رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
الولاء والبراء
الخطبة الأولى:
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَنَحنُ في عَالَمِ التَّغَيُّرَاتِ وَالمُتَغَيِّرَاتِ ، عَالَمِ المُتَنَاقِضَاتِ وَالمُختَلِفَاتِ ، عَالَمِ طَاعَةِ الأَهوَاءِ المُتَّبَعَةِ وَالفِتَنِ المُضِلَّةِ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ أُصُولاً رَاسِخَةً ، يَجِبُ عَلَى المُسلِمِ أَن يَتَّخِذَ فِيهَا مَوقِفًا ثَابِتًا لا يَحِيدُ عَنهُ ، وَيَكُونَ فِيهَا عَلَى رَأيٍ قَاطِعٍ لا يَتَنَازَلُ عَنهُ ، ذَلِكَ أَنَّهَا أُسُسٌ مَصِيرِيَّةٌ تُبني عَلَيهَا نَجَاتُهُ في آخِرَتِهِ أَو هَلاكُهُ ، وَيَكُونُ بها فَوزُهُ يَومَ يَلقَى رَبَّهُ أَو خَسَارَتُهُ . إِنَّهَا أُصُولٌ لا تَقبَلُ اللَّعِبَ بها ، وَثَوَابِتُ لا يُمكِنُ زَعزَعَتُهَا ، إِذْ فِعلُهَا إِيمَانٌ وَتَقوَى ، وَتَركُهَا كُفرٌ وَرِدَّةٌ ، وَالشَّكُّ فِيهَا نِفَاقٌ وَفُسُوقٌ ، مِن تِلكَ الأُمُورِ الوَلاءُ وَالبَرَاءُ ، الوَلاءُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ ، وَلِلمُؤمِنِينَ وُلاتِهِم وَعَامَّتِهِم ، وَالبَرَاءُ مِنَ الكُفرِ وَالكَافِرِينَ وَمَن سَارَ بِدَربِهِم ، ذَلِكُمُ الرُّكنُ العَظِيمُ مِن أَركَانِ العَقِيدَةِ ، وَالشَّرطُ المُهِمُّ مِن شُرُوطِ الإِيمَانِ ، الَّذِي تَغَافَلَ عَنهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ في هَذَا الزَّمَانِ جَهلاً أَو تَجَاهُلاً ، وَأَهمَلَهُ بَعضُهُم يَومَ اختَلَطَت عَلَيهِ الأُمُورُ وَاشتَبَهَت لَدِيهِ الأَحوَالُ ، وَإِنَّهُ في هَذَا العَصرِ الَّذِي ذَلَّ فِيهِ المُسلِمُونَ وَضَعُفُوا وَاستَكَانُوا ، وَقَلَّ فِيهِ العِلمُ بِاللهِ وَعَمِيَت عَن طَرِيقِ الحَقِّ البَصَائِرُ ، وَصَارَتِ الشَّوكَةُ فِيهِ وَالغَلَبَةُ لأَعدَاءِ للهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الكَفَرَةِ وَالمُلحِدِينَ وَالمُنَافِقِينَ ، وَأُسكِتَ فِيهِ العُلَمَاءُ وَنَطَقَ الرُّوَيبِضَةُ ، إذْ ذَاكَ ضَعُفَ الوَلاءُ وَالبَرَاءُ في النُّفُوسِ ، وَقَلَّت مَكَانَتُهُ في القُلُوبِ ، وَخَلَت مِنهُ بَعضُ الصُّدُورِ ، وَتَسَاهَلَ بِهِ مَن يُنسَبُونَ لِلثَّقَافَةِ وَالمَعرِفَةِ ، مَعَ أَنَّهُ أَوثَقُ عُرَى الإِيمَانِ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ المُسلِمَ بِحَاجَةٍ إِلى أَن يَتَعَاهَدَ هَذِهِ العَقِيدَةَ العَظِيمَةَ في قَلبِهِ وَيَقِيسَ مُستَوَاهَا في نَفسِهِ ، وَيَكُونَ مِنهَا عَلَى ذِكرٍ دَائِمٍ وَيَضَعَهَا نُصبَ عَينَيهِ ، فَيَعرِفَ مَن يُحِبُّ وَيُوالي ، وَيَتَبَيَّنَ مَن يَكرَهُ وَيُعَادِي ، لا أَن تَختَلِطَ عَلَيهِ الأُمُورُ وَتَشتَبِهَ ، فَيُعَادِيَ مَن أُمِرَ بِمَوَالاتِهِ وَيُوَاليَ مَن أُمِرَ بِمُعَادَاتِهِ ؛ فَيَهلِكَ بِذَلِكَ وَيَخسَرَ خُسرَانًا مُبِينًا ، قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ يُخرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُم إِن كُنتُم خَرَجتُم جِهَادًا في سَبِيلِي وَابتِغَاءَ مَرضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعلَمُ بِمَا أَخفَيتُم وَمَا أَعلَنتُم وَمَن يَفعَلْهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِن يَثقَفُوكُم يَكُونُوا لَكُم أَعدَاءً وَيَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم وَأَلسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَو تَكفُرُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " تَرَى كَثِيرًا مِنهُم يَتَوَلَّونَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئسَ مَا قَدَّمَت لهم أَنفُسُهُم أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيهِم وَفي العَذَابِ هُم خَالِدُونَ . وَلَو كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَولِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنهُم فَاسِقُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ آلَ أَبي فُلانٍ لَيسُوا لي بِأَولِيَاءَ ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن أَحَبَّ للهِ وَأَبغَضَ للهِ ، وَأَعطَى للهِ وَمَنَعَ للهِ ، فَقَدِ استَكمَلَ الإِيمَانَ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " أَوثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الحُبُّ في اللهِ وَالبُغضُ في اللهِ " وَقَد كَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُبَايِعُ أَصحَابَهُ عَلَى تَحقِيقِ هَذَا الأَصلِ العَظِيمِ ، فَعَن جَرِيرِ بنِ عَبدِاللهِ البَجَلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أَتَيتُ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهَُو يُبَايعُ ، فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اُبسُطْ يَدَكَ حَتى أُبَايِعَكَ ، وَاشتَرِطْ عَلَيَّ فَأَنتَ أَعلَمُ ، قَالَ : " أُبَايِعُكَ عَلَى أَن تَعبُدَ اللهَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤتيَ الزَّكَاةَ ، وَتُنَاصِحَ المُسلِمِينَ وَتُفَارِقَ المُشرِكِينَ " قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : إِنَّ تَحقِيقَ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَقتَضِي أَن لا يُحِبَّ إِلاَّ للهِ ، وَلا يُبغِضَ إِلاَّ للهِ ، وَلا يُوَادَّ إِلاَّ للهِ ، وَلا يُعَادِيَ إِلاَّ للهِ ، وَأَن يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللهُ ، وَيُبغِضَ مَا أَبغَضَهُ اللهُ .
وَقَالَ أَبُو الوَفَاءِ ابنُ عَقِيلٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ: إِذَا أَرَدتَ أَن تَعلَمَ مَحَلَّ الإِسلامِ مِن أَهلِ الزَّمَانِ ، فَلا تَنظُرْ إِلى زِحَامِهِم في أَبوَابِ الجَوَامِعِ ، وَلا ضَجِيجِهِم في المَوقِفِ بِـ(لَبَّيكَ) ، وَإِنَّمَا انظُرْ إِلى مُوَاطَأَتِهِم أَعدَاءَ الشَّرِيعَةِ ، عَاشَ ابنُ الرَّاوَندِيِّ وَالمَعَرِيُّ ـ عَلَيهِمَا لَعَائِنُ اللهِ ـ يَنظِمُونَ وَيَنثُرُونَ كُفرًا ، وَعَاشُوا سِنِينَ وَعُظِّمَت قُبُورُهُم وَاشتُرِيَت تَصَانِيفُهُم ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُرُودَةِ الدِّينِ في القَلبِ .
وَقَالَ الشَّيخُ سُلَيمَانُ بنُ عَبدِاللهِ بنِ محمدِ بنِ عَبدِالوَهَّابِ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ ـ : فَهَل يَتِمُّ الدِّينُ أَو يُقَامُ عَلَمُ الجِهَادِ أَو عَلَمُ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ إِلاَّ بِالحُبِّ في اللهِ وَالبُغضِ في اللهِ ، وَالمُعَادَاةِ في اللهِ وَالمُوَالاةِ في اللهِ ، وَلَو كَانَ النَّاسُ مُتَّفِقِينَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَمَحَبَّةٍ مِن غَيرِ عَدَاوَةٍ وَلا بَغضَاءَ ، لم يَكُنْ فُرقَانٌ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَلا بَينَ المُؤمِنِينَ وَالكُفَّارِ ، وَلا بَينَ أَولِيَاءِ الرَّحمَنِ وَأَولِيَاءِ الشَّيطَانِ ..
وَقَالَ الشَّيخُ حمدُ بنُ عَتِيقٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : فَأَمَّا مُعَادَاةُ الكُفَّارِ وَالمُشرِكِينَ ، فَاعلَمْ أَنَّ اللهَ ـ سُبحَانَهُ وَتَعَالى ـ قَد أَوجَبَ ذَلِكَ وَأَكَّدَ إِيجَابَهُ ، وَحَرَّمَ مُوَالاتَهُم وَشَدَّدَ فِيهَا ، حَتى إِنَّهُ لَيسَ في كِتَابِ اللهِ ـ تَعَالى ـ حُكمٌ فِيهِ مِنَ الأَدِلَّةِ أكثَرُ وَلا أَبيَنُ مِن هَذَا الحُكمِ بَعدَ وُجُوبِ التَّوحِيدِ وَتَحرِيمِ ضِدِّهِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مِنَ الحَلاوَةِ وَاللَّذَّةِ الَّتي لا يَجِدُهَا إِلاَّ المُؤمِنُونَ ، حَلاوَةَ الحُبِّ في اللهِ وَالبُغضِ في اللهِ ، تِلكَ الحَلاوَةُ الَّتي حَالَ بَينَ كَثِيرٍ مِنَ الجُهَّالِ وَبَينَ تَذَوُّقِهَا ضَعفُ الإِيمَانِ ، وَمَنَعَهُمُ التَّمَتُّعَ بِهَا رِضَاهُم بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمِئنَانُهُم إِلى زَخَارِفِهَا ، وَمَدُّهُم الأَعيُنَ إِلى مَا مُتِّعَ بِهِ الكَافِرُونَ مِن زَهَرتِهَا ، وَجَعلُهَا مِقيَاسًا لِلرُّقِيِّ وَالسَّعَادَةِ ، وَجَعلُ قِلَّتِهَا أَوِ الإِخفَاقُ في جَوَانِبِهَا دَلِيلاً عَلَى التَّخَلُّفِ وَالشَّقَاءِ ، وَأَمَّا مَن ذَاقَ طَعمَ الإِيمَانِ وَوَجَدَ بَردَ اليَقِينِ ، فَإِنَّهُ لا يَجِدُ لَذَّةً هِيَ أَحلَى وَلا مَكسَبًا هُوَ أَغلَى مِن مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، وَالوَلاءِ لِعِبَادِ اللهِ المُؤمِنِينَ ، وَكُرهِ الكُفرِ وَالبَرَاءَةِ مِنَ الكَافِرِينَ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ : مَن كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ ممَّا سِوَاهُمَا ، وَمَن أَحَبَّ عَبدًا لا يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ ، وَمَن يَكرَهُ أَن يَعُودَ في الكُفرِ بَعدَ أَن أَنقَذَهُ اللهُ مِنهُ كَمَا يَكرَهُ أَن يُلقَى في النَّارِ " وَإِنَّ مَا نَرَاهُ اليَومَ وَنَلحَظُهُ ، وَخَاصَّةً عَلَى المُستَوَى الرَّسمِيِّ وَفي وَسَائِلِ إِعلامِنَا نَحنُ المُسلِمِينَ ، مِن مَدحٍ لِلكُفَّارِ وَإِشَادَةٍ بِمَا هُم عَلَيهِ مِنَ المَدَنِيَّةِ وَالحَضَارَةِ ، أَو إِعجَابٍ بِأَخلاقِهِم وَانبِهَارٍ بِمَهَارَاتِهِم ، أَوِ انخدِاعٍ بِخِطَابَاتِهِم وَلِقَاءَاتِهِم الَّتي يَدَّعُونَ فِيهَا حُسنَ النَّوايَا تِجَاهَ المُسلِمِينَ ، دُونَ نَظَرٍ إِلى بُطلانِ عَقَائِدِهِم وَفَسَادِ دِينِهِم ، وَمَا دَبَّرُوهُ وَيُدَبِّرُونَهُ ضِدَّ المُسلِمِينَ مِن مَكَائِدَ ، وَمَا حَاكُوهُ وَيَحِيكُونَهُ ضِدَّ مُقَدَّسَاتِهِم مِن مُؤَامَرَاتٍ ، وَتِلكَ الحُرُوبِ الَّتي أَوقَدُوهَا وَمَا زَالُوا يُوقِدُونَهَا يَمنَةً وَيَسرَةً . أَقُولُ : إِنَّ هَذَا الإِعجَابَ بِالكُفَّارِ وَالتَّغَافُلَ عن عَدَاوَتِهِم الَّتي لا تَخفَى ، إِنَّهُ لَمِن ضَعفِ الإِيمَانِ باِللهِ ، وَاختِلالِ عَقِيدَةِ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ ، بَل هُوَ ممَّا يُغضِبُ اللهَ وَيُسخِطُهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا تَقُولُوا لِلمُنَافِقِ سَيِّدٌ ؛ فَإِنَّهُ إِن يَكُ سَيِّدًا فَقَد أَسخَطتُم رَبَّكُم ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " هَذَا في مَدحِ المُنَافِقِ المُظهِرِ لِلإِيمَانِ ، فَكَيفَ إِذَا كَانَ المَدحُ لِلكُفَّارِ ، بَل لِرُؤُوسِ الكُفَّارِ وَقُوَّادِ أَعظَمِ الدُّوَلِ عَدَاوَةً لِلإِسلامِ وَحَربًا عَلَى المُسلِمِينَ ؟!
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُم وَعَضُّوا عَلَيهِ بِالنَّوَاجِذِ ، وَلا يَغُرَّنَّكُم مَن ضَلَّ عَنهُ وَفَرَّطَ فِيهِ مَهمَا كَانَت مَكَانَتُهُ وَمَنزِلَتُهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " قَد تَرَكتُكُم عَلَى البَيضَاءِ لَيلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنهَا بَعدِي إِلاَّ هَالِكٌ ، مَن يَعِشْ مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا ، فَعَليكُم بما عَرَفتُم مِن سُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ " أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُم وَإِخوَانَكُم أَولِيَاءَ إِنِ استَحَبُّوا الكُفرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَآؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتيَ اللهُ بِأَمرِهِ وَاللهُ لاَ يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ البَرَاءَةَ مِنَ الكُفَّارِ وَمَن وَالاهُم وَدَاهَنَهُم ، هِيَ العَقِيدَةُ الحَنِيفِيَّةُ السَّمحَةُ ، وَالمِلَّةُ الإِبرَاهِيمِيَّةُ الَّتي لا عِوَجَ فِيهَا ، وَالعُروَةُ الوُثقَى الَّتي لا انفِصَامَ لها ، وَبِذَلِكَ أُمِرنَا وَجُعِلَ إِبرَاهِيمُ لَنَا فِيهِ أُسوَةً ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " قَد كَانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَومِهِم إِنَّا بُرَآءُ مِنكُم وَمِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرنَا بِكُم وَبَدَا بَينَنَا وَبَينَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤمِنُوا بِاللهِ وَحدَهُ " وَإِنَّهُ مَهمَا حَاوَلَ أَعدَاءُ اللهِ المُرَاوَغَةَ وَسَلَكُوا طَرِيقَ المُخَادَعَةِ ، مَهمَا ادَّعُوا حُسنَ النَّوَايَا تِجَاهَ المُسلِمِينَ وَزَعَمُوا مَحَبَّتَهُم لهم وَإِرَادَتَهُمُ الخَيرَ بهم ، فَإِنَّ اللهَ قَد تَولَّى فَضحَهُم في أَصدَقِ كَلامٍ وَأَبيَنِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " هَا أَنتُم أُولاءِ تُحِبُّونَهُم وَلاَ يُحِبُّونَكُم وَتُؤمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُم قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا عَضُّوا عَلَيكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيظِكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " ثم إِنَّهُ مَهمَا حَاوَلَ كُتَّابُ الجََرائِدِ وَأُغيلِمَةُ الصَّحَافَةِ بَعدَ ذَلِكَ أَن يُثبِتُوا لِلقُرَّاءِ حُسنَ نَوَايَا الكَافِرِينَ وَيُمَيِّعُوا عَقِيدَةَ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ وَيُخرِجُوهَا مِن قُلُوبِهِم ، وَمَهمَا صَدَّقَ بِذَلِكَ مَن صَدَّقَ وَأَخَذَ بِهِ مَن أَخَذَ وَانخَدَعَ بِهِ مَنِ انخَدَعَ ، فَإِنَّ التَّأيِيدَ مِنَ اللهِ وَالنَّصرَ وَالتَّمكِينَ ، يَبقَى لِمَن بَقِيَ عَلَى عَقِيدَةِ الوَلاءِ لِلمُؤمِنِينَ وَالبَرَاءِ مِنَ المُشرِكِينَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلاَ تَركَنُوا إِلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن أَولِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنهُ " قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في شَأنِ هَذِهِ الآيَةِ : فَهَذَا التَّأيِيدُ بِرُوحٍ مِنهُ لِكُلِّ مَن لم يُحِبَّ أَعدَاءَ الرُّسُلِ وَإِن كَانُوا أَقَارِبَهُ ، بَلْ يُحِبُّ مَن يُؤمِنُ بِالرُّسُلِ وَإِن كَانُوا أَجَانِبَ ، وَيُبغِضُ مَن لم يُؤمِنْ بِالرُّسُلِ وَإِن كَانُوا أَقَارِبَ ، وَهَذِهِ مِلَّةُ إِبرَاهِيمَ . وَقَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَلْيَعتَبِرِ المُعتَبِرُ بِسِيرَةِ نُورِ الدِّينِ زِنكِي وَصلاحِ الدِّينِ ثُمَّ العَادِلِ ، كَيفَ مَكَّنَهُمُ اللهُ وَأَيَّدَهُم وَفَتَحَ لَهُمُ البِلادَ وَأَذَلَّ لَهُمُ الأَعدَاءَ ، لَمَّا قَامُوا مِن ذَلِكَ بِمَا قَامُوا بِهِ ، وَلْيَعتَبِرْ بِسِيرَةِ مَن وَالى النَّصَارَى كَيفَ أَذَلَّهُ اللهُ ـ تَعَالى ـ وَكَبَتَهُ ..
الولاء والبراء
الخطبة الأولى:
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَنَحنُ في عَالَمِ التَّغَيُّرَاتِ وَالمُتَغَيِّرَاتِ ، عَالَمِ المُتَنَاقِضَاتِ وَالمُختَلِفَاتِ ، عَالَمِ طَاعَةِ الأَهوَاءِ المُتَّبَعَةِ وَالفِتَنِ المُضِلَّةِ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ أُصُولاً رَاسِخَةً ، يَجِبُ عَلَى المُسلِمِ أَن يَتَّخِذَ فِيهَا مَوقِفًا ثَابِتًا لا يَحِيدُ عَنهُ ، وَيَكُونَ فِيهَا عَلَى رَأيٍ قَاطِعٍ لا يَتَنَازَلُ عَنهُ ، ذَلِكَ أَنَّهَا أُسُسٌ مَصِيرِيَّةٌ تُبني عَلَيهَا نَجَاتُهُ في آخِرَتِهِ أَو هَلاكُهُ ، وَيَكُونُ بها فَوزُهُ يَومَ يَلقَى رَبَّهُ أَو خَسَارَتُهُ . إِنَّهَا أُصُولٌ لا تَقبَلُ اللَّعِبَ بها ، وَثَوَابِتُ لا يُمكِنُ زَعزَعَتُهَا ، إِذْ فِعلُهَا إِيمَانٌ وَتَقوَى ، وَتَركُهَا كُفرٌ وَرِدَّةٌ ، وَالشَّكُّ فِيهَا نِفَاقٌ وَفُسُوقٌ ، مِن تِلكَ الأُمُورِ الوَلاءُ وَالبَرَاءُ ، الوَلاءُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ ، وَلِلمُؤمِنِينَ وُلاتِهِم وَعَامَّتِهِم ، وَالبَرَاءُ مِنَ الكُفرِ وَالكَافِرِينَ وَمَن سَارَ بِدَربِهِم ، ذَلِكُمُ الرُّكنُ العَظِيمُ مِن أَركَانِ العَقِيدَةِ ، وَالشَّرطُ المُهِمُّ مِن شُرُوطِ الإِيمَانِ ، الَّذِي تَغَافَلَ عَنهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ في هَذَا الزَّمَانِ جَهلاً أَو تَجَاهُلاً ، وَأَهمَلَهُ بَعضُهُم يَومَ اختَلَطَت عَلَيهِ الأُمُورُ وَاشتَبَهَت لَدِيهِ الأَحوَالُ ، وَإِنَّهُ في هَذَا العَصرِ الَّذِي ذَلَّ فِيهِ المُسلِمُونَ وَضَعُفُوا وَاستَكَانُوا ، وَقَلَّ فِيهِ العِلمُ بِاللهِ وَعَمِيَت عَن طَرِيقِ الحَقِّ البَصَائِرُ ، وَصَارَتِ الشَّوكَةُ فِيهِ وَالغَلَبَةُ لأَعدَاءِ للهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الكَفَرَةِ وَالمُلحِدِينَ وَالمُنَافِقِينَ ، وَأُسكِتَ فِيهِ العُلَمَاءُ وَنَطَقَ الرُّوَيبِضَةُ ، إذْ ذَاكَ ضَعُفَ الوَلاءُ وَالبَرَاءُ في النُّفُوسِ ، وَقَلَّت مَكَانَتُهُ في القُلُوبِ ، وَخَلَت مِنهُ بَعضُ الصُّدُورِ ، وَتَسَاهَلَ بِهِ مَن يُنسَبُونَ لِلثَّقَافَةِ وَالمَعرِفَةِ ، مَعَ أَنَّهُ أَوثَقُ عُرَى الإِيمَانِ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ المُسلِمَ بِحَاجَةٍ إِلى أَن يَتَعَاهَدَ هَذِهِ العَقِيدَةَ العَظِيمَةَ في قَلبِهِ وَيَقِيسَ مُستَوَاهَا في نَفسِهِ ، وَيَكُونَ مِنهَا عَلَى ذِكرٍ دَائِمٍ وَيَضَعَهَا نُصبَ عَينَيهِ ، فَيَعرِفَ مَن يُحِبُّ وَيُوالي ، وَيَتَبَيَّنَ مَن يَكرَهُ وَيُعَادِي ، لا أَن تَختَلِطَ عَلَيهِ الأُمُورُ وَتَشتَبِهَ ، فَيُعَادِيَ مَن أُمِرَ بِمَوَالاتِهِ وَيُوَاليَ مَن أُمِرَ بِمُعَادَاتِهِ ؛ فَيَهلِكَ بِذَلِكَ وَيَخسَرَ خُسرَانًا مُبِينًا ، قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ يُخرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُم إِن كُنتُم خَرَجتُم جِهَادًا في سَبِيلِي وَابتِغَاءَ مَرضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعلَمُ بِمَا أَخفَيتُم وَمَا أَعلَنتُم وَمَن يَفعَلْهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِن يَثقَفُوكُم يَكُونُوا لَكُم أَعدَاءً وَيَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم وَأَلسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَو تَكفُرُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " تَرَى كَثِيرًا مِنهُم يَتَوَلَّونَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئسَ مَا قَدَّمَت لهم أَنفُسُهُم أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيهِم وَفي العَذَابِ هُم خَالِدُونَ . وَلَو كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَولِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنهُم فَاسِقُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ آلَ أَبي فُلانٍ لَيسُوا لي بِأَولِيَاءَ ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن أَحَبَّ للهِ وَأَبغَضَ للهِ ، وَأَعطَى للهِ وَمَنَعَ للهِ ، فَقَدِ استَكمَلَ الإِيمَانَ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " أَوثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الحُبُّ في اللهِ وَالبُغضُ في اللهِ " وَقَد كَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُبَايِعُ أَصحَابَهُ عَلَى تَحقِيقِ هَذَا الأَصلِ العَظِيمِ ، فَعَن جَرِيرِ بنِ عَبدِاللهِ البَجَلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أَتَيتُ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهَُو يُبَايعُ ، فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اُبسُطْ يَدَكَ حَتى أُبَايِعَكَ ، وَاشتَرِطْ عَلَيَّ فَأَنتَ أَعلَمُ ، قَالَ : " أُبَايِعُكَ عَلَى أَن تَعبُدَ اللهَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤتيَ الزَّكَاةَ ، وَتُنَاصِحَ المُسلِمِينَ وَتُفَارِقَ المُشرِكِينَ " قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : إِنَّ تَحقِيقَ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَقتَضِي أَن لا يُحِبَّ إِلاَّ للهِ ، وَلا يُبغِضَ إِلاَّ للهِ ، وَلا يُوَادَّ إِلاَّ للهِ ، وَلا يُعَادِيَ إِلاَّ للهِ ، وَأَن يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللهُ ، وَيُبغِضَ مَا أَبغَضَهُ اللهُ .
وَقَالَ أَبُو الوَفَاءِ ابنُ عَقِيلٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ: إِذَا أَرَدتَ أَن تَعلَمَ مَحَلَّ الإِسلامِ مِن أَهلِ الزَّمَانِ ، فَلا تَنظُرْ إِلى زِحَامِهِم في أَبوَابِ الجَوَامِعِ ، وَلا ضَجِيجِهِم في المَوقِفِ بِـ(لَبَّيكَ) ، وَإِنَّمَا انظُرْ إِلى مُوَاطَأَتِهِم أَعدَاءَ الشَّرِيعَةِ ، عَاشَ ابنُ الرَّاوَندِيِّ وَالمَعَرِيُّ ـ عَلَيهِمَا لَعَائِنُ اللهِ ـ يَنظِمُونَ وَيَنثُرُونَ كُفرًا ، وَعَاشُوا سِنِينَ وَعُظِّمَت قُبُورُهُم وَاشتُرِيَت تَصَانِيفُهُم ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُرُودَةِ الدِّينِ في القَلبِ .
وَقَالَ الشَّيخُ سُلَيمَانُ بنُ عَبدِاللهِ بنِ محمدِ بنِ عَبدِالوَهَّابِ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ ـ : فَهَل يَتِمُّ الدِّينُ أَو يُقَامُ عَلَمُ الجِهَادِ أَو عَلَمُ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ إِلاَّ بِالحُبِّ في اللهِ وَالبُغضِ في اللهِ ، وَالمُعَادَاةِ في اللهِ وَالمُوَالاةِ في اللهِ ، وَلَو كَانَ النَّاسُ مُتَّفِقِينَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَمَحَبَّةٍ مِن غَيرِ عَدَاوَةٍ وَلا بَغضَاءَ ، لم يَكُنْ فُرقَانٌ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَلا بَينَ المُؤمِنِينَ وَالكُفَّارِ ، وَلا بَينَ أَولِيَاءِ الرَّحمَنِ وَأَولِيَاءِ الشَّيطَانِ ..
وَقَالَ الشَّيخُ حمدُ بنُ عَتِيقٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : فَأَمَّا مُعَادَاةُ الكُفَّارِ وَالمُشرِكِينَ ، فَاعلَمْ أَنَّ اللهَ ـ سُبحَانَهُ وَتَعَالى ـ قَد أَوجَبَ ذَلِكَ وَأَكَّدَ إِيجَابَهُ ، وَحَرَّمَ مُوَالاتَهُم وَشَدَّدَ فِيهَا ، حَتى إِنَّهُ لَيسَ في كِتَابِ اللهِ ـ تَعَالى ـ حُكمٌ فِيهِ مِنَ الأَدِلَّةِ أكثَرُ وَلا أَبيَنُ مِن هَذَا الحُكمِ بَعدَ وُجُوبِ التَّوحِيدِ وَتَحرِيمِ ضِدِّهِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مِنَ الحَلاوَةِ وَاللَّذَّةِ الَّتي لا يَجِدُهَا إِلاَّ المُؤمِنُونَ ، حَلاوَةَ الحُبِّ في اللهِ وَالبُغضِ في اللهِ ، تِلكَ الحَلاوَةُ الَّتي حَالَ بَينَ كَثِيرٍ مِنَ الجُهَّالِ وَبَينَ تَذَوُّقِهَا ضَعفُ الإِيمَانِ ، وَمَنَعَهُمُ التَّمَتُّعَ بِهَا رِضَاهُم بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمِئنَانُهُم إِلى زَخَارِفِهَا ، وَمَدُّهُم الأَعيُنَ إِلى مَا مُتِّعَ بِهِ الكَافِرُونَ مِن زَهَرتِهَا ، وَجَعلُهَا مِقيَاسًا لِلرُّقِيِّ وَالسَّعَادَةِ ، وَجَعلُ قِلَّتِهَا أَوِ الإِخفَاقُ في جَوَانِبِهَا دَلِيلاً عَلَى التَّخَلُّفِ وَالشَّقَاءِ ، وَأَمَّا مَن ذَاقَ طَعمَ الإِيمَانِ وَوَجَدَ بَردَ اليَقِينِ ، فَإِنَّهُ لا يَجِدُ لَذَّةً هِيَ أَحلَى وَلا مَكسَبًا هُوَ أَغلَى مِن مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، وَالوَلاءِ لِعِبَادِ اللهِ المُؤمِنِينَ ، وَكُرهِ الكُفرِ وَالبَرَاءَةِ مِنَ الكَافِرِينَ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ : مَن كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ ممَّا سِوَاهُمَا ، وَمَن أَحَبَّ عَبدًا لا يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ ، وَمَن يَكرَهُ أَن يَعُودَ في الكُفرِ بَعدَ أَن أَنقَذَهُ اللهُ مِنهُ كَمَا يَكرَهُ أَن يُلقَى في النَّارِ " وَإِنَّ مَا نَرَاهُ اليَومَ وَنَلحَظُهُ ، وَخَاصَّةً عَلَى المُستَوَى الرَّسمِيِّ وَفي وَسَائِلِ إِعلامِنَا نَحنُ المُسلِمِينَ ، مِن مَدحٍ لِلكُفَّارِ وَإِشَادَةٍ بِمَا هُم عَلَيهِ مِنَ المَدَنِيَّةِ وَالحَضَارَةِ ، أَو إِعجَابٍ بِأَخلاقِهِم وَانبِهَارٍ بِمَهَارَاتِهِم ، أَوِ انخدِاعٍ بِخِطَابَاتِهِم وَلِقَاءَاتِهِم الَّتي يَدَّعُونَ فِيهَا حُسنَ النَّوايَا تِجَاهَ المُسلِمِينَ ، دُونَ نَظَرٍ إِلى بُطلانِ عَقَائِدِهِم وَفَسَادِ دِينِهِم ، وَمَا دَبَّرُوهُ وَيُدَبِّرُونَهُ ضِدَّ المُسلِمِينَ مِن مَكَائِدَ ، وَمَا حَاكُوهُ وَيَحِيكُونَهُ ضِدَّ مُقَدَّسَاتِهِم مِن مُؤَامَرَاتٍ ، وَتِلكَ الحُرُوبِ الَّتي أَوقَدُوهَا وَمَا زَالُوا يُوقِدُونَهَا يَمنَةً وَيَسرَةً . أَقُولُ : إِنَّ هَذَا الإِعجَابَ بِالكُفَّارِ وَالتَّغَافُلَ عن عَدَاوَتِهِم الَّتي لا تَخفَى ، إِنَّهُ لَمِن ضَعفِ الإِيمَانِ باِللهِ ، وَاختِلالِ عَقِيدَةِ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ ، بَل هُوَ ممَّا يُغضِبُ اللهَ وَيُسخِطُهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا تَقُولُوا لِلمُنَافِقِ سَيِّدٌ ؛ فَإِنَّهُ إِن يَكُ سَيِّدًا فَقَد أَسخَطتُم رَبَّكُم ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " هَذَا في مَدحِ المُنَافِقِ المُظهِرِ لِلإِيمَانِ ، فَكَيفَ إِذَا كَانَ المَدحُ لِلكُفَّارِ ، بَل لِرُؤُوسِ الكُفَّارِ وَقُوَّادِ أَعظَمِ الدُّوَلِ عَدَاوَةً لِلإِسلامِ وَحَربًا عَلَى المُسلِمِينَ ؟!
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُم وَعَضُّوا عَلَيهِ بِالنَّوَاجِذِ ، وَلا يَغُرَّنَّكُم مَن ضَلَّ عَنهُ وَفَرَّطَ فِيهِ مَهمَا كَانَت مَكَانَتُهُ وَمَنزِلَتُهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " قَد تَرَكتُكُم عَلَى البَيضَاءِ لَيلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنهَا بَعدِي إِلاَّ هَالِكٌ ، مَن يَعِشْ مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا ، فَعَليكُم بما عَرَفتُم مِن سُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ " أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُم وَإِخوَانَكُم أَولِيَاءَ إِنِ استَحَبُّوا الكُفرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَآؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتيَ اللهُ بِأَمرِهِ وَاللهُ لاَ يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ البَرَاءَةَ مِنَ الكُفَّارِ وَمَن وَالاهُم وَدَاهَنَهُم ، هِيَ العَقِيدَةُ الحَنِيفِيَّةُ السَّمحَةُ ، وَالمِلَّةُ الإِبرَاهِيمِيَّةُ الَّتي لا عِوَجَ فِيهَا ، وَالعُروَةُ الوُثقَى الَّتي لا انفِصَامَ لها ، وَبِذَلِكَ أُمِرنَا وَجُعِلَ إِبرَاهِيمُ لَنَا فِيهِ أُسوَةً ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " قَد كَانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَومِهِم إِنَّا بُرَآءُ مِنكُم وَمِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرنَا بِكُم وَبَدَا بَينَنَا وَبَينَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤمِنُوا بِاللهِ وَحدَهُ " وَإِنَّهُ مَهمَا حَاوَلَ أَعدَاءُ اللهِ المُرَاوَغَةَ وَسَلَكُوا طَرِيقَ المُخَادَعَةِ ، مَهمَا ادَّعُوا حُسنَ النَّوَايَا تِجَاهَ المُسلِمِينَ وَزَعَمُوا مَحَبَّتَهُم لهم وَإِرَادَتَهُمُ الخَيرَ بهم ، فَإِنَّ اللهَ قَد تَولَّى فَضحَهُم في أَصدَقِ كَلامٍ وَأَبيَنِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " هَا أَنتُم أُولاءِ تُحِبُّونَهُم وَلاَ يُحِبُّونَكُم وَتُؤمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُم قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا عَضُّوا عَلَيكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيظِكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " ثم إِنَّهُ مَهمَا حَاوَلَ كُتَّابُ الجََرائِدِ وَأُغيلِمَةُ الصَّحَافَةِ بَعدَ ذَلِكَ أَن يُثبِتُوا لِلقُرَّاءِ حُسنَ نَوَايَا الكَافِرِينَ وَيُمَيِّعُوا عَقِيدَةَ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ وَيُخرِجُوهَا مِن قُلُوبِهِم ، وَمَهمَا صَدَّقَ بِذَلِكَ مَن صَدَّقَ وَأَخَذَ بِهِ مَن أَخَذَ وَانخَدَعَ بِهِ مَنِ انخَدَعَ ، فَإِنَّ التَّأيِيدَ مِنَ اللهِ وَالنَّصرَ وَالتَّمكِينَ ، يَبقَى لِمَن بَقِيَ عَلَى عَقِيدَةِ الوَلاءِ لِلمُؤمِنِينَ وَالبَرَاءِ مِنَ المُشرِكِينَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلاَ تَركَنُوا إِلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن أَولِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنهُ " قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في شَأنِ هَذِهِ الآيَةِ : فَهَذَا التَّأيِيدُ بِرُوحٍ مِنهُ لِكُلِّ مَن لم يُحِبَّ أَعدَاءَ الرُّسُلِ وَإِن كَانُوا أَقَارِبَهُ ، بَلْ يُحِبُّ مَن يُؤمِنُ بِالرُّسُلِ وَإِن كَانُوا أَجَانِبَ ، وَيُبغِضُ مَن لم يُؤمِنْ بِالرُّسُلِ وَإِن كَانُوا أَقَارِبَ ، وَهَذِهِ مِلَّةُ إِبرَاهِيمَ . وَقَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَلْيَعتَبِرِ المُعتَبِرُ بِسِيرَةِ نُورِ الدِّينِ زِنكِي وَصلاحِ الدِّينِ ثُمَّ العَادِلِ ، كَيفَ مَكَّنَهُمُ اللهُ وَأَيَّدَهُم وَفَتَحَ لَهُمُ البِلادَ وَأَذَلَّ لَهُمُ الأَعدَاءَ ، لَمَّا قَامُوا مِن ذَلِكَ بِمَا قَامُوا بِهِ ، وَلْيَعتَبِرْ بِسِيرَةِ مَن وَالى النَّصَارَى كَيفَ أَذَلَّهُ اللهُ ـ تَعَالى ـ وَكَبَتَهُ ..
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى