رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
من أسماء الله الحُسنى الحكم. والحَكَم بفتح الحاء والكاف. والحَكَمُ، والحاكم بمعنىً واحد، إلا أنَّ فقهاء اللغة يقولون: أيَّة زيادةٌ في المبنى؛ لا بدَّ من أن يقابلها زيادةٌ في المعنى.
أصل الحَكَمِ المنعُ. حكمه أي منعه. والحكمةُ: هي الحديدة التي تمنع الفرس من السفاهة.. هكذا جاء في معاجم اللغة. والحَكَمُ اسمٌ من أسماء الله الحُسنى كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنس أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
}وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بها{ [الأعراف: 180].
أسماؤه حُسنى، وصفاته فُضلى، وكمال الله مُطلق، أيُّ اسمٍ إن بحثت عن وجوه الكمال فيه فقد أصبت، وإن خطر ببالك غير ذلك فقد أخطأت، قال بعض العلماء: "الحَكَم؛ صاحب الفصل بين الحقِّ والباطل".
أحياناً الباطل له جولةٌ وصولة، ربما سمح الله له أن يعلو، ربما أرخى الله له الحبل، لكن إلى أمد. لأنَّه حَكَم ؛ ولا بدَّ من أن يزهق الباطل، لأنَّ الله موجود. لو أنَّ الباطل استشرى وامتدَّ وطغى وبغى إلى أمدٍ طويل، هذه الفكرة تتناقض مع وجود الله، أن يستشري الباطل، وأن يمتدَّ ويمتدّ وأن يطغى وأن يبغي، أن يضع كلَّ الخطط فتنجح، هذه الحقيقة تتناقض مع وجود الله؛ لا بدَّ من أن يظهر الله آياته، وما أكثر الآيات، والآيات نراها كلَّ يوم.
والله سبحانه وتعالى، ألقى على النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا القرآن الكريم، فهو آياته، وكلامه. وخلق الكون، والكون آياته. وأفعاله كلّها آياته. أفعاله كلُّها تدلُّ على كمالاته، على عدالته، على حلمه، على رحمته، على قدرته، على علمه، فلك أن تعرف الله من آياته الكونيَّة، ولك أن تعرفه من آياته القرآنيّة، ولك أن تعرفه من آياته التكوينيَّة.
صاحب الفصل بين الحقُّ والباطل.. أحياناً زوجان؛ كلٌّ يدَّعي أنَّه مظلوم، وكلُّ طرفٍ معه الحجج والبراهين والوقائع، لكنَّ المظلوم فعلاً يوفِّقه الله، والظالم يسحقه الله.. شريكان؛ كلٌّ يدَّعي أنَّه على حق، وأنَّ شريكه الآخر ظلمه، ويأتي كل منهما بالحجج التي تؤيد حقه، وقد يفتري ويخترع أدلَّةُ غير صحيحة، يوهم الناس، ولكنَّ الله هو الحكم. فالشريكان؛ الظالم يُهلكه الله، والمظلوم يوفِّقه الله. توفيق الله للمظلوم؛ هو حُكْمُ الله فيه. إهلاك الظالم حُكْمُ الله فيه، وكذلك زوجان افترقا، توفيق أحدهما في زواجٍ آخر، حُكْمُ الله فيه. هلاك الثاني في زواجٍ آخر، حُكْمُ الله فيه.
إنسان يدَّعي أنَّه ورع، وأنَّه على حق، علامة حكم الله له أنَّه يوفِّقه، وعلامة حكم الله على آخر مبطل أنَّه يخذله.. فالله صاحب الفصل بين الحقِّ والباطل، بين البارِّ والفاجر.
قد يتوفّى أبٌ ويترك أولاداً، أحد أولاده الأقوياء يأخذ المال كلَّه، ويحرم إخوته، تدور الأيّام، هؤلاء المظلومون إخوة ذاك الأخ الباغي الظالم، يوفَّقون في أعمالهم، وهذا الذي أخذ المال الحرام، يُتلف الله ماله، وأحياناً يُضطرُّ إلى أن يعمل عند أحد إخوته.. فالذي أخذ المال كلَّه وحرم إخوته منه، يخذله الله، ويتلف ماله، فيُضطرَّ إلى أن يعمل عند إخوته الذين حرمهم من إرث أبيهم، فالله هو الحَكَمُ.
وهناك حكم نهائي يوم القيامة، لكن الحكم في الدنيا هو نصر الله أو خِذلانه، توفيقه أو عدم توفيقه، تيسيره أو تعسيره، وما أكثر الشواهد، حياتنا زاخرةٌ بهذه الشواهد.. الذي كسب مالاً حلالاً قليلاً، يبارك الله له فيه. والذي كسب مالاً حراماً كثيراً، يتلِفُ الله ماله. الذي برَّ والديه يهبه الله أولاداً أبراراً. والذي عقَّ والديه يهبه الله أولاداً عاقّين؛ هذا حكم الله له.
فالله سبحانه وتعالى هو الحكم، صاحب الفصل بين الحقِّ والباطل، صاحب الفصل بين البارِّ والفاجر، المجازي كلَّ نفسٍ بما عملت، وهناك آيات كثيرةٌ جداً تؤكِّد هذا المعنى.. فقد قال تعالى:
}أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ{ [الجاثية: 21].
وقد قال تعالى:
}أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ{ [السجدة: 18].
وقال تعالى:
}أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ{ [القلم: 35- 36].
مثلا شابٌ مؤمنٌ مستقيمٌ، ويخاف الله ويرجو رحمته، ويتحرّى الحلال، ويبحث عن زوجةٍ صالحة، لا يكذب، تراه ضابطاً لجوارحه، ضابط لدخله وإنفاقه، وشابٌ آخر متفلِّتٌ لا عقيدة تردع، ولا دين يمنع، ولا استقامة، ولا عبادة، ولا حلال ولا حرام، يفعل ما يشاء. فإذا تساوى هذان الشابّان في التوفيق وفي النصر والتأييد، وفي التمتُّع في الحياة الدنيا. إن تساويا ولم يكن هناك فرقٌ بينهما، هذه الفكرة تتناقض مع وجود الله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
إنسان دخله حلال؛ أيعقل أن يُعامل كما يُعامل صاحب الدخل الحرام؟! إنسان ضبط سلوك أهله وأولاده وبناته؛ أيعقل أن يُعامل من قبلهم كما يُعامل إنسان تفلَّت من أوامر الشرع، وأطلق لزوجته ولبناته العنان؟
هذا مستحيل فالحَكَمُ توفيقه حُكْمٌ، تيسيره حكم، تعسيره حكم، إلقاء الأمن في قلب المؤمن حكم. إلقاء الخوف والفزع في قلب المشرك حكم. أن يُقدِّر للإنسان حياةَ ضنك؛ معيشةً ضنكاً حكم، أن يقدِّر للإنسان حياةً طيِّبة حكم، أن ينصرك حكم، أن يخذلك حكم، إن دعوته فاستجاب لك فدعاؤك صادق ومخلص، وإن لم يستجب فهناك سببٌ حال دون أن يُستجاب لك حكم.
وما أكثر... ما كنت أكثر المثل تلو المثل: أب عنده ولدان، ولد بار، والثاني عاق، فإذا دخل البار رحبَّ به وسأله عن أحواله كأن يقول: أين أنت وكيف حالك؟ وكيف أولادك؟ وكيف أهلك؟ هل تناولت طعام الغذاء؟ أما وإذا دخل العاق يتمنّى ألا يدخل عليه، فانكماش الأب من ولده العاق حكم، وترحيبه بولده البار حكم، التوفيق حكم والتعسير حكم، إلقاء الأمن في قلب المؤمن حكم، وإلقاء الفزع في قلب المشرك حكم.
لكن هذا المعنى أوسع مدى وأرحب بين مخلوقات الله سبحانه.. ولربما استعصى على المرء أن يصدق أنَّ شاةً قرناء لو نطحت شاةً أُخرى جلحاء لاقتص منها، أبداً، الحكم بين مخلوقاته لا بين بني البشر فحسب، ولا بين الإنس والجنِّ فحسب، بل بين كلِّ مخلوقاته أيا كانوا، اقرأ إن شئت قول الله تعالى:
}مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ{ [آل عمران: 179].
مؤمن مخلص، مؤمن مقصِّر، هل هما عند الله سيّان؟ لا.. لابدَّ من أن يُميّز الله بينهما، يضع الأول في ظرف فيتألَّق، يضع الثاني في ظرف فيسقط، امتحنهما وفرَّق بينهما.
المميِّز بين الشقيِّ والسعيد بالعقاب والثواب، "ما من مخلوقٍ يعتصم به من دون خلقه، يعرف ذلك من نيَّته، فتكيده أهل السموات والأرض، إلاّ جعلت له من بين ذلك مخرجاً -فأن يجعل الله له من بين ذلك مخرجا حكم- وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دونه يعرف ذلك من نيَّته إلا جعل الأرض هويّاً تحت قدميه، وقطَّع أسباب السماء بين يديه"، أن يجعل الأرض هويّاً تحت قدميه حكم نعم، هو حكم.
قال أحد العلماء: "الحكم؛ هو الحاكم المحكَّم، والقاضي المسلَّم، لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه".
في الدنيا قد يحكم القاضي، ولكنَّ محكمة النقض تنقُض حكمه، وقد يحكم رئيس محكمة النقضِّ، ولا يُصدَّق حكمُه، لكنَّ الله سبحانه وتعالى لا معقِّب لحكمه، وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مردَّ له، لا تعقب لحكمه.
كنت قد ذكرت، ولعلي ذكرته في كتاباتي وأحاديثي أكثر من مرة: أنَّك لو التقيت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلَّم وهو سيِّد الخلق وحبيب الحقّ، وعرضّت عليه مشكلتك، وكانت خصومةً بينك وبين أحد الناس، وانتزعت من فمه الشريف حكماً لمصلحتك، ولم تكن محقا لم تنج من عذاب الله، فمن هو الحكم إذا؟ هو الله.
قال العلماء: "الحكم؛ هو الذي لا يقع في وعده ريب"، إذا وعد وفى.. لأنَّ ربنا عزَّ وجلَّ يطمئننا، إذا حدَّثنا عن المستقبل، جاء الفعل ماضياً ففي قوله تعالى:
}أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ{ [النحل: 1].
(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ).. لقد جاء.. (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، معنى ذلك أنَّه لم يأتِ، لكن ليقين وقوعه أتى، وقال تعالى:
}وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي{ [المائدة: 116].
لم يقل الله بعد..: فالحكم إذا؛ هو الذي لا يقع في وعده ريب، (ومن أصدق من الله حديثاً)، (ومن أوفى بعهده من الله)، ولا في فعله عيب.. أكرر: لا في وعده ريب، ولا في فعله عيب.
"والحكم؛ هو الذي حكم على القلوب بالرضا والقناعة".. هذه الدنيا بمنزلة مرحلةٌ إعداديَّة بالنسبة للحياة الأبديَّة، والمؤمن عرف أنَّها حياةٌ دنيا، حياة إعداد، حياة تمهيد، لذلك رضي عن الله، رضي عن حياته، عن عقله، عن إمكاناته، عن دخله، عن بيته، عن زوجه، عن أولاده، عن بناته، فهو راض.. من الذي ألقى في قلبه الرضا؟ الله سبحانه وتعالى، لقربه من الله ألقى في قلبه السكينة والرضا.
قال: "الحكم؛ هو الذي حكم على القلوب بالرضا والقناعة، وعلى النفوس بالانقياد والطاعة".
من بعض معاني هذا الاسم العظيم: الحكم.. النّافذ حكمه، فالإنسان أحياناً يصدر تعليمات فلا تنفَّذ، أو تنفَّذ في مركز المدينة، وفي أطرافها لا تنفَّذ، ما أكثر التعليمات التي تصدر والتي لا تنفَّذ. فبالطبع ليس كلَّ إنسان حكمه نافذ. ولو أنَّ الإنسان أراد أن ينفذ حكمه، لاحتاج إلى جهاز كبير جداً، يعني الساعة الثالثة في منتصف الليل لا يوجد شرطي مرور، فإذا كانت الإشارة حمراء يمكنه أن يتجاوزها ويتخطّاها، وبذلك نكون قد خرقنا حكم قانون السير، فمن غير المعقول وضع شرطي عند كلِّ إشارة ليلاً ونهاراً. إذاً الحكم لم يُنَفَذْ، فالإنسان أضعف من أن يُنفِّذ حكمه، أما الله سبحانه وتعالى، فالحكم النافذ حكمه، ولا يحول دون تنفيذه حائل.
لذلك عظمة الدين.. أنَّ أساسه الوازع الداخلي، لأنَّ المؤمن يعلم أنَّ الله معه ويراقبه، وفي القصَّة المشهورة عن سيِّدنا عبد الله بن عمر والراعي.. قال له: بعني هذه الشاة، قال: ليست لي، قال: خذ ثمنها، قال: ليست لي.. والله إنني في أشدَّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده صادق أمين؛ لكن أين الله؟
وإني أعتقد أنَّه ما من نظامٍ وضعيِّ، إلا ويعتمد على الرادع لا على الوازع. والردع مرتبط بأشخاص، أو بأجهزة، أو بآلات، يعني من الممكن أنه إذا انقطعت الكهرباء في إحدى المدن التي توصف بالرقي، والمجتمع الحضاري، فمن الممكن أن ترتكب في ليلةٍ واحدة مئتا ألف سرقة، لقد انقطعت الكهرباء في إحدى مدن الغرب ولمدة ساعاتٍ معدودة وارتكبت مئتا ألف سرقة في تلك الليلة، فلا يوجد الوازع، ولكن هناك الرادع. والرادع أساسه المراقبة، فلمّا انقطعت الكهرباء ألغي الرادع فتفلَّتت النفوس، أمّا عظمة هذا الدين فهي أنَّه مبني على الوازع.
أرسل لي أخٌ أراد ألا أعرفه، رسالةً قال لي فيها: والله لقد أرجعت لورثةٍ عشرين مليون ليرة، وهم لا يعلمون عنها شيئاً، وقد مات أبوهم فجأةً وأبوهم من النوع الذي لا يعلم عن أمواله إطلاقاً، وقد رددت المبلغ لهم كاملاً. ما الذي جعله يردُّ هذا المبلغ؟ الوازع أم الرادع؟ فالرادع غير موجودٍ، فليس هناك إيصال بالمبلغ، وليس مداناً بشيء أمامهم إطلاقاً، ولا هناك علمُ لأحد بالمبلغ، ولا عند أحد خبرٌ أبداً، لكنَّ الوازع الديني حمله على أن يردَّ هذا المبلغ.
تجد في المؤمنين مواقف لا تصدَّق، لكنها معقولةً جداً؛ لأنَّ المؤمن يراقب الله عزَّ وجلَّ. إنسان متزوج شعرت امرأته كأنَّه متزوِّج من أُخرى، هكذا شعرت وبعد أن تقصَّت فإذا توقُّعها في محلِّه، ولم تفاتحه في هذا الأمر، ثم توفي هذا الزوج؛ فمن شدَّة ورعها أرسلت حصَّة ضُرَّتها بعد الوفاة، ومن شدَّة ورع الثانية قالت: والله طلَّقني قبل أن يموت. ولم تأخذ شيئاً، هذا هو الإسلام.
الحكم؛ هو النافذ حكمه، الذي لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، والذي يفصل بين الحقِّ والباطل.
ولدى متابعة شرح هذا الاسم الحكم تثور لدينا نقطةً مهمّة جداً.. فلو أنَّ أباً ارتكب ابنه غلطاً ما، فضربه ولم ينطق ببنت شفة، فالضرب لم يُفِدْ.. فمن لوازم إقامة العدل، ومن لوازم التربية الصحيحة، أن يُبيِّن الأب لابنه لماذا ضربه، ماذا فعل؟ فعل كذا وكذا فاستحقَّ العقاب، لكن قال العلماء: الحكم؛ هو الذي يبيِّن لكلِّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ أو شر، كيف يبين؟.. أحياناً الإنسان يُلقى في روعه، فعندنا وحي للأنبياء، وهناك وحي إلهام فقد قال تعالى:
}وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ{ [القصص: 7].
وهناك وحي غريزة، فقد قال تعالى:
}وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل{ [النحل: 68].
وأيضاً هناك وحي أمر لقوله تعالى:
}بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا{ [الزلزلة: 5].
أما الوحي إلى النبيّ؛ فهذا وحي الرسالة، وليس لنا علاقة به في بحثنا هذا، لكن الإنسان تأتيه أحياناً مصيبة، ويلقى في قلبه أنَّها من أجل كذا فيعرف حقيقة ما يجري له ولعله يعتبر!.
فهناك إنسان خالف مخالفة بسيطة، فبحسب ثقافته الدينيَّة، وأقوال أساتذته أنَّه لا بدَّ له من مصيبة فبدأ ينتظر، فصحته سليمة، ولا شيء حدث لأولاده وزوجته، فلم يصبه شيء على الرغم من مخالفته البسيطة، ففي الصلاة ناجى ربَّه فقال: يا ربّ، لقد عصيتك فلم تعاقبني. قال: وقع في قلبه، أُلقي في قلبه؛ أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ، ألم أحرمك لذَّة مناجاتي؟
وهناك أخ من إخواننا لديه معملُ بسيطٌ للملابس، زاره شخص من المسجد ليشتري بعض القطع من هذه الألبسة، والمعمل يبيع بالجملة، فهذا الطلب رآه مهيناً، فلا يبيع أربع قطع، فقال له: أنا لا أبيع بالمفرَّق. يقول صاحب هذا المعمل: والله ثلاثون يوماً متواليةً، لم يدخل معملي إنسانٌ، ثم وقع في قلبه لماذا لم تبع فلاناً؟
فمعنى الحكم: الله عزَّ وجلَّ مربٍّ، يعاقب، ويُلقي في روع الإنسان لماذا فعل معك كذا وكذا.
أحد الأشخاص تأخر في أداء زكاة ماله ولم يؤدها، فسيّارته أُصيبت بحادث وهذا شيء طبيعي. أما أن تأتي أجرة التصليح مع الطلاء مع قطع الغيار مطابقة لمبلغ الزكاة بدقّة على مستوى الليرة الواحدة، وهو نفسه مبلغ التصليح، فهذا تعليم من الله.. بخلت بزكاة مالك فدفعت المال بلا طائل، فالله عزَّ وجلَّ حكم يعاقب، ويُلقي في روع الإنسان أنَّه فعل كذا وكذا وهذا جزاء وناله.
إن عملت عملاً طيِّباً، يُلقي في روعك أنَّه راضٍ عنك، وإن عملت لا سمح الله عملاً سيِّئاً، يريك مناماً مخيفاً أحياناً، أو انقباضا فتشعر بضيق، والدنيا كلُّها لا تسعه، فضيق القلب، أو انشراح الصدر هو من أساليب ربنا التربويّة، فهو يربّي، فإن كان عملك طيِّباً تجدك منطلقاً، والناس قد يكونون في همّ وغم، وأنت مستثنى وليس لك علاقة بشيء، وإذا لم يكن عملك طيباً فهناك انقباضٌ ومرارة وضيق.
أما من أجمل الآيات دلالة والمتعلِّقة بهذا الاسم فهي قوله تعالى: }أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً{ [الأنعام: 114].
أحياناً يكون مع شخص وثائق.. فيقول لك: إن لديه ومعه وثائق، والقاضي يعرفه، ويترافع عني المحامي فلان، وما أدراك ما فلان، وهو مطمئن، فهل اتّخذ هذا الإنسان الله حكماً؟ لا.. لقد اتخذ القاضي حكماً، فقد يفاجأ بحكمٍ غير متوقَّع (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلا).
فالإنسان ليس له الحق في أن يحتكم إلى غير الله، فإذا احتكم إلى غير الله فقد حكم في أموره من ليس حاكماً، فأحياناً الذي اعتمدّت عليه يخيِّب ظنَّك، وقد قال تعالى:
}وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ{ [يونس: 109].
لذلك أجمل دعاء أن تقول إذا ألمَّ بك مكروه، أو نزلت بك ظُلامة: حسبي الله ونع
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
لذلك أجمل دعاء أن تقول إذا ألمَّ بك مكروه، أو نزلت بك ظُلامة: حسبي الله ونعم الوكيل.
فالله ينصرك، والله عزَّ وجلَّ من أسمائه الحق.. فما معنى الحق؟ معنى الحق أنّه لا بدَّ من أن يظهر الحقّ، لا بدَّ من أن يظهر الحقّ لأنّه هو الحق، فلا تخشَ أحدا، فالعاقبة للمتقين، والأيام تدور ولا تستقر إلا على إنصاف المظلوم، وعلى إهلاك الظالم، وعلى رفعة المؤمن، وعلى إذلال الكافر، وهذا التاريخ أمامكم.
أصحاب النبيّ -رضوان الله عليهم- الذين التفّوا حوله، وعزَّروه ونصروه، ودافعوا عنه، وآمنوا به، وأحبّوه، وافتدوه بأرواحهم، أين هم الآن؟ في أعلى عليين، والذين حاربوه وخذلوه وأخرجوه، وقاتلوه وكذَّبوه أين هم؟ في أسفل السافلين، هذا هو التاريخ.
سيِّدنا عمر بن عبد العزيز.. كيف سمعته؟ كالنجم في السماء، كلّ شيء له نهاية، والعاقبة للمتقين، وقد قال تعالى:
}وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{ [آل عمران: 139].
قال تعالى (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ)، معنى ذلك؛ أنَّ هناك وقتاً أمضيته فيه ظلمٌ ويكون الإنسان مظلوماً. فالسيِّدة عائشة ألم تُظلم؟ فلماذا أخَّر الله الوحي شهراً؟ من أجل أن تُكشف النفوس. أخَّر براءتها شهراً بأكمله، المؤمنون ظنّوا بأنفسهم خيراً، والمنافقون روَّجوا هذا الخبر وأشاعوه وأرجفوا في المدينة، الله عزَّ وجلَّ كشف النفوس على حقيقتها. لو أنَّ هذا الخبر أُشيع في المدينة، وفي اليوم الثاني جاءت البراءة، فبذلك يكون أربع أخماس الناس لم يمتحنوا، لكن لا، والخبر كان ينتشر ويزداد انتشاراً، والتهمة كبيرة جداً فهي تهمة الفاحشة! وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة الصدّيق، الطاهرة العفيفة والبريئة، ولكن الخبر شاع، والنبي صلى الله عليه وسلم مقيَّد ليس معه دليل إثبات ولا دليل نفي، وزوجته، وهي أقرب الناس إليه، وهي عرضه، وما زال الخبر ينتشر ويشيع، فانظروا إلى دقَّة قول الله (واصبر حتى يحكم الله) حتى حرف غاية.. أي أنّ هناك وقتاً فقد تكون مظلوماً، وقد يكون المبطل هو الأقوى، وكلمته هي النافذة، وأنت لا أحد يسمع لك، والناس كلُّهم ضدّك، ممكن ذلك فعليك أن تصبر (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)، وبعد ثلاثين يوماً نزلت براءتُها.. وفصل الله القضية واتضحت الحقيقة.
والآية تقول:
}فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ{ [التين: 7- 8].
كأنه من سياسة الله عز وجل مع عباده، أو بعبارة أدّق: من سننه مع خلقه؛ أنَّه يُرخي الحبل للكل، بقي بإمكانك أن تفعل ما تشاء، أن تعصي الله، وأن تقول كلاماً غير معقول، وأن تأتي بالإفك والإثم، وأنت قوي وصحيح، والفحص الدموي مائة بالمئة، مالك يزداد، قوَّتك تزداد، ولكن هذا الشيء لا يستمر إلى ما لا نهاية، بل استمراره إلى حين، فالحبل مرخى إلى أجل، ففي أيَّة لحظة يُشدَّ الحبل؛ فإذا أنت في قبضة الله.
والله هذه القصَّة تتكرر كلّ يوم... ومن الممكن لإنسان أن يؤذي الناس، ويكون شديد الذكاء، ويحتال عليهم إلى حين، ثم يقع في شرِّ عمله، ثم يفضحه الله، فدائماً وأبداً؛ الطائع لله هو الفائز.
هناك مقولة نصها: "كفاك على عدوِّك نصراً؛ أنَّه في معصية الله"، لو كنت أضعف منه وهو الأقوى، لو كان هو الأغنى، وأنت الأفقر. لو كان هو الأذكى، وأنت الأقل ذكاءً. فالعاقبة للمستقيم.
دققوا في هاتين الكلمتين من الآية: (وَاصْبِرْ حَتَّى) أي اصبر إلى أن، فحتى حرف غاية.. (حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) حتى يتصرف، حتى يقصم ظهر الظالم، وينصر المؤمن (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ).
سيِّدنا يوسف.. ماذا حكم عليه إخوته؟ أن يقتلوه، ألقوه في غيابة الجب ليموت.. بعد حين ماذا كانت النتيجة؟ دخلوا عليه فإذا هو عزيز مصر، مقامه كبيرٌ جداً، فمصر كانت أكبر مملكة وهو رئيس وزارئها فقالوا له:
}قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{ [يوسف: 90].
وقال أبوه سيِّدنا يعقوب:
}إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ{ [يوسف: 67].
لذلك: إذا أردت أن تكون أقوى الناس، فتوكَّل على الله. وإذا أردت أن تكون أغنى الناس، فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك. وإذا أردت أن تكون أكرم الناس، فاتق الله.
وإليك بعض حكم الله في حقِّ العباد:
الآن بعض أهم أحكام الله... قال العلماء: حُكم الله؛ أنَّه ليس للإنسان إلا ما سعى.. الله عزَّ وجلَّ ليس عنده تمنيَّات، ولا محاباة، ولا تمييز فقد قال تعالى:
}إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ{ [الحجرات: 13].
وقال تعالى:
}وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى{ [النجم: 39- 40].
هذا من حكم الله.. ومن حكم الله، قال تعالى:
}إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ{ [الانفطار: 13- 14].
وكذلك قول الله تعالى:
}مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً{ [النحل: 97].
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ).. حكم الله .. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال تعالى:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي).. حكم الله.. (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)، وقال تعالى:
(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ). حكم الله.. (فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)، من لم يتبع هدى الله عزَّ وجلَّ، حُكَمَ اللهِ؛ يضلُ عقلهُ، وتشقى نفسهُ.
(فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ).. حكم الله.. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).. هذا أول حكم: من لم يتبع هدى الله عزَّ وجلَّ، يندم على ما فات ويخشى من ما هو آت.
هذا هو القرآن بين أيديكم، أي أنَّ الله عزَّ وجلَّ أعطانا أحكاماً جاهزة، وقال تعالى:
(وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ).. حكم، وقال تعالى:
(إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).. حكم، وقال تعالى:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم).. حكم.
ما قولكم أن نقرأ القرآن ونتبع أحكام الله في خلقه، كلها قوانين فقد قال تعالى:
}كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ{ [يونس: 33].
}إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار{ [الزمر: 3].
}وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ{ [يوسف: 52].
أي: أية خيانة على وجه الأرض؛ لا يمكن إلا أن تُكْشَفَ، هذا حكم الله، أيَّة مخادعة تعود على صاحبها؛ فقد قال تعالى:
}إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ{ [النساء: 142].
وأيُّ مكرٍ يعود على صاحبه فقد قال تعالى:
}وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ{ [فاطر: 43].
هذه كلَّها أحكام الله عزَّ وجلَّ.. إن الله مع الصابرين، إن الله مع المتقين، إن الله مع الصادقين، فقد قال تعالى:
}إن الله مع الصابرين{ [البقرة: 153].
}وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ{ [البقرة: 194].
حكم الله على المعتدين؛ أنَّه لا يستجيب لهم لأنه لا يحبهم هذا حكم الله عزَّ وجلَّ.. فقد قال تعالى: }ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ{.
قال تعالى:
}وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ{ [الأحزاب: 36].
هذا هو حكم الله، فالمؤمن.. مؤمن ومذعن، قضيَّة أعطى الله فيها حكماً، إن وضعتَ هذه القضيَّة على بساط البحث، فلست مؤمناً.. (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ).. هذا حكم الله عزَّ وجلَّ وكفى نعم أكرر وأقول: إن وضعتها على بساط البحث فلست مؤمنا.
عن الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ"؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ"؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: "فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ"؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: "فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ". [سنن أبي داود].
هذا من لطف النبيَّ صلى الله عليه وسلم فالله هو الحكم، وأنت لست حكماً.
لِمَ تُكنى أبا الحكم؟ لأنَّ قومي يحتكمون إلي وحكمي منصف، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا.. جيِّد. وعرف منه أسماء أولاده واسم أكبرهم شريح فسماه أبا شريح.. هذا من أدب النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع ربِّه. فهذا الاسم لله عزَّ وجلَّ، هو الحكم، أما الإنسان إذا صار حكماً أي صار قاضياً واستلم القضاء فهو أحد ثلاثة.
عن خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ قَالَ: لَوْلا حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ"، لولا أن النبي قال ذلك لَقُلْنَا: إِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا اجْتَهَدَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ. [سنن أبي داود].
أي قاضيان إلى النار.. إنسان حكم بلا علم، وإنسان حكم على علم ظلماً، كلاهما في النار.. والذي عرف الحقَّ فحكم به فهو في الجنَّة.
أحدهم علَّق على هذا الموضوع قائلاً: اليوم: قاضيان في النار، وقاضٍ في جهنَّم. أي لم يبقَ أحد من القضاة إلا ودخل النار إلا من رحم ربك، على كلٍ القضاء شيء مخيف، لأنَّ الظلم ظُلماتٌ يوم القيامة.
اسم الله الحكم، يقتضينا أن نحتكم إلى الله، فهذا أول موقف.. أما إذا حُكِّمنا.. فعلينا أن نحكم بالعدل، يجب أن نحتكم إلى الله لأنَّه يعلم كلَّ شيء، يعلم السرَّ وأخفى، ويقتضينا إذا حُكِّمنا في قضيَّة ألا ننحاز مع أحد.
..أحد القضاة وكان معروفاً في مدينته أنَّه يُحِبَّ الرُطب في بواكيرها، طُرِق بابه، فتح الغلام الباب، رأى رجلاً معه طبقاً من رطب -وهذا شيء نفيس جداً في بواكيره، وهو غالٍ كثيراً، ومن نوع جيِّد-، فرجع إلى القاضي قال له: يا سيِّدي بالباب رجل ومعه طبقٌ رُطب. فقال له: صف لي. قال: صفته كيت وكيت. فعرف أنَّه أحد المتخاصمين عنده، فقال: رُدَّ الطبق إليه. بعد حين قابل الخليفة وطلب إعفاءه من منصب القضاء. قال: ولِمَ وأنت الورع النزيه العالم الفقيه المجتهد؟ قال: لقد جاءني قبل أيَّام رجل أهداني طبق رطب، وفي اليوم التالي جاء مع خصمه ليحتكما إلي، تمنيَّتُ أن يكون الحقُّ مع صاحب الطبق الذي قدَّمه إلي، هذا مع أنِّي رددته فكيف لو قبلته؟.... كان القضاة هكذا يُحاسبون أنفسهم.
أنت حكماً بين ابنتك وصهرك، وتكلَّمت البنت وفق هواها، فزمجرت وأرعدت وغضبت وقلت: هذا الصهر ليس عنده أدب، وسوف أقوم بتربيته وحرمانه من زوجته ست أشهر.. فهل سمعت منه قبل أن تحكم.
قال أحدهم لأحد الشيوخ: يا سيدي قد لطمني أحدهم كفاً، فرددته له، أَعَليَّ شيء؟ قال له الشيخ: لا ليس عليك شيء. ثمَّ ظهر أنَّ الذي ضربه هو أبوه. فالفتوى على قدر الوصف.
فالقضاء دقيق.. سمعت من ابنتك حديثا وتكلَّمت على زوجها في حديثها وأطالت، ألا يقتضي الحكم العدل أن تسمع من زوجها، ماذا فعلت به؟ سمعت من والدتك، فاسمع من زوجتك -رأساً طلقها دون سماعها- فأنت أحياناً تكون حكماً بين زوجتك وأمك، وبين ابنتك وصهرك، هؤلاء أقرب الناس إليك، أو تكون رئيساً لدائرة وعندك موظفان يتشاجران دوماً، فإذا سمعت من واحدٍ منهم، فاستمع للآخر، ولا تعاقب على الفور بعدما سمعت من الأوّل، فماذا تعلَّمنا من سيِّدنا سليمان؟ فقد قال تعالى:
}قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ{ [النمل: 27].
فإذا كنت حكماً يجب أن تحكم بالعدل، وإن احتكمت فلا تحتكم إلا لله، فكيف تقول لله: يا ربِّ أنا حكَّمتك؟ كيف تحتكم لله؟ ثم لا تنصاع للحق. الاحتكام لله يعني أن تنصاع لكتابه، والاحتكام لرسوله يعني أن تخضع للسُنَّةِ، إما لكتاب الله، وإما لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى:
}فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً{ [النساء: 65].
وعند النزاع في قضية ما،... قال تعالى:
(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).. فردوّه إلى الله، أي إلى قرآنه، وإلى رسوله أي سنَّته. فإذا كنت مؤمناً، فترُدُّ الأمر المتنازع فيه إلى الله ورسوله.
وبعد، فإن التجربة والاطلاع على أحوال الناس أظهرت أنه إذا كانت قضيَّته تُحلَّ بالقضاء المدني، يقول لك أحدهم: نحن في بلد فيه قانون وقضاء؛ فيذهب إلى المحكمة. وإذا كانت القضيَّة لا تحل في القضاء المدني، ويعلم أنها تحل عند العلماء ويذهب إليهم ويقول لك: أنا أريد حكم الشرع. فلماذا تريد أن تحتكم مرة للشرع، ومرَّة للقانون؟ إذا كنت مؤمناً صادقاً، تحتكم إلى الله دائماً، إلى كتاب الله وإلى سنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلَّم. واعلم أن الله سبحانه قال: ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. فالزم كتاب الله وسنة نبيه.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى