رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
أصناف الناس في الصلاة
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ , ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا , ومن سيِّئاتِ أعمالِنا , منْ يُهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يضلل فلا هاديَ له .
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله .(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102).(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1). ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) (الأحزاب:70-71) .
أما بعد : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعدُ أيها المسلمون :
ففي أعقاب معركةِ اليرموك الشهيرة ، وقف ملك الروم ، يسألُ فلول جيشه المهزوم ، وقف يسألهم والمرارة تعتصر قلبهُ ، والغيضُ يملئ صدره ، والحمق يكاد يذهب عقله ، ويلكم أخبروني عن هؤلاءِ الذين يقاتلونكم ، أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا بلا أيها الملك ، قال فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا بل نحن أكثر منهم في كل موطن ، قال : فما بالكم إذاً تنهزمون ؟ فأجابهُ شيخٌ من عظمائهم : إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل ، ويصومون النهار ، ويوفون بالعهد، ويتناصفون بينهم ، وصدق والله وهو كذُوب ، فهذه السجايا العظيمة ، وهذه الخصال الكريمة ، كانت هي أسباب تلك العزةِ ، والمجدَ التليد ، كانت هي الأسباب التي صنعت ملحمةَ الجهاد الكبرى ، ورسمت أقواس النصرِ الباهرة ، وأقامت حضارةَ الإسلامِ العالمية ، ومكنت القومَ من رقابِ عدوهم ، حتى دانت لهم الأرض وأهلها ، وأتتهم الدنيا وهي راغمة ، هذه الخصالُ الرفيعة ، هي التي انتقلت بأسلافنا تلك النِقِلة الضخمة ، من عتبات اللآت والعزى ، ومنآة الثلاثة الأخرى ، إلى منازل إياك نعبد و إياك نستعين ، حيث الأرواح المتطلعة إلى السماء ، والنفوس السابحة في العليا ، ولكن يا فرحةً لم تستمر ! ويا لبهجة لم تكتمل ! فقد تغيرت الحالُ ، وهوت الأمةُ من عليائها ، لتستقر في غبرائها ، وأصبحنا نحن الذين نتساءل اليوم ، لماذا نهوي ويرتفع خصومنا ، والجواب أيها الأحبة في الله ، كيف لا يكون ذلك وقد ضاعت تلك الخصال الرفيعة ، والقيم الساميةُ ، وليت الأمر توقف عند ذلك ، ليت الأمر توقف عند قيام الليل الذي أضعناه ، وصيام النهار الذي افتقدناه ، لهان الأمر, وما هو بهين ورب الكعبة ، ولكننا أضعنا ما هو أكبر من ذلك بكثير ، فالصلاة المفروضة ، عماد الدين وركنه الركين ، أصبحت اليوم محل استخفاف البعض, وسخريتهم ، واستهزائهم وتندرهم ، فهي ضائعة مهملة لدى الكثيرين ، منسية مؤخرة عن وقتها لدى آخرين ، تفعل في غير الجماعة لدى الباقين ، وما أشد خوفي والله أن يكون بعضنا قد اقترب كثيراً من وعيد الجبار جل جلاله : (( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً )) (مريم:59) .
وإذا كنا أحبة الكرام : إذا كنا جادين في محاولة إصلاح الأمةِ ، وبعث عزتها من جديد ، فنحن مدعون اليوم إلى بحث هذا الموضوع الشائك ، ومناقشةِ هذه القضية الجلل ، ومعالجة هذه المسألة المهمة ، كونها من كبريات القضايا ، وأمهات المسائل ، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
أيها المسلمون : ولوا ستعرضنا أحوال الناس, ومواقفهم من الصلاة لوجدناهم أصنافاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون ،
فأما صنف من الناس فقد غرتهم أنفسهم ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون ، هؤلاء لا يعرفون للصلاة قيمة ولا وزنا ، فلا يصلونها بالمرة ، أو يصلونها أحياناً ، أو عند المناسبات فقط ، فهم بحاجة والله جد ماسة ، إلى تصحيح أصل الإيمان في قلوبهم ، هم بحاجة إلى دعوتهم إلى الإسلام ، ومحاولة إقناعهم به ، كغيرهم من الكفار الخارجين عن دائرة الإسلام وإطاره المحدود .
ومهما كان الحكم قاسياً ، فهو حقيقةً لا تقبلُ الجدال أو المناقشة ، فالذي حكم بكفرهم هو الله ورسوله ، فأما الله جلا جلاله فيقول : (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين )) (التوبة: من الآية11)
ومفهوم الآية واضحٌ ويعني باختصارٍ شديد ، إن لم يقوموا الصلاة فليسوا أخوةٌ لنا في الدين ، أي إنهم مرتدون خارجون عن الإسلام وأهله ، أفهمتم يا من تتركون الصلاة ، وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم .
وفي القرآن الكريم : (( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ )) (المدثر. من الآية 42: 48 ) .
وما حِرمانهم من الشفاعة إلا دليل واضح على كفرهم وردتهم ، وخسارتهم الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين .
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد أعلنها صريحةً لا تقبلُ التأويل ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) [1].
وقال أيضا : (( بين الرجل وبين الشرك و الكفر ترك الصلاة )) [2].
وأما عبد الله بن الشْقِيق رحمه الله فينقل موقف صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ينقل موقفهم من تارك الصلاة فيقول: ( ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يعدون شيئاً تركه كفراً إلا الصلاة) .
وهو كما ترى أخي المسلم : موقف صارم لا رجعة فيه ولا تردد ، فترك الصلاة أيها الناس كفرٌ ورده ، وسفهٌ وجنون .
وأما الذين لا يعرفون الكفر, وما معناه : فالكفرُ جحيمٌ لا ينقضي ، وعذاب لا ينتهي ، الكفر بُئسٌ وعناء, ودماءٌ وأشلاء, الكفرُ زفراتٌ وآهات ، دموعٌ وعبرات ، (( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيم* يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ )) (الحج:22,21,20,19) . (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ* وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ )) (فاطر:37,36) .
إ(( ِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً )) (النساء:56) . (( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ )) (الزخرف:78,77) .
فاتقوا الله يا من تتركون الصلاة ، واعلموا أن هذا مصيركم مادمتم مصرين على تركها ، متهاونين في أدائها, ليعلم تاركو الصلاة كافةً أنهم يرتكبون خطأً قاتلا ، وتصرفاً مهلكاً ، يتوقف عليه مصيرهم كله ، وأنهم إن لم يتداركوا أنفسهم, ويكفوا عن عنادهم ، فهم سيؤولون لا محالة إلى تلك النهاية البائسة ، وذلك الليل المظلم ، وذاك العذاب الدائم المخيف ، ليعلم تاركو الصلاة أنهم لو أنفقوا ما في الأرض جميعا, ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ، ولهم عذاب مقيم .
إن ترك الصلاة أيها الناس والاستخفاف بها ، خطأٌ فادح بكل المقاييس ، وجنايةً مخزيةً بكل المعايير, لا ينفع معها ندمٌ, ولا اعتذار عند الوقوف بين يدي الواحد القهار ، إننا ندعوا هؤلاءِ بكل شفقةٍ وإخلاص ، ندعوهم والألم يعتصر قلوبَنَا خوفاً عليهم, ورأفت بهم ، ندعوهم إلى إعادة النظر في واقعهم ، ومُجريات حياتهم ، ندعوهم إلى مراجعة أنفسهم وتأمل أوضاعهم قبل فوات الأوان ، إننا ننصحوهم بأن لا تخدعوهم المظاهر ، ولا يغرهم ما هم فيه من الصحة, والعافية, والشباب, والقوة ، فما هي إلا سراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماءً, أو كبرقٍ خُلب سرعان ما يتلاشى و ينطفي ويزول فالصحة سيعقبها السقم ، والشباب يلاحقه الهرم ، والقوة آيلة إلى الضعف ، ولكن أكثر الناس لا يتفكرون .
ليتذكر تاركون الصلاة أنهم صائرون إلى قبورٍ موحشة ، وحفرٍ مظلمة ، وأنه لا ينفع ساعتها مالٌ ولا بنون ، ولا صديقٍ ولا صاحب .
ليعلم تاركُ الصلاة أن أصحابه الذين غروه ، في ترك الصلاة وإضاعةِ فريضة الله ، وزينوا لـه محاكاتهم وتقليدهم ، ليعلم جيداً أنه حين يفارقوهم ، فلن يذرفوا عليه سوى دموع التماسيح ، يعودن بعدها إلى مزاميرهم وطربهم وأنسهم ، غير مكترثين به ولا بألفٍ من أمثاله ، إنهم أنانيو الطباع ، ميتوا الإحساس ، لا همَّ لهم إلا أنفسهم وملذاتهم ، ولو فقدوا الآباء والأمهات ، فضلاً عن الأصحاب والخِلان .
فاستيقظ يا هذا من غفلتك ، وتنبه من نومتك ، فالحياة قصيرة وإن طالت ، والفرحة ذاهبة وإن دامت .
(( يَا أَيُّهَا الْإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ )) (الانفطار:7,6) .
(( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ )) (الانشقاق:6) . الإسلام يا هؤلاء ليس بالأسماء والصور، وليس بالدعوى والأماني ، ولكنه قول واعتقاد وعمل ، وأما الدعوى فستذهب أدراج الرياح ، ستذهب أدراج الرياح هباءً منثورا ، لا تزيد صاحبها إلا حسرة وثبورا .
أيها المسلمون : وصنف آخر من الناس يؤخرون الصلاة عن وقتها ، فهم يؤدونها حسب أهوائهم, وتبعاً لأمزجتهم ، ووفقاً لظروفهم ، فإذا كانوا نائمين أدُّوها عند الاستيقاظ ، وإذا كانوا مشغولين أدُّوها عند الفراغ ، فالصلاة أمر ثانوي في حياتهم ، وشيء ساذج في أذهانهم ، وما درى هؤلاء الواهمون أنهم المعنيون ، بقوله تعالى : (( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ )) (الماعون:5,4) .
قال مسروق رحمه الله : ( أي لا يفعلون الصلاة في وقتها المشروع) وعند البخاري عن الزهري قال : ( دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت ما يبكي ، فقال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضُيعت ) يعني أُخرت عن وقتها.
فتأمل رعاك الله ، تأمل مشهد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان ، ألماً وحسرة ، حين أخذ بنو أمية يؤخرون الصلاة عن وقتها ، مما أدمَ قلوب الغيورين على الصلاة ، وأسخن دموعهم ، وأثار حفِظتهم ، ومع ذلك كله فقد حرص الأسلاف على أدائها في وقتها المشروع ، وأن عرّضوا أنفسهم لبطش بني أمية وانتقامهم.
فعند عبد الرزاق عن عطاء أنه قال : (أخر الوليد بن عبد الملك الجمعة حتى أمسى, فجئت فصليت الظهر قبل أن أجلس ، ثم صليت العصر وأنا جالس إماء وهو يخطب ) .
وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن أبي إسماعيل قال : ( كنت بمنى ، وصحفٌ تقرأ للوليد ، فأخروا الصلاة فنظرت إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان إماءً وهما قاعدان ).
كما أخرج عن ابن عمر أنه كان يصلي مع الحجاج, فلما أخر الحجاج الصلاة ترك الصلاة معه) .
وهذه آثارٌ عن السلف ، تبين شدة حرصهم على أداء الصلاة في وقتها ، بالرغم من شدة بطش الوليد ، والحجاج بن يوسف الثقفي, الذي كان يسفك الدم الحرام ، كان يسفك الدم الحرام بمجرد الشبهة, فالحالة النشاز التي كان يصنعها بنو أمية ، لم تجعل فقهاء السلف وعلمائهم لم تجعلهم يوافقونهم في شذوذهم ذاك ، ولكنهم حرصوا كل الحرص ، واجتهدوا غاية الاجتهاد ، في حفظ صلواتهم وصونها ورعايتها ، مع أن حرصهم ذاك ، كان سيكلفهم حياتهم وأرواحهم .
فأين المؤخرون اليوم للصلاة ! أين هم عن تلك القمم السابقة ، والقدواة النادرة ، بل أين هم عن غيرة عمرَ يوم الخندق ، يوم جاء مغضبا حزينا مهموما مغموما ، يسب المشركين ، ويقول يا رسول الله : ما كدتُ أصلي العصر حتى غربت الشمس ، أين هؤلاء من غيرة عمر هذه ، أما يسأل الواحد منهم نفسه ؟ تُرى ما الذي أهمه ؟ ما الذي أغمه ؟ ما الذي أضاق صدره ؟ وكدر خاطره ؟ وأحزن قلبه ، وألهب فؤاده ؟ ثم ما الذي جعله يؤخر الصلاة عن وقتها أهو مشغول بسقي حديقة منزله ، أم لأنه مشغول بإصلاح عطل في سيارته ، أم لأنه مشغولٌ محرج بضيفٍ ثقيلٍ يتناول الشاي في مجلسه ، والجواب حاشا لله أن تحول أمور تافهة كهذه ، بين الفاروق وبين أداءه الصلاة ، في وقتها المعتاد المشروع ، ولكن شُغله الذي شغله هو الجهاد في سبيل الله, والدفاع عن مدينة رسول الله ، ومع ذلك فهو مغضب محزون ، مهموم مغموم ، فقد كان حب الصلاة وحرصه عليها يجري في دمه ، وينبض مع عروقه ، أليس هو الذي يطعن بخنجر أبي لؤلؤة المسموم, فيُحمل إلى بيته بين الحياة والموت, فيقولون يا أمير المؤمنين : الصلاة الصلاة ، فيقول نعم الصلاة لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، لم ينس المسلمون الصلاة ولم ينسها عمر مع شدة الكرب, وهول الفجيعة .
وإن تعجب أخي المسلم ! تعجب من مواقف عمر هذه ، فعجبٌ موقف ابن الزبير والحجاج محاصر لـه في البيت الحرام ، ويتخلى عنه أكثر أعوانه ، فلا يمنعه ذلك من النهوض إلى مصلاه في كل وقت غير مكترث أو مبالٍ بعدوه الحقود ، الذي كان يطلب حياته بأي ثمن ، حتى لو أحرقت الكعبة ، وسالت أروقة المسجد الحرام دماً زكيا ، ولعمر الحق ما ترك ابن الزبير صلاة واحدة في وقتها طيلة حصار الحجاج له ، حتى هوت عليه قذيفة ألزمته الأرض بعد ذلك ، لقد كانوا يقدرون الصلاة حق قدرها ، ويرعونها حق رعايتها ، ويؤدونها في أوقاتها ، مهما أدلهم الخطب ، وتأزمت المواقف ، ولماذا لا يؤدونها في أوقاتها وصوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلجل في آذانهم ، ويصول في قلوبهم, وهو يقول : كما عند البخاري من حديث بريده : (( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)) .
فرحماك يا إلهي! من ترك صلاة واحدة حبط عمله ، فكيف بمن يؤخر صلاتين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة كل يوم .
فاتقوا الله يأمن تؤخرون الصلاة عن وقتها, وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، فاستيقظوا من سباتكم يا هؤلاء ، وأفيقوا من أحلامكم ، واعتقوا رقابكم من غضب الله وناره وجحيمه ونكاله .
وأما النائمون عن صلاة الفجر والعصر خاصة ، فعند البخاري وأحمد من حديث سمرة قال عليه الصلاة والسلام في حديث الرؤيا الطويل ،(( أتاني الليلة آتيان ، وإنهما ابتعثاني ، وإنهما قالا لي انطلق ، فانطلقت معهما وإنَّا أتينا على رجلٍ مضطجعٍ ، وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرة ، وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه ، فيثلغ رأسه ، ثم يتبع الحجر فيأخذه ، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود إليه فيفعل به مثل ما فعل به في المرة الأولى ، وفي آخر الحديث : أُوّل لرسول الله r ، هذا الذي يضرب رأسه بالصخرة ، فقيل هو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه, وينام عن الصلاة المكتوبة )) [3].
أرأيت ، أرأيت يا من تنام عن صلاة الفجر, ويا من تنام عن العصر أرأيت ما ينتظر من العذاب ، وأنت غافل لا هي ، لا تدري ماذا يراد بك ، وماذا يهيأ لك ، فاتق الله وألق عن نفسك الكسل والخمول .
فالمسألةُ ليست أحاديث صبيان, ولا ألاعيب مراهقين ، ولكنها جدٌ ورب الكعبة ، وإنّ غداً للـناظره قريب .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين .
أما بعدُ أيها الناس : فأما الصنف الثالث من الناس فهم أقوامٌ حريصون كل الحرص على أداء الصلاة في أوقاتها بكل حماسٍ وإصرارٍ لكن حماسهم يخبُ, وإصرارهم يضعف عن أداء الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد ، فإبراءً لذمتنا, وإخلاءً لعُهدتنا أمام الله نسوق إليهم هذه الأدلة الثابتة, والحجج الراسخة ، التي تؤكدُ وجوب صلاة الجماعة في المساجد ، وأن من يظن غير هذا فهو يعيش وهماً كبيراً ، ويرتكب خطأً فادحاً وفي مقدم تلك الأدلة وأبلغها أثراً ما أوجبه الله تعالى على المجاهدين وهم يخوضون غمار المعركة في أحلك ساعاتِ النزال ، ما أوجبه الله عليهم من لزوم الجماعة ، فهو القائل جل وعلا : (( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)) (النساء: من الآية102) .
أرأيت أيها المبارك : أرأيت كيف فرض الله الجماعة في أحلك الظروف, وأحرج المواقف ، طائفة تصلي ، وأخرى تحرس ، ثم تتغير المواقع ، فالتي كانت في الصلاة تنتقل للحراسة ، والتي كانت في الحراسة تنتظم في الصلاة جماعة ، كل ذلك والعدو متربص متحفز قد أقبل بخيله ورجله ، وقضه وقضيضه .
تأمل أيها الأخ الكريم ، بعين الإنصاف والتجرد ، كيف أوجب الله الجماعة في تلك الظروف العصيبة ، حيث تخضبت السيوف بدمائها ، وتطايرت الرؤوس عن أعناقها ، فكيف يكون الحال ، كيف يكون الحال إذاً للآمنين في بيوتهم ، المطمئنين بين أهليهم وذر أريهم ، ندع الإجابة لك أيها اللبيب ، ولا نحسبك إلا منصفاً ، تقول الحق ولو على نفسك ، أما الحديث المتفق على صحته ففيه يقول عليه الصلاة والسلام : (( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، - يعني لا يشهدون الجماعة- فأحرق عليهم بيوتهم في النار )) [4].
وجاء بصيغة أُحرق لإفادة التكثير والمبالغة ، يا سبحان الله! رسول الله الذي وصفه ربه بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم, يهم بإحراق البيوت على أهلها حين تخلفوا عن الجماعة ، فأي شيء يدل عليه ذلك ، إلا كونها واجبة متعينة في المسجد ، وأن أدائها في البيوت ذنب عظيم ، وجرم خطير ، وخطأ فادح بكل المقاييس ، كيف لا وقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً (( من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة لـه إلا من عذر)) [5].
رواه أبي داود وابن حبان (( قالوا يا رسول الله وما العذر ؟ قال : خوف أو مرض)) .
إذاً فليس من العذر في ترك الجماعة يا مسلمون حب الراحة, والاسترخاء أو شرب القهوة والشاي ، أو مطالعة الصحف والمجلات ، أو استقبال الضيوف أو تودعهم ، بل ليس من العذر في ترك الجماعة ، قراءة القرآن أو الطواف بالبيت الحرام ، وأي عذر لهؤلاء ، وقد جاء الأعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . جاء يشكو بُعد داره ، ووعرة طريقه ، وفقدانه لقائد يلائمه, ويسأل رخصة أن يصلي في بيته ، فيقول له الرؤوف الرحيم أتسمع النداء قال نعم ، قال : أجب فإني لا أجد لك رخصة ! أفتكون الرخصة إذاً لذوي السمع الرهيف ، والبصر الحاد ، أفتكون الرخصة لمن أحاطت بهم المساجد من كل جانب ، وذللت لهم الطرق ، وعبدت لهم الشوارع ، سبحانك هذا بهتان عظيم .
فاتقوا الله أيها الزاهدون في الجماعة ، وتذكروا أحوال أسلافكم ، وكيف كانوا شديد الاهتمام بها ، عظيم الخوف عليها ، تذكروا موقف الخليفة الشهيد ، عثمان رضي الله عنه ، وقد حاصره السبئيون في المدينة ، يطلبون دمه ، ويمنعونه من إمامة الناس ، فلا يمنعه حصارهم إياه ، وظلمهم له ، وخروجهم عليه من الصلاة خلفهم حرصاً على الجماعة ، وإبراءً للذمة عند البخاري من حديث عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان وهو محصور ، فقال لـه يا إمام : إنك إمام عامة ، ونزل بك ما نرى ، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج ، فقال رضي الله عنه : الصلاة أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساءُوا فاجتنب إساءتهم ،
أيها المسلمون : لقد آن الأوان أن نعيد النظر في أوضاعنا ، ونصحح مفاهيمنا وأخطاءنا ، ونقّوم سلوكنا وتصرفاتنا ، فنحن أمةٌ خُلقت لتكون قائدة ، ووجدت لتكون رائدة ، والقيادة والريادة لا تحصلان لأمة ، ما زالت تناقش أعظم شعائر دينها ، هل هي واجبة في الجماعة أم لا ؟ وهي مسألة محسومة منذ زمن طويل ، محسومة في كتاب الله وسنة نبيه ، بكل إشراقةٍ ووضوح ، فلماذا يصر أقوامٌ على الجدال بالباطل ، والمدافعة بغير الحق ، جرياً وراء بعض شذ وذات بعض الفقهاء ، وموافقة لدواعي النفس والهوى .
ألا إنها دعوةٌ إلى عمارة بيوت الله بالذكر, والتسبيح, وصلاة الجماعة ، ألا إنها دعوةُ إلى الجنة ، فوق مراكب من التقى, والعمل الصالح ، والتوبة النصوح ، والله غالبٌ على أمره, ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
[1] رواه أبن حبان (1454) عن عبد الله ابن بريده عن أبيه .
[2] رواه الإمام مسلم (82) من حديث أبي سفيان رضي الله عنه .
[3] رواه البخاري ( 1092) من حديث سمرة بن جندب t .
[4] رواه أبو داود (548) من حديث أبي هريرة َرضي الله عنه .
[5] رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي
أصناف الناس في الصلاة
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ , ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا , ومن سيِّئاتِ أعمالِنا , منْ يُهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يضلل فلا هاديَ له .
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله .(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102).(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1). ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) (الأحزاب:70-71) .
أما بعد : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعدُ أيها المسلمون :
ففي أعقاب معركةِ اليرموك الشهيرة ، وقف ملك الروم ، يسألُ فلول جيشه المهزوم ، وقف يسألهم والمرارة تعتصر قلبهُ ، والغيضُ يملئ صدره ، والحمق يكاد يذهب عقله ، ويلكم أخبروني عن هؤلاءِ الذين يقاتلونكم ، أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا بلا أيها الملك ، قال فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا بل نحن أكثر منهم في كل موطن ، قال : فما بالكم إذاً تنهزمون ؟ فأجابهُ شيخٌ من عظمائهم : إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل ، ويصومون النهار ، ويوفون بالعهد، ويتناصفون بينهم ، وصدق والله وهو كذُوب ، فهذه السجايا العظيمة ، وهذه الخصال الكريمة ، كانت هي أسباب تلك العزةِ ، والمجدَ التليد ، كانت هي الأسباب التي صنعت ملحمةَ الجهاد الكبرى ، ورسمت أقواس النصرِ الباهرة ، وأقامت حضارةَ الإسلامِ العالمية ، ومكنت القومَ من رقابِ عدوهم ، حتى دانت لهم الأرض وأهلها ، وأتتهم الدنيا وهي راغمة ، هذه الخصالُ الرفيعة ، هي التي انتقلت بأسلافنا تلك النِقِلة الضخمة ، من عتبات اللآت والعزى ، ومنآة الثلاثة الأخرى ، إلى منازل إياك نعبد و إياك نستعين ، حيث الأرواح المتطلعة إلى السماء ، والنفوس السابحة في العليا ، ولكن يا فرحةً لم تستمر ! ويا لبهجة لم تكتمل ! فقد تغيرت الحالُ ، وهوت الأمةُ من عليائها ، لتستقر في غبرائها ، وأصبحنا نحن الذين نتساءل اليوم ، لماذا نهوي ويرتفع خصومنا ، والجواب أيها الأحبة في الله ، كيف لا يكون ذلك وقد ضاعت تلك الخصال الرفيعة ، والقيم الساميةُ ، وليت الأمر توقف عند ذلك ، ليت الأمر توقف عند قيام الليل الذي أضعناه ، وصيام النهار الذي افتقدناه ، لهان الأمر, وما هو بهين ورب الكعبة ، ولكننا أضعنا ما هو أكبر من ذلك بكثير ، فالصلاة المفروضة ، عماد الدين وركنه الركين ، أصبحت اليوم محل استخفاف البعض, وسخريتهم ، واستهزائهم وتندرهم ، فهي ضائعة مهملة لدى الكثيرين ، منسية مؤخرة عن وقتها لدى آخرين ، تفعل في غير الجماعة لدى الباقين ، وما أشد خوفي والله أن يكون بعضنا قد اقترب كثيراً من وعيد الجبار جل جلاله : (( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً )) (مريم:59) .
وإذا كنا أحبة الكرام : إذا كنا جادين في محاولة إصلاح الأمةِ ، وبعث عزتها من جديد ، فنحن مدعون اليوم إلى بحث هذا الموضوع الشائك ، ومناقشةِ هذه القضية الجلل ، ومعالجة هذه المسألة المهمة ، كونها من كبريات القضايا ، وأمهات المسائل ، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
أيها المسلمون : ولوا ستعرضنا أحوال الناس, ومواقفهم من الصلاة لوجدناهم أصنافاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون ،
فأما صنف من الناس فقد غرتهم أنفسهم ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون ، هؤلاء لا يعرفون للصلاة قيمة ولا وزنا ، فلا يصلونها بالمرة ، أو يصلونها أحياناً ، أو عند المناسبات فقط ، فهم بحاجة والله جد ماسة ، إلى تصحيح أصل الإيمان في قلوبهم ، هم بحاجة إلى دعوتهم إلى الإسلام ، ومحاولة إقناعهم به ، كغيرهم من الكفار الخارجين عن دائرة الإسلام وإطاره المحدود .
ومهما كان الحكم قاسياً ، فهو حقيقةً لا تقبلُ الجدال أو المناقشة ، فالذي حكم بكفرهم هو الله ورسوله ، فأما الله جلا جلاله فيقول : (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين )) (التوبة: من الآية11)
ومفهوم الآية واضحٌ ويعني باختصارٍ شديد ، إن لم يقوموا الصلاة فليسوا أخوةٌ لنا في الدين ، أي إنهم مرتدون خارجون عن الإسلام وأهله ، أفهمتم يا من تتركون الصلاة ، وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم .
وفي القرآن الكريم : (( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ )) (المدثر. من الآية 42: 48 ) .
وما حِرمانهم من الشفاعة إلا دليل واضح على كفرهم وردتهم ، وخسارتهم الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين .
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد أعلنها صريحةً لا تقبلُ التأويل ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) [1].
وقال أيضا : (( بين الرجل وبين الشرك و الكفر ترك الصلاة )) [2].
وأما عبد الله بن الشْقِيق رحمه الله فينقل موقف صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ينقل موقفهم من تارك الصلاة فيقول: ( ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يعدون شيئاً تركه كفراً إلا الصلاة) .
وهو كما ترى أخي المسلم : موقف صارم لا رجعة فيه ولا تردد ، فترك الصلاة أيها الناس كفرٌ ورده ، وسفهٌ وجنون .
وأما الذين لا يعرفون الكفر, وما معناه : فالكفرُ جحيمٌ لا ينقضي ، وعذاب لا ينتهي ، الكفر بُئسٌ وعناء, ودماءٌ وأشلاء, الكفرُ زفراتٌ وآهات ، دموعٌ وعبرات ، (( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيم* يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ )) (الحج:22,21,20,19) . (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ* وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ )) (فاطر:37,36) .
إ(( ِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً )) (النساء:56) . (( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ )) (الزخرف:78,77) .
فاتقوا الله يا من تتركون الصلاة ، واعلموا أن هذا مصيركم مادمتم مصرين على تركها ، متهاونين في أدائها, ليعلم تاركو الصلاة كافةً أنهم يرتكبون خطأً قاتلا ، وتصرفاً مهلكاً ، يتوقف عليه مصيرهم كله ، وأنهم إن لم يتداركوا أنفسهم, ويكفوا عن عنادهم ، فهم سيؤولون لا محالة إلى تلك النهاية البائسة ، وذلك الليل المظلم ، وذاك العذاب الدائم المخيف ، ليعلم تاركو الصلاة أنهم لو أنفقوا ما في الأرض جميعا, ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ، ولهم عذاب مقيم .
إن ترك الصلاة أيها الناس والاستخفاف بها ، خطأٌ فادح بكل المقاييس ، وجنايةً مخزيةً بكل المعايير, لا ينفع معها ندمٌ, ولا اعتذار عند الوقوف بين يدي الواحد القهار ، إننا ندعوا هؤلاءِ بكل شفقةٍ وإخلاص ، ندعوهم والألم يعتصر قلوبَنَا خوفاً عليهم, ورأفت بهم ، ندعوهم إلى إعادة النظر في واقعهم ، ومُجريات حياتهم ، ندعوهم إلى مراجعة أنفسهم وتأمل أوضاعهم قبل فوات الأوان ، إننا ننصحوهم بأن لا تخدعوهم المظاهر ، ولا يغرهم ما هم فيه من الصحة, والعافية, والشباب, والقوة ، فما هي إلا سراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماءً, أو كبرقٍ خُلب سرعان ما يتلاشى و ينطفي ويزول فالصحة سيعقبها السقم ، والشباب يلاحقه الهرم ، والقوة آيلة إلى الضعف ، ولكن أكثر الناس لا يتفكرون .
ليتذكر تاركون الصلاة أنهم صائرون إلى قبورٍ موحشة ، وحفرٍ مظلمة ، وأنه لا ينفع ساعتها مالٌ ولا بنون ، ولا صديقٍ ولا صاحب .
ليعلم تاركُ الصلاة أن أصحابه الذين غروه ، في ترك الصلاة وإضاعةِ فريضة الله ، وزينوا لـه محاكاتهم وتقليدهم ، ليعلم جيداً أنه حين يفارقوهم ، فلن يذرفوا عليه سوى دموع التماسيح ، يعودن بعدها إلى مزاميرهم وطربهم وأنسهم ، غير مكترثين به ولا بألفٍ من أمثاله ، إنهم أنانيو الطباع ، ميتوا الإحساس ، لا همَّ لهم إلا أنفسهم وملذاتهم ، ولو فقدوا الآباء والأمهات ، فضلاً عن الأصحاب والخِلان .
فاستيقظ يا هذا من غفلتك ، وتنبه من نومتك ، فالحياة قصيرة وإن طالت ، والفرحة ذاهبة وإن دامت .
(( يَا أَيُّهَا الْإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ )) (الانفطار:7,6) .
(( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ )) (الانشقاق:6) . الإسلام يا هؤلاء ليس بالأسماء والصور، وليس بالدعوى والأماني ، ولكنه قول واعتقاد وعمل ، وأما الدعوى فستذهب أدراج الرياح ، ستذهب أدراج الرياح هباءً منثورا ، لا تزيد صاحبها إلا حسرة وثبورا .
أيها المسلمون : وصنف آخر من الناس يؤخرون الصلاة عن وقتها ، فهم يؤدونها حسب أهوائهم, وتبعاً لأمزجتهم ، ووفقاً لظروفهم ، فإذا كانوا نائمين أدُّوها عند الاستيقاظ ، وإذا كانوا مشغولين أدُّوها عند الفراغ ، فالصلاة أمر ثانوي في حياتهم ، وشيء ساذج في أذهانهم ، وما درى هؤلاء الواهمون أنهم المعنيون ، بقوله تعالى : (( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ )) (الماعون:5,4) .
قال مسروق رحمه الله : ( أي لا يفعلون الصلاة في وقتها المشروع) وعند البخاري عن الزهري قال : ( دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت ما يبكي ، فقال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضُيعت ) يعني أُخرت عن وقتها.
فتأمل رعاك الله ، تأمل مشهد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان ، ألماً وحسرة ، حين أخذ بنو أمية يؤخرون الصلاة عن وقتها ، مما أدمَ قلوب الغيورين على الصلاة ، وأسخن دموعهم ، وأثار حفِظتهم ، ومع ذلك كله فقد حرص الأسلاف على أدائها في وقتها المشروع ، وأن عرّضوا أنفسهم لبطش بني أمية وانتقامهم.
فعند عبد الرزاق عن عطاء أنه قال : (أخر الوليد بن عبد الملك الجمعة حتى أمسى, فجئت فصليت الظهر قبل أن أجلس ، ثم صليت العصر وأنا جالس إماء وهو يخطب ) .
وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن أبي إسماعيل قال : ( كنت بمنى ، وصحفٌ تقرأ للوليد ، فأخروا الصلاة فنظرت إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان إماءً وهما قاعدان ).
كما أخرج عن ابن عمر أنه كان يصلي مع الحجاج, فلما أخر الحجاج الصلاة ترك الصلاة معه) .
وهذه آثارٌ عن السلف ، تبين شدة حرصهم على أداء الصلاة في وقتها ، بالرغم من شدة بطش الوليد ، والحجاج بن يوسف الثقفي, الذي كان يسفك الدم الحرام ، كان يسفك الدم الحرام بمجرد الشبهة, فالحالة النشاز التي كان يصنعها بنو أمية ، لم تجعل فقهاء السلف وعلمائهم لم تجعلهم يوافقونهم في شذوذهم ذاك ، ولكنهم حرصوا كل الحرص ، واجتهدوا غاية الاجتهاد ، في حفظ صلواتهم وصونها ورعايتها ، مع أن حرصهم ذاك ، كان سيكلفهم حياتهم وأرواحهم .
فأين المؤخرون اليوم للصلاة ! أين هم عن تلك القمم السابقة ، والقدواة النادرة ، بل أين هم عن غيرة عمرَ يوم الخندق ، يوم جاء مغضبا حزينا مهموما مغموما ، يسب المشركين ، ويقول يا رسول الله : ما كدتُ أصلي العصر حتى غربت الشمس ، أين هؤلاء من غيرة عمر هذه ، أما يسأل الواحد منهم نفسه ؟ تُرى ما الذي أهمه ؟ ما الذي أغمه ؟ ما الذي أضاق صدره ؟ وكدر خاطره ؟ وأحزن قلبه ، وألهب فؤاده ؟ ثم ما الذي جعله يؤخر الصلاة عن وقتها أهو مشغول بسقي حديقة منزله ، أم لأنه مشغول بإصلاح عطل في سيارته ، أم لأنه مشغولٌ محرج بضيفٍ ثقيلٍ يتناول الشاي في مجلسه ، والجواب حاشا لله أن تحول أمور تافهة كهذه ، بين الفاروق وبين أداءه الصلاة ، في وقتها المعتاد المشروع ، ولكن شُغله الذي شغله هو الجهاد في سبيل الله, والدفاع عن مدينة رسول الله ، ومع ذلك فهو مغضب محزون ، مهموم مغموم ، فقد كان حب الصلاة وحرصه عليها يجري في دمه ، وينبض مع عروقه ، أليس هو الذي يطعن بخنجر أبي لؤلؤة المسموم, فيُحمل إلى بيته بين الحياة والموت, فيقولون يا أمير المؤمنين : الصلاة الصلاة ، فيقول نعم الصلاة لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، لم ينس المسلمون الصلاة ولم ينسها عمر مع شدة الكرب, وهول الفجيعة .
وإن تعجب أخي المسلم ! تعجب من مواقف عمر هذه ، فعجبٌ موقف ابن الزبير والحجاج محاصر لـه في البيت الحرام ، ويتخلى عنه أكثر أعوانه ، فلا يمنعه ذلك من النهوض إلى مصلاه في كل وقت غير مكترث أو مبالٍ بعدوه الحقود ، الذي كان يطلب حياته بأي ثمن ، حتى لو أحرقت الكعبة ، وسالت أروقة المسجد الحرام دماً زكيا ، ولعمر الحق ما ترك ابن الزبير صلاة واحدة في وقتها طيلة حصار الحجاج له ، حتى هوت عليه قذيفة ألزمته الأرض بعد ذلك ، لقد كانوا يقدرون الصلاة حق قدرها ، ويرعونها حق رعايتها ، ويؤدونها في أوقاتها ، مهما أدلهم الخطب ، وتأزمت المواقف ، ولماذا لا يؤدونها في أوقاتها وصوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلجل في آذانهم ، ويصول في قلوبهم, وهو يقول : كما عند البخاري من حديث بريده : (( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)) .
فرحماك يا إلهي! من ترك صلاة واحدة حبط عمله ، فكيف بمن يؤخر صلاتين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة كل يوم .
فاتقوا الله يأمن تؤخرون الصلاة عن وقتها, وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، فاستيقظوا من سباتكم يا هؤلاء ، وأفيقوا من أحلامكم ، واعتقوا رقابكم من غضب الله وناره وجحيمه ونكاله .
وأما النائمون عن صلاة الفجر والعصر خاصة ، فعند البخاري وأحمد من حديث سمرة قال عليه الصلاة والسلام في حديث الرؤيا الطويل ،(( أتاني الليلة آتيان ، وإنهما ابتعثاني ، وإنهما قالا لي انطلق ، فانطلقت معهما وإنَّا أتينا على رجلٍ مضطجعٍ ، وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرة ، وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه ، فيثلغ رأسه ، ثم يتبع الحجر فيأخذه ، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود إليه فيفعل به مثل ما فعل به في المرة الأولى ، وفي آخر الحديث : أُوّل لرسول الله r ، هذا الذي يضرب رأسه بالصخرة ، فقيل هو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه, وينام عن الصلاة المكتوبة )) [3].
أرأيت ، أرأيت يا من تنام عن صلاة الفجر, ويا من تنام عن العصر أرأيت ما ينتظر من العذاب ، وأنت غافل لا هي ، لا تدري ماذا يراد بك ، وماذا يهيأ لك ، فاتق الله وألق عن نفسك الكسل والخمول .
فالمسألةُ ليست أحاديث صبيان, ولا ألاعيب مراهقين ، ولكنها جدٌ ورب الكعبة ، وإنّ غداً للـناظره قريب .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين .
أما بعدُ أيها الناس : فأما الصنف الثالث من الناس فهم أقوامٌ حريصون كل الحرص على أداء الصلاة في أوقاتها بكل حماسٍ وإصرارٍ لكن حماسهم يخبُ, وإصرارهم يضعف عن أداء الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد ، فإبراءً لذمتنا, وإخلاءً لعُهدتنا أمام الله نسوق إليهم هذه الأدلة الثابتة, والحجج الراسخة ، التي تؤكدُ وجوب صلاة الجماعة في المساجد ، وأن من يظن غير هذا فهو يعيش وهماً كبيراً ، ويرتكب خطأً فادحاً وفي مقدم تلك الأدلة وأبلغها أثراً ما أوجبه الله تعالى على المجاهدين وهم يخوضون غمار المعركة في أحلك ساعاتِ النزال ، ما أوجبه الله عليهم من لزوم الجماعة ، فهو القائل جل وعلا : (( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)) (النساء: من الآية102) .
أرأيت أيها المبارك : أرأيت كيف فرض الله الجماعة في أحلك الظروف, وأحرج المواقف ، طائفة تصلي ، وأخرى تحرس ، ثم تتغير المواقع ، فالتي كانت في الصلاة تنتقل للحراسة ، والتي كانت في الحراسة تنتظم في الصلاة جماعة ، كل ذلك والعدو متربص متحفز قد أقبل بخيله ورجله ، وقضه وقضيضه .
تأمل أيها الأخ الكريم ، بعين الإنصاف والتجرد ، كيف أوجب الله الجماعة في تلك الظروف العصيبة ، حيث تخضبت السيوف بدمائها ، وتطايرت الرؤوس عن أعناقها ، فكيف يكون الحال ، كيف يكون الحال إذاً للآمنين في بيوتهم ، المطمئنين بين أهليهم وذر أريهم ، ندع الإجابة لك أيها اللبيب ، ولا نحسبك إلا منصفاً ، تقول الحق ولو على نفسك ، أما الحديث المتفق على صحته ففيه يقول عليه الصلاة والسلام : (( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، - يعني لا يشهدون الجماعة- فأحرق عليهم بيوتهم في النار )) [4].
وجاء بصيغة أُحرق لإفادة التكثير والمبالغة ، يا سبحان الله! رسول الله الذي وصفه ربه بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم, يهم بإحراق البيوت على أهلها حين تخلفوا عن الجماعة ، فأي شيء يدل عليه ذلك ، إلا كونها واجبة متعينة في المسجد ، وأن أدائها في البيوت ذنب عظيم ، وجرم خطير ، وخطأ فادح بكل المقاييس ، كيف لا وقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً (( من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة لـه إلا من عذر)) [5].
رواه أبي داود وابن حبان (( قالوا يا رسول الله وما العذر ؟ قال : خوف أو مرض)) .
إذاً فليس من العذر في ترك الجماعة يا مسلمون حب الراحة, والاسترخاء أو شرب القهوة والشاي ، أو مطالعة الصحف والمجلات ، أو استقبال الضيوف أو تودعهم ، بل ليس من العذر في ترك الجماعة ، قراءة القرآن أو الطواف بالبيت الحرام ، وأي عذر لهؤلاء ، وقد جاء الأعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . جاء يشكو بُعد داره ، ووعرة طريقه ، وفقدانه لقائد يلائمه, ويسأل رخصة أن يصلي في بيته ، فيقول له الرؤوف الرحيم أتسمع النداء قال نعم ، قال : أجب فإني لا أجد لك رخصة ! أفتكون الرخصة إذاً لذوي السمع الرهيف ، والبصر الحاد ، أفتكون الرخصة لمن أحاطت بهم المساجد من كل جانب ، وذللت لهم الطرق ، وعبدت لهم الشوارع ، سبحانك هذا بهتان عظيم .
فاتقوا الله أيها الزاهدون في الجماعة ، وتذكروا أحوال أسلافكم ، وكيف كانوا شديد الاهتمام بها ، عظيم الخوف عليها ، تذكروا موقف الخليفة الشهيد ، عثمان رضي الله عنه ، وقد حاصره السبئيون في المدينة ، يطلبون دمه ، ويمنعونه من إمامة الناس ، فلا يمنعه حصارهم إياه ، وظلمهم له ، وخروجهم عليه من الصلاة خلفهم حرصاً على الجماعة ، وإبراءً للذمة عند البخاري من حديث عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان وهو محصور ، فقال لـه يا إمام : إنك إمام عامة ، ونزل بك ما نرى ، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج ، فقال رضي الله عنه : الصلاة أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساءُوا فاجتنب إساءتهم ،
أيها المسلمون : لقد آن الأوان أن نعيد النظر في أوضاعنا ، ونصحح مفاهيمنا وأخطاءنا ، ونقّوم سلوكنا وتصرفاتنا ، فنحن أمةٌ خُلقت لتكون قائدة ، ووجدت لتكون رائدة ، والقيادة والريادة لا تحصلان لأمة ، ما زالت تناقش أعظم شعائر دينها ، هل هي واجبة في الجماعة أم لا ؟ وهي مسألة محسومة منذ زمن طويل ، محسومة في كتاب الله وسنة نبيه ، بكل إشراقةٍ ووضوح ، فلماذا يصر أقوامٌ على الجدال بالباطل ، والمدافعة بغير الحق ، جرياً وراء بعض شذ وذات بعض الفقهاء ، وموافقة لدواعي النفس والهوى .
ألا إنها دعوةٌ إلى عمارة بيوت الله بالذكر, والتسبيح, وصلاة الجماعة ، ألا إنها دعوةُ إلى الجنة ، فوق مراكب من التقى, والعمل الصالح ، والتوبة النصوح ، والله غالبٌ على أمره, ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
[1] رواه أبن حبان (1454) عن عبد الله ابن بريده عن أبيه .
[2] رواه الإمام مسلم (82) من حديث أبي سفيان رضي الله عنه .
[3] رواه البخاري ( 1092) من حديث سمرة بن جندب t .
[4] رواه أبو داود (548) من حديث أبي هريرة َرضي الله عنه .
[5] رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى