لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب Empty كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب {السبت 4 يونيو - 15:30}

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

واجبات طالب العلم


وإني أتصور الآن أن الكلام بمعونة الله ومشيئته لا بد أن يتعدى إلى فوائد
ومطالب ينتفع بها المنتهي كما ينتفع بها المبتدئ ويحتاج إليها الكامل كما
يحتاج إليها المقصر ويعدها المتحققون بالعرفان من أعظم الهدايا
إخلاص النية لله


فأول ما على طالب العلم أن يحسن النية ويصلح طويته ويتصور أن هذا العمل
الذي قصد له والأمر الذي أراده هو الشريعة التي شرعها الله سبحانه لعباده
وبعث بها رسله وأنزل بها كتبه ويجرد نفسه عن أن يشوب ذلك بمقصد من مقاصد
الدنيا أو يخلطه بما يكدره من الإرادات التي ليست منه كمن يريد به الظفر
بشيء من المال أو يصل به إلى نوع من الشرف أو البلوغ إلى رئاسة من رئاسات
الدنيا أو جاه يحصله به
فإن العلم طيب لا يقبل غيره ولا يحتمل الشركة والروائح الخبيثة إذا لم
تغلب على الروائح الطيبة فأقل الأحوال أن تساويها وبمجرد هذه المساواة لا
تبقى للطيب رائحة والماء الصافي العذب الذي يستلذه شاربه كما يكدره الشيء
اليسير من الماء المالح فضلا عن غير الماء من القاذورات بل تنقص لذته مجرد
وجود القذاة فيه ووقوع الذباب عليه هذا على فرض أن مجرد تشريك العلم مع
غيره له حكم هذه المحسوسات وهيهات ذاك
فإن من أراد أن يجمع في طلبه العلم بين قصد الدنيا والآخرة فقد أراد الشطط
وغلط أقبح الغلط فإن طلب العلم من أشرف أنواع العبادة

وأجلها وأعلاها وقد قال الله سبحانه ( ^ وما
أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) فقيد الأمر بالعبادة بالإخلاص
الذي هو روحها
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ
ما نوى وهو ثابت في دواوين الإسلام كلها وقد تلقته الأمة بالقبول وإن كان
أحاديا أجمع جميع أهل الإسلام على ثبوته وصحته
وقد تقرر في علم البيان الأصول بأن إنما من صيغ الحصر وثبت القول بذلك عن
الصحابة روى عن ابن عباس أنه احتج على اختصاص الربا النسيئة بحديث الربا
في النسيئة ولم يخالفه الصحابة في فهمه وإنما خالفوه في الحكم مستدلين
بأدلة أخرى مصرحة بثبوت ربا الفضل
وكما أن هذا التركيب يفيد ما ذكرناه من الحصر كذلك لفظ الأعمال بالنية أو
بالنيات كما ورد في بعض ألفاظ الحديث الثابتة في الصحيح فإن الألف واللام
تفيد الاستغراق وهو يستلزم الحصر وهكذا ورد في بعض ألفاظ الحديث لا عمل
إلا بنية وهي أيضا من صيغ الحصر بل هي أقواها
والمراد بالأعمال هنا أفعال الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال ومن نازع في
ذلك فقد أخطأ
ثم لا بد لقوله بالنيات من تقدير متخلق عام لعدم ورود دليل يدل على



التعلق الخاص فيقدر الوجود أو الكون أو
الاستقرار أو الثبوت أو ما يفيد مفاد ذلك فيكون التقدير إنما وجود الأعمال
وكونها واستقرارها أو ثبوتها بالنيات فلا وجود أو لا كون أو لا استقرار أو
لا ثبوت لما لم يكن كذلك وهو ما ليس فيه لا يقال أن تقدير الثبوت والوجود
والكون ونحوها يستلزم عدم وجود الذات أو عدم النية وقد وجدت في الخارج
لأنا نقول المراد الذات الشرعية وهي غير موجودة ولا اعتبار بوجودات غير
شرعية ونفي الذات هو المعنى الحقيقي فلا يعدل عنه إلى غيره إلا لصارف ولا
صارف هنا على أنه لو فرض وجود صارف إلى المغنى المجازى لم يكن المقدر
هاهنا إلا الصحة أو ما يفيد مفادها وهي مستلزمة لنفي الذات فتقرر بمجموع
ما ذكرنا أن حصول الأعمال وثبوتها لا يكون إلا بالنية فلا حصول أو لا ثبوت
لما ليس كذلك فكل طاعة من الطاعات وعبادة من العبادات إذا لم تصدر عن
إخلاص نية وحسن طوية لا اعتداد بها ولا التفات إليها بل هي إن لم تكن
معصية فأقل الأحوال أن تكون من أعمال العبث واللعب التي هي بما يصدر عن
المجانين أشبه منها بما يصدر عن العقلاء


قصد تحصيل علم الدين


ومن أهم ما يجب على طالب العلم تصوره عنه الشروع واستحضاره عند المباشرة
بل وفي كل وقت من أقوات طلبه مبتدئا أو منتهيا متعلما وعالما أن يقر في
نفسه أن هذا العلم الذي هو بصدده هو تحصيل العلم الذي شرعه الله لعباده
والمعرفة لما تعبدهم في محكم كتابه وعلى لسان رسوله والوقوف على أسرار
كلام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم
وأن هذا المطلب الذي هو بسبب تحصيله ليس هو من المطالب التي يقصدها من هو
طالب للجاه والمال والرئاسة بل هو مطلب يتأجر به الرب سبحانه



تجنب التحيز والمعصية


وتكون غايته العلم بما بعث الله به رسوله وأنزل فيه كتبه وذلك سبب الظفر
بما عند الله من خير ومثل هذا لا مدخل فيه لعصبية ولا مجال عنده لحمية بل
هو شيء بين الله سبحانه وبين جميع عباده تعبدهم به تعبدا مطلقا أو مشروطا
بشروط وأنه لا يخرج عن ذلك فرد منهم بل أقدامهم متساوية في ذلك عالمهم
وجاهلهم وشريفهم ووضيعهم وقديمهم وحديثهم ليس لواحد منهم أن يدعي أنه غير
متعبد بما تعبد الله به عباده أو أنه خارج عن التكليف أو أنه غير محكوم
عليه بأحكام الشرع ومطلوب منه ما طلبه الله من سائر الناس فضلا عن أن
يرتقي إلى درجة التشريع وإثبات الأحكام الشرعية وتكليف عباد الله سبحانه
بما يصدر عنه من الرأي فإن هذا أمر لم يكن إلا لله سبحانه لا لغيره من
البشر كائنا من كان إلا فيما فوضه إلى رسله وليس لغير الرسل في هذا مدخل
بل الرسل منهم متعبدون بما تعبدهم الله به مكلفون بما كلفوا به مطالبون
بما طلبه منهم
وتخصيصهم بأمور لا تكون لغيرهم لا يعني خروجهم عن كونهم كذلك بل هم من
جملة البشر ومن سائر العباد في التكليف بما جاؤوا به عن الله وقد أخبروا
بهذا وأخبر به الله عنهم كما في غير موضع من الكتاب العزيز ومن السنة
النبوية وكما وقفنا عليه في التوراة والإنجيل والزبور مكررا في كل واحد
منها
وإذا كان هذا حال الرسل عليهم الصلاة والسلام في التعبد بالأوامر الشرعية
والتوقف في التبليغ على ما أمرهم تعالى بتبليغه فلا يشرعون للناس إلا ما
أذن لهم به وأمرهم بإبلاغه وليس لهم من الأمر شيء إلا مجرد البلاغ عن الله
والتوسط بينه وبين عباده فيما شرعه لهم وتعبدهم به كما هو معنى الرسول
والرسالة لغة وشرعا عند من يعرف علم اللغة ومصطلح أهل الشرع
ولا ينافي هذا وقوع الخلاف بين أئمة الأصول في إثبات اجتهاد الأنبياء

ونفيه فإن الخلاف المحرر في هذه المسألة
لفظي عند من أنصف وحقن فكيف بحال غيرهم من عباد الله ممن ليس هو من أهل
الرسالة ولا جعله الله من أهل العصمة كالصحابة فالتابعين فتابعيهم من أئمة
المذاهب فسائر حملة العلم فإن من زعم أن لواحد من هؤلاء أن يحدث في شرع
الله ما لم يكن فيه أو يتعبد عباد الله بما هو خارج عن ما هو منه فقد أعظم
على الله الفرية وتقول على الله تعالى بما لم يقل وأوقع نفسه في هوة لا
ينجو منها إلا طرحها في مطرح سوء ووضعها في موضوع شر ونادى على نفسه
بالجهل والجرأة على الله تعالى والمخالفة لما جاءت به الشرائع وما أجمع
عليه أهلها فإن هذه رتبة لم تكن إلا لله ومنزلة لا ينزلها غيره ولا يدعيها
سواه فمن ادعاها لغيره تصريحا أو تلويحا فقد أدخل نفسه في باب من أبواب
الشرك وكان ذلك هو الفائدة التي استفادها من طلبه والربح الذي ربحه من
تعبه ونصبه وصار اشتغاله بالعلم جناية عليه ومحنة له ومصيبة أصاب بها نفسه
وبلية قادها إليها ومعصية كان عنها بالجهل وعدم الطلب في راحة
وهكذا من لم يحسن لنفسه الاختيار ولا سلك فيها مسالك الأبرار ولا اقتدى
بمن أمر الله الاقتداء به من أهل العلم الذين جعلهم محلا لذلك ومرجعا
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب Empty رد: كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب {السبت 4 يونيو - 15:31}

تحري الإنصاف


فإذا تقرر لك هذا وعلمت بما فيه من الضرر العظيم الذي يمحق بركة العلم
ويشوه وجهه ويصيره بعد أن كان من العبادات التي لا تشبهها طاعة ولا
تماثلها قربة معصية محضة وخطيئة خالصة تبين لك نفع ما أرشد إليه من تحري
الإيمان الذي من أعظم أركانه وأهم ما يحصله لك أن تكون منصفا لا متعصب في
شيء من هذه الشريعة فإنها وديعة الله عندك وأمانته لديك فلا تخنها وتمحق
بركتها بالتعصب لعالم من علماء الإسلام بأن تجعل ما يصدر عنه من الرأي
ويروى له من الاجتهاد حجة عليك وعلى سائر العباد



بل الواجب عليك أن تعترف له بالسبق وتقر له بعلو الدرجة اللائقة به في
العلم معتقدا أن ذلك الاجتهاد الذي اجتهده والاختيار الذي اختاره لنفسه
بعد إحاطته بما لا بد منه هو الذي لا يجب عليه غيره ولا يلزمه سواه لما
ثبت في = الصحيح = عنه صلى الله عليه وسلم من طرق أنه إذا اجتهد الحاكم
فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر وفي خارج = الصحاح = في طرق أنه
إذا أصاب فله عشر أجور وقد صححه الحاكم في = المستدرك = وفضل الله واسع
وعطاؤه جم

فإنك إن فعلت ذلك كنت قد جعلته شارعا لا متشرعا مكلفا لا مكلفا وتعبدا لا
متعبدا وفي هذا من الخطر علك والوبال لك ما قدمناه فإنه وإن فضلك بنوع من
أنواع العلم وفاق عليك بمدرك من مدارك الفهم فهو لم يخرج بذلك عن كونه
محكوما عليه متعبدا بما أنت متعبد فضلا عن أن يرتفع عن هذه الدرجة إلى
درجة يكون رأيه فيها حجة على العباد واجتهاده لديها لازما لهم

توطين النفس على البحث والاجتهاد


وليس لك أن تعتقد أن صوابه صواب لك أو خطأه خطأ عليه بل عليك أن توطن نفسك
على الجد والاجتهاد والبحث بما يدخل من تحت طوقك وتحيط به قدرتك حتى تبلغ
إلى ما بلغ إليه من أخذ الأحكام الشرعية من ذلك المعدن الذي لا معدن سواه
والموطن الذي هو أول الفكر وآخر العمل فإن ظفرت به فقد تدرجت من هذه
البداية إلى تلك النهاية وإن قصرت عنه لم تكن ملوما بعد أن قررت عند نفسك
وأثبت في تصورك أنه لا حجة إلا لله ولا حكم إلا منه ولا شرع إلا ما شرعه
وإن اجتهادات

المجتهدين ليست بحجة على أحد ولا هي من
الشريعة في شيء بل هي مختصة بمن صدرت عنه لا تتعداه إلى غيره ولا يجوز له
أن يحمل عليه أحدا من عباد الله ولا يحل لغيره أن يقبلها عنه ويجعلها حجة
عليه يدين الله بها فإن هذا شيء لم يأذن الله به وأمر لم يسوغه لأحد من
عباده
ولا يغرك ما استدل به القائلون بجواز التقليد فإنه لا دلالة في شيء مما
جاءوا به على محل النزاع وقد أوضحنا ذلك في مؤلف مستقل وهو القول المفيد
في حكم التقليد فارجع إليه إن بقي في صدرك حرج فإنك تقف فيه على ما يريحك
وينثلج به صدرك ويفرح عنده روعك
فإن قلت وكيف يقتدر على تصور ما أرشدت إلى تصوره ويتمكن من توطين نفسه على
ما دللت عليه من أراد الشروع في العلم بادئ بدء وهو إذ ذاك لا يدري ما
الشرع ولا يتعقل الحجة ولا يعرف الإنصاف ولا يهتدي إلى ما هديته إليه إلا
بعد أن يتمرن ويمارس ويكون له من العلم ما يفهم به ما تريد منه
قلت ما أرشدك إليه يعرف بمجرد العقل وسلامة الفطرة وعدم ورود ما يرد عليها
مما يغيرها وعلى فرض ورود شيء من المغيرات عليها كاعتقاد حقية التقليد
ونحوه فارتفاع ذلك يحصل بأدنى تنبيه فإن هذا أمر يقبله الطبع بأول وهلة
لمطابقته للواقع وحقيته وكل ما كان كذلك فهو مقبول والطبائع تنفعل له
انفعالا بأيسر عمل وأقل إرشاد وهذا أمر يعلمه كل أحد ويشترك في معرفته
أفراد الناس على اختلاف طبقاتهم ولهذا نبه عليه الشارع فقال كل مولود يولد
على الفطرة ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه وهو ثابت في = الصحيح =





تجربة الشوكاني مع الاجتهاد


وإني أخبرك أيها الطالب عن نفسي تحدثا بنعمة الله سبحانه ثم تقريبا لما
ذكرت لك من أن هذا الأمر كامن في طبائع الناس ثابت في غرائزهم وأنه من
الفطرة التي فطر الله الناس عليها
إني لما أردت الشروع في طلب العلم ولم أكن إذا ذاك قد عرفت شيئا منه حتى
ما يتعلق بالطهارة والصلاة إلا مجرد ما يتلقاه الصغير من تعليم الكبير
لكيفية الصلاة والطهارة ونحوهما فكان أول بحث طالعته بحث كون الفرجين من
أعضاء الوضوء في الأزهار وشرحه لأن الشيخ الذي أردت القراءة عليه والأخذ
عنه كان قد بلغ في تدريس تلامذته إلى هذا البحث فلما طالعت هذا البحث قبل
الحضور عند الشيخ رأيت اختلاف الأقوال فيه سألت والدي رحمه الله عن تلك
الأقوال أيها يكون العمل عليه
فقال يكون العمل على ما في الأزهار
فقلت صاحب الأزهار أكثر علما من هؤلاء
قال لا
قلت فكيف كان اتباع قوله دون أقوالهم لازما
فقال أصنع كما يصنع الناس فإن فتح الله عليك فستعرف ما يؤخذ به وما يترك
فسألت الله عند ذلك أن يفتح علي من معارفه ما يتميز لي به الراجح من
المرجوح وكان هذا في أول بحث نظرته وأول موضوع درسته وقعدت فيه بين يدي
العلم فاعتبر بهذا ولا تستبعد ما أرشدتك إليه فتحرم بركة العلم وتمحق
فائدته
ثم ما زلت بعد كما وصفت لك أنظر في مسائل الخلاف وأدرسها على الشيوخ ولا
أعتقد ما يعتقده أهل التقليد من حقية بعضهم بمجرد الإلف والعادة والاعتقاد
الفاسد والاقتداء بمن لا يقتدي به بل أسأل من عندهُ

علم بالأدلة على الراجح وأبحث في كتب الأدلة
عن ماله تعلق بذلك أستروح إليه وأتعلل به مع الجد في الطلب واستغراق
الأوقات في العلم خصوصا علوم الاجتهاد وما يلتحق بها فإني نشطت إليها
نشاطا زائدا لما كنت أتصوره من الانتفاع بها حتى فتح الله بما فتح ومنح ما
منح فله الحمد كثيرا حمدا لا يحاط به ولا يمكن الوقوف على كنهه
فإن وطنت نفسك أيها الطالب على الإنصاف وعدم التعصب لمذهب من المذاهب ولا
لعالم من العلماء بل جعلت الناس جميعا بمنزلة واحدة في كونهم منتمين إلى
الشريعة محكوما عليهم بما لا يجدوا لأنفسهم عنها مخرجا ولا يستطيعون تحولا
فضلا عن أن يرتقوا إلى واحد منهم أو يلزمه تقليده وقبوله قوله فقد فزت
بأعظم فوائد العلم وربحت بأنفس فرائده
ولأمر ما جعل صلى الله عليه وسلم المنصف أعلم الناس وإن كان مقصرا فإنه
أخرج الحاكم في = المستدرك = وصححه مرفوعا أعرف الناس أبصرهم بالحق إذا
اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على أستة هكذا في حفظي
فليراجع = المستدرك = فانظر كيف جعل صلى الله عليه وسلم المنصف أعلم الناس
وجعل ذلك هو الخصلة الموجبة للأعلمية ولم يعتبر غيرها وإنما كان أبصر
الناس بالحق إذا اختلف الناس لأنه لم يكن لديه هوى ولا حمية ولا عصبية
لمذهب من المذاهب أو عالم من العلماء فصفت غريزته عن أن تتكدر بشيء من ذلك
فلم يكن له مأرب ولا مقصد إلا مجرد معرفة ما جاء عن الشارع فظفر بذلك
بسهولة من غير مشقة ولا تعب لأنه موجود إما في كتاب الله وهو بين أظهرنا
في المصاحف الشريفة مفسر بتفاسير العلماء الموثوق بهم وإما في سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهي أيضا موجودة قد ألف أهل العلم في أدلة
المسائل من السنة كتبا متنوعة منها ما هو على أبواب الفقه ومنها ما هو على



حروف المعجم فكان تناوله يسيرا ثم قد تكلم
الأئمة على صحتها وحسنها فجاؤوا بما لا يحتاج الناظر معه إلى غيره ووضعوا
في ذلك مؤلفات مشتملة على ذلك اشتمالا على أحسن وجه وأبدع أسلوب ثم أوضحوا
ما في السنة من الغريب بل جمعوا بين المتعارضات ورجحوا ما هو راجح ولم
يدعو شيئا تدعو إليه الحاجة فإذا وقف على ذلك من قد تأهل للاجتهاد وظفر
بعلومه أخذه أخذ غير أخذ من لم يكن كذلك وعمل عليه مطمئنه به نفسه ساكنة
إليه نافرة عن غيره هاربة منه






الأسباب التي تؤدي إلى البعد عن الحق والعصبية



النشوء في بلد متمذهب بمذهب معين



حب الشرف والمال



الجدال والمراء وحب الظهور



حب القرابة والتعصب للأجداد



صعوبة الرجوع إلى الحق لقوله بخلافه



كون المنافس المتكلم بالحق صغير السن أو الشأن



آفات الشيوخ والتلاميذ



علاج التعصب



العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عن الحق



عود إلى أسباب التعصب



الاستناد إلى قواعد ظنية



عدم الموضوعية في عرض حجج الخصوم



المنافسة بين الأقران



التباس ما هو من الرأي البحث بشيء من العلوم التي هي
مواد الاجتهاد


رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب Empty رد: كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب {السبت 4 يونيو - 15:32}

الأسباب التي تؤدي إلى البعد عن الحق والتعصب


واعلم أن سبب الخروج عن دائرة الإنصاف والوقوع في موبقات التعصب كثيرة جدا
فمنها
النشوء في بلد متمذهب بمذهب معين


وهو أكثرها وقوعا وأشدها بلاء أن ينشأ طالب العلم في بلد من البلدان التي
قد تمذهب أهلها بمذهب معين واقتدوا بعالم مخصوص وهذا الداء قد طبق في بلاد
الإسلام وعم أهلها ولم يخرج عنه إلا أفراد قد يوجد الواحد منهم في المدينة
الكبيرة وقد لا يوجد لأن هؤلاء الذين ألفوا هذه المذاهب قد صاروا يعتقدون
أنها هي الشريعة وأن ما خرج عنها خارج عن الدين مباين لسبيل المؤمنين ( ^
كل حزب بما لديهم فرحون ) فأهل هذا المذهب يعتقدون أن الحق بأيديهم وأن
غيرهم على الخطأ والضلال والبدعة وأهل المذهب الآخر يقابلونهم بمثل ذلك
والسبب أنهم نشأوا فوجدوا آباءهم وسائر قراباتهم على ذلك ورثة الخلف عن
السلف والآخر عن الأول وانضم إلى ذلك قصورهم عن إدراك الحقائق بسبب
التغيير الذي ورد عليهم ممن وجدوه قبلهم
وإذا وجد فيهم من يعرف الحق فهو لا يستطيع أن ينطق بذلك مع أخص خواصه
وأقرب قرابته فضلا عن غيره لما يخافه على نفسه أو على ماله أو على جاهه
بحسب اختلاف المقاصد وتباين العزائم الدينية فيحصل من قصورهم مع تغير
فطرهم بمن أرشدهم إلى البقاء على ما هم عليه وأنه الحق وخلافه الباطل
وسكوت من له فطنة ولدينه عرفان وعنده إنصاف عن

تعليمهم معالم الإنصاف وهدايتهم إلى طرق
الحق ما يوجب جمودهم على ما هم عليه واعتقادهم أن الحق مقصور عليه منحصر
فيه وأن غيره ليس من الدين ولا هو من الحق فإذا سمع عالما من العلماء يفتى
بخلافه أو يعمل على ما لا يوافقه اعتقد أنه من أهل الضلال ومن الدعاة إلى
البدعة وهذا إذا عجز عن إنزال الضرر به بيده أو لسانه فإن تمكن من ذلك
فعله معتقدا أنه من أعظم ما يتقرب به إلى الله ويدخره في صحائف حسناته
ويتأجر الله
وهذا معلوم لكل أحد وقد شاهدنا منه مالا يأتي عليه حصر ولا تحيط به عبارة
بل قد بلغ هذا المتعصب في معاداة من يخالفه إلى حد يجاوز به عدواته لليهود
والنصارى ولو علم المخدوع المغرور بأن سعيه ضلال وعمله وبال وأنه من ( ^
الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا ) لأقصر عن غوايته وأرعوى عن بعض جهله لكنه جهل قدر نفسه وخسران سعيه
وتحامي غيره من أهل المعرفة والفهم إرشاده إلى الحق وتنبيهه على فساد ما
هو فيه مخافة على نفسه منه وممن يشابهه في ذلك فتعاظم الأمر وعم البلاء
وتفاقم الأمر وعم الضرر
ولو نظر ذلك المتعصب بعين الإنصاف ورجع إلى عقله وما تقتضيه فطرته الأصلية
لكف عن فعله وأقصر عن غيه وجهله ولكنه قد حيل بينه وبين ذاك وفرغ الشيطان
منه إلا من عصم الله وقليل ما هم
وهكذا صاحب المعرفة وحامل الحجة وثاقب الفهم لو وطن نفسه على الإرشاد
وتكلم بكلمة الحق ونصر الله سبحانه ونصر دينه وقام في تبيين ما أمره الله
بتبيينه لحمد مسراه وشكر عاقبته وأراه الله سبحانه من بدائع صنعه وعجائب
وقايته وصدق ما وعد به من قوله ( ^ ولينصرن الله من ينصره ) ( ^ إن تنصروا
الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ما يزيده



ثباتا ويشد من عضده ويقوى قلبه في نصرة الحق
ومعاضدة أهله
ومن تأمل الأمر كما ينبغي عرف أن كل قائم بحجة الله إذا بينها للناس كما
أمره الله وصدع بالحق وضرب بالبدعة في وجه صاحبها وألقم المعتصب حجرا
وأوضح له ما شرعه الله لعباده وأنه في تمسكه بمحض الرأي مع وجود البرهان
الثالث عن صاحب الشرع كخابط عشواء وراكب العمياء فإن قبل منه ظفر بما وعده
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأجر في حديث لأن يهدى الله بك رجلا
الحديث وإن لم يقبل منه كان قد فعل ما وجب الله عليه وخلص نفسه من كتم
العلم الذي أمره الله بإفشائه وخرج من ورطة أن يكون من الذين يكتمون ما
أنزل الله من البينات والهدى ودفع الله عنه ما سولته له نفسه الأمارة من
الظنون الكاذبة والأوهام الباطلة وانتهى حاله إلى أن يكون كعبه الأعلى
وقوله الأرفع ولم يزده ذلك إلا رفعة في الدنيا والآخرة وحظا عند عباد الله
وظفرا بما وعد الله به عبادة المتقين وهم وإن أرادوا أن يضعوه بكثرة
الأقاويل وتزوير المطاعن وتلفيق العيوب وتواعدوه بإيقاع المكروه به وإنزال
الضرر عليه فذلك كله ينتهي إلى خلاف ما قدروه وعكس ما ظنوه وكانت العاقبة
للمتقين كما وعد به عبادة المؤمنين ( ^ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله )
ولقد تتبعت أحوال كثير من القائمين بالحق المبلغين به كما أمر الله
المرشدين إلى الحق فوجدتهم ينالون من حسن الأحدوثة وبعد الصيت وقوة الشهرة
وانتشار العلم ونفاق المؤلفات وطيرانها وقبولها في الناس ما لا يبلغه
غيرهم ولا يناله من سواهم
وسأذكر لك هنا جماعة ممن اشتهرت مذاهبهم وانتشرت أقوالهم وطارت



مصنفاتهم بعدهم وما أصابهم من المحنة ما
نالهم كإمام دار الهجرة مالك بن أنس فإنه بلى بخصوم وعاداه ملوك فنشر الله
مذهبه في الأقطار واشتهر من أقواله ماملأ الأنجاد والأغوار
كذلك الإمام أحمد بن حنبل فإنه وقع له من المحن التي هي منح مما لا يخفى
على من له اطلاع وضرب بين يدي المعتصم العباسي ضربا مبرحا وهموا بقتله مرة
بعد مرة وسجنوه في الأمكنة المظلمة وكبلوه بالحديد ونوعوا له أنواع العذاب
فنشر الله من علومه ما لا يحتاج إلى بيان ولا يفتقر إلى إيضاح وكانت
العاقبة له فصار بعد ذلك إمام الدنيا غير مدافع ومرجع أهل العلم غير منازع
ودون الناس كلماته وانتفعوا بها وكان يتكلم بالكلمة فتطير في الآفاق فإذا
تكلم بالكلمة في رجل بجرح تبعه الناس وبطل علم المجروح وإن تكلم في رجل
بتعديل كان هو العدل الذي لا يحتاج بعد تعديله إلى غيره
ثم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري أصابه من محمد بن يحيى الذهلي



وأتباعه من المحنة ما مات به كمدا ثم جعل
الله تعالى كتابه الجامع الصحيح كما ترى أصح كتاب في الدنيا وأشهر مؤلف في
الحديث وأجل دفتر من دفاتر الإسلام
ثم انظر أحوال من جاء بعد هؤلاء بدهر طويل كابن حزم المغربي فإنه أصيب
بمحن عظيمة بسبب ما أظهره من إرشاد الناس إلى الدليل والصدع بالحق وتضعيف
علم الرأي حتى أفضى ذلك إلى امتحان الملوك له وإيقاعهم به وتشريده من
مواطنه وتحريق مصنفاته ومع ذلك نشر الله من علومه ما صار عند كل فرقة وفي
كل بلاد المسلمين وبين ظهراني كل طائفة
ثم كذلك شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية أحمد بن عبد الحليم فإنه لما أبان
للناس فساد الرأي وأرشدهم إلى التمسك بالدليل وصدع بما أمره الله به ولم
يخف في الله لومة لائم قام عليه طوائف من المنتمين إلى العلم المنتحلين له
من أهل المناصب وغيرهم فمازالوا يحاولون ويصاولون ويسعون به إلى الملوك
ويعقدون له مجالس المناظرة ويفتون تارة بسفك دمه وتارة باعتقاله فنشر الله
من فوائده ما لم ينشر بعضه لأحد من معاصريه وترجمه أعداؤه فضلا عن أصدقائه
بتراجم لم يتيسر لهم مثلها ولا ما يقارنها لأحد من الذين يتعصبون لهم
ويدأبون في نشر فضائلهم



ويطرؤون في إطرائهم وجعل الله له من ارتفاع
الصيت وبعد الشهرة ما لم يكن لأحد من أهل عصره حتى اختلف من جاء بعد عصره
في شأنه واشتغلوا بأمره فعاداه قوم وخالفهم آخرون والكل معترفون بقدره
معظمون له خاضعون لعلومه واشتهر هذا بينهم غاية الاشتهار حتى ذكره
المترجمون لهم في تراجمهم فيقولون وكان من المائلين إلى ابن تيمية أو
المائلين عنه
وهذه الإشارة إنما هي لقصد الإيضاح لك لتعلم بما يصنعه الله لعباده وعلماء
دينه وحملة حجته وفي كل عصر من هذا الجنس من تقوم به الحجة على العباد
وانظر في أهل قطرنا فإنه لا يخفى عليك حالهم إن كنت ممن له اطلاع علي
أخبار الناس وبحث عن أحوالهم كالسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير فإنه
قام داعيا إلى الدليل في ديارنا هذه في وقت غربة وزمان ميل من الناس إلى
التقليد وإعراض عن العمل بالبرهان فناله من أهل عصره من المحن ما اشتملت
عليه مصنفاته حتى ترسل عليه من ترسل من مشائخه برسالة حاصلها الإنكار عليه
لما هو فيه من العمل بالدليل وطرح التقليد وقام عليه كثير من الناس وثلبوه
بالنظم والثر ولم يضيره ذلك شيئا بل نشر الله من علومه وأظهر من معارفه ما
طار كل مطار
ثم جاء بعده مع طول فصل وبعد عهد السيد العلامة الحسن بن أحمد الجلال
والعلامة صالح بن مهدي المقبلي فنالا من المحن والعداوة من



أهل عصرهما ما حمل الأول على استقراره في
هجرة الجراف منعزلا عن الناس وحمل الثاني على الارتحال إلى الحرم الشريف
والاستقرار فيه حتى توفاه الله فيه ومع هذا فنشر الله من علومهم وأظهر
مؤلفاتهم ما لم يكن لأحد من أهل عصرهما ما يقاربه فضلا عن أن يساويه
ثم كان في العصر الذي قبل عصرنا هذا السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير
وله في القيام بحجة الله والإرشاد إليها وتنفير الناس عن العمل بالرأي
وترغيبهم إلى علم الرواية ما هو مشهور معروف فعاداه أهل عصره وسعوا به إلى
الملوك ولم يتركوا في السعي عليه بما يضره جهدا وطالت بينه وبينهم
المصاولة والمقاولة ولم يظفروا منه بطائل ولا نقصوه من جاه ولا مال ورفعه
الله عليهم وجعل كلمته العليا ونشر له من المصنفات المطولة والمختصرة ما
هو معلوم عند أهل هذه الديار ولم ينتشر لمعاصريه المؤذين له المبالغين في
ضرره بحث من المباحث العلمية فضلا عن رسالة فضلا عن مؤلف بسيط فهذه عادة
الله في عباده فأعلمها وتيقنها
وكان شيخنا السيد العلامة عبد القادر بن أحمد رحمه الله من أكثر الناس
نشرا للحق وإرشادا له وتلقينا له وهدما لما يخالفه فجعل الله علما



يقتدى به ومرجعا يأوى إليه أهل عصره وأخضع
له كل مخالف له واعترف له كل واحد بأنه إمام عصره وعالمه ومجتهده ولم يضره
ما كان يناله به المخالفون له من الغيبة التي هي غاية ما يقدرون عليه
ونهاية ما يبلعون إليه
وإني أخبرك أيها الطالب عن نفسي وعن الحوادث الجارية بيني وبين أهل عصري
ليزداد يقينك وتكون على بصيرة فيما أرشدتك إليه اعلم أني كنت عند شروعي في
الطلب على الصفة التي ذكرتها لك سابقا ثم كنت بعد التمكن من البحث عن
الدليل والنظر في مجاميعه أذكر في مجالس شيوخي ومواقف تدريسهم وعند
الاجتماع بأهل العلم ما قد عرفته من ذلك لا سيما عند الكلام في شئ من
الرأي مخالف الدليل أو عند ورود قول عالم من أهل العلم قد تمسك بدليل ضعيف
وترك الدليل القوي أو أخذ بدليل عام وبعمل خاص أو بمطلق وطرح المقيد أو
بمجمل ولم يعرف المبين أو بمنسوخ ولم ينتبه للناسخ أو بأول ولم يعرف بآخر
أو بمحض رأي ولم يبلغه أن في تلك المسألة دليلا يتعين عليه العمل به فكنت
إذا سمعت بشيء من هذا لا سيما في مواقف المتعصبين ومجامع الجامدين تكلمت
بما بلغت إليه مقدرتي وأقل الأحوال أن أقول استدل هذا بكذا وفلان المخالف
له بكذا ودليل فلان أرجح لكذا فمازال أسراء التقليد يستنكرون ذلك
ويستعظمونه لعدم الفهم به وقبول طبائعهم له حتى ولد ذلك في قلوبهم من
العداوة والبغضاء ما الله به عليم
ثم كنت إذا فرغت من أخذ فن من الفنون أو مصنف من المصنفات على شيوخي أقبل
جماعة من الطلبة إلي وعولوا علي في تدريسهم في ذلك
فكان يأخذ أترابي شيئا من الحسد الذي لا يخلو عنه إلا القليل
ثم تكاثر الطلبة علي في علوم الاجتهاد وغيرها وأخذوا عني أخذا خاليا عن
التعصب سالما من الاعتساف فكنت أقرر لهم دليل كل مسألة وأوضح



لهم الراجح فيها وأصرح لهم بوجوب المصير إلى
ذلك وكانوا قد تمرنوا وعرفوا علوم الاجتهاد وذهب عنهم ما تكدرت به فطرهم
من المغيرات
فزاد ذلك المخالفين عداوة وشناعة وحسدا وبغضا وأطلقوا ألسنتهم بذلك وكان
مع ذلك ترد إلي أبحاث من جماعة من أهل العلم الساكنين بصنعاء وغيرهم من
أهل البلاد البعيدة والمدائن النائية فأحرر الجوابات عليهم في رسائل
مستقلة ويرغب تلامذتي لتحصيل ذلك وتنتشر في الناس فإذا وقف عليه المتعصبون
ورأوه يخالف ما يعتقدون استشاطوا غضبا وعرضوا ذلك على من يرجون منه
الموافقة والمساعدة فمن ثالب بلسانه ومعترض بقلمه وأنا مصمم على ما أنا
فيه لا أنثني عنه ولا أميل عن الطريقة التي أنا فيها وكثيرا ما يرفعون ذلك
إلى من لا علم عنده من رؤساء الدولة الذين لهم في الناس شهرة وصولة فكان
في كل حين يبلغني من ذلك العجب ويناصحني من يظهر لي المودة ومن لا تخفى
عليه حقيقة ما أقوله وحقيته مع اعترافهم بأن ما أسلكه هو ما أخذه الله على
الذين حملوا الحجة لكنهم يتعللون بأن الواجب يسقط بدون ذلك ويذكرون أحوال
أهل الزمان وما هم عليه وما يخشونه من العواقب فلا أرفع لذلك رأسا ولا
أعول عليه
وكنت أتصور في نفسي أن هؤلاء الذين يتعصبون علي وتشغلون أنفسهم بذكري
والحط علي هم أحد رجلين
إما جاهل لا يدري أنه جاهل ولا يهتدي بالهداية ولا يعرف الصواب
وهذا لا يعبأ الله به
أو رجل متميز له حظ من علم وحصة من فهم لكنه قد أعمى بصيرته الحسد وذهب
بإنصافه حب الجاه وهذا لا ينجع فيه الدواء ولا تنفع عنده المحاسنة ولا
يؤثر فيه شئ
فمازلت على ذلك وأنا أجد المنفعة بما يصنعونه أكثر من المضرة والمصلحة
العائدة على ما أنا فيه بما هم فيه أكثر من المفسدة





ولم تكن لي إذ ذاك مداخلة لأحد من أرباب الدولة ولا اتصال بهم
واشتد لهج الناس بهذه القضية وجعلوها حديثهم في مجامعهم وكان من بيني
وبينهم مودة يشيرون علي بالفرار أو الاستتار وأجمع رأيهم على أني إذا لم
أساعدهم على أحد الأمرين فلا أعود إلى مجالس التدريس التي كنت أدرس بها في
جامع صنعاء فنظرت ما عند تلامذتي فوجدت أنفسهم قوية ورغبتهم في التدريس
شديدة إلا القليل منهم فقد كادوا يستترون من

ولقد اشتد بلاهم وتفاقمت محنتهم في بعض الواقعات فقاموا قومه شيطانية
وصالوا صولة جاهلية وذلك أنه ورد إلي سؤال في شأن ما يقع من كثير من
المقصرين من الذم لجماعة من الصحابة صانهم الله وغضب على من ينتهك أعراضهم
المصونة فأجبت برسالة ذكرت فيها ما كان عليه أئمة الزيدية من أهل البيت
وغيرهم ونقلت إجماعهم من طرق وذكرت كلمات قالها جماعة من أكابر الأئمة
وظننت أن نقل إجماع أهل العلم يرفع عنهم العماية ويردهم عن طرق الغواية
فقاموا بأجمعهم وحرروا جوابات زيادة على عشرين رسالة مشتملة على الشتم
والمعارضة بما لا ينفق إلا على بهيمة واشتغلوا بتحرير ذلك وأشاعوه بين
العامة ولم يجدوا عند الخاصة إلا الموافقة تقية لشرهم وفرارا من معرتهم
وزاد الشر وتفاقم حتى أبلغوا ذلك إلى أرباب الدولة والمخالطين لملوك من
الوزراء وغيرهم وأبلغوه إلى مقام خليفة العصر حفظه الله وعظم القضية عليه
جماعة ممن يتصل به فمنهم من يشير عليه بحبسى ومنهم من ينتصح له بأخراجي من
مواطني وهو ساكت لا يلتفت إلى شئ من ذلك وقاية من الله وحماية لأهل العلم
ومدافعة عن القائمين بالحجة في عباده


الخوف ويفرون من الفزع
فلم أجد لي رخصة في البعد عن مجالس التدريس
وعدت وكان أول درس عاودته عند وصولي إلى الجامع في أصول الفقه بين
العشائين فانقلب من بالجامع وتركوا ما هم فيه من الدرس والتدريس ووقفوا
ينظرون إلي متعجبين من الإقدام على ذلك لما قد تقرر عندهم من عظم الأمر
وكثرة التهويل والوعيد والترهيب حتى ظنوا أنه لا يكمن البقاء في صنعاء
فضلا عن المعاودة للتدريس ثم وصل وأنا في حال ذلك الدرس جماعة لم تجر لهم
عادة بالوصول إلى الجامع وهم متلفعون بثيابهم لا يعرفون وكانوا ينظرون إلي
ويقفون قليلا ثم يذهبون ويأتي آخرون حتى لم يبق شك مع أحد أنها إن لم تحصل
منهم فتنة في الحال وقعت مع خروجي من الجامع فخرجت من الجامع وهم واقفون
على مواضع من طريقي فما سمعت من أحدهم كلمة فضلا عن غير ذلك
وعاودت الدروس كلها وتكاثر الطلبة المتميزون زيادة على ما كانوا عليه من
كل فن وقد كانوا ظنوا أنه لا يستطيع أحد أن يقف بين يدي مخافة على أنفسهم
من الدولة والعامة فكان الأمر على خلاف ما ظنه وكنت أتعجب من ذلك وأقول في
نفسي هذا من صنع الله الحسن ولطفه الخفي لأن من كان الحامل له على ما وقع
الحسد والمنافسة لم ينجح كيده بل كان الأمر على خلاف ما يريد
ومن عجيب ما أشرحه لك أنه كان في درس بالجامع بعد صلاة العشاء الآخرة في
صحيح البخاري يحضره من أهل العلم الذين مقصدهم الرواية وإثبات السماع
جماعة ويحضره من عامة الناس جمع جم لقصد الاستفادة بالحضور
فسمع ذلك وزير رافضى من وزراء الدولة وكانت له صولة وقبول كلمة بحيث لا
يخالفه أحد وله تلعق بأمر الأجناد فحمله ذلك على أن



استدعى رجلا من المساعدين له في مذهبه فنصب
له كرسيا في مسجد من مساجد صنعاء ثم كان يسرج له الشمع الكثير في ذلك
المسجد حتى يصير عجبا من العجب فتسامع به الناس وقصدوا إليه من كل جانب
لقصد الفرجة والنظر إلى ما لا عهد به والرجل الذي على الكرسي يملي عليهم
في كل وقت ما يتضمن الثلب لجماعة من الصحابة صانهم الله
ثم لم يكتف ذلك الوزير بذلك حتى أغرى جماعة من الأجناد من العبيد وغيرهم
بالوصول إلي لقصد الفتنة فوصلوا وصلاة العشاء الآخرة قائمة ودخلوا الجامع
على هيئة منكرة وشاهدتهم عند وصولهم
فلما فرغت الصلاة قال لي جماعة من معارفي إنه يحسن ترك الإملاء تلك الليلة
في البخاري فلم تطب نفسي بذلك واستعنت بالله وتوكلت عليه وقعدت في المكان
المعتاد وقد حضر بعض التلاميذ وبعضهم لم يحضر تلك الليلة لما شاهد وصول
أولئك الأجناد
ولما عقدت الدرس وأخذت في الإملاء رأيت أولئك يدورون حول الحلقة من جانب
إلى جانب ويقعقعون بالسلاح ويضربون سلاح بعضهم في بعض ثم ذهبوا ولم يقع شئ
بمعونة الله تعالى وفضله ووقايته
ثم أن ذلك الوزير أكثر السعاية إلى المقام الإمامي هو ومن يوافقه على هواه
ويطابقه في اعتقاده من أعوان الدولة واستعانوا برسائل بعضها من علماء
السوء وبعضها من جماعة من المقصرين الذين يظنهم من لا خبرة له في عداد أهل
العلم
وحاصل ما في تلك الرسائل إني قدر أردت تبديل مذهب أهل البيت عليهم السلام
وأنه إذا لم يتدارك ذلك الخليفة بطل مذهب آبائه ونحو هذا من العبارات
المفتراه والكلمات الخشنة والأكاذيب الملفقة
ولقد وقفت على رسالة منها لبعض أهل العلم ممن جمعني وإياه طلب العلم



ونظمنا جميعا عقد المودة وسابق الإلفة
فرأيته يقول فيها مخاطبا لإمام العصر إن الذي ينبغي له ويجب عليه أن يأمر
جماعة يكبسون منزلي ويهجمون مسكني ويأخذون ما فيه من الكتب المتضمنة لما
يوجب العقوبة من الاجتهادات المخالفة للمذهب
فلما وقف على ذلك قضيت منه العجب ولولا أن تلك الرسالة بخطه المعروف لدي
لما صدقت وفيها من هذا الزور والبهت والكلمات الفظيعة شئ كثير وهي في نحو
ثلاثة كراريس
وعند تحرير هذه الأحرف قد انتقم الله منه فشرده إمام العصر إلى جزيرة من
جزائر البحر مقرونا في السلاسل بجماعة من السوقة وأهل الحرف الدنيئة
وأهلكه الله في تلك الجزيرة ( ^ ولا يظلم ربك أحدا ) وكان حدوث هذه
الحادثة عليه ونزول هذه الفاقرة به بمرأى ومسمع من ذلك الوزير الرافضي
الذي ألف له تلك الرسالة استجلابا لما عنده وطلبا للقرب إليه وتوددا له
ومن جملة ما وقفت عليه من الرسائل المؤلفة بعناية هذا الوزير رسالة لبعض
مشائخي الذين أخذت عنهم بعض العلوم الإلهية وفيها من الزور ومحض الكذب ما
لا يظن بمن هو دونه وما حمله على ذلك إلا الطمع في الوزير فعاقبه الله
بقطع ما كان يجرى عليه من الخليفة وأصيب بفقر مدقع وفاقة شديدة حتى صار
عبرة من العبر وكان يفد إلي يشكو حاله وما هو فيه من الجهد والبلاء فأبلغ
جهدي فيم منفعته وما يسد فاقته
وهكذا جماعة من المترسلين علي المبالغين في إنزال الضرر بي أرجعهم الله
إلي راغمين وأحوجهم لمعونتي مضطرين ولم أعاقب أحدا منهم بما أسلفه ولا
كافيته بما قدمته
فانظر صنع الله مع من عودى وأوذى لأجل تمسكه بالإنصاف ووقوفه عنه الحق





ومما أسوقه إليك أيها الطالب وأعجبك منه أنه كان لي صديق بمدينة من مدائن
اليمن جمعني وإياه الطلب والإلفة والوداد وكان عالي القدر رفيع المنزلة في
العلم كبير السن بعيد الصيت مشهور الذكر ولعله كان يفيد الطلبة في الفقه
قبل مولدي وقرأ عليه بعض شيوخي ورحل إلى صنعاء وطلب علوم الاجتهاد في أيام
طلبي لها وكان بيني وبينه من المودة أمر عظيم وله معي مذاكرات ومباحثات
وترسلات في فوائد كثيرة هي في مجموع رسائلي
فلما حدث ما حدث من قيام ما قام علي من الخاصة والعامة وكان إذا ذاك قد
فارق صنعاء وعاد إلى مدينته وعكف عليه الطلبة واستفادوا به في الفنون
فقاموا عليه وقالوا إنه بلغ إلينا ما حدث من أليفك الذي تكثر الثناء عليه
والمذاكرة له من مخالفة المذهب والتظهر بالاجتهاد فإن كنت موافقا له قمنا
عليك كما قام عليه أهل صنعاء وإن كنت تخالفه فيما ظهر منه فترسل عليه
فوصلت منه رسالة في عدة كراريس وما حمله على ذلك إلا المداراة لهم والتقية
منهم وظاهرها المخالفة وباطنها الموافقة مع حسن عبارة وجودة مسلك ولم
أستنكر ذلك منه ولا أنبته عليه فإن الصدع بالحق والتظهر بما لا يوافق
الناس من الحق لا يستطيعه إلا الأفراد وقليل ما هم
ووصلت رسائل من جماعة آخرين من مدائن بعيدة من صنعاء فيها ما هو موافق لي
مقو لما ذهبت إليه وفيها ما هو مخالف لذلك ( ^ ولا يزالون مختلفين )

اللهم إني أحمدك على جميل صنعك وجزيل فضلك وجميل طولك حمدا يتجدد بتجدد
الأوقات ويتعدد بعدد المعدودات وإني لم أكن أهلا لما أوليته فأنت له أهل
وبه حقيق لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك




وبالجملة فالشرح لما حدث لي من الحوادث في هذا الشأن يطول ولو ذهبت أسردها
وأذكر ما تعقبها من ألطاف الله التي هي من أعظم العبر ومنحه التي لا
تبلغها الأفهام ولا تحيط بها الأوهام لم يف بذلك إلا مصنف مستقل
وليس المقصود ههنا إلا ما نحن بصدد من تنشيط طالب العلم وترغيبه في التمسك
بالإنصاف والتحلي بحلبة الحق والتلبس بلباس الصدق وتعريفه بأن قيامه في
هذا المقام كما أنه سبب الفوز بخير الآخرة هو أيضا سبب الوصول إلى ما
تطلبه أهل الدنيا من الدنيا وأن له الثأر على من خالفه والظهور على من
ناوأه في حياته وبعد موته وأنه بهذه الخصلة الشريفة التي هي الإنصاف ينشر
الله علومه ويظهر في الناس أمره ويرفعه إلى مقام لا يصل إلى أدنى مراتبه
من يتعصب في الدين ويطلب رضاء الناس بإسخاط رب العالمين

وليس بعجيب خذلان من خذلني ولم يقم بنصري ولم يصدع بالحق في أمري من علماء
صنعاء العارفين بالعلوم المتمسكين منها بجانب يفرقون به بين الحق والباطل
فثورة العامة يتقيها غالب الناس ولا سيما إذا حطبوا في جبل من ينتمي إلى
دولة ويتصل بملك ويتأيد بصولة ويأبى الله إلا أن يتم نوره وينصر دينه
ويؤيد شرعه
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب Empty رد: كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب {السبت 4 يونيو - 15:33}

حب الشرف والمال


ومن جملة الأسباب التي يتسبب عنها ترك الإنصاف ويصدر عنها البعد عن الحق
وكتم الحجة وعدم ما أوجبه الله من البيان حب الشرف والمال اللذين هما أعدى
على الإنسان من ذئبين ضاريين كما وصف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإن هذا هو السبب الذي حرف به أهل الكتاب كتب الله المنزلة على رسله
وكتموا ما جاءهم فيها من البينات والهدى كما

وقع من أحبار اليهود وقد أخبرنا الله بذلك
في كتابه العزيز وأخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثابت عنه
في الصحيح
وبهذا السبب بقى من بقى على الكفر من العرب وغيرهم بعد قيام الحجة عليهم
وظهور الحق لهم وبه نافق من نافق
ووقع في الإسلام من أهل العلم بذلك السبب عجائب مودعة بطون كتب التاريخ
وكم من عال قد مال إلى هوى ملك من الملوك فوافقه على ما يريد وحسن له ما
يخالف الشرع وتظهر له بما ينفق لديه من المذاهب
بل قد وضع بعض المحدثين للملوك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما وقع من وهب بن وهب أبو البخترى مع الرشيد ووقع من آخر في حديث لا سبق
إلا في خف أو حافر أو نصل فزاد في الحديث أو جناح موافقة للملك الذي رآه
يلعب بالحمام ويسابق بينها
ووضع جماعة مناقب لقوم وآخرون مثالب لآخرين لا حامل لهم على



ذلك إلا حب الدنيا والطمع في الحطام والتقرب
إلى أهل الرئاسة بما ينفق لديهم ويروح عليهم نسأل الله الهداية والحماية
من الغواية
وكم قد سمعنا ورأينا في عصرنا من أهله فكثيرا ما نرى الرجل يعتقد في نفسه
اعتقادا يوافق الحق ويطابق الصواب فإذا تكلم عند من يخالفه في ذلك ويميل
إلى شئ من البدعة فضلا عن أن يكون من أهل الرئاسة وممن بيده من الدنيا
فضلا عن أن يكون من الملوك وافقه وساعده وسانده وعاضده وأقل الأحوال أن
يكتم ما يعتقده من الحق ويغمط ما قد تبين له من الصواب عند من لا يجوز منه
ضررا ولا يقدر منه نفعا فكيف ممن عداه
وهذا في الحقيقة من تأثير الدنيا على الدين والعاجلة على الآجلة وهو لو
أمعن نظره وتدبر ما وقع فيه لعلم أن ميله إلى هوى رجل أو رجلين أو ثلاثة
أو أكثر ممن يجاملهم في ذلك المجلس ويكتم الحق مطابقة لهم واستجلابا
لمودتهم واستبقاء لما لديهم وفرارا من نفورهم وهو من التقصير بجانب الحق
والتعظيم لجانب الباطل فلولا أن هؤلاء النفر لديه أعظم من الرب سبحانه لما
مال إلى هواهم وترك ما يعلم أنه مراد الله سبحانه ومطلبه من عباده
وكفاك بهذه الفاقرة العظيمة والداهية الجسيمة فإن رجلا يكون عنده فرد من
أفراد عباد الله أعظم قدرا من الله سبحانه ليس بعد تجرئه على الله شئ
أرشدنا الله إلى الحق بحوله وطوله
ومن غريب ما أحكيه لك من تأثر هوى الملوك والميل إلى ما يوافق ما ينفق
عندهم واقعة معي مشاهدة لي وإن كانت الوقائع في هذا الباب لا يأتي عليها
الحصر وهي مودعة بطون الدفاتر معروفة عند من له خبرة بأحوال من تقدم
وذلك أنه عقد خليفة العصر حفظه الله مجلسا جمع فيه وزراءه



وأكابر أولاده وكثيرا من خواصه وحضر هذا
المجلس من أهل العلم ثلاثة أنا أحدهم وكان عقد هذا المجلس لطلب المشورة في
فتنة حدثت بسبب بعض الملوك ووصول جيوشه إلى بعض الأقطار الإمامية وتخاذل
كثير من الرعايا واضطرابهم وارتجاف اليمن بأسره بذلك السبب
فأشرت إلى الخليفة بأن أعظم ما يتوصل به إلى دفع هذه النازلة هو العدل في
الرعية والاقتصار في المأخوذ منهم على ما ورد به الشرع وعدم مجاوزته في شئ
وإخلاص النية في ذلك وإشعار الرعية في جميع الأقطار والعزم عليه على
الاستمرار فإن ذلك من الأسباب التي تدفع كل الدفع وتنجع أبلغ النجع فإن
اضطراب الرعايا ورفع رؤوسهم إلى الواصلين ليس إلا لما يبلغهم من اقتصارهم
على الحقوق الواجبة وليس ذلك لرغبة في شئ آخر
فلما فرغت من أداء النصيحة انبرى أحد الرجلين الآخرين وهو ممن حظى من
العلم بنصيب وافر ومن الشرف بمرتبة علية ومن السن بنحو ثمانين سنة وقال إن
الدولة لا تقوم بذلك ولا تتم إلا بما جرت به العادة من الجبايات ونحوها ثم
أطال في هذا بما يتحير عنده السامع ويشترك في العلم بمخالفته للشريعة
العالم والجاهل والمقصر والكامل وذكر أنه قد أخذ الجباية ونحوها من الرعية
فلان وفلان وعدد جماعة من أئمة العلم ممن لهم شهرة وللناس فيهم اعتقاد
وهذا مع كونه عنادا للشريعة وخلافا لما جاءت به وجرأة على الله نصبا
للخلاف بينه وبين من عصاه وخالف ما شرعه هو أيضا مجازفة بحتة في الرواية
عن الذين سماهم بل هو محض الكذب وإنما يروى على بعض المتأخرين ممن لم يمسه
ذلك القائل وهذا البعض الذي يروى عنه ذلك إنما فعله أياما يسيرة ثم طوى
بساطه وعلم أنه خلاف ما شرعه الله فتركه وإنما حمله على ذلك رأي رآه
وتدبير دبره ثم تبين له فساده
فانظر أرشدك الله ما مقدار ما قاله هذا القائل في ذلك الجمع الحافل الذي
شمل الإمام وجميع المباشرين للأعمال الدولية والناظرين في أمر الرعية ولم



ينتفع هذا القائل بمقالته لا من زيادة جاه
ولا مال بل غاية ما استفاده ونهاية ما وصل إليه اجتماع الألسن على ذمة
واستعظام الناس لما صدر منه
وهكذا جرت عادة الله في عباده فإنه لا ينال من أراد الدنيا بالدين إلا
وبالا وخسرانا عاجلا أم آجلا خصوصا من كان من الحاملين لحجة الله
المأمورين بإبلاغها إلى العباد فإن خيره في الدنيا والآخرة مربوط بوقوفه
على حدود الشريعة فإن زاغ عنها زاغ عنه وقد صرح الله سبحانه بما يفيد هذا
في غير موضع من كتابه العزيز
فأنت أيها الحامل للعلم لا تزال بخير ما دمت قائما بالحجة مرشدا إليها
ناشرا لها غير مستبدل بها عرضا من أعراض الدنيا أو مرضاة من أهلها


الجدال والمراء وحب الانتصار والظهور


ومن جملة الأسباب التي يتسبب عنها ترك الإنصاف وكتم الحق وغمط الصواب ما
يقع بي أهل العلم من الجدال والمراء فإن الرجل قد يكون له بصيرة وحسن
إدراك ومعرفة بالحق ورغوب إليه فيخطئ في المناظرة ويحمله الهوى ومحبة
الغلب وطلب الظهور على التصميم على مقاله وتصحيح خطأه وتقويم معوجه
بالجدال والمراء
وهذه الذريعة الإبليسية والدسيسة الشيطانية قد وقع بها من وقع في مهاوي من
التعصبات ومزالق من التعسفات عظيمة الخطر مخوفة العاقبة
وقد شاهدنا من هذا الجنس ما يقضى منه العجب فإن بعض من يسلك هذا المسلك قد
يجاوز ذلك إلى الحلف بالإيمان على حقيقة ما قاله وصواب ما ذهب إليه وكثيرا
منهم يعترف بعد أن تذهب عنه سورة الغضب وتزول عنه نزوة الشيطان بأنه فعل
ذلك تعمدا مع علمه بأن الذي قاله غير صواب

وقد وقع مع جماعة من السلف من هذا الجنس
مالا يأتي عليه الحصر وصار ذلك مذاهب تروى وأقوال تحكى كما يعرف ذلك من
يعرف


حب القرابة والتعصب للأجداد


ومن الأسباب المقتضية للتعصب أن يكون بعض سلف المشتغل بالعلم قد قال بقول
ومال إلى رأى فيأتي هذا الذي جاء بعده فيحمله حب القرابة على الذهاب إلى
ذلك المذهب والقول بذلك القول وإن كان يعلم أنه خطأ
وأقل الأحوال إذا لم يذهب إليه أن يقول فيه إنه صحيح ويتطلب له الحجج
ويبحث عن ما يقويه وإن كان بمكان من الضعف ومحل من السقوط وليس له في هذا
حظ ولا معه فائدة إلا مجرد المباهاة لمن يعرفه والتزين لأصحابه بأنه في
العلم معرق وان بيته قديم فيه
ولهذا ترى كثيرا منهم يستكثر من قال جدنا قال والدنا واختار كذا صنع كذا
فعل كذا وهذا لا شك أن الطباع البشرية تميل إليه ولا سيما طبائع العرب فإن
الفخر بالأنساب والتحدث بما كان للسلف من الأحساب يجدون فيه من اللذة ما
لا يجدونه في تعدد مناقب أنفسهم ويزداد هذا بزيادة شرف النفس وكرم العنصر
ونبالة الآباء ولكن ليس من المحمود أن يبلغ بصاحبه إلى التعصب في الدين
وتأثير الباطل على الحق فإن اللذة التي يطلبها والشرف الذي يريده قد حصل
له بكون من سلفه ذلك العالم ولا يضيره أن يترك التعصب له ولا يمحق عليه
شرفه بل التعصب مع كونه مفسدا للحظ الأخروي يفسد عليه أيضا الحظ الدنيوي
فإنه إذا تعصب لسلفه بالباطل فلا بد أن يعرف كل من له فهم أنه متعصب وفي
ذلك عليه من هدم الرفعة التي يريدها والمزية التي يطلبها ما هو أعظم عليه
وأشد من الفائدة التي يطلبها بكون له قريب عالم فإنه لا ينفعه صلاح غيره
مع فساد نفسه وإذا لم يعتقد فيه السامع التعصب اعتقد بلاده الفهمُ

ونقصان الإدراك وضعف التحصيل لأن الميل إلى
الأقوال الباطلة ليس من شأن أهل التحقيق الذين لهم كمال إدراك وقوة فهم
وفضل دراية وصحة رواية بل ذلك دأب من ليست له بصيرة نافذة ولا معفرة نافعة
فقد حصل عليه بما تلذذ به وارتاح إليه من ذكر شرف السلف ما حقق عند سامعه
بأنه من خلف الخلف
ولقد رأيت من أهل عصري في هذا عجبا فإن بعض من جمعني وإياه الطلب لعلوم
الاجتهاد يتعصب لبعض المصنفين من قرابته تعصبا مفرطا حتى أنه إذا سمع من
يعترض عليه أو يستبعد شيئا قاله اضطرب وتزيد وجهه وتغيرت أخلاقه سواء عليه
من اعترض بحق أو بباطل فإنه لا يقبل سمعه في هذا كلاما ولا يسمع من نصيح
ملاما
ومع هذا فهو بمحل من الإنصاف ومكان من العرفان قد تحصلت له علوم الاجتهاد
تحصلا قويا ونظر في الأدلة نظرا مشبعا
وكان صدور مثل هذا منه يحملني في سن الحداثة وشرخ الشباب على تحرير مباحث
انقض بها رسائل ومسائل من كلام قريبه قاصدا بذلك إيقاظه ورده إلى صواب
الصواب
وكنت إذا أردت إغضابه أو الانتصاف منه ذكرت بحثا من تلك الأبحاث أو مسألة
من تلك المسائل التي اعترضتها
وبهذا السبب تجد من كان له سلف على مذهب من المذاهب كان على مذهبه سواء
كان ذلك المذهب من مذاهب الحق أو الباطل
ثم تجد غالب العلوية شيعة وغالب الأموية عثمانية وكان تعظيم عثمان في
الدولة الأموية عظيما وأهل تلك الدولة مشغولون بحفظ مناقبه



ونشرها وتعريف الناس إياها وكانوا إذ ذاك
يثلبون من كانت بينه وبينه عداوة أو منافسة
ثم لما جاءت الدولة العباسية عقبها كان العباس عند أهلها أعظم الصحابة
قدرا وأجلهم وكذلك ابنه عبد الله وتوصلت خلفاء بني العباس بكثير من شعراء
تلك الدولة إلى تفضيل العباس على علي ثم تفضيل أولاد العباس على أولاد علي
وكان الناس في أيامهم يعدونهم أهل البيت ويطبقون ما ورد من فضائل الآل
عليهم وأولاد علي إذ ذاك إنما هم عندهم خوارج لقيامهم عليهم ومنازعتهم لهم
في الملك
ولقد كان بنو أمية قبلهم هكذا يعتقد أهل دولتهم فيهم أنهم هم الآل
والقرابة وعصبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن العلوية والعباسية ليسوا
من ذلك في ورود ولا صدر بل أطبقوا هم وأهل دولتهم على لعن علي ولا يعرف
لديهم إلا بأبي تراب والمنتسب إليه والمعظم له ترابى لا يقام له وزن ولا
يعظم له جانب ولا ترعى له حرمة
ثم قامت الدولة العبيدية فانتسبوا إلى علي وسموا دولتهم الدولة العلوية
الفاطمية ثم أفرطوا في التشيع وغالوا في حب علي وبغض كثير من الصحابة
واشتغل الناس بفضائل علي ونشرها وبالغوا في ذلك حتى وضع لهم علماء السوء
أكاذيب مفتراة وقد جعل الله ذلك الإمام في غنى عنها بما ورد في فضائله
فالناشئ في دولة ينشأ على ما يتظهر به أهلها ويجد عليه سلفه فيظنه الدين
الحق والمذهب العدل ثم لا يجد من يرشده إلى خلافه إن كان قد تظهر أهله
بشيء من البدع وعلموا على خلاف الحق لأن الناس إما عامة وهم يعتقدون في
تلك البدع التي نشأوا عليها ووجدها بين ظهرانيهم إنما هي الدين الحق
والسنة القويمة والنحلة الصحيحة وإما



خاصة ومنهم من يترك التكلم بالحق والإرشاد
إليه مخافة الضرر من تلك الدولة وأهلها بل وعامتها فإنه لو تكلم بشئ خلاف
ما قد علموا عليه ونشروه في الناس لخشى على نفسه وأهله وماله وعرضه ومنهم
من يترك التكلم بالحق محافظة على حظ قد ظفر به من تلك الدولة من مال وجاه
وقد يترك التكلم بالحق الذي هو خلاف ما عليه الناس استجلابا لخواطر العوام
ومخافة من نفورهم عنه وقد يترك التكلم بالحق لطمع يظنه ويرجو حصوله من تلك
الدولة أو من سائر الناس في مستقبل الزمان كمن يطمع في نيل رئاسة من
الرئاسات ومنصب من المناصب كائنا ما كان ويرجو حصول رزق من السلطان أو أي
فائدة فإنه يخاف أن تفوت عليه هذه الفائدة المظنونة والرئاسة المطموع فها
فيتظهر بما يوافق الناس ويتفق عندهم ويميلون إليه ليكون له ذلك ذخيرة وبذا
عندهم ينال بها عرض الدنيا الذي يرجوه
فكيف تجد ذلك الناشئ بين من كان كذلك من يرشده إلى الحق ويبين له الصواب
ويحول بينه وبين الباطل ويجنبه الغواية وهيهات ذاك فالدنيا مؤثرة والدين
تبع لها
ومن شك في هذا فليخبرنا من ذاك الذي يستطيع أن يصرخ بين ظهراني دولة من
تلك الدول بما يخالف اعتقاد أهلها وتألفه عامتها وخاصتها ووقوع مثل ذلك
نادرا إنما يقوم به أفراد من مخلصي العلماء ومنصفيهم وقليل ما هم فإنهم لا
يوجدون إلا على قلة وإعواز وهم حملة الحجة على الحقيقة والقائمون ببيان ما
أنزل الله والمترجمون للشريعة وهم العلماء حقا وأما غيرهم ممن يعلم كما
يعلمون ولا يتكلم كما يتكلمون بل يكتم ما أخذ الله عليه بيانه ويعمل
بالجهل مع كونه عالما بأنه جهل ويقول بالبدعة مع اعتقاده أنها بدعة فهذا
ليس بأهل لدخوله في مسمى العلم ولا يستأهل أن يوصف بوصف من أوصافه أو يدخل
في عداد أهله بل هو متظهر وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته بالجهل والبدعة
مطابقة لأهل الجهل والابتداع وتنفيفا لنفسه عليهم واستجلابا لقلوبهم
ومداراة لهم حتى يبقى عليه جاهه



ويستمر له رزقه الجاري عليه من بيت مال
المسلمين أو وقفهم أو نحو ذلك
فهذا هو من البائعين عرض الدين بالدنيا المؤثرين العاجلة على الآجلة فضلا
عن أن يستحق الدخول في أهل العلم والوصول إلي هذا العلم
ومن شك فيما ذكرته أو تردد في بعض ما سقته فليمعن النظر في أهل عصره هل
يستطيع أحد من أهل العلم أن يخالف ما يهواه السلطان من المذاهب فضلا عن أن
يصرح للناس بخلافه هذا على فرض أن ذلك الذي يهواه الملك بدعة من البدع
الشنيعة التي لا خلاف في شناعتها ومخالفتها للشريعة كما تعتقده الخوارج
والروافض فإن السنة الصريحة المتواترة التي لا خلاف فيها قد جاءت بقبح ذلك
وذم فاعله وضلاله فانظر هداك الله وإياي من يتكلم من أهل العلم الساكنين
في أرض الخوارج كبلاد عمان ونحوها بما يخالف مذهب الخوارج أو ينكر ذلك
عليهم أو يرشد الناس إلى الحق وكذلك من كان ساكنا من أهل العلم ببلاد
الروافض كبلاد الأعاجم ونحوها هل تجد رجلا منهم يخالف ما هم عليه من الرفض
فضلا عن أن ينكره عليهم
بل قد تجد غالب من في بلاد أهل البدع من العلماء الذين لا تخفى عليهم
مناهج الحق وطرائق الرشد يتظهرون للملوك والعامة بما يناسب ما هم عليه
ويوهمونهم بأنهم يوافقونهم وأن تلك البدعة التي هم عليها ليست ببدعة بل هي
سنة وحق وشريعة ويعملون كعملهم ويدخلون في ضلالهم فيكونون ممن أضله الله
على علم





فيا من أخذ الله عليه البيان وعلمه السنة والقرآن إذا تجزئت على ربك بترك
طاعاته وطرح ما أمرك به فقف عند هذه المعصية وكفى بها وقس ما علمته كالعدم
لا عليك ولا لك ودع المجاورة لهذه المعصية إلى ما هو أشد منها وأقبح من
ترويج بدع المبتدعين والتحسين لها وإيهامهم أنهم على الحق
فإنك إذا فعلت ذلك كان علمك لا علمت بلاء على أهل تلك البدع بعد كونه بلاء
عليك لأنهم يفعلون تلك البدع على بصيرة ويتشددون فيها ولا تنجع فيهم بعد
ذلك من موعظة واعظ ولا نصيحة ناصح ولا إرشاد مرشد لاعتقادهم فيك لا كثر
الله في أهل العلم من أمثالك فإنك عالم محقق متقن قد عرفت علوم الكتاب
والسنة فلم يكن في علماء السوء شر منك ولا أشد ضررا على عباد الله
وقد جرت قاعدة أهل البدع في سابق الدهر ولاحقه بأنهم يفرحون بصدور الكلمة
الواحدة عن عالم من العلماء ويبالغون في إشهارها وإذاعتها فيما بينهم
ويجعلونها حجة لبدعتهم ويضربون بها وجه من أنكر عليهم كما تجده في كتب
الروافض من الروايات لكلمات وقعت من علماء الإسلام فيما يتعلق بما شجر بين
الصحابة وفي المناقب والمثالب فإنهم يطيرون عند ذلك فرحا ويجعلونه من أعظم
الذخائر والغنائم
فإن قلت لا شك فيما أرشدت إليه من وجوب الصدع بالحق والهداية إلى الإنصاف
وتأثير ما قام عليه الدليل الصحيح على محض الرأي وبيان

فمن كان من أهل العلم هكذا فهو لم ينتفع بعلمه فضلا عن أن ينتفع به غيره
فعلمه محنة له وبلاء عليه والجاهل خير منه بكثير فإنه فعل البدعة ووقع في
غير الحق معتقدا أن ما فعله هو الذي تعبده الله به وأراده منه


ما أنزله الله للناس وعدم كتمه لكن إذا فعل
العالم ذلك وصرح بالحق في بلاد البدع وأرشد إلى العمل بالدليل في مدائن
التقليد قد لا يتأثر عن ذلك إلا مجرد التنكيل به والهتك لحرمته وإنزال
الضرر به
قلت إنما سألت هذا السؤال وجئت بهذا المقال ذهولا عما قدمته لك وأوضحته
وكررت من حفظ الله للمتكلمين بالحق ولطفه بالمرشدين لعباده إلى الإنصاف
وحمايته لهم عن ما يظنه من ضعف إيمانه وخارت قوته ووهت عزيمته فارجع النظر
فيما أسلفته وتدبر ما قدمته تعلم به صدق ما وعد الله به عباده المؤمنين من
أن العاقبة للمتقين
ثم هب صدق ما حدسته ووقوع ما قدرته وحصول المحنة عليك ونزول الضرر بك فهل
أنت كل العالم وجميع الناس أم تظن أنك مخلد في هذه الدار أم ماذا عسى يكون
إذا عملت بالعلم ومشيت على الطريقة التي أمرك الله بها فنهاية ما ينزل
عليك ويحل بك أن تكون قتيلا للحق وشهيدا للعلم فتظفر بالسعادة الأبدية
وتكون قدوة لأهل العلم إلى آخر الدهر وخزيا لأهل البدع وقاصمة لظهورهم
وبلاء مصوبا عليهم وعارا لهم ما داموا متمسكين بضلالهم سادرين في عمايتهم
واقعين في مزالقهم وكم قد سبقك من عباد الله إلى هذه الطريقة وظفر بهذه
المنزلة العلية وفيهم لك القدوة وبهم الأسوة
فانظر يا مسكين من قطعته السيوف ومزقته الرماح من عباد الله في الجهاد
فإنهم طلبوا الموت ورغبوا في الشهادة والبيض تغمد في الطلاء والرماح تغرز
في الكلأ والموت بمرأى منهم ومسمع يأتيهم من أمامهم وخلفهم ومن عن يمينهم
وشمالهم



فأين أنت من هؤلاء ولست إلا قائما بين
ظهراني المسلمين تدعوهم إلى ما شرعه الله وترشدهم إلى تأثير كتاب الله
وسنة رسوله على محض الرأي والبدع فإن الذي نظن بمثلك ممن يقوم بمقامك إن
لم تنجذب له القلوب بادئ ذي بدء ويتبعه الناس بأول نداء أن يستنكر الناس
ذلك عليه ويستعظموه منه وينالوه بألسنتهم ويسيئوا القالة فيه فيكثروا
الغيبة له فضلا عن أن يبلغ ما يصدر منهم إلى الإضرار ببدنه أو ماله فضلا
عن أن ينزل به منهم ما نزل بأولئك وهب أنه ناله أعظم ما جوزه وأقبح ما
قدره فليس هو بأعظم مما أصيب به من قتل في سبيل الله
وها أنا أرشدك على ما تستعين به على القيام بحجة الله والبيان لما أنزله
وإرشاد الناس إليه على وجه لا تتعاظمه وتقدر فيه ما كنت تقدره من تلك
الأمور التي جبنت عند تصورها وفرقت بمجرد تخيلها وهو أنك لا تأتي الناس
بغتة وتصك وجهوهم مفاجئة ومجاهرة وتنعى عليهم ما هم فيه نعيا صراحا وتطلب
منهم مفارقة ما ألفوه طلبا مضيفا وتقتضيه اقتضاء حثيثا
بل أسلك معهم مسالك المتبصرين في جذب القلوب إلى ما يطلبه الله من عباده
ورغبهم في ثواب المنقادين إلى الشرع المؤثرين للدليل على الرأي وللحق على
الباطل
فإن كانوا عامة فهم أسرع الناس انقيادا لك وأقربهم امتثالا لما تطلبه منهم
ولست تحتاج معهم إلى كثير مؤنة بل اكتف معهم بترغيبهم في التعلم لأحكام
الله ثم علمهم ما علمك الله منها على الوجه الذي جاءت به الرواية



وصح في الدليل فهم يقبلون ذلك منك قبولا
فطريا ويأخذونه أخاذ خلقيا لأن فطرتهم لم تتغير بالتقليد ولا تكدرت
بالممارسة لعلم الرأي ما لم يتسلط عليه شيطان من شياطين الإنس قد مارس علم
الرأي واعتقد أنه الحق وأن غيره الباطل وأنه لا سبيل للعامة إلى الشريعة
إلا بتقليد من هو مقلد له واتباع من يتبعه فإنه إذا تسلط على العامة مثل
هذا وسوس لهم كما يوسوس الشيطان وبالغ في ذلك لأنه يعتقد ذلك من الدين
ويقطع بأنه في فعله داع من دعاة الحق وهاد من هداة الشرع وأن غيره على
ضلالة
وهذا وأمثاله هم أشد الناس على من يريد إرشادهم إلى الحق ودفعهم عن البدع
لأن طبائعهم قد تكدرت وفطرهم قد تغيرت وبلغت في الكثافة والغلظة والعجرفة
إلى حد عظيم لا تؤثر فيه الرقى ولا تبلغ إليه المواعظ فلم تبق عندهم سلامة
طبائع العامة حتى ينقادوا إلى الحق بسرعة ولا قد بلغوا إلى ما بلغ إليه
الخاصة من رياضة أفهامهم وتلطيف طبائعهم بممارسة العلوم التي تتعقل بها
الحجج الشرعية ويعرف بها الصواب ويتميز بها الحق حتى صاروا إذا أرادوا
النظر في مسئلة من المسائل أمكنهم الوقوف على الحق والعثور على الصواب
وبالجملة فالخاصة إذا بقى فيهم شيء من العصبية كان إرجاعهم إلى الإنصاف
متيسر غير متعسر بإيراد الدليل الذي تقوم به الحجة لديهم فإنهم إذا سمعوا
الدليل عرفوا الحق وإذا حاولوا وكابروا فليس ذلك عن صميم اعتقاد ولا عن
خلوص نية
فرياضة الخاصة بإيراد الأدلة عليهم وإقامة حجج الله وإيضاح براهينه
وذلك يكفي فإنهم لما قد عرفوه من علوم الاجتهاد ومارسوه من الدقائق لا
يخفى عليهم الصواب ولا يلتبس عليهم الراجح بالمرجوح والصحيح بالسقيم
والقوي بالضعيف والخالص بالمغشوش
ورياضة العامة بإرشادهم إلى التعلم ثم بذل النفس لتعليمهم ما هو الحق في
اعتقاد ذلك المعلم بعد أن صار داعيا من دعاة الحق ومرشدا من مرشدي



المسلمين ثم ترغيبهم بما وعد الله به
وإخبارهم بما يستحقه من فعل كفعلهم من الجزاء والأجر ثم يجعل لهم من
القدوة بأفعاله مثل ما يجعله لهم من القدوة بأقواله أو زيادة فإن النفوس
إلى الاقتداء بالفعال أسرع منها إلى الاقتداء بالقوال
والعقبة الكؤود والطريق المستوعرة والخطب الجليل والعبء الثقيل إرشاد طبقة
متوسطة بين طبقة العامة والخاصة وهم قوم قلدوا الرجال وتلقوا علم الرأي
ومارسوه حتى ظنوا أنهم بذلك قد فارقوا طبقة العامة وتميزوا عنهم وهم لم
يتميزوا في الحقيقة عنهم ولا فارقوهم إلا بكون جهل العامة بسيطا وجهل
هؤلاء جهلا مركبا وأشد هؤلاء تغييرا لفطرته وتكديرا لخلقته أكثرهم ممارسة
لعلم الرأي وأثبتهم تمسكا بالتقليد وأعظمهم حرصا عليه فإن الدواء قد ينجع
في أحد هؤلاء في أوائل أمره وأما بعد طول العكوف على ذلك الشغف به والتحفظ
له فما أبعد التأثير وما أصعب القبول لأن طبائعهم ما زالت تزداد كثافة
بازدياد تحصيل ذلك وتستفيد غلظة وفظاظة باستفادة ذلك وبمقدار ولوعهم بما
هم فيه وشغفهم به تكون عدواتهم للحق ولعم الأدلة وللقائمين بالحجة
ولقد شاهدنا من هذه الطبقة مالوا سردنا بعضه لاستعظمه سامعه واستفظعه فإن
غالبهم لا يتصور بعد تمرنه فيما هو فيه إلا منصبا يثبت عليه أو يتيما
يشاركه في ماله أو أرملة يخادعها عن ملكها أو فرصة ينتهزها عند ملك أو قاض
فيبلغ بها إلى شيء من حطام الدنيا
ولا يبقى في طبائع هؤلاء شيء من نور العلم وهدى أهله وأخلاقهم بل هم أشبه
شيء بالجبابرة وأهل المباشرة للمظالم ومع هذا فهم أشد خلق الله تعصبا
وتعنتا وبعدا من الحق ورجوعهم إلى الحق من أبعد الأمور وأصعبها لأنه لم
يبق في أفهامهم فضلة لتعقل ذلك وتدبره بل قد صار بعضها مستغرقا بالرأي
وبعضها مستغرقا بالدنيا
فإن قلت فهل بقى مطمع في أهل هذه الطبقة وكيف الوصول إلى



إرشادهم إلى الإنصاف وإخراجهم عن التعصب
قلت لا مطمع إلا بتوفيق الله وهدايته فإنه إذا أراد أمرا يسر أسبابه وسهل
طرائقه
وأحسن ما يستعمله العالم مع هؤلاء ترغيبهم في العلم وتعظيم أمره والإكثار
من مدح علوم الاجتهاد وأن بها يعرف أهل العلم الحق من الباطل ويميزون
الصواب من الخطأ وأن مجرد التقليد ليس من العلم الذي ينبغي عد صاحبه من
جملة أهل العلم لان كل مقلد يقر على نفسه بأنه لا يعقل حجج الله ولا يفهم
ما شرعه لعباده في كتابه وعلى لسان رسوله وأن من ظفر من طلبه وفاز من كده
ونصبه لمجرد اتباع فرد من أفراد علماء هذه الأمة وتقليده وقبول قوله دون
حجته فلم يظفر بطائل ولا نال حظاُ
فإن بقى في من كان من هذه الطبقة من علو الهمة وحظ من شرف النفس وقسط من
الرغبة في نيل ما هو أعلى مناقب الدنيا والآخرة فقد تميل نفسه إلى العلم
بعض الميل فيأخذ من علوم الاجتهاد بنصيب ويفهم بعض الفهم فيعرف أنه كان
معللا لنفسه بما لا يسمن ولا يغني من جوع ومشتغلا بما لا يرتقى به إلى شئ
من درجات العلم
فهذا الدواء لأهل هذه الطبقة من أنفع الأدوية وهو لا يؤثر بعض التأثير إلا
مع كون ذلك المخاطب له بعض استعداد للفهم وعنده إدراك وهو القليل
وأما من كان لا يفهم شيئا فيه من علوم الاجتهاد وإن أجهد نفسه وأطال عناها
وأعظم كدها كما هو الغالب على أهل هذه الطبقة فإنهم إذا استفرغوا وسعهم في
علم الرأي وأنفقوا في الاشتغال به شطرا من أعمارهم وسكنت أنفسهم إلى
التقليد سكونا تاما وقبلته قبولا كليا لم تبق بقية لفهم شئ من العلوم
وقد شاهدنا من هذا الجنس من لا يأتي عليه الحصر قد تقتضيه في بعض الأحوال
رغبة تجذبه إلى النظر في علم النحو فلا يفهمه قط فضلا عن سائر



علوم الاجتهاد التي يفتتحها الطلبة بهذا
العلم
فمن كان على هذه الصفة وبهذه المنزلة لا يأتي إرشاده إلى تعلم علوم
الاجتهاد بفائدة وأحسن ما يستعمله معه من يريد تقليل تعصبه ودفع بعض ما قد
تغيرت به فطرته هو أن ينظر العالم من عمل بذلك الدليل الذي هو الحق من
قدماء المقلدين فيذكرهم أنه قد خالف إمامهم في تلك المسألة فلان وفلان ممن
هو في طبقته أو أعلا طبقة منه وليس هو بالحق أولى من المخالفين له فإن قبل
ذهنهم هذا فقد انفتح باب العلاج للطبيب لأنه ينتقل معهم من ذلك إلى ما
استدل به أمامهم وما استدل به من خالفه وينتقل منه إلى وجوه الترجيح
مبتدئا بما هو أقرب إلى قبول فهم ذلك العليل ثم ينقله من مرتبة إلى مرتبة
حتى يستعمل من الدواء ما يقلل تلك العلة فإنه إذا أدرك العليل ذهاب شئ
منها حصل له بعض نشاط يحمله على قبول ما يذهب بالبقية
ولكن ما أقل من يقبل شيئا من هذه الأدوية فإنه قد ارتكز في ذهن غالب هؤلاء
إن الصحة والسلامة لهم هي في نفس العلة التي قد تمكنت من أذهانهم فسرت إلى
قلوبهم وعقولهم وأشربوا من حبها زيادة على ما يجده الصحيح عن العلة من
محبة ما هو فيه من الصحة والعافية وسبب ذلك أنهم اعتقدوا أن إمامهم الذي
قلدوه ليس في علماء الأمة من يساويه أو يدانيه ثم قبلت عقولهم هذا
الاعتقاد الباطل وزاد بزيادة الأيام والليالي حتى بلغ إلى حد يتسبب عنه أن
جميع أقواله صحيحة جارية على وفق الشريعة ليس فيها خطأ ولا ضعف وأنه أعلم
الناس في الأدلة الواردة في الكتاب والسنة على وجه لا يفوت عليه منها شئ
ولا تخفى منها خافية فإذا أسمعوا دليلا في كتاب الله أو سنة رسوله قالوا
لا كان هذا راجحا على ما ذهب إليه إمامنا لذهب إليه ولم يتركه لكنه تركه
لما هو أرجح منه عنده فلا يرفعون لذلك رأسا ولا يرون بمخالفته بأسا وهذا
صنيع قد اشتهر عنهم وكاد أن يعمهم قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر على اختلاف
المذاهب وتباين النحل فإذا قال لهم القائل اعملوا بهذه الآية القرآنية أو
بهذا الحديث الصحيح قالوا لست أعلم من إمامنا حتى نتبعك ولو كان هذا كما
تقول لم يخالفه من قلدناه فهو

لم يخالفه إلا ما أرجح منه
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب Empty رد: كتاب:أدب الطلب ومنتهى الأدب {السبت 4 يونيو - 15:37}

وقد ينظم إلى هذا من بعض أهل الجهل والسفه والوقاحة وصف ذلك الدليل الذي
جاء به المخاطب لهم بالبطلان والكذب إن كان من السنة ولو تمكنوا من تكذيب
ما في الكتاب العزيز إذا خالف ما قد قلدوا فيه لفعلوا
وأما في ديارنا هذه فقد لقنهم من هو مثلهم في القصور والبعد عن معرفة الحق
ذريعة إبليسية ولطيفة مشئومة هي أن دواوين الإسلام الصحيحين والسنن الأربع
وما يلتحق بها من المستندات والمجاميع المشتملة على السنة إنما يشتغل بها
ويتكرر درسها ويأخذ منها ما تدعو حاجته إليه من لم يكن من اتباع أهل البيت
لأن المؤلفين لها لم يكونوا من الشيعة
فيدفعون بهذه الذريعة الملعونة جميع السنة المطهرة لأن السنة الواردة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ما في تلك المصنفات ولا سنة غير ما فيها
وهؤلاء وإن كانوا يعدون من أهل العلم لا يستحقون أن يذكروا مع أهله ولا
تنبغي الشغلة بنشر جهلهم وتدوين غباوتهم لكنهم لما كانوا قد تلبسوا بلباس
أهل العلم وحملوا دفاتره وقعدوا في المساجد والمدارس اعتقدتهم العامة من
أهل العلم وقبلوا ما يلقونه من هذه الفواقر فظلوا وأظلوا وعظمت بهم الفتنة
وحلت بسببهم الرزية فشاركوا سائر المقلدة في ذلك الاعتقاد في أئمتهم الذين
قد قلدوهم واختصموا من بينهم بهذه الخصلة الشنيعة والمقالة الفضيعة فإن
أهل التقليد من سائر المذاهب يعظمون كتب السنة ويعترفون بشرفها وأنها
أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأنها هي دواوين الإسلام
وأمهات الحديث وجوامعه التي عول عليها أهل العلم في سابق الدهر ولاحقه
بخلاف أولئك فإنها عندهم بالمنزلة التي ذكرناها فضموا إلى شنعة التقليد
شنعة أخرى هي أشنع منها وإلى بدعة التعصب بدعة أخرى هي أفضع منها
ولو كان لهم أقل حظ من علم وأحقر نصيب من فهم لم يخف عليهم أن هذه الكتب
لم يقصد مصنفوها إلا جمع ما بلغ إليهم من السنة بحسب


ما بلغت إليه مقدرتهم وانتهى إليه علمهم ولم
يتعصبوا فيها لمذهب ولا اقتصروا فيها على ما يطابق بعض المذاهب دون بعض بل
جمعوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ليأخذ كل عالم منها بقدر
علمه وبحسب استعداده
ومن لم يفهم هذا فهو بهيمة لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به النوع الإنساني
وغاية ما ظفر به من الفائدة بمعاداة كتب السنة التسجيل على نفسه بأنه
مبتدع أشد ابتداع فإن أهل البدع لم ينكروا جميع السنة ولا عادوا كتبها
الموضوعة لجمعها بل حق عليهم اسم البدعة عند سائر المسلمين بمخالفة بعض
مسائل الشرع
فانظر أصلحك الله ما يصنع الجهل بأهله ويبلغ منهم حتى يوقعهم في هذه الهوة
فيعترفون على أنفسهم بما يقشعر له جلد الإسلام وتبكي منه عيون أهله
وليتهم نزلوا كتب السنة منزلة فن من الفنون التي يعتقدون أن أهله أعرف به
من غيرهم وأعلم ممن سواهم فإن هؤلاء المقلدة على اختلاف مذاهبهم وتباين
نحلهم إذا نظروا في مسألة من مسائل النحو بحثوا كتب النحاة وأخذوا بأقوال
أهله وأكابر أئمته كسيبويه والأخفش ونحوهما ولم يلتفتوا إلى ما قاله من
قلدوهم في تلك المسألة النحوية لأنهم يعلمون أن لهذا الفن أهلا هم المرجوع
إليهم فيه
فلو فرضنا أنه اختلف أحد المؤلفين في الفقه من أهل المذهب المأخوذ بقولهم
المرجوع إلى تقليدهم وسيبويه في مسألة نحوية لم يشك أحد أن سيبويه هو أولى
بالحق في تلك المسألة من ذلك الفقيه لأنه صاحب الفن وإمامه





وهكذا لو أراد أحدهم أن يبحث عن مسألة أصولية أو كلامية أو تفسير أو غير
ذلك من علوم العقل والنقل لم يرجع في كل فن إلا إلى أهله ولا يعول على
سواهم أنه قد عرف أن أهل تلك الفنون أخبر بها وأتقن لها وأعرف بدقائقها
وخفياتها وراجحها ومرجوحها وصحيحها وسقيمها بخلاف من يقلدونه فإنه وإن كان
في علم الفقه بارعا عارفا به لكنه في هذه الفنون لا يرتقي إلى أقل رتبة
وأحقرهم معرفة لا يرضى مقلدوه أن يعارضوا بقوله في هذه الفنون قول من هو
من أهلها
وإذا عرفت هذا من صنيعهم وتبينته فقل لهم ما بالكم تركتم خير الفنون نفعا
وأشرفه أهلا وأفضله واضعا وهو علم السنة فإنكم قد علمتم أن اشتغال أهل هذا
العلم به أعظم من اشتغال أهل سائر الفنون بفنونهم وتنقيحهم له وتهذيبه
والبحث عن صحيحه وسقيمه ومعرفة علله والإحاطة بأحوال رواته وإتعاب أنفسهم
في هذا الشأن مالا يتبعه أحد من أهل الفنون في فنونهم حتى صار طالب الحديث
في تلك العصور لا يكون طالبا إلا بعد أن يرحل إلى أقطار متباينة ويسمع من
شيوخ عدة ويعرف العالي والنازل والصحيح وغيره على وجه لا يخفى عليه مخرج
الحرف الواحد من الحديث الواحد فضلا عن زيادة على ذلك وفيهم من يحفظ مائة
ألف حديث إلى خمسمائة ألف حديث إلى ألف ألف حديث هي على ظهر قلبه لا تخفى
عليه منها خافية ولا يلتبس عليه فيها حرف واحد ومع هذا الحفظ والإتقان في
المتون كذلك يحفظون ويتقنون أسانيدهم على حد

وهكذا لو احتاج أحد من المقلدين أن ينظر في مسألة لغوية لرجع إلى كتب
اللغة وأخذ بقول أهلها ولم يلتفت في تلك المسألة إلى ما قاله من هو مقلد
له ولا عول عليه ولا سيما إذا عارض ما يقوله أقوال أئمة اللغة وخالف ما
يوجد في كتبها


لا يخفى عليهم من أحوال الرواة شيء ولا
يلتبس عليهم ما كان فيه من خير وشر وجرح وتعديل ويتركون من وجدوا في حفظه
أدنى ضعف أو كان به أقل تساهل أو أحقر ما يوجب الجرح
وبالجملة فمن عرف الفنون وأهلها معرفة صحيحة لم يبق عنده شك أن اشتغال أهل
الحديث بفنهم لا يساويه اشتغال سائر أهل الفنون بفنونهم ولا يقاربه بل لا
يعد بالنسبة إليه كثير شيء فإن طالب الحديث لا يكاد يبلغ من هذا الفن بعض
ما يريده إلا بعد أن يفنى صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته فيه ويطوف الأقطار
ويستغرق بالسماع والكتب الليل والنهار ونحن نجد الرجل يشتغل بفن من تلك
الفنون العام والعامين والثلاثة فيكون معدودا من محققي أهله ومتقنيهم
فما بالكم أيها المقلدة إذا أردتم الرجوع إلى فن السنة لم تصنعوا فيه كما
تصنعونه في غيره من الرجوع إلى أهل الفن وعدم الاعتداد بغيرهم وهل هذا
منكم إلا التعصب البحت والتعسف الخالص والتحكم الصرف فهلا صنعتم في هذا
الفن الذي هو رأس الفنون وأشرفها كما صنعتم في غيره فرجعتم إلى أهله
وتركتم ما تجدونه مما يخالف ذلك في مؤلفات المشتغلين بالفقه الذين لا
يفرقون بين أصح الصحيح وأكذب الكذب كما يعرف ذلك من يعرف نصيبا من العلم
وحظا من العرفان
ومن أراد الوقوف على حقيقة هذا فلينظر مؤلفات جماعة هم في الفقه بأعلى
رتبة مع التبحر في فنون كثيرة كالجويني والغزالي



وأمثالها فإنهم إذا أرادوا أن يتكلموا في
الحديث جاءوا بما يضحك منه سامعه ويعجب لأنهم يوردون الموضوعات فضلا عن
الضعاف ولا يعرفون ذلك ولا يفطنون به ولا يفرقون بينه وبين غيره وسبب ذلك
عدم اشتغالهم بفن الحديث كما ينبغي فكانوا عند التكلم فيه عبرة من العبر
وهكذا حال مثل هذين الرجلين وأشباههم من أهل طبقتهم مع تبحرهم في فنون
عديدة فما بالك بمن يتصدى للكلام في فن الحديث ويشتغل بإدخاله في مؤلفاته
وهو دون أولئك بمراحل لا تحصر
وهكذا تجد كثيرا من أئمة التفسير الذين لم يكن لهم كثير اشتغال بعلم السنة
كالزمخشري والفخر الرازي وغالب من جاء بعدهم فإنهم يوردون في تفاسيرهم
الموضوعات التي لا يشك من له أدنى اشتغال بعلم الحديث في كونه موضعا
مكذوبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك المفسر قد أدخله في تفسيره
واستدل به على ما يقصده من تفسير كتاب الله سبحانه
وهكذا أئمة أصول الفقه فإن أكثر من يشتغل من الناس في هذا الزمان
بمؤلفاتهم لا يعرفون فن الحديث ولا يميزون شيئا منه بل يذكرون في مؤلفاتهم
الموضوعات ويبنون عليها القناطر
وبهذه الأسباب تلاعب الناس بهذا الفن الشريف وكذبوا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم أقبح كذب فصار من له تمييز يقضي من صنيعهم



العجب إذا وقف على مؤلفاتهم ومع ذلك فهم لا
يشعرون بما هم فيه من الخطأ والخطل والزلل وهم الموقعون لأنفسهم في هذه
الورطة بعدم رجوعهم في هذا الفن بخصوصه إلى أهله المشتغلين به كما يرجعون
إلى أهل سائر الفنون عند احتياجهم إلى مسألة من مسائله
ولست أظن سبب تخصيصهم لهذا الفن الشريف الجليل بعدم الرجوع إلى أهله دون
غيره إلا ما يجده الشيطان في تزيين مثل ذلك لهم من المحال في الدين وإثبات
الأحكام الشرعية بالأكاذيب المختلفة وإغفال كثير من مهمات الدين لعدم علم
المتكلمين في الفقه بأدلتها
وأنت لا يخفى علك بعد هذا أن إنصاف الرجل لا يتم حتى يأخذ كل فن عن أهله
كائنا ما كان فإنه لو ذهب العلم الذي قد تأهل للاجتهاد يأخذ مثلا الحديث
عن أهله ثم يريد أن يأخذ ما يتعلق بتفسيره في اللغة عنهم كان مخطئا في أخذ
المدلول اللغوي عنهم وهكذا أخذ المعنى الإعرابي عنهم فإنه خطأ بل يأخذ
الحديث عن أئمته بعد أن يكشف عن سنده وحال رواته ثم إذا احتاج إلى معرفة
ما يتعلق بذلك الحديث من الغريب رجع إلى الكتب المدونة في غريب الحديث
وكذا سائر كتب اللغة المدونة في الغريب وغيره
وإذا احتاج إلى معرفة بنية كلماته رجع إلى علم الصرف وإذا احتاج إلى معرفة
إعراب أواخر كلمة رجع إلى علم النحو وإذا أراد الاطلاع على ما في ذلك
الحديث من دقائق العربية وأسرارها رجع إلى علم المعاني والبيان وإذا أراد
أن يسلك طريقة الجمع والترجيح بينه وبين غيره رجع إلى علل أصول الفقه
فالعالم إذا صنع ظفر بالحق من أبوابه ودخل إلى الإنصاف بأقوى أسبابه
وأما أخذ العلم عن غير أهله ورجح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون
ليسوا من أهلها وأعرض من كلام أهلها فإنه يخبط ويخلط ويأتي من الأقوال
والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذلك فإن من ذهب يقلد
أهل علم الفقه فيما ينقلونه من أحاديث الأحكام ولم يعتد



بأئمة الحديث ولا أخذ عنهم واعتمد مؤلفاتهم
كان حقيقا بأن يأخذ بأحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه
وسلم ويفرع عليه مسائل ليست من الشريعة فيكون من المتقولين على الله بما
لم يقل المكلفين عباده بما لم يشرعه فيضل ويضل ولا بد أن يكون عليه نصيب
من وزر العاملين بتلك المسائل الباطلة إلى يوم القيامة فإنه قد سن لهم
سننا سيئة ويصدق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم من أفتى بفتيا غير
ثبت فإنما أثمه على الذي أفتاه أخرجه أحمد في = المسند = وابن ماجه وفي
لفظ من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه أخرجه أحمد وأبو
داود ورجال إسناده أئمة ثقات وليس هذا بمجتهد حتى يقال إنه إن أصاب فله
أجران وإن أخطأ فله أجر بل هذا مجازف مجترئ على شريعة الله متلاعب بها
لأنه عمد إلى من لا يعرف علم الشريعة المتطهرة فرواها عنه وترك أهلها
بمعزل فإن كان يعلم أن أخذ ما يستدل به من الأحاديث عن غير أهل الفن فهو
قد أتى ما أتاه من الاستدلال بالباطل وإثبات المسائل التي ليست بشرع عن
عمد وقصد فما أحقه أن يعاقب على ذلك فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وفي رواية
يظن أنه كذب والحديث ثابت في = صحيح مسلم = وغيره وقد ثبت في = الصحيحين =
وغيرهما من حديث جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم قال من كذب علي
متعمدا فليبوأ مقعده من النار
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى