مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د.محمد بن عبد الله الهبدان
وقفات مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ، ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ، ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102) . (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1) . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) (الأحزاب:70-71) .
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرُّ الأمورِ مـُحدثاتُها، وكل محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ،
أيها الأخوة في الله : حيث إن الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له من الأهمية ما له، وله من المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة ، الذي به تصل الأمة إلى عليائها ، ويعلو سناؤها، ويزهو شبابها ، وترتفع راياتها، والذي بدونه تستقر الأمة في غبرائها، ويقل شأنها ، ويكثر شرها، ويقل خيرها، وتفقد الأمة أمنها، ويُعظم الفجار، ويهان الأخيار ، وتدنس الأعراض، وتسرق الأموال، وتضيع الحقوق ..
لذا سنتكلم في هذه الخطبة إن شاء الله تعالى عن وقفات معدودات عن هذه القضية الجلل :
الوقفة الأولى : إن مما نعانيه كثيرا، في كثير من قضايانا ، تلك السلبية المقيتة ألا وهي أن الكثير منا غايته أن يملأ المجالس بالشكوى والتذمر من الواقع، وذكر المنكرات المتنوعة، والمفاسدة المختلفة ، وما إن يفترق الجميع إلا وينسى كل واحد منهم ما قيل ، ويذهب إلى منزله ليقيل ، وينسى الكثير من القال والقيل ،وبعضهم يتحسر ويتألم على واقعه الذي يعيشه ويكاد يقتله الغم والهم ، ولكن هذا الصنف من الناس يُحرقون أنفسهم بنفسهم دون أن يقدموا شيئا، فهم يتألمون ويتحسرون ، ولكن ماذا ينفع التألم والتحسر إن لم يقدموا شيئا ؟
دون أن يخرجوا بنتائج نافعة، وحلول ناجعة ، يعالجون فيها بعض الشرور، ويخففون من خلالها بعض الأمور، فما كان من مقدورهم فعلوه ،وإلا أوصلوه إلى من يمكنه الإفادة، من المسؤولين وغيرهم للتعاون معهم للقضاء على هذا الأمر، إنهم لو فعلوا ذلك لحصل بذلك خير كثير ،ولا زال الكثير من الشرور، ولتحول قولنا فعلا ، ولتغير الحال وتبدل المقال، ولا يحقر أحدنا نفسه، ويستصغر شأنه، فرب زيارة واحدة تغير منكرا عظيما، ورب رسالة صغيرة ينفع الله بها وتمنع من الشر ما الله به عليم .فلو تعاون الجميع مثلا في الامتناع من الشراء من أصحاب المحلات التي تبيع ما حرم الله من مجلات ودخان ونحوها فهل سيبقى أحد يبيع شيئا منها ؟ ولو تعاون الجميع بالامتناع عن شراء صحيفة ما ؛ تجرأت على حدود الله وأظهرت على صفحاتها ما حرم الله فهل ستفعل هذا مرة أخرى ؟ ولو أن كل واحد منا رأى امرأة متبرجة أنكر عليها بالتي هي أحسن وأمرها بالعفة لما انتشر التبرج بهذه الحال التي نراها اليوم ..ولو أن كل جار ناصح جاره وأنكر عليه وضعه للأطباق السوداء لما انتشرت هذا الانتشار ، ولكن يا حسرة على العباد ، أصبح هم الواحد منا ثرثرة الكلام في المجالس ونقل الأخبار ،والاسترجاع والحوقلة - وإن كانت مطلوبة - ولا يسعى للإصلاح وهذا منذر بالعقوبة العاجلة والآجلة .
الوقفة الثانية : إن إنكار المنكر ليس وقفا على أهل الحسبة فحسب ، بل يتعداهم إلى كل مسلم يقدر على ذلك بيده ولسانه وبحسب المصلحة الشرعية ، وأما الإنكار بالقلب فلا يعذر أحد بتركه قال r : (( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه ، فإن لم يستطيع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) رواه مسلم .
قال العلامة بن باز حفظه الله تعالى : ( عند قلة الدعاة ، وعند كثرة المنكرات ، و عند غلبة الجهل ،كحالنا اليوم، تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته ) [1]
ولو تأملنا أيها الأخوة واقع المنكرات في مجتمعنا ، لوجدنا أن كل واحد منا يتحمل تبعة الكثير منها ، وحتى تعلم أني لا أُلقي الكلام جزافا ولكني انطلق من واقع مشاهد :
أيها الأخوة : من الذي يحضر الطبق الأسود لمنزله ؟
من الذي يشتري المجلات الهابطة ؟ والأفلام الفاجرة ؟
من الذي يأُجر على من يبع الحرام ؟
من الذي يأجر على الذي لا يصلي ؟
من الذي يحضر لأهله الألبسة المحرمة ؟
من الذي يسمح لأهله بلبس النقاب والعباءة الفاتنة ؟
من الذي يحضر السائقين والخادمات ؟
من الذي يساهم في بنوك الربا و يقترض منها ؟!
من الذي يكتب في الصحف ؟! ومن ! أليس إما أن يكون أنا ، أو أنت ، أو هو ؟
هل هناك أحد من الناس يجبرك على فعل ذلك ؟ ألست أنت الذي تُقدم عليه ؟
إذن أنت تملك الشيء الكثير في إنكار المنكر وذلك من خلال عدم فعلك له ، وعدم مساعدتك لمن يفعله ؟
وإبداء النصيحة وتذكير من يفعله ،أي أُخي لو أصبح هذا الأمر هما جاثما في القلوب لما رأينا ما نراه الآن في واقع حياتنا في مثل هذه الأيام.
الوقفة الثالثة : مع أولئك الذين يتعذرون عن القيام بأمر الحسبة أن الناس لو أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر لن يستجيبوا ، فمائدة الأمر والنهي إذن ؟! وما درى المسكين أننا مأمورون بتبليغ الناس وأمرهم ونهيهم سواء استجابوا أو لم يستجيبوا ، ولا عذر لنا عند الله تعالى في ترك هذه المهمة الجليلة بسبب إعراض الناس قال تعالى : ((فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ )) .
وقال سبحانه : ((فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ)) ومهمة الرسول r ومهمة أمته من بعده أن يبلغوا الناس أوامر الله تعالى ونواهيه سواء استجابوا أم لم يستجيبوا .
قال الإمام النووي رحمه الله : ( قال العلماء رضي الله عنهم : و لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه ، بل يجب عليه فعله ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول وكما قال الله عز وجل : ((مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ )) [2]
ثم يا أُخي أليست قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، فكم من فاجر فاسق أصبح تقيا بكلمة سمعها أو موعظة ذُكر بها أو شريط أُهدي إليه أو رسالة أُرسلت له ، وهذه حقيقة نشاهدها في حياتنا اليومية مصداقا لقول النبي r : ((إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - عمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار ، ويعمل- فيما يرى الناس - عمل أهل النار ، وهو من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بخواتيمها)) رواه البخاري .
الوقفة الرابعة : إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطوي بساطه ، وإهمال علمه وعمله ، منذر بخطير عظيم ، وشر مستطير فمن تلك الشرور:
أنه من أسباب ظهور الأشرار، وتولي السفلة وتسلط الجبابرة ، الذين يسومون الناس سوء العذاب.
ومنها ضرب الناس بالفاقة والفقر والهوان والذلة.
ومن أخطر آثار تركه كثرة الشرور، وتنوع الفتن، التي تُغير القلوب ، وتُظلم الوجوه ، وتُشتت الشمل ، وتفرق الكلمة ، وتجعل بأس الناس بينهم حتى يضرب بعضهم رقاب بعض .
ومنها الضلال بعد الهدى، والتيه في أودية الردى ، والمجادلة بالباطل لدفع الحق .
ولقد توعد الله تعالى المجتمع الذي لا يتناهى عن المنكر باللعنة والسخط والغضب ، وأليم العقاب ، وشديد العذاب فقال : ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ )) . ومن أعظم آثاره أيضا عدم إيجابة الدعاء ,
ومنها سوء الخاتمة، حيث يهلكون مهلك الظالمين، ثم يبعثون على نياتهم.
نعوذ بالله من سوء الخاتمة ، ونسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وعباده المؤمنين، وجنده الغالبين، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا إنه تعالى سميع قريب مجيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع، ويخفضُ ويرفع، ويضرُ وينفع، ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة، والنعمةِ المُسداة، وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين .
الوقفة الخامسة والأخيرة : إن الداعين إلى الخير والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، هم من خير الناس وأفضلهم ، وهم ممن يرجى لهم الفلاح ، حيث إنهم يسعون للصلاح والإصلاح ، إنهم هم الذين يقفون في تيار الفساد، ليصدوه عن العباد، وهم الذين يسهرون لحماية الأعراض، ويجتهدون في تقليل الأمراض، وهم الذين يوجهون الناس إلى الخير ، ويحولون بينهم وبين فعل الشر ، فكم من عرض حفظوه قبل أن يدنس ، وكم من جريمة ضبطوها ، وكم من خمور أهرقوها ، وكم من مخدرات عثروا عليها ، وكم من منحرف اهتدى على أيديهم ، وكم من عاص ستروا عليه ،إنهم يمضون في الجهاد جل أوقاتهم على قلة مرتباتهم، ولكنهم لا يرجون من الناس جزاء ولا شكورا، وإنما يرجون من ربهم عفوا ورحمة وأجر عظيما، فما أحسن أثرهم على الناس وأسوأ أثر الناس عليهم، تضخم أخطائهم، ويشنع على أفعالهم ، ويتشفى بالحديث عنهم في المجالس حتى أصبحوا فاكهتها التي لا غنى لمرض القلوب عنها ، فيا لله ويا للعجب من ذلك الشامت، لم كل هذا التحامل والتشفي ؟ أليس كل بني آدم خطاء ؟
أليس الموظف يخطيء في بعض عمله ؟ والتاجر في بيعه وشرائه ؟ والمعلم في مدرسته ؟ والطبيب في عيادته ؟ فلماذا يُتغاضى عن هؤلاء وغيرهم ولا يتغاضى عن رجل الحسبة ؟ لماذا إذا أخطأ أحدهم بدأت تنتاشه الألسن والأقلام من كل حدب وصوب، لا يرقبون فيه ، بل وفي كل من كان على شاكلته إلا ولا ذمة
فاتقوا الله يا مسلمون واحفظوا ألسنتكم عن أعراضهم فإنهم بحاجة إلى مساعدتهم وإعانتهم والدعاء لهم بالنصر والتمكين .
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين،لا ضاليَن ولا مُضلين، بالمعروف آمرين، وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين، ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين .
وأرضى اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ، يا عزيزُ يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
[1] نقلا من حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر د / العمار ص51 .
[2] شرح صحيح مسلم 2/22/32 .
وقفات مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ، ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ، ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102) . (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1) . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) (الأحزاب:70-71) .
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرُّ الأمورِ مـُحدثاتُها، وكل محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ،
أيها الأخوة في الله : حيث إن الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له من الأهمية ما له، وله من المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة ، الذي به تصل الأمة إلى عليائها ، ويعلو سناؤها، ويزهو شبابها ، وترتفع راياتها، والذي بدونه تستقر الأمة في غبرائها، ويقل شأنها ، ويكثر شرها، ويقل خيرها، وتفقد الأمة أمنها، ويُعظم الفجار، ويهان الأخيار ، وتدنس الأعراض، وتسرق الأموال، وتضيع الحقوق ..
لذا سنتكلم في هذه الخطبة إن شاء الله تعالى عن وقفات معدودات عن هذه القضية الجلل :
الوقفة الأولى : إن مما نعانيه كثيرا، في كثير من قضايانا ، تلك السلبية المقيتة ألا وهي أن الكثير منا غايته أن يملأ المجالس بالشكوى والتذمر من الواقع، وذكر المنكرات المتنوعة، والمفاسدة المختلفة ، وما إن يفترق الجميع إلا وينسى كل واحد منهم ما قيل ، ويذهب إلى منزله ليقيل ، وينسى الكثير من القال والقيل ،وبعضهم يتحسر ويتألم على واقعه الذي يعيشه ويكاد يقتله الغم والهم ، ولكن هذا الصنف من الناس يُحرقون أنفسهم بنفسهم دون أن يقدموا شيئا، فهم يتألمون ويتحسرون ، ولكن ماذا ينفع التألم والتحسر إن لم يقدموا شيئا ؟
دون أن يخرجوا بنتائج نافعة، وحلول ناجعة ، يعالجون فيها بعض الشرور، ويخففون من خلالها بعض الأمور، فما كان من مقدورهم فعلوه ،وإلا أوصلوه إلى من يمكنه الإفادة، من المسؤولين وغيرهم للتعاون معهم للقضاء على هذا الأمر، إنهم لو فعلوا ذلك لحصل بذلك خير كثير ،ولا زال الكثير من الشرور، ولتحول قولنا فعلا ، ولتغير الحال وتبدل المقال، ولا يحقر أحدنا نفسه، ويستصغر شأنه، فرب زيارة واحدة تغير منكرا عظيما، ورب رسالة صغيرة ينفع الله بها وتمنع من الشر ما الله به عليم .فلو تعاون الجميع مثلا في الامتناع من الشراء من أصحاب المحلات التي تبيع ما حرم الله من مجلات ودخان ونحوها فهل سيبقى أحد يبيع شيئا منها ؟ ولو تعاون الجميع بالامتناع عن شراء صحيفة ما ؛ تجرأت على حدود الله وأظهرت على صفحاتها ما حرم الله فهل ستفعل هذا مرة أخرى ؟ ولو أن كل واحد منا رأى امرأة متبرجة أنكر عليها بالتي هي أحسن وأمرها بالعفة لما انتشر التبرج بهذه الحال التي نراها اليوم ..ولو أن كل جار ناصح جاره وأنكر عليه وضعه للأطباق السوداء لما انتشرت هذا الانتشار ، ولكن يا حسرة على العباد ، أصبح هم الواحد منا ثرثرة الكلام في المجالس ونقل الأخبار ،والاسترجاع والحوقلة - وإن كانت مطلوبة - ولا يسعى للإصلاح وهذا منذر بالعقوبة العاجلة والآجلة .
الوقفة الثانية : إن إنكار المنكر ليس وقفا على أهل الحسبة فحسب ، بل يتعداهم إلى كل مسلم يقدر على ذلك بيده ولسانه وبحسب المصلحة الشرعية ، وأما الإنكار بالقلب فلا يعذر أحد بتركه قال r : (( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه ، فإن لم يستطيع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) رواه مسلم .
قال العلامة بن باز حفظه الله تعالى : ( عند قلة الدعاة ، وعند كثرة المنكرات ، و عند غلبة الجهل ،كحالنا اليوم، تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته ) [1]
ولو تأملنا أيها الأخوة واقع المنكرات في مجتمعنا ، لوجدنا أن كل واحد منا يتحمل تبعة الكثير منها ، وحتى تعلم أني لا أُلقي الكلام جزافا ولكني انطلق من واقع مشاهد :
أيها الأخوة : من الذي يحضر الطبق الأسود لمنزله ؟
من الذي يشتري المجلات الهابطة ؟ والأفلام الفاجرة ؟
من الذي يأُجر على من يبع الحرام ؟
من الذي يأجر على الذي لا يصلي ؟
من الذي يحضر لأهله الألبسة المحرمة ؟
من الذي يسمح لأهله بلبس النقاب والعباءة الفاتنة ؟
من الذي يحضر السائقين والخادمات ؟
من الذي يساهم في بنوك الربا و يقترض منها ؟!
من الذي يكتب في الصحف ؟! ومن ! أليس إما أن يكون أنا ، أو أنت ، أو هو ؟
هل هناك أحد من الناس يجبرك على فعل ذلك ؟ ألست أنت الذي تُقدم عليه ؟
إذن أنت تملك الشيء الكثير في إنكار المنكر وذلك من خلال عدم فعلك له ، وعدم مساعدتك لمن يفعله ؟
وإبداء النصيحة وتذكير من يفعله ،أي أُخي لو أصبح هذا الأمر هما جاثما في القلوب لما رأينا ما نراه الآن في واقع حياتنا في مثل هذه الأيام.
الوقفة الثالثة : مع أولئك الذين يتعذرون عن القيام بأمر الحسبة أن الناس لو أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر لن يستجيبوا ، فمائدة الأمر والنهي إذن ؟! وما درى المسكين أننا مأمورون بتبليغ الناس وأمرهم ونهيهم سواء استجابوا أو لم يستجيبوا ، ولا عذر لنا عند الله تعالى في ترك هذه المهمة الجليلة بسبب إعراض الناس قال تعالى : ((فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ )) .
وقال سبحانه : ((فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ)) ومهمة الرسول r ومهمة أمته من بعده أن يبلغوا الناس أوامر الله تعالى ونواهيه سواء استجابوا أم لم يستجيبوا .
قال الإمام النووي رحمه الله : ( قال العلماء رضي الله عنهم : و لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه ، بل يجب عليه فعله ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول وكما قال الله عز وجل : ((مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ )) [2]
ثم يا أُخي أليست قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، فكم من فاجر فاسق أصبح تقيا بكلمة سمعها أو موعظة ذُكر بها أو شريط أُهدي إليه أو رسالة أُرسلت له ، وهذه حقيقة نشاهدها في حياتنا اليومية مصداقا لقول النبي r : ((إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - عمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار ، ويعمل- فيما يرى الناس - عمل أهل النار ، وهو من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بخواتيمها)) رواه البخاري .
الوقفة الرابعة : إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطوي بساطه ، وإهمال علمه وعمله ، منذر بخطير عظيم ، وشر مستطير فمن تلك الشرور:
أنه من أسباب ظهور الأشرار، وتولي السفلة وتسلط الجبابرة ، الذين يسومون الناس سوء العذاب.
ومنها ضرب الناس بالفاقة والفقر والهوان والذلة.
ومن أخطر آثار تركه كثرة الشرور، وتنوع الفتن، التي تُغير القلوب ، وتُظلم الوجوه ، وتُشتت الشمل ، وتفرق الكلمة ، وتجعل بأس الناس بينهم حتى يضرب بعضهم رقاب بعض .
ومنها الضلال بعد الهدى، والتيه في أودية الردى ، والمجادلة بالباطل لدفع الحق .
ولقد توعد الله تعالى المجتمع الذي لا يتناهى عن المنكر باللعنة والسخط والغضب ، وأليم العقاب ، وشديد العذاب فقال : ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ )) . ومن أعظم آثاره أيضا عدم إيجابة الدعاء ,
ومنها سوء الخاتمة، حيث يهلكون مهلك الظالمين، ثم يبعثون على نياتهم.
نعوذ بالله من سوء الخاتمة ، ونسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وعباده المؤمنين، وجنده الغالبين، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا إنه تعالى سميع قريب مجيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع، ويخفضُ ويرفع، ويضرُ وينفع، ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة، والنعمةِ المُسداة، وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين .
الوقفة الخامسة والأخيرة : إن الداعين إلى الخير والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، هم من خير الناس وأفضلهم ، وهم ممن يرجى لهم الفلاح ، حيث إنهم يسعون للصلاح والإصلاح ، إنهم هم الذين يقفون في تيار الفساد، ليصدوه عن العباد، وهم الذين يسهرون لحماية الأعراض، ويجتهدون في تقليل الأمراض، وهم الذين يوجهون الناس إلى الخير ، ويحولون بينهم وبين فعل الشر ، فكم من عرض حفظوه قبل أن يدنس ، وكم من جريمة ضبطوها ، وكم من خمور أهرقوها ، وكم من مخدرات عثروا عليها ، وكم من منحرف اهتدى على أيديهم ، وكم من عاص ستروا عليه ،إنهم يمضون في الجهاد جل أوقاتهم على قلة مرتباتهم، ولكنهم لا يرجون من الناس جزاء ولا شكورا، وإنما يرجون من ربهم عفوا ورحمة وأجر عظيما، فما أحسن أثرهم على الناس وأسوأ أثر الناس عليهم، تضخم أخطائهم، ويشنع على أفعالهم ، ويتشفى بالحديث عنهم في المجالس حتى أصبحوا فاكهتها التي لا غنى لمرض القلوب عنها ، فيا لله ويا للعجب من ذلك الشامت، لم كل هذا التحامل والتشفي ؟ أليس كل بني آدم خطاء ؟
أليس الموظف يخطيء في بعض عمله ؟ والتاجر في بيعه وشرائه ؟ والمعلم في مدرسته ؟ والطبيب في عيادته ؟ فلماذا يُتغاضى عن هؤلاء وغيرهم ولا يتغاضى عن رجل الحسبة ؟ لماذا إذا أخطأ أحدهم بدأت تنتاشه الألسن والأقلام من كل حدب وصوب، لا يرقبون فيه ، بل وفي كل من كان على شاكلته إلا ولا ذمة
فاتقوا الله يا مسلمون واحفظوا ألسنتكم عن أعراضهم فإنهم بحاجة إلى مساعدتهم وإعانتهم والدعاء لهم بالنصر والتمكين .
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين،لا ضاليَن ولا مُضلين، بالمعروف آمرين، وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين، ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين .
وأرضى اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ، يا عزيزُ يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
[1] نقلا من حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر د / العمار ص51 .
[2] شرح صحيح مسلم 2/22/32 .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى