مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
الولاء والبراء (1-2)
الخطبة الأولى
اللهم لك الحمد بما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك؛ وأنزلت علينا خير كتبك؛ لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالسنة، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو عامة أو خاصة، أو شاهد أو غائب.
لك الحمد حتى ترضى؛ ولك الحمد إذا رضيت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وأشهد ألا إله إلا أنت، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ وصفيك وخليلك، وخيرتك من خلقك، وأمينك على وحيك؛ بعثته إلينا بالهدى ودين الحق لتظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛
أما بعد
فقد قامت دولة الإسلام العظيمة على يد مؤسسها الأول محمد صلى الله عليه وسلم على أساس متين من العقيدة الراسخة والإيمان المتغلغل في القلوب، ووضع المسلمون في المدينة اللبنة الأولى لصرح تلك الدولة الفتية، التي أخذت في الاتساع شيئاً فشيئاً، وبسرعة عجيبة أذهلت العالم بأسره، حتى وصلت خيول المسلمين أطراف الصين شرقاً وحدود فرنسا الصليبية غرباً، وكان الداخلون في الإسلام - لا سيما في العهود المتقدمة - يشعرون منذ لحظة دخولهم أنهم يبدأون عهدا جديداً، فضلاً عن الانفصال عن حياتهم التي أمضوها في الجاهلية، وكان كل مسلم جديد يدخل في الإسلام ينبذ كل القيم وكل الروابط التي تربطه بالماضي، ويستبدل بها رابطة الدين والعقيدة.
كان المسلم الجديد يقذف بكل ولاءاته التي كان يمنحها لأهله وعشيرته ووطنه، يقذف بها بعيداً ويتبرأ منها ليمنح بعد ذلك ولاءه وتبعيته لخالقه ومولاه سبحانه، وينضم إلى جماعة المسلمين، ويمنحها حبه ومودته وإخلاصه.
وبمثل هذه التربية الإيمانية نشأ أولئك الرجال الذين أقاموا أعظم حضارة وأعظم دولة عرفتها الدنيا، إلا أنّ تلك الدولة العظيمة دولة الإسلام العالمية، ما لبثت أن تراجعت القَهْقَرَى وتنازلت بكل بساطة وسذاجة عن كل انجازاتها وفتوحاتها، كنتيجة طبيعية لتنازلها عن سرّ قوتها وأساس نهضتها، وهو دينها القويم وحبلها المتين.
وأصبحت الأمة التي كانت ترهب أعداءها مسيرة شهر من الزمان، أصبحت أمة تابعة ذليلة، تسلط عليها أعداؤها، يسومونها الخسف والهوان.
دخلت الأمة في طاعة الكفار والمنافقين واطمأنت إليهم، ومنحتهم ولاءها وتبعيتها، من دون الله الواحد القهار.
وقد نتج عن هذه الكارثة والمأساة ضياع كثير من المفاهيم العقدية وانحسار جملة من القيم الأخلاقية كنتيجة بدهية لاحتكاك الأمة بأعدائها وخضوعها واستغلالها لهم.
ومن أبرز تلك المفاهيم العقدية التي غابت عن حياة كثير من المسلمين: مفهوم الولاء والبراء، والذي يحسب بعض البسطاء أنه يندرج تحت جملة القضايا الجزئية أو الثانوية، وهو وهمٌ كبير وخطأ فادح نتج عنه حالة مفزعة من ظلم الناس بعضهم لبعض من جهة، وتعظميهم وحبهم للكفار من جهة أخرى، وذلك انتكاس خطير في المفاهيم وقلب مشين للأصول والقواعد، لذا وجب إيضاح هذا المفهوم الخطير - مفهوم الولاء والبراء - حتى يعلم المسلم من يوالي ومن يعادي، ومن يحب ومن يبغض؟!.
فأما الولاء: فمعناه أن يوالي المسلم إخوانه المسلمين ويحبهم ويرحمهم وينصرهم وينضم إلى جماعتهم ظاهراً وباطناً.
وأما البراء فمعناه: أن يتبرأ المسلم من الكفار ويبغضهم ويعاديهم ويجاهدهم بلسانه ونفسه وماله.
هذا هو حقيقة الولاء والبراء: الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، وهذا المفهوم هو التطبيق العملي لعقيدة التوحيد العظيمة، وهو مفهوم عظيم في حسّ المسلم وشعوره بمقدار ضخامة وعظمة العقيدة في نفسه.
ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحق الولاء، وتحقيق البراء ممن يستحق البراء.
لقد تكاثرت نصوص الكتاب في التحذير من الكفار ومكرهم وخبثهم وفضحت دسائسهم وحيلهم وحذرت من اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).
ويقول سبحانه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ويقول جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
والآيات في هذا المعنى كثيرة مشهورة.
يقول الشيخ حمد بن عتيق – رحمه الله – وهو إمام جليل من أئمة الدعوة "أنّه ليس في كتاب الله تعالى حكمٌ فيه من الأدلة أكثر ولا أبيَن من هذا الحكم - أي الولاء والبراء - بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده". انتهى كلامه رحمه الله.
وبالرغم من كل ذلك الاهتمام الذي أولاه القرآن الكريم لمفهوم الولاء والبراء فإن النّاظر في حال كثير من النّاس اليوم يجد المسلمين شعوباً وأفراداً، وقد فرطوا بهذا الأصل العظيم، وما ذلك التفريط إلا لغياب الثقافة الإسلامية الصحيحة والتوعية الأصولية السليمة لعقيدة الإسلام وقيمه، فبدلاً من معاداة الكفار وبغضهم، أصبح الكثيرون منَّا يحبّون الكفّار ويوالونهم ويكرمونهم ويقدمونهم ويقلدونهم ويتشبهون بهم، وأخذت موالاة الكفار صوراً ومظاهر شتى.
فمن مظاهر موالاة الكفار، والتي هي ردة عن الإسلام، وناقض من نواقضه:
مظاهرتهم ومناصرتهم ضد المسلمين: كما يحصل من بعض الطواغيت المنتسبين إلى الإسلام، حيث وضعوا أيديهم في أيدي الكفار وأجلبوا بخيلهم ورَجْلِهِم لضرب المسلمين العزل وسومهم سوء العذاب.
ومن مظاهر موالاة الكفار: استيراد القوانين الوضعية والأنظمة الطاغوتية منهم، حيث أصبحت تلك القوانين والأنظمة مصدراً لصياغة ما يسمى بالدستور، والذي خضع له الناس رغبة أو رهبة، وتحرك ذلك الأمر المهول إلى مظهر أليم، فبشرٌ يشرعون ويحكمون، وآخرون يخضعون، أي تحوّل بعض البشر إلى أرباب والهة وعبدهم الباقون وقد سوهم.
من مظاهر موالاة الكفار كذلك: الإيمان ببعض ما هم عليهم من العقائد الفاسدة أو المذاهب الفكرية المنحرفة، وهو أمر واقع مشاهد، يحصل في صفوف كثير من المثقفين، المنادين سراً وجهاراً بالعلمانية طريقة للحياة، وبالديمقراطية وسيلة للحكم والتشريع، في مقابل إقصاء الإسلام وإبعاده.
ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك: مودتهم ومحبتهم واحترامهم وتقديرهم، وقد نهى القرآن الكريم عن بذل المودة والمحبة لغير المسلم.
ولو كان أقرب قريب: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ،) ويقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
إذاً فالعلاقة الأصلية التي تربط المسلم بغيره من الناس هي رابطة الدين والعقيدة، أما رابطة النسب والسبب فلا قيمة لها تذكر، إلا إذا صحت العقيدة وخلص الإيمان لله رب العالمين.
ومن مظاهر موالاة الكفار: الركون إليهم والاطمئنان لهم، كالسفر إلى بلادهم بدعوى النزهة والسياحة، أو تعلم اللغة الأجنبية لغير حاجة، غير ذلك من الدعاوى التي لا تغني عند الله فتيلاً.
وفي هذا يقول سبحانه: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ).
ويقول سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً).
ومن مظاهر موالاة الكفار: الإعجاب بهم وبدنياهم الفانية وطرائق حياتهم، وما وصلوا إليه من ترف وبطر وأشر، وفي هذا يقول الله تعالى: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
ويقول سبحانه: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
ومن مظاهر موالاة الكفار: تهنئتهم بأعيادهم واحتفالاتهم، كتهنئتهم بعيد المزعوم لميلاد المسيح عليه السلام، فضلاً عن تمكينهم من إقامة احتفالاتهم في بلاد المسلمين، أو مشاركتهم في إقامتها:، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانيّة
الحمد لله الملك الحق المبين مالك الملك رب العالمين أصلي واسلم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى عباد الله الصالحين أما بعد.
ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك: التشبّه بهم في عقائدهم، أو عباداتهم، أو ما هو من خصائصهم.
والتشبه بالكفار موضوع خطير يحتاج إلى تأصيل وتقعيد وتبيين وتوضيح، وقد أُفرد الحديث عنه في خطبة مستقلة - إن شاء الله تعالى- وإنما أذكر الآن شيئاً يسيراً مما يقع في حياة المسلمين من التشبه بالكفار، فمن ذلك التشبه بهم في تعظيم القبور والغلو في الصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك".
ومن ذلك: التشبه بهم في تقديس عظمائهم ورؤسائهم، ونصب التماثيل لهم وتصويرهم تعظيما لهم وإجلالاً.
ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: "أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال" إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
ومن التشبّه بالكفار مما يُخلّ بالتوحيد، ما يفعله بعض لاعبي الكرة، من الانحناء أمام من يسمونه بالحكم أو غيره تعظيماً واحتراماً.
ومن أنواع التشبه بالكفار: إقامة الأعياد والأيام البدعية والأسابيع المحدثة.
ومن التشبه بالكفار: التحدّث بلغتهم من غير حاجة أو ضرورة، أو الكتابة بها، واعتبار ذلك نوعاً من التحضر والمدنية.
ومن ذلك: ما يحصل في بعض الولائم من التشبّه المستهجن بطرائق الكفار في تناول الطعام، كالذي يسمونه بالبوفيه المفتوح، حيث يقوم المدعوون بخدمة أنفسهم في ملء أوعيتهم بما يشاءون، ثم يتناولون طعامهم واقفين، وما بهم من بأس إلا التقليد الأعمى والاعجاب الفارغ بعادات الكفار وأساليبهم في الحياة.
ومن التشبه بهم كذلك: حمل باقات الزهور للمرضى، فقد أصبح بيع الزهور تجارة رابحة، وانتشرت محلات البيع تلك أمام المستشفيات والمصحات، وذلك لاستغلال أولئك المنهزمين نفسياً، الجهلة بسنة خير الأنام، محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يزور المريض ويدعو له بالشفاء، ويصبّره ويذكّره بما ينفعه في دينه ودنياه ولا يزيد على ذلك.
هذا غيض من فيض وقليل من كثير، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا وتلمَّ بها شعثنا وتذهب بها الفتن عنَّا.
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب.
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
الولاء والبراء (1-2)
الخطبة الأولى
اللهم لك الحمد بما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك؛ وأنزلت علينا خير كتبك؛ لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالسنة، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو عامة أو خاصة، أو شاهد أو غائب.
لك الحمد حتى ترضى؛ ولك الحمد إذا رضيت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وأشهد ألا إله إلا أنت، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ وصفيك وخليلك، وخيرتك من خلقك، وأمينك على وحيك؛ بعثته إلينا بالهدى ودين الحق لتظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛
أما بعد
فقد قامت دولة الإسلام العظيمة على يد مؤسسها الأول محمد صلى الله عليه وسلم على أساس متين من العقيدة الراسخة والإيمان المتغلغل في القلوب، ووضع المسلمون في المدينة اللبنة الأولى لصرح تلك الدولة الفتية، التي أخذت في الاتساع شيئاً فشيئاً، وبسرعة عجيبة أذهلت العالم بأسره، حتى وصلت خيول المسلمين أطراف الصين شرقاً وحدود فرنسا الصليبية غرباً، وكان الداخلون في الإسلام - لا سيما في العهود المتقدمة - يشعرون منذ لحظة دخولهم أنهم يبدأون عهدا جديداً، فضلاً عن الانفصال عن حياتهم التي أمضوها في الجاهلية، وكان كل مسلم جديد يدخل في الإسلام ينبذ كل القيم وكل الروابط التي تربطه بالماضي، ويستبدل بها رابطة الدين والعقيدة.
كان المسلم الجديد يقذف بكل ولاءاته التي كان يمنحها لأهله وعشيرته ووطنه، يقذف بها بعيداً ويتبرأ منها ليمنح بعد ذلك ولاءه وتبعيته لخالقه ومولاه سبحانه، وينضم إلى جماعة المسلمين، ويمنحها حبه ومودته وإخلاصه.
وبمثل هذه التربية الإيمانية نشأ أولئك الرجال الذين أقاموا أعظم حضارة وأعظم دولة عرفتها الدنيا، إلا أنّ تلك الدولة العظيمة دولة الإسلام العالمية، ما لبثت أن تراجعت القَهْقَرَى وتنازلت بكل بساطة وسذاجة عن كل انجازاتها وفتوحاتها، كنتيجة طبيعية لتنازلها عن سرّ قوتها وأساس نهضتها، وهو دينها القويم وحبلها المتين.
وأصبحت الأمة التي كانت ترهب أعداءها مسيرة شهر من الزمان، أصبحت أمة تابعة ذليلة، تسلط عليها أعداؤها، يسومونها الخسف والهوان.
دخلت الأمة في طاعة الكفار والمنافقين واطمأنت إليهم، ومنحتهم ولاءها وتبعيتها، من دون الله الواحد القهار.
وقد نتج عن هذه الكارثة والمأساة ضياع كثير من المفاهيم العقدية وانحسار جملة من القيم الأخلاقية كنتيجة بدهية لاحتكاك الأمة بأعدائها وخضوعها واستغلالها لهم.
ومن أبرز تلك المفاهيم العقدية التي غابت عن حياة كثير من المسلمين: مفهوم الولاء والبراء، والذي يحسب بعض البسطاء أنه يندرج تحت جملة القضايا الجزئية أو الثانوية، وهو وهمٌ كبير وخطأ فادح نتج عنه حالة مفزعة من ظلم الناس بعضهم لبعض من جهة، وتعظميهم وحبهم للكفار من جهة أخرى، وذلك انتكاس خطير في المفاهيم وقلب مشين للأصول والقواعد، لذا وجب إيضاح هذا المفهوم الخطير - مفهوم الولاء والبراء - حتى يعلم المسلم من يوالي ومن يعادي، ومن يحب ومن يبغض؟!.
فأما الولاء: فمعناه أن يوالي المسلم إخوانه المسلمين ويحبهم ويرحمهم وينصرهم وينضم إلى جماعتهم ظاهراً وباطناً.
وأما البراء فمعناه: أن يتبرأ المسلم من الكفار ويبغضهم ويعاديهم ويجاهدهم بلسانه ونفسه وماله.
هذا هو حقيقة الولاء والبراء: الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، وهذا المفهوم هو التطبيق العملي لعقيدة التوحيد العظيمة، وهو مفهوم عظيم في حسّ المسلم وشعوره بمقدار ضخامة وعظمة العقيدة في نفسه.
ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحق الولاء، وتحقيق البراء ممن يستحق البراء.
لقد تكاثرت نصوص الكتاب في التحذير من الكفار ومكرهم وخبثهم وفضحت دسائسهم وحيلهم وحذرت من اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).
ويقول سبحانه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ويقول جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
والآيات في هذا المعنى كثيرة مشهورة.
يقول الشيخ حمد بن عتيق – رحمه الله – وهو إمام جليل من أئمة الدعوة "أنّه ليس في كتاب الله تعالى حكمٌ فيه من الأدلة أكثر ولا أبيَن من هذا الحكم - أي الولاء والبراء - بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده". انتهى كلامه رحمه الله.
وبالرغم من كل ذلك الاهتمام الذي أولاه القرآن الكريم لمفهوم الولاء والبراء فإن النّاظر في حال كثير من النّاس اليوم يجد المسلمين شعوباً وأفراداً، وقد فرطوا بهذا الأصل العظيم، وما ذلك التفريط إلا لغياب الثقافة الإسلامية الصحيحة والتوعية الأصولية السليمة لعقيدة الإسلام وقيمه، فبدلاً من معاداة الكفار وبغضهم، أصبح الكثيرون منَّا يحبّون الكفّار ويوالونهم ويكرمونهم ويقدمونهم ويقلدونهم ويتشبهون بهم، وأخذت موالاة الكفار صوراً ومظاهر شتى.
فمن مظاهر موالاة الكفار، والتي هي ردة عن الإسلام، وناقض من نواقضه:
مظاهرتهم ومناصرتهم ضد المسلمين: كما يحصل من بعض الطواغيت المنتسبين إلى الإسلام، حيث وضعوا أيديهم في أيدي الكفار وأجلبوا بخيلهم ورَجْلِهِم لضرب المسلمين العزل وسومهم سوء العذاب.
ومن مظاهر موالاة الكفار: استيراد القوانين الوضعية والأنظمة الطاغوتية منهم، حيث أصبحت تلك القوانين والأنظمة مصدراً لصياغة ما يسمى بالدستور، والذي خضع له الناس رغبة أو رهبة، وتحرك ذلك الأمر المهول إلى مظهر أليم، فبشرٌ يشرعون ويحكمون، وآخرون يخضعون، أي تحوّل بعض البشر إلى أرباب والهة وعبدهم الباقون وقد سوهم.
من مظاهر موالاة الكفار كذلك: الإيمان ببعض ما هم عليهم من العقائد الفاسدة أو المذاهب الفكرية المنحرفة، وهو أمر واقع مشاهد، يحصل في صفوف كثير من المثقفين، المنادين سراً وجهاراً بالعلمانية طريقة للحياة، وبالديمقراطية وسيلة للحكم والتشريع، في مقابل إقصاء الإسلام وإبعاده.
ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك: مودتهم ومحبتهم واحترامهم وتقديرهم، وقد نهى القرآن الكريم عن بذل المودة والمحبة لغير المسلم.
ولو كان أقرب قريب: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ،) ويقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
إذاً فالعلاقة الأصلية التي تربط المسلم بغيره من الناس هي رابطة الدين والعقيدة، أما رابطة النسب والسبب فلا قيمة لها تذكر، إلا إذا صحت العقيدة وخلص الإيمان لله رب العالمين.
ومن مظاهر موالاة الكفار: الركون إليهم والاطمئنان لهم، كالسفر إلى بلادهم بدعوى النزهة والسياحة، أو تعلم اللغة الأجنبية لغير حاجة، غير ذلك من الدعاوى التي لا تغني عند الله فتيلاً.
وفي هذا يقول سبحانه: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ).
ويقول سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً).
ومن مظاهر موالاة الكفار: الإعجاب بهم وبدنياهم الفانية وطرائق حياتهم، وما وصلوا إليه من ترف وبطر وأشر، وفي هذا يقول الله تعالى: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
ويقول سبحانه: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
ومن مظاهر موالاة الكفار: تهنئتهم بأعيادهم واحتفالاتهم، كتهنئتهم بعيد المزعوم لميلاد المسيح عليه السلام، فضلاً عن تمكينهم من إقامة احتفالاتهم في بلاد المسلمين، أو مشاركتهم في إقامتها:، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانيّة
الحمد لله الملك الحق المبين مالك الملك رب العالمين أصلي واسلم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى عباد الله الصالحين أما بعد.
ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك: التشبّه بهم في عقائدهم، أو عباداتهم، أو ما هو من خصائصهم.
والتشبه بالكفار موضوع خطير يحتاج إلى تأصيل وتقعيد وتبيين وتوضيح، وقد أُفرد الحديث عنه في خطبة مستقلة - إن شاء الله تعالى- وإنما أذكر الآن شيئاً يسيراً مما يقع في حياة المسلمين من التشبه بالكفار، فمن ذلك التشبه بهم في تعظيم القبور والغلو في الصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك".
ومن ذلك: التشبه بهم في تقديس عظمائهم ورؤسائهم، ونصب التماثيل لهم وتصويرهم تعظيما لهم وإجلالاً.
ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: "أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال" إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
ومن التشبّه بالكفار مما يُخلّ بالتوحيد، ما يفعله بعض لاعبي الكرة، من الانحناء أمام من يسمونه بالحكم أو غيره تعظيماً واحتراماً.
ومن أنواع التشبه بالكفار: إقامة الأعياد والأيام البدعية والأسابيع المحدثة.
ومن التشبه بالكفار: التحدّث بلغتهم من غير حاجة أو ضرورة، أو الكتابة بها، واعتبار ذلك نوعاً من التحضر والمدنية.
ومن ذلك: ما يحصل في بعض الولائم من التشبّه المستهجن بطرائق الكفار في تناول الطعام، كالذي يسمونه بالبوفيه المفتوح، حيث يقوم المدعوون بخدمة أنفسهم في ملء أوعيتهم بما يشاءون، ثم يتناولون طعامهم واقفين، وما بهم من بأس إلا التقليد الأعمى والاعجاب الفارغ بعادات الكفار وأساليبهم في الحياة.
ومن التشبه بهم كذلك: حمل باقات الزهور للمرضى، فقد أصبح بيع الزهور تجارة رابحة، وانتشرت محلات البيع تلك أمام المستشفيات والمصحات، وذلك لاستغلال أولئك المنهزمين نفسياً، الجهلة بسنة خير الأنام، محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يزور المريض ويدعو له بالشفاء، ويصبّره ويذكّره بما ينفعه في دينه ودنياه ولا يزيد على ذلك.
هذا غيض من فيض وقليل من كثير، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا وتلمَّ بها شعثنا وتذهب بها الفتن عنَّا.
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب.
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى