صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة المؤلف
قال أبو محمد علي بن
أحمد بن حزم رضي الله عنه الحمد لله على عظيم مننه وصلى الله على محمد
عبده وخاتم أنبيائه ورسله وسلم تسليما وأبرأ إليه تعالى من الحول والقوة
وأستعينه على كل ما يعصم في الدنيا من جميع المخاوف والمكاره ويخلص في
الأخرى من كل هول ومضيق أما بعد فإني جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة
أفادنيها واهب التمييز تعالى بمرور الأيام وتعاقب الأحوال بما منحني عز
وجل من التهمم بتصاريف الزمان والإشراف على أحواله حتى أنفقت في ذلك أكثر
عمري وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل
إليها أكثر النفوس وعلى
الازدياد من فضول
المال وزممت كل ما سبرت من ذلك بهذا الكتاب لينفع الله تعالى به من يشاء
من عباده ممن يصل إليه بما أتعبت فيه نفسي وأجهدتها فيه وأطلت فيه فكري
فيأخذه عفوا وأهديته إليه هنيئا فيكون ذلك أفضل له من كنوز المال وعقد
الأملاك إذا تدبره ويسره الله تعالى لاستعماله وأنا راج في ذلك من الله
تعالى أعظم الأجر لنيتي في نفع عباده وإصلاح ما فسد من أخلاقهم ومداواة
علل نفوسهم وبالله أستعين
مداواة
النفوس وإصلاح الأخلاق لذة العاقل بتمييزه ولذة العالم بعلمه ولذة الحكيم
بحكمته ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده أعظم من لذة الآكل بأكله والشارب
بشربه والواطئ بوطئه والكاسب بكسبه واللاعب بلعبه والآمر بأمره وبرهان ذلك
أن الحكيم والعاقل والعالم
والعامل واجدون لسائر اللذات التي سمينا
كما يجدها المنهمك فيها ويحسونها كما يحسها المقبل عليها وقد تركوها
وأعرضوا عنها وآثروا طلب الفضائل عليها وإنما يحكم في الشيئين من عرفها لا
من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر إذا تعقبت الأمور كلها فسدت عليك وانتهيت في
آخر فكرتك باضمحلال جميع أحوال الدنيا إلى أن الحقيقة إنما هي العمل
للآخرة فقط لأن كل أمل ظفرت به فعقباه حزن إما بذهابه عنك وإما بذهابك عنه
ولا بد من أحد هذين الشيئين إلا العمل لله عز وجل فعقباه على كل حال سرور
في عاجل وآجل أما العاجل فقلة الهم بما يهتم به الناس وإنك به معظم من
الصديق
والعدو وأما في الآجل فالجنة تطلبت
غرضا يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحدا وهو طرد
الهم فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولا في
طلبه فقط ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم
لا يتحركون حركة أصلا إلا فيما يرجون به طرد الهم ولا ينطقون بكلمة أصلا
إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم فمن مخطئ وجه سبيله ومن مقارب للخطأ
ومن مصيب وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره فطرد الهم مذهب قد اتفقت
الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء ويعاقبه
عالم الحساب على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئا سواه وكل غرض غيره ففي الناس
من لا يستحسنه إذ في الناس من لا دين له فلا يعمل للآخرة وفي الناس من أهل
الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق وفي الناس من يؤثر الخمول بهواه
وإرادته على بعد الصيت وفي الناس من لا يريد المال ويؤثر عدمه على وجوده
ككثير من الأنبياء عليهم السلام ومن تلاهم من الزهاد والفلاسفة وفي الناس
من يبغض اللذات بطبعه ويستنقص طالبها كمن ذكرنا من المؤثرين فقد المال على
اقتنائه وفي الناس من يؤثر الجهل على العلم كأكثر من ترى من العامة وهذه
هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها وليس في العالم مذ كان إلى أن
يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد طرده عن نفسه فلما استقر في نفسي هذا
العلم الرفيع وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز
العظيم
بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس الذي
اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي
له فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة وإلا فإنما طلب
المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم وإنما طلب الصوت من طلبه ليطرد
به عن نفسه هم الاستعلاء عليها وإنما طلب اللذات من طلبها ليطرد بها عن
نفسه هم فوتها وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل وإنها
هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم
التوحد ومغيب أحوال العالم عنه وإنما أكل من أكل وشرب من شرب ونكح من نكح
ولبس من لبس ولعب من لعب واكتن من اكتن وركب من ركب ومشى من مشى وتودع من
تودع ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم وفي كل ما ذكرنا
لمن تدبره هموم حادثة لا بد لها من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر
منها وذهاب ما يوجد منها والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة وايضا نتائج سوء
تنتج بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك من خوف منافس أو طعن حاسد أو
إختلاس راغب أو اقتناء عدو مع الذم والإثم وغير ذلك ووجدت للعمل للآخرة
سالما من كل عيب خالصا من كل كدر موصلا إلى طرد الهم على الحقيقة ووجدت
العامل للآخرة إن امتحن
بمكروه في تلك
السبيل لم يهتم بل يسر إذ رجاؤه في عاقبه ما ينال به عون له على ما يطلب
وزايد في الغرض الذي إياه يقصد ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم
إذ ليس مؤاخذا بذلك فهو غير مؤثر في ما يطلب ورأيته إن قصد بالأذى سر وإن
نكبته نكبة سر وإن تعب فيما سلك فيه سر فهو في سرور متصل أبدا وغيره بخلاف
ذلك أبدا فاعلم أنه مطلوب واحد وهو طرد الهم وليس إليه إلا طريق واحد وهو
العمل لله تعالى فما عدا هذا فضلال وسخف لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى
منها وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل في دعاء إلى حق وفي حماية الحريم
وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى وفي نصر مظلوم وباذل نفسه في عرض
دنيا كبائع الياقوت بالحصى لا مروءة لمن لا دين له العاقل لا يرى لنفسه
ثمنا إلا الجنة لإبليس في ذم الرياء حبالة وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير
خوف أن يظن به الرياء
العقل
والراحة وهو اطراح المبالاة بكلام الناس واستعمال المبالاة بكلام الخالق
عز وجل بل هذا باب العقل والراحة كلها من قدر أنه يسلم من طعن الناس
وعيبهم فهو مجنون من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن
آلمتها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس
إياه أشد وأكثر من اغتباطه
بمدحهم إياه لأن مدحهم إياه إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب
فأفسد بذلك فضائله وإن كان بباطل فبلغه فسره فقد صار مسرورا بالكذب وهذا
نقص شديد وأما ذم الناس إياه فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سببا إلى
تجنبه ما يعاب عليه وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص وإن كان بباطل
وبلغه فصبر اكتسب فضلا زائدا بالحلم والصبر وكان مع ذلك غانما لأنه يأخذ
حسنات من ذمه بالباطل فيحظى بها في دار الجزاء أحوج ما يكون إلى النجاة
بأعمال لم يتعب فيها ولا تكلفها وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا مجنون وأما
إن لم يبلغه مدح الناس إياه فكلامهم
وسكوتهم
سواء وليس كذلك ذمهم إياه لأنه غانم للأجر على كل حال بلغه ذمهم أو لم
يبلغه ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء الحسن ( ذلك عاجل
بشرى المؤمن ) لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل أكثر من رغبته في
المدح بالحق ولكن إذ جاء هذا القول فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل
فإنما تجب البشرى بما في الممدوح لا بنفس المدح ليس بين الفضائل والرذائل
ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس وأنسها فقط فالسعيد من أنست نفسه
بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل والمعاصي والشقي من أنست نفسه
بالرذائل والمعاصي ونفرت من الفضائل والطاعات وليس ها هنا إلا صنع الله
تعالى وحفظه طالب الآخرة ليفوز في الآخرة متشبه بالملائكة وطالب الشر
متشبه بالشياطين وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع وطالب اللذات متشبه
بالبهائم وطالب المال لعين المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة
أسقط وأرذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شبه ولكنه يشبه الغدران التي
في الكهوف في المواضع الوعرة لا ينتفع بها شيء من الحيوان فالعاقل لا
يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد وإنما يغتبط بتقدمه في
الفضيلة التي أبانه الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات وهي
التمييز الذي يشارك فيه الملائكة فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير موضعها
لله عز وجل فليعلم أن النمر أجرأ منه وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه
ومن سر بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسما ومن سر
بحمله الأثقال فليعلم أن الحمار أحمل منه ومن سر بسرعة
عدوه
فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدوا منه ومن سر بحسن صوته فليعلم أن كثيرا
من الطير أحسن صوتا منه وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته فأي فخر وأي
سرور في ما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه لكن من قوي تمييزه واتسع
علمه وحسن عمله فليغتبط بذلك فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة
وخيار الناس قول الله تعالى { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى
فإن الجنة هي المأوى } جامع لكل فضيلة لأن نهي النفس عن الهوى هو ردعها عن
الطبع الغضبي وعن الطبع الشهواني لأن كليهما واقع تحت موجب الهوى فلم يبق
إلا استعمال النفس للنطق الموضوع فيها الذي به بانت عن البهائم والحشرات
والسباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي استوصاه ( لا تغضب ) وأمره
عليه السلام أن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه جامعان لكل فضيلة لأن في
نهيه عن الغضب ردع النفس ذات القوة الغضبية عن هواها وفي أمره عليه السلام
أن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه ردع النفس عن القوة الشهوانية وجمع لأزمة
العدل الذي هو فائدة النطق الموضوع في النفس الناطقة رأيت أكثر الناس إلا
من عصم الله تعالى وقليل ما هم يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في
الدنيا ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة بما لا يحظون معه بنفع
أصلا من نيات خبيثة
يضبون عليها من
تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار ومن لا ذنب له وتمني أشد البلاء لمن
يكرهونه وقد علموا يقينا أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل لهم شيئا مما
يتمنونه أو يوجب كونه وأنهم لو صفوا نياتهم وحسنوها لتعجلوا الراحة
لأنفسهم وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم ولاقتنوا بذلك عظيم الأجر في المعاد
من غير أن يؤخر ذلك شيئا مما يريدونه أو يمنع كونه فأي غبن أعظم من هذه
الحال التي نبهنا عليها وأي سعد أعظم من التي دعونا إليها إذا حققت مدة
الدنيا لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل الزمانين فقط وأما ما مضى وما لم
يأت فمعدومان كما لم يكن فمن أضل ممن يبيع باقيا خالدا بمدة هي أقل من كر
الطرف إذا نام المرء خرج عن الدنيا ونسي كل سرور وكل حزن فلو رتب نفسه في
يقظته على ذلك أيضا لسعد السعادة التامة من أساء إلى أهله وجيرانه فهو
أسقطهم ومن كافأ من أساء إليه منهم فهو مثلهم ومن لم يكافئهم بإساءتهم فهو
سيدهم وخيرهم وأفضلهم
العلم
لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويجلونك وأن العلماء يحبونك
ويكرمونك لكان ذلك سببا إلى وجوب طلبه فكيف بسائر فضائله في الدنيا
والآخرة ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويغبط نظراءه
من الجهال لكان ذلك سببا إلى وجوب
الفرار عنه فكيف بسائر رذائله في
الدنيا والآخرة لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع
المشتغل به عن الوساوس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم
وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داع إليه فكيف وله من الفضائل
ما يطول ذكره ومن أقلها ما ذكرنا مما يحصل عليه طالب العلم وفي مثله أتعب
ضعفاء الملوك أنفسهم فتشاغلوا عما ذكرنا بالشطرنج والنرد والخمر والأغاني
وركض الدواب في طلب الصيد وسائر الفضول التي تعود بالمضرة في الدنيا
والآخرة وأما فائدة فلا فائدة لو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه
العلم من الذل بتسلط
الجهال ومن الهم بمغيب
الحقائق عنه ومن الغبطة بما قد بان له وجهه من الأمور الخفية عن غيره لزاد
حمدا لله عز وجل وغطبة بما لديه من العلم ورغبة في المزيد منه من شغل نفسه
بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كزارع الذرة في الأرض التي
يجود فيها البر وكغارس الشعراء حيث يزكو النخل والزيتون نشر العلم عند من
ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى أو
كتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع من احتدام الصفراء الباخل بالعلم ألأم
من الباخل بالمال لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده والباخل بالعلم
بخل بما لا يفنى على النفقة ولا يفارقه مع البذل من مال بطبعه إلى علم ما
وإن كان أدنى من غيره فلا يشغلها بسواه فيكون كغارس النارجيل بالأندلس
وكغارس الزيتون بالهند وكل ذلك لا ينجب أجل العلوم ما قربك من خالقك تعالى
وما أعانك على الوصول إلى رضاه
أنظر في
المال والحال والصحة إلى من دونك وانظر في الدين والعلم والفضائل إلى من
فوقك العلوم الغامضة كالدواء القوي يصلح الأجساد القوية ويهلك الأجساد
الضعيفة وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة وتصفية من كل آفة
وتهلك ذا العقل الضعيف من الغوص على الجنون ما لو غاصه صاحبه على العقل
لكان أحكم من الحسن البصري وأفلاطون الأثيني وبزرجمهر الفارسي وقف العقل
عند أنه لا ينفع إن لم يؤيد بتوفيق في الدين أو بسعد في الدنيا لا تضر
بنفسك في أن تجرب بها الآراء الفاسدة لتري المشير بها فسادها فتهلك فإن
ملامة ذي الرأي الفاسد لك على مخالفته وأنت ناج من المكاره خير لك من أن
يعذرك ويندم كلاكما وأنت قد حصلت في مكاره إياك وأن تسر غيرك بما تسوء به
نفسك فيما لم توجبه عليك شريعة أو فضيلة وقف العلم عند الجهل بصفات الباري
عز وجل لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها
فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون
من
أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق
كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه أعاننا الله على الإتساء به بمنه آمين
غاظني أهل الجهل مرتين من عمري إحداهما بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي
والثانية بسكوتهم عن الكلام بحضرتي فهم أبدا ساكتون عما ينفعهم ناطقون
فيما يضرهم وسرني أهل العلم مرتين من عمري إحداهما بتعليمي أيام جهلي
والثانية بمذاكرتي أيام علمي من فضل العلم والزهد في الدنيا أنهما لا
يؤتيهما الله عز وجل إلا أهلهما ومستحقهما ومن نقص علو أحوال الدنيا من
المال والصوت أن أكثر ما يقعان في غير أهلهما وفيمن لا يستحقهما من طلب
الفضائل لم يساير إلا أهلها ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل
المواساة والبر والصدق وكرم العشيرة والصبر والوفاء والأمانة والحلم وصفاء
الضمائر وصحة المودة ومن طلب الجاه والمال واللذات لم يساير إلا أمثال
الكلاب الكلبة والثعالب الخلبة ولم يرافق في تلك الطريق إلا كل عدو
المعتقد خبيث الطبيعة منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أنه يعلم
حسن الفضائل
فيأتيها ولو في الندرة
ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ولو في الندرة ويسمع الثناء الحسن فيرغب في
مثله والثناء الرديء فينفر منه فعلى هذه المقدمات يجب أن يكون للعلم حصة
في كل فضيلة وللجهل حصة في كل رذيلة ولا يأتي الفضائل ممن لم يتعلم العلم
إلا صافي الطبع جدا فاضل التركيب وهذه منزلة خص بها النبيون عليهم الصلاة
والسلام لأن الله تعالى علمهم الخير كله دون أن يتعلموه من الناس وقد رأيت
من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه
حكيم عالم رائض لنفسه ولكنه قليل جدا ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود
الأنبياء عليهم السلام ووصايا الحكماء وهو لا يتقدمه في خبث السيرة وفساد
العلانية والسريرة شرار الخلق وهذا كثير جدا فعلمت أنهما مواهب وحرمان من
الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة المؤلف
قال أبو محمد علي بن
أحمد بن حزم رضي الله عنه الحمد لله على عظيم مننه وصلى الله على محمد
عبده وخاتم أنبيائه ورسله وسلم تسليما وأبرأ إليه تعالى من الحول والقوة
وأستعينه على كل ما يعصم في الدنيا من جميع المخاوف والمكاره ويخلص في
الأخرى من كل هول ومضيق أما بعد فإني جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة
أفادنيها واهب التمييز تعالى بمرور الأيام وتعاقب الأحوال بما منحني عز
وجل من التهمم بتصاريف الزمان والإشراف على أحواله حتى أنفقت في ذلك أكثر
عمري وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل
إليها أكثر النفوس وعلى
الازدياد من فضول
المال وزممت كل ما سبرت من ذلك بهذا الكتاب لينفع الله تعالى به من يشاء
من عباده ممن يصل إليه بما أتعبت فيه نفسي وأجهدتها فيه وأطلت فيه فكري
فيأخذه عفوا وأهديته إليه هنيئا فيكون ذلك أفضل له من كنوز المال وعقد
الأملاك إذا تدبره ويسره الله تعالى لاستعماله وأنا راج في ذلك من الله
تعالى أعظم الأجر لنيتي في نفع عباده وإصلاح ما فسد من أخلاقهم ومداواة
علل نفوسهم وبالله أستعين
مداواة
النفوس وإصلاح الأخلاق لذة العاقل بتمييزه ولذة العالم بعلمه ولذة الحكيم
بحكمته ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده أعظم من لذة الآكل بأكله والشارب
بشربه والواطئ بوطئه والكاسب بكسبه واللاعب بلعبه والآمر بأمره وبرهان ذلك
أن الحكيم والعاقل والعالم
والعامل واجدون لسائر اللذات التي سمينا
كما يجدها المنهمك فيها ويحسونها كما يحسها المقبل عليها وقد تركوها
وأعرضوا عنها وآثروا طلب الفضائل عليها وإنما يحكم في الشيئين من عرفها لا
من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر إذا تعقبت الأمور كلها فسدت عليك وانتهيت في
آخر فكرتك باضمحلال جميع أحوال الدنيا إلى أن الحقيقة إنما هي العمل
للآخرة فقط لأن كل أمل ظفرت به فعقباه حزن إما بذهابه عنك وإما بذهابك عنه
ولا بد من أحد هذين الشيئين إلا العمل لله عز وجل فعقباه على كل حال سرور
في عاجل وآجل أما العاجل فقلة الهم بما يهتم به الناس وإنك به معظم من
الصديق
والعدو وأما في الآجل فالجنة تطلبت
غرضا يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحدا وهو طرد
الهم فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولا في
طلبه فقط ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم
لا يتحركون حركة أصلا إلا فيما يرجون به طرد الهم ولا ينطقون بكلمة أصلا
إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم فمن مخطئ وجه سبيله ومن مقارب للخطأ
ومن مصيب وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره فطرد الهم مذهب قد اتفقت
الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء ويعاقبه
عالم الحساب على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئا سواه وكل غرض غيره ففي الناس
من لا يستحسنه إذ في الناس من لا دين له فلا يعمل للآخرة وفي الناس من أهل
الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق وفي الناس من يؤثر الخمول بهواه
وإرادته على بعد الصيت وفي الناس من لا يريد المال ويؤثر عدمه على وجوده
ككثير من الأنبياء عليهم السلام ومن تلاهم من الزهاد والفلاسفة وفي الناس
من يبغض اللذات بطبعه ويستنقص طالبها كمن ذكرنا من المؤثرين فقد المال على
اقتنائه وفي الناس من يؤثر الجهل على العلم كأكثر من ترى من العامة وهذه
هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها وليس في العالم مذ كان إلى أن
يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد طرده عن نفسه فلما استقر في نفسي هذا
العلم الرفيع وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز
العظيم
بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس الذي
اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي
له فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة وإلا فإنما طلب
المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم وإنما طلب الصوت من طلبه ليطرد
به عن نفسه هم الاستعلاء عليها وإنما طلب اللذات من طلبها ليطرد بها عن
نفسه هم فوتها وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل وإنها
هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم
التوحد ومغيب أحوال العالم عنه وإنما أكل من أكل وشرب من شرب ونكح من نكح
ولبس من لبس ولعب من لعب واكتن من اكتن وركب من ركب ومشى من مشى وتودع من
تودع ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم وفي كل ما ذكرنا
لمن تدبره هموم حادثة لا بد لها من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر
منها وذهاب ما يوجد منها والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة وايضا نتائج سوء
تنتج بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك من خوف منافس أو طعن حاسد أو
إختلاس راغب أو اقتناء عدو مع الذم والإثم وغير ذلك ووجدت للعمل للآخرة
سالما من كل عيب خالصا من كل كدر موصلا إلى طرد الهم على الحقيقة ووجدت
العامل للآخرة إن امتحن
بمكروه في تلك
السبيل لم يهتم بل يسر إذ رجاؤه في عاقبه ما ينال به عون له على ما يطلب
وزايد في الغرض الذي إياه يقصد ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم
إذ ليس مؤاخذا بذلك فهو غير مؤثر في ما يطلب ورأيته إن قصد بالأذى سر وإن
نكبته نكبة سر وإن تعب فيما سلك فيه سر فهو في سرور متصل أبدا وغيره بخلاف
ذلك أبدا فاعلم أنه مطلوب واحد وهو طرد الهم وليس إليه إلا طريق واحد وهو
العمل لله تعالى فما عدا هذا فضلال وسخف لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى
منها وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل في دعاء إلى حق وفي حماية الحريم
وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى وفي نصر مظلوم وباذل نفسه في عرض
دنيا كبائع الياقوت بالحصى لا مروءة لمن لا دين له العاقل لا يرى لنفسه
ثمنا إلا الجنة لإبليس في ذم الرياء حبالة وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير
خوف أن يظن به الرياء
العقل
والراحة وهو اطراح المبالاة بكلام الناس واستعمال المبالاة بكلام الخالق
عز وجل بل هذا باب العقل والراحة كلها من قدر أنه يسلم من طعن الناس
وعيبهم فهو مجنون من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن
آلمتها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس
إياه أشد وأكثر من اغتباطه
بمدحهم إياه لأن مدحهم إياه إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب
فأفسد بذلك فضائله وإن كان بباطل فبلغه فسره فقد صار مسرورا بالكذب وهذا
نقص شديد وأما ذم الناس إياه فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سببا إلى
تجنبه ما يعاب عليه وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص وإن كان بباطل
وبلغه فصبر اكتسب فضلا زائدا بالحلم والصبر وكان مع ذلك غانما لأنه يأخذ
حسنات من ذمه بالباطل فيحظى بها في دار الجزاء أحوج ما يكون إلى النجاة
بأعمال لم يتعب فيها ولا تكلفها وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا مجنون وأما
إن لم يبلغه مدح الناس إياه فكلامهم
وسكوتهم
سواء وليس كذلك ذمهم إياه لأنه غانم للأجر على كل حال بلغه ذمهم أو لم
يبلغه ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء الحسن ( ذلك عاجل
بشرى المؤمن ) لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل أكثر من رغبته في
المدح بالحق ولكن إذ جاء هذا القول فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل
فإنما تجب البشرى بما في الممدوح لا بنفس المدح ليس بين الفضائل والرذائل
ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس وأنسها فقط فالسعيد من أنست نفسه
بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل والمعاصي والشقي من أنست نفسه
بالرذائل والمعاصي ونفرت من الفضائل والطاعات وليس ها هنا إلا صنع الله
تعالى وحفظه طالب الآخرة ليفوز في الآخرة متشبه بالملائكة وطالب الشر
متشبه بالشياطين وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع وطالب اللذات متشبه
بالبهائم وطالب المال لعين المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة
أسقط وأرذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شبه ولكنه يشبه الغدران التي
في الكهوف في المواضع الوعرة لا ينتفع بها شيء من الحيوان فالعاقل لا
يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد وإنما يغتبط بتقدمه في
الفضيلة التي أبانه الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات وهي
التمييز الذي يشارك فيه الملائكة فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير موضعها
لله عز وجل فليعلم أن النمر أجرأ منه وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه
ومن سر بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسما ومن سر
بحمله الأثقال فليعلم أن الحمار أحمل منه ومن سر بسرعة
عدوه
فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدوا منه ومن سر بحسن صوته فليعلم أن كثيرا
من الطير أحسن صوتا منه وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته فأي فخر وأي
سرور في ما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه لكن من قوي تمييزه واتسع
علمه وحسن عمله فليغتبط بذلك فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة
وخيار الناس قول الله تعالى { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى
فإن الجنة هي المأوى } جامع لكل فضيلة لأن نهي النفس عن الهوى هو ردعها عن
الطبع الغضبي وعن الطبع الشهواني لأن كليهما واقع تحت موجب الهوى فلم يبق
إلا استعمال النفس للنطق الموضوع فيها الذي به بانت عن البهائم والحشرات
والسباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي استوصاه ( لا تغضب ) وأمره
عليه السلام أن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه جامعان لكل فضيلة لأن في
نهيه عن الغضب ردع النفس ذات القوة الغضبية عن هواها وفي أمره عليه السلام
أن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه ردع النفس عن القوة الشهوانية وجمع لأزمة
العدل الذي هو فائدة النطق الموضوع في النفس الناطقة رأيت أكثر الناس إلا
من عصم الله تعالى وقليل ما هم يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في
الدنيا ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة بما لا يحظون معه بنفع
أصلا من نيات خبيثة
يضبون عليها من
تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار ومن لا ذنب له وتمني أشد البلاء لمن
يكرهونه وقد علموا يقينا أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل لهم شيئا مما
يتمنونه أو يوجب كونه وأنهم لو صفوا نياتهم وحسنوها لتعجلوا الراحة
لأنفسهم وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم ولاقتنوا بذلك عظيم الأجر في المعاد
من غير أن يؤخر ذلك شيئا مما يريدونه أو يمنع كونه فأي غبن أعظم من هذه
الحال التي نبهنا عليها وأي سعد أعظم من التي دعونا إليها إذا حققت مدة
الدنيا لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل الزمانين فقط وأما ما مضى وما لم
يأت فمعدومان كما لم يكن فمن أضل ممن يبيع باقيا خالدا بمدة هي أقل من كر
الطرف إذا نام المرء خرج عن الدنيا ونسي كل سرور وكل حزن فلو رتب نفسه في
يقظته على ذلك أيضا لسعد السعادة التامة من أساء إلى أهله وجيرانه فهو
أسقطهم ومن كافأ من أساء إليه منهم فهو مثلهم ومن لم يكافئهم بإساءتهم فهو
سيدهم وخيرهم وأفضلهم
العلم
لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويجلونك وأن العلماء يحبونك
ويكرمونك لكان ذلك سببا إلى وجوب طلبه فكيف بسائر فضائله في الدنيا
والآخرة ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويغبط نظراءه
من الجهال لكان ذلك سببا إلى وجوب
الفرار عنه فكيف بسائر رذائله في
الدنيا والآخرة لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع
المشتغل به عن الوساوس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم
وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داع إليه فكيف وله من الفضائل
ما يطول ذكره ومن أقلها ما ذكرنا مما يحصل عليه طالب العلم وفي مثله أتعب
ضعفاء الملوك أنفسهم فتشاغلوا عما ذكرنا بالشطرنج والنرد والخمر والأغاني
وركض الدواب في طلب الصيد وسائر الفضول التي تعود بالمضرة في الدنيا
والآخرة وأما فائدة فلا فائدة لو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه
العلم من الذل بتسلط
الجهال ومن الهم بمغيب
الحقائق عنه ومن الغبطة بما قد بان له وجهه من الأمور الخفية عن غيره لزاد
حمدا لله عز وجل وغطبة بما لديه من العلم ورغبة في المزيد منه من شغل نفسه
بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كزارع الذرة في الأرض التي
يجود فيها البر وكغارس الشعراء حيث يزكو النخل والزيتون نشر العلم عند من
ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى أو
كتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع من احتدام الصفراء الباخل بالعلم ألأم
من الباخل بالمال لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده والباخل بالعلم
بخل بما لا يفنى على النفقة ولا يفارقه مع البذل من مال بطبعه إلى علم ما
وإن كان أدنى من غيره فلا يشغلها بسواه فيكون كغارس النارجيل بالأندلس
وكغارس الزيتون بالهند وكل ذلك لا ينجب أجل العلوم ما قربك من خالقك تعالى
وما أعانك على الوصول إلى رضاه
أنظر في
المال والحال والصحة إلى من دونك وانظر في الدين والعلم والفضائل إلى من
فوقك العلوم الغامضة كالدواء القوي يصلح الأجساد القوية ويهلك الأجساد
الضعيفة وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة وتصفية من كل آفة
وتهلك ذا العقل الضعيف من الغوص على الجنون ما لو غاصه صاحبه على العقل
لكان أحكم من الحسن البصري وأفلاطون الأثيني وبزرجمهر الفارسي وقف العقل
عند أنه لا ينفع إن لم يؤيد بتوفيق في الدين أو بسعد في الدنيا لا تضر
بنفسك في أن تجرب بها الآراء الفاسدة لتري المشير بها فسادها فتهلك فإن
ملامة ذي الرأي الفاسد لك على مخالفته وأنت ناج من المكاره خير لك من أن
يعذرك ويندم كلاكما وأنت قد حصلت في مكاره إياك وأن تسر غيرك بما تسوء به
نفسك فيما لم توجبه عليك شريعة أو فضيلة وقف العلم عند الجهل بصفات الباري
عز وجل لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها
فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون
من
أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق
كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه أعاننا الله على الإتساء به بمنه آمين
غاظني أهل الجهل مرتين من عمري إحداهما بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي
والثانية بسكوتهم عن الكلام بحضرتي فهم أبدا ساكتون عما ينفعهم ناطقون
فيما يضرهم وسرني أهل العلم مرتين من عمري إحداهما بتعليمي أيام جهلي
والثانية بمذاكرتي أيام علمي من فضل العلم والزهد في الدنيا أنهما لا
يؤتيهما الله عز وجل إلا أهلهما ومستحقهما ومن نقص علو أحوال الدنيا من
المال والصوت أن أكثر ما يقعان في غير أهلهما وفيمن لا يستحقهما من طلب
الفضائل لم يساير إلا أهلها ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل
المواساة والبر والصدق وكرم العشيرة والصبر والوفاء والأمانة والحلم وصفاء
الضمائر وصحة المودة ومن طلب الجاه والمال واللذات لم يساير إلا أمثال
الكلاب الكلبة والثعالب الخلبة ولم يرافق في تلك الطريق إلا كل عدو
المعتقد خبيث الطبيعة منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أنه يعلم
حسن الفضائل
فيأتيها ولو في الندرة
ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ولو في الندرة ويسمع الثناء الحسن فيرغب في
مثله والثناء الرديء فينفر منه فعلى هذه المقدمات يجب أن يكون للعلم حصة
في كل فضيلة وللجهل حصة في كل رذيلة ولا يأتي الفضائل ممن لم يتعلم العلم
إلا صافي الطبع جدا فاضل التركيب وهذه منزلة خص بها النبيون عليهم الصلاة
والسلام لأن الله تعالى علمهم الخير كله دون أن يتعلموه من الناس وقد رأيت
من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه
حكيم عالم رائض لنفسه ولكنه قليل جدا ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود
الأنبياء عليهم السلام ووصايا الحكماء وهو لا يتقدمه في خبث السيرة وفساد
العلانية والسريرة شرار الخلق وهذا كثير جدا فعلمت أنهما مواهب وحرمان من
الله تعالى
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تطلع
النفس إلى ما يستر عنها من كلام مسموع أو شيء مرئي أو إلى المدح وبقاء
الذكر هذا أمران لا يكاد يسلم منهما أحد إلا ساقط الهمة جدا أو من راض
نفسه الرياضة التامة وقمع قوة نفسه الغضبية قمعا كاملا أو عانى مدواة شره
النفس إلى سماع كلام تستر به عنها أو
رؤية شيء اكتتم به دونها أن
يفكر فيما غاب عنها من هذا النوع في غير موضعه الذي هو فيه بل في أقطار
الأرض المتباينة فإن اهتم بكل ذلك فهو مجنون تام الجنون عديم العقل ألبتة
وإن لم يهتم لذلك فهل هذا الذي اختفي به عنه إلا كسائر ما غاب عنه منه
سواء بسواء ولا فرق ثم لنزد احتجاجا على هواه فليقل بلسان عقله لنفسه يا
نفس أرأيت إن لم تعلمي أن ههنا شيئا أخفي عليك أكنت تطلعين إلى معرفة ذلك
أم لا فلا بد من لا فليقل لنفسه فكوني الآن كما كنت تكونين لو لم تعلمي
بأن ههنا شيئا ستر عنك فتربحي الراحة وطرد الهم وألم القلق وقبح صفة الشره
وتلك غنائم كثيرة وأرباح جليلة وأغراض فاضلة سنية يرغب العاقل فيها ولا
يزهد فيها إلا تام النقص
وأما من علق وهمه
وفكره بأن يبعد اسمه في البلاد ويبقى ذكره على الدهر فليتفكر في نفسه
وليقل لها يا نفس أرأيت لو ذكرت بأفضل الذكر في جميع أقطار المعمور أبد
الأبد إلى انقضاء الدهر ثم لم يبلغني ذلك ولا عرفت به أكان لي في ذلك سرور
أو غبطة أم لا فلا بد من لا ولا سبيل إلى غيرها ألبتة فإذا صح وتيقن
فليعلم يقينا أنه إذا مات ولا سبيل له إلى علم أنه يذكر أو أنه لا يذكر
وكذلك إن كان حيا إذا لم يبلغه ثم ليتفكر أيضا في معنيين عظيمين أحدهما
كثرة من خلا من الفضلاء من الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم أولا
الذين لم يبق لهم على أديم الأرض عند أحد من الناس اسم ولا رسم ولا ذكر
ولا خبر ولا أثر بوجه من الوجوه ثم من الفضلاء الصالحين من أصحاب الأنبياء
السالفين والزهاد ومن الفلاسفة والعلماء والأخيار وملوك الأمم الدائرة
وبناة المدن الخالية وأتباع الملوك الذين أيضا قد انقطعت أخبارهم ولم يبق
لهم عند أحد علم ولا لأحد بهم معرفة أصلا ألبتة فهل ضر من كان فاضلا منهم
ذلك أو نقص من فضائلهم أو طمس من محاسنهم أو حط درجتهم عند بارئهم عز وجل
ومن جهل هذا الأمر فليعلم أنه ليس في شيء من الدنيا خبر عن ملوك من ملوك
الأجيال السالفة أبعد مما بأيدي الناس من تاريخ ملوك بني إسرائيل فقط ثم
ما بأيدينا من تاريخ ملوك اليونان والفرس وكل ذلك لا يتجاوز ألفي عام فأين
ذكر من عمر الدنيا قبل هؤلاء أليس قد دثر وفني وانقطع ونسي ألبتة وكذلك
قال الله تعالى { ورسلا لم نقصصهم عليك } وقال تعالى { وقرونا بين ذلك
كثيرا } وقال تعالى
{ والذين من بعدهم
لا يعلمهم إلا الله } فهل الإنسان وإن ذكر برهة من الدهر إلا كمن خلا قبل
من الأمم الغابرة الذين ذكروا ثم نسوا جملة ثم ليتفكر الإنسان في من ذكر
بخير أو بشر هل يزيده ذلك عند الله عز وجل درجة أو يكسبه فضيلة لم يكن
حازها بفعله أيام حياته فإذا كان هذا كما قلناه فالرغبة في الذكر رغبة
غرور ولا معنى له ولا فائدة فيه أصلا لكن إنما ينبغي أن يرغب الإنسان
العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البر التي يستحق من هي فيه الذكر
الجميل والثناء الحسن والمدح وحميد الصفة فهي التي تقربه من بارئه تعالى
وتجعله مذكورا عنده عز وجل الذكر الذي ينفعه ويحصل على بقاء فائدته ولا
يبيد أبد الأبد وبالله تعالى التوفيق شكر المنعم فرض واجب وإنما ذلك
بالمقارضة له بمثل ما أحسن فأكثر ثم بالتهمم بأموره والتأتي بحسن الدفاع
عنه ثم بالوفاء له حيا وميتا ولمن يتصل به من ساقة وأهل كذلك ثم بالتمادي
على وده ونصيحته ونشر محاسنه بالصدق وطي مساويه ما دمت حيا وتوريث ذلك
عقبك وأهل ودك وليس من الشكر عونه على الآثام وترك نصيحته فيما يوتغ به
دينه ودنياه بل من عاون من أحسن إليه على باطل فقد غشه وكفر إحسانه وظلمه
وجحد إنعامه وأيضا فإن إحسان الله تعالى وإنعامه على كل حال أعظم وأقدم
أو
هنأ من نعمة كل منعم دونه عز وجل فهو تعالى الذي شق لنا الأبصار الناظرة
وفتق فينا الآذان السامعة ومنحنا الحواس الفاضلة ورزقنا النطق والتمييز
اللذين بهما استأهلنا أن يخاطبنا وسخر لنا ما في السموات وما في الأرض من
الكواكب والعناصر ولم يفضل علينا من خلقه شيئا غير الملائكة المقدسين
الذين هم عمار السموات فقط فأين تقع نعم المنعمين من هذه النعم فمن قدر
أنه يشكر محسنا إليه بمساعدته على باطل أو بمحاباته فيما لا يجوز فقد كفر
نعمة أعظم المنعمين وجحد إحسان أجل المحسنين إليه ولم يشكر ولي الشكر حقا
ولا حمد أهل الحمد أصلا وهو الله عز وجل ومن حال بين المحسن إليه وبين
الباطل وأقامه على مر الحق فقد شكره حقا وأدى واجب حقه عليه مستوفى ولله
الحمد أولا وآخرا وعلى كل حال
حضور
مجالس العلم إذا حضرت مجلس علم فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علما وأجرا
لا حضور مستغن بما عندك طالبا عثرة تشيعها أو غريبة تشنعها فهذه أفعال
الأرذال الذين لا يفلحون في العلم أبدا فإذا حضرتها على هذه النية فقد
حصلت خيرا على كل حال وإن لم تحضرها على
هذه النية فجلوسك في منزلك
أروح لبدنك وأكرم لخلقك وأسلم لدينك فإذا حضرتها كما ذكرنا فالتزم أحد
ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي إما أن تسكت سكوت الجهال فتحصل على أجر النية
في المشاهدة وعلى الثناء عليك بقلة الفضول وعلى كرم المجالسة ومودة من
تجالس فإن لم تفعل ذلك فاسأل سؤال المتعلم فتحصل على هذه الأربع محاسن
وعلى خامسة وهي استزادة العلم وصفة سؤال المتعلم أن تسأل عما لا تدري لا
عما تدري فإن السؤال عما تدريه سخف وقلة عقل وشغل لكلامك وقطع لزمانك بما
لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك وربما أدى إلى اكتساب العداوات وهو بعد عين
الفضول
فيجب عليك أن لا تكون فضوليا فإنها صفة سوء فإن أجابك الذي سألت بما فيه
كفاية لك فاقطع الكلام وإن لم يجبك بما فيه كفاية أو أجابك بما لم تفهم
فقل له لم أفهم واستزده فإن لم يزدك بيانا وسكت أو أعاد عليك الكلام الأول
ولا مزيد فأمسك عنه وإلا حصلت على الشر والعداوة ولم تحصل على ما تريد من
الزيادة والوجه الثالث أن تراجع مراجعة العالم وصفة ذلك أن تعارض جوابه
بما ينقضه نقضا بينا فإن لم يكن ذلك عندك ولم يكن عندك إلا تكرار قولك أو
المعارضة بما لا يراه خصمك معارضة فأمسك فإنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر
ولا على تعليم ولا على تعلم بل على الغيظ لك ولخصمك والعداوة التي ربما
أدت إلى المضرات وإياك وسؤال المعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة
بغير علم فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين وكثرة الفضول وضعف العقل
وقوة السخف وحسبنا الله ونعم الوكيل وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على
كلام في كتاب فإياك أن تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المغالبة قبل
أن تتبين بطلانه ببرهان قاطع وأيضا فلا تقبل عليه إقبال المصدق به
المستحسن إياه قبل علمك بصحته ببرهان قاطع فتظلم في كلا الوجهين نفسك
وتبعد عن إدراك الحقيقة ولكن أقبل عليه إقبال سالم القلب عن النزاع عنه
والنزوع إليه إقبال من يريد حظ نفسه في فهم ما سمع ورأى
فالتزيد
به علما وقبوله إن كان حسنا أو رده إن كان خطأ فمضمون لك إن فعلت ذلك
الأجر الجزيل والحمد الكثير والفضل العميم من اكتفى بقليله عن كثير ما
عندك فقد ساواك في الغنى ولو أنك قارون حتى إذا تصاون في الكسب عما تشره
أنت إليه فقد حصل أغنى منك بكثير ومن ترفع عما تخضع إليه من أمور الدنيا
فهو أعز منك بكثير فرض على الناس تعلم الخير والعمل به فمن جمع الأمرين
فقد استوفى الفضيلتين معا ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعليم وأساء
في ترك العمل به فخلط عملا صالحا وآخر سيئا وهو خير من آخر لم يعلمه ولم
يعمل به وهذا الذي لا خير فيه أمثل حالا وأقل ذما من آخر ينهى عن تعلم
الخير ويصد عنه ولو لم ينه عن الشر إلا من ليس فيه منه شيء ولا أمر بالخير
إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر ولا أمر بخير بعد النبي صلى الله عليه
وسلم وحسبك بمن أدى رأيه إلى هذا فسادا وسوء طبع وذم حال وبالله تعالى
التوفيق قال أبو محمد رضي الله عنه فاعترض هاهنا إنسان فقال كان الحسن رضي
الله عنه إذا نهى عن شيء لا يأتيه أصلا وإذا أمر بشيء كان شديد الأخذ به
وهكذا تكون الحكمة وقد قيل أقبح شيء في العالم أن يأمر بشيء لا يأخذ به في
نفسه أو ينهى عن شيء يستعمله قال أبو محمد كذب قائل هذا وأقبح منه من لم
يأمر
بخير ولا نهى عن شر وهو مع ذلك يعمل الشر ولا يعمل الخير قال أبو محمد
وقال أبو الأسود الدؤلي ** لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت
عظيم ** وابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ** فهناك
يقبل إن وعظت ويقتدى ** بالعلم منك وينفع التعليم ** قال أبو محمد إن أبا
الأسود إنما قصد بالإنكار المجيء بما نهي عنه المرء وأنه يتضاعف قبحه منه
مع نهيه عنه فقد أحسن كما قال الله تعالى { أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم } ولا يظن بأبي الأسود إلا هذا وأما أن يكون نهى عن النهي عن الخلق
المذموم فنحن نعيذه بالله من هذا فهو فعل من لا خير فيه وقد صح عن الحسن
أنه سمع إنسانا يقول لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله فقال الحسن
ود إبليس لو ظفر منا بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر ولا يأمر بمعروف وقال
أبو محمد صدق الحسن وهو قولنا آنفا جعلنا الله ممن يوفق لفعل الخير والعمل
به وممن يبصر رشد نفسه فما أحد إلا له عيوب إذا نظرها شغلته عن غيره
وتوفانا على سنة محمد صلى الله عليه وسلم آمين رب العالمين مدارين لملوكهم
حافظين لرياستهم لكن هذا الخلق يسمى الدهاء وضده وقول الحق نور ** ذي أصول
الفضل عنها ** حدثت بعد البذور **
النفس إلى ما يستر عنها من كلام مسموع أو شيء مرئي أو إلى المدح وبقاء
الذكر هذا أمران لا يكاد يسلم منهما أحد إلا ساقط الهمة جدا أو من راض
نفسه الرياضة التامة وقمع قوة نفسه الغضبية قمعا كاملا أو عانى مدواة شره
النفس إلى سماع كلام تستر به عنها أو
رؤية شيء اكتتم به دونها أن
يفكر فيما غاب عنها من هذا النوع في غير موضعه الذي هو فيه بل في أقطار
الأرض المتباينة فإن اهتم بكل ذلك فهو مجنون تام الجنون عديم العقل ألبتة
وإن لم يهتم لذلك فهل هذا الذي اختفي به عنه إلا كسائر ما غاب عنه منه
سواء بسواء ولا فرق ثم لنزد احتجاجا على هواه فليقل بلسان عقله لنفسه يا
نفس أرأيت إن لم تعلمي أن ههنا شيئا أخفي عليك أكنت تطلعين إلى معرفة ذلك
أم لا فلا بد من لا فليقل لنفسه فكوني الآن كما كنت تكونين لو لم تعلمي
بأن ههنا شيئا ستر عنك فتربحي الراحة وطرد الهم وألم القلق وقبح صفة الشره
وتلك غنائم كثيرة وأرباح جليلة وأغراض فاضلة سنية يرغب العاقل فيها ولا
يزهد فيها إلا تام النقص
وأما من علق وهمه
وفكره بأن يبعد اسمه في البلاد ويبقى ذكره على الدهر فليتفكر في نفسه
وليقل لها يا نفس أرأيت لو ذكرت بأفضل الذكر في جميع أقطار المعمور أبد
الأبد إلى انقضاء الدهر ثم لم يبلغني ذلك ولا عرفت به أكان لي في ذلك سرور
أو غبطة أم لا فلا بد من لا ولا سبيل إلى غيرها ألبتة فإذا صح وتيقن
فليعلم يقينا أنه إذا مات ولا سبيل له إلى علم أنه يذكر أو أنه لا يذكر
وكذلك إن كان حيا إذا لم يبلغه ثم ليتفكر أيضا في معنيين عظيمين أحدهما
كثرة من خلا من الفضلاء من الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم أولا
الذين لم يبق لهم على أديم الأرض عند أحد من الناس اسم ولا رسم ولا ذكر
ولا خبر ولا أثر بوجه من الوجوه ثم من الفضلاء الصالحين من أصحاب الأنبياء
السالفين والزهاد ومن الفلاسفة والعلماء والأخيار وملوك الأمم الدائرة
وبناة المدن الخالية وأتباع الملوك الذين أيضا قد انقطعت أخبارهم ولم يبق
لهم عند أحد علم ولا لأحد بهم معرفة أصلا ألبتة فهل ضر من كان فاضلا منهم
ذلك أو نقص من فضائلهم أو طمس من محاسنهم أو حط درجتهم عند بارئهم عز وجل
ومن جهل هذا الأمر فليعلم أنه ليس في شيء من الدنيا خبر عن ملوك من ملوك
الأجيال السالفة أبعد مما بأيدي الناس من تاريخ ملوك بني إسرائيل فقط ثم
ما بأيدينا من تاريخ ملوك اليونان والفرس وكل ذلك لا يتجاوز ألفي عام فأين
ذكر من عمر الدنيا قبل هؤلاء أليس قد دثر وفني وانقطع ونسي ألبتة وكذلك
قال الله تعالى { ورسلا لم نقصصهم عليك } وقال تعالى { وقرونا بين ذلك
كثيرا } وقال تعالى
{ والذين من بعدهم
لا يعلمهم إلا الله } فهل الإنسان وإن ذكر برهة من الدهر إلا كمن خلا قبل
من الأمم الغابرة الذين ذكروا ثم نسوا جملة ثم ليتفكر الإنسان في من ذكر
بخير أو بشر هل يزيده ذلك عند الله عز وجل درجة أو يكسبه فضيلة لم يكن
حازها بفعله أيام حياته فإذا كان هذا كما قلناه فالرغبة في الذكر رغبة
غرور ولا معنى له ولا فائدة فيه أصلا لكن إنما ينبغي أن يرغب الإنسان
العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البر التي يستحق من هي فيه الذكر
الجميل والثناء الحسن والمدح وحميد الصفة فهي التي تقربه من بارئه تعالى
وتجعله مذكورا عنده عز وجل الذكر الذي ينفعه ويحصل على بقاء فائدته ولا
يبيد أبد الأبد وبالله تعالى التوفيق شكر المنعم فرض واجب وإنما ذلك
بالمقارضة له بمثل ما أحسن فأكثر ثم بالتهمم بأموره والتأتي بحسن الدفاع
عنه ثم بالوفاء له حيا وميتا ولمن يتصل به من ساقة وأهل كذلك ثم بالتمادي
على وده ونصيحته ونشر محاسنه بالصدق وطي مساويه ما دمت حيا وتوريث ذلك
عقبك وأهل ودك وليس من الشكر عونه على الآثام وترك نصيحته فيما يوتغ به
دينه ودنياه بل من عاون من أحسن إليه على باطل فقد غشه وكفر إحسانه وظلمه
وجحد إنعامه وأيضا فإن إحسان الله تعالى وإنعامه على كل حال أعظم وأقدم
أو
هنأ من نعمة كل منعم دونه عز وجل فهو تعالى الذي شق لنا الأبصار الناظرة
وفتق فينا الآذان السامعة ومنحنا الحواس الفاضلة ورزقنا النطق والتمييز
اللذين بهما استأهلنا أن يخاطبنا وسخر لنا ما في السموات وما في الأرض من
الكواكب والعناصر ولم يفضل علينا من خلقه شيئا غير الملائكة المقدسين
الذين هم عمار السموات فقط فأين تقع نعم المنعمين من هذه النعم فمن قدر
أنه يشكر محسنا إليه بمساعدته على باطل أو بمحاباته فيما لا يجوز فقد كفر
نعمة أعظم المنعمين وجحد إحسان أجل المحسنين إليه ولم يشكر ولي الشكر حقا
ولا حمد أهل الحمد أصلا وهو الله عز وجل ومن حال بين المحسن إليه وبين
الباطل وأقامه على مر الحق فقد شكره حقا وأدى واجب حقه عليه مستوفى ولله
الحمد أولا وآخرا وعلى كل حال
حضور
مجالس العلم إذا حضرت مجلس علم فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علما وأجرا
لا حضور مستغن بما عندك طالبا عثرة تشيعها أو غريبة تشنعها فهذه أفعال
الأرذال الذين لا يفلحون في العلم أبدا فإذا حضرتها على هذه النية فقد
حصلت خيرا على كل حال وإن لم تحضرها على
هذه النية فجلوسك في منزلك
أروح لبدنك وأكرم لخلقك وأسلم لدينك فإذا حضرتها كما ذكرنا فالتزم أحد
ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي إما أن تسكت سكوت الجهال فتحصل على أجر النية
في المشاهدة وعلى الثناء عليك بقلة الفضول وعلى كرم المجالسة ومودة من
تجالس فإن لم تفعل ذلك فاسأل سؤال المتعلم فتحصل على هذه الأربع محاسن
وعلى خامسة وهي استزادة العلم وصفة سؤال المتعلم أن تسأل عما لا تدري لا
عما تدري فإن السؤال عما تدريه سخف وقلة عقل وشغل لكلامك وقطع لزمانك بما
لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك وربما أدى إلى اكتساب العداوات وهو بعد عين
الفضول
فيجب عليك أن لا تكون فضوليا فإنها صفة سوء فإن أجابك الذي سألت بما فيه
كفاية لك فاقطع الكلام وإن لم يجبك بما فيه كفاية أو أجابك بما لم تفهم
فقل له لم أفهم واستزده فإن لم يزدك بيانا وسكت أو أعاد عليك الكلام الأول
ولا مزيد فأمسك عنه وإلا حصلت على الشر والعداوة ولم تحصل على ما تريد من
الزيادة والوجه الثالث أن تراجع مراجعة العالم وصفة ذلك أن تعارض جوابه
بما ينقضه نقضا بينا فإن لم يكن ذلك عندك ولم يكن عندك إلا تكرار قولك أو
المعارضة بما لا يراه خصمك معارضة فأمسك فإنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر
ولا على تعليم ولا على تعلم بل على الغيظ لك ولخصمك والعداوة التي ربما
أدت إلى المضرات وإياك وسؤال المعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة
بغير علم فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين وكثرة الفضول وضعف العقل
وقوة السخف وحسبنا الله ونعم الوكيل وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على
كلام في كتاب فإياك أن تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المغالبة قبل
أن تتبين بطلانه ببرهان قاطع وأيضا فلا تقبل عليه إقبال المصدق به
المستحسن إياه قبل علمك بصحته ببرهان قاطع فتظلم في كلا الوجهين نفسك
وتبعد عن إدراك الحقيقة ولكن أقبل عليه إقبال سالم القلب عن النزاع عنه
والنزوع إليه إقبال من يريد حظ نفسه في فهم ما سمع ورأى
فالتزيد
به علما وقبوله إن كان حسنا أو رده إن كان خطأ فمضمون لك إن فعلت ذلك
الأجر الجزيل والحمد الكثير والفضل العميم من اكتفى بقليله عن كثير ما
عندك فقد ساواك في الغنى ولو أنك قارون حتى إذا تصاون في الكسب عما تشره
أنت إليه فقد حصل أغنى منك بكثير ومن ترفع عما تخضع إليه من أمور الدنيا
فهو أعز منك بكثير فرض على الناس تعلم الخير والعمل به فمن جمع الأمرين
فقد استوفى الفضيلتين معا ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعليم وأساء
في ترك العمل به فخلط عملا صالحا وآخر سيئا وهو خير من آخر لم يعلمه ولم
يعمل به وهذا الذي لا خير فيه أمثل حالا وأقل ذما من آخر ينهى عن تعلم
الخير ويصد عنه ولو لم ينه عن الشر إلا من ليس فيه منه شيء ولا أمر بالخير
إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر ولا أمر بخير بعد النبي صلى الله عليه
وسلم وحسبك بمن أدى رأيه إلى هذا فسادا وسوء طبع وذم حال وبالله تعالى
التوفيق قال أبو محمد رضي الله عنه فاعترض هاهنا إنسان فقال كان الحسن رضي
الله عنه إذا نهى عن شيء لا يأتيه أصلا وإذا أمر بشيء كان شديد الأخذ به
وهكذا تكون الحكمة وقد قيل أقبح شيء في العالم أن يأمر بشيء لا يأخذ به في
نفسه أو ينهى عن شيء يستعمله قال أبو محمد كذب قائل هذا وأقبح منه من لم
يأمر
بخير ولا نهى عن شر وهو مع ذلك يعمل الشر ولا يعمل الخير قال أبو محمد
وقال أبو الأسود الدؤلي ** لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت
عظيم ** وابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ** فهناك
يقبل إن وعظت ويقتدى ** بالعلم منك وينفع التعليم ** قال أبو محمد إن أبا
الأسود إنما قصد بالإنكار المجيء بما نهي عنه المرء وأنه يتضاعف قبحه منه
مع نهيه عنه فقد أحسن كما قال الله تعالى { أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم } ولا يظن بأبي الأسود إلا هذا وأما أن يكون نهى عن النهي عن الخلق
المذموم فنحن نعيذه بالله من هذا فهو فعل من لا خير فيه وقد صح عن الحسن
أنه سمع إنسانا يقول لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله فقال الحسن
ود إبليس لو ظفر منا بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر ولا يأمر بمعروف وقال
أبو محمد صدق الحسن وهو قولنا آنفا جعلنا الله ممن يوفق لفعل الخير والعمل
به وممن يبصر رشد نفسه فما أحد إلا له عيوب إذا نظرها شغلته عن غيره
وتوفانا على سنة محمد صلى الله عليه وسلم آمين رب العالمين مدارين لملوكهم
حافظين لرياستهم لكن هذا الخلق يسمى الدهاء وضده وقول الحق نور ** ذي أصول
الفضل عنها ** حدثت بعد البذور **
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى