عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ملخص الخطبة
1- الحذر من ضلال السعي. 2- ضروب ضلال السعي. 3- أحداث جدة. 4- ذم الحقد. 5- وجوب التضامن والتضافر للقضاء على الأعمال التخريبية. 6- دعوة للتوبة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واذكروا أنّكم محاسَبون على النقير والقطمير مِن أعمَالكم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
أيّها المسلِمون، إنَّ الحذَرَ من خُسران العمل والنّفرةَ من ضلال السعيِ نهجُ أولي الألباب وسبيلُ عباد الرحمن وطريقُ الرّاسخين في العِلم، يبتَغون به الوسيلة إلى ربهم، ويرجون به الحظوةَ عندَه ونزولَ دار كرامته إلى جوارِ أوليائه والصفوةِ مِن خلقه؛ لأنهم يستيقِنون أن سعادةَ المرء هي في توفيقِ الله له إلى إصابةِ الحقِّ ولزوم الجادّةِ والاهتداء إلى الصراطِ المستقيم والسلامةِ من العثار والنجاةِ من الزّلَل بعبادةِ الله على بصيرةٍ والازدلاف إليه بما شرَعَه سبحانه مما أنزله في كتابِه أو جاءَ به رسوله ، ففي هذا صيانَةٌ للعبد ووقايةٌ له من أن يضَمَّ إلى زمرةِ الأخسرين أعمالاً الذين نبّأنا سبحانَه بأحوالهم وأوضَحَ حقيقتَهم بقولِه عزّ اسمه: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وهم ـ كما رجَّح العلاّمة الإمام ابن جرير رحمه الله ـ كلُّ عامِلٍ عملاً يحسَبه فيه مصيبًا وأنّه لله بفعلِه ذلك مطيعٌ مرضٍ له، وهو بفعلِه لله مُسخِط وعن طريق الإيمان به جائِرٌ من أهلِ أيِّ دينٍ كان، وبنحوِ هذا أيضًا قال العلاّمة ابن كثير رحمه الله. فهو تعبيرٌ ربّانيّ عن حال أولئِك الفاشلين في حياتهم الدنيا، ومع ذلك فهم يخدَعون أنفسَهم باعتقادٍ لا يُسنده واقعُهم ولا يشهَد له حالُهم ولا تصدِّقه أعمالهم.
ألا وإنَّ ضلالَ السعيِ ضروبٌ وألوان لا يكاد يحدُّها حدّ أو يستوعِبها بيان، غير أنَّ من أقبحها وأشدِّها نُكرًا وأعظَمها ضررًا شقَّ عصا الطاعة ومفارقةَ الجماعة والتردِّي في حمأة التمرُّد والعِصيان واستباحةِ الدِّماء المعصومةِ وقتلِ النفس التي حرَّم الله قتلَها إلا بالحق بالتأويلات الباطِلةِ والآراءِ الفاسدة المدخولة والفتاوَى الخاطِئة المغرِضة التي لا تستنِد إلى دليلٍ صحيح ولا ترجِع إلى فقهٍ ولا نظرٍ سليم قويم.
ومن ذلك ما حدَث في مدينةِ جدّة قبلَ أيّام مَعدوداتٍ مما جاء لكم خبرُه واتّصل بكم نبَؤه فأحدَث شرًّا مستطيرًا، لا يمكن لمؤمن صادقٍ يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربّه أن يقبلَ به أو يدعوَ إليه أو يحضَّ عليه، كلاّ والله لا يمكن ذلك أبدًا؛ إذ متى كان القتلُ والترويع أمرًا مشروعًا في هذا الدين الذي يقول كتابُه المنزَّل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا الآية [المائدة:32]؟! ومتى كان البَغيُ والعدوان على الناس مسلِمِهم ومستأمَنِهم طريقًا إلى رضوانِ الله وسبيلاً إلى جنّاته؟! ومن المنتفِع بهذه الأعمالِ على الحقيقة يا عباد الله؟! وكيف يرضَى أحد لنفسِه أن ينقلبَ إلى أداةٍ بيد أعداءِ دينِه وخصوم وطنِه وأمّته، يبلغون بها ما يريدون من الشرِّ والخَبال وهم قارّون مَوفُورون لم يمسَسهم سوء؟! وكيف لا تقَرّ أعينُ هؤلاء الموتورِين وهم يرَونَ من يقاتل عنهم ويضرِب بسلاحِهم ويتحيَّز إلى فئتهم؟! ثم ألم يحذِّرنا ربّنا من طاعة الشيطان واتّباع خطواتِه فقال عز من قائل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]؟! وما عسى أن يكونَ هذا العمل وأمثالُه مما سبقَه؟! ما عساه يكون إن لم يكن موالاةً للشيطان وطاعةً له واتّباعًا لخطواته؟!
عبادَ الله، إنَّ لنيران الحقدِ ضِرامًا تطيش معه العقول وتصمّ الآذان وتعمَى الأبصار، فلا ينتفِع صاحبه بعقلِه ولا بسمعِه ولا ببصره، لا ينتفع بعقلِه حين لا يضَع الأمورَ في نِصابها ولا يتفكَّر في مآلها ولا ينظر في عواقِبِها، ولا ينتفع بسمعه حين يصمّ أذنَيه عن سماع النصح ويولِّي مستكبرًا معرِضًا عن قَبول التّذكير الذي ينفَع المؤمنين، ولا ينتفِع ببصرِه حينَ يغلِق عينَيه عن النّظر إلى البيّنات والهدى الذي يبصِر به طريقَ الحقّ، هنالك تكون العاقبة شرًّا ووبالاً عليه وخسرانًا يبوء به وضلالَ سعيٍ لا يغادِره ونهايةً تعِسةً مظلِمة خائبة تنتظِره.
إن الحِقدَ لن يكون مطيّةً إلى الخير ولا طريقًا إلى الرّشد ولا سببًا إلى نفعٍ عاجل أو آجِل، وما هو إلا مركَب مآلُ راكِبِه الغَرَق هو ومن مَعه بغير أسَفٍ عليه ولا ذكرٍ حسَن له ولا ثناءٍ جميل عليه، وإنها لعاقبةٌ يا لها من عاقبة، وإنه لمآلٌ يا له من مآل، وقانا الله جميعًا شرَّ ذلك المصير، وجنَّبنا أسبابَ سخطه، وختَم لنا بخير، آمين آمين.
ألا وإنَّ من مقتضياتِ الإيمان الحقِّ ومن حقوقِ الأخوّة الصادقة تضافر كلِّ الإخوةِ في الدين في جميعِ أقطارهم وفي كافّة ديارِهم وعلى مختَلف فئاتهم الرّسمية والشعبيّة في الوقوفِ صفًّا واحدًا مع هذهِ البلاد الطيّبة المباركة التي تتعرّض لهذا العدوانِ الجائر وهذا الظّلم السافِر الذي يأباه الله ورسولُه وصالح المؤمنين في كلّ الديار وفي جميع الأمصار في مشارقِ الأرض ومغاربها إنكارًا لهذا المنكَر الذي يجب إنكارُه، كما يجِب إنكارُ جميع المنكرات، وتحقيقًا للمَثَل النبويّ الرفيع الذي وصفَ به رسولُ الهدى واقعَ المؤمنين الصّادقين بقولِه عليه الصلاة والسلام: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفِهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائِر الجسدِ بالسهر والحمى)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما[1]، وفي الصّحيحين أيضًا عن أبي موسَى الأشعريّ رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((المؤمِن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) وشبّك بين أصابعه[2].
ويتأكّد وجوبُ هذه الوقفةِ المتضَامِنة بتذكُّر ما كان لهذهِ البلادِ على جميع المستويات الرسميةِ والشعبية من وقفاتٍ إسلامية ثابتَة دائمة مع الإخوةِ في الدّين في مختلفِ ديارهم في جميعِ الشدائد وفي كلّ الأزمات، مما هو معلوم مشهور، ليس في الإمكانِ جَحده ولا إنكارُه، وقد قال ربّنا سبحانه: وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].
نفعَني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّة نبيّه محمد ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6011)، صحيح مسلم: كتاب البر (2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6027)، صحيح مسلم: كتاب البر (2585).
الخطبة الثانية
الحمد للهِ الذي يقبَل التوبَةَ عن عبادِه ويعفو عن السيئات، أحمده سبحانه فاطر السماواتِ والأرضِ، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد الخلق جميعًا الأحياء منهم والأموات، اللهمّ صلّ وسلّم عليه وعلى آلِه وصحبِه صلاةً دائمةً تعمَر بها الأوقات.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إنه لعِظَم شأن التّوبة عندَ الله تعالى وشَرَف مقامِها وحَلاوة عاقِبَتها أمَر سبحانه العبادَ جميعًا بالتوبة إليه، فقال عزّ من قائل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال جلَ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] أي: خالِصة صادقةً، وهي التي تكون بندم القلب على ما مَضى من الذّنب وبالاستغفارِ باللسان والإقلاعِ بالبَدن والعَزم على عدم العَودة إلى هذا الذّنب مستقبَلاً وبردِّ المظالم إن وُجدت.
وفي سنّة رسولِ الله نظيرُ ذلك من الأمرِ بالتوبة والحثِّ عليها، ففي الحديث الذي أخرجَه مسلم في صحيحه عن الأغرّ بن يسار المزنيّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإني أتوب في اليوم مائةَ مرة))[1]، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((والله، إني لأستغفِر الله وأتوبُ إليه في اليَوم أكثرَ مِن سبعين مرة))[2]. وإذا كان هذا ما كان مِن حالِ النّبي وهو الذي غفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فما عسى أن يكونَ حال غيرِه ممّن يذنِب بالليل والنهار؟!
إنّ الأمرَ بالتوبة كما هو عامّ لكلّ الخلائق فإنّه شامِل لمن قام بهذه الأعمالِ الإجراميّة، فإنه مأمورٌ كذلك بالتوبةِ إلى الله تعالى مما كسَبَت يداه ما دام في الأجلِ فُسحة، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((مَن تاب قبلَ أن تطلعَ الشّمس من مغربها تابَ الله عليه))[3]، وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((إنَّ الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلعَ الشمس من مغربها))[4].
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه واستغفروه، واذكروا على الدّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِهِ الأربعة...
[1] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2703).
[2] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6307).
[3] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2702).
[4] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2759).
1- الحذر من ضلال السعي. 2- ضروب ضلال السعي. 3- أحداث جدة. 4- ذم الحقد. 5- وجوب التضامن والتضافر للقضاء على الأعمال التخريبية. 6- دعوة للتوبة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واذكروا أنّكم محاسَبون على النقير والقطمير مِن أعمَالكم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
أيّها المسلِمون، إنَّ الحذَرَ من خُسران العمل والنّفرةَ من ضلال السعيِ نهجُ أولي الألباب وسبيلُ عباد الرحمن وطريقُ الرّاسخين في العِلم، يبتَغون به الوسيلة إلى ربهم، ويرجون به الحظوةَ عندَه ونزولَ دار كرامته إلى جوارِ أوليائه والصفوةِ مِن خلقه؛ لأنهم يستيقِنون أن سعادةَ المرء هي في توفيقِ الله له إلى إصابةِ الحقِّ ولزوم الجادّةِ والاهتداء إلى الصراطِ المستقيم والسلامةِ من العثار والنجاةِ من الزّلَل بعبادةِ الله على بصيرةٍ والازدلاف إليه بما شرَعَه سبحانه مما أنزله في كتابِه أو جاءَ به رسوله ، ففي هذا صيانَةٌ للعبد ووقايةٌ له من أن يضَمَّ إلى زمرةِ الأخسرين أعمالاً الذين نبّأنا سبحانَه بأحوالهم وأوضَحَ حقيقتَهم بقولِه عزّ اسمه: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وهم ـ كما رجَّح العلاّمة الإمام ابن جرير رحمه الله ـ كلُّ عامِلٍ عملاً يحسَبه فيه مصيبًا وأنّه لله بفعلِه ذلك مطيعٌ مرضٍ له، وهو بفعلِه لله مُسخِط وعن طريق الإيمان به جائِرٌ من أهلِ أيِّ دينٍ كان، وبنحوِ هذا أيضًا قال العلاّمة ابن كثير رحمه الله. فهو تعبيرٌ ربّانيّ عن حال أولئِك الفاشلين في حياتهم الدنيا، ومع ذلك فهم يخدَعون أنفسَهم باعتقادٍ لا يُسنده واقعُهم ولا يشهَد له حالُهم ولا تصدِّقه أعمالهم.
ألا وإنَّ ضلالَ السعيِ ضروبٌ وألوان لا يكاد يحدُّها حدّ أو يستوعِبها بيان، غير أنَّ من أقبحها وأشدِّها نُكرًا وأعظَمها ضررًا شقَّ عصا الطاعة ومفارقةَ الجماعة والتردِّي في حمأة التمرُّد والعِصيان واستباحةِ الدِّماء المعصومةِ وقتلِ النفس التي حرَّم الله قتلَها إلا بالحق بالتأويلات الباطِلةِ والآراءِ الفاسدة المدخولة والفتاوَى الخاطِئة المغرِضة التي لا تستنِد إلى دليلٍ صحيح ولا ترجِع إلى فقهٍ ولا نظرٍ سليم قويم.
ومن ذلك ما حدَث في مدينةِ جدّة قبلَ أيّام مَعدوداتٍ مما جاء لكم خبرُه واتّصل بكم نبَؤه فأحدَث شرًّا مستطيرًا، لا يمكن لمؤمن صادقٍ يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربّه أن يقبلَ به أو يدعوَ إليه أو يحضَّ عليه، كلاّ والله لا يمكن ذلك أبدًا؛ إذ متى كان القتلُ والترويع أمرًا مشروعًا في هذا الدين الذي يقول كتابُه المنزَّل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا الآية [المائدة:32]؟! ومتى كان البَغيُ والعدوان على الناس مسلِمِهم ومستأمَنِهم طريقًا إلى رضوانِ الله وسبيلاً إلى جنّاته؟! ومن المنتفِع بهذه الأعمالِ على الحقيقة يا عباد الله؟! وكيف يرضَى أحد لنفسِه أن ينقلبَ إلى أداةٍ بيد أعداءِ دينِه وخصوم وطنِه وأمّته، يبلغون بها ما يريدون من الشرِّ والخَبال وهم قارّون مَوفُورون لم يمسَسهم سوء؟! وكيف لا تقَرّ أعينُ هؤلاء الموتورِين وهم يرَونَ من يقاتل عنهم ويضرِب بسلاحِهم ويتحيَّز إلى فئتهم؟! ثم ألم يحذِّرنا ربّنا من طاعة الشيطان واتّباع خطواتِه فقال عز من قائل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]؟! وما عسى أن يكونَ هذا العمل وأمثالُه مما سبقَه؟! ما عساه يكون إن لم يكن موالاةً للشيطان وطاعةً له واتّباعًا لخطواته؟!
عبادَ الله، إنَّ لنيران الحقدِ ضِرامًا تطيش معه العقول وتصمّ الآذان وتعمَى الأبصار، فلا ينتفِع صاحبه بعقلِه ولا بسمعِه ولا ببصره، لا ينتفع بعقلِه حين لا يضَع الأمورَ في نِصابها ولا يتفكَّر في مآلها ولا ينظر في عواقِبِها، ولا ينتفع بسمعه حين يصمّ أذنَيه عن سماع النصح ويولِّي مستكبرًا معرِضًا عن قَبول التّذكير الذي ينفَع المؤمنين، ولا ينتفِع ببصرِه حينَ يغلِق عينَيه عن النّظر إلى البيّنات والهدى الذي يبصِر به طريقَ الحقّ، هنالك تكون العاقبة شرًّا ووبالاً عليه وخسرانًا يبوء به وضلالَ سعيٍ لا يغادِره ونهايةً تعِسةً مظلِمة خائبة تنتظِره.
إن الحِقدَ لن يكون مطيّةً إلى الخير ولا طريقًا إلى الرّشد ولا سببًا إلى نفعٍ عاجل أو آجِل، وما هو إلا مركَب مآلُ راكِبِه الغَرَق هو ومن مَعه بغير أسَفٍ عليه ولا ذكرٍ حسَن له ولا ثناءٍ جميل عليه، وإنها لعاقبةٌ يا لها من عاقبة، وإنه لمآلٌ يا له من مآل، وقانا الله جميعًا شرَّ ذلك المصير، وجنَّبنا أسبابَ سخطه، وختَم لنا بخير، آمين آمين.
ألا وإنَّ من مقتضياتِ الإيمان الحقِّ ومن حقوقِ الأخوّة الصادقة تضافر كلِّ الإخوةِ في الدين في جميعِ أقطارهم وفي كافّة ديارِهم وعلى مختَلف فئاتهم الرّسمية والشعبيّة في الوقوفِ صفًّا واحدًا مع هذهِ البلاد الطيّبة المباركة التي تتعرّض لهذا العدوانِ الجائر وهذا الظّلم السافِر الذي يأباه الله ورسولُه وصالح المؤمنين في كلّ الديار وفي جميع الأمصار في مشارقِ الأرض ومغاربها إنكارًا لهذا المنكَر الذي يجب إنكارُه، كما يجِب إنكارُ جميع المنكرات، وتحقيقًا للمَثَل النبويّ الرفيع الذي وصفَ به رسولُ الهدى واقعَ المؤمنين الصّادقين بقولِه عليه الصلاة والسلام: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفِهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائِر الجسدِ بالسهر والحمى)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما[1]، وفي الصّحيحين أيضًا عن أبي موسَى الأشعريّ رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((المؤمِن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) وشبّك بين أصابعه[2].
ويتأكّد وجوبُ هذه الوقفةِ المتضَامِنة بتذكُّر ما كان لهذهِ البلادِ على جميع المستويات الرسميةِ والشعبية من وقفاتٍ إسلامية ثابتَة دائمة مع الإخوةِ في الدّين في مختلفِ ديارهم في جميعِ الشدائد وفي كلّ الأزمات، مما هو معلوم مشهور، ليس في الإمكانِ جَحده ولا إنكارُه، وقد قال ربّنا سبحانه: وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].
نفعَني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّة نبيّه محمد ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6011)، صحيح مسلم: كتاب البر (2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6027)، صحيح مسلم: كتاب البر (2585).
الخطبة الثانية
الحمد للهِ الذي يقبَل التوبَةَ عن عبادِه ويعفو عن السيئات، أحمده سبحانه فاطر السماواتِ والأرضِ، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد الخلق جميعًا الأحياء منهم والأموات، اللهمّ صلّ وسلّم عليه وعلى آلِه وصحبِه صلاةً دائمةً تعمَر بها الأوقات.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إنه لعِظَم شأن التّوبة عندَ الله تعالى وشَرَف مقامِها وحَلاوة عاقِبَتها أمَر سبحانه العبادَ جميعًا بالتوبة إليه، فقال عزّ من قائل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال جلَ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] أي: خالِصة صادقةً، وهي التي تكون بندم القلب على ما مَضى من الذّنب وبالاستغفارِ باللسان والإقلاعِ بالبَدن والعَزم على عدم العَودة إلى هذا الذّنب مستقبَلاً وبردِّ المظالم إن وُجدت.
وفي سنّة رسولِ الله نظيرُ ذلك من الأمرِ بالتوبة والحثِّ عليها، ففي الحديث الذي أخرجَه مسلم في صحيحه عن الأغرّ بن يسار المزنيّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإني أتوب في اليوم مائةَ مرة))[1]، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((والله، إني لأستغفِر الله وأتوبُ إليه في اليَوم أكثرَ مِن سبعين مرة))[2]. وإذا كان هذا ما كان مِن حالِ النّبي وهو الذي غفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فما عسى أن يكونَ حال غيرِه ممّن يذنِب بالليل والنهار؟!
إنّ الأمرَ بالتوبة كما هو عامّ لكلّ الخلائق فإنّه شامِل لمن قام بهذه الأعمالِ الإجراميّة، فإنه مأمورٌ كذلك بالتوبةِ إلى الله تعالى مما كسَبَت يداه ما دام في الأجلِ فُسحة، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((مَن تاب قبلَ أن تطلعَ الشّمس من مغربها تابَ الله عليه))[3]، وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((إنَّ الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلعَ الشمس من مغربها))[4].
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه واستغفروه، واذكروا على الدّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِهِ الأربعة...
[1] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2703).
[2] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6307).
[3] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2702).
[4] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2759).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى