِ تعظيمًا لهذا المعبودِ من دونِ الله، ويطلبون شفاعتَه عند الله تعالى، ظنًّا مِنهم أنّ هذا المعبودَ يحبّ مِنهم ذلك كما حكَى عَنهم سبحانه قولَهم فيهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
ثمّ هم بعدَ ذلك منتهِجون نهجَ التفرُّق والاختلاف، راضون به، مستحسنون له، حتى أورثَهم أحقادًا واحتِرابًا، وأفقَدَهم أنفُسًا وأموالاً وأولادًا.
ويَرونَ معَ ذلك أنّ مخالفةَ وَليِّ الأمرِ وعصيانَه وعَدمَ الانقياد له فضيلةٌ تُحمَد وشَرَفٌ يُقصَد ومَنقَبةٌ تطلَب، وأنّ السَّمعَ والطاعة مهانةٌ يجِب الترفُّعُ عنها وضَعَة تلزَم الأنَفةُ منها ومذمَّةٌ تتأكَّد البراءةُ منها ويتعيَّن التجافي عنها، بل كان بعضُهم يجعل ذلك دينًا يتعبَّد به وقُربى يزدلِف بها.
فخالفهم رسول الهدَى صلوات الله وسلامُه عليه بما جاءَه مِن ربِّه من البيِّنات والهدَى في كلِّ ذلك، فأمرهم بالإخلاصِ لله وحدَه في العبادة، وأعلَمَهم أنَّ هذا هو دين الله الذي لا يقبَل سبحانه من أحدٍ سواه، وأخبرهم أنَّ كلَّ من تنكَّب عن هذا الصراط وحادَ عن هذا السبيل ففعَل ما استحسَنوه من عبادةِ غيرِه بِصرفِ أيِّ نوعٍ من أنواعِ العبادةِ له فقد حرَّم الله عليه الجنّةَ ومأواه النارُ كما أخبَره بذلك ربُّه الأعلى سبحانه، وبَيَّن لهم أيضًا أنَّ هذا الأمرَ هو قِوام الدين كلِّه وأساسُه ولُبّه، ولأجلِه افترقَ الناس إلى مسلمٍ وكافر.
كما أمَرَهم عليه الصلاة والسلام بالاجتماعِ والاعتصام بحبلِ الله الذي هو دينُ الله في قَولِ حَبرِ الأمّة وترجمان القرآنِ عبد الله بن العباس رضي الله عنهما[1]، أو الجماعةُ في قول عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه[2]، أو القرآنُ في قول غيرهما من السّلف[3]، وحبلُ الله شامِلٌ لذلك كلِّه، والله تعالى أراد أن يكونَ هذا الاعتصام بحبلِه سببًا لأن يكونَ اجتماع الأمّة ووحدتُها متماسِكَةُ راسخة؛ ولذا فإنه وضَع لها أساسين لا صلاحَ لها إلاَّ بهما:
أمَّا الأوّل فهو أن يكونَ الاجتماع والاتِّحاد حولَ كتابِ الله، وذلك يضمَن الأساسَ المتين للوَحدة، إذ ليس من الممكِن اجتماع القلوب على غيرِ شيء، وليس من المقبولِ شَرعًا أن تجتمعَ على باطل، بل يجب أن يكونَ اجتماعهم على الحقِّ الذي لا يأتيهِ الباطل من بَين يدَيه ولا مِن خَلفِه، وإذا تَوافَر لهذا الاجتماعِ دستورُه الذي تلتقِي عندَه القلوب وتنتفِي الأهواءُ فقد سلِم البناءُ واستبان المنهَج واطمأنَّ المسلمون، وبذلك تَتَوافر لهذا الاجتماعِ كلُّ الضوابطِ التي تصحِّح تصرُّفات الفرد وتوجِّه سلوكَ المجموع وتُسعِد حياةَ الناس؛ لأنّه قائم ـ أي: هذا الاجتماع ـ على أساسِ كتابٍ جمع الله فيه خَيرَي الدّنيا والآخرةِ، ونهى بِهِ عن كلِّ شرّ في الدنيا يكون مآلُه الخسران في الآخرة.
وأمّا الثاني فهو أن يكونَ هذا الاعتصامُ والاجتماع مستغرِقًا جميعَ أبناءِ المجتمع المسلم، لا يتخلَّف عنه شخصٌ واحد، ولا يشذّ عنه صوتٌ، وذلك هو ما جاءَ جلِيًّا واضحًا في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا الآية [آل عمران:103]، فإنَّ الله تعالى في هذهِ الآيةِ كما ـ قال بعض أهلِ العلم ـ لم يقتصر على مجرَّد الأمر بالاعتصامِ بحبل الله، بل جاء فيها قولُه سبحانه: جَمِيعًا ليؤكِّدَ بذلك شمولَ هذا الاعتصام لكلِّ أبناء المجتَمَع المسلم، وهي الصّفةُ التي أرادَها الله لهذا الاجتماع، فالأمّةُ كلُّها على هذا متّحِدةُ الصّفِّ بأمر الله مجتمعةٌ على هَدَفٍ واحدٍ هو عبادةُ الله وحدَه والسّعيُ إلى رضوانِه كَما قالَ سبحانه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
وأوجب عليهم كذلِك السّمعَ والطّاعةَ لوليِّ الأمرِ المسلِم والنّصيحةَ له، وحرَّم عليهم مخالفتَه وعدَمَ الانقيادِ له إلاَّ أن يأمُر بمعصيةٍ أو يَرَوا كُفرًا بواحًا ـ أي: بيِّنًا محقَّقًا ـ عندهم مِنَ الله فيه بُرهان.
فقال في الحديثِ الذي أخرجَه مسلِم في صحيحه ومالكٌ في الموطَّأ واللّفظ له عَن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رَسول الله أنّه قالَ: ((إنّ الله يرضَى لكم ثلاثًا ويسخَط لكم ثلاثًا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحبلِ الله جميعًا ولا تَفَرَّقوا، وأن تناصِحوا مَن ولاّه الله أمرَكم، ويَسخَط لكم قيلَ وقالَ وإضاعةَ المال وكثرةَ السّؤال))[4]، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديثِ الذي أخرجَه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ أنه قال: ((مَن كرِه من أميرِه شيئًا فليَصبِر، فإنّ مَن خرجَ من السّلطان شِبرًا مات مِيتةً جاهليّة))[5]، وفي الصّحيحين أيضًا عن جُنادة بن أبي أميّة أنّه قال: دَخلنا على عُبادةَ بنِ الصامت وهو مَريض وقلنا: أصلحك الله، حدِّث بحديثٍ ينفعُك الله به سمعتَه من النبيِّ ، فقال رضي الله عنه: دَعَانا النبيّ فبايَعَنا، فكانَ فيما أخَذَ عَلينا أن بايَعنا على السّمعِ والطّاعة في منشَطِنا ومَكرهنا وعُسرِنا ويُسرِنا وأَثَرةٍ علينا، وأن لا نُنازعَ الأمرَ أهلَه إلاَّ أن يكونَ كُفرًا بَواحًا عندكم مِنَ الله فيه برهان[6].
ولا ريبَ أنَّ في الأخذِ بهذا الهدي النبويِّ الحكيم انتظامَ مصالح الدين والدنيا بسدِّ أبوابِ الفِتنة وتوجيهِ الطاقات وصَرف الجهود في كلِّ ما تُجتَلَب بهِ المنافع وتُستَدفَع به المضارّ ويُصان به كيانُ الأمّة وتُحمَى به الحَوزَة ويُكبَت به الأعداء ويَعمُّ به الأمن ويَكثُر به الخير والرّخاء، فأيُّ النّهجَين إذًا أحقّ بالاتّباع يا عباد الله: نهجُ رسولِ الله وهديُه أم نهجُ الجاهلية وضلالها وإِفكُها؟! وكيفَ تصِحّ الحيدةُ عن هذا النّهجِ النبويِّ والطريقِ المحمديّ إلى طريقِ أهلِ الفتنةِ والفُرقَةِ والاختلاف وما أفضى إليهِ هذا الطريقُ مِن تكفيرٍ وتفجير واستباحةٍ للدماء المحَرَّمة وقتلٍ للأنفسِ المعصومَةِ واختطافٍ وترويعٍ وتخريب في العمران وإضاعةٍ للأموال وتبديدٍ للطاقات إلى غيرِ ذلك من الأضرار والأوزار التي أحدَثها هذا العدوانُ الذي تعرَّضَت له هذه البلادُ الطيِّبة المبارَكة الآمِنة في هذهِ الآونة الأخيرة؟! فحذارِ مِن سلوكِ طريقِ الفِتنة حذارِ، فليس وراءَ ذلك واللهِ إلاّ البوار والدّمار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102، 103].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّةِ نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه كان غفَّارًا.
[1] انظر: زاد المسير (1/433).
[2] جامع البيان للطبري (4/30).
[3] انظر: جامع البيان للطبري (4/31)، وزاد المسير (1/432-433).
[4] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1715)، موطأ مالك: كتاب الجامع (1863).
[5] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7053)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1849).
[6] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7056)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1709).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يهدِي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم، أحمده سبحانه وهو البَرّ الرؤوفُ الرحيم، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله صاحبُ الخُلُق الراشِد والنّهج القويم، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، قال بعضُ أهل العلم: إنّ الله يبغِّض إلينا التفرّقَ والاختلاف لأنّه أوّلُ الوَهن وبابُ الفَشَل والضياع، والفاشِلُ لا وَزنَ له في هذِه الدنيا ولا مكانةَ له في الآخرة: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ الآية [الأنفال:46]، بل إنّه سُبحانه يحذِّرنا من السّيرِ على نهج المتفرِّقين أو الاقتداءِ بهم لأنّه أعدّ لهم أسوأَ العقابِ عندَه جزاءَ تفرُّقِهِم فقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
فإذا مَضَينا في طريق الفرقةِ وأضعنا هَدفَ الأمّة وتقطَّعنا فِرَقًا وأحزابًا وتمزَّقنا رؤوسًا وأذنابًا فإنّ أوَّل ما فرضَه ربّنا علينا هو براءَةُ رسول الله منَّا وانفصالُه عنّا؛ لأنّ الأمةَ التي دعا إليها وأرادها لحملِ دعوتِه لا تعرف الفرقةَ، إنما هي أمّةٌ واحدة؛ ربُّها واحِد وكتابها واحدٌ وصفّها واحِد كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]. وإنّه ـ يا عباد الله ـ لترهيبٌ شديد جديرٌ بأن تَعِيَه العقول وتحذَرَه القلوب.
فاتقوا الله عباد الله، واعمَلوا على كلِّ ما يكون به اجتماعُكم، تحظَوا برِضوان ربّكم وتستَقِمْ حياتُكم وتبلُغوا آمالَكم.
واذكُروا على الدّوَام أن الله تعالى قد أمَرَكم بالصّلاة والسلام على خاتَمِ النبيّين وإمامِ المتّقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتابِ المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى