رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
خطبة عيد الأضحى
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتًَّقوا الله ـ أيُّها المسلمون ـ حقَّ تُقاته واصبِروا، واذكروه كثيرًا واثبتوا، وحافِظوا على دِينِكم ولا تُغيّروا، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [الرعد:11]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [الحشر:18-20].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: وفي هذه اللحظات العظيمة المشهودة وأمة الإسلام تعيش هذا العيد السَّعيد المُبارك، في يوم النَّحر الذي هو أعظم الأيَّام عِند الله تعالى ، وفي موسم الحج إلى بيتِ الله الحَرام المُعظَّم، ما أجمل أن تعود الأمة إلى دينها العظيم الذي أكمله الله لها، وأتمَّ به عليها نعمه، ورضيه لها شِرْعَة ودينًا، ما أجمل أن ترجع إلى منهجِها السَّوي القَويم الذي هو مصدر قوَّتها ومنبع عِزَّتها، ما أبهى أن تحس بفقرها إلى ربها وخالقها ورازقها، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [فاطر:15-17]. أَوَلم يكن العرب ضُلاّلاً فهداهم الله بهذا الإسلام؟! أولم يكونوا عالَة فأغناهُم الله من فضلِه بهذا الدِّين؟! أَوَليس من دين الإسلام تُستمد الأحكام وتسن القوانين؟! أَوَليست به تستقيم الأحوال وتصلح الأوضاع؟! بلى والله، إنه لكذلك وفوق ذلك. إنَّ شؤون الأمَّة فرديَّة كانت أو اجتماعية وأوضاعها مادية أو معنوية وعلاقاتها محلية أو دولية وأحوالها سلمية أو حربية كلها مضبوطة بشرع الله محكومة بدينه، موزونة بكتابه مربوطة بوحيه، ليس لهذه الأمة رصيد أغلى من هذا الدين، وليس لها قيام دون هذا الإسلام، وجودها مرتبط بوجوده، وفناؤها راجع إلى التقصير فيه، تعيش عزيزة ما تمسكت به وعضّت عليه بالنواجِذ، وترجع ذليلة ما تهاونت به ورضيت غيره. حَرِيّ بالأمة وهي تعيش خضم هذه الأحداث المتلاحقة أن تتحسّس موقعها وتعرف موقفها؛ لئلا تضل السبيل فتهلك، وجدير بها وهي تواقع هذه المتغيرات المتسارعة أن تتلمّس دربها وتحدد طريقها؛ لئلا تبقى في مؤخرة الركب وأعقاب الأمم.
إنَّ أمَّة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس، جعلها الله أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس، وهذه الوسطية وتلك الخيرية تتأكدان في دينها العظيم القويم الذي حارب الشرك وما يفضي إليه، وفضح الإنحرافات اليهوديَّة والنَّصرانيَّة، ذلك الدِّين الخاتم الكامل الذي لا يقبل التجزئة ولا يرضى التَّفريق، كمال في التَّوحيد والعقيدة والنبوات، وشُمُول في القضاء والقدر والبعث والنشور، إيمان بكل ما جاء به القرآن الكريم، وتصديق بكل ما صح به النقل عن النبي المعصوم. الخيرية والوسطية في هذا الدين تظهران في تمام العبادة وشمولها، حيث رسمت حدودها وحدت صفاتها، ونبه على أركانها وشروطها، ومنع من الإحداث والابتداع فيها: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه} [الشورى:21]، وفي الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: لقد حفظ هذا الدين لهذه الأمة خيريتها ووسطيتها، حفظ الأنفس والأموال، وصان الدماء والأعراض، حدَّ الحُدود وشرَع التَّعازير، وأخذ على يدِ الظَّالم وحَارب الجريمة، نشر الفضيلة وفضَح الرَّذيلة، وعظم أمر العفاف والحياء، أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، أوجب الصدق والأمانة، وحثَّ على الصَّبر والوفاء، وأمر بالتَّعاون على البر والتَّقوى، كل ذلك في نظر شامل لكل مناحي الحياة ومعاملاتها وعاداتها، في أصول عامة محكمة ونظم شاملة مفصلة، وحَوَت آداب الإسلام فيما حَوَت من أجل هذه الخيريَّة وتلك الوسطيَّة، حَوَت آداب الأكل والشُّرب والنَّوم واليقظَة، وحددت ضوابط اللِّباس والزِّينة والدُّخول والخروج، وجاءت بآداب المشي والجُلُوس والتَّحيَّة واللِّقاء، وضعت أصولاً للزِّيارة والإستئذَان، وسنّت أدبًا للحديث وحقًّا للطَّريق. غايتها في ذلك تهذيب البشريَّة ومناهضة النَّزعات الشَّيطانيَّة وتوضيح الفرقان بين الحق والباطل. أما المسلمون أتباع الإسلام فهم أولياء الله وأحباؤه، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله. هم خير أمة أخرجت للناس، يحمدون الله في السراء والضراء، ويذكرونه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، أناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل فرسان في النهار، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، هم الآخرون في الدنيا السابقون يوم القيامة، غايتهم ومقصدهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور، إخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. وهم لذلك مسؤولون عن حماية الحق ونشر الفضائل الكريمة، مطالبون بإقامة المثل العليا وترسيخ المبادئ السامية. وهذا الحق الذي معهم يدعون إليه ويدافعون عنه، وذلك الخير الذي جعله الله لهم ووصفهم به محفوظ لهم ما استقاموا على الطريقة واستكملوا الشروط المهمة، باق لهم ما بقوا على العهد ولم ينقضوا الميثاق. والله سبحانه ناظر كيف يعملون، مطلع على ما يُبْرِمُون، وكل من ظلم وخالف فلن يفلت من سنة الله في الظالمين، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: إنَّ في دين هذه الأمة تلازمًا وثيقًا بين العقائِد والعِبادات، وترابطًا عميقًا بين سلوك الإنسان وأخلاقه في البيت والسوق والعمل، وفي المسجد والمعهد والمدرسة، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162، 163]. إنه تلازم يوجب على المسلمين أن يأخذوا بالدين كله، فالدين كلٌّ لا يتجزأ، ووحدة لا تقبل التفرقة،{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة:85].
ووالله، لو صدق المسلمون في الإنتماء لدينهم واعتزوا به لالتزموا آدابه وأحكامه الكاملة الشاملة، ولَمَا حادوا عن طريقه الواضح وصراطه المستقيم، ولو فعلوا ذلك لتميزوا بالحق والخير، ولتميزوا بهيئاتهم ولباسهم كما يتميزون بعقائدهم وشعائرهم، ولتميَّزوا بالتنزه عن المُوبقات والفواحش كما يتميزون بالآداب الفاضِلة والأعمال الخَيِّرَة. لكنّ فئامًا منهم اليوم ظنُّوا أنَّ الإسلام مقصور على عِلاقة العبد بربِّه وخالِقه، ولا صلة له بالمجتمع ولا بالحياة، فأخذوا ببعض الكتاب، وأعرضوا عن بعض، وجعلوا القرآن عِضِين، وصاروا فيه مختلفين، ما وافق أهواءهم أخذوا به واتبعوه، وما خالفها تركوه وراءهم ظِهْرِيًّا ونبذوه، اختاروا في كثير من مواطنهم وأوضاعهم غير ما اختار الله، ودانوا بمناهج على غير طريق رسول الله، اختلطت عليهم السبل والمناهج، وتعددت مواردهم والمشارب، اصطبغوا بغير صبغة الله، وتغيرت أحوالهم وفرطوا في دينهم، أضاعوا الصلاة واتَّبعوا الشَّهوات، وأكلوا الرِّبا وفشا فيهم الفُحش والزِّنا، اتَّبعوا خطوات الشيطان وساروا في طريقه، وتفرَّقوا شِيَعًا وأحزابًا، تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يكونوا أشداء على الكفار ولا رُحماء بينهم، ولم يعِدّوا ما استطاعوا من قوة ليرهبوا بها عدو الله وعدوهم وآخرين من دونهم. من أمثال هؤلاء أتيت الأمة ودُخل عليها، وبتقصيرهم وتهاونهم هزمت وأذلت في كثير من أقطارها، وبتوليهم أمورها تسلط عليها أعداؤها من كل جانب { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: إنَّ الخُروج على أحكام الإسلام وأصوله اعتقادًا أنَّ غيره أقرب إلى الحق وأدنى إلى العدل أو أحفظ للمصلحة وحق الإنسان، إنَّ ذلك يعد رِدّة وخروجًا عن هذا الدين القويم. ومن هنا ـ أيها الإخوة ـ فإنَّ على المسلمين اليوم وبين أيديهم كتاب ربهم وسنة نبيهم محمد عليهم أن يتقوا ربهم ويراجعوا أحوالهم، وينظروا في سنن الله وأحوال من قبلهم، ويعتبروا بمن حولهم ممن دمر الله عليهم، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]. أين العروة الوثقى؟! وكيف المعتصم؟! أين الخيرية؟! وأين الوسطية؟! أين الشهادة على الناس؟! كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران:110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة:143].
فاتقوا الله ربكم أيها المسلمون، واستمسكوا بدينكم، وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، أقيموه في أنفسكم وأهليكم وسائر جوانب حياتكم , وعودوا إلى ربكم وتوبوا إليه لعلكم تفلحون، واعلموا أن المستقبل بإذن الله لهذا الدين، والنصر بأمر الله لهذا الإسلام، فمهما احْلَوْلَكَت الظلمة وغابت شمس الحقيقة إلا أنها ستشرق على الدنيا في يوم ما، وسيصفو الجو الذي طالما تكدّر، وسيتبدّد الظلام الذي طغى وانتشر، ستبدو رايات الإسلام عالية خَفّاقة، وستختفي زعامات الباطل مغلوبة مدحورة، وسيظهر الحق ويزهق الباطل،{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].
فلا تَحسبـوا أنَّ الهمـومَ مُقِيمـةٌ رُوَيدًا فإنّ اللهَ بالخـلق أَبْصَرُ
ستؤخذ ثـاراتٌ وتُقضَى حوائـجٌ وتبدو إشاراتٌ وتُقْصَمُ أَظهرُ
وتُطْمَس من شأن الأعـادي بَوَارِزٌ ويظهر سـرّ الله والله أكـبرُ
أما أعداء الأمة ـ أيها الإخوة ـ فإنهم مخذولون مهزومون، وخبر الله فيهم لا يتخلف: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } [آل عمران:111]، إنه ضر لا يؤدي إلى هدم كيان الأمة ولا إلى اضمحلالها، إنَّه ضمان قرآني حق، وخبَر إلهي صدق: { وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } [آل عمران:111]، إنَّها بشارات كريمة مشروطة بمحافظة الأمَّة على دينِها: { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [آل عمران:110]. فهل يهتدي المسلمون إلى العروة الوثقى ويعرفون كيف المُعْتَصَم؟! هل يهجرون السَّنَن ويتبعون السُّنَن؟! هل يرجعون عن اتباع السُّبُل ويتبعون السبيل؟! إن الأمل ما زال فيهم كبيرًا، وإن المسؤولية عليهم لعظيمة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:55-57].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه، واعلموا أنه لا أحسن دينًا ولا أشد تمسّكًا ولا أكمل إيمانًا ولا أتم يقينًا ممن أسلم وجهه لله وسلّم لأوامره ونواهيه، إذا قضى الله ورسوله أمرًا لم يتردد في تنفيذه وتطبيقه، وإذا بلغه نهي أو تحريم لم يتأخر عن اجتنابه والبعد عنه، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء:125]، {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [لقمان:22].
ألا فاتقوا الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون، وسلموا لأوامر الله واجتنبوا نواهيه، ولا تقولوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، فإن الدين كلٌّ لا يتجزّأ، ووحدة لا تتفرّق ليس ترك شيء من أوامره أو الوقوع في آخر من مناهيه هيّنًا ويسيرًا.
أيها المسلمون: إنَّكم في يوم عظيم سمَّاه الله يوم الحج الأكبَر، تتلوه أيام معدودات عظيمة، فعظموها بطَاعة الله وذكره، وأكثروا من حمدِه وشكرِه، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج:32]، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج:30]. ضحّوا وطيبوا نفسًا بضحاياكم، واذكروا الله على ما رزقكم وأن هداكم، فإنه ما عُبِد الله في يوم النحر بمثل إراقة دم الأضاحي، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، واعلموا أن الذبح ممتد إلى غروب الشمس من ثالث أيام التشريق، وأنه يشرع في هذه الأيام التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبة، فكبّروا وارفعوا به أصواتكم، وأحيوا سنة نبيكم نَضَّرَ الله وجوهكم، وصلوا وسلموا على خير الورى وأفضل من وطئ الثرى...
خطبة عيد الأضحى
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتًَّقوا الله ـ أيُّها المسلمون ـ حقَّ تُقاته واصبِروا، واذكروه كثيرًا واثبتوا، وحافِظوا على دِينِكم ولا تُغيّروا، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [الرعد:11]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [الحشر:18-20].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: وفي هذه اللحظات العظيمة المشهودة وأمة الإسلام تعيش هذا العيد السَّعيد المُبارك، في يوم النَّحر الذي هو أعظم الأيَّام عِند الله تعالى ، وفي موسم الحج إلى بيتِ الله الحَرام المُعظَّم، ما أجمل أن تعود الأمة إلى دينها العظيم الذي أكمله الله لها، وأتمَّ به عليها نعمه، ورضيه لها شِرْعَة ودينًا، ما أجمل أن ترجع إلى منهجِها السَّوي القَويم الذي هو مصدر قوَّتها ومنبع عِزَّتها، ما أبهى أن تحس بفقرها إلى ربها وخالقها ورازقها، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [فاطر:15-17]. أَوَلم يكن العرب ضُلاّلاً فهداهم الله بهذا الإسلام؟! أولم يكونوا عالَة فأغناهُم الله من فضلِه بهذا الدِّين؟! أَوَليس من دين الإسلام تُستمد الأحكام وتسن القوانين؟! أَوَليست به تستقيم الأحوال وتصلح الأوضاع؟! بلى والله، إنه لكذلك وفوق ذلك. إنَّ شؤون الأمَّة فرديَّة كانت أو اجتماعية وأوضاعها مادية أو معنوية وعلاقاتها محلية أو دولية وأحوالها سلمية أو حربية كلها مضبوطة بشرع الله محكومة بدينه، موزونة بكتابه مربوطة بوحيه، ليس لهذه الأمة رصيد أغلى من هذا الدين، وليس لها قيام دون هذا الإسلام، وجودها مرتبط بوجوده، وفناؤها راجع إلى التقصير فيه، تعيش عزيزة ما تمسكت به وعضّت عليه بالنواجِذ، وترجع ذليلة ما تهاونت به ورضيت غيره. حَرِيّ بالأمة وهي تعيش خضم هذه الأحداث المتلاحقة أن تتحسّس موقعها وتعرف موقفها؛ لئلا تضل السبيل فتهلك، وجدير بها وهي تواقع هذه المتغيرات المتسارعة أن تتلمّس دربها وتحدد طريقها؛ لئلا تبقى في مؤخرة الركب وأعقاب الأمم.
إنَّ أمَّة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس، جعلها الله أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس، وهذه الوسطية وتلك الخيرية تتأكدان في دينها العظيم القويم الذي حارب الشرك وما يفضي إليه، وفضح الإنحرافات اليهوديَّة والنَّصرانيَّة، ذلك الدِّين الخاتم الكامل الذي لا يقبل التجزئة ولا يرضى التَّفريق، كمال في التَّوحيد والعقيدة والنبوات، وشُمُول في القضاء والقدر والبعث والنشور، إيمان بكل ما جاء به القرآن الكريم، وتصديق بكل ما صح به النقل عن النبي المعصوم. الخيرية والوسطية في هذا الدين تظهران في تمام العبادة وشمولها، حيث رسمت حدودها وحدت صفاتها، ونبه على أركانها وشروطها، ومنع من الإحداث والابتداع فيها: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه} [الشورى:21]، وفي الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: لقد حفظ هذا الدين لهذه الأمة خيريتها ووسطيتها، حفظ الأنفس والأموال، وصان الدماء والأعراض، حدَّ الحُدود وشرَع التَّعازير، وأخذ على يدِ الظَّالم وحَارب الجريمة، نشر الفضيلة وفضَح الرَّذيلة، وعظم أمر العفاف والحياء، أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، أوجب الصدق والأمانة، وحثَّ على الصَّبر والوفاء، وأمر بالتَّعاون على البر والتَّقوى، كل ذلك في نظر شامل لكل مناحي الحياة ومعاملاتها وعاداتها، في أصول عامة محكمة ونظم شاملة مفصلة، وحَوَت آداب الإسلام فيما حَوَت من أجل هذه الخيريَّة وتلك الوسطيَّة، حَوَت آداب الأكل والشُّرب والنَّوم واليقظَة، وحددت ضوابط اللِّباس والزِّينة والدُّخول والخروج، وجاءت بآداب المشي والجُلُوس والتَّحيَّة واللِّقاء، وضعت أصولاً للزِّيارة والإستئذَان، وسنّت أدبًا للحديث وحقًّا للطَّريق. غايتها في ذلك تهذيب البشريَّة ومناهضة النَّزعات الشَّيطانيَّة وتوضيح الفرقان بين الحق والباطل. أما المسلمون أتباع الإسلام فهم أولياء الله وأحباؤه، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله. هم خير أمة أخرجت للناس، يحمدون الله في السراء والضراء، ويذكرونه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، أناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل فرسان في النهار، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، هم الآخرون في الدنيا السابقون يوم القيامة، غايتهم ومقصدهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور، إخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. وهم لذلك مسؤولون عن حماية الحق ونشر الفضائل الكريمة، مطالبون بإقامة المثل العليا وترسيخ المبادئ السامية. وهذا الحق الذي معهم يدعون إليه ويدافعون عنه، وذلك الخير الذي جعله الله لهم ووصفهم به محفوظ لهم ما استقاموا على الطريقة واستكملوا الشروط المهمة، باق لهم ما بقوا على العهد ولم ينقضوا الميثاق. والله سبحانه ناظر كيف يعملون، مطلع على ما يُبْرِمُون، وكل من ظلم وخالف فلن يفلت من سنة الله في الظالمين، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: إنَّ في دين هذه الأمة تلازمًا وثيقًا بين العقائِد والعِبادات، وترابطًا عميقًا بين سلوك الإنسان وأخلاقه في البيت والسوق والعمل، وفي المسجد والمعهد والمدرسة، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162، 163]. إنه تلازم يوجب على المسلمين أن يأخذوا بالدين كله، فالدين كلٌّ لا يتجزأ، ووحدة لا تقبل التفرقة،{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة:85].
ووالله، لو صدق المسلمون في الإنتماء لدينهم واعتزوا به لالتزموا آدابه وأحكامه الكاملة الشاملة، ولَمَا حادوا عن طريقه الواضح وصراطه المستقيم، ولو فعلوا ذلك لتميزوا بالحق والخير، ولتميزوا بهيئاتهم ولباسهم كما يتميزون بعقائدهم وشعائرهم، ولتميَّزوا بالتنزه عن المُوبقات والفواحش كما يتميزون بالآداب الفاضِلة والأعمال الخَيِّرَة. لكنّ فئامًا منهم اليوم ظنُّوا أنَّ الإسلام مقصور على عِلاقة العبد بربِّه وخالِقه، ولا صلة له بالمجتمع ولا بالحياة، فأخذوا ببعض الكتاب، وأعرضوا عن بعض، وجعلوا القرآن عِضِين، وصاروا فيه مختلفين، ما وافق أهواءهم أخذوا به واتبعوه، وما خالفها تركوه وراءهم ظِهْرِيًّا ونبذوه، اختاروا في كثير من مواطنهم وأوضاعهم غير ما اختار الله، ودانوا بمناهج على غير طريق رسول الله، اختلطت عليهم السبل والمناهج، وتعددت مواردهم والمشارب، اصطبغوا بغير صبغة الله، وتغيرت أحوالهم وفرطوا في دينهم، أضاعوا الصلاة واتَّبعوا الشَّهوات، وأكلوا الرِّبا وفشا فيهم الفُحش والزِّنا، اتَّبعوا خطوات الشيطان وساروا في طريقه، وتفرَّقوا شِيَعًا وأحزابًا، تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يكونوا أشداء على الكفار ولا رُحماء بينهم، ولم يعِدّوا ما استطاعوا من قوة ليرهبوا بها عدو الله وعدوهم وآخرين من دونهم. من أمثال هؤلاء أتيت الأمة ودُخل عليها، وبتقصيرهم وتهاونهم هزمت وأذلت في كثير من أقطارها، وبتوليهم أمورها تسلط عليها أعداؤها من كل جانب { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: إنَّ الخُروج على أحكام الإسلام وأصوله اعتقادًا أنَّ غيره أقرب إلى الحق وأدنى إلى العدل أو أحفظ للمصلحة وحق الإنسان، إنَّ ذلك يعد رِدّة وخروجًا عن هذا الدين القويم. ومن هنا ـ أيها الإخوة ـ فإنَّ على المسلمين اليوم وبين أيديهم كتاب ربهم وسنة نبيهم محمد عليهم أن يتقوا ربهم ويراجعوا أحوالهم، وينظروا في سنن الله وأحوال من قبلهم، ويعتبروا بمن حولهم ممن دمر الله عليهم، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]. أين العروة الوثقى؟! وكيف المعتصم؟! أين الخيرية؟! وأين الوسطية؟! أين الشهادة على الناس؟! كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران:110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة:143].
فاتقوا الله ربكم أيها المسلمون، واستمسكوا بدينكم، وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، أقيموه في أنفسكم وأهليكم وسائر جوانب حياتكم , وعودوا إلى ربكم وتوبوا إليه لعلكم تفلحون، واعلموا أن المستقبل بإذن الله لهذا الدين، والنصر بأمر الله لهذا الإسلام، فمهما احْلَوْلَكَت الظلمة وغابت شمس الحقيقة إلا أنها ستشرق على الدنيا في يوم ما، وسيصفو الجو الذي طالما تكدّر، وسيتبدّد الظلام الذي طغى وانتشر، ستبدو رايات الإسلام عالية خَفّاقة، وستختفي زعامات الباطل مغلوبة مدحورة، وسيظهر الحق ويزهق الباطل،{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].
فلا تَحسبـوا أنَّ الهمـومَ مُقِيمـةٌ رُوَيدًا فإنّ اللهَ بالخـلق أَبْصَرُ
ستؤخذ ثـاراتٌ وتُقضَى حوائـجٌ وتبدو إشاراتٌ وتُقْصَمُ أَظهرُ
وتُطْمَس من شأن الأعـادي بَوَارِزٌ ويظهر سـرّ الله والله أكـبرُ
أما أعداء الأمة ـ أيها الإخوة ـ فإنهم مخذولون مهزومون، وخبر الله فيهم لا يتخلف: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } [آل عمران:111]، إنه ضر لا يؤدي إلى هدم كيان الأمة ولا إلى اضمحلالها، إنَّه ضمان قرآني حق، وخبَر إلهي صدق: { وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } [آل عمران:111]، إنَّها بشارات كريمة مشروطة بمحافظة الأمَّة على دينِها: { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [آل عمران:110]. فهل يهتدي المسلمون إلى العروة الوثقى ويعرفون كيف المُعْتَصَم؟! هل يهجرون السَّنَن ويتبعون السُّنَن؟! هل يرجعون عن اتباع السُّبُل ويتبعون السبيل؟! إن الأمل ما زال فيهم كبيرًا، وإن المسؤولية عليهم لعظيمة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:55-57].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه، واعلموا أنه لا أحسن دينًا ولا أشد تمسّكًا ولا أكمل إيمانًا ولا أتم يقينًا ممن أسلم وجهه لله وسلّم لأوامره ونواهيه، إذا قضى الله ورسوله أمرًا لم يتردد في تنفيذه وتطبيقه، وإذا بلغه نهي أو تحريم لم يتأخر عن اجتنابه والبعد عنه، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء:125]، {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [لقمان:22].
ألا فاتقوا الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون، وسلموا لأوامر الله واجتنبوا نواهيه، ولا تقولوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، فإن الدين كلٌّ لا يتجزّأ، ووحدة لا تتفرّق ليس ترك شيء من أوامره أو الوقوع في آخر من مناهيه هيّنًا ويسيرًا.
أيها المسلمون: إنَّكم في يوم عظيم سمَّاه الله يوم الحج الأكبَر، تتلوه أيام معدودات عظيمة، فعظموها بطَاعة الله وذكره، وأكثروا من حمدِه وشكرِه، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج:32]، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج:30]. ضحّوا وطيبوا نفسًا بضحاياكم، واذكروا الله على ما رزقكم وأن هداكم، فإنه ما عُبِد الله في يوم النحر بمثل إراقة دم الأضاحي، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، واعلموا أن الذبح ممتد إلى غروب الشمس من ثالث أيام التشريق، وأنه يشرع في هذه الأيام التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبة، فكبّروا وارفعوا به أصواتكم، وأحيوا سنة نبيكم نَضَّرَ الله وجوهكم، وصلوا وسلموا على خير الورى وأفضل من وطئ الثرى...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى