صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المسألة الرابعة عشرة وهي قوله عذاب القبر دائم أم منقطع جوابها
أنه
نوعان نوع دائم سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين
فإذا قاموا من قبورهم قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ويدل على دوامه
قوله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويدل عليه أيضا ما تقدم في حديث
سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي وفيه فهو يفعل به ذلك إلى يوم
القيامة
وفي حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا فجعل
التخفيف مقيدا برطوبتهما فقط
و في حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة ثم أتى على قوم ترضخ
رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء و قد تقدم وفي
الصحيح في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض فهو
يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر ثم يفتح له باب إلى النار فينظر
إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة رواه الإمام أحمد وفي بعض طرقه ثم يخرق له
خرقا إلى النار فيأتيه من غمها و دخانها إلى القيامة
النوع الثاني إلى مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم
فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب
وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج أو قراءة تصل
إليه من بعض أقاربه أو غيرهم وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا
فيخلص من العذاب بشفاعته لكن هذه شفاعة قد لا تكون باذن المشفوع عنده
والله سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه فهو
الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له ولا تغتر بغير هذا
فإنه شرك وباطل يتعالى الله عنه من ذا الذى يشفع عنده إلا باذنه ولا
يشفعون إلا لمن ارتضى ما من شفيع إلا من بعد إذنه ولا تنفع الشفاعة عنده
إلا لمن أذن له قال لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والارض
وقد ذكر ابن أبى الدنيا حدثنى محمد بن موسى الصائغ حدثنا عبد الله بن نافع
قال مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار فاغتنم لذلك ثم
أنه بعد ساعة أو
ثانيه رآه كأنه من أهل الجنة فقال ألم تكن قلت انك من أهل النار
قال قد كان ذلك إلا أنه دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في اربعين من
جيرانه فكنت أنا منهم
قال ابن أبى الدنيا وحدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنى بعض أصحابنا قال مات
أخى فرأيته في النوم فقلت ما كان حالك حين وضعت في قبرك قال أتانى آت
بشهاب من نار فلولا أن داعيا دعا لى لرأيت أنه سيضربنى به
وقال عمرو بن جرير إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه بها ملك إلى قبره فقال
يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ عليك شفيق
وقال بشار بن غالب رأيت رابعة في منامى وكنت كثير الدعاء لها فقالت لى يا
بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير قلت
كيف ذلك قالت هكذا دعاء المؤمنين الاحياء إذا دعوا للموتى استجيب لهم
واجعل ذلك الدعاء على أطباق النور وخمر بمناديل الحرير ثم أتى بها الذى
دعى له من الموتى فقيل هذه هدية فلان إليك
قال ابن أبى الدنيا وحدثنى أبو عبيد بن بحير قال حدثنى بعض أصحابنا قال
رأيت أخا لى في النوم بعد موته فقلت أيصل إليكم دعاء الأحياء قال أى والله
يترفرف مثل النور ثم يلبسه
وسيأتى إن شاء الله تعالى تمام لهذه في جواب السؤال عن انتفاع الأموات بما
تهديه إليهم الأحياء المسالة الخامسة عشرة
وهى أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى القيامة هل هى في السماء أم في
الأرض وهل هي في الجنة أم لا وهل تودع في أجساد غير أجسادها التي كانت
فيها فتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة
هذه مسالة عظيمة تكلم فيها للناس واختلفوا فيها وهى إنما تتلقى من السمع
فقط واختلف في ذلك فقال قائلون أرواح المؤمنين عند الله في الجنة شهداء
كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين وتلقاهم ربهم
بالعفو عنهم والرحمة لهم وهذا مذهب أبى هريرة وعبد الله بن عمر رضى الله
عنهم
وقالت طائفة هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها
وقالت طائفة الأرواح على افنية قبورها
وقال مالك بلغنى أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله أرواح للكفار في النار وأرواح
المؤمنين في الجنة
وقال أبو عبد الله بن منده وقال طائفة من الصحابة والتابعين أرواح
المؤمنين عند الله عز و جل ولم يزيدوا على ذلك قال روى عن جماعة من
الصحابة والتابعين أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت بئر
بحضرموت
وقال صفوان بن عمرو سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان هل لأنفس المؤمنين
مجتمع فقال إن الأرض التي يقول الله تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد
الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون قال هى الأرض التي يجتمع إليها أرواح
المؤمنين حتى يكون البعث وقالوا هى الأرض التي يورثها الله المؤمنين في
الدنيا وقال كعب أرواح المؤمنين عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في
سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس
وقالت طائفة أرواح المؤمنين ببئر زمزم وأرواح الكفار ببئر برهوت
وقال سلمان الفارسى أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت وأرواح
الكفار في سجين وفي لفظ عنه نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت
وقالت طائفة أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها
وقال والذى نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله الله عز و جل ونبيه لا
نتعداه فهو البرهان الواضح وهو أن الله عز و جل قال وإذا أخذ ربك من بنى
آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن
تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وقال تعالى ولقد خلقناكم ثم
صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فصح أن الله تعالى خلق الأرواح جملة
وكذلك أخبر أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها
اختلف وأخذ الله عهدها وشهادتها له بالربوبية وهى مخلوقة مصورة عاقلة قبل
أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ
تراب وماء ثم أقرها حيث شاء وهو البرزخ الذى ترجع إليه عند الموت ثم لا
يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى
إلى أن قال فصح أن الأرواح أجساد حاملة لأغراضها من التعارف والتناكر
وأنها عارفة مميزة فيبلوهم الله في الدنيا كما يشاء ثم يتوفاها فيرجع إلى
البرزخ الذى رآها فيه رسول الله ليلة أسرى به عند سماء الدنيا
أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره وذلك عند
منقطع العناصر ويعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة
قال وقد ذكر محمد بن نصر المروزى عن اسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذى
قلنا بعينه قال وعلى هذا أجمع أهل العلم
قال ابن حزم وهو قول جميع أهل الإسلام قال وهذا هو قول الله تعالى فأصحاب
الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون
السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين
وقوله تعالى فأما أن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم إلى خرها فلا
تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح إلى أجسادها ثانية وهى الحياة
الثانية يحاسب الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير مخلدين ابدا انتهى
وقال أبو عمر بن عبد البر أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين
على أفنية قبورهم ونحن نذكر كلامه وما احتج به ونبين ما فيه
وقال ابن المبارك عن ابن جريج فيما قرىء عليه من مجاهد ليس هى في الجنة
ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها
وذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين
فقال بلغنى أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض
الجنة تأتى ربها في كل يوم تسلم عليه
وقال أبو عمر بن عبد البر في شرح حديث ابن عمر أن أحدكم إذا مات عرض عليه
مقعده بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل
النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة
قال وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب
اليه في ذلك والله أعلم لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا وأثبت نقلا من غيرها
قال والمعنى أنها قد تكون على أفنية قبورها لا على أنها تلزم ولا تفارق
أفنية القبور كما قال مالك رحمه الله أنه بلغنا أن الأرواح تسرح حيث شاءت
قال وعن مجاهد أنه قال الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن
الميت لا تفارق ذلك والله أعلم
وقالت فرقة مستقرها العدم المحض وهذا قول من يقول ان النفس عرض
من أعراض البدن كحياته وإدراكه فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض
المشروطة بحياته وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة
والتابعين كما سنذكر ذلك إن شاء الله والمقصود أن عند هذه الفرقة المبطلة
ان مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض
وقالت فرقة مستقرها بعد الموت أرواح أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي
اكتسبتها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح
فتصير النفس السبعية إلى ابدان السباع والكلبية إلى أبدان البهائم والدنية
والسفلية إلى أبدان الحشرات وهذا قول المتناسخة منكرى المعاد وهو قول خارج
عن أقوال أهل الإسلام كلهم
فهذا ما تلخص لى من جمع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت ولا تظفر
به مجموعا في كتاب واحد غير هذا البتة ونحن نذكر مأخذ هذه الأقوال وما لكل
قول وما عليه وما هو الصواب من ذلك الذى دل عليه الكتاب والسنة على
طريقتنا التي من الله بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق فصل
فأما من قال هى في الجنة فاحتج بقوله تعالى فاما إن كان من المقربين فروح
وريحان وجنة نعيم قال وهذا ذكره سبحانه عقيب ذكر خروجها من البدن بالموت
وقسم الأرواح إلى ثلاثة أقسام مقربين وأخبر أنها في جنة النعيم وأصحاب
يمين حكم لها بالإسلام وهو يتضمن سلامتها من العذاب ومكذبة ضالة وأخبر أن
لها نزلا من حميم وتصلية جحيم قالوا وهذا بعد مفارقتها للبدن قطعا وقد ذكر
سبحانه حالها يوم القيامة في أول السورة فذكر حالها بعد الموت وبعد البعث
واحتجوا بقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية
فادخلى في عبادى وادخلى جنتى وقد قال غير واحد من الصحابة والتابعين ان
هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا يبشرها الملك بذلك ولا ينافي ذلك قول
من قال ان هذا يقال لها في الآخرة فانه يقال لها عند الموت وعند البعث
وهذه من البشرى التي قال تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم
توعدون وهذا التنزل يكون عند الموت ويكون في القبر ويكون عند البعث وأول
بشارة الآخرة عند الموت
وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن الملك يقول لها عند قبضها أبشرى بروح
وريحان وهذا من ريحان الجنة
واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن
كعب بن مالك أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله قال إنما
نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى حياة يوم يبعثه
قال أبو عمر وفي رواية مالك هذه بيان سماع الزهرى لهذا الحديث من عبد
الرحمن بن كعب بن مالك وكذلك رواه يونس عن الزهرى قال سمعت عبد الرحمن بن
كعب بن مالك يحدث عن أبيه وكذلك رواه الأوزاعى عن الزهرى حدثنى عبد الرحمن
بن كعب وقد أعل محمد بن يحيى الذهلى هذا الحديث بأن شعيب بن أبى حمزة
ومحمد بن أخى الزهرى وصالح بن كيسان رووه عن الزهرى عن عبد الرحمن بن عبد
الله بن كعب بن مالك عن جده كعب فيكون منقطعا وقال صالح بن كيسان عن ابن
شهاب عن عبد الرحمن انه بلغه أن كعبا بن مالك كان يحدث قال الذهلى وهذا
المحفوظ عندنا وهو الذى يشبهه حديث صالح وشعيب وابن أخى الزهرى وخالفه في
هذا غيره من الحفاظ فحكموا لمالك والأوزاعى قال أبو عمر فاتفق مالك ويونس
بن يزيد والأوزاعى والحارث بن فضيل على رواية هذا الحديث عن الزهرى عن عبد
الرحمن ابن كعب بن مالك عن أبيه وصححه الترمذي وغيره
قال أبو عمر ولا وجه عندى لما قاله محمد بن يحيى من ذلك ولا دليل عليه
واتفاق مالك ويونس بن زيد والأوزاعى ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب والنفس
إلى قولهم وروايتهم أسكن وهم من الحفظ والاتقان بحيث لا يقاس بهم من
خالفهم في هذا الحديث انتهى وقد قال محمد الذهلى سمعت على بن المدينى يقول
ولد كعب خمسة عبد الله وعبيد الله ومعبد وعبد الرحمن ومحمد قال الذهلى
فسمع الزهرى من عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه حين عمى وسمع من عبد
الرحمن بن عبد الله بن كعب وروى عن بشير بن عبد الرحمن بن كعب ولا أراه
سمع منه انتهى فالحديث ان كان لعبد الرحمن عن أبيه كعب كما قال مالك ومن
معه فظاهر وإن كان لعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن جده كما قال شعيب
ومن معه فنهايته أن يكون مرسلا من هذا الطريق وموصولا من الأخرى والذين
وصلوه ليسوا بدون الذين أرسلوه قدرا ولا عددا فالحديث من صحاح الأحاديث
وإنما لم يخرجه صاحبا الصحيح لهذه العلة والله أعلم
قال أبو عمرو أما قوله نسمة المؤمن فالنسمة ها هنا الروح يدل على ذلك قوله
في الحديث نفسه حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه وقيل النسمة الروح
والنفس والبدن وأصل هذه اللفظة اعنى النسمة الانسان بعينه وإنما قيل للروح
نسمة والله أعلم لأن حياة الانسان بروحه وإذا فارقه عدم أو صار كالمعدوم
والدليل على أن النسمة الانسان قوله من أعتق نسمة مؤمنة وقول على رضى الله
عنه والذى فلق الحبة وبرأ النسمة وقال الشاعر
فأعظم منك تقى في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا
يعنى إذا بعث الناس من قبورهم يوم القيامة وقال الخليل بن أحمد
النسمة الإنسان قال والنسمة الروح والنسيم هبوب الريح وقوله تعالى في شجر
الجنة يروى بفتح اللام وهو الأكثر ويروى بضم اللام والمعنى واحد وهو الأكل
والرعى يقول تأكل من ثمار الجنة وتسرح بين أشجارها والعلوقة والعلوق الأكل
والرعى تقول العرب ما ذاق اليوم علوقا أى طعاما قال الربيع بن زياد يصف
الخيل
ومجنبات ما يذقن علوقة ... يمصعن بالمهرات والأمهار
وقال الأعشى
وفلاة كأنها ظهر ترس ... ليس فيها إلا الرجيع علاق
قلت ومنه قول عائشة والنساء إذ ذاك خفاف لم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة
من الطعام وأصل اللفظة من التعلق وهو ما يعلق القلب والنفس من الغذاء
قال واختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال قائلون منهم أرواح المؤمنين
عند الله في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة
ولا دين وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم
قال واحتجوا بأن هذا الحديث لم يخص فيه شهيدا من غير شهيد
واحتجوا أيضا بما روى عن أبى هريرة أن أرواح الأبرار في عليين وأرواح
الفجار في سجين وعن عبد الله بن عمرو مثل ذلك قال أبو عمر وهذا قول يعارضه
من السنة ما لا مدفع في صحة نقله وهو قوله إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده
بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار
فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة
وقال آخرون إنما معنى هذا الحديث في الشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة
إنما يدلان على ذلك أما القرآن فقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله الآية
وأما الآثار فذكر حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه من طريق بقى بن مخلد
مرفوعا الشهداء يغدون ويروحون ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش
فيقول لهم الرب تبارك وتعالى هل تعلمون كرامة أفضل من كرامة أكرمتكموها
فيقولون لا غير
أنا وددنا أنك أعدت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى
فنقتل في سبيلك رواه عن هناد عن اسماعيل بن المختار عن عطية عنه
ثم ساق حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله لما أصيب إخوانكم
يعنى يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من
ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم
ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا
ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد قال فقال الله عز و جل أنا أبلغهم
عنكم فأنزل الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل
أحياء عند ربهم يرزقون والحديث في مسند أحمد وسنن أبى داود
ثم ذكر حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال سأل عند الله بن مسود
رضى الله عنه عن هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل
أحياء عند ربهم يرزقون فقال أما أنا قد سألنا عن ذلك فقال أرواحهم في جوف
طير خضر تسرح في الجنة في ايها شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل فاطلع اليهم
ربك إطلاعه فقال هل تشتهون شيئا قالوا وأى شيء نشتهى ونحن نسرح من الجنة
حيث شئنا ففعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا
قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى
فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا والحديث في صحيح مسلم
قلت وفي صحيح البخارى عن أنس أن أم الربيع بنت البراء وهى أم حارثة بن
سراقة أتت النبي فقالت يا نبي الله ألا تحدثنى عن حارثة وكان قتل يود بدر
أصابه سهم غرب قان كان في الجنة صبرت وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في
البكاء قال يا أم حارثة إنها جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى
ثم ساق من طريق بقى بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا ابن عيينة عن
عبيد الله ابن أبى يزيد سمع ابن عباس يقول أرواح الشهداء تجول في أجواف
طير خضر تعلق في تتمر ! الجنة
ثم ذكر عن معمر عن قتادة قال بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل
من ثمار الجنة
ومن طريق أبى عاصم النبيل عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن
عمرو أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة
قال أبو عمر هذه الآثار كلها تدل على أنهم الشهداء دون غيرهم
وفي بعضها في صور طير وفي بعضها في أجواف طير وفي بعضها كطير خضر قال
والذى يشبه عندى والله أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صور طير
لمطابقته لحديثنا المذكور يريد حديث كعب ابن مالك وقوله فيه نسمة المؤمن
كطائر ولم يقل في جوف طائر
قال وروى عيسى بن يونس حديث ابن مسعود عن الأعمش عبد الله بن مرة عن مسروق
عن عبد الله كطير خضر
قلت والذى في صحيح مسلم في أجواف طير خضر
قال أبو عمر فعلى هذا التأويل كأنه قال إنما نسمة المؤمن من الشهداء طائر
يعلق في شجر الجنة
قلت لا تنافي بين قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وبين قوله إن
أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل
الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار وهذا الخطاب يتناول الميت على
فراشه والشهيد كما أن قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة يتناول
الشهيد وغيره ومع كونه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشى ترد روحه أنهار
الجنة وتأكل من ثمارها
وأما المقعد الخاص به والبيت الذى أعد له فانه إنما يدخله يوم القيامة
ويدل عليه أن منازل الشهداء ودورهم وقصورهم التي أعد الله لهم ليست هي تلك
القناديل التي تأوى اليها أرواحهم في البرزخ قطعا فهم يرون منازلهم
ومقاعدهم من الجنة ويكون مستقرهم في تلك القناديل المعلقة بالعرش فان
الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة ودخول الأرواح الجنة في البرزخ
أمر دون ذلك
ونظير هذا أهل الشقاء تعرض أرواحهم على النار غدوا وعشيا فإذا كان يوم
القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يعرضون عليها في البرزخ فتنعم
الأرواح بالجنة في البرزخ شيء وتنعمها مع الأبدان يوم القيامة بها شيء آخر
فغذاه الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها مع بدنها يوم البعث ولهذا قال
تعلق في شجر الجنة أى تأكل العلقة وقام ! الأكل والشرب واللبس والتمتع
فإنما يكون إذا ردت إلى أجسادها يوم القيامة فظهر أنه لا يعارض هذا القول
من السنن شيء وإنما تعاضده السنة وتوافقه
وأما قول من قال إن حديث كعب في الشهداء دون غيرهم فتخصيص ليس في اللفظ ما
يدل عليه وهو حمل اللفظ العام على أقل مسمياته فإن الشهداء بالنسبة إلى
عموم المؤمنين
قليل جدا والنبي علق هذا الجزاء بوصف الإيمان فهو المقتضى له
ولم يعلقه بوصف الشهادة ألا ترى أن الحكم الذى اختص بالشهداء علق بوصف
الشهادة كقوله في حديث المقدام بن معد يكرب للشهيد عند الله ست خصال يغفر
له في أول دفقة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلة الإيمان ويزوج من
الحور العين ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه
تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين من
الحور العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه فلما كان هذا يختص بالشهيد
قال إن للشهيد ولم يقل إن للمؤمن وكذلك قوله في حديث قيس الجذامى يعطى
الشهيد ست خصال وكذلك سائر الأحاديث والنصوص التي علق فيها الجزاء
بالشهادة
وأما ما علق فيه الجزاء بالإيمان فإنه يتناول كل مؤمن شهيدا كان أو غير
شهيد
واما النصوص والآثار التي ذكر في رزق الشهداء وكون أرواحهم في الجنة فكلها
حق وهي لا تدل على انتفاء دخول أرواح المؤمنين الجنة ولا سيما الصديقين
الذين هم أفضل من الشهداء بلا نزاع بين الناس فيقال لهؤلاء ما تقولون في
أرواح الصديقين هل هى في الجنة أم لا
فإن قالوا أنها في الجنة ولا يسوغ لهم غير هذا القول فثبت أن هذه النصوص
لا تدل على اختصاص أرواح الشهداء بذلك وإن قالوا ليست في الجنة لزمهم من
ذلك أن تكون أرواح سادات الصحابة كابى بكر الصديق وأبى بن كعب وعبد الله
بن مسعود وأبى الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضى الله عنهم ليست في
الجنة وأرواح شهداء زماننا في الجنة وهذا معلوم البطلان ضرورة
فإن قيل فإن كان هذا حكم يختص بالشهداء فما الموجب لتخصيصهم بالذكر في هذه
النصوص قلت التنبيه على فضل الشهادة وعلو درجتها وأن هذا مضمون لأهلها ولا
بد وأن لهم منها أوفر نصيب فنصيبهم من هذا النعيم في البرزخ أكمل من نصيب
غيرهم من الأموات على فراشهم وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة منهم فله
نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه
ويدل على هذا أن الله سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف اطير خضر فإنهم
لما بذلوا أنفسهم لله حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبدانا
خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان
أكمل من نعيم الأرواح المجردة عنها ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو
كطير ونسمة الشهيد في جوف طير وتأمل لفظ الحديثين فانه قال نسمة المؤمن
طير فهذا يعم الشهيد وغيره ثم خص للشهيد بأن قال
هي في جوف طير ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها
طير فصلوات الله وسلامه على من يصدق كلامه بعضه بعضا ويدل على أنه حق من
عند الله وهذا الجمع أحسن من جمع أبى عمر وترجيحه رواية من روى أرواحهم
كطير خضر بل الروايتان حق وصواب فهي كطير خضر وفي أجواف طير خضر
أنه
نوعان نوع دائم سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين
فإذا قاموا من قبورهم قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ويدل على دوامه
قوله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويدل عليه أيضا ما تقدم في حديث
سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي وفيه فهو يفعل به ذلك إلى يوم
القيامة
وفي حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا فجعل
التخفيف مقيدا برطوبتهما فقط
و في حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة ثم أتى على قوم ترضخ
رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء و قد تقدم وفي
الصحيح في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض فهو
يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر ثم يفتح له باب إلى النار فينظر
إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة رواه الإمام أحمد وفي بعض طرقه ثم يخرق له
خرقا إلى النار فيأتيه من غمها و دخانها إلى القيامة
النوع الثاني إلى مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم
فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب
وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج أو قراءة تصل
إليه من بعض أقاربه أو غيرهم وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا
فيخلص من العذاب بشفاعته لكن هذه شفاعة قد لا تكون باذن المشفوع عنده
والله سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه فهو
الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له ولا تغتر بغير هذا
فإنه شرك وباطل يتعالى الله عنه من ذا الذى يشفع عنده إلا باذنه ولا
يشفعون إلا لمن ارتضى ما من شفيع إلا من بعد إذنه ولا تنفع الشفاعة عنده
إلا لمن أذن له قال لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والارض
وقد ذكر ابن أبى الدنيا حدثنى محمد بن موسى الصائغ حدثنا عبد الله بن نافع
قال مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار فاغتنم لذلك ثم
أنه بعد ساعة أو
ثانيه رآه كأنه من أهل الجنة فقال ألم تكن قلت انك من أهل النار
قال قد كان ذلك إلا أنه دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في اربعين من
جيرانه فكنت أنا منهم
قال ابن أبى الدنيا وحدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنى بعض أصحابنا قال مات
أخى فرأيته في النوم فقلت ما كان حالك حين وضعت في قبرك قال أتانى آت
بشهاب من نار فلولا أن داعيا دعا لى لرأيت أنه سيضربنى به
وقال عمرو بن جرير إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه بها ملك إلى قبره فقال
يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ عليك شفيق
وقال بشار بن غالب رأيت رابعة في منامى وكنت كثير الدعاء لها فقالت لى يا
بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير قلت
كيف ذلك قالت هكذا دعاء المؤمنين الاحياء إذا دعوا للموتى استجيب لهم
واجعل ذلك الدعاء على أطباق النور وخمر بمناديل الحرير ثم أتى بها الذى
دعى له من الموتى فقيل هذه هدية فلان إليك
قال ابن أبى الدنيا وحدثنى أبو عبيد بن بحير قال حدثنى بعض أصحابنا قال
رأيت أخا لى في النوم بعد موته فقلت أيصل إليكم دعاء الأحياء قال أى والله
يترفرف مثل النور ثم يلبسه
وسيأتى إن شاء الله تعالى تمام لهذه في جواب السؤال عن انتفاع الأموات بما
تهديه إليهم الأحياء المسالة الخامسة عشرة
وهى أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى القيامة هل هى في السماء أم في
الأرض وهل هي في الجنة أم لا وهل تودع في أجساد غير أجسادها التي كانت
فيها فتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة
هذه مسالة عظيمة تكلم فيها للناس واختلفوا فيها وهى إنما تتلقى من السمع
فقط واختلف في ذلك فقال قائلون أرواح المؤمنين عند الله في الجنة شهداء
كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين وتلقاهم ربهم
بالعفو عنهم والرحمة لهم وهذا مذهب أبى هريرة وعبد الله بن عمر رضى الله
عنهم
وقالت طائفة هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها
وقالت طائفة الأرواح على افنية قبورها
وقال مالك بلغنى أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله أرواح للكفار في النار وأرواح
المؤمنين في الجنة
وقال أبو عبد الله بن منده وقال طائفة من الصحابة والتابعين أرواح
المؤمنين عند الله عز و جل ولم يزيدوا على ذلك قال روى عن جماعة من
الصحابة والتابعين أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت بئر
بحضرموت
وقال صفوان بن عمرو سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان هل لأنفس المؤمنين
مجتمع فقال إن الأرض التي يقول الله تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد
الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون قال هى الأرض التي يجتمع إليها أرواح
المؤمنين حتى يكون البعث وقالوا هى الأرض التي يورثها الله المؤمنين في
الدنيا وقال كعب أرواح المؤمنين عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في
سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس
وقالت طائفة أرواح المؤمنين ببئر زمزم وأرواح الكفار ببئر برهوت
وقال سلمان الفارسى أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت وأرواح
الكفار في سجين وفي لفظ عنه نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت
وقالت طائفة أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها
وقال والذى نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله الله عز و جل ونبيه لا
نتعداه فهو البرهان الواضح وهو أن الله عز و جل قال وإذا أخذ ربك من بنى
آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن
تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وقال تعالى ولقد خلقناكم ثم
صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فصح أن الله تعالى خلق الأرواح جملة
وكذلك أخبر أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها
اختلف وأخذ الله عهدها وشهادتها له بالربوبية وهى مخلوقة مصورة عاقلة قبل
أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ
تراب وماء ثم أقرها حيث شاء وهو البرزخ الذى ترجع إليه عند الموت ثم لا
يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى
إلى أن قال فصح أن الأرواح أجساد حاملة لأغراضها من التعارف والتناكر
وأنها عارفة مميزة فيبلوهم الله في الدنيا كما يشاء ثم يتوفاها فيرجع إلى
البرزخ الذى رآها فيه رسول الله ليلة أسرى به عند سماء الدنيا
أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره وذلك عند
منقطع العناصر ويعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة
قال وقد ذكر محمد بن نصر المروزى عن اسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذى
قلنا بعينه قال وعلى هذا أجمع أهل العلم
قال ابن حزم وهو قول جميع أهل الإسلام قال وهذا هو قول الله تعالى فأصحاب
الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون
السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين
وقوله تعالى فأما أن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم إلى خرها فلا
تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح إلى أجسادها ثانية وهى الحياة
الثانية يحاسب الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير مخلدين ابدا انتهى
وقال أبو عمر بن عبد البر أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين
على أفنية قبورهم ونحن نذكر كلامه وما احتج به ونبين ما فيه
وقال ابن المبارك عن ابن جريج فيما قرىء عليه من مجاهد ليس هى في الجنة
ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها
وذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين
فقال بلغنى أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض
الجنة تأتى ربها في كل يوم تسلم عليه
وقال أبو عمر بن عبد البر في شرح حديث ابن عمر أن أحدكم إذا مات عرض عليه
مقعده بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل
النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة
قال وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب
اليه في ذلك والله أعلم لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا وأثبت نقلا من غيرها
قال والمعنى أنها قد تكون على أفنية قبورها لا على أنها تلزم ولا تفارق
أفنية القبور كما قال مالك رحمه الله أنه بلغنا أن الأرواح تسرح حيث شاءت
قال وعن مجاهد أنه قال الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن
الميت لا تفارق ذلك والله أعلم
وقالت فرقة مستقرها العدم المحض وهذا قول من يقول ان النفس عرض
من أعراض البدن كحياته وإدراكه فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض
المشروطة بحياته وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة
والتابعين كما سنذكر ذلك إن شاء الله والمقصود أن عند هذه الفرقة المبطلة
ان مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض
وقالت فرقة مستقرها بعد الموت أرواح أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي
اكتسبتها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح
فتصير النفس السبعية إلى ابدان السباع والكلبية إلى أبدان البهائم والدنية
والسفلية إلى أبدان الحشرات وهذا قول المتناسخة منكرى المعاد وهو قول خارج
عن أقوال أهل الإسلام كلهم
فهذا ما تلخص لى من جمع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت ولا تظفر
به مجموعا في كتاب واحد غير هذا البتة ونحن نذكر مأخذ هذه الأقوال وما لكل
قول وما عليه وما هو الصواب من ذلك الذى دل عليه الكتاب والسنة على
طريقتنا التي من الله بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق فصل
فأما من قال هى في الجنة فاحتج بقوله تعالى فاما إن كان من المقربين فروح
وريحان وجنة نعيم قال وهذا ذكره سبحانه عقيب ذكر خروجها من البدن بالموت
وقسم الأرواح إلى ثلاثة أقسام مقربين وأخبر أنها في جنة النعيم وأصحاب
يمين حكم لها بالإسلام وهو يتضمن سلامتها من العذاب ومكذبة ضالة وأخبر أن
لها نزلا من حميم وتصلية جحيم قالوا وهذا بعد مفارقتها للبدن قطعا وقد ذكر
سبحانه حالها يوم القيامة في أول السورة فذكر حالها بعد الموت وبعد البعث
واحتجوا بقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية
فادخلى في عبادى وادخلى جنتى وقد قال غير واحد من الصحابة والتابعين ان
هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا يبشرها الملك بذلك ولا ينافي ذلك قول
من قال ان هذا يقال لها في الآخرة فانه يقال لها عند الموت وعند البعث
وهذه من البشرى التي قال تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم
توعدون وهذا التنزل يكون عند الموت ويكون في القبر ويكون عند البعث وأول
بشارة الآخرة عند الموت
وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن الملك يقول لها عند قبضها أبشرى بروح
وريحان وهذا من ريحان الجنة
واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن
كعب بن مالك أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله قال إنما
نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى حياة يوم يبعثه
قال أبو عمر وفي رواية مالك هذه بيان سماع الزهرى لهذا الحديث من عبد
الرحمن بن كعب بن مالك وكذلك رواه يونس عن الزهرى قال سمعت عبد الرحمن بن
كعب بن مالك يحدث عن أبيه وكذلك رواه الأوزاعى عن الزهرى حدثنى عبد الرحمن
بن كعب وقد أعل محمد بن يحيى الذهلى هذا الحديث بأن شعيب بن أبى حمزة
ومحمد بن أخى الزهرى وصالح بن كيسان رووه عن الزهرى عن عبد الرحمن بن عبد
الله بن كعب بن مالك عن جده كعب فيكون منقطعا وقال صالح بن كيسان عن ابن
شهاب عن عبد الرحمن انه بلغه أن كعبا بن مالك كان يحدث قال الذهلى وهذا
المحفوظ عندنا وهو الذى يشبهه حديث صالح وشعيب وابن أخى الزهرى وخالفه في
هذا غيره من الحفاظ فحكموا لمالك والأوزاعى قال أبو عمر فاتفق مالك ويونس
بن يزيد والأوزاعى والحارث بن فضيل على رواية هذا الحديث عن الزهرى عن عبد
الرحمن ابن كعب بن مالك عن أبيه وصححه الترمذي وغيره
قال أبو عمر ولا وجه عندى لما قاله محمد بن يحيى من ذلك ولا دليل عليه
واتفاق مالك ويونس بن زيد والأوزاعى ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب والنفس
إلى قولهم وروايتهم أسكن وهم من الحفظ والاتقان بحيث لا يقاس بهم من
خالفهم في هذا الحديث انتهى وقد قال محمد الذهلى سمعت على بن المدينى يقول
ولد كعب خمسة عبد الله وعبيد الله ومعبد وعبد الرحمن ومحمد قال الذهلى
فسمع الزهرى من عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه حين عمى وسمع من عبد
الرحمن بن عبد الله بن كعب وروى عن بشير بن عبد الرحمن بن كعب ولا أراه
سمع منه انتهى فالحديث ان كان لعبد الرحمن عن أبيه كعب كما قال مالك ومن
معه فظاهر وإن كان لعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن جده كما قال شعيب
ومن معه فنهايته أن يكون مرسلا من هذا الطريق وموصولا من الأخرى والذين
وصلوه ليسوا بدون الذين أرسلوه قدرا ولا عددا فالحديث من صحاح الأحاديث
وإنما لم يخرجه صاحبا الصحيح لهذه العلة والله أعلم
قال أبو عمرو أما قوله نسمة المؤمن فالنسمة ها هنا الروح يدل على ذلك قوله
في الحديث نفسه حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه وقيل النسمة الروح
والنفس والبدن وأصل هذه اللفظة اعنى النسمة الانسان بعينه وإنما قيل للروح
نسمة والله أعلم لأن حياة الانسان بروحه وإذا فارقه عدم أو صار كالمعدوم
والدليل على أن النسمة الانسان قوله من أعتق نسمة مؤمنة وقول على رضى الله
عنه والذى فلق الحبة وبرأ النسمة وقال الشاعر
فأعظم منك تقى في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا
يعنى إذا بعث الناس من قبورهم يوم القيامة وقال الخليل بن أحمد
النسمة الإنسان قال والنسمة الروح والنسيم هبوب الريح وقوله تعالى في شجر
الجنة يروى بفتح اللام وهو الأكثر ويروى بضم اللام والمعنى واحد وهو الأكل
والرعى يقول تأكل من ثمار الجنة وتسرح بين أشجارها والعلوقة والعلوق الأكل
والرعى تقول العرب ما ذاق اليوم علوقا أى طعاما قال الربيع بن زياد يصف
الخيل
ومجنبات ما يذقن علوقة ... يمصعن بالمهرات والأمهار
وقال الأعشى
وفلاة كأنها ظهر ترس ... ليس فيها إلا الرجيع علاق
قلت ومنه قول عائشة والنساء إذ ذاك خفاف لم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة
من الطعام وأصل اللفظة من التعلق وهو ما يعلق القلب والنفس من الغذاء
قال واختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال قائلون منهم أرواح المؤمنين
عند الله في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة
ولا دين وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم
قال واحتجوا بأن هذا الحديث لم يخص فيه شهيدا من غير شهيد
واحتجوا أيضا بما روى عن أبى هريرة أن أرواح الأبرار في عليين وأرواح
الفجار في سجين وعن عبد الله بن عمرو مثل ذلك قال أبو عمر وهذا قول يعارضه
من السنة ما لا مدفع في صحة نقله وهو قوله إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده
بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار
فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة
وقال آخرون إنما معنى هذا الحديث في الشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة
إنما يدلان على ذلك أما القرآن فقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله الآية
وأما الآثار فذكر حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه من طريق بقى بن مخلد
مرفوعا الشهداء يغدون ويروحون ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش
فيقول لهم الرب تبارك وتعالى هل تعلمون كرامة أفضل من كرامة أكرمتكموها
فيقولون لا غير
أنا وددنا أنك أعدت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى
فنقتل في سبيلك رواه عن هناد عن اسماعيل بن المختار عن عطية عنه
ثم ساق حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله لما أصيب إخوانكم
يعنى يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من
ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم
ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا
ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد قال فقال الله عز و جل أنا أبلغهم
عنكم فأنزل الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل
أحياء عند ربهم يرزقون والحديث في مسند أحمد وسنن أبى داود
ثم ذكر حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال سأل عند الله بن مسود
رضى الله عنه عن هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل
أحياء عند ربهم يرزقون فقال أما أنا قد سألنا عن ذلك فقال أرواحهم في جوف
طير خضر تسرح في الجنة في ايها شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل فاطلع اليهم
ربك إطلاعه فقال هل تشتهون شيئا قالوا وأى شيء نشتهى ونحن نسرح من الجنة
حيث شئنا ففعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا
قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى
فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا والحديث في صحيح مسلم
قلت وفي صحيح البخارى عن أنس أن أم الربيع بنت البراء وهى أم حارثة بن
سراقة أتت النبي فقالت يا نبي الله ألا تحدثنى عن حارثة وكان قتل يود بدر
أصابه سهم غرب قان كان في الجنة صبرت وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في
البكاء قال يا أم حارثة إنها جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى
ثم ساق من طريق بقى بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا ابن عيينة عن
عبيد الله ابن أبى يزيد سمع ابن عباس يقول أرواح الشهداء تجول في أجواف
طير خضر تعلق في تتمر ! الجنة
ثم ذكر عن معمر عن قتادة قال بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل
من ثمار الجنة
ومن طريق أبى عاصم النبيل عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن
عمرو أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة
قال أبو عمر هذه الآثار كلها تدل على أنهم الشهداء دون غيرهم
وفي بعضها في صور طير وفي بعضها في أجواف طير وفي بعضها كطير خضر قال
والذى يشبه عندى والله أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صور طير
لمطابقته لحديثنا المذكور يريد حديث كعب ابن مالك وقوله فيه نسمة المؤمن
كطائر ولم يقل في جوف طائر
قال وروى عيسى بن يونس حديث ابن مسعود عن الأعمش عبد الله بن مرة عن مسروق
عن عبد الله كطير خضر
قلت والذى في صحيح مسلم في أجواف طير خضر
قال أبو عمر فعلى هذا التأويل كأنه قال إنما نسمة المؤمن من الشهداء طائر
يعلق في شجر الجنة
قلت لا تنافي بين قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وبين قوله إن
أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل
الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار وهذا الخطاب يتناول الميت على
فراشه والشهيد كما أن قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة يتناول
الشهيد وغيره ومع كونه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشى ترد روحه أنهار
الجنة وتأكل من ثمارها
وأما المقعد الخاص به والبيت الذى أعد له فانه إنما يدخله يوم القيامة
ويدل عليه أن منازل الشهداء ودورهم وقصورهم التي أعد الله لهم ليست هي تلك
القناديل التي تأوى اليها أرواحهم في البرزخ قطعا فهم يرون منازلهم
ومقاعدهم من الجنة ويكون مستقرهم في تلك القناديل المعلقة بالعرش فان
الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة ودخول الأرواح الجنة في البرزخ
أمر دون ذلك
ونظير هذا أهل الشقاء تعرض أرواحهم على النار غدوا وعشيا فإذا كان يوم
القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يعرضون عليها في البرزخ فتنعم
الأرواح بالجنة في البرزخ شيء وتنعمها مع الأبدان يوم القيامة بها شيء آخر
فغذاه الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها مع بدنها يوم البعث ولهذا قال
تعلق في شجر الجنة أى تأكل العلقة وقام ! الأكل والشرب واللبس والتمتع
فإنما يكون إذا ردت إلى أجسادها يوم القيامة فظهر أنه لا يعارض هذا القول
من السنن شيء وإنما تعاضده السنة وتوافقه
وأما قول من قال إن حديث كعب في الشهداء دون غيرهم فتخصيص ليس في اللفظ ما
يدل عليه وهو حمل اللفظ العام على أقل مسمياته فإن الشهداء بالنسبة إلى
عموم المؤمنين
قليل جدا والنبي علق هذا الجزاء بوصف الإيمان فهو المقتضى له
ولم يعلقه بوصف الشهادة ألا ترى أن الحكم الذى اختص بالشهداء علق بوصف
الشهادة كقوله في حديث المقدام بن معد يكرب للشهيد عند الله ست خصال يغفر
له في أول دفقة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلة الإيمان ويزوج من
الحور العين ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه
تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين من
الحور العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه فلما كان هذا يختص بالشهيد
قال إن للشهيد ولم يقل إن للمؤمن وكذلك قوله في حديث قيس الجذامى يعطى
الشهيد ست خصال وكذلك سائر الأحاديث والنصوص التي علق فيها الجزاء
بالشهادة
وأما ما علق فيه الجزاء بالإيمان فإنه يتناول كل مؤمن شهيدا كان أو غير
شهيد
واما النصوص والآثار التي ذكر في رزق الشهداء وكون أرواحهم في الجنة فكلها
حق وهي لا تدل على انتفاء دخول أرواح المؤمنين الجنة ولا سيما الصديقين
الذين هم أفضل من الشهداء بلا نزاع بين الناس فيقال لهؤلاء ما تقولون في
أرواح الصديقين هل هى في الجنة أم لا
فإن قالوا أنها في الجنة ولا يسوغ لهم غير هذا القول فثبت أن هذه النصوص
لا تدل على اختصاص أرواح الشهداء بذلك وإن قالوا ليست في الجنة لزمهم من
ذلك أن تكون أرواح سادات الصحابة كابى بكر الصديق وأبى بن كعب وعبد الله
بن مسعود وأبى الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضى الله عنهم ليست في
الجنة وأرواح شهداء زماننا في الجنة وهذا معلوم البطلان ضرورة
فإن قيل فإن كان هذا حكم يختص بالشهداء فما الموجب لتخصيصهم بالذكر في هذه
النصوص قلت التنبيه على فضل الشهادة وعلو درجتها وأن هذا مضمون لأهلها ولا
بد وأن لهم منها أوفر نصيب فنصيبهم من هذا النعيم في البرزخ أكمل من نصيب
غيرهم من الأموات على فراشهم وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة منهم فله
نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه
ويدل على هذا أن الله سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف اطير خضر فإنهم
لما بذلوا أنفسهم لله حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبدانا
خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان
أكمل من نعيم الأرواح المجردة عنها ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو
كطير ونسمة الشهيد في جوف طير وتأمل لفظ الحديثين فانه قال نسمة المؤمن
طير فهذا يعم الشهيد وغيره ثم خص للشهيد بأن قال
هي في جوف طير ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها
طير فصلوات الله وسلامه على من يصدق كلامه بعضه بعضا ويدل على أنه حق من
عند الله وهذا الجمع أحسن من جمع أبى عمر وترجيحه رواية من روى أرواحهم
كطير خضر بل الروايتان حق وصواب فهي كطير خضر وفي أجواف طير خضر
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل وأما قول مجاهد ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها
ويجدون
ريحها فقد يحتج لهذا القول بما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن
اسحق عن عاصم بن عمر عن محمود ابن لبيد عن ابن عباس قال قال رسول الشهداء
على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة
وعشية
وهذا لا ينافي كونهم في الجنة فإن ذلك النهر من الجنة ورزقهم يخرج عليهم
من الجنة فهم في الجنة وإن لم يصيروا إلى مقاعدهم منها فمجاهد نفي الدخول
الكامل من كل وجه والتعبير يقصر عن الإحاطة بتمييز هذا وأكمل العبارة
ادلها على المراد عبارة رسول الله ثم عبارة أصحابه وكلما نزلت رأيت الشفاء
والهدى والنور وكلما نزلت رأيت الحيرة والدعاوى والقول بلا علم
قال أبو عبد الله بن منده وروى موسى بن عبيدة عن عبد الله بن يزيد عن أم
كبشة بنت المعرور قالت دخل علينا رسول الله فسألناه عن هذه الأرواح فوصفها
صفة أبكى أهل البيت فقال إن أرواح المؤمنين في حواصل الطير خضر ترعى في
الجنة وتأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوى إلى قناديل من ذهب تحت العرش
يقولون ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا وان أرواح الكفار في حواصل
طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوى إلى جحر في النار يقولون ربنا
لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا
وقال الطبراني حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني
معاوية ابن صالح عن ضمرة بن حبيب قال سئل النبي عن أرواح المؤمنين فقال في
طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت قالوا يا رسول الله وأرواح الكفار قال
محبوسة في سجين رواه أبو الشيخ عن هشام بن يونس عن عبد لله بن صالح ورواه
أبو المغيرة عن أبى بكر بن أبى مريم عن ضمرة بن حبيب
وذكر أبو عبد الله بن منده من حديث غنجار عن الثورى عن ثور بن يزيد عن
خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله أرواح
المؤمنين في طير خضر كالزرازير تأكل من ثمر الجنة ورواه غيره موقوفا
وذكر يزيد الرقاشي عن أنس وأبو عبد الله الشامي عن تميم الدارى عن النبي
إذا عرج ملك الموت بروح المؤمن إلى السماء استقبله جبرائيل في سبعين ألفا
من الملائكة كل منهم يأتيه ببشارة من السماء سوى بشارة صاحبه فإذا انتهي
به إلى العرش خر ساجدا فيقول الله عز و جل لملك الموت انطلق بروح عبدى
فضعه في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب رواه بكر بن خنيس عن
ضرار بن عمرو عن يزيد وأبى عبد الله
فصل وأما قول من قال الأرواح على أفنية قبورها فان أراد أن هذا
أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبدا فهذا خطأ ترده نصوص الكتاب
والسنة من وجوه كثيرة قد ذكرنا بعضها وسنذكر منها ما لم نذكره إن شاء الله
وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتا أولها إشراف على قبورها وهي في
مقرها فهذا حق ولكن لا يقال مستقرها أفنية القبور
وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر بن عبد البر قال في كتابه في
شرح حديث ابن عمر إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى وقد
استبدل به من ذهب إلى ان الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في
ذلك من طريق الأثر ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة
وكذلك أحاديث السلام على القبور
قلت يريد الأحاديث المتواترة مثل حديث ابن عمر هذا ومثل حديث البراء ابن
عازب الذي تقدم وفيه هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ومثل حديث أنس
أن للعبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم وفيه أنه
يرى مقعده من الجنة والنار وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعا ويضيق
على الكافر ومثل حديث جابر إن هذه الأمة تبلى في قبورها فإذا دخل المؤمن
من قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملك الحديث وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول
دعوني أبشر أهلي فيقال له أسكن فهذا مقعدك أبدا ومثل سائر أحاديث عذاب
القبر ونعيمه التي تقدمت ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم
ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم وقد تقدم ذكر ذلك كله
وهذا القول ترده السنة الصحيحة والآثار التي لا مدفع لها وقد تقدم ذكرها
وكل ما ذكره
من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي
الرفيق الأعلى وقد بينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل
على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائما من جميع الوجوه بل لها إشراف
واتصال بالقبر وفنائه وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده فإن الروح شأنا آخر
تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين ولها اتصال بالبدن بحيث إذا سلم
المسلم على الميت رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام وهي في الملأ الأعلى
وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد
من الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره وهذا غلط محض بل
الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين وترد إلى القبر فترد السلام وتعلم
بالمسلم وهي في مكانها هناك وروح رسول الله في الرفيق الأعلى دائما ويردها
الله سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه وتسمع كلامه وقد رأى
رسول الله موسى قائما يصلى في قبر ورآه في السماء السادسة والسابعة فإما
أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر وإما أن يكون المتصل منها
بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السماء وقد ثبت أن روح النائم
تصعد حتى تخترق السبع الطباق وتسجد لله بين يدي العرش ثم ترد إلى جسده في
أيسر زمان وكذلك روح الميت تصعد بها الملائكة حتى تجاوز السموات السبع
وتقف بين يدي الله فتسجد له ويقضى فيها قضاء ويريها الملك ما أعد الله لها
في الجنة ثم تهبط فتشهد غسله وحمله ودفنه وقد تقدم في حديث البراء بن عازب
أن النفس يصعد بها حتى توقف بين يدي الله فيقول تعالى اكتبوا كتاب عبدى في
عليين ثم أعيدوه إلى الأرض فيعاد إلى القبر وذلك في مقدار تجهيزه وتكفينه
فقد صرح به في حديث ابن عباس حيث قال فيهبطون على قدر فراغه من غسله
وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه
وقد ذكر أبو عبد الله بن منده من حديث عيسى بن عبد الرحمن حدثنا ابن شهاب
حدثنا عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه قال أردت مالي
بالغابة فأدركنى الليل فأويت إلى قبر عبد الله بن عمر بن حرام فسمعت قراءة
من القبر ما سمعت أحسن منها فجئت إلى رسول الله فذكرت ذلك له فقال ذلك عبد
الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم
علقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا يزال كذلك حتى إذا
طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانهم الذي كانت به
ففي هذا الحديث بيان سرعة انتقال أرواحهم من العرش إلى الثرى ثم انتقالها
من الثرى إلى مكانها ولهذا قال مالك وغيره من الأئمة أن الروح مرسلة تذهب
حيث شاءت وما
يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمر
يعلمه عامة الناس ولا يشكون فيه والله أعلم
وأما السلام على أهل القبور وخطابهم فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة
وأنها على أفنية القبور فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين مع
الرفيق الأعلى عند قبره ويرد سلام المسلم عليه وقد وافق أبو عمر رحمه الله
على أن أرواح الشهداء في الجنة ويسلم عليهم عند قبورهم كما يسلم على غيرهم
كما علمنا النبي أن نسلم عليهم وكما كان الصحابة يسلمون على شهداء أحد وقد
ثبت أن أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدم ولا يضيق عقلك عن كون
الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها
عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام وللروح شأن آخر غير شأن البدن وهذا
جبريل صلوات الله وسلامه عليه رآه النبي وله ستمائة جناح منها جناحان قد
سد بهما ما بين المشرق والمغرب وكان من النبي حتى يضع ركبتيه بين ركبتيه
ويديه على فخذيه وما أظنك يتسع بظنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق
السموات حيث هو مستقره وقد دنا من النبي هذا الدنو فإن التصديق بهذا له
قلوب خلقت له وأهلت لمعرفته ومن لم يتسع بطانة لهذا فهو أضيق أن يتسع
للإيمان بالنزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة وهو فوق سماواته على عرشه
لا يكون فوقه شيء البتة بل هو العالي على كل شيء وعلوه من لوازم ذاته
وكذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه
وإشراق الأرض بنوره وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها وسواها ومدها وبسطها
وهيأها لما يراد منها وكذلك مجيئه يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى
بها أحد كما قال النبي فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد هذا
وهو فوق سماواته على عرشه
ويجدون
ريحها فقد يحتج لهذا القول بما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن
اسحق عن عاصم بن عمر عن محمود ابن لبيد عن ابن عباس قال قال رسول الشهداء
على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة
وعشية
وهذا لا ينافي كونهم في الجنة فإن ذلك النهر من الجنة ورزقهم يخرج عليهم
من الجنة فهم في الجنة وإن لم يصيروا إلى مقاعدهم منها فمجاهد نفي الدخول
الكامل من كل وجه والتعبير يقصر عن الإحاطة بتمييز هذا وأكمل العبارة
ادلها على المراد عبارة رسول الله ثم عبارة أصحابه وكلما نزلت رأيت الشفاء
والهدى والنور وكلما نزلت رأيت الحيرة والدعاوى والقول بلا علم
قال أبو عبد الله بن منده وروى موسى بن عبيدة عن عبد الله بن يزيد عن أم
كبشة بنت المعرور قالت دخل علينا رسول الله فسألناه عن هذه الأرواح فوصفها
صفة أبكى أهل البيت فقال إن أرواح المؤمنين في حواصل الطير خضر ترعى في
الجنة وتأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوى إلى قناديل من ذهب تحت العرش
يقولون ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا وان أرواح الكفار في حواصل
طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوى إلى جحر في النار يقولون ربنا
لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا
وقال الطبراني حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني
معاوية ابن صالح عن ضمرة بن حبيب قال سئل النبي عن أرواح المؤمنين فقال في
طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت قالوا يا رسول الله وأرواح الكفار قال
محبوسة في سجين رواه أبو الشيخ عن هشام بن يونس عن عبد لله بن صالح ورواه
أبو المغيرة عن أبى بكر بن أبى مريم عن ضمرة بن حبيب
وذكر أبو عبد الله بن منده من حديث غنجار عن الثورى عن ثور بن يزيد عن
خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله أرواح
المؤمنين في طير خضر كالزرازير تأكل من ثمر الجنة ورواه غيره موقوفا
وذكر يزيد الرقاشي عن أنس وأبو عبد الله الشامي عن تميم الدارى عن النبي
إذا عرج ملك الموت بروح المؤمن إلى السماء استقبله جبرائيل في سبعين ألفا
من الملائكة كل منهم يأتيه ببشارة من السماء سوى بشارة صاحبه فإذا انتهي
به إلى العرش خر ساجدا فيقول الله عز و جل لملك الموت انطلق بروح عبدى
فضعه في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب رواه بكر بن خنيس عن
ضرار بن عمرو عن يزيد وأبى عبد الله
فصل وأما قول من قال الأرواح على أفنية قبورها فان أراد أن هذا
أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبدا فهذا خطأ ترده نصوص الكتاب
والسنة من وجوه كثيرة قد ذكرنا بعضها وسنذكر منها ما لم نذكره إن شاء الله
وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتا أولها إشراف على قبورها وهي في
مقرها فهذا حق ولكن لا يقال مستقرها أفنية القبور
وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر بن عبد البر قال في كتابه في
شرح حديث ابن عمر إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى وقد
استبدل به من ذهب إلى ان الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في
ذلك من طريق الأثر ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة
وكذلك أحاديث السلام على القبور
قلت يريد الأحاديث المتواترة مثل حديث ابن عمر هذا ومثل حديث البراء ابن
عازب الذي تقدم وفيه هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ومثل حديث أنس
أن للعبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم وفيه أنه
يرى مقعده من الجنة والنار وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعا ويضيق
على الكافر ومثل حديث جابر إن هذه الأمة تبلى في قبورها فإذا دخل المؤمن
من قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملك الحديث وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول
دعوني أبشر أهلي فيقال له أسكن فهذا مقعدك أبدا ومثل سائر أحاديث عذاب
القبر ونعيمه التي تقدمت ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم
ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم وقد تقدم ذكر ذلك كله
وهذا القول ترده السنة الصحيحة والآثار التي لا مدفع لها وقد تقدم ذكرها
وكل ما ذكره
من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي
الرفيق الأعلى وقد بينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل
على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائما من جميع الوجوه بل لها إشراف
واتصال بالقبر وفنائه وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده فإن الروح شأنا آخر
تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين ولها اتصال بالبدن بحيث إذا سلم
المسلم على الميت رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام وهي في الملأ الأعلى
وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد
من الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره وهذا غلط محض بل
الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين وترد إلى القبر فترد السلام وتعلم
بالمسلم وهي في مكانها هناك وروح رسول الله في الرفيق الأعلى دائما ويردها
الله سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه وتسمع كلامه وقد رأى
رسول الله موسى قائما يصلى في قبر ورآه في السماء السادسة والسابعة فإما
أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر وإما أن يكون المتصل منها
بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السماء وقد ثبت أن روح النائم
تصعد حتى تخترق السبع الطباق وتسجد لله بين يدي العرش ثم ترد إلى جسده في
أيسر زمان وكذلك روح الميت تصعد بها الملائكة حتى تجاوز السموات السبع
وتقف بين يدي الله فتسجد له ويقضى فيها قضاء ويريها الملك ما أعد الله لها
في الجنة ثم تهبط فتشهد غسله وحمله ودفنه وقد تقدم في حديث البراء بن عازب
أن النفس يصعد بها حتى توقف بين يدي الله فيقول تعالى اكتبوا كتاب عبدى في
عليين ثم أعيدوه إلى الأرض فيعاد إلى القبر وذلك في مقدار تجهيزه وتكفينه
فقد صرح به في حديث ابن عباس حيث قال فيهبطون على قدر فراغه من غسله
وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه
وقد ذكر أبو عبد الله بن منده من حديث عيسى بن عبد الرحمن حدثنا ابن شهاب
حدثنا عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه قال أردت مالي
بالغابة فأدركنى الليل فأويت إلى قبر عبد الله بن عمر بن حرام فسمعت قراءة
من القبر ما سمعت أحسن منها فجئت إلى رسول الله فذكرت ذلك له فقال ذلك عبد
الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم
علقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا يزال كذلك حتى إذا
طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانهم الذي كانت به
ففي هذا الحديث بيان سرعة انتقال أرواحهم من العرش إلى الثرى ثم انتقالها
من الثرى إلى مكانها ولهذا قال مالك وغيره من الأئمة أن الروح مرسلة تذهب
حيث شاءت وما
يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمر
يعلمه عامة الناس ولا يشكون فيه والله أعلم
وأما السلام على أهل القبور وخطابهم فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة
وأنها على أفنية القبور فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين مع
الرفيق الأعلى عند قبره ويرد سلام المسلم عليه وقد وافق أبو عمر رحمه الله
على أن أرواح الشهداء في الجنة ويسلم عليهم عند قبورهم كما يسلم على غيرهم
كما علمنا النبي أن نسلم عليهم وكما كان الصحابة يسلمون على شهداء أحد وقد
ثبت أن أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدم ولا يضيق عقلك عن كون
الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها
عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام وللروح شأن آخر غير شأن البدن وهذا
جبريل صلوات الله وسلامه عليه رآه النبي وله ستمائة جناح منها جناحان قد
سد بهما ما بين المشرق والمغرب وكان من النبي حتى يضع ركبتيه بين ركبتيه
ويديه على فخذيه وما أظنك يتسع بظنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق
السموات حيث هو مستقره وقد دنا من النبي هذا الدنو فإن التصديق بهذا له
قلوب خلقت له وأهلت لمعرفته ومن لم يتسع بطانة لهذا فهو أضيق أن يتسع
للإيمان بالنزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة وهو فوق سماواته على عرشه
لا يكون فوقه شيء البتة بل هو العالي على كل شيء وعلوه من لوازم ذاته
وكذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه
وإشراق الأرض بنوره وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها وسواها ومدها وبسطها
وهيأها لما يراد منها وكذلك مجيئه يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى
بها أحد كما قال النبي فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد هذا
وهو فوق سماواته على عرشه
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل ومما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب
حال الأرواح من القوة والضعف والكبر والصغر فللروح العظيمة الكبيرة من ذلك
ما ليس لمن هو دونها وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم
تفاوت بحسب تفارق الأرواح في كيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة
لها فللروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة
والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة
المحبوسة في علائق البدن وعوائقه فذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف
إذا تجردت
وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكيه
كبيرة ذات همة عالية فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر
وقد تواترت الرؤيا في أصناف بنى آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر
على مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين
والعدد القليل ونحو ذلك وكم قد رئى النبي ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد
هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة
عددهم وعددهم وضعف المؤمنين وقلتهم
ومن العجب أن أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقى وبينها أعظم
مسافة وأبعدها فتتألم وتتعارف فيعرف بعضها بعضا كأنه جليسه وعشيرة فإذا
رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته
قال عبد الله بن عمرو ان أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يوم وما أرى
أحدهما صاحبه قط ورفعه بعضهم إلى النبي
وقال عكرمة ومجاهد إذا نام الإنسان فان له سببا يجرى فيه الروح وأصله في
الجسد فتبلغ حيث شاء الله ما دام ذاهبا فالإنسان نائم فإذا رجع إلى البدن
انتبه الإنسان وكان بمنزلة شعاع الشمس الذي هو ساقط بالأرض فأصله متصل
بالشمس وقد ذكر أبو عبد الله بن منده عن بعض أهل العلم أنه قال إن الروح
يمتد من منخر الإنسان ومركبه وأصله في بدنه فلو خرج الروح بالكلية لمات
كما أن السراج لو فرق بينه وبين الفتيلة ألا ترى أن مركب النار في الفتيلة
وضؤوها وشعاعها يملأ البيت فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه حتى
تأتى السماء وتجول في البلدان وتلتقي مع أرواح الموتى فإذا أراه الملك
الموكل بأرواح العباد ما أحب أن يريه وكان المرئي في اليقظة عاقلا ذكيا
صدوقا لا يلتفت في يقظته إلى شيء من الباطل رجع إليه روحه فأدى إلى قلبه
الصدق مما أراه الله عز و جل على حسب خلقه وإن كان خفيفا نزقا يحب الباطل
والنظر إليه فإذا نام وأراه الله أمرا من خيرا وشر رجعت روحه إليه فحيث ما
رأي شيئا من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفت روحه عليه كما تقف في يقظته
فكذلك لا يؤدى إلى قلبه فلا يعقل ما رأي لأنه خلط الحق بالباطل فلا يمكن
معبر أن يعبر له وقد خلط الحق بالباطل
وهذا من أحسن الكلام وهو دليل على معرفة قائله وبصيرته بالأرواح
وأحكامها
وأنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شيء له ثم يمر بباطل ولهو
من غناء أو شبهة أو زور أو غيره فيصغي إليه ويفتح له قلبه حتى يتأدى إليه
فيتخبط عليه ذلك الذي سمعه من العلم والحكمة ويلتبس عليه الحق بالباطل
فهكذا شأن الأرواح عند النوم وأما بعد المفارقة فإنها تعذب بتلك
الاعتقادات والشه ! الباطلة التي كانت حظها حال اتصالها بالبدن وينضاف إلى
ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينها وبينها وينضاف إلى ذلك
عذاب آخر ينشئه الله لها ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها وهذه هي
المعيشة الضنك في البرزخ والزاد الذي تزود به إليه
والروح الزكيه العلوية المحقة التي لا تحب الباطل ولا تألفه بضد ذلك كله
تنعم بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقتها من مشكاة
النبوة وتلك الإرادات والهمم الزكية وينشئ الله سبحانه لها من أعمالها
نعيما ينعمها به في البرزخ فتصير لها روضة من رياض الجنة ولتلك حفرة من
حفر النار
فصل وأما قول من قال أرواح المؤمنين عند الله تعالى ولم يزد على
ذلك فانه تأدب مع لفظ القرآن حيث يقول الله عز و جل بل أحياء عند ربهم
يرزقون
وقد احتج أرباب هذا القول بحجج منها ما رواه محمد بن إسحاق الصغانى حدثنا
يحيى بن أبى بكير حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبى ذئب عن محمد بن عمرو بن
عطاء عن سعيد بن يسار عن أبى هريرة عن النبي قال إن الميت إذا خرجت نفسه
يعرج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز و جل
وإذا كان الرجل السوء يعرج بها إلى السماء فانه لا يفتح لها أبواب السماء
فترسل من السماء فتصير إلى القبر
وهذا إسناد لا تسأل عن صحته وهو في مسنده أحمد وغيره
وقال أبو داود الطيالسى حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبى وائل
عن موسى الأشعري قال تخرج روح المؤمن أطيب من ريح المسك فتنطلق بها
الملائكة من دون السماء فيقولون ما هذا فيقولون هذا فلان ابن فلان كان
يعمل كيت وكيت لمحاسن عمله فيقولون مرحبا بكم وبه فيقبضونها منهم فيصعد
بها من الباب الذي كأن يصعد منه عمله فتشرق في السموات ولها برهان برهان
كبرهان الشمس حتى ينتهي إلى العرش وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه
فيقولون ما هذا فيقولون هذا فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت لمساوى عمله
فيقولون لا مرحبا لا مرحبا ردوه فيرد إلى أسفل الأرض إلى الثرى
وقال الملكي بن إبراهيم عن داود بن يزيد الأودى قال أراه عن
عامر الشعبي عن حذيفة ابن اليمان أنه قال الأرواح موقوفة عند الرحمن عز و
جل تنتظر موعده حتى ينفخ فيها
وذكر سفيان بن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه أنه دخل ابن عمر المسجد بعد
قتل ابن الزبير وهو مصلوب فأتى أسماء يعزيها فقال لها عليك بتقوى الله
والصبر فان هذه الجثث ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله فقالت وما يمنعني
من الصبر وقد أهدى رأس يحيى ابن زكريا إلى بغى من بغايا بنى إسرائيل
وذكر جرير عن الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال كنا جلوسا إلى
كعب والربيع بن خيثم وخالد بن عرعرة في أناس فجاء ابن عباس فقال هذا ابن
عم نبيكم قال فأوسع له فجلس فقال يا كعب كل ما في القرآن قد عرفت غير
أربعة أشياء فأخبرني عنهن ما سجين وما عليون وما سدرة المنتهي وما قول
الله لإدريس ورفعناه مكانا عليا قال أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح
المؤمنين وأما سجين فالأرض السابعة السفلى وأرواح الكفار تحت جسد إبليس
وأما قول الله سبحانه لإدريس ورفعناه مكانا عليا فأوحى الله إليه أنى رافع
لك كل يوم مثل أعمال بنى آدم وكلم صديقا له من الملائكة أن يكلم له ملك
الموت فيؤخره حتى يزداد عملا فحمله بين جناحيه فعرج به حتى إذا كان في
السماء الرابعة لقيه ملك الموت فكلمه في حاجته فقال وأين هو قال هو ذا بين
جناحي قال فالعجب أنى أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة فقبض روحه وأما
سدرة المنتهي فإنها سدرة على رؤوس حملة العرش ينتهي إليها علم الخلائق ثم
ليس لأحد وراءها علم فلذلك سميت سدرة المنتهي
قال ابن منده ورواه وهب بن جرير عن أبيه ورواه يعقوب القمى عن شمر ورواه
خالد بن عبد الله عن العوام بن حوشب عن القاسم بن عوف عن الربيع بن خيثم
قال كنا جلوسا عند كعب فذكره
وذكر يعلى بن عبيد عن الأجلح عن الضحاك قال إذا قبض روح العبد المؤمن عرج
به إلى السماء الدنيا فينطلق معه المقربون إلى السماء الثانية ثم الثالثة
ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة حتى ينتهي به إلى سدرة
المنتهي قلت للضحاك لم سميت سدرة المنتهي إليها كل شيء من أمر الله عز و
جل لا يعدوها فيقول ربى عبدك فلان وهو أعلم به منهم فيبعث الله إليه بصك
مختوم يؤمنه من العذاب وذلك قوله تعالى كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما
أدراك ما علييون كتاب مرقوم يشهده المقربون وهذا القول لا ينافي قول من
قال
هم في الجنة فإن الجنة عند سدرة المنتهي والجنة عند الله وكأن
قائله رأي أن هذه العبارة أسلم وأوفق وقد أخبر الله سبحانه أن أرواح
الشهداء عنده وأخبر النبي أنها تسرح في اللجنة حيث شاءت
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار
بحضرموت ببرهوت فقال أبو محمد بن حزم هذا من قول الرافضة وليس كما قال بل
قد قاله جماعة من أهل السنة
وقال أبو عبد الله بن منده وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح
المؤمنين بالجابية ثم قال أخبرنا محمد بن محمد بن يونس حدثنا احمد بن عاصم
حدثنا أبو داود سليمان ابن داود حدثنا همام حدثني قتادة حدثني رجل عن سعيد
بن المسيب عن عبد الله بن عمرو وأنه قال إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية
وان أرواح الكفار تجتمع في سبخة بحضرموت يقال لها برهوت
ثم ساق من طريق حماد بن سلمة عن عبد الجليل بن عطية عن شهر بن حوشب أن
كعبا رأى عبد الله بن عمرو وقد تكلب الناس عليه يسألونه فقال لرجل سله أين
أرواح المؤمنين وأرواح الكفار فسأله فقال أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح
الكفار ببرهوت
قال ابن منده ورواه أبو داود وغيره عن عبد الجليل ثم ساق من حديث سفيان عن
فرات القزاز عن أبى الطفيل عن على قال خير بئر في الأرض زمزم وشر بئر في
الأرض برهوت في حضرموت وخير واد في الأرض وادي مكة والوادي الذي أهبط فيه
آدم بالهند منه طيبكم وشر واد في الأرض الأحقاف وهو في حضرموت ترده أرواح
الكفار
قال ابن منده وروى حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن
عباس عن على أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له برهوت فيه أرواح
الكفار وفيه بئر ماؤها بالنهار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام
ثم ساق من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا على بن عبد الله حدثنا
سفيان حدثنا إبان بن تغلب قال قال رجل بت فيه يعنى وادي برهوت فكأنما حشرت
فيه أصوات الناس وهم يقولون يا دومه يا دومه قال إبان فحدثنا رجل من أهل
الكتاب أن دومة هو الملك الذي على أرواح الكفار
وقال سفيان وسألنا الحضرميين فقالوا لا يستطيع أحد أن يبيت فيه
بالليل
فهذا جملة ما علمته في هذا القول فإن أراد عبد الله بن عمرو بالجابية
التمثيل والتشبيه وأنها تجمع في مكان فسيح يشبه الجابيه لسعته وطيب هوائه
فهذا قريب وإن أراد نفس الجابية دون سائر الأرض فهذا لا يعلم إلا بالتوقيت
ولعله مما تلقاه عن بعض أهل الكتاب
فصل وأما قول من قال إنها تجتمع في الأرض التي قال الله فيها
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون فهذا إن
كان قاله تفسير الآية فليس هو تفسيرا لها
وقد اختلف الناس في الأرض المذكورة هنا فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس هي
أرض الجنة وهذا قول أكثر المفسرين وعن ابن عباس قول آخر أنها الدنيا التي
فتحها الله على أمة محمد وهذا القول هو الصحيح ونظيره قوله تعالى في سروة
النور وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما
استخلف الذين من قبلهم وفي الصحيح عن النبي قال زويت لي الأرض مشارقها
ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها
وقالت طائفة من المفسرين المراد بذلك أرض بيت المقدس
وهي من الأرض التي أورثها الله عباده الصالحين وليست الآية مختصة بها
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين في عليين في السماء
السابعة
وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة فهذا قول قد قاله جماعة من السلف
والخلف ويدل عليه قول النبي اللهم الرفيق الأعلى وقد تقدم حديث أبى هريرة
أن الميت إذا خرجت روحه عر ج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء
السابعة التي فيها الله عز و جل وتقدم قول أبى موسى أنها تصعد حتى تنتهي
إلى العرش وقول حذيفة أنها موقوفة عند الرحمن وقول عبد الله بن عمر إن هذه
الأرواح عند الله وتقدم قول النبي أن أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل تحت
العرش وتقدم حديث البراء بن عازب أنها تصعد من سماء إلى سماء ويشيعها من
كل سماء مقربوها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة وفي لفظ إلى السماء
التي فيها الله عز و جل
ولكن هذا لا يدل على استقرارها هناك بل يصعد بها إلى هناك للعرض على ربها
فيقضى فيها أمره ويكتب كتابه من أهل عليين أو من أهل سجين ثم تعود إلى
القبر للمسألة ثم ترجع إلى مقرها التي أودعت فيه فأرواح المؤمنين في عليين
بحسب منازلهم وأرواح الكفار في سجين بحسب منازلهم
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين تجتمع ببئر زمزم فلا دليل
على هذا القول من كتاب ولا سنة يجب التسليم لها ولا قول صاحب يوثق به وليس
بصحيح فإن تلك البئر لا تسع أرواح المؤمنين جميعهم وهو مخالف لما ثبت به
السنة الصريحة من أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة
وبالجملة فهذا من أبطل الأقوال وأفسدها وهو أفسد من قول من قال أنها
بالجابية فإن ذلك مكان متسع فضاء بخلاف البئر الضيقة
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب
حيث شاءت فهذا مروى عن سلمان الفارسي والبرزخ هو الحاجز بين شيئين وكأن
سلمان أراد بها في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت وهذا
قول قوى فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة بل هي في برزخ بينهما
فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح والريحان والنعيم وأرواح الكفار
في برزخ ضيق فيه الغم والعذاب قال تعالى ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون
فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة وأصله الحاجز بين الشيئين
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح
الكفار
عن يساره فلعمر والله لقد قال قولا يؤيده الحديث الصحيح وهو حديث الإسراء
فان النبي رآهم كذلك ولكن لا يدل على تعادلهم في اليمين والشمال بل يكون
هؤلاء عن يمينه في العلو والسعة وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن
وقد قال أبو محمد بن حزم ان ذلك البرزخ الذي رآه فيه رسول الله ليلة أسرى
به عند سماء الدنيا قال وذلك عند منقطع العناصر قال وهذا يدل على أنها
عنده تحت السماء حيث تنقطع العناصر وهي الماء والتراب والنار والهواء
وهو دائما يشنع على من قال قولا لا دليل عليه فأي دليل له على هذا القول
من كتاب وسنة وسيأتي إشباع الكلام على قوله إذا انتهينا إليه إن شاء الله
تعالى
فإن قيل فإذا كانت أرواح أهل السعاده عن يمين آدم وآدم في السماء الدنيا
وقد ثبت أن
أرواح الشهداء في ظل العرش والعرش فوق السماء السابعة فكيف تكون
عن يمينه وكيف يراها النبي هناك في السماء الدنيا فالجواب من وجوه
أحدها أنه لا يمتنع كونها عن يمينه في جهة العلو كما كانت أرواح الأشقياء
عن يساره في جهة السفل
الثاني أنه غير ممتنع أن تعرض على النبي في سماء الدنيا وإن كان مستقرها
فوق ذلك
الثالث أنه لم يخبر أنه رأى أرواح السعداء جميعا هناك بل قال فإذا عن
يمينه أسودة وعن يساره أسودة ومعلوم قطعا أن روح إبراهيم وموسى فوق ذلك في
السماء السادسة والسابعة وكذلك الرفيق الأعلى أرواحهم فوق ذلك وأرواح
السعداء بعضها أعلى من بعض بحسب منازلهم كما أن أرواح الأشياء بعضها أسفل
من بعض بحسب منازلهم والله أعلم
حال الأرواح من القوة والضعف والكبر والصغر فللروح العظيمة الكبيرة من ذلك
ما ليس لمن هو دونها وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم
تفاوت بحسب تفارق الأرواح في كيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة
لها فللروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة
والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة
المحبوسة في علائق البدن وعوائقه فذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف
إذا تجردت
وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكيه
كبيرة ذات همة عالية فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر
وقد تواترت الرؤيا في أصناف بنى آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر
على مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين
والعدد القليل ونحو ذلك وكم قد رئى النبي ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد
هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة
عددهم وعددهم وضعف المؤمنين وقلتهم
ومن العجب أن أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقى وبينها أعظم
مسافة وأبعدها فتتألم وتتعارف فيعرف بعضها بعضا كأنه جليسه وعشيرة فإذا
رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته
قال عبد الله بن عمرو ان أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يوم وما أرى
أحدهما صاحبه قط ورفعه بعضهم إلى النبي
وقال عكرمة ومجاهد إذا نام الإنسان فان له سببا يجرى فيه الروح وأصله في
الجسد فتبلغ حيث شاء الله ما دام ذاهبا فالإنسان نائم فإذا رجع إلى البدن
انتبه الإنسان وكان بمنزلة شعاع الشمس الذي هو ساقط بالأرض فأصله متصل
بالشمس وقد ذكر أبو عبد الله بن منده عن بعض أهل العلم أنه قال إن الروح
يمتد من منخر الإنسان ومركبه وأصله في بدنه فلو خرج الروح بالكلية لمات
كما أن السراج لو فرق بينه وبين الفتيلة ألا ترى أن مركب النار في الفتيلة
وضؤوها وشعاعها يملأ البيت فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه حتى
تأتى السماء وتجول في البلدان وتلتقي مع أرواح الموتى فإذا أراه الملك
الموكل بأرواح العباد ما أحب أن يريه وكان المرئي في اليقظة عاقلا ذكيا
صدوقا لا يلتفت في يقظته إلى شيء من الباطل رجع إليه روحه فأدى إلى قلبه
الصدق مما أراه الله عز و جل على حسب خلقه وإن كان خفيفا نزقا يحب الباطل
والنظر إليه فإذا نام وأراه الله أمرا من خيرا وشر رجعت روحه إليه فحيث ما
رأي شيئا من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفت روحه عليه كما تقف في يقظته
فكذلك لا يؤدى إلى قلبه فلا يعقل ما رأي لأنه خلط الحق بالباطل فلا يمكن
معبر أن يعبر له وقد خلط الحق بالباطل
وهذا من أحسن الكلام وهو دليل على معرفة قائله وبصيرته بالأرواح
وأحكامها
وأنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شيء له ثم يمر بباطل ولهو
من غناء أو شبهة أو زور أو غيره فيصغي إليه ويفتح له قلبه حتى يتأدى إليه
فيتخبط عليه ذلك الذي سمعه من العلم والحكمة ويلتبس عليه الحق بالباطل
فهكذا شأن الأرواح عند النوم وأما بعد المفارقة فإنها تعذب بتلك
الاعتقادات والشه ! الباطلة التي كانت حظها حال اتصالها بالبدن وينضاف إلى
ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينها وبينها وينضاف إلى ذلك
عذاب آخر ينشئه الله لها ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها وهذه هي
المعيشة الضنك في البرزخ والزاد الذي تزود به إليه
والروح الزكيه العلوية المحقة التي لا تحب الباطل ولا تألفه بضد ذلك كله
تنعم بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقتها من مشكاة
النبوة وتلك الإرادات والهمم الزكية وينشئ الله سبحانه لها من أعمالها
نعيما ينعمها به في البرزخ فتصير لها روضة من رياض الجنة ولتلك حفرة من
حفر النار
فصل وأما قول من قال أرواح المؤمنين عند الله تعالى ولم يزد على
ذلك فانه تأدب مع لفظ القرآن حيث يقول الله عز و جل بل أحياء عند ربهم
يرزقون
وقد احتج أرباب هذا القول بحجج منها ما رواه محمد بن إسحاق الصغانى حدثنا
يحيى بن أبى بكير حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبى ذئب عن محمد بن عمرو بن
عطاء عن سعيد بن يسار عن أبى هريرة عن النبي قال إن الميت إذا خرجت نفسه
يعرج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز و جل
وإذا كان الرجل السوء يعرج بها إلى السماء فانه لا يفتح لها أبواب السماء
فترسل من السماء فتصير إلى القبر
وهذا إسناد لا تسأل عن صحته وهو في مسنده أحمد وغيره
وقال أبو داود الطيالسى حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبى وائل
عن موسى الأشعري قال تخرج روح المؤمن أطيب من ريح المسك فتنطلق بها
الملائكة من دون السماء فيقولون ما هذا فيقولون هذا فلان ابن فلان كان
يعمل كيت وكيت لمحاسن عمله فيقولون مرحبا بكم وبه فيقبضونها منهم فيصعد
بها من الباب الذي كأن يصعد منه عمله فتشرق في السموات ولها برهان برهان
كبرهان الشمس حتى ينتهي إلى العرش وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه
فيقولون ما هذا فيقولون هذا فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت لمساوى عمله
فيقولون لا مرحبا لا مرحبا ردوه فيرد إلى أسفل الأرض إلى الثرى
وقال الملكي بن إبراهيم عن داود بن يزيد الأودى قال أراه عن
عامر الشعبي عن حذيفة ابن اليمان أنه قال الأرواح موقوفة عند الرحمن عز و
جل تنتظر موعده حتى ينفخ فيها
وذكر سفيان بن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه أنه دخل ابن عمر المسجد بعد
قتل ابن الزبير وهو مصلوب فأتى أسماء يعزيها فقال لها عليك بتقوى الله
والصبر فان هذه الجثث ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله فقالت وما يمنعني
من الصبر وقد أهدى رأس يحيى ابن زكريا إلى بغى من بغايا بنى إسرائيل
وذكر جرير عن الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال كنا جلوسا إلى
كعب والربيع بن خيثم وخالد بن عرعرة في أناس فجاء ابن عباس فقال هذا ابن
عم نبيكم قال فأوسع له فجلس فقال يا كعب كل ما في القرآن قد عرفت غير
أربعة أشياء فأخبرني عنهن ما سجين وما عليون وما سدرة المنتهي وما قول
الله لإدريس ورفعناه مكانا عليا قال أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح
المؤمنين وأما سجين فالأرض السابعة السفلى وأرواح الكفار تحت جسد إبليس
وأما قول الله سبحانه لإدريس ورفعناه مكانا عليا فأوحى الله إليه أنى رافع
لك كل يوم مثل أعمال بنى آدم وكلم صديقا له من الملائكة أن يكلم له ملك
الموت فيؤخره حتى يزداد عملا فحمله بين جناحيه فعرج به حتى إذا كان في
السماء الرابعة لقيه ملك الموت فكلمه في حاجته فقال وأين هو قال هو ذا بين
جناحي قال فالعجب أنى أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة فقبض روحه وأما
سدرة المنتهي فإنها سدرة على رؤوس حملة العرش ينتهي إليها علم الخلائق ثم
ليس لأحد وراءها علم فلذلك سميت سدرة المنتهي
قال ابن منده ورواه وهب بن جرير عن أبيه ورواه يعقوب القمى عن شمر ورواه
خالد بن عبد الله عن العوام بن حوشب عن القاسم بن عوف عن الربيع بن خيثم
قال كنا جلوسا عند كعب فذكره
وذكر يعلى بن عبيد عن الأجلح عن الضحاك قال إذا قبض روح العبد المؤمن عرج
به إلى السماء الدنيا فينطلق معه المقربون إلى السماء الثانية ثم الثالثة
ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة حتى ينتهي به إلى سدرة
المنتهي قلت للضحاك لم سميت سدرة المنتهي إليها كل شيء من أمر الله عز و
جل لا يعدوها فيقول ربى عبدك فلان وهو أعلم به منهم فيبعث الله إليه بصك
مختوم يؤمنه من العذاب وذلك قوله تعالى كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما
أدراك ما علييون كتاب مرقوم يشهده المقربون وهذا القول لا ينافي قول من
قال
هم في الجنة فإن الجنة عند سدرة المنتهي والجنة عند الله وكأن
قائله رأي أن هذه العبارة أسلم وأوفق وقد أخبر الله سبحانه أن أرواح
الشهداء عنده وأخبر النبي أنها تسرح في اللجنة حيث شاءت
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار
بحضرموت ببرهوت فقال أبو محمد بن حزم هذا من قول الرافضة وليس كما قال بل
قد قاله جماعة من أهل السنة
وقال أبو عبد الله بن منده وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح
المؤمنين بالجابية ثم قال أخبرنا محمد بن محمد بن يونس حدثنا احمد بن عاصم
حدثنا أبو داود سليمان ابن داود حدثنا همام حدثني قتادة حدثني رجل عن سعيد
بن المسيب عن عبد الله بن عمرو وأنه قال إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية
وان أرواح الكفار تجتمع في سبخة بحضرموت يقال لها برهوت
ثم ساق من طريق حماد بن سلمة عن عبد الجليل بن عطية عن شهر بن حوشب أن
كعبا رأى عبد الله بن عمرو وقد تكلب الناس عليه يسألونه فقال لرجل سله أين
أرواح المؤمنين وأرواح الكفار فسأله فقال أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح
الكفار ببرهوت
قال ابن منده ورواه أبو داود وغيره عن عبد الجليل ثم ساق من حديث سفيان عن
فرات القزاز عن أبى الطفيل عن على قال خير بئر في الأرض زمزم وشر بئر في
الأرض برهوت في حضرموت وخير واد في الأرض وادي مكة والوادي الذي أهبط فيه
آدم بالهند منه طيبكم وشر واد في الأرض الأحقاف وهو في حضرموت ترده أرواح
الكفار
قال ابن منده وروى حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن
عباس عن على أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له برهوت فيه أرواح
الكفار وفيه بئر ماؤها بالنهار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام
ثم ساق من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا على بن عبد الله حدثنا
سفيان حدثنا إبان بن تغلب قال قال رجل بت فيه يعنى وادي برهوت فكأنما حشرت
فيه أصوات الناس وهم يقولون يا دومه يا دومه قال إبان فحدثنا رجل من أهل
الكتاب أن دومة هو الملك الذي على أرواح الكفار
وقال سفيان وسألنا الحضرميين فقالوا لا يستطيع أحد أن يبيت فيه
بالليل
فهذا جملة ما علمته في هذا القول فإن أراد عبد الله بن عمرو بالجابية
التمثيل والتشبيه وأنها تجمع في مكان فسيح يشبه الجابيه لسعته وطيب هوائه
فهذا قريب وإن أراد نفس الجابية دون سائر الأرض فهذا لا يعلم إلا بالتوقيت
ولعله مما تلقاه عن بعض أهل الكتاب
فصل وأما قول من قال إنها تجتمع في الأرض التي قال الله فيها
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون فهذا إن
كان قاله تفسير الآية فليس هو تفسيرا لها
وقد اختلف الناس في الأرض المذكورة هنا فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس هي
أرض الجنة وهذا قول أكثر المفسرين وعن ابن عباس قول آخر أنها الدنيا التي
فتحها الله على أمة محمد وهذا القول هو الصحيح ونظيره قوله تعالى في سروة
النور وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما
استخلف الذين من قبلهم وفي الصحيح عن النبي قال زويت لي الأرض مشارقها
ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها
وقالت طائفة من المفسرين المراد بذلك أرض بيت المقدس
وهي من الأرض التي أورثها الله عباده الصالحين وليست الآية مختصة بها
السابعة
وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة فهذا قول قد قاله جماعة من السلف
والخلف ويدل عليه قول النبي اللهم الرفيق الأعلى وقد تقدم حديث أبى هريرة
أن الميت إذا خرجت روحه عر ج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء
السابعة التي فيها الله عز و جل وتقدم قول أبى موسى أنها تصعد حتى تنتهي
إلى العرش وقول حذيفة أنها موقوفة عند الرحمن وقول عبد الله بن عمر إن هذه
الأرواح عند الله وتقدم قول النبي أن أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل تحت
العرش وتقدم حديث البراء بن عازب أنها تصعد من سماء إلى سماء ويشيعها من
كل سماء مقربوها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة وفي لفظ إلى السماء
التي فيها الله عز و جل
ولكن هذا لا يدل على استقرارها هناك بل يصعد بها إلى هناك للعرض على ربها
فيقضى فيها أمره ويكتب كتابه من أهل عليين أو من أهل سجين ثم تعود إلى
القبر للمسألة ثم ترجع إلى مقرها التي أودعت فيه فأرواح المؤمنين في عليين
بحسب منازلهم وأرواح الكفار في سجين بحسب منازلهم
على هذا القول من كتاب ولا سنة يجب التسليم لها ولا قول صاحب يوثق به وليس
بصحيح فإن تلك البئر لا تسع أرواح المؤمنين جميعهم وهو مخالف لما ثبت به
السنة الصريحة من أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة
وبالجملة فهذا من أبطل الأقوال وأفسدها وهو أفسد من قول من قال أنها
بالجابية فإن ذلك مكان متسع فضاء بخلاف البئر الضيقة
حيث شاءت فهذا مروى عن سلمان الفارسي والبرزخ هو الحاجز بين شيئين وكأن
سلمان أراد بها في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت وهذا
قول قوى فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة بل هي في برزخ بينهما
فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح والريحان والنعيم وأرواح الكفار
في برزخ ضيق فيه الغم والعذاب قال تعالى ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون
فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة وأصله الحاجز بين الشيئين
الكفار
عن يساره فلعمر والله لقد قال قولا يؤيده الحديث الصحيح وهو حديث الإسراء
فان النبي رآهم كذلك ولكن لا يدل على تعادلهم في اليمين والشمال بل يكون
هؤلاء عن يمينه في العلو والسعة وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن
وقد قال أبو محمد بن حزم ان ذلك البرزخ الذي رآه فيه رسول الله ليلة أسرى
به عند سماء الدنيا قال وذلك عند منقطع العناصر قال وهذا يدل على أنها
عنده تحت السماء حيث تنقطع العناصر وهي الماء والتراب والنار والهواء
وهو دائما يشنع على من قال قولا لا دليل عليه فأي دليل له على هذا القول
من كتاب وسنة وسيأتي إشباع الكلام على قوله إذا انتهينا إليه إن شاء الله
تعالى
فإن قيل فإذا كانت أرواح أهل السعاده عن يمين آدم وآدم في السماء الدنيا
وقد ثبت أن
أرواح الشهداء في ظل العرش والعرش فوق السماء السابعة فكيف تكون
عن يمينه وكيف يراها النبي هناك في السماء الدنيا فالجواب من وجوه
أحدها أنه لا يمتنع كونها عن يمينه في جهة العلو كما كانت أرواح الأشقياء
عن يساره في جهة السفل
الثاني أنه غير ممتنع أن تعرض على النبي في سماء الدنيا وإن كان مستقرها
فوق ذلك
الثالث أنه لم يخبر أنه رأى أرواح السعداء جميعا هناك بل قال فإذا عن
يمينه أسودة وعن يساره أسودة ومعلوم قطعا أن روح إبراهيم وموسى فوق ذلك في
السماء السادسة والسابعة وكذلك الرفيق الأعلى أرواحهم فوق ذلك وأرواح
السعداء بعضها أعلى من بعض بحسب منازلهم كما أن أرواح الأشياء بعضها أسفل
من بعض بحسب منازلهم والله أعلم
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل وأما قول أبى محمد بن حزم أن مستقرها حيث كانت قبل خلق
أجسادها فهذا بناء منه على مذهبه الذي اختاره وهو أن الأرواح مخلوقة قبل
الأجساد وهذا فيه قولان للناس وجمهورهم على أن الأرواح خلقت بعد الأجساد
والذين قالوا أنها خلقت قبل الأجساد ليس معهم على ذلك دليل من كتاب ولا
سنة ولا إجماع إلا ما فهموه من نصوص لا تدل على ذلك أو أحاديث لا تصح كما
احتج به أبو محمد بن حزم من قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم
ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا الآية وبقوله تعالى
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا قال فصح أن
الله خلق الأرواح جملة وهي الأنفس وكذلك أخبر عليه السلام أن الأرواح جنود
مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف قال وأخذ عز و جل عهدها
وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل
أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وقال لأن الله تعالى خلق ذلك
بلفظة ثم التى توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها سبحانه وتعالى حيث شاء وهو
البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت
وسنذكر ما في هذا الاستدلال عند جواب سؤال السائل عن الأرواح هي مخلوقة مع
الأبدان أم قبلها إذ الغرض هنا الكلام على مستقر الأرواح بعد الموت وقوله
أنها تستقر في البرزخ الذي كانت فيه قبل خلق الأجساد مبنى على هذا
الاعتقاد الذي اعتقده
وقوله أن أرواح السعداء عن يمين آدم وأرواح الكفار الأشقياء عن
يساره حق كما أخبر به النبي وقوله إن ذلك عند منقطع العناصر لا دليل عليه
من كتاب ولا سنة ولا يشبه أقوال أهل الإسلام والأحاديث الصحيحة تدل على أن
الأرواح فوق العناصر في الجنة عند الله وأدلة القرآن تدل على ذلك وقد وافق
أبو محمد على أن أرواح الشهداء في الجنة ومعلوم أن الصديقين أفضل منهم
فكيف تكون روح أبى بكر الصديق وعبد الله بن مسعود وأبى الدرداء وحذيفة بن
اليمان وأشباههم رضى الله عنهم عند منقطع العناصر وذلك تحت هذا الفلك
الأدنى وتحت السماء الدنيا وتكون أرواح شهداء زماننا وغيرهم فوق العناصر
وفوق السموات
وأما قوله قد ذكر محمد بن نصر المروزى عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا
الذي قلنا بعينه قال وعلى هذا جميع أهل العلم وهو قول جميع أهل الإسلام
قلت محمد بن نصر المروزى ذكر في كتاب الرد على ابن قتيبة في تفسير قوله
تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست
بربكم الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صلبه ثم أخذ
الميثاق عليهم وردهم في صلبه وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه سبحانه قسمهم إذ
ذاك إلى شقي وسعيد وكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وما يصيبهم من خير وشر
ثم قال قال إسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا
كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل هذا نص كلامه وهو
كما ترى لا يدل على أن مستقر الأرواح ما ذكر أبو محمد حيث تنقطع العناصر
بوجه من الوجوه بل ولا يدل على أن الأرواح كائنة قبل خلق الأجساد بل إنما
يدل على أنه سبحانه أخرجها حينئذ فخاطبها ثم ردها إلى صلب آدم وهذا القول
وإن كان قد قاله جماعة من السلف والخلف فالقول الصحيح غيره كما ستقف عليه
إن شاء الله إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلام في الأرواح هل هي
مخلوقة قبل الأجساد أم لا حتى لو سلم لأبى محمد هذا كله لم يكن فيه دليل
على أن مستقرها حيث تنقطع العناصر ولا أن ذلك الموضع كان مستقرها أولا
فصل وأما قول من قال مستقرها العدم المحض فهذا قول من قال إنها
عرض من أعراض البدن وهو الحياة وهذا قول ابن الباقلانى ومن تبعه وكذلك قال
أبو الهذيل العلاف النفس عرض من الأعراض ولم يعينه بأنه الحياة كما عينه
ابن الباقلانى ثم قال هي عرض كسائر أعراض الجسم
وهؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عدمت روحه كما تقدم وسائر أعراضه
المشروطة بالحياة ومن يقول منهم أن العرض لا يبقى زمانين كما يقوله أكثر
الأشعرية فمن قولهم إن روح الإنسان الآن هي غير روحه قبل وهو لا ينفك يحدث
له روح ثم تغير ثم روح ثم تغير هكذا أبدا فيبدل له ألف روح فأكثر في مقدار
ساعة من الزمان فما دونها فإذا مات فلا روح تصعد إلى السماء وتعود إلى
القبر وتقبضها الملائكة ويستفتحون لها أبواب السموات ولا تنعم ولا تعذب
وإنما ينعم ويعذب الجسد إذا شاء الله تنعيمه أو تعذيبه رد إليه الحياة في
وقت يريد نعيمه أو عذابه وإلا فلا أرواح هناك قائمة بنفسها البتة
وقال بعض أرباب هذا القول ترد الحياة إلى عجب الذنب فهو الذي يعذب وينعم
وحسب
وهذا قول يرده الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقول والفطن والفطرة
وهو قول من لم يعرف روحه فضلا عن روح غيره وقد خاطب الله سبحانه النفس
بالرجوع والدخول والخروج ودلت النصوص الصحيحة للصريحة على أنها تصعد وتنزل
وتقبض وتمسك وترسل وتستفتح لها أبواب السماء وتسجد وتتكلم وأنها تخرج تسيل
كما تسيل القطرة وتكفن وتحنط في أكفان الجنة والنار وأن ملك الموت يأخذها
بيده ثم تتناولها الملائكة من يده ويشم لها كأطيب نفحة مسك أو أنتن جيفة
وتشيع من سماء إلى سماء ثم تعاد إلى الأرض مع الملائكة وأنها إذا خرجت
تبعها البصر بحيث يراها وهي خارجة ودل القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى
مكان حتى تبلغ الحلقوم في حركتها وجميع ما ذكرنا من جمع الأدلة الدالة على
تلاقى الأرواح وتعارفها وأنها أجناد مجندة إلى غير ذلك تبطل هذا القول وقد
شاهد النبي الأرواح ليلة الإسراء عن يمين آدم وشماله وأخبر النبي إن نسمة
المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر وأخبر
تعالى عن أرواح آل فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا
ولما أورد ذلك على ابن الباقلانى لج في الجواب وقال يخرج على هذا أحد
وجهين إما بأن يوضع عرض من الحياة في أول جزء من أجزاء الجسم وإما أن يخلق
لتلك الحياة والنعيم والعذاب جسد آخر
وهذا قول في غاية الفساد من وجوه كثيرة أي قول أفسد من قول من يجعل روح
الإنسان عرضا من الأعراض تتبدل كل ساعة الوفا من المرات فإذا فارقه هذا
العرض لم يكن بعد المفارقة روح تنعم ولا تعذب ولا تصعد ولا تنزل ولا تمسك
ولا ترسل فهذا قول
مخالف للعقل ونصوص الكتاب والسنة والفطرة وهو قول من لم يعرف
نفسه وسيأتي ذكر الوجوه الدالة على بطلان هذا القول في موضعه من هذا
الجواب إن شاء الله وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة
والتابعين ولا أئمة الإسلام
فصل وأما قول من قال إن مستقرها بعد الموت أبدان أخر غير هذه
الأبدان فهذا القول فيه حق وباطل
فأما الحق فما أخبر الصادق المصدوق عن أرواح الشهداء أنها في حواصل طير
خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش هي لها كالأوكار للطائر وقد صرح بذلك في
قوله جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر
وأما قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة يحتمل أن يكون هذا الطائر
مركبا للروح كالبدن لها ويكون ذلك لبعض المؤمنين والشهداء ويحتمل أن يكون
الروح في صورة طائر وهذا اختيار أبى محمد بن حزم وأبى عمر بن عبد البر وقد
تقدم كلام أبى عمر والكلام عليه وأما ابن حزم فانه قال معنى قوله نسمة
المؤمن طائر يعلق هو على ظاهرة لا على ظن أهل الجهل وإنما أخبر أن نسمة
المؤمن طائر يعلق بمعنى أنها تطير في الجنة لا أنها تمسخ فى صورة الطير
قال فإن قيل إن النسمة مؤنثة قلنا قد صح عن عربي فصيح أنه قال أتتك كتابي
فاستخففت بها فقيل له أتؤنث الكتاب قال أوليس صحيفة وكذلك النسمة تذكر
كذلك قال وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك
القناديل التي تأوي إليها والحديثان معا حديث واحد وهذا الذي قاله في غاية
الفساد لفظا ومعنى فإن حديث نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة غير حديث
أرواح الشهداء في حواصل طير خضر والذي ذكره محتمل في الحديث الأول وأما
الحديث الثاني فلا يحتمله بوجه فإنه أخبر أن أرواحهم في حواصل طير وفي لفظ
في أجواف طير خضر وفي لفظ بيض وان تلك الطير تسرح في الجنة فتأكل من
ثمارها وتشرب من أنهارها ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش هي لها كالأوكار
للطائر وقوله ان حواصل تلك الطير هي صفة القناديل التي تأوي إليها خطأ
قطعا بل تلك القناديل مأوى لتلك الطير فهاهنا ثلاثة أمور صرح بها الحديث
أرواح وطير هي في أجوافها وقناديل هي مأوى لتلك الطير والقناديل مستقرة
تحت العرش لا تسرح والطير تسرح وتذهب وتجيء والأرواح في أجوافها
فإن قيل يحتمل أن تجعل نفسها في صورة طير لا أنها تركب في بدن
طير كما قال تعالى في أي صورة ما شاء ركبك ويدل عليه قوله في اللفظ الآخر
أرواحهم كطير خضر كذلك رواه ابن أبى شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن
عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله
قال أبو عمر والذي يشبه عندي والله أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو
صورة طير لمطابقته لحديثنا المذكور يعنى حديث كعب بن مالك في نسمة المؤمن
فالجواب أن هذا الحديث قد روى بهذين اللفظين والذي رواه مسلم في الصحيح من
حديث الأعمش عن مسروق فلم يختلف حديثهما أنها في أجواف طير خضر
وأما حديث ابن عباس فقال عثمان بن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن
محمد ابن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال
رسول الله لما أصيب إخوانكم يعنى يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير
خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل
العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا
أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد فقال
الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في
سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون
وأما حديث كعب بن مالك فهو في السنن الأربعة ومسند أحمد ولفظه للترمذي أن
رسول الله قال إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر
الجنة قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح ولا محذور في هذا ولا يبطل قاعدة من
قواعد الشرع ولا يخالف نصا من كتاب ولا سنة عن رسول الله بل هذا من تمام
إكرام الله للشهداء أن أعاضهم من أبدانهم التي مزقوها لله أبدانا خيرا
منها تكون مركبا لأرواحهم ليحصل بها كمال تنعمهم فإذا كان يوم القيامة رد
أرواحهم إلى تلك الأبدان التي كانت فيها في الدنيا
فان قيل فهذا هو القول بالتناسخ وحلول الأرواح في أبدان غير
أبدانها التي كانت فيها
قيل هذا المعنى الذي دلت عليه السنة الصريحة حق يجب اعتقاده ولا يبطله
تسميه المسمى له تناسخا كما أن إثبات ما دل عليه العقل والنقل من صفات
الله عز و جل وحقائق أسمائه الحسنى حق لا يبطله تسمية المعطلين لها تركيبا
وتجسيما وكذلك ما دل عليه العقل والنقل من إثبات أفعاله وكلامه بمشيئته
ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة للفصل بين عباده حق لا
يبطله تسمية المعطلين له حلول حوادث كما أن ما دل عليه العقل والنقل من
علو الله على خلقه ومباينته لهم واستوائه على عرشه وعروج الملائكة والروح
إليه ونزولها من عنده وصعود الكلم الطيب إليه وعروج رسوله إليه ودنوه منه
حتى صار قاب قوسين أو أدنى وغير ذلك من الأدلة حق لا يبطله تسمية الجهمية
له حيزا وجهة وتجسيما
قال الإمام أحمد لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين فان
هذا شأن أهل البدع يلقبون أهل السنة وأقوالها بالألقاب التي ينفرون منه
الجهال ويسمونها حشوا وتركيبا وتجسيما ويسمون عرش الرب تبارك وتعالى حيزا
وجهة ليتوصلوا بذلك إلى نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه كما تسمى
الرافضة موالاة أصحاب رسول الله كلهم ومحبتهم والدعاء لهم نصا وكما تسمى
القدرية المجوسية إثبات القدر جبرا فليس الشأن في الألقاب وإنما الشأن في
الحقائق والمقصود أن تسمية ما دلت عليه الصريحة من جعل أرواح الشهداء في
أجواف طير خضر تناسخا لا يبطل هذا المعنى وإنما التناسخ الباطل ما تقوله
أعداء الرسل من الملاحدة وغيرهم الذين ينكرون المعاد أن الأرواح تصير بعد
مفارقة الأبدان إلى أجناس الحيوان والحشرات والطيور التي تناسبها وتشاكلها
فإذا فارقت هذه الأبدان انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات فتنعم فيها أو
تعذب ثم تفارقها وتحل في أبدان أخر تناسب أعمالها وأخلاقها وهكذا أبدا
فهذا معادها عندهم ونعيمها وعذابها لا معاد لها عندهم غير ذلك فهذا هو
التناسخ الباطل المخالف لما اتفقت عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى
آخرهم وهو كفر بالله واليوم الآخر وهذه الطائفة يقولون أن مستقر الأرواح
بعد المفارقة أبدان الحيوانات التي تناسبها وهو ابطل قول وأخبثه ويليه قول
من قال إن الأرواح تعدم جملة بالموت ولا تبقى هناك روح تنعم ولا تعذب بل
النعيم والعذاب يقع على أجزاء الجسد أو جزء منه أما عجب أو غيره فيخلق
الله فيه الألم واللذة أما بواسطة رد الحياة
إليه كما قاله بعض أرباب هذا القول أو بدون رد الحياة كما قاله
آخرون منهم فهؤلاء عندهم لا عذاب في البرزخ إلا على الأجساد ومقابلهم من
يقول أن الروح لا تعاد إلى الجسد بوجه ولا تتصل به والعذاب والنعيم على
الروح فقط والسنة الصريحة المتواترة ترد قول هؤلاء وهؤلاء وتبين أن العذاب
على الروح والجسد مجتمعين ومنفردين
فإن قيل فقد ذكرتم أقوال الناس في مستقر الأرواح ومأخذهم فما هو الراجح من
هذه الأقوال حتى نعتقده
قيل الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها أرواح في أعلى
عليين في الملا الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهم
متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي ليلة الإسراء
ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وهي أرواح بعض
الشهداء لا جميعهم بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو
غيره كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي
فقال يا رسول الله مالي إن قتلت في سبيل الله قال الجنة فلما ولى قال إلا
الذين ! سارني به جبريل آنفا
ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة كما في الحديث الآخر رأيت صاحبكم
محبوسا على باب الجنة
ومنهم من يكون محبوسا في قبره كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد فقال
الناس هنيئا له الجنة فقال النبي والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها
لتشتعل عليه نارا في قبره
ومنهم من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس الشهداء على بارق نهر
بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية رواه أحمد
وهذا بخلاف جعفر بن أبى طالب حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في
الجنة حيث شاء
ومنهم من يكون محبوسا في الأرض لم لعل روحه إلى الملأ الأعلى فإنها كانت
روحا سفلية أرضية فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما لا
تجامعها في الدنيا والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته
وذكره والأنس به والتقرب إليه بل هي أرضية سفلية لا تكون بعد المفارقة
لبدنها إلا هناك كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة
على محبة الله وذكره والقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة
مع الأرواح العلوية المناسبة لها فالمرء مع من احب في البرزخ ويوم القيامة
والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما تقدم في
الحديث ويجعل روحه يعنى المؤمن مع النسم الطيب أي الأرواح الطيبة المشاكلة
فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزاني وأرواح في نهر الدم تسبح فيه
وتلقم الحجارة فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد بل روح في أعلى
عليين وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض
وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك بها فضل اعتناء عرفت
حجة ذلك ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا فإنها كلها حق
يصدق بعضها بعضا لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها وان لها شانا
غير شأن البدن وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتتصل بفناء القبر
وبالبدن فيه وهي أسرع شيء حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا وأنها تنقسم إلى
مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم والم
أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير فهنالك الحبس والألم والعذاب
والمرض والحسرة وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق وما أشبه حالها في
هذا البدن بحال ولد في بطن أمه وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من
البطن إلى هذه الدار
فلهذه الأنفس أربع دور كل دار أعظم من التي قبلها
الدار الأولى في بطن الأم وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث
والدار الثانية هي الدار التي نشأت فيها والفتها واكتسبت فيها الخبر والشر
وأسباب السعادة والشقاوة
والدار الثالثة دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم بل نسبتها إليه
كنسبة هذه الدار إلى الأولى
والدار الرابعة دار القرار وهي الجنة أو النار فلا دار بعدها والله ينقلها
في هذه الدور طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها ولا
يليق بها سواها وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل لها إليها ولها في
كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى فتبارك الله فاطرها
ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها الذي فاوت بينها في درجات
سعادتها وشقاوتها كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها
وأخلاقها فمن
عرفها كما ينبغي شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله وله القوة
كلها والقدرة كلها والعز كله والحكمة كلها والكمال المطلق من جميع الوجوه
وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله وأن الذي جاءوا به هو الحق الذي تشهد
به العقول وتقر به الفطر وما خالفه هو الباطل وبالله التوفيق
أجسادها فهذا بناء منه على مذهبه الذي اختاره وهو أن الأرواح مخلوقة قبل
الأجساد وهذا فيه قولان للناس وجمهورهم على أن الأرواح خلقت بعد الأجساد
والذين قالوا أنها خلقت قبل الأجساد ليس معهم على ذلك دليل من كتاب ولا
سنة ولا إجماع إلا ما فهموه من نصوص لا تدل على ذلك أو أحاديث لا تصح كما
احتج به أبو محمد بن حزم من قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم
ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا الآية وبقوله تعالى
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا قال فصح أن
الله خلق الأرواح جملة وهي الأنفس وكذلك أخبر عليه السلام أن الأرواح جنود
مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف قال وأخذ عز و جل عهدها
وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل
أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وقال لأن الله تعالى خلق ذلك
بلفظة ثم التى توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها سبحانه وتعالى حيث شاء وهو
البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت
وسنذكر ما في هذا الاستدلال عند جواب سؤال السائل عن الأرواح هي مخلوقة مع
الأبدان أم قبلها إذ الغرض هنا الكلام على مستقر الأرواح بعد الموت وقوله
أنها تستقر في البرزخ الذي كانت فيه قبل خلق الأجساد مبنى على هذا
الاعتقاد الذي اعتقده
وقوله أن أرواح السعداء عن يمين آدم وأرواح الكفار الأشقياء عن
يساره حق كما أخبر به النبي وقوله إن ذلك عند منقطع العناصر لا دليل عليه
من كتاب ولا سنة ولا يشبه أقوال أهل الإسلام والأحاديث الصحيحة تدل على أن
الأرواح فوق العناصر في الجنة عند الله وأدلة القرآن تدل على ذلك وقد وافق
أبو محمد على أن أرواح الشهداء في الجنة ومعلوم أن الصديقين أفضل منهم
فكيف تكون روح أبى بكر الصديق وعبد الله بن مسعود وأبى الدرداء وحذيفة بن
اليمان وأشباههم رضى الله عنهم عند منقطع العناصر وذلك تحت هذا الفلك
الأدنى وتحت السماء الدنيا وتكون أرواح شهداء زماننا وغيرهم فوق العناصر
وفوق السموات
وأما قوله قد ذكر محمد بن نصر المروزى عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا
الذي قلنا بعينه قال وعلى هذا جميع أهل العلم وهو قول جميع أهل الإسلام
قلت محمد بن نصر المروزى ذكر في كتاب الرد على ابن قتيبة في تفسير قوله
تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست
بربكم الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صلبه ثم أخذ
الميثاق عليهم وردهم في صلبه وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه سبحانه قسمهم إذ
ذاك إلى شقي وسعيد وكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وما يصيبهم من خير وشر
ثم قال قال إسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا
كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل هذا نص كلامه وهو
كما ترى لا يدل على أن مستقر الأرواح ما ذكر أبو محمد حيث تنقطع العناصر
بوجه من الوجوه بل ولا يدل على أن الأرواح كائنة قبل خلق الأجساد بل إنما
يدل على أنه سبحانه أخرجها حينئذ فخاطبها ثم ردها إلى صلب آدم وهذا القول
وإن كان قد قاله جماعة من السلف والخلف فالقول الصحيح غيره كما ستقف عليه
إن شاء الله إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلام في الأرواح هل هي
مخلوقة قبل الأجساد أم لا حتى لو سلم لأبى محمد هذا كله لم يكن فيه دليل
على أن مستقرها حيث تنقطع العناصر ولا أن ذلك الموضع كان مستقرها أولا
فصل وأما قول من قال مستقرها العدم المحض فهذا قول من قال إنها
عرض من أعراض البدن وهو الحياة وهذا قول ابن الباقلانى ومن تبعه وكذلك قال
أبو الهذيل العلاف النفس عرض من الأعراض ولم يعينه بأنه الحياة كما عينه
ابن الباقلانى ثم قال هي عرض كسائر أعراض الجسم
وهؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عدمت روحه كما تقدم وسائر أعراضه
المشروطة بالحياة ومن يقول منهم أن العرض لا يبقى زمانين كما يقوله أكثر
الأشعرية فمن قولهم إن روح الإنسان الآن هي غير روحه قبل وهو لا ينفك يحدث
له روح ثم تغير ثم روح ثم تغير هكذا أبدا فيبدل له ألف روح فأكثر في مقدار
ساعة من الزمان فما دونها فإذا مات فلا روح تصعد إلى السماء وتعود إلى
القبر وتقبضها الملائكة ويستفتحون لها أبواب السموات ولا تنعم ولا تعذب
وإنما ينعم ويعذب الجسد إذا شاء الله تنعيمه أو تعذيبه رد إليه الحياة في
وقت يريد نعيمه أو عذابه وإلا فلا أرواح هناك قائمة بنفسها البتة
وقال بعض أرباب هذا القول ترد الحياة إلى عجب الذنب فهو الذي يعذب وينعم
وحسب
وهذا قول يرده الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقول والفطن والفطرة
وهو قول من لم يعرف روحه فضلا عن روح غيره وقد خاطب الله سبحانه النفس
بالرجوع والدخول والخروج ودلت النصوص الصحيحة للصريحة على أنها تصعد وتنزل
وتقبض وتمسك وترسل وتستفتح لها أبواب السماء وتسجد وتتكلم وأنها تخرج تسيل
كما تسيل القطرة وتكفن وتحنط في أكفان الجنة والنار وأن ملك الموت يأخذها
بيده ثم تتناولها الملائكة من يده ويشم لها كأطيب نفحة مسك أو أنتن جيفة
وتشيع من سماء إلى سماء ثم تعاد إلى الأرض مع الملائكة وأنها إذا خرجت
تبعها البصر بحيث يراها وهي خارجة ودل القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى
مكان حتى تبلغ الحلقوم في حركتها وجميع ما ذكرنا من جمع الأدلة الدالة على
تلاقى الأرواح وتعارفها وأنها أجناد مجندة إلى غير ذلك تبطل هذا القول وقد
شاهد النبي الأرواح ليلة الإسراء عن يمين آدم وشماله وأخبر النبي إن نسمة
المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر وأخبر
تعالى عن أرواح آل فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا
ولما أورد ذلك على ابن الباقلانى لج في الجواب وقال يخرج على هذا أحد
وجهين إما بأن يوضع عرض من الحياة في أول جزء من أجزاء الجسم وإما أن يخلق
لتلك الحياة والنعيم والعذاب جسد آخر
وهذا قول في غاية الفساد من وجوه كثيرة أي قول أفسد من قول من يجعل روح
الإنسان عرضا من الأعراض تتبدل كل ساعة الوفا من المرات فإذا فارقه هذا
العرض لم يكن بعد المفارقة روح تنعم ولا تعذب ولا تصعد ولا تنزل ولا تمسك
ولا ترسل فهذا قول
مخالف للعقل ونصوص الكتاب والسنة والفطرة وهو قول من لم يعرف
نفسه وسيأتي ذكر الوجوه الدالة على بطلان هذا القول في موضعه من هذا
الجواب إن شاء الله وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة
والتابعين ولا أئمة الإسلام
فصل وأما قول من قال إن مستقرها بعد الموت أبدان أخر غير هذه
الأبدان فهذا القول فيه حق وباطل
فأما الحق فما أخبر الصادق المصدوق عن أرواح الشهداء أنها في حواصل طير
خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش هي لها كالأوكار للطائر وقد صرح بذلك في
قوله جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر
وأما قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة يحتمل أن يكون هذا الطائر
مركبا للروح كالبدن لها ويكون ذلك لبعض المؤمنين والشهداء ويحتمل أن يكون
الروح في صورة طائر وهذا اختيار أبى محمد بن حزم وأبى عمر بن عبد البر وقد
تقدم كلام أبى عمر والكلام عليه وأما ابن حزم فانه قال معنى قوله نسمة
المؤمن طائر يعلق هو على ظاهرة لا على ظن أهل الجهل وإنما أخبر أن نسمة
المؤمن طائر يعلق بمعنى أنها تطير في الجنة لا أنها تمسخ فى صورة الطير
قال فإن قيل إن النسمة مؤنثة قلنا قد صح عن عربي فصيح أنه قال أتتك كتابي
فاستخففت بها فقيل له أتؤنث الكتاب قال أوليس صحيفة وكذلك النسمة تذكر
كذلك قال وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك
القناديل التي تأوي إليها والحديثان معا حديث واحد وهذا الذي قاله في غاية
الفساد لفظا ومعنى فإن حديث نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة غير حديث
أرواح الشهداء في حواصل طير خضر والذي ذكره محتمل في الحديث الأول وأما
الحديث الثاني فلا يحتمله بوجه فإنه أخبر أن أرواحهم في حواصل طير وفي لفظ
في أجواف طير خضر وفي لفظ بيض وان تلك الطير تسرح في الجنة فتأكل من
ثمارها وتشرب من أنهارها ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش هي لها كالأوكار
للطائر وقوله ان حواصل تلك الطير هي صفة القناديل التي تأوي إليها خطأ
قطعا بل تلك القناديل مأوى لتلك الطير فهاهنا ثلاثة أمور صرح بها الحديث
أرواح وطير هي في أجوافها وقناديل هي مأوى لتلك الطير والقناديل مستقرة
تحت العرش لا تسرح والطير تسرح وتذهب وتجيء والأرواح في أجوافها
فإن قيل يحتمل أن تجعل نفسها في صورة طير لا أنها تركب في بدن
طير كما قال تعالى في أي صورة ما شاء ركبك ويدل عليه قوله في اللفظ الآخر
أرواحهم كطير خضر كذلك رواه ابن أبى شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن
عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله
قال أبو عمر والذي يشبه عندي والله أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو
صورة طير لمطابقته لحديثنا المذكور يعنى حديث كعب بن مالك في نسمة المؤمن
فالجواب أن هذا الحديث قد روى بهذين اللفظين والذي رواه مسلم في الصحيح من
حديث الأعمش عن مسروق فلم يختلف حديثهما أنها في أجواف طير خضر
وأما حديث ابن عباس فقال عثمان بن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن
محمد ابن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال
رسول الله لما أصيب إخوانكم يعنى يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير
خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل
العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا
أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد فقال
الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في
سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون
وأما حديث كعب بن مالك فهو في السنن الأربعة ومسند أحمد ولفظه للترمذي أن
رسول الله قال إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر
الجنة قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح ولا محذور في هذا ولا يبطل قاعدة من
قواعد الشرع ولا يخالف نصا من كتاب ولا سنة عن رسول الله بل هذا من تمام
إكرام الله للشهداء أن أعاضهم من أبدانهم التي مزقوها لله أبدانا خيرا
منها تكون مركبا لأرواحهم ليحصل بها كمال تنعمهم فإذا كان يوم القيامة رد
أرواحهم إلى تلك الأبدان التي كانت فيها في الدنيا
فان قيل فهذا هو القول بالتناسخ وحلول الأرواح في أبدان غير
أبدانها التي كانت فيها
قيل هذا المعنى الذي دلت عليه السنة الصريحة حق يجب اعتقاده ولا يبطله
تسميه المسمى له تناسخا كما أن إثبات ما دل عليه العقل والنقل من صفات
الله عز و جل وحقائق أسمائه الحسنى حق لا يبطله تسمية المعطلين لها تركيبا
وتجسيما وكذلك ما دل عليه العقل والنقل من إثبات أفعاله وكلامه بمشيئته
ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة للفصل بين عباده حق لا
يبطله تسمية المعطلين له حلول حوادث كما أن ما دل عليه العقل والنقل من
علو الله على خلقه ومباينته لهم واستوائه على عرشه وعروج الملائكة والروح
إليه ونزولها من عنده وصعود الكلم الطيب إليه وعروج رسوله إليه ودنوه منه
حتى صار قاب قوسين أو أدنى وغير ذلك من الأدلة حق لا يبطله تسمية الجهمية
له حيزا وجهة وتجسيما
قال الإمام أحمد لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين فان
هذا شأن أهل البدع يلقبون أهل السنة وأقوالها بالألقاب التي ينفرون منه
الجهال ويسمونها حشوا وتركيبا وتجسيما ويسمون عرش الرب تبارك وتعالى حيزا
وجهة ليتوصلوا بذلك إلى نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه كما تسمى
الرافضة موالاة أصحاب رسول الله كلهم ومحبتهم والدعاء لهم نصا وكما تسمى
القدرية المجوسية إثبات القدر جبرا فليس الشأن في الألقاب وإنما الشأن في
الحقائق والمقصود أن تسمية ما دلت عليه الصريحة من جعل أرواح الشهداء في
أجواف طير خضر تناسخا لا يبطل هذا المعنى وإنما التناسخ الباطل ما تقوله
أعداء الرسل من الملاحدة وغيرهم الذين ينكرون المعاد أن الأرواح تصير بعد
مفارقة الأبدان إلى أجناس الحيوان والحشرات والطيور التي تناسبها وتشاكلها
فإذا فارقت هذه الأبدان انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات فتنعم فيها أو
تعذب ثم تفارقها وتحل في أبدان أخر تناسب أعمالها وأخلاقها وهكذا أبدا
فهذا معادها عندهم ونعيمها وعذابها لا معاد لها عندهم غير ذلك فهذا هو
التناسخ الباطل المخالف لما اتفقت عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى
آخرهم وهو كفر بالله واليوم الآخر وهذه الطائفة يقولون أن مستقر الأرواح
بعد المفارقة أبدان الحيوانات التي تناسبها وهو ابطل قول وأخبثه ويليه قول
من قال إن الأرواح تعدم جملة بالموت ولا تبقى هناك روح تنعم ولا تعذب بل
النعيم والعذاب يقع على أجزاء الجسد أو جزء منه أما عجب أو غيره فيخلق
الله فيه الألم واللذة أما بواسطة رد الحياة
إليه كما قاله بعض أرباب هذا القول أو بدون رد الحياة كما قاله
آخرون منهم فهؤلاء عندهم لا عذاب في البرزخ إلا على الأجساد ومقابلهم من
يقول أن الروح لا تعاد إلى الجسد بوجه ولا تتصل به والعذاب والنعيم على
الروح فقط والسنة الصريحة المتواترة ترد قول هؤلاء وهؤلاء وتبين أن العذاب
على الروح والجسد مجتمعين ومنفردين
فإن قيل فقد ذكرتم أقوال الناس في مستقر الأرواح ومأخذهم فما هو الراجح من
هذه الأقوال حتى نعتقده
قيل الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها أرواح في أعلى
عليين في الملا الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهم
متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي ليلة الإسراء
ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وهي أرواح بعض
الشهداء لا جميعهم بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو
غيره كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي
فقال يا رسول الله مالي إن قتلت في سبيل الله قال الجنة فلما ولى قال إلا
الذين ! سارني به جبريل آنفا
ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة كما في الحديث الآخر رأيت صاحبكم
محبوسا على باب الجنة
ومنهم من يكون محبوسا في قبره كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد فقال
الناس هنيئا له الجنة فقال النبي والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها
لتشتعل عليه نارا في قبره
ومنهم من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس الشهداء على بارق نهر
بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية رواه أحمد
وهذا بخلاف جعفر بن أبى طالب حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في
الجنة حيث شاء
ومنهم من يكون محبوسا في الأرض لم لعل روحه إلى الملأ الأعلى فإنها كانت
روحا سفلية أرضية فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما لا
تجامعها في الدنيا والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته
وذكره والأنس به والتقرب إليه بل هي أرضية سفلية لا تكون بعد المفارقة
لبدنها إلا هناك كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة
على محبة الله وذكره والقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة
مع الأرواح العلوية المناسبة لها فالمرء مع من احب في البرزخ ويوم القيامة
والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما تقدم في
الحديث ويجعل روحه يعنى المؤمن مع النسم الطيب أي الأرواح الطيبة المشاكلة
فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزاني وأرواح في نهر الدم تسبح فيه
وتلقم الحجارة فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد بل روح في أعلى
عليين وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض
وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك بها فضل اعتناء عرفت
حجة ذلك ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا فإنها كلها حق
يصدق بعضها بعضا لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها وان لها شانا
غير شأن البدن وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتتصل بفناء القبر
وبالبدن فيه وهي أسرع شيء حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا وأنها تنقسم إلى
مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم والم
أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير فهنالك الحبس والألم والعذاب
والمرض والحسرة وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق وما أشبه حالها في
هذا البدن بحال ولد في بطن أمه وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من
البطن إلى هذه الدار
فلهذه الأنفس أربع دور كل دار أعظم من التي قبلها
الدار الأولى في بطن الأم وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث
والدار الثانية هي الدار التي نشأت فيها والفتها واكتسبت فيها الخبر والشر
وأسباب السعادة والشقاوة
والدار الثالثة دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم بل نسبتها إليه
كنسبة هذه الدار إلى الأولى
والدار الرابعة دار القرار وهي الجنة أو النار فلا دار بعدها والله ينقلها
في هذه الدور طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها ولا
يليق بها سواها وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل لها إليها ولها في
كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى فتبارك الله فاطرها
ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها الذي فاوت بينها في درجات
سعادتها وشقاوتها كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها
وأخلاقها فمن
عرفها كما ينبغي شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله وله القوة
كلها والقدرة كلها والعز كله والحكمة كلها والكمال المطلق من جميع الوجوه
وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله وأن الذي جاءوا به هو الحق الذي تشهد
به العقول وتقر به الفطر وما خالفه هو الباطل وبالله التوفيق
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المسألة السادسة عشرة
وهي هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعى الأحياء أم لا
فالجواب أنها تنتفع من سعى الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة من
الفقهاء وأهل الحديث والتفسير
أحدهما ما تسبب إليه الميت في حياته
والثاني دعاء المسلمين له واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع ما الذي
يصل من ثوابه هل ثواب الإنفاق أو ثواب العمل فعند الجمهور يصل ثواب العمل
نفسه وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق
واختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر فمذهب
الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفة نص على هذا
الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال قال قيل لأبى عبد الله الرجل
يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه
قال أرجو أو قال الميت يصل إليه كل شيء من صدقة أو غيرها وقال أيضا اقرأ
آية الكرسي ثلاث مرات وقل هو الله أحد وقل اللهم إن فضله لأهل المقابر
والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل
وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شيء البتة لادعاء
ولا غيره
فالدليل على انتفاعه بما تسبب إليه في حياته ما رواه مسلم في صحيه من حديث
أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله
إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فاستثناء هذه
الثلاث من عمله يدل على أنها منه فانه هو الذي تسبب إليها
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله
إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره أو
ولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو
نهرا إكراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث جرير بن عبد الله قال قال رسول الله من سن في
الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من
أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من
بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وهذا المعنى روى عن النبي من عدة وجوه
صحاح وحسان
وفي المسند عن حذيفة قال سأل رجل على عهد رسول الله فامسك القوم ثم أن
رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي من سن خيرا فاستن به كان له أجره ومن
أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره
ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا
وقد دل على هذا قوله لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من
دمها لأنه أول من سن القتل فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل
والثواب أولى وأحرى
فصل والدليل على انتفاعه بغير ما تسبب فيه القرآن والسنة
والإجماع
وقواعد الشرع
أما القرآن فقوله تعالى والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فأثنى الله سبحانه عليهم باستغفارهم
للمؤمنين قبلهم فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء
وقد يمكن أن يقال إنما انتفعوا باستغفارهم لأنهم سنوا لهم الإيمان بسبقهم
إليه فلما اتبعوهم فيه كانوا كالمستنين في حصوله لهم لكن قد دل على انتفاع
الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة
وفي السنن من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله إذا صليتم
على الميت فأخلصوا له الدعاء
وفي صحيح مسلم مد حديث عوف بن مالك قال على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول
اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع
مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت
الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا
خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار
وفي السنن عن وائلة بن الأسقع قال على رجل من المسلمين فسمعته يقول اللهم
إن فلانا ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار وأنت
أهل الوفاء والحق فاغفر له وارحمه إنك الغفور الرحيم
وهذا كثير في الأحاديث بل هو المقصود بالصلاة على الميت وكذلك الدعاء له
بعد الدفن
وفي السنن من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه قال كان النبي إذا فرغ من
دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فانه الآن
يسأل
وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن
الخصيب قال كان رسول الله يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا السلام
عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل
الله لنا ولكم العافية
وفي صحيح مسلم أن عائشة رضى الله عنها سألت النبي كيف نقول إذا استغفرت
لأهل القبور قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم
الله المستقدمين منا والمستأخرين وانا إن شاء الله بكم للاحقون
وفي صحيحه عنها أيضا أن رسول الله خرج في ليلتها من آخر الليل إلى البقيع
فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وانا إن
شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد
ودعاء النبي للأموات فعلا وتعليما ودعاء الصحابة والتابعين والمسلمين عصرا
بعد عصر أكثر من أن يذكر وأشهر من أن ينكر وقد جاء ان الله يرفع درجة
العبد في الجنة فيقول أنى لى هذا فيقال بدعاء ولدك لك
فصل وأما وصول ثواب الصدقة ففي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها
أن
رجلا أتى النبي فقال يا رسول الله أن أمي افتلت ! نفسها ولم توص وأظنها لو
تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أن سعد بن
عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فأتى النبي فقال يا رسول الله إن أمي توفيت
وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت عنه قال نعم قال فإني أشهدك أن حائطي
المخراف صدقة عنها
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رجلا قال للنبي ان أبى مات
وترك مالا ولم يوص فهل يكفى عنه أن أتصدق عنه قال نعم
وفي السنن ومسند أحمد عن سعد بن عبادة أنه قال يا رسول الله ان أم سعد
ماتت فأى الصدقة أفضل قال الماء فحفر بئر وقال هذه لأم سعد
وعن عبد الله بن عمرو أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة
وإن هشام بن العاص نحر خمسة وخمسين وأن عمرا سأل النبي عن ذلك فقال أما
أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك رواه الإمام أحمد
فصل وأما وصول ثواب الصوم ففي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها
أن
رسول الله قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه
وفي الصحيحين أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما قلا جاء رجل إلى النبي فقال
يا رسول الله أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال نعم فدين الله أحق
أن يقضى
وفي رواية جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت
وعليها صوم نذر أفأصوم عنها قال أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان
يؤدى ذلك عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك وهذا اللفظ للبخاري وحده تعليقا
وعن بريدة رضى الله عنه قال بينا ! أنا جالس عند رسول الله إذ أتته امرأة
فقالت إني تصدقت على أمي بجارية وأنها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك
الميراث فقالت يا رسول الله انه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي
عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجى عنها رواه مسلم وفي لفظ صوم
شهرين
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن
تصوم شهرا فنجاها الله فلم تصم حتى ماتت فجاءت بنتها أو أختها إلى رسول
الله
فأمرها أن تصوم عنها رواه أهل السنن والإمام أحمد وكذلك روى عنه
وصول ثواب بدل الصوم وهو الاطعام
ففي السنن عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله من مات وعليه صيام
شهر فليطعم عنه لكل يوم مسكين رواه الترمذى وابن ماجه قال الترمذى ولا
نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه والصحيح عن ابن عمر من قوله موقوفا
وفي سنن أبى داود عن ابن عباس رضى الله عنهما قال إذا مرض الرجل في رمضان
ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عنه قضاء وإن نذر قضى عنه وليه
فصل وأما وصول ثواب الحج ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضى الله
عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج
حتى ماتت أفأحج عنها قال حجى عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته
اقضوا الله فالله أحق بالقضاء
وقد تقدم حديث بريدة وفيه أن أمي لم تحج قط أفأحج عنها قال حجى عنها
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال إن امرأة سنان بن سلمة الجهني سألت رسول
الله أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزىء أن تحج عنها قال نعم لو كان على أمها
دين فقضته عنها ألم يكن يجزىء عنها رواه النسائي
وروى أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة سألت النبي عن ابنها مات
ولم يحج قال حجى عن ابنك
وروى أيضا عنه قال قال رجل يا نبي الله ان أبى مات ولم يحج أفأحج عنه قال
أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق وأجمع
المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمته ولو كان من أجنبي أو من غير
تركته وقد دل عليه حديث أبى قتادة حيث ضمن الدينارين عن الميت فلما قضاهما
قال له النبي الآن بردت عليه جلدته
وأجمعوا على أن الحي إذا كان له في ذمة الميت حق من الحقوق فأحله منه أنه
ينفعه ويبرأ منه كما يسقط من ذمة الحي
فإذا سقط من ذمة الحي بالنص والإجماع مع إمكان أدائه له بنفسه ولو لم يرض
به بل
رده فسقوطه من ذمة الميت بالابراء حيث لا يتمكن من أدائه أولى
وأحرى وإذا انتفع بالإبراء والإسقاط فكذلك ينتفع بالهبة والإهداء ولا فرق
بينهما فإن ثواب العمل حق المهدى الواهب فإذا جعله للميت انتقل إليه كما
أن ما على الميت من الحقوق من الدين وغيره هو محض حق الحي فإذا أبرأه وصل
الإبراء إليه وسقط من ذمته فكلاهما حق للحى فأي نص أو قياس أو قاعدة من
قواعد الشرع يوجب وصول أحدهما ويمنع وصول الآخر
هذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه
وهذا محض للقياس فإن الثواب حق للعامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من
ذلك كما لم يمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه له من بعد موته
وقد نبه النبي بوصول ثواب الصوم الذي هو مجرد ترك ونية تقوم بالقلب لا
يطلع عليه إلا الله وليس بعمل الجوارح على وصول ثواب القراءة التي هي عمل
باللسان تسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأولى
ويوضحه أن الصوم نية محضة وكف النفس عن المفطرات وقد أوصل الله ثوابه إلى
الميت فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية بل لا تفتقر إلى النية فوصول ثواب
الصوم إلى الميت فيه تنبيه على وصول سائر الأعمال
والعبادات قسمان مالية وبدنية وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة قال على
وصول ثواب سائر العبادات المالية ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب
سائر العبادات البدنية وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية
فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار وبالله التوفيق
قال المانعون من الوصول قال الله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وقال
ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون وقال لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقد ثبت
عن النبي أنه قال إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية عليه
أو ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به من بعد فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان
تسبب إليه في الحياة وما لم يكن قد تسبب إليه فهو منقطع عنه
وأيضا فحديث أبى هريرة رضى الله عنه المتقدم وهو قوله إن مما يلحق الميت
من عمله وحسناته بعد موته علما نشره الحديث يدل على أنه إنما ينتفع بما
كان قد تسبب فيه
وأيضا فحديث أبى هريرة رضى الله عنه المتقدم وهو قوله إن مما يلحق الميت
من عمله وحسناته بعد موته علما نشره الحديث يدل على أنه إنما ينتفع بما
كان قد تسبب فيه
وكذلك حديث أنس يرفعه سبع يجرى على العبد أجرهن وهو في قبره بعد موته من
علم
علما أو أكرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث
مصحفا أو ترك ولدا صالحا يستغفر له بعد موته
وهذا يدل على أن ما عدا ذلك لا يحصل له منه ثواب وإلا لم يكن للحصر معنى
قالوا والإهداء حوالة والحوالة إنما تكون بحق لازم والأعمال لا توجب
الثواب وإنما هو مجرد تفضل الله وإحسانه فكيف يحيل العبد على مجرد الفضل
الذي لا يجب على الله بل إن شاء آتاه وإن لم يشأ لم يؤته وهو نظير حوالة
الفقير على من يرجو أن يتصدق عليه ومثل هذا لا يصح إهداؤه وهبته كصلة ترجى
من ملك لا لتحقق حصولها
قالوا وأيضا فالإيثار بأسباب الثواب مكروه وهو الإيثار بالقرب فكيف
الإيثار بنفس الثواب الذي هو غاية إذا كره الإيثار بالوسيلة فالغاية أولى
وأحرى
وكذلك كره الإمام أحمد التأخر عن الصف الأول وإيثار الغير به لما فيه من
الرغبة عن سبب الثواب قال أحمد في رواية حنبل وقد سئل عن الرجل يتأخر عن
الصف الأول ويقدم أباه في موضعه قال ما يعجبني هو يقدر أن يبر أباه بغير
هذا
قالوا أيضا لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ نقل الثواب والإهداء إلى الحي
وأيضا لو ساغ ذلك لساغ لهذا نصف الثواب وربعه وقيراط منه
وأيضا لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه وقد قلتم أنه لا بد أن
ينوى حال الفعل إهداءه إلى الميت وإلا لم يصل إليه فإذا ساغ له نقل الثواب
فأي فرق بين أن ينوى قبل الفعل أو بعده
وأيضا لو ساغ الإهداء لساغ إهداء ثواب الواجبات على الحي كما يسوغ إهداء
ثواب التطوعات التي يتطوع بها
قالوا وإن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدل فإن المقصود منها عين
المكلف العامل المأمور المنهي فلا يبدل المكلف الممتحن بغيره ولا ينوب
غيره عنه في ذلك أن المقصود طاعته هو نفسه وعبوديته ولو كان ينتفع بإهداء
غيره له من غير عمل منه لكان أكرم الأكرمين أولى بذلك وقد حكم سبحانه أنه
لا ينتفع إلا بسعيه وهذه سنته تعالى في خلقه وقضاؤه كما هي سنته في أمره
وشرعه فإن المريض لا ينوب عنه غيره في شرب الدواء والجائع والظمآن والعاري
لا ينوب عنه غيره في الأكل والشرب واللباس قالوا ولو نفعه عمل غيره لنفعه
توبته عنه
قالوا ولهذا لا يقبل الله إسلام أحد ولا صلاته عن صلاته فإذا
كان رأس العبادات لا يصح إهداء ثوابه فكيف فروعها
قالوا وأما الدعاء فهو سؤال ورغبة إلى الله أن يتفضل على الميت ويسامحه
ويعفو عنه وهذا إهداء ثواب عمل الحي إليه
قال المقتصرون على وصول العبادات التي تدخلها النيابة كالصدقة والحج
والعبادات نوعان نوع لا تدخله النيابة بحال كالإسلام والصلاة وقراءة
القرآن والصيام فهذا النوع يختص ثوابه بفاعله لا يتعداه ولا ينقل عنه كما
أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد ولا ينوب فيه عن فاعله غيره
ونوع تدخله النيابة كرد الودائع وأداء الديون وإخراج الصدقة والحج فهذا
يصل ثوابه إلى الميت لأنه يقبل النيابة ويفعله العبد عن غيره في حياته
فبعد موته بالطريق الأولى والأحرى
قالوا وأما حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه فجوابه من وجوه
أحدها ما قاله مالك في موطئه قال لا يصوم أحد عن أحد قال وهو أمر مجمع
عليه عندنا لا خلاف فيه الثاني أن ابن عباس رضى الله عنهما هو الذي روى
حديث الصوم عن الميت وقد روى عنه النسائي أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا
يزيد بن زريع حدثنا حجاج الأحول حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبى رباح
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يصلى أحد عن أحد
الثالث أنه حديث اختلف في إسناده هكذا قال صاحب المفهم في شرح مسلم
الرابع أنه معارض بنص القرآن كما تقدم من قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا
ما سعى
الخامس أنه معارض بما رواه النسائي عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي
أنه قال لا يصلى أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل
يوم مدا من حنطة
السادس أنه معارض بحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن نافع عن ابن
عمر رضى الله عنهما عن النبي من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه
السابع أنه معارض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة
فان أحدا لا يفعلها عن أحد قال الشافعي فيما تكلم به على خبر ابن عباس لم
يسم ابن عباس ما كان نذر أم سعد فاحتمل أن يكون نذر حج أو عمرة أو صدقة
فأمره بقضائه عنها فأما من نذر صلاة أو صياما ثم مات فإنه يكفر عنه في
الصوم ولا يصام عنه ولا يصلى عنه ولا يكفر عنه في الصلاة ثم قال فإن قيل
أفأروى عن رسول الله أمر أحد أن يصوم عن أحد قيل نعم روى ابن عباس رضى
الله عنهما عن النبي فإن قيل فلم لا تأخذ به قيل حديث الزهري عن عبيد الله
عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي نذرا ولم يسمعه ! مع حفظ الزهري وطول
مجالسه عبيد الله لابن عباس فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس بغير ما في
حديث عبيد الله أشبه أن لا يكون محفوظا فإن قيل فتعرف الرجل الذي جاء بهذا
الحديث يغلط عن ابن عباس قيل نعم روى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال
لابن الزبير أن الزبير حل من متعة الحج فروى هذا عن ابن عباس أنها متعة
النساء وهذا غلط فاحش
فهذا الجواب عن فعل الصوم وأما فعل الحج فإنما يصل منه ثواب الإنفاق وأما
أفعال المناسك فهي كأفعال الصلاة إنما تقع عن فاعلها
قال أصحاب الوصول ليس في شيء مما ذكرتم ما يعارض أدلة الكتاب والسنة
واتفاق سلف الأمة ومقتضى قواعد الشرع ونحن نجيب عن كل ما ذكرتموه بالعدل
والإنصاف
أما قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فقد اختلفت طرق الناس في
المراد بالآية فقالت طائفة المراد بالإنسان ها هنا الكافر وأما المؤمن فله
ما سعى وما سعى له بالأدلة التي ذكرناها قالوا وغاية ما في هذا التخصيص
وهو جائز إذا دل عليه الدليل
وهذا الجواب ضعيف جدا ومثل هذا العام لا يراد به الكافر وحده بل هو للمسلم
والكافر وهو كالعام الذي قبله وهو قوله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى
والسياق كله من أوله إلى آخره كالصريح في إرادة العموم لقوله تعالى وأن
سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وهذا يعم الشر والخير قطعا ويتناول
البر والفاجر والمؤمن والكافر كقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وكقوله له في الحديث الإلهي يا عبادي إنما هي
أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير
ذلك فلا يلومن إلا نفسه وهو كقوله تعالى يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك
كدحا فملاقيه ولا تغتر بقود كثير من المفسرين في لفظ الإنسان في
القرآن الإنسان ها هنا أبو جهل والإنسان ها هنا عقبة ابن أبى
معيط والإنسان هاهنا الوليد ابن المغيرة فالقرآن أجل من ذلك بل الإنسان هو
الإنسان من حيث هو من غير اختصاص بواحد بعينه كقوله تعالى إن الإنسان لفي
خسر و إن الإنسان لربه لكنود و إن الإنسان خلق هلوعا و إن الإنسان ليطغى
ان رآه استغنى و إن الإنسان لظلوم كفار و وحملها الإنسان إنه كان ظلوما
جهولا فهذا شأن الإنسان من حيث ذاته ونفسه وخروجه عن هذه الصفات بفضل ربه
وتوفيقه له ومنته عليه لا من ذاته فليس له من ذاته إلا هذه الصفات وما به
من نعمة فمن الله وحده فهو الذى حبب إلى عبده الإيمان وزينه في قلبه وكره
إليه الكفر والفسوق والعصيان وهو الذي كتب في قلبه الإيمان وهو الذي يثبت
أنبياءه ورسله وأولياءه على دينه وهو الذي يصرف عنهم السوء والفحشاء وكان
يرتجز بين يدي النبي
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
وقد قال تعالى وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله وقال تعالى وما يذكرون
إلا أن يشاء الله وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين فهو رب جميع
العالم ربوبية شاملة لجميع ما في العالم من ذوات وأفعال وأحوال
وقالت طائفة الآية أخبار بشرع من قبلنا وقد دل شرعنا على أنه له ما سعى
وما سعى له وهذا أيضا أضعف من الأول أو من جنسه فان الله سبحانه أخبر بذلك
أخبار مقرر له محتج به لا أخبار مبطل له ولهذا قال أم لم ينبأ بما في صحف
موسى فلو كان هذا باطلا في هذه الشريعة لم يخبر به أخبار مقرر له محتج به
وقالت طائفة اللام بمعنى على أي وليس على الإنسان إلا ما سعى وهذا أبطل من
القولين الأولين فإنه قول موضوع الكلام إلى ضد معناه المفهوم منه ولا يسوغ
مثل هذا ولا تحتمله اللغة وأما نحو ولهم اللعنة فهي على بابها أي نصيبهم
وحظهم وأما أن العرب تعرف في لغاتها لي درهم بمعنى على درهم فكلا
وقالت طائفة في الكلام حذف تقديره وان ليس للإنسان إلا ما سعى أو سعى له
وهذا أيضا من النمط الأول فإنه حذف مالا يدل السياق عليه بوجه وقول على
الله وكتابه بلا علم
وقالت طائفة أخرى الآية منسوخة بقوله تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم
بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وهذا منقول عن ابن عباس رضى الله عنهما وهذا
ضعيف أيضا
وهي هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعى الأحياء أم لا
فالجواب أنها تنتفع من سعى الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة من
الفقهاء وأهل الحديث والتفسير
أحدهما ما تسبب إليه الميت في حياته
والثاني دعاء المسلمين له واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع ما الذي
يصل من ثوابه هل ثواب الإنفاق أو ثواب العمل فعند الجمهور يصل ثواب العمل
نفسه وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق
واختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر فمذهب
الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفة نص على هذا
الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال قال قيل لأبى عبد الله الرجل
يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه
قال أرجو أو قال الميت يصل إليه كل شيء من صدقة أو غيرها وقال أيضا اقرأ
آية الكرسي ثلاث مرات وقل هو الله أحد وقل اللهم إن فضله لأهل المقابر
والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل
وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شيء البتة لادعاء
ولا غيره
فالدليل على انتفاعه بما تسبب إليه في حياته ما رواه مسلم في صحيه من حديث
أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله
إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فاستثناء هذه
الثلاث من عمله يدل على أنها منه فانه هو الذي تسبب إليها
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله
إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره أو
ولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو
نهرا إكراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث جرير بن عبد الله قال قال رسول الله من سن في
الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من
أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من
بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وهذا المعنى روى عن النبي من عدة وجوه
صحاح وحسان
وفي المسند عن حذيفة قال سأل رجل على عهد رسول الله فامسك القوم ثم أن
رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي من سن خيرا فاستن به كان له أجره ومن
أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره
ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا
وقد دل على هذا قوله لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من
دمها لأنه أول من سن القتل فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل
والثواب أولى وأحرى
فصل والدليل على انتفاعه بغير ما تسبب فيه القرآن والسنة
والإجماع
وقواعد الشرع
أما القرآن فقوله تعالى والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فأثنى الله سبحانه عليهم باستغفارهم
للمؤمنين قبلهم فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء
وقد يمكن أن يقال إنما انتفعوا باستغفارهم لأنهم سنوا لهم الإيمان بسبقهم
إليه فلما اتبعوهم فيه كانوا كالمستنين في حصوله لهم لكن قد دل على انتفاع
الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة
وفي السنن من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله إذا صليتم
على الميت فأخلصوا له الدعاء
وفي صحيح مسلم مد حديث عوف بن مالك قال على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول
اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع
مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت
الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا
خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار
وفي السنن عن وائلة بن الأسقع قال على رجل من المسلمين فسمعته يقول اللهم
إن فلانا ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار وأنت
أهل الوفاء والحق فاغفر له وارحمه إنك الغفور الرحيم
وهذا كثير في الأحاديث بل هو المقصود بالصلاة على الميت وكذلك الدعاء له
بعد الدفن
وفي السنن من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه قال كان النبي إذا فرغ من
دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فانه الآن
يسأل
وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن
الخصيب قال كان رسول الله يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا السلام
عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل
الله لنا ولكم العافية
وفي صحيح مسلم أن عائشة رضى الله عنها سألت النبي كيف نقول إذا استغفرت
لأهل القبور قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم
الله المستقدمين منا والمستأخرين وانا إن شاء الله بكم للاحقون
وفي صحيحه عنها أيضا أن رسول الله خرج في ليلتها من آخر الليل إلى البقيع
فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وانا إن
شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد
ودعاء النبي للأموات فعلا وتعليما ودعاء الصحابة والتابعين والمسلمين عصرا
بعد عصر أكثر من أن يذكر وأشهر من أن ينكر وقد جاء ان الله يرفع درجة
العبد في الجنة فيقول أنى لى هذا فيقال بدعاء ولدك لك
فصل وأما وصول ثواب الصدقة ففي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها
أن
رجلا أتى النبي فقال يا رسول الله أن أمي افتلت ! نفسها ولم توص وأظنها لو
تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أن سعد بن
عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فأتى النبي فقال يا رسول الله إن أمي توفيت
وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت عنه قال نعم قال فإني أشهدك أن حائطي
المخراف صدقة عنها
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رجلا قال للنبي ان أبى مات
وترك مالا ولم يوص فهل يكفى عنه أن أتصدق عنه قال نعم
وفي السنن ومسند أحمد عن سعد بن عبادة أنه قال يا رسول الله ان أم سعد
ماتت فأى الصدقة أفضل قال الماء فحفر بئر وقال هذه لأم سعد
وعن عبد الله بن عمرو أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة
وإن هشام بن العاص نحر خمسة وخمسين وأن عمرا سأل النبي عن ذلك فقال أما
أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك رواه الإمام أحمد
فصل وأما وصول ثواب الصوم ففي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها
أن
رسول الله قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه
وفي الصحيحين أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما قلا جاء رجل إلى النبي فقال
يا رسول الله أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال نعم فدين الله أحق
أن يقضى
وفي رواية جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت
وعليها صوم نذر أفأصوم عنها قال أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان
يؤدى ذلك عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك وهذا اللفظ للبخاري وحده تعليقا
وعن بريدة رضى الله عنه قال بينا ! أنا جالس عند رسول الله إذ أتته امرأة
فقالت إني تصدقت على أمي بجارية وأنها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك
الميراث فقالت يا رسول الله انه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي
عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجى عنها رواه مسلم وفي لفظ صوم
شهرين
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن
تصوم شهرا فنجاها الله فلم تصم حتى ماتت فجاءت بنتها أو أختها إلى رسول
الله
فأمرها أن تصوم عنها رواه أهل السنن والإمام أحمد وكذلك روى عنه
وصول ثواب بدل الصوم وهو الاطعام
ففي السنن عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله من مات وعليه صيام
شهر فليطعم عنه لكل يوم مسكين رواه الترمذى وابن ماجه قال الترمذى ولا
نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه والصحيح عن ابن عمر من قوله موقوفا
وفي سنن أبى داود عن ابن عباس رضى الله عنهما قال إذا مرض الرجل في رمضان
ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عنه قضاء وإن نذر قضى عنه وليه
فصل وأما وصول ثواب الحج ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضى الله
عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج
حتى ماتت أفأحج عنها قال حجى عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته
اقضوا الله فالله أحق بالقضاء
وقد تقدم حديث بريدة وفيه أن أمي لم تحج قط أفأحج عنها قال حجى عنها
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال إن امرأة سنان بن سلمة الجهني سألت رسول
الله أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزىء أن تحج عنها قال نعم لو كان على أمها
دين فقضته عنها ألم يكن يجزىء عنها رواه النسائي
وروى أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة سألت النبي عن ابنها مات
ولم يحج قال حجى عن ابنك
وروى أيضا عنه قال قال رجل يا نبي الله ان أبى مات ولم يحج أفأحج عنه قال
أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق وأجمع
المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمته ولو كان من أجنبي أو من غير
تركته وقد دل عليه حديث أبى قتادة حيث ضمن الدينارين عن الميت فلما قضاهما
قال له النبي الآن بردت عليه جلدته
وأجمعوا على أن الحي إذا كان له في ذمة الميت حق من الحقوق فأحله منه أنه
ينفعه ويبرأ منه كما يسقط من ذمة الحي
فإذا سقط من ذمة الحي بالنص والإجماع مع إمكان أدائه له بنفسه ولو لم يرض
به بل
رده فسقوطه من ذمة الميت بالابراء حيث لا يتمكن من أدائه أولى
وأحرى وإذا انتفع بالإبراء والإسقاط فكذلك ينتفع بالهبة والإهداء ولا فرق
بينهما فإن ثواب العمل حق المهدى الواهب فإذا جعله للميت انتقل إليه كما
أن ما على الميت من الحقوق من الدين وغيره هو محض حق الحي فإذا أبرأه وصل
الإبراء إليه وسقط من ذمته فكلاهما حق للحى فأي نص أو قياس أو قاعدة من
قواعد الشرع يوجب وصول أحدهما ويمنع وصول الآخر
هذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه
وهذا محض للقياس فإن الثواب حق للعامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من
ذلك كما لم يمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه له من بعد موته
وقد نبه النبي بوصول ثواب الصوم الذي هو مجرد ترك ونية تقوم بالقلب لا
يطلع عليه إلا الله وليس بعمل الجوارح على وصول ثواب القراءة التي هي عمل
باللسان تسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأولى
ويوضحه أن الصوم نية محضة وكف النفس عن المفطرات وقد أوصل الله ثوابه إلى
الميت فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية بل لا تفتقر إلى النية فوصول ثواب
الصوم إلى الميت فيه تنبيه على وصول سائر الأعمال
والعبادات قسمان مالية وبدنية وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة قال على
وصول ثواب سائر العبادات المالية ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب
سائر العبادات البدنية وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية
فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار وبالله التوفيق
قال المانعون من الوصول قال الله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وقال
ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون وقال لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقد ثبت
عن النبي أنه قال إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية عليه
أو ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به من بعد فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان
تسبب إليه في الحياة وما لم يكن قد تسبب إليه فهو منقطع عنه
وأيضا فحديث أبى هريرة رضى الله عنه المتقدم وهو قوله إن مما يلحق الميت
من عمله وحسناته بعد موته علما نشره الحديث يدل على أنه إنما ينتفع بما
كان قد تسبب فيه
وأيضا فحديث أبى هريرة رضى الله عنه المتقدم وهو قوله إن مما يلحق الميت
من عمله وحسناته بعد موته علما نشره الحديث يدل على أنه إنما ينتفع بما
كان قد تسبب فيه
وكذلك حديث أنس يرفعه سبع يجرى على العبد أجرهن وهو في قبره بعد موته من
علم
علما أو أكرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث
مصحفا أو ترك ولدا صالحا يستغفر له بعد موته
وهذا يدل على أن ما عدا ذلك لا يحصل له منه ثواب وإلا لم يكن للحصر معنى
قالوا والإهداء حوالة والحوالة إنما تكون بحق لازم والأعمال لا توجب
الثواب وإنما هو مجرد تفضل الله وإحسانه فكيف يحيل العبد على مجرد الفضل
الذي لا يجب على الله بل إن شاء آتاه وإن لم يشأ لم يؤته وهو نظير حوالة
الفقير على من يرجو أن يتصدق عليه ومثل هذا لا يصح إهداؤه وهبته كصلة ترجى
من ملك لا لتحقق حصولها
قالوا وأيضا فالإيثار بأسباب الثواب مكروه وهو الإيثار بالقرب فكيف
الإيثار بنفس الثواب الذي هو غاية إذا كره الإيثار بالوسيلة فالغاية أولى
وأحرى
وكذلك كره الإمام أحمد التأخر عن الصف الأول وإيثار الغير به لما فيه من
الرغبة عن سبب الثواب قال أحمد في رواية حنبل وقد سئل عن الرجل يتأخر عن
الصف الأول ويقدم أباه في موضعه قال ما يعجبني هو يقدر أن يبر أباه بغير
هذا
قالوا أيضا لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ نقل الثواب والإهداء إلى الحي
وأيضا لو ساغ ذلك لساغ لهذا نصف الثواب وربعه وقيراط منه
وأيضا لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه وقد قلتم أنه لا بد أن
ينوى حال الفعل إهداءه إلى الميت وإلا لم يصل إليه فإذا ساغ له نقل الثواب
فأي فرق بين أن ينوى قبل الفعل أو بعده
وأيضا لو ساغ الإهداء لساغ إهداء ثواب الواجبات على الحي كما يسوغ إهداء
ثواب التطوعات التي يتطوع بها
قالوا وإن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدل فإن المقصود منها عين
المكلف العامل المأمور المنهي فلا يبدل المكلف الممتحن بغيره ولا ينوب
غيره عنه في ذلك أن المقصود طاعته هو نفسه وعبوديته ولو كان ينتفع بإهداء
غيره له من غير عمل منه لكان أكرم الأكرمين أولى بذلك وقد حكم سبحانه أنه
لا ينتفع إلا بسعيه وهذه سنته تعالى في خلقه وقضاؤه كما هي سنته في أمره
وشرعه فإن المريض لا ينوب عنه غيره في شرب الدواء والجائع والظمآن والعاري
لا ينوب عنه غيره في الأكل والشرب واللباس قالوا ولو نفعه عمل غيره لنفعه
توبته عنه
قالوا ولهذا لا يقبل الله إسلام أحد ولا صلاته عن صلاته فإذا
كان رأس العبادات لا يصح إهداء ثوابه فكيف فروعها
قالوا وأما الدعاء فهو سؤال ورغبة إلى الله أن يتفضل على الميت ويسامحه
ويعفو عنه وهذا إهداء ثواب عمل الحي إليه
قال المقتصرون على وصول العبادات التي تدخلها النيابة كالصدقة والحج
والعبادات نوعان نوع لا تدخله النيابة بحال كالإسلام والصلاة وقراءة
القرآن والصيام فهذا النوع يختص ثوابه بفاعله لا يتعداه ولا ينقل عنه كما
أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد ولا ينوب فيه عن فاعله غيره
ونوع تدخله النيابة كرد الودائع وأداء الديون وإخراج الصدقة والحج فهذا
يصل ثوابه إلى الميت لأنه يقبل النيابة ويفعله العبد عن غيره في حياته
فبعد موته بالطريق الأولى والأحرى
قالوا وأما حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه فجوابه من وجوه
أحدها ما قاله مالك في موطئه قال لا يصوم أحد عن أحد قال وهو أمر مجمع
عليه عندنا لا خلاف فيه الثاني أن ابن عباس رضى الله عنهما هو الذي روى
حديث الصوم عن الميت وقد روى عنه النسائي أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا
يزيد بن زريع حدثنا حجاج الأحول حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبى رباح
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يصلى أحد عن أحد
الثالث أنه حديث اختلف في إسناده هكذا قال صاحب المفهم في شرح مسلم
الرابع أنه معارض بنص القرآن كما تقدم من قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا
ما سعى
الخامس أنه معارض بما رواه النسائي عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي
أنه قال لا يصلى أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل
يوم مدا من حنطة
السادس أنه معارض بحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن نافع عن ابن
عمر رضى الله عنهما عن النبي من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه
السابع أنه معارض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة
فان أحدا لا يفعلها عن أحد قال الشافعي فيما تكلم به على خبر ابن عباس لم
يسم ابن عباس ما كان نذر أم سعد فاحتمل أن يكون نذر حج أو عمرة أو صدقة
فأمره بقضائه عنها فأما من نذر صلاة أو صياما ثم مات فإنه يكفر عنه في
الصوم ولا يصام عنه ولا يصلى عنه ولا يكفر عنه في الصلاة ثم قال فإن قيل
أفأروى عن رسول الله أمر أحد أن يصوم عن أحد قيل نعم روى ابن عباس رضى
الله عنهما عن النبي فإن قيل فلم لا تأخذ به قيل حديث الزهري عن عبيد الله
عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي نذرا ولم يسمعه ! مع حفظ الزهري وطول
مجالسه عبيد الله لابن عباس فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس بغير ما في
حديث عبيد الله أشبه أن لا يكون محفوظا فإن قيل فتعرف الرجل الذي جاء بهذا
الحديث يغلط عن ابن عباس قيل نعم روى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال
لابن الزبير أن الزبير حل من متعة الحج فروى هذا عن ابن عباس أنها متعة
النساء وهذا غلط فاحش
فهذا الجواب عن فعل الصوم وأما فعل الحج فإنما يصل منه ثواب الإنفاق وأما
أفعال المناسك فهي كأفعال الصلاة إنما تقع عن فاعلها
قال أصحاب الوصول ليس في شيء مما ذكرتم ما يعارض أدلة الكتاب والسنة
واتفاق سلف الأمة ومقتضى قواعد الشرع ونحن نجيب عن كل ما ذكرتموه بالعدل
والإنصاف
أما قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فقد اختلفت طرق الناس في
المراد بالآية فقالت طائفة المراد بالإنسان ها هنا الكافر وأما المؤمن فله
ما سعى وما سعى له بالأدلة التي ذكرناها قالوا وغاية ما في هذا التخصيص
وهو جائز إذا دل عليه الدليل
وهذا الجواب ضعيف جدا ومثل هذا العام لا يراد به الكافر وحده بل هو للمسلم
والكافر وهو كالعام الذي قبله وهو قوله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى
والسياق كله من أوله إلى آخره كالصريح في إرادة العموم لقوله تعالى وأن
سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وهذا يعم الشر والخير قطعا ويتناول
البر والفاجر والمؤمن والكافر كقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وكقوله له في الحديث الإلهي يا عبادي إنما هي
أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير
ذلك فلا يلومن إلا نفسه وهو كقوله تعالى يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك
كدحا فملاقيه ولا تغتر بقود كثير من المفسرين في لفظ الإنسان في
القرآن الإنسان ها هنا أبو جهل والإنسان ها هنا عقبة ابن أبى
معيط والإنسان هاهنا الوليد ابن المغيرة فالقرآن أجل من ذلك بل الإنسان هو
الإنسان من حيث هو من غير اختصاص بواحد بعينه كقوله تعالى إن الإنسان لفي
خسر و إن الإنسان لربه لكنود و إن الإنسان خلق هلوعا و إن الإنسان ليطغى
ان رآه استغنى و إن الإنسان لظلوم كفار و وحملها الإنسان إنه كان ظلوما
جهولا فهذا شأن الإنسان من حيث ذاته ونفسه وخروجه عن هذه الصفات بفضل ربه
وتوفيقه له ومنته عليه لا من ذاته فليس له من ذاته إلا هذه الصفات وما به
من نعمة فمن الله وحده فهو الذى حبب إلى عبده الإيمان وزينه في قلبه وكره
إليه الكفر والفسوق والعصيان وهو الذي كتب في قلبه الإيمان وهو الذي يثبت
أنبياءه ورسله وأولياءه على دينه وهو الذي يصرف عنهم السوء والفحشاء وكان
يرتجز بين يدي النبي
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
وقد قال تعالى وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله وقال تعالى وما يذكرون
إلا أن يشاء الله وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين فهو رب جميع
العالم ربوبية شاملة لجميع ما في العالم من ذوات وأفعال وأحوال
وقالت طائفة الآية أخبار بشرع من قبلنا وقد دل شرعنا على أنه له ما سعى
وما سعى له وهذا أيضا أضعف من الأول أو من جنسه فان الله سبحانه أخبر بذلك
أخبار مقرر له محتج به لا أخبار مبطل له ولهذا قال أم لم ينبأ بما في صحف
موسى فلو كان هذا باطلا في هذه الشريعة لم يخبر به أخبار مقرر له محتج به
وقالت طائفة اللام بمعنى على أي وليس على الإنسان إلا ما سعى وهذا أبطل من
القولين الأولين فإنه قول موضوع الكلام إلى ضد معناه المفهوم منه ولا يسوغ
مثل هذا ولا تحتمله اللغة وأما نحو ولهم اللعنة فهي على بابها أي نصيبهم
وحظهم وأما أن العرب تعرف في لغاتها لي درهم بمعنى على درهم فكلا
وقالت طائفة في الكلام حذف تقديره وان ليس للإنسان إلا ما سعى أو سعى له
وهذا أيضا من النمط الأول فإنه حذف مالا يدل السياق عليه بوجه وقول على
الله وكتابه بلا علم
وقالت طائفة أخرى الآية منسوخة بقوله تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم
بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وهذا منقول عن ابن عباس رضى الله عنهما وهذا
ضعيف أيضا
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى