رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
اتباع الصراط في تحريم الاختلاط
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ تَعَالى ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ ممَّا يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ استِسلامًا لِفِطرَةِ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا وَتَصدِيقًا لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَةُ ، الإِيمَانَ بِالفَوَارِقِ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ ، سَوَاءً الجَسَدِيَّةُ مِنهَا أَو المَعنَوِيَّةُ ، أَوِ الطَّبِيعِيَّةُ أَوِ الشَّرعِيَّةُ ، إِذْ هِيَ فُرُوقٌ ثَابِتَةٌ قَدَرًا وَشَرعًا ، قَائِمَةٌ حِسًّا وَعَقلاً ، لا يَسعُ مُؤمِنًا عَاقِلاً إِلاَّ الإِيمَانُ بها وَإِثبَاتُهَا ، وَعَدَمُ التَّعَامِي عَنهَا وَجَحدِهَا . وَقَد خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالى ـ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى لِعِمَارَةِ الكَونِ كُلٌّ فِيمَا يَخُصُّهُ ، وَفَرَضَ عَلَيهِمَا عِبَادَتَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ بِلا فَرقٍ بَينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ في عُمُومِ الدِّينِ وَالتَّشرِيعِ وَالحُقُوقِ وَالوَاجِبَاتِ ، وَفي الثَّوَابِ وَالعِقَابِ وَفي التَّرغِيبِ وَالتَّرهِيبِ وَالفَضَائِلِ " وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ " " مَن عَمِلَ صَالحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ " لَكِنَّ اللهَ ـ سُبحَانَهُ ـ مَعَ ذَلِكَ قَدَّرَ وَقَضَى أَنَّ الذَّكَرَ لَيسَ كَالأُنثَى ، فَفِي الذُّكُورَةِ كَمَالُ خَلقٍ وَقُوَّةُ طَبِيعَةٍ ، وَفي الأُنثَى نَقصٌ خِلقَةً وَجِبِلَّةً وَطَبِيعَةً ، وَقَد خُلِقَتِ الأُنثَى مِن ضِلَعِ آدَمَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ فَهِيَ جُزءٌ مِنهُ وَمَتَاعٌ لَهُ ، وَهُوَ مُؤتَمَنٌ عَلَى القِيَامِ بِشُؤُونِهَا وَحِفظِهَا وَالإِنفَاقِ عَلَيهَا وَعَلَى مَا بَينَهُمَا مِنَ الذُّرِّيَّةِ ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، كَانَ مِن آثَارِ هَذَا الاختِلافِ في الخِلقَةِ الاختِلافُ بَينَهُمَا في القُوَى وَالقُدُرَاتِ الجَسَدِيَّةِ وَالعَقلِيَّةِ وَالفِكرِيَّةِ وَالعَاطِفِيَّةِ وَالإِرَادِيَّةِ ، وَفي العَمَلِ وَالأَدَاءِ وَالكِفَايَةِ في ذَلِكَ ، وَمِن ثَمَّ أُنِيطَت بِكُلٍّ مِنهُمَا جُملَةٌ مِن أَحكَامِ التَّشرِيعِ الَّتي تُلائِمُهُ في خِلقَتِهِ وَتُوَافِقُهُ في قُدُرَاتِهِ ، وَخُصَّ كُلٌّ مِنهُمَا بِمَهَامِّهِ الَّتي تُنَاسِبُ أَدَاءَهُ وَكِفَايَتَهُ ، فَخَصَّ ـ سُبحَانَهُ ـ الرِّجَالَ بِبَعضِ الأَحكَامِ الَّتي تَتَطَلَّبُ صَبرًا وَجَلَدًا وَرَزَانَةً ، وَخَصَّ النِّسَاءَ بِبَعضِ الأَحكَامِ الَّتي تُوَافِقُ ضَعفَ أَدَائِهِنَّ وَقِلَّةَ تَحَمُّلِهِنَّ ، لِتَتَكَامَلَ بِذَلِكَ الحَيَاةُ الإِنسَانِيَّةُ وَيَعتَدِلَ سَيرُهَا ، هَكَذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ " وَمَا كَانَ لمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا " وَقَد حَرَّمَ ـ سُبحَانَهُ ـ عَلَى الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ أَن يَتَمَنَّى أَيٌّ مِنهُمَا مَا خُصَّ بِهِ الآخَرُ ، لِمَا في ذَلِكَ مِنَ السَّخَطِ عَلَى قَدَرِ اللهِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِحُكمِهِ وَشَرعِهِ ، وَوَجَّهَهُمَا إِلى أَن يَسأَلاهُ ـ تَعَالى ـ مِن فَضلِهِ فَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلاَ تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعضَكُم عَلَى بَعضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكتَسَبنَ وَاسأَلُوا اللهَ مِن فَضلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمًا " وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّهيُ عَن مُجَرَّدِ التَّمَنِّي ، فَكَيفَ بِمَن يُنكِرُ الفَوَارِقَ الشَّرعِيَّةَ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ ، وَيُنَادِي بِإِلغَائِهَا وَيُطَالِبُ بِالمُسَاوَاةِ بَينَهُمَا وَيَدعُو إِلَيهَا ؟ فَهَذِهِ بِلا أَدنى شَكٍّ نَظَرِيَّةٌ إِلحَادِيَّةٌ كُفرِيَّةٌ ، لِمَا فِيهَا مِن مُنَازَعَةٍ لإِرَادَةِ اللهِ الكَونِيَّةِ القَدَرِيَّةِ في الفَوَارِقِ الخَلقِيَّةِ وَالمَعنَوِيَّةِ بَينَهُمَا ، وَلما تَنطَوِي عَلَيهِ مِن مُنَابَذَةٍ لِلإِسلامِ في نُصُوصِهِ الشَّرعِيَّةِ القَاطِعَةِ بِالفَرقِ بَينَ الذَّكَرِ وَالأُنثَى في أَحكَامٍ كَثِيرَةٍ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِذَا تَقَرَّرَ في الأَذهَانِ الفَرقُ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ ، فَإِنَّ مِنَ الأُصُولِ الَّتي جَاءَ بها الإِسلامُ حِفظًا لِلَفضِيلَةِ وَحِرَاسَةً لِحِمَاهَا ، وَمُحَارَبَةً لِلرَّذِيلَةِ وَاجتِثَاثًا لِجُذُورِهَا ، حُرمَةَ الاختِلاطِ بَينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَعَدَمَ جَوَازِ اللِّقَاءِ بَينَ الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ ، ذَلِكَ أَنَّ العِفَّةَ حِجَابٌ رَهِيفٌ خَفِيفٌ ، يُمَزِّقُهُ الاختِلاطُ وَيَهتِكُهُ الامتِزَاجُ ، وَالحَيَاءُ جِدَارٌ رَقِيقٌ دَقِيقٌ ، يَهدِمُهُ اللِّقَاءُ المُحَرَّمُ بَينَ الجِنسَينِ بِكُلِّ طَرِيقٍ غَيرِ شَرعِيٍّ ، وَلِذَا صَارَ طَرِيقُ الإِسلامِ التَّفرِيقَ وَالمُبَاعَدَةَ بَينَ المَرأَةِ وَالرّجُلِ الأَجنَبِيِّ عَنهَا ، إِذْ مُجتَمَعُ الإِسلامِ مُجتَمَعٌ فَردِيٌّ لا زَوجِيٌّ ، لِلرِّجَالِ فِيهِ مُجتَمَعَاتُهُمُ الخَاصَّةُ بهم بَعِيدًا عَنِ النِّسَاءِ ، وَلِلنَّسَاءِ مُجتَمَعَاتُهُنَّ الخَاصَّةُ بهن ، وَاللاَّتي لا يَرَينَ فِيهَا الرِّجَالَ وَلا يَرَونَهُنَّ ، وَلا تَخرُجُ المَرأَةُ إِلى مُجتَمَعِ الرِّجَالِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ مَاسَّةٍ أَو حَاجَةٍ مُلِحَّةٍ ، بِضَوَابِطِ الخُرُوجِ الشَّرعِيَّةِ وَآدَابِهِ المَرعِيَّةِ . وَقَد حَرَّمَ الإِسلامُ الاختِلاطَ بِكُلِّ صُوَرِهِ وَمُسَبِّبَاتِهِ ، سَوَاءً في التَّعلِيمِ أَوِ العَمَلِ ، أَو عَلَى مَقَاعِدِ الدِّرَاسَةِ وَفَصُولِ الجَامِعَاتِ ، أَو في المُؤتَمَرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ ، أَو في الاجتِمَاعَاتِ الخَاصَّةِ أَوِ العَامَّةِ ، لما يَنتُجُ عَنهُ مِن هَتكِ الأَعرَاضِ وَوَأدِ الفَضِيلَةِ ، وَمَرَضِ القُلُوبِ وَبَعثِ الرَّذِيلَةِ ، وِخُنُوثَةِ الرِّجَالِ وَاستِرجَالِ النِّسَاءِ ، وَلما يُثمِرُ مِن زَوَالِ الحَيَاءِ وَبُرُوزِ القِحَةِ ، وَتَقَلُّصِ العِفَّةِ وَذَهَابِ الحِشمَةِ ، وَانعِدَامِ الغَيرَةِ وَحُلُولِ الدِّيَاثَةِ مَحَلَّهَا . وَقَد جَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ المُطَهَّرَةُ قَرَارَ المَرأَةِ في بَيتِهَا وَلُزُومَهَا حِمَاهُ عَزِيمَةً وَاجِبَةً وَأَمرًا مُحَتَّمًا ، وَخُرُوجَهَا مِنهُ رُخصَةً لا تَكُونُ إِلا لِحَاجَةٍ أَو ضَرُورَةٍ ، قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " : وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى " وَلِلتَّأكِيدِ عَلَى هَذَا فَقَد أُسقِطَت عَنِ النِّسَاءِ صَلاةُ الجُمُعَةِ وَالجَمَاعَةِ ، وَجُعِلَ فَرضُ الحَجِّ عَلَيهِنَّ مَشرُوطًا بِوُجُودِ المَحرَمِ ، وَلم يُفرَضْ عَلَيهِنَّ الجِهَادُ مَعَ أَنَّهُ مِن أَفضَلِ الأَعمَالِ ، كُلُّ ذَلِكَ حِفظًا لأَعرَاضِهِنَّ وَصَونًا لِكَرَامَتِهِنَّ ، وَتَقدِيرًا لأَدَائِهِنَّ أَعمَالَهُنَّ وَوَظَائِفَهُنَّ المَنزِلِيَّةَ العَظِيمَةَ ؛ وَلِذَا فَإِنَّ أَهلَ الإِسلامِ ـ وَالفَخرُ لهم في ذَلِكَ ـ لا عَهدَ لهم بِاختِلاطِ نِسَائِهِم بِالرِّجَالِ الأَجَانِبِ الأَبَاعِدِ ، بَل كَانُوا وَمَا زَالُوا مُحَافِظِينَ عَلَى شَرَفِهِم وَعِفَّتِهِم ، مُتَمَسِّكِينَ بِأُصُولِ دِينِهِم وَشَرِيعَتِهِم ، يَرَونَ المَوتَ وَلا الاختِلاطَ ، وَيُنفِقُونَ المَالَ وَيَبقَى لَهُمُ العِرضُ نَقِيًّا ، وَإِنَّمَا حَصَلَتِ الفِتنَةُ بِالاختِلاطِ أَوَّلَ مَا حَصَلَت عَلَى أَرضِ الإِسلامِ ، مِن خِلالِ المَدَارِسِ الاستِعمَارِيَّةِ الأَجنَبِيَّةِ ، الَّتي فُتِحَت في بَعضِ بِلادِ المُسلِمِينَ ، فَكَانَ مِن نِتَاجِهَا أَن مُزِّقَ الحِجَابُ عَلَنًا في بَعضِ البِلادِ ، بَل وَأُصدِرَتِ القَوَانِينُ الَّتي تُلزِمُ بِالسُّفُورِ في بِلادٍ أُخرَى ، وَقَامَ سُوقُ الفَنِّ المَاجِنِ وَالفُجُورِ ، وَأُقِرَّ التَّعلِيمُ المُختَلَطُ ، وَأُسنِدَتِ الوِلايَاتُ إِلى غَيرِ أَهلِهَا ، في ظِلِّ تَسَاكُتِ العُلَمَاءِ وَالصَّالحِينَ ، وَإِسكَاتِ الدُّعَاةِ المُصلِحِينَ ، وَاتِّهَامِهِم بِالتَّطَرُّفِ وَالرَّجعِيَّةِ ، حَتى لم يَبقَ عَلَى عَدَمِ الاختِلاطِ إِلاَّ بَقَايَا قَلِيلَةٌ مِنَ المُسلِمِينَ ، مُتَفَرِّقَةٌ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ، وَأُخرَى مُتَحَصِّنَةٌ بِهَذِهِ البِلادِ الطّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ ، الَّتي رُزِقَت بِطَائِفَةٍ مِنَ المُصلِحِينَ مِن وُلاةٍ وَعُلَمَاءَ ، أَصحَابِ غَيرَةٍ وَنَخوَةٍ وَحَمِيَّةٍ ، فَقَادُوا السَّفِينَةَ إِلى سَاحِلِ النَّجَاةِ رَدحًا مِنَ الزَّمَنِ ، إِلى أَن مُكِّنَ لِبَعضِ المَفتُونِينَ وَقُلِّدُوا زِمَامَ الأُمُورِ ، فَأَخَذُوا يَكِيدُونَ لِلمَرأَةِ المَكَايِدَ لِيُوقِعُوا بها في شَرَكِ الاختِلاطِ ، فَيَستَمتِعُوا بها كَيفَمَا شَاؤُوا وَفي أَيِّ وَقتٍ أَرَادُوا . وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ لِمَا يَدُورُ في هَذِهِ البِلادِ مُنذُ سُنَيَّاتٍ ، مِن مُحَاوَلاتِ فَرضِ اختِلاطِ الجِنسَينِ في التَّعلِيمِ ، وَمَا جَرَى في بَعضِ الجَامِعَاتِ مِن بَدءِ التَّعلِيمِ المُختَلَطِ ، لَيَعلَمُ حَجمَ المُؤَامَرَةِ الَّتي يُخَطِّطُ لها أَعدَاءُ اللهِ مِنَ المُنَافِقِينَ وَالعِلمَانِيِّينَ ، وَإِنَّ النَّاظِرَ فِيمَا يُوَاكِبُ ذَلِكَ في الصَّحَافَةِ ، وَمَا يَكتُبُهُ كَثِيرٌ مِنَ السَّخَّابِينَ المَفتُونِينَ عَلَى أَعمِدَةِ الصُّحُفِ ، لَيَرَى عَجَبًا عُجَابًا ، حَيثُ الاستِهزَاءُ بِسُنَّةِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ ، وَالسُّخرِيَةُ مِنَ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ ، وَالطَّعنُ في العُلَمَاءِ وَالقُضَاةِ وَالمُفتِينَ وَوَصفُهُم بِالمُفسِدِينَ ، وَالتَّجَنِّي عَلَى أَهلِ الغَيرَةِ وَالحَمِيَّةِ ، وَنَشرُ البَاطِلِ وَالكَذِبُ عَلَى عِبَادِ اللهِ ، كُلُّ هَذَا لِتَهيِئَةِ الرَّأيِ العَامِّ وَامتِصَاصِ حَمَاسَتِهِ ، وَتَطوِيعِهِ لِقَبُولِ كُلِّ مَا يُخَطَّطُ لَهُ مِن بَثِّ الاختِلاطِ في كُلِّ مَكَانٍ ، وَإِشَاعَةِ الفَاحِشَةِ بَينَ المُؤمِنِينَ ، وَصَدَقَ اللهُ إِذْ يَقُولُ : " وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا " أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاعلَمُوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى المُؤمِنِ إِنكَارُ المُنكَرِ بِالطُّرُقِ الشَّرعِيَّةِ ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأَمرِ وَالذَّبِّ عَنِ العُلَمَاءِ ، غَيرَةً لِدِينِ اللهِ وَحِفظًا لِلأَعرَاضِ ، وَإِنَّ أَبوَابَ وُلاتِنَا ـ وَفَّقَهُمُ اللهُ ـ مَفتُوحَةٌ ، وَالبَرقِيَّاتُ مُتَيَسِّرَةٌ وَمَقدُورٌ عَلَيهَا ، وَالإِعذَارُ أَمَامَ اللهِ وَاجِبٌ ، وَلا نَجَاةَ وَلا رَحمَةَ إِلاَّ لِلنَّاهِينَ عَنِ السُّوءِ ، وَالسُّكُوتُ عَنِ المُنكَرِ مُوجِبٌ لِلعَذَابِ الشَّدِيدِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذَ قَالَت أُمَّةٌ مِنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا اللهُ مُهلِكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعذِرَةً إِلى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَينَا الَّذِينَ يَنهَونَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بمَا كَانُوا يَفسُقُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "
الخطبة الثانية /
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَفي الوَقتِ الَّذِي اكتَوَت فِيهِ الأُمَمُ الغَربِيَّةُ بِجَحِيمِ الاختِلاطِ زِنًا وَشُذُوذًا جِنسِيًّا وَلِوَاطًا وَسِحَاقًا ، وَذَاقَت مَرَارَةَ ثِمَارِهِ الخَبِيثَةِ أَمرَاضًا مُزمِنَةً وَأَوبِئَةً فَتَّاكَةً ، وَوَجَدَت نِتَاجَهُ انتِهَاكًا لِمَكَانَةِ المَرأَةِ وَامتِهَانًا لِكَرَامَتِهَا ، مِمَّا جَعَلَ تِلكَ الأُمَمَ تَعمَلُ عَلَى الفَصلِ بَينَ الجِنسَينِ وَلا سِيَّمَا في المَدَارِسِ وَالكُلِّيَّاتِ ، مُقتَنِعَةً بِلُزُومِ عَودِهَا إِلى الفِطرَةِ السَّوِيَّةِ ، بَعد أَن خَاضَت غِمَارَ تَجرِبَةِ مُصَادَمَتِهَا الفَاشِلَةِ ، أَقُولُ في ذَلِكَ الوَقتِ الَّذِي يَعُودُ فِيهِ الكُفَّارُ إِلى الفِطرَةِ مُرغَمِينَ بَعدَ سِنِينَ مِنَ التِّيهِ وَالضِّيَاعِ ، يَأتي مِن أَشقِيَاءِ قَومِنَا مَن يَدعُو إِلى الاختِلاطِ وَيُزَيِّنُهُ ، وَيَزعُمُ أَنَّهُ هُوَ الأَصلُ وَيُطَالِبُ بِالدَّلِيلِ عَلَى الفَصلِ . وَتَاللهِ لَولا التَّجرِبَةُ الفَاضِحَةُ لَكَانَ لِبَعضِهِم مَلاذٌ في أَنفَاقِ التَّموِيهِ وَدَهَالِيزِ المُخَادَعَةِ ، أَمَّا وَقَد أَفصَحَتِ التَّجَارِبُ عَمَّا يَشِيبُ لِهَولِهِ الوِلدَانُ مِن هَتكِ الأَعرَاضِ وَانتِشَارِ الأَمرَاضِ ، وتَشَتُّتِ الأُسَرِ وَتَمَزُّقِ الأَوَاصِرِ ، فَمَا لِعَاقِلٍ عُذرٌ أَن يَدعُوَ إِلى الاختِلاطِ أَو يُنَافِحَ عَنهُ ، كَيفَ وَقَد جَاءَ الحُكمُ بِتَحرِيمِهِ مِن لَدُن حَكِيمٍ خَبِيرٍ ؟! إِنَّنَا نَسمَعُ وَنَرَى في بَعضِ الإِذَاعَاتِ وَالقَنَوَاتِ ، وَنَقرَأُ في عَدَدٍ مِنَ الصُّحُفِ وَالمُنتَدَيَاتِ ، مَقَالاتٍ وَكِتَابَاتٍ عَن بَعضِ مَن يَنسَاقُونَ وَرَاءَ هَذِهِ الدَّعَاوَى الإِلحَادِيَّةِ ، مُزَيَّنَةً بِزُخرُفِ القَولِ وَمَعسُولِ الكَلامِ ، يُشَارِكُونَ بِهَا لِحُمقِهِم وَقِلَّةِ فِقهِهِم ، مُنخَدِعِينَ بِشَعَارَاتِ الحُرِّيَّةِ وَأَغلِفَةِ المُسَاوَاةِ ، أَلا فَلا نَامَت عَينٌ تَتَجَاهَلُ مَا حَلَّ بِالعُصَاةِ مِنَ المَثُلاتِ ، وَلا زَكَا عَقلٌ لا يَعِي العِبَرَ وَالعِظَاتِ ، ولا اطمَأَنَّ قَلبٌ لم يُوقِنْ بما أُنزِلَ مِن آياتٍ بَيِّنَاتٍ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَاتَّبِعُوا سَبِيلَ المُؤمِنِينَ ، وَاحذَرُوا المُشَاقَّةَ وَأَهلَهَا " وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلىَّ وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيرًا "
اتباع الصراط في تحريم الاختلاط
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ تَعَالى ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ ممَّا يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ استِسلامًا لِفِطرَةِ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا وَتَصدِيقًا لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَةُ ، الإِيمَانَ بِالفَوَارِقِ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ ، سَوَاءً الجَسَدِيَّةُ مِنهَا أَو المَعنَوِيَّةُ ، أَوِ الطَّبِيعِيَّةُ أَوِ الشَّرعِيَّةُ ، إِذْ هِيَ فُرُوقٌ ثَابِتَةٌ قَدَرًا وَشَرعًا ، قَائِمَةٌ حِسًّا وَعَقلاً ، لا يَسعُ مُؤمِنًا عَاقِلاً إِلاَّ الإِيمَانُ بها وَإِثبَاتُهَا ، وَعَدَمُ التَّعَامِي عَنهَا وَجَحدِهَا . وَقَد خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالى ـ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى لِعِمَارَةِ الكَونِ كُلٌّ فِيمَا يَخُصُّهُ ، وَفَرَضَ عَلَيهِمَا عِبَادَتَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ بِلا فَرقٍ بَينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ في عُمُومِ الدِّينِ وَالتَّشرِيعِ وَالحُقُوقِ وَالوَاجِبَاتِ ، وَفي الثَّوَابِ وَالعِقَابِ وَفي التَّرغِيبِ وَالتَّرهِيبِ وَالفَضَائِلِ " وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ " " مَن عَمِلَ صَالحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ " لَكِنَّ اللهَ ـ سُبحَانَهُ ـ مَعَ ذَلِكَ قَدَّرَ وَقَضَى أَنَّ الذَّكَرَ لَيسَ كَالأُنثَى ، فَفِي الذُّكُورَةِ كَمَالُ خَلقٍ وَقُوَّةُ طَبِيعَةٍ ، وَفي الأُنثَى نَقصٌ خِلقَةً وَجِبِلَّةً وَطَبِيعَةً ، وَقَد خُلِقَتِ الأُنثَى مِن ضِلَعِ آدَمَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ فَهِيَ جُزءٌ مِنهُ وَمَتَاعٌ لَهُ ، وَهُوَ مُؤتَمَنٌ عَلَى القِيَامِ بِشُؤُونِهَا وَحِفظِهَا وَالإِنفَاقِ عَلَيهَا وَعَلَى مَا بَينَهُمَا مِنَ الذُّرِّيَّةِ ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، كَانَ مِن آثَارِ هَذَا الاختِلافِ في الخِلقَةِ الاختِلافُ بَينَهُمَا في القُوَى وَالقُدُرَاتِ الجَسَدِيَّةِ وَالعَقلِيَّةِ وَالفِكرِيَّةِ وَالعَاطِفِيَّةِ وَالإِرَادِيَّةِ ، وَفي العَمَلِ وَالأَدَاءِ وَالكِفَايَةِ في ذَلِكَ ، وَمِن ثَمَّ أُنِيطَت بِكُلٍّ مِنهُمَا جُملَةٌ مِن أَحكَامِ التَّشرِيعِ الَّتي تُلائِمُهُ في خِلقَتِهِ وَتُوَافِقُهُ في قُدُرَاتِهِ ، وَخُصَّ كُلٌّ مِنهُمَا بِمَهَامِّهِ الَّتي تُنَاسِبُ أَدَاءَهُ وَكِفَايَتَهُ ، فَخَصَّ ـ سُبحَانَهُ ـ الرِّجَالَ بِبَعضِ الأَحكَامِ الَّتي تَتَطَلَّبُ صَبرًا وَجَلَدًا وَرَزَانَةً ، وَخَصَّ النِّسَاءَ بِبَعضِ الأَحكَامِ الَّتي تُوَافِقُ ضَعفَ أَدَائِهِنَّ وَقِلَّةَ تَحَمُّلِهِنَّ ، لِتَتَكَامَلَ بِذَلِكَ الحَيَاةُ الإِنسَانِيَّةُ وَيَعتَدِلَ سَيرُهَا ، هَكَذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ " وَمَا كَانَ لمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا " وَقَد حَرَّمَ ـ سُبحَانَهُ ـ عَلَى الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ أَن يَتَمَنَّى أَيٌّ مِنهُمَا مَا خُصَّ بِهِ الآخَرُ ، لِمَا في ذَلِكَ مِنَ السَّخَطِ عَلَى قَدَرِ اللهِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِحُكمِهِ وَشَرعِهِ ، وَوَجَّهَهُمَا إِلى أَن يَسأَلاهُ ـ تَعَالى ـ مِن فَضلِهِ فَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلاَ تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعضَكُم عَلَى بَعضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكتَسَبنَ وَاسأَلُوا اللهَ مِن فَضلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمًا " وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّهيُ عَن مُجَرَّدِ التَّمَنِّي ، فَكَيفَ بِمَن يُنكِرُ الفَوَارِقَ الشَّرعِيَّةَ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ ، وَيُنَادِي بِإِلغَائِهَا وَيُطَالِبُ بِالمُسَاوَاةِ بَينَهُمَا وَيَدعُو إِلَيهَا ؟ فَهَذِهِ بِلا أَدنى شَكٍّ نَظَرِيَّةٌ إِلحَادِيَّةٌ كُفرِيَّةٌ ، لِمَا فِيهَا مِن مُنَازَعَةٍ لإِرَادَةِ اللهِ الكَونِيَّةِ القَدَرِيَّةِ في الفَوَارِقِ الخَلقِيَّةِ وَالمَعنَوِيَّةِ بَينَهُمَا ، وَلما تَنطَوِي عَلَيهِ مِن مُنَابَذَةٍ لِلإِسلامِ في نُصُوصِهِ الشَّرعِيَّةِ القَاطِعَةِ بِالفَرقِ بَينَ الذَّكَرِ وَالأُنثَى في أَحكَامٍ كَثِيرَةٍ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِذَا تَقَرَّرَ في الأَذهَانِ الفَرقُ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ ، فَإِنَّ مِنَ الأُصُولِ الَّتي جَاءَ بها الإِسلامُ حِفظًا لِلَفضِيلَةِ وَحِرَاسَةً لِحِمَاهَا ، وَمُحَارَبَةً لِلرَّذِيلَةِ وَاجتِثَاثًا لِجُذُورِهَا ، حُرمَةَ الاختِلاطِ بَينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَعَدَمَ جَوَازِ اللِّقَاءِ بَينَ الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ ، ذَلِكَ أَنَّ العِفَّةَ حِجَابٌ رَهِيفٌ خَفِيفٌ ، يُمَزِّقُهُ الاختِلاطُ وَيَهتِكُهُ الامتِزَاجُ ، وَالحَيَاءُ جِدَارٌ رَقِيقٌ دَقِيقٌ ، يَهدِمُهُ اللِّقَاءُ المُحَرَّمُ بَينَ الجِنسَينِ بِكُلِّ طَرِيقٍ غَيرِ شَرعِيٍّ ، وَلِذَا صَارَ طَرِيقُ الإِسلامِ التَّفرِيقَ وَالمُبَاعَدَةَ بَينَ المَرأَةِ وَالرّجُلِ الأَجنَبِيِّ عَنهَا ، إِذْ مُجتَمَعُ الإِسلامِ مُجتَمَعٌ فَردِيٌّ لا زَوجِيٌّ ، لِلرِّجَالِ فِيهِ مُجتَمَعَاتُهُمُ الخَاصَّةُ بهم بَعِيدًا عَنِ النِّسَاءِ ، وَلِلنَّسَاءِ مُجتَمَعَاتُهُنَّ الخَاصَّةُ بهن ، وَاللاَّتي لا يَرَينَ فِيهَا الرِّجَالَ وَلا يَرَونَهُنَّ ، وَلا تَخرُجُ المَرأَةُ إِلى مُجتَمَعِ الرِّجَالِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ مَاسَّةٍ أَو حَاجَةٍ مُلِحَّةٍ ، بِضَوَابِطِ الخُرُوجِ الشَّرعِيَّةِ وَآدَابِهِ المَرعِيَّةِ . وَقَد حَرَّمَ الإِسلامُ الاختِلاطَ بِكُلِّ صُوَرِهِ وَمُسَبِّبَاتِهِ ، سَوَاءً في التَّعلِيمِ أَوِ العَمَلِ ، أَو عَلَى مَقَاعِدِ الدِّرَاسَةِ وَفَصُولِ الجَامِعَاتِ ، أَو في المُؤتَمَرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ ، أَو في الاجتِمَاعَاتِ الخَاصَّةِ أَوِ العَامَّةِ ، لما يَنتُجُ عَنهُ مِن هَتكِ الأَعرَاضِ وَوَأدِ الفَضِيلَةِ ، وَمَرَضِ القُلُوبِ وَبَعثِ الرَّذِيلَةِ ، وِخُنُوثَةِ الرِّجَالِ وَاستِرجَالِ النِّسَاءِ ، وَلما يُثمِرُ مِن زَوَالِ الحَيَاءِ وَبُرُوزِ القِحَةِ ، وَتَقَلُّصِ العِفَّةِ وَذَهَابِ الحِشمَةِ ، وَانعِدَامِ الغَيرَةِ وَحُلُولِ الدِّيَاثَةِ مَحَلَّهَا . وَقَد جَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ المُطَهَّرَةُ قَرَارَ المَرأَةِ في بَيتِهَا وَلُزُومَهَا حِمَاهُ عَزِيمَةً وَاجِبَةً وَأَمرًا مُحَتَّمًا ، وَخُرُوجَهَا مِنهُ رُخصَةً لا تَكُونُ إِلا لِحَاجَةٍ أَو ضَرُورَةٍ ، قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " : وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى " وَلِلتَّأكِيدِ عَلَى هَذَا فَقَد أُسقِطَت عَنِ النِّسَاءِ صَلاةُ الجُمُعَةِ وَالجَمَاعَةِ ، وَجُعِلَ فَرضُ الحَجِّ عَلَيهِنَّ مَشرُوطًا بِوُجُودِ المَحرَمِ ، وَلم يُفرَضْ عَلَيهِنَّ الجِهَادُ مَعَ أَنَّهُ مِن أَفضَلِ الأَعمَالِ ، كُلُّ ذَلِكَ حِفظًا لأَعرَاضِهِنَّ وَصَونًا لِكَرَامَتِهِنَّ ، وَتَقدِيرًا لأَدَائِهِنَّ أَعمَالَهُنَّ وَوَظَائِفَهُنَّ المَنزِلِيَّةَ العَظِيمَةَ ؛ وَلِذَا فَإِنَّ أَهلَ الإِسلامِ ـ وَالفَخرُ لهم في ذَلِكَ ـ لا عَهدَ لهم بِاختِلاطِ نِسَائِهِم بِالرِّجَالِ الأَجَانِبِ الأَبَاعِدِ ، بَل كَانُوا وَمَا زَالُوا مُحَافِظِينَ عَلَى شَرَفِهِم وَعِفَّتِهِم ، مُتَمَسِّكِينَ بِأُصُولِ دِينِهِم وَشَرِيعَتِهِم ، يَرَونَ المَوتَ وَلا الاختِلاطَ ، وَيُنفِقُونَ المَالَ وَيَبقَى لَهُمُ العِرضُ نَقِيًّا ، وَإِنَّمَا حَصَلَتِ الفِتنَةُ بِالاختِلاطِ أَوَّلَ مَا حَصَلَت عَلَى أَرضِ الإِسلامِ ، مِن خِلالِ المَدَارِسِ الاستِعمَارِيَّةِ الأَجنَبِيَّةِ ، الَّتي فُتِحَت في بَعضِ بِلادِ المُسلِمِينَ ، فَكَانَ مِن نِتَاجِهَا أَن مُزِّقَ الحِجَابُ عَلَنًا في بَعضِ البِلادِ ، بَل وَأُصدِرَتِ القَوَانِينُ الَّتي تُلزِمُ بِالسُّفُورِ في بِلادٍ أُخرَى ، وَقَامَ سُوقُ الفَنِّ المَاجِنِ وَالفُجُورِ ، وَأُقِرَّ التَّعلِيمُ المُختَلَطُ ، وَأُسنِدَتِ الوِلايَاتُ إِلى غَيرِ أَهلِهَا ، في ظِلِّ تَسَاكُتِ العُلَمَاءِ وَالصَّالحِينَ ، وَإِسكَاتِ الدُّعَاةِ المُصلِحِينَ ، وَاتِّهَامِهِم بِالتَّطَرُّفِ وَالرَّجعِيَّةِ ، حَتى لم يَبقَ عَلَى عَدَمِ الاختِلاطِ إِلاَّ بَقَايَا قَلِيلَةٌ مِنَ المُسلِمِينَ ، مُتَفَرِّقَةٌ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ، وَأُخرَى مُتَحَصِّنَةٌ بِهَذِهِ البِلادِ الطّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ ، الَّتي رُزِقَت بِطَائِفَةٍ مِنَ المُصلِحِينَ مِن وُلاةٍ وَعُلَمَاءَ ، أَصحَابِ غَيرَةٍ وَنَخوَةٍ وَحَمِيَّةٍ ، فَقَادُوا السَّفِينَةَ إِلى سَاحِلِ النَّجَاةِ رَدحًا مِنَ الزَّمَنِ ، إِلى أَن مُكِّنَ لِبَعضِ المَفتُونِينَ وَقُلِّدُوا زِمَامَ الأُمُورِ ، فَأَخَذُوا يَكِيدُونَ لِلمَرأَةِ المَكَايِدَ لِيُوقِعُوا بها في شَرَكِ الاختِلاطِ ، فَيَستَمتِعُوا بها كَيفَمَا شَاؤُوا وَفي أَيِّ وَقتٍ أَرَادُوا . وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ لِمَا يَدُورُ في هَذِهِ البِلادِ مُنذُ سُنَيَّاتٍ ، مِن مُحَاوَلاتِ فَرضِ اختِلاطِ الجِنسَينِ في التَّعلِيمِ ، وَمَا جَرَى في بَعضِ الجَامِعَاتِ مِن بَدءِ التَّعلِيمِ المُختَلَطِ ، لَيَعلَمُ حَجمَ المُؤَامَرَةِ الَّتي يُخَطِّطُ لها أَعدَاءُ اللهِ مِنَ المُنَافِقِينَ وَالعِلمَانِيِّينَ ، وَإِنَّ النَّاظِرَ فِيمَا يُوَاكِبُ ذَلِكَ في الصَّحَافَةِ ، وَمَا يَكتُبُهُ كَثِيرٌ مِنَ السَّخَّابِينَ المَفتُونِينَ عَلَى أَعمِدَةِ الصُّحُفِ ، لَيَرَى عَجَبًا عُجَابًا ، حَيثُ الاستِهزَاءُ بِسُنَّةِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ ، وَالسُّخرِيَةُ مِنَ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ ، وَالطَّعنُ في العُلَمَاءِ وَالقُضَاةِ وَالمُفتِينَ وَوَصفُهُم بِالمُفسِدِينَ ، وَالتَّجَنِّي عَلَى أَهلِ الغَيرَةِ وَالحَمِيَّةِ ، وَنَشرُ البَاطِلِ وَالكَذِبُ عَلَى عِبَادِ اللهِ ، كُلُّ هَذَا لِتَهيِئَةِ الرَّأيِ العَامِّ وَامتِصَاصِ حَمَاسَتِهِ ، وَتَطوِيعِهِ لِقَبُولِ كُلِّ مَا يُخَطَّطُ لَهُ مِن بَثِّ الاختِلاطِ في كُلِّ مَكَانٍ ، وَإِشَاعَةِ الفَاحِشَةِ بَينَ المُؤمِنِينَ ، وَصَدَقَ اللهُ إِذْ يَقُولُ : " وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا " أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاعلَمُوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى المُؤمِنِ إِنكَارُ المُنكَرِ بِالطُّرُقِ الشَّرعِيَّةِ ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأَمرِ وَالذَّبِّ عَنِ العُلَمَاءِ ، غَيرَةً لِدِينِ اللهِ وَحِفظًا لِلأَعرَاضِ ، وَإِنَّ أَبوَابَ وُلاتِنَا ـ وَفَّقَهُمُ اللهُ ـ مَفتُوحَةٌ ، وَالبَرقِيَّاتُ مُتَيَسِّرَةٌ وَمَقدُورٌ عَلَيهَا ، وَالإِعذَارُ أَمَامَ اللهِ وَاجِبٌ ، وَلا نَجَاةَ وَلا رَحمَةَ إِلاَّ لِلنَّاهِينَ عَنِ السُّوءِ ، وَالسُّكُوتُ عَنِ المُنكَرِ مُوجِبٌ لِلعَذَابِ الشَّدِيدِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذَ قَالَت أُمَّةٌ مِنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا اللهُ مُهلِكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعذِرَةً إِلى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَينَا الَّذِينَ يَنهَونَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بمَا كَانُوا يَفسُقُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "
الخطبة الثانية /
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَفي الوَقتِ الَّذِي اكتَوَت فِيهِ الأُمَمُ الغَربِيَّةُ بِجَحِيمِ الاختِلاطِ زِنًا وَشُذُوذًا جِنسِيًّا وَلِوَاطًا وَسِحَاقًا ، وَذَاقَت مَرَارَةَ ثِمَارِهِ الخَبِيثَةِ أَمرَاضًا مُزمِنَةً وَأَوبِئَةً فَتَّاكَةً ، وَوَجَدَت نِتَاجَهُ انتِهَاكًا لِمَكَانَةِ المَرأَةِ وَامتِهَانًا لِكَرَامَتِهَا ، مِمَّا جَعَلَ تِلكَ الأُمَمَ تَعمَلُ عَلَى الفَصلِ بَينَ الجِنسَينِ وَلا سِيَّمَا في المَدَارِسِ وَالكُلِّيَّاتِ ، مُقتَنِعَةً بِلُزُومِ عَودِهَا إِلى الفِطرَةِ السَّوِيَّةِ ، بَعد أَن خَاضَت غِمَارَ تَجرِبَةِ مُصَادَمَتِهَا الفَاشِلَةِ ، أَقُولُ في ذَلِكَ الوَقتِ الَّذِي يَعُودُ فِيهِ الكُفَّارُ إِلى الفِطرَةِ مُرغَمِينَ بَعدَ سِنِينَ مِنَ التِّيهِ وَالضِّيَاعِ ، يَأتي مِن أَشقِيَاءِ قَومِنَا مَن يَدعُو إِلى الاختِلاطِ وَيُزَيِّنُهُ ، وَيَزعُمُ أَنَّهُ هُوَ الأَصلُ وَيُطَالِبُ بِالدَّلِيلِ عَلَى الفَصلِ . وَتَاللهِ لَولا التَّجرِبَةُ الفَاضِحَةُ لَكَانَ لِبَعضِهِم مَلاذٌ في أَنفَاقِ التَّموِيهِ وَدَهَالِيزِ المُخَادَعَةِ ، أَمَّا وَقَد أَفصَحَتِ التَّجَارِبُ عَمَّا يَشِيبُ لِهَولِهِ الوِلدَانُ مِن هَتكِ الأَعرَاضِ وَانتِشَارِ الأَمرَاضِ ، وتَشَتُّتِ الأُسَرِ وَتَمَزُّقِ الأَوَاصِرِ ، فَمَا لِعَاقِلٍ عُذرٌ أَن يَدعُوَ إِلى الاختِلاطِ أَو يُنَافِحَ عَنهُ ، كَيفَ وَقَد جَاءَ الحُكمُ بِتَحرِيمِهِ مِن لَدُن حَكِيمٍ خَبِيرٍ ؟! إِنَّنَا نَسمَعُ وَنَرَى في بَعضِ الإِذَاعَاتِ وَالقَنَوَاتِ ، وَنَقرَأُ في عَدَدٍ مِنَ الصُّحُفِ وَالمُنتَدَيَاتِ ، مَقَالاتٍ وَكِتَابَاتٍ عَن بَعضِ مَن يَنسَاقُونَ وَرَاءَ هَذِهِ الدَّعَاوَى الإِلحَادِيَّةِ ، مُزَيَّنَةً بِزُخرُفِ القَولِ وَمَعسُولِ الكَلامِ ، يُشَارِكُونَ بِهَا لِحُمقِهِم وَقِلَّةِ فِقهِهِم ، مُنخَدِعِينَ بِشَعَارَاتِ الحُرِّيَّةِ وَأَغلِفَةِ المُسَاوَاةِ ، أَلا فَلا نَامَت عَينٌ تَتَجَاهَلُ مَا حَلَّ بِالعُصَاةِ مِنَ المَثُلاتِ ، وَلا زَكَا عَقلٌ لا يَعِي العِبَرَ وَالعِظَاتِ ، ولا اطمَأَنَّ قَلبٌ لم يُوقِنْ بما أُنزِلَ مِن آياتٍ بَيِّنَاتٍ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَاتَّبِعُوا سَبِيلَ المُؤمِنِينَ ، وَاحذَرُوا المُشَاقَّةَ وَأَهلَهَا " وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلىَّ وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيرًا "
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى