صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل وهذان الضلالان اعني الضلال والشقاء يذكرهما سبحانه كثيرا في
لكمال النعيم ولا يقال ان الاية إنما تدل على نفي العذاب فقط ولا خلاف ان مؤمنيهم لا يعاقبون لانا نقول لولم تدل الاية الا على امر عدمي فقط لم يكن مدحا لمؤمني الانس ولما كان فيها الا مجرد امرعدمي وهو عدم الخوف والحزن ومعلوم ان سياق الاية ومقصودها إنما اريد
به ان من اتبع هدى الله الذي انزله حصل له غاية النعيم واندفععنه غاية
الشقاء وعبر عن هذا المعنى المطلوب بنفي الامور المذكورة لاقتضاء الحال
لذلك فإنه لما اهبط آدم من الجنة حصل له من الخوف والحزن والشقاء ما حصل
فاخبره سبحانه انه معطيه وذريته عهدا من اتبعه منهم انتفى عنه الخوف
والحزن والضلال والشقاء ومعلوم انه لا ينتفى ذلك كله إلا بدخول دار النعيم
ولكن المقام بذكر التصريح بنفي غاية المكروهات اولى الثاني قوله تعالى وإذ
صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إناسمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق
مستقيم يا قومنا اجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من
عذاب اليم فأخبرنا سبحانه عن نذيرهم اخبارا بقوله ان من اجاب داعيه غفر له
وأجاره من العذاب ولو كانت المغفرة لهم إنما ينالون بها مجرد النجاة من العذاب كان ذلك حاصلا بقوله ويجركم من عذاب اليم بل تمام
المغفرة دخول الجنة والنجاة من النار فكل من غفر الله له فلا بد من دخوله
الجنة الثالث قوله تعالى في الحور العين لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فهذا
يدل على ان مؤمني الجن والانس يدخلون الجنة وأنه لم يسبق من احد منهم طمث
لاحد من الحور فدل على ان مؤمنيهم يتأنى منهم طمث الحور العين بعد الدخول كما يتأتى من الانس ولو كانوا ممن لا يدخل الجنة لما حسن
الاخبار عنهم بذلك الرابع قوله تعالى فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا
النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين وبشر الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ان لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا
منها من ثمرةرزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها
أزواج مطهرة وهم فيها خالدون والجن منهم مؤمن ومنهم كافر كما قال صالحوهم وانا منا المسلمون ومنا القاسطون فكما دخل
كافرهم في الاية الثانية وجب ان يدخل مؤمنهم في الاولى الخامس قوله عن
صالحيهم فمن اسلم فأولئك تحروا رشدا والرشد هو الهدى والفلاح وهو الذي يهدى
إليه القرآن ومن لم يدخل الجنة لم ينل غاية الرشد بل لم يحصل له من الرشد
الا مجردالعلم السادس قوله تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء
والارض اعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو
الفضل العظيم ومؤمنهم ممن آمن بالله ورسله فيدخل في المبشرين ويستحق
البشارة السابع قوله تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم عم
سبحانه
بالدعوة وخص بالهداية المفضية اليها فمن هداه اليها فهو من دعاه اليها فمن
اهتدى من الجن فهو من المدعوين اليها الثامن قوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا
يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال اولياؤهم من الانس ربنا استمتع
بعضنا ببعض وبلغنا اجلنا الذي اجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ان ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا
يكسبون يا معشر الجن والانس الم ياتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي
وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا
وشهدوا على انفسهم انهم كانوا كافرين ذلك ان لم يكن ربك مهلك القرى بظلم
واهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وهذا عام في الجن والانس فاخبرهم تعالى ان لكلهم درجات من عمله فاقتضى ان يكون لمحسنهم درجات من عمله كما لمحسن
الانس التاسع قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل
عليهم الملائكة ان لا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون
وقولوه تعالى أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون اولئك اصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا
يعملون ووجه التمسك بالاية من جوه ثلاثة احدها عموم الاسم الموصول فيها
الثاني ترتيبه الجزاء المذكورعلى المسألة ليدل على أنه مستحق بها وهو قول
ربنا الله مع الاستقامة والحكم يعم بعموم علته فإذا كان دخول الجنة مرتبا
على الاقرار بالله وربوبيته مع الاستقامة على امره فمن اتى ذلك استحق
الجزاء الثالث انه قال فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون اولئك اصحاب الجنة
خالدين فيها جزاء بما كانوايعملون
فدل على ان كل من لا خوف عليه ولا حزن فهو من اهل الجنة وقد تقدم في اول
الايات قوله تعالى فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وانه متناول
للفريقين ودلت هذه الاية على ان من لا خوف عليه ولا حزن فهو من اهل الجنة
العاشر انه إذا دخل مسيئهم النار بعدل الله فدخول محسنهم الجنة بفضله
ورحمته اولى فإن رحمته سبقت غضبه والفضل اغلب من العدل ولهذا لا يدخل النار
الا من عمل اعمال اهل النار واما الجنة فيدخلها من لم يعمل خيرا قط بل ينشيء لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه ويرفع فيها درجات العبد من غير سعي منه بل بما يصل إليه من دعاء المؤمنين وصلاتهم وصدقتهم وأعمال البر التي يهدونها إليه بخلاف اهل النار فإنه لا يعذب فيها بغير عمل اصلا وقد ثبت بنص القرآن واجماع الامة ان مسيء الجن في النار بعدل الله وبما كانوا يكسبون فمحسنهم في الجنة بفضل الله بما كانوا يعملون لكن قيل انهم يكونون في ربض الجنة يراهم اهل الجنة ولا يرونهم كما كانوا في الدنيا يرون بني آدم من حيث لا يرونهم ومثل هذا لايعلم الا بتوقيف تنقطع الحجة عنده فإن ثبتت حجة يجب اتباعها وإلا فهو مما يحكى ليعلم وصحته موقوفة على الدليل. والله أعلم.فصل ومتابعة هدى الله التي رتب عليها هذه الامور هي تصديق خبره من
لكانت ائمة تدعوا الى النار وهذا حال من تفرغ منها كما هومشاهد
بالعيان وسواء كان المعنى وخضتم كالحزب الذي خاضوا او كالفريق الذي خاضوا
فإن الذي يكون للواحد والجمع ونظيره قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به
اولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن
عند ربهم ذلك جزاء المحسنين لكن لا يجرى على جمع تصحيح فلا يجيء المسلمون
الذي جاؤوا وإنا يجيء غالبا في اسم الجمع كالحزب والفريق او حيث لا يذكر
الموصوف وان كان جمعا كقول الشاعر
وإن الذي جاءت تقبح دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
او
حيث يراد الجنس دون الواحد والعدد كقوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به
ثم قال اولئك هم المتقون ونظيره الاية التي نحن منها وهي قوله وخضتم كالذي
خاضوا او كان المعنى علىالقول الاخر وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوا فيكون
صفة لمصدر محذوف كقولك اضرب كالذي ضرب واحسن كالذي احسن ونظائره وعلى هذا
فيكون العائد منصوبا محذوفا وحذفه في مثل ذلك قياس مطرد على القولين فقد
ذمه سبحانه على الخوض بالباطل واتباع الشهوات واخبر ان من كانت هذه حالته
فقد حبط عمله في الدنيا والاخرة وهو من الخاسرين ونظير هذا قول اهل النار
لاهل الجنة وقد سألوهم كيف دخلوها قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم
المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين فذكروا الاصلين الخوض
بالباطل وما يتبعه من التكذيب بيوم الدين وايثار الشهوات وما يستلزمه من ترك الصلوات واطعام ذوي الحاجات فهذان الاصلان هماما هما والله ولي التوفيق
فصل
والقلب السليم الذي ينجو من عذاب الله هو القلب الذي قد سلممن هذا وهذا
فهو القلب الذي قد سلم لربه وسلم لامره ولم تبق فيه منازعة لامره ولا
معارضة لخبره فهو سليم مما سوى الله وأمره لا يريد الا الله ولا يفعل إلا ما أمره
الله فالله وحده غايته وامره وشرعه وسيلته وطريقته لا تعترضه شبهة تحول
بينه وبين تصديق خبره لكن لا تمر عليه إلا وهي مجتازة تعلم انه لا قرار لها
فيه ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من
الشرك وسليم من البدع وسليم من الغي وسليم من الباطل وكل الاقوال التي
قيلت في تفسيره فذلك يتضمنها وحقيقته انه القلب الذي قد سلم لعبودية ربه
حياء وخوفا وطمعا ورجاء ففنى بحبه عن حب ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وسلم لامره
ولرسوله تصديقا وطاعة كما تقدم
واستسلم لقضائه وقدره فلم يتهمه ولم ينازعه ولم يتسخط لاقداره فاسلم لربه
انقيادا وخضوعا وذلا وعبودية وسلم جميع احواله واقواله واعماله واذواقه ومواجيده ظاهرا وباطنا من مشاكة رسوله وعرض ما جاء من سواها عليها فما وافقها قبله وما خالفها رده وما لم يتبين له فيه موافقة ولا مخالفة وقف امره وأرجأه إلى ان
يتبين له وسالم أولياءه وحزبه المفلحين الذابين عن دينه وسنة نبيه
القائمين بها وعادى اعداءه المخالفين لكتابه وسنة نبيه الخارجين عنهما الداعين إلى خلافهما
فصل
وهذه المتابعة هي التلاوة التي اثنى الله على اهلها في قولهتعالى ان الذين
يتلون كتاب الله وفي قوله إن الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك
يؤمنون به والمعنى يتبعون كتاب الله حق اتباعه وقال تعالى اتل ما اوحى اليك من الكتاب واقم الصلاة وقال إنما امرت
ان اعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت ان اكون من المسلمين
وان اتلوا القرآن فحقيقة التلاوة في هذه المواضع هي التلاوة المطلقة التامة
وهي تلاوة اللفظ والمعنى فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة
اللفظ إنما هي
الاتباع يقال اتل اثر فلان وتلوت اثره وقفوته وقصصته بمعنى تبعت خلفه ومنه
قوله تعالى والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها أي تبعها في الطلوع بعد غيبتها
ويقال جاء القوم يتلو بعضهم بعضا أي يتبع وسمى تالي الكلام تاليا لانه
يتبع بعض الحروف بعضا لا يخرجها جملة واحدة بل يتبع بعضها بعضا مرتبة كلما انقضى
حرف او كلمة اتبعه بحرف آخر وكلمة اخرى وهذه التلاوة وسيلة وطريقة
والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه تصديقا بخبره وائتمارا بأمره وانتهاء بنهيه وائماما به حيث ما قادك
انقدت معه فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه وتلاوة المعنى اشرف من
مجرد تلاوة اللفظ وأهلها هم اهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والاخرة
فإنهم اهل تلاوة ومتابعة حقا
فصل ثم قال تعالى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشرهيوم القيامة اعمى لما أخبر
سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده اخبر عن حال من اعرض عنه ولم
يتبعه فقال ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا أي عن الذكر الذي انزلته
فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول وليس المعنى ومن اعرض
عن ان يذكرني بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره واحسن من هذا الوجه ان يقال الذكر هنا مضاف إضافة الاسماء لا إضافة المصادر إلى معمولاتها
والمعنى ومن اعرض عن كتابي ولم يتبعه فإن القرآن يسمى ذكرا قال تعالى وهذا
ذكر مبارك انزلناه وقال تعالى ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم
وقال تعالى وما هو الا ذكر للعالمين وقال تعالى إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز وقال تعالى إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن وعلى هذا فاضافته كاضافة الاسماء
الجوامد التي لا يقصد بها اضافة العامل الىمعموله ونظيره في اضافة اسم
الفاعل غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فإن هذه الاضافات لم يقصد بها
قصد الفعل المتجدد وإنما قصد
بها قصد الوصف الثابت اللازم وكذلك جرت اوصافا على اعرف المعارف وهو اسم
الله تعالى في قوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب
وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير
فصل
وقوله تعالى فإن له معيشة ضنكا فسرها غير واحد من السلف بعذابالقبر وجعلوا
هذه الاية احد الادلة الدالة على عذاب القبر ولهذا قال ونحشره يوم القيامة
اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها
وكذلك اليوم تنسى أي تترك في العذاب كماتركت
العمل بآياتنا فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوارونظيره قوله تعالى في حق
آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهذا في البرزخ ويوم تقوم الساعة
ادخلوا آل فرعون اشد العذاب فهذا في القيامة الكبرى ونظيره قوله تعالى ولو
ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم
اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم
تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون فقول الملائكة اليوم
تجزون عذاب الهون المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت ونظيره
قوله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم
وذوقوا عذاب الحريق فهذه الاذاقة هي في البرزخ واولها حين الوفاة فإنه
معطوف علىقوله يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة
الكلام عليه كنظائره وكلاهما واقع
وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضى الله عنه في قوله تعالى يثبت
الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال نزلت في
عذاب القبر والاحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر والمقصود ان الله
سبحانه اخبر ان من اعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى
فإن له معيشة ضنكا وتكفل لمن حفظ
عهده ان يحييه حياة
طيبة ويجزيه اجره في الآخرة فقال تعالى من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو
مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فاخبر سبحانه عن فلاح ما تمسك بعهده علماوعملا
في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الآخرة باحسن الجزاء وهذا بعكس من له
المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالاخرة وقال سبحانه
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وانهم ليصدونهم عن
السبيل ويحسبون انهم مهتدون فأخبر سبحانه ان من ابتلاه بقرينه من الشياطين
وضلاله به إنما كان
بسبب اعراضه وعشوه عن ذكره الذي انزله على رسوله فكان عقوبة هذا الاعراض
ان قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب انه مهتد
حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه وافلاسه قال يا ليت
بيني وبينك بعدالمشرقين فبئس القرين وكل من اعرض عن الاهتداء بالوحي الذي
هو ذكر الله فلا بد ان يقول هذا يوم القيامة فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة
إذا كان يحسب انه على هدى كما قال
تعالى ويحسبون انهم مهتدون قيل لا عذر لهذا وامثاله من الضلال الذين منشأ
ضلالهم الاعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ولو ظن
انه مهتد فإنه مفرط باعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضل فإنما اتى من تفريطه واعراضه وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول اليها فذاك له حكم آخر والوعيد في القرآن إنما يتناول الاول واما الثاني فإن الله لا يعذب احدا إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى في اهل النار وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال تعالى ان تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت
في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين او تقول لو ان الله هداني لكنت من
المتقين او تقول حين ترى العذاب لو ان لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد
جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا كثير في القرآن
فصل
وقوله تعالى ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني اعمىوقد كنت بصيرا
اختلف فيه هل هو من عمى البصيرة او من عمى البصر والذين قالوا هو من عمى
البصيرة إنما حملهم
على ذلك قوله اسمع بهم وابصر يوم ياتوننا وقوله لقدكنت في غفلة من هذا
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقوله يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ
للمجرمين وقوله لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية
في الآخرة كقوله تعالى وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقوله يوم يدعون إلى نار
جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون افسحر هذا ام انتم لا تبصرون
وقوله رأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها والذين رجحوا انه منعمى
البصر قالوا السياق لا يدل الا عليه لقوله قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت
بصيرا وهو لم يكن بصيرا في كفره قط بل قد تبين له حينئذ انه كان في الدنيا
في عمى عن الحق فكيف يقول وقد كنت بصيرا وكيف يجاب بقوله كذلك اتتك آياتنا
فنسيتها وكذلك اليوم تنسى بل هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمى البصر
وانه جوزي من جنس عمله فإنه لما اعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته أعمى الله بصره يوم القيامة وتركه في العذاب كما ترك
الذكر في الدنيا فجازاه على عمى بصيرته عمى في الآخرة وعلى تركه ذكره تركه
في العذاب وقال تعالى ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم
اولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وقد قيل في هذه الاية ايضا انهم عمي وبكم وصم عن الهدى كما قيل
في قوله ونحشره يوم القيامة اعمى قالوا لانهم يتكلمون يومئذ ويسمعون
ويبصرون ومن نصرانه العمى والبكم والصمم المضاد للبصر والسمع والنطق قال
بعضهم هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه ولهذا قد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يرون شيئا يسرهم وقال آخرون هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك ثم انهم يسمعون ويبصرون فيما بعد وهذامروى عن الحسن وقال آخرون هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبو الاسماع والابصار والنطق حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى اخسئوا فيها ولاتكلمون فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون ولا يسمع منهم الا الزفير والشهيق وهذا منقول عن مقاتل والذين قالوا المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم انهم لا حجة لهم ولم يريدوا ان لهم حجة هم عمى عنها بل هم عمىعن الهدى كما كانوا في الدنيا فان العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الاخر وانه عمى البصر فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا ويقر بما كان
يجحده في الدنيا فليس هو اعمى عن الحق يومئذ وفصل الخطاب ان الحشر هو الضم
والجمع ويراد به تارة الحشر الىموقف القيامةكقوله النبي صلى الله عليه و
سلم انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا وكقوله تعالى وإذا الوحوش حشرت وكقوله تعالى وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة
وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار قال تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا وقال تعالى احشروا الذين ظلموا أزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم فهذا الحشر هو بعدحشرهم الى الموقف وهو حشرهم وضمهم إلى النار
لانه قد اخبر عنهم انهم قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي
كنتم به تكذبون ثم قال تعالى احشروا الذين ظلموا وازواجهم وهذا الحشر
الثاني وعلى هذا فهم ما بين الحشر الاول من القبور الى الموقف والحشر الثاني من الموقف إلى النار فعند الحشر الاول يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما فلكل موقف حال يليق به ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته فالقرآن يصدق بعضه بعضا ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
فصل والمقصود ان الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراجآدم وذريته من الجنة اعاضهم افضل منها وهو ما اعطاهم من عهده الذي جعله سببا موصلا لهم إليه وطريقا واضحا بين الدلالة عليه من تمسك به فاز واهتدى ومن اعرض عنه شقى وغوى ولما كان
هذا العهد الكريم والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل إليه ابدا إلا
من باب العلم والارادة فالارادة باب الوصول إليه والعلم مفتاح ذلك الباب
المتوقف فتحه عليه وكمال كل انسان إنما يتم بهذين النوعين همة ترقيه وعلم يبصره ويهديه فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين او من احداهما اما ان لا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها او يكون عالما بها ولا تنهض همته اليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوسا وقلبه عن كماله
الذي خلق له مصدودا منكوسا قد أسام نفسه مع الانعام راعيا مع الهمل
واستطاب لقيعات الراحة والبطالة واستلان فراش العجز والكسل لا كمن رفع له
علم فشمر إليه وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه قد ابت
غلبات شوقه الا لهجرة إلى الله ورسوله ومقتت نفسه الرفقاء الا ابن سبيل يرافقه في سبيله ولما كان كمال الارادة بحسب كمال
مرادها وشرف العلم تابع لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة
له بدونها ولا حياة له إلا بها ان تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا
يبلى ولا يفوت وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت ولا سبيل له إلى هذا
المطلب الاسني والحظ الاوفى الا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله
وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيا وأقامه على هذا الطريق هاديا وجعله واسطة بينه
وبين الانام وداعيا لهم بإذنه إلى دار السلام وأبى سبحانه ان يفتح لاحد منهم الاعلى يديه او يقبل من احد منهم سعيا الا ان يكون مبتدأ منه ومنتهيا إليه
فالطرق كلها الا طريقة صلى الله عليه و سلم مسدودة والقلوب باسرها الا
قلوب اتباعه المنقادة إليه عن الله محبوسة مصدودة فحق على من كان في سعادة
نفسه ساعيا وكان قلبه حيا عن الله واعيا ان يجعل على هذين الاصلين مدار
اقواله واعماله وان يصيرهما اخبيته
التي اليها مفزعة في حياته وطاء له فلا جرم كان وضع هذا الكتاب مؤسسا على
هاتين القاعدتين ومقصوده التعريف بشرف هذين الاصلين وسميته مفتاح دار
السعادة ومنشور ولاية اهل العلم والارادة إذ كان هذا من بعض النزل والتحف
التي فتح الله بها على حين انقطاعي إليه عند بيته والقائي نفسي ببابه
مسكينا ذليلا وتعرض لنفحاته في بيته وحوله بكرة واصيلا فما خاب من انزل به حوائجه وعلق به آماله واصبح ببابه مقيما وبحماه نزيلا ولما كان العلم امام الارادة ومقدما عليها
ومفصلا لها ومرشدا لها قدمنا الكلام عليه على الكلام على المحبة ثم نتبعه
ان شاء الله بعد الفراغ منه كتابا في الكلام على المحبة واقسامها واحكامها
وفوائدها وثمراتها واسبابها وموانعها وما يقويها وما يضعفها
والاستدلال بسائر طرق الادلة من النقل والعقل والفطرة والقياس والاعتبار
والذوق والوجد على تعلقها بالاله الحق الذي لا إله غيره بل لا ينبغي ان
تكون إلا له ومن اجله والرد على من انكر ذلك وتبيين فساد قوله عقلا ونقلا
وفطرة وقياسا وذوقا ووجدا فهذا مضمون هذه التحفة وهذه عرائس معانيها الان
تجلى عليك وخود ابكارها البديعة الجمال ترفل في حللها وهي تزف اليك فاما شمس منازلها بسعد الاسعد وأما خود تزف إلى ضرير مقعد فاختر لنفسك احدى الخطتين وانزلها فيما شئت من المنزلتين ولا بد لكل نعمة من حاسد ولكل حق من جاحد ومعاند هذا وإنما اودع
من المعاني والنفائس رهن عند متأمله ومطالعه له غنمه وعلى مؤلفه غرمه وله
ثمرته ومنفعته ولصاحبه كله ومشقته مع تعرضه لطعن الطاعنين والاعتراض
المناقشين وهذه بضاعته المزجاة وعقله المدود يعرض على عقول العالمين
وإلقائه نفسه وعرضه بين مخالب الحاسدين وانياب البغاة المعتدين فلك ايها
القارئ صفوه ولمؤلفه كدره وهو الذي تجشم غراسه وتعبه ولك ثمره وها هو قد
استهدف لسهام الراشقين واستعذر إلى الله من الزلل والخطأ ثم إلى عباده
المؤمنين اللهم فعياذا بك ممن قصر في العلم والدين باعه وطالت في الجهل
وآذى عبادك ذراعه فهو لجهله يرى الاحسان اساءة والسنة بدعة والعرف نكرا
ولظلمه يجزى بالحسنة سيئة كاملة وبالسيئة الواحدة عشرا قد اتخذ بطر الحق
وغمط الناس سلما إلى ما يحبه من الباطل ويرضاه ولا يعرف من المعروف ولا ينكر من المنكر الا ما وافق إرادته او حالف هواه يستطيل على اولياء الرسول وحزبه باصغريه ويجالس اهل الغي والجهالة ويزاحمهم بركبتيه قد ارتوى من ماء آجن ونضلع واستشرف إلى مراتب
ورثة الانبياء وتطلع يركض
في ميدان جهله مع الجاهلين ويبرز عليهم في الجهالة فيظن انه من السابقين
وهو عند الله ورسوله والمؤمنين عن تلك الوراثة النبوية بمعزل وإذا انزل
الورثة منازلهم منها فمنزلته منها اقصى وابعد منزل
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء ابعد منزل
وعياذا بك ممن جعل الملامة بضاعته والعذل نصيحته فهو دائما يبدى
في الملامة ويعيد ويكرر على العذل فلا يفيد ولا يستفيد بل عياذا بك من عدو
في صورة ناصح وولى في مسلاخ بعيد كاشح يجعل عداوته واذاه حذرا وإشفاقا
وتنفيره وتخذيله اسعافا وإرفاقا وإذا كانت العين لا تكاد إلا على هؤلاء
تفتح والميزان بهم يخف ولا يرجح فما احرى اللبيب بأن لا يعيرهم من قلبه جزا من الالتفات ويسافر في طريق مقصده بينهم سفره إلى الاحياء بين الاموات وما احسن ما قال القائل :
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... واجسامهم قبل القبور قبور
وارواحهم
في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور اللهم فلك الحمد واليك
المشتكى وانت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بك
وانت حسبنا ونعم الوكيل فلنشرع الان في المقصود بحول الله وقوته فنقول
الاصل الاول في العلم وفضله وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه وتوقف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه
قال الله تعال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائمابالقسط
لا إله إلا هو العزيز الحكيم استشهد سبحانه باولى العلم على اجل مشهود
عليه وهوتوحيده فقال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائما بالقسط
وهذا يدل على فضل العلم واهله من وجوه احدها استشهادهم دون غيرهم من البشر
والثاني اقتران شهادتهم بشهادته والثالث اقترانها بشهادة ملائكته والرابع
ان في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فان الله لا يستشهد من خلقه الا العدول
ومنه الاثر المعروف عن النبي صلى الله عليه و سلم يحمل هذا العلم من كل خلف
عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وقال
محمد بن احمد بن يعقوب بن شيبة رأيت رجلا قدم رجلا إلى اسماعيل بن إسحاق القاضي
كلامه ويخبر انهما حظ اعدائه ويذكر ضدهما وهما الهدى والفلاح كثيرا ويخبر انهما حظ اوليائه اما الاول فكقوله تعالى ان المجرمين في ضلال وسعر فالضلال الضلال والسعر هو الشقاء والعذاب وقال تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين وأما الثاني فكقوله تعالى في أول البقرة وقد ذكر المؤمنين وصفاتهم اولئك على هدى من ربهم واولئك هم المفلحون وكذلك في أول لقمان وقال في الانعام الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون ولما كانت سورة ام القرآن اعظم سورة في القرآن وافرضها قراءة على الامة واجمعها لكل ما يحتاج
إليه العبد واعمها نفعا ذكر فيها الامرين فأمرنا ان نقول اهدنا الصراط
المستقيم صراط الذين انعمت عليهم فذكر الهداية والنعمة وهما الهدى
والفلاح ثم قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فذكر المغضوب عليهم وهم اهل
الشقاء والضالين وهم اهل الضلال وكل من الطائفتين له الضلال والشقاء لكن
ذكر الوصفين معا لتكن الدلالة على كل منهما بصريح لفظه وأيضا فإنه ذكر ماهو
اظهر الوصفين في كل طائفة فإن الغضب على اليهود أظهر لعنادهم الحق
بعدمعرفته والضلال في النصارى اظهر لغلبة الجهل فيهم وقد صح عن النبي صلى
الله عليه و سلم انه قال اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون
فصل وقوله تعالى فاما ياتينكم مني هدى هو خطاب لمن اهبطه من الجنةبقوله اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ثم قال فاما يأتينكم مني هدى وكلا الخطابين لابوي الثقلين وهو دليل على ان الجن مامورون منهيون داخلون تحت شرائع الانبياء وهذا مما لا خلاف فيه بين الامة وان نبينا بعث اليهم كما بعث إلى الانس كما لا خلاف بينها ان مسيئهم مستحق للعقاب وانما اختلف علماء الاسلام في المسلم منهم هل يدخل الجنة فالجمهور على ان محسنهم في الجنة كما ان مسيئهم في النار وقيل بل ثوابهم سلامتهم من الجحيم واما الجنة فلا يدخلها احد من اولاد إبليس وإنماهي
لبني آدم وصالحي ذريته خاصة وحكى هذا القول عن ابي حنيفة رحمه الله تعالى
واحتج الاولون بوجوه احدها هذه الاية فانه سبحانه اخبر ان من اتبع هداه فلا
يخاف ولا يحزن ولا يضل ولا يشقى وهذا مستلزم
إليه العبد واعمها نفعا ذكر فيها الامرين فأمرنا ان نقول اهدنا الصراط
المستقيم صراط الذين انعمت عليهم فذكر الهداية والنعمة وهما الهدى
والفلاح ثم قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فذكر المغضوب عليهم وهم اهل
الشقاء والضالين وهم اهل الضلال وكل من الطائفتين له الضلال والشقاء لكن
ذكر الوصفين معا لتكن الدلالة على كل منهما بصريح لفظه وأيضا فإنه ذكر ماهو
اظهر الوصفين في كل طائفة فإن الغضب على اليهود أظهر لعنادهم الحق
بعدمعرفته والضلال في النصارى اظهر لغلبة الجهل فيهم وقد صح عن النبي صلى
الله عليه و سلم انه قال اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون
فصل وقوله تعالى فاما ياتينكم مني هدى هو خطاب لمن اهبطه من الجنةبقوله اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ثم قال فاما يأتينكم مني هدى وكلا الخطابين لابوي الثقلين وهو دليل على ان الجن مامورون منهيون داخلون تحت شرائع الانبياء وهذا مما لا خلاف فيه بين الامة وان نبينا بعث اليهم كما بعث إلى الانس كما لا خلاف بينها ان مسيئهم مستحق للعقاب وانما اختلف علماء الاسلام في المسلم منهم هل يدخل الجنة فالجمهور على ان محسنهم في الجنة كما ان مسيئهم في النار وقيل بل ثوابهم سلامتهم من الجحيم واما الجنة فلا يدخلها احد من اولاد إبليس وإنماهي
لبني آدم وصالحي ذريته خاصة وحكى هذا القول عن ابي حنيفة رحمه الله تعالى
واحتج الاولون بوجوه احدها هذه الاية فانه سبحانه اخبر ان من اتبع هداه فلا
يخاف ولا يحزن ولا يضل ولا يشقى وهذا مستلزم
لكمال النعيم ولا يقال ان الاية إنما تدل على نفي العذاب فقط ولا خلاف ان مؤمنيهم لا يعاقبون لانا نقول لولم تدل الاية الا على امر عدمي فقط لم يكن مدحا لمؤمني الانس ولما كان فيها الا مجرد امرعدمي وهو عدم الخوف والحزن ومعلوم ان سياق الاية ومقصودها إنما اريد
به ان من اتبع هدى الله الذي انزله حصل له غاية النعيم واندفععنه غاية
الشقاء وعبر عن هذا المعنى المطلوب بنفي الامور المذكورة لاقتضاء الحال
لذلك فإنه لما اهبط آدم من الجنة حصل له من الخوف والحزن والشقاء ما حصل
فاخبره سبحانه انه معطيه وذريته عهدا من اتبعه منهم انتفى عنه الخوف
والحزن والضلال والشقاء ومعلوم انه لا ينتفى ذلك كله إلا بدخول دار النعيم
ولكن المقام بذكر التصريح بنفي غاية المكروهات اولى الثاني قوله تعالى وإذ
صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إناسمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق
مستقيم يا قومنا اجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من
عذاب اليم فأخبرنا سبحانه عن نذيرهم اخبارا بقوله ان من اجاب داعيه غفر له
وأجاره من العذاب ولو كانت المغفرة لهم إنما ينالون بها مجرد النجاة من العذاب كان ذلك حاصلا بقوله ويجركم من عذاب اليم بل تمام
المغفرة دخول الجنة والنجاة من النار فكل من غفر الله له فلا بد من دخوله
الجنة الثالث قوله تعالى في الحور العين لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فهذا
يدل على ان مؤمني الجن والانس يدخلون الجنة وأنه لم يسبق من احد منهم طمث
لاحد من الحور فدل على ان مؤمنيهم يتأنى منهم طمث الحور العين بعد الدخول كما يتأتى من الانس ولو كانوا ممن لا يدخل الجنة لما حسن
الاخبار عنهم بذلك الرابع قوله تعالى فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا
النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين وبشر الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ان لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا
منها من ثمرةرزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها
أزواج مطهرة وهم فيها خالدون والجن منهم مؤمن ومنهم كافر كما قال صالحوهم وانا منا المسلمون ومنا القاسطون فكما دخل
كافرهم في الاية الثانية وجب ان يدخل مؤمنهم في الاولى الخامس قوله عن
صالحيهم فمن اسلم فأولئك تحروا رشدا والرشد هو الهدى والفلاح وهو الذي يهدى
إليه القرآن ومن لم يدخل الجنة لم ينل غاية الرشد بل لم يحصل له من الرشد
الا مجردالعلم السادس قوله تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء
والارض اعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو
الفضل العظيم ومؤمنهم ممن آمن بالله ورسله فيدخل في المبشرين ويستحق
البشارة السابع قوله تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم عم
سبحانه
بالدعوة وخص بالهداية المفضية اليها فمن هداه اليها فهو من دعاه اليها فمن
اهتدى من الجن فهو من المدعوين اليها الثامن قوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا
يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال اولياؤهم من الانس ربنا استمتع
بعضنا ببعض وبلغنا اجلنا الذي اجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ان ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا
يكسبون يا معشر الجن والانس الم ياتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي
وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا
وشهدوا على انفسهم انهم كانوا كافرين ذلك ان لم يكن ربك مهلك القرى بظلم
واهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وهذا عام في الجن والانس فاخبرهم تعالى ان لكلهم درجات من عمله فاقتضى ان يكون لمحسنهم درجات من عمله كما لمحسن
الانس التاسع قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل
عليهم الملائكة ان لا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون
وقولوه تعالى أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون اولئك اصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا
يعملون ووجه التمسك بالاية من جوه ثلاثة احدها عموم الاسم الموصول فيها
الثاني ترتيبه الجزاء المذكورعلى المسألة ليدل على أنه مستحق بها وهو قول
ربنا الله مع الاستقامة والحكم يعم بعموم علته فإذا كان دخول الجنة مرتبا
على الاقرار بالله وربوبيته مع الاستقامة على امره فمن اتى ذلك استحق
الجزاء الثالث انه قال فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون اولئك اصحاب الجنة
خالدين فيها جزاء بما كانوايعملون
فدل على ان كل من لا خوف عليه ولا حزن فهو من اهل الجنة وقد تقدم في اول
الايات قوله تعالى فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وانه متناول
للفريقين ودلت هذه الاية على ان من لا خوف عليه ولا حزن فهو من اهل الجنة
العاشر انه إذا دخل مسيئهم النار بعدل الله فدخول محسنهم الجنة بفضله
ورحمته اولى فإن رحمته سبقت غضبه والفضل اغلب من العدل ولهذا لا يدخل النار
الا من عمل اعمال اهل النار واما الجنة فيدخلها من لم يعمل خيرا قط بل ينشيء لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه ويرفع فيها درجات العبد من غير سعي منه بل بما يصل إليه من دعاء المؤمنين وصلاتهم وصدقتهم وأعمال البر التي يهدونها إليه بخلاف اهل النار فإنه لا يعذب فيها بغير عمل اصلا وقد ثبت بنص القرآن واجماع الامة ان مسيء الجن في النار بعدل الله وبما كانوا يكسبون فمحسنهم في الجنة بفضل الله بما كانوا يعملون لكن قيل انهم يكونون في ربض الجنة يراهم اهل الجنة ولا يرونهم كما كانوا في الدنيا يرون بني آدم من حيث لا يرونهم ومثل هذا لايعلم الا بتوقيف تنقطع الحجة عنده فإن ثبتت حجة يجب اتباعها وإلا فهو مما يحكى ليعلم وصحته موقوفة على الدليل. والله أعلم.فصل ومتابعة هدى الله التي رتب عليها هذه الامور هي تصديق خبره من
غير اعتراض شبهة تقدح في تصديقه وامتثال امره من غير اعتراض شهوة تمنع امتثاله وعلى هذين الاصلين مدار الايمان وهما تصديق الخبر وطاعة الامر ويتبعهما امران آخران وهما نفي شبهات الباطل الواردة عليه المانعة من كمال التصديق وان لا يخمش بها وجه تصديقه ودفع شهوات الغي الواردة عليه المانعة من كمال
الامتثال فهنا اربعة امور احدها تصديق الخبر الثاني بذل الاجتهاد في رد
الشبهات التي توحيها شياطين الجن والانس في معارضته الثالث طاعة الامر
والرابع مجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة وهذان الامران اعني الشبهات والشهوات اصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده كما ان الاصلين الاولين وهما تصديق الخبر وطاعة الامر اصل سعادته وفلاحه في معاشه ومعاده وذلك ان العبد له قوتان قوة الادراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام وقوة الارادة والحب وما يتبعه من النية والعزم والعمل فالشبهة تؤثر فسادا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها والشهوة تؤثر فسادا في القوة الارادية العملية ما لم يداوها باخراجها قال الله تعالى في حق نبيه يذكر مامن به عليه من نزاهته وطهارته مما يلحق غيره من ذلك والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فما ضل دليل على كمال علمه ومعرفته وانه على الحق المبين وما غوى دليل على كمال
رشده وأنه أبر العالمين فهو الكامل في علمه وفي عمله وقد وصف صلى الله
عليه و سلم بذلك خلفاءه من بعده وأمر باتباعهم على سنتهم فقال عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي رواه الترمذي وغيره فالراشد ضد
الغاوي والمهدي ضد الضال وقد قال تعالى كالذين من قبلكم كانوا اشد منكم قوة
وأكثر اموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا اولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرةوأولئك هم الخاسرون فذكر تعالى الاصلين وهما دار الاولين والاخرين احدهما الاستمتاع بالخلاف وهو النصيب من الدنيا والاستمتاع به متضمن لنيل الشهوات المانعة
من متابعة الامر بخلاف المؤمن فإنه وان نال من الدنيا وشهواتها فإنه لا
يستمتع بنصيبه كله ولا يذهب طيباته في حياته الدنيا بل ينال منها ما ينال
منها ليتقوى به على التزود لمعاده والثاني الخوض بالشبهات الباطلة وهو
قوله وخضتم كالذي خاضوا وهذا شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق للآخرة
لاتزال ساعية في نيل شهواتها فإذا نالتها فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والاجل ومن تمام
حكمة الله تعالى انه يبتلى هذه النفوس بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها
وشهواتها فلا تتفرغ للخوض بالباطل الا قليلا ولو تفرغت هذه النفوس
الباطولية
الامتثال فهنا اربعة امور احدها تصديق الخبر الثاني بذل الاجتهاد في رد
الشبهات التي توحيها شياطين الجن والانس في معارضته الثالث طاعة الامر
والرابع مجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة وهذان الامران اعني الشبهات والشهوات اصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده كما ان الاصلين الاولين وهما تصديق الخبر وطاعة الامر اصل سعادته وفلاحه في معاشه ومعاده وذلك ان العبد له قوتان قوة الادراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام وقوة الارادة والحب وما يتبعه من النية والعزم والعمل فالشبهة تؤثر فسادا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها والشهوة تؤثر فسادا في القوة الارادية العملية ما لم يداوها باخراجها قال الله تعالى في حق نبيه يذكر مامن به عليه من نزاهته وطهارته مما يلحق غيره من ذلك والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فما ضل دليل على كمال علمه ومعرفته وانه على الحق المبين وما غوى دليل على كمال
رشده وأنه أبر العالمين فهو الكامل في علمه وفي عمله وقد وصف صلى الله
عليه و سلم بذلك خلفاءه من بعده وأمر باتباعهم على سنتهم فقال عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي رواه الترمذي وغيره فالراشد ضد
الغاوي والمهدي ضد الضال وقد قال تعالى كالذين من قبلكم كانوا اشد منكم قوة
وأكثر اموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا اولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرةوأولئك هم الخاسرون فذكر تعالى الاصلين وهما دار الاولين والاخرين احدهما الاستمتاع بالخلاف وهو النصيب من الدنيا والاستمتاع به متضمن لنيل الشهوات المانعة
من متابعة الامر بخلاف المؤمن فإنه وان نال من الدنيا وشهواتها فإنه لا
يستمتع بنصيبه كله ولا يذهب طيباته في حياته الدنيا بل ينال منها ما ينال
منها ليتقوى به على التزود لمعاده والثاني الخوض بالشبهات الباطلة وهو
قوله وخضتم كالذي خاضوا وهذا شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق للآخرة
لاتزال ساعية في نيل شهواتها فإذا نالتها فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والاجل ومن تمام
حكمة الله تعالى انه يبتلى هذه النفوس بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها
وشهواتها فلا تتفرغ للخوض بالباطل الا قليلا ولو تفرغت هذه النفوس
الباطولية
لكانت ائمة تدعوا الى النار وهذا حال من تفرغ منها كما هومشاهد
بالعيان وسواء كان المعنى وخضتم كالحزب الذي خاضوا او كالفريق الذي خاضوا
فإن الذي يكون للواحد والجمع ونظيره قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به
اولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن
عند ربهم ذلك جزاء المحسنين لكن لا يجرى على جمع تصحيح فلا يجيء المسلمون
الذي جاؤوا وإنا يجيء غالبا في اسم الجمع كالحزب والفريق او حيث لا يذكر
الموصوف وان كان جمعا كقول الشاعر
وإن الذي جاءت تقبح دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
او
حيث يراد الجنس دون الواحد والعدد كقوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به
ثم قال اولئك هم المتقون ونظيره الاية التي نحن منها وهي قوله وخضتم كالذي
خاضوا او كان المعنى علىالقول الاخر وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوا فيكون
صفة لمصدر محذوف كقولك اضرب كالذي ضرب واحسن كالذي احسن ونظائره وعلى هذا
فيكون العائد منصوبا محذوفا وحذفه في مثل ذلك قياس مطرد على القولين فقد
ذمه سبحانه على الخوض بالباطل واتباع الشهوات واخبر ان من كانت هذه حالته
فقد حبط عمله في الدنيا والاخرة وهو من الخاسرين ونظير هذا قول اهل النار
لاهل الجنة وقد سألوهم كيف دخلوها قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم
المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين فذكروا الاصلين الخوض
بالباطل وما يتبعه من التكذيب بيوم الدين وايثار الشهوات وما يستلزمه من ترك الصلوات واطعام ذوي الحاجات فهذان الاصلان هماما هما والله ولي التوفيق
فصل
والقلب السليم الذي ينجو من عذاب الله هو القلب الذي قد سلممن هذا وهذا
فهو القلب الذي قد سلم لربه وسلم لامره ولم تبق فيه منازعة لامره ولا
معارضة لخبره فهو سليم مما سوى الله وأمره لا يريد الا الله ولا يفعل إلا ما أمره
الله فالله وحده غايته وامره وشرعه وسيلته وطريقته لا تعترضه شبهة تحول
بينه وبين تصديق خبره لكن لا تمر عليه إلا وهي مجتازة تعلم انه لا قرار لها
فيه ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من
الشرك وسليم من البدع وسليم من الغي وسليم من الباطل وكل الاقوال التي
قيلت في تفسيره فذلك يتضمنها وحقيقته انه القلب الذي قد سلم لعبودية ربه
حياء وخوفا وطمعا ورجاء ففنى بحبه عن حب ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وسلم لامره
ولرسوله تصديقا وطاعة كما تقدم
واستسلم لقضائه وقدره فلم يتهمه ولم ينازعه ولم يتسخط لاقداره فاسلم لربه
انقيادا وخضوعا وذلا وعبودية وسلم جميع احواله واقواله واعماله واذواقه ومواجيده ظاهرا وباطنا من مشاكة رسوله وعرض ما جاء من سواها عليها فما وافقها قبله وما خالفها رده وما لم يتبين له فيه موافقة ولا مخالفة وقف امره وأرجأه إلى ان
يتبين له وسالم أولياءه وحزبه المفلحين الذابين عن دينه وسنة نبيه
القائمين بها وعادى اعداءه المخالفين لكتابه وسنة نبيه الخارجين عنهما الداعين إلى خلافهما
فصل
وهذه المتابعة هي التلاوة التي اثنى الله على اهلها في قولهتعالى ان الذين
يتلون كتاب الله وفي قوله إن الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك
يؤمنون به والمعنى يتبعون كتاب الله حق اتباعه وقال تعالى اتل ما اوحى اليك من الكتاب واقم الصلاة وقال إنما امرت
ان اعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت ان اكون من المسلمين
وان اتلوا القرآن فحقيقة التلاوة في هذه المواضع هي التلاوة المطلقة التامة
وهي تلاوة اللفظ والمعنى فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة
اللفظ إنما هي
الاتباع يقال اتل اثر فلان وتلوت اثره وقفوته وقصصته بمعنى تبعت خلفه ومنه
قوله تعالى والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها أي تبعها في الطلوع بعد غيبتها
ويقال جاء القوم يتلو بعضهم بعضا أي يتبع وسمى تالي الكلام تاليا لانه
يتبع بعض الحروف بعضا لا يخرجها جملة واحدة بل يتبع بعضها بعضا مرتبة كلما انقضى
حرف او كلمة اتبعه بحرف آخر وكلمة اخرى وهذه التلاوة وسيلة وطريقة
والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه تصديقا بخبره وائتمارا بأمره وانتهاء بنهيه وائماما به حيث ما قادك
انقدت معه فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه وتلاوة المعنى اشرف من
مجرد تلاوة اللفظ وأهلها هم اهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والاخرة
فإنهم اهل تلاوة ومتابعة حقا
فصل ثم قال تعالى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشرهيوم القيامة اعمى لما أخبر
سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده اخبر عن حال من اعرض عنه ولم
يتبعه فقال ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا أي عن الذكر الذي انزلته
فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول وليس المعنى ومن اعرض
عن ان يذكرني بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره واحسن من هذا الوجه ان يقال الذكر هنا مضاف إضافة الاسماء لا إضافة المصادر إلى معمولاتها
والمعنى ومن اعرض عن كتابي ولم يتبعه فإن القرآن يسمى ذكرا قال تعالى وهذا
ذكر مبارك انزلناه وقال تعالى ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم
وقال تعالى وما هو الا ذكر للعالمين وقال تعالى إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز وقال تعالى إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن وعلى هذا فاضافته كاضافة الاسماء
الجوامد التي لا يقصد بها اضافة العامل الىمعموله ونظيره في اضافة اسم
الفاعل غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فإن هذه الاضافات لم يقصد بها
قصد الفعل المتجدد وإنما قصد
بها قصد الوصف الثابت اللازم وكذلك جرت اوصافا على اعرف المعارف وهو اسم
الله تعالى في قوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب
وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير
فصل
وقوله تعالى فإن له معيشة ضنكا فسرها غير واحد من السلف بعذابالقبر وجعلوا
هذه الاية احد الادلة الدالة على عذاب القبر ولهذا قال ونحشره يوم القيامة
اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها
وكذلك اليوم تنسى أي تترك في العذاب كماتركت
العمل بآياتنا فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوارونظيره قوله تعالى في حق
آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهذا في البرزخ ويوم تقوم الساعة
ادخلوا آل فرعون اشد العذاب فهذا في القيامة الكبرى ونظيره قوله تعالى ولو
ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم
اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم
تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون فقول الملائكة اليوم
تجزون عذاب الهون المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت ونظيره
قوله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم
وذوقوا عذاب الحريق فهذه الاذاقة هي في البرزخ واولها حين الوفاة فإنه
معطوف علىقوله يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة
الكلام عليه كنظائره وكلاهما واقع
وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضى الله عنه في قوله تعالى يثبت
الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال نزلت في
عذاب القبر والاحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر والمقصود ان الله
سبحانه اخبر ان من اعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى
فإن له معيشة ضنكا وتكفل لمن حفظ
عهده ان يحييه حياة
طيبة ويجزيه اجره في الآخرة فقال تعالى من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو
مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فاخبر سبحانه عن فلاح ما تمسك بعهده علماوعملا
في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الآخرة باحسن الجزاء وهذا بعكس من له
المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالاخرة وقال سبحانه
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وانهم ليصدونهم عن
السبيل ويحسبون انهم مهتدون فأخبر سبحانه ان من ابتلاه بقرينه من الشياطين
وضلاله به إنما كان
بسبب اعراضه وعشوه عن ذكره الذي انزله على رسوله فكان عقوبة هذا الاعراض
ان قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب انه مهتد
حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه وافلاسه قال يا ليت
بيني وبينك بعدالمشرقين فبئس القرين وكل من اعرض عن الاهتداء بالوحي الذي
هو ذكر الله فلا بد ان يقول هذا يوم القيامة فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة
إذا كان يحسب انه على هدى كما قال
تعالى ويحسبون انهم مهتدون قيل لا عذر لهذا وامثاله من الضلال الذين منشأ
ضلالهم الاعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ولو ظن
انه مهتد فإنه مفرط باعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضل فإنما اتى من تفريطه واعراضه وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول اليها فذاك له حكم آخر والوعيد في القرآن إنما يتناول الاول واما الثاني فإن الله لا يعذب احدا إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى في اهل النار وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال تعالى ان تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت
في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين او تقول لو ان الله هداني لكنت من
المتقين او تقول حين ترى العذاب لو ان لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد
جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا كثير في القرآن
فصل
وقوله تعالى ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني اعمىوقد كنت بصيرا
اختلف فيه هل هو من عمى البصيرة او من عمى البصر والذين قالوا هو من عمى
البصيرة إنما حملهم
على ذلك قوله اسمع بهم وابصر يوم ياتوننا وقوله لقدكنت في غفلة من هذا
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقوله يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ
للمجرمين وقوله لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية
في الآخرة كقوله تعالى وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقوله يوم يدعون إلى نار
جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون افسحر هذا ام انتم لا تبصرون
وقوله رأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها والذين رجحوا انه منعمى
البصر قالوا السياق لا يدل الا عليه لقوله قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت
بصيرا وهو لم يكن بصيرا في كفره قط بل قد تبين له حينئذ انه كان في الدنيا
في عمى عن الحق فكيف يقول وقد كنت بصيرا وكيف يجاب بقوله كذلك اتتك آياتنا
فنسيتها وكذلك اليوم تنسى بل هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمى البصر
وانه جوزي من جنس عمله فإنه لما اعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته أعمى الله بصره يوم القيامة وتركه في العذاب كما ترك
الذكر في الدنيا فجازاه على عمى بصيرته عمى في الآخرة وعلى تركه ذكره تركه
في العذاب وقال تعالى ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم
اولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وقد قيل في هذه الاية ايضا انهم عمي وبكم وصم عن الهدى كما قيل
في قوله ونحشره يوم القيامة اعمى قالوا لانهم يتكلمون يومئذ ويسمعون
ويبصرون ومن نصرانه العمى والبكم والصمم المضاد للبصر والسمع والنطق قال
بعضهم هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه ولهذا قد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يرون شيئا يسرهم وقال آخرون هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك ثم انهم يسمعون ويبصرون فيما بعد وهذامروى عن الحسن وقال آخرون هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبو الاسماع والابصار والنطق حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى اخسئوا فيها ولاتكلمون فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون ولا يسمع منهم الا الزفير والشهيق وهذا منقول عن مقاتل والذين قالوا المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم انهم لا حجة لهم ولم يريدوا ان لهم حجة هم عمى عنها بل هم عمىعن الهدى كما كانوا في الدنيا فان العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الاخر وانه عمى البصر فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا ويقر بما كان
يجحده في الدنيا فليس هو اعمى عن الحق يومئذ وفصل الخطاب ان الحشر هو الضم
والجمع ويراد به تارة الحشر الىموقف القيامةكقوله النبي صلى الله عليه و
سلم انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا وكقوله تعالى وإذا الوحوش حشرت وكقوله تعالى وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة
وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار قال تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا وقال تعالى احشروا الذين ظلموا أزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم فهذا الحشر هو بعدحشرهم الى الموقف وهو حشرهم وضمهم إلى النار
لانه قد اخبر عنهم انهم قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي
كنتم به تكذبون ثم قال تعالى احشروا الذين ظلموا وازواجهم وهذا الحشر
الثاني وعلى هذا فهم ما بين الحشر الاول من القبور الى الموقف والحشر الثاني من الموقف إلى النار فعند الحشر الاول يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما فلكل موقف حال يليق به ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته فالقرآن يصدق بعضه بعضا ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
فصل والمقصود ان الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراجآدم وذريته من الجنة اعاضهم افضل منها وهو ما اعطاهم من عهده الذي جعله سببا موصلا لهم إليه وطريقا واضحا بين الدلالة عليه من تمسك به فاز واهتدى ومن اعرض عنه شقى وغوى ولما كان
هذا العهد الكريم والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل إليه ابدا إلا
من باب العلم والارادة فالارادة باب الوصول إليه والعلم مفتاح ذلك الباب
المتوقف فتحه عليه وكمال كل انسان إنما يتم بهذين النوعين همة ترقيه وعلم يبصره ويهديه فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين او من احداهما اما ان لا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها او يكون عالما بها ولا تنهض همته اليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوسا وقلبه عن كماله
الذي خلق له مصدودا منكوسا قد أسام نفسه مع الانعام راعيا مع الهمل
واستطاب لقيعات الراحة والبطالة واستلان فراش العجز والكسل لا كمن رفع له
علم فشمر إليه وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه قد ابت
غلبات شوقه الا لهجرة إلى الله ورسوله ومقتت نفسه الرفقاء الا ابن سبيل يرافقه في سبيله ولما كان كمال الارادة بحسب كمال
مرادها وشرف العلم تابع لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة
له بدونها ولا حياة له إلا بها ان تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا
يبلى ولا يفوت وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت ولا سبيل له إلى هذا
المطلب الاسني والحظ الاوفى الا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله
وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيا وأقامه على هذا الطريق هاديا وجعله واسطة بينه
وبين الانام وداعيا لهم بإذنه إلى دار السلام وأبى سبحانه ان يفتح لاحد منهم الاعلى يديه او يقبل من احد منهم سعيا الا ان يكون مبتدأ منه ومنتهيا إليه
فالطرق كلها الا طريقة صلى الله عليه و سلم مسدودة والقلوب باسرها الا
قلوب اتباعه المنقادة إليه عن الله محبوسة مصدودة فحق على من كان في سعادة
نفسه ساعيا وكان قلبه حيا عن الله واعيا ان يجعل على هذين الاصلين مدار
اقواله واعماله وان يصيرهما اخبيته
التي اليها مفزعة في حياته وطاء له فلا جرم كان وضع هذا الكتاب مؤسسا على
هاتين القاعدتين ومقصوده التعريف بشرف هذين الاصلين وسميته مفتاح دار
السعادة ومنشور ولاية اهل العلم والارادة إذ كان هذا من بعض النزل والتحف
التي فتح الله بها على حين انقطاعي إليه عند بيته والقائي نفسي ببابه
مسكينا ذليلا وتعرض لنفحاته في بيته وحوله بكرة واصيلا فما خاب من انزل به حوائجه وعلق به آماله واصبح ببابه مقيما وبحماه نزيلا ولما كان العلم امام الارادة ومقدما عليها
ومفصلا لها ومرشدا لها قدمنا الكلام عليه على الكلام على المحبة ثم نتبعه
ان شاء الله بعد الفراغ منه كتابا في الكلام على المحبة واقسامها واحكامها
وفوائدها وثمراتها واسبابها وموانعها وما يقويها وما يضعفها
والاستدلال بسائر طرق الادلة من النقل والعقل والفطرة والقياس والاعتبار
والذوق والوجد على تعلقها بالاله الحق الذي لا إله غيره بل لا ينبغي ان
تكون إلا له ومن اجله والرد على من انكر ذلك وتبيين فساد قوله عقلا ونقلا
وفطرة وقياسا وذوقا ووجدا فهذا مضمون هذه التحفة وهذه عرائس معانيها الان
تجلى عليك وخود ابكارها البديعة الجمال ترفل في حللها وهي تزف اليك فاما شمس منازلها بسعد الاسعد وأما خود تزف إلى ضرير مقعد فاختر لنفسك احدى الخطتين وانزلها فيما شئت من المنزلتين ولا بد لكل نعمة من حاسد ولكل حق من جاحد ومعاند هذا وإنما اودع
من المعاني والنفائس رهن عند متأمله ومطالعه له غنمه وعلى مؤلفه غرمه وله
ثمرته ومنفعته ولصاحبه كله ومشقته مع تعرضه لطعن الطاعنين والاعتراض
المناقشين وهذه بضاعته المزجاة وعقله المدود يعرض على عقول العالمين
وإلقائه نفسه وعرضه بين مخالب الحاسدين وانياب البغاة المعتدين فلك ايها
القارئ صفوه ولمؤلفه كدره وهو الذي تجشم غراسه وتعبه ولك ثمره وها هو قد
استهدف لسهام الراشقين واستعذر إلى الله من الزلل والخطأ ثم إلى عباده
المؤمنين اللهم فعياذا بك ممن قصر في العلم والدين باعه وطالت في الجهل
وآذى عبادك ذراعه فهو لجهله يرى الاحسان اساءة والسنة بدعة والعرف نكرا
ولظلمه يجزى بالحسنة سيئة كاملة وبالسيئة الواحدة عشرا قد اتخذ بطر الحق
وغمط الناس سلما إلى ما يحبه من الباطل ويرضاه ولا يعرف من المعروف ولا ينكر من المنكر الا ما وافق إرادته او حالف هواه يستطيل على اولياء الرسول وحزبه باصغريه ويجالس اهل الغي والجهالة ويزاحمهم بركبتيه قد ارتوى من ماء آجن ونضلع واستشرف إلى مراتب
ورثة الانبياء وتطلع يركض
في ميدان جهله مع الجاهلين ويبرز عليهم في الجهالة فيظن انه من السابقين
وهو عند الله ورسوله والمؤمنين عن تلك الوراثة النبوية بمعزل وإذا انزل
الورثة منازلهم منها فمنزلته منها اقصى وابعد منزل
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء ابعد منزل
وعياذا بك ممن جعل الملامة بضاعته والعذل نصيحته فهو دائما يبدى
في الملامة ويعيد ويكرر على العذل فلا يفيد ولا يستفيد بل عياذا بك من عدو
في صورة ناصح وولى في مسلاخ بعيد كاشح يجعل عداوته واذاه حذرا وإشفاقا
وتنفيره وتخذيله اسعافا وإرفاقا وإذا كانت العين لا تكاد إلا على هؤلاء
تفتح والميزان بهم يخف ولا يرجح فما احرى اللبيب بأن لا يعيرهم من قلبه جزا من الالتفات ويسافر في طريق مقصده بينهم سفره إلى الاحياء بين الاموات وما احسن ما قال القائل :
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... واجسامهم قبل القبور قبور
وارواحهم
في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور اللهم فلك الحمد واليك
المشتكى وانت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بك
وانت حسبنا ونعم الوكيل فلنشرع الان في المقصود بحول الله وقوته فنقول
الاصل الاول في العلم وفضله وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه وتوقف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه
قال الله تعال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائمابالقسط
لا إله إلا هو العزيز الحكيم استشهد سبحانه باولى العلم على اجل مشهود
عليه وهوتوحيده فقال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائما بالقسط
وهذا يدل على فضل العلم واهله من وجوه احدها استشهادهم دون غيرهم من البشر
والثاني اقتران شهادتهم بشهادته والثالث اقترانها بشهادة ملائكته والرابع
ان في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فان الله لا يستشهد من خلقه الا العدول
ومنه الاثر المعروف عن النبي صلى الله عليه و سلم يحمل هذا العلم من كل خلف
عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وقال
محمد بن احمد بن يعقوب بن شيبة رأيت رجلا قدم رجلا إلى اسماعيل بن إسحاق القاضي
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فادعى عليه دعوى فسأل المدعى عليه فانكر فقال للمدعى الك بينة قال نعم فلان وفلان قال اما فلان فمن شهودي واما فلان فليس من شهودي قال فيعرفه القاضي قال نعم قال بماذا قال اعرفه بكتب الحديث قال فكيف تعرفه في كتبه الحديث قال ما علمت
الا خيرا قال فان النبي صلى الله عليه و سلم قال يحمل هذا العلم من كل خلف
عدوله فمن عدله رسول الله صلى الله عليه و سلم اولى ممن عدلته انت فقال قم
فهاته فقد قبلت شهادته وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث في موضعه
الخامس انه وصفهم بكونهم اولى العلم وهذا يدل على اختصاصهم به وانهم اهله
واصحابه ليس بمستعار لهم السادس انه سبحانه استشهد بنفسه وهو اجل شاهد ثم
بخيار خلقه وهم ملائكته والعلماء
من عباده ويكفيهم بهذا فضلا وشرفا السابع انه استشهد بهم على اجل مشهود به
واعظمه واكبره وهو شهادة ان لا إله إلا الله والعظيم القدر انما يستشهد
على الامر العظيم اكابر الخلق وساداتهم الثامن انه سبحانه جعل شهادتهم حجة
على المنكرين فهم بمنزلة آدلته وآياته وبراهنيه الدالة على توحيده التاسع
انه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة لصادرة منه ومن ملائكته ومنهم
ولم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته وهذا يدل على شدة ارتباط شهادتهم
بشهادته فكأنه سبحانه شهد لنفسه بالتوحيد على السنتهم وانطقهم بهذه الشهادة
فكان هو الشاهد بها لنفسه إقامة وإنطاقا وتعليما وهم الشاهدون بها له إقرارا واعترافا وتصديقا وإيمانا
العاشر انه سبحانه جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بهذه الشهادة فإذا ادوها
فقد ادوا الحق المشهود به فثبت الحق المشهود به فوجب على الخلق الاقرار به
وكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم وكل من ناله الهدى بشهادتهم واقر
بهذا الحق بسبب شهادتهم فلهم من الاجر مثل اجره وهذا فضل عظيم لا يدرى قدره
الا الله وكذلك كل من شهد بها عن شهادتهم فلهم من الاجر مثل اجره ايضا
فهذه عشرة اوجه في هذه الاية الحادي عشر في تفضيل العلم وأهله انه سبحانه
نفي التسوية بين أهله وبين غيرهم كما نفى التسوية بين اصحاب الجنة واصحاب النار فقال تعالى قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون كما قال
تعالى لا يستوى اصحاب النار واصحاب الجنة وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم
الوجه الثاني عشر انه سبحانه جعل اهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون
فقال افمن يعلم انما انزل اليك من ربك الحق كمن هو اعمى فما ثم
الا عالم او اعمى وقد وصف سبحانه اهل الجهل بأنهم صم بكم عمي في غير موضع
من كتابه الوجه الثالث عشر انه سبحانه اخبر عن اولى العلم بانهم يرون ان ما انزل
إليه من ربه حقا وجعل هذا ثناء عليهم واستشهادا بهم فقال تعالى ويرى الذين
اوتو العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق الوجه الرابع عشر انه سبحانه
امر بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم وجعل ذلك كالشهادة منهم فقال وما ارسلنا قبلك إلا رجالا نوحي اليهم فاسئلوا اهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون واهل الذكر هم اهل العلم بما انزل على الانبياء الوجه الخامس عشر انه سبحانه شهد لاهل العلم شهادة في ضمنها الاستشهاد بهم على صحة ما انزل الله على رسوله فقال تعالى افغير الله ابتغى حكما وهو
الذي أنزل اليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من
ربك بالحق فلا تكونن من الممترين الوجه السادس عشر انه سبحانه سلى نبيه بايمان
اهل العلم به وامره ان لا يعبأ بالجاهلين شيئا فقال تعالى وقرآنا فرقناه
لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به اولا تؤمنوا إن الذين
اوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان
ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وهذا شرف عظيم لهل العلم وتحته ان اهله
العالمون قد عرفوه وآمنوا به وصدقوا فسواء آمن به غيرهم اولا الوجه السابع
عشر انه سبحانه مدح اهل العلم واثنى عليهم وشرفهم بان جعل كتابه آيات بينات
في صدورهم وهذه خاصة ومنقبة لهم دون غيرهم فقال تعالى وكذلك انزلنا اليك
الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم ما يجحد
بآياتنا إلا الظالمون وسواء كان المعنى ان القرآن مستقر في صدور الذين
اوتوا العلم ثابت فيها محفوظ وهو في نفسه آيات بينات فيكون اخبر عنه بخبرين
احدهما انه
آيات بينات الثاني انه محفوظ مستقر ثابت في صدور الذين اوتوا العلم او كان
المعنى أنه آيات بينات في صدورهم أي كونه آيات بينات معلوم لهم ثابت في
صدورهم والقولان متلازمان
ليسا بمختلفين وعلى التقديرين فهو مدح لهم وثناء عليهم في ضمنه الاستشهاد
بهم فتأمله الوجه الثامن عشر أنه سبحانه أمر نبيه أن يسأله مزيد العلم فقال
تعالى فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى اليك وحيه
وقل رب زدني علما وكفى بهذا شرفا للعلم ان امر نبيه ان يسأله المزيد منه الوجه التاسع عشر أنه سبحانه اخبر عن رفعة درجات اهل العلم والايمان
خاصة فقال تعالى يا ايها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس
فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم
والذين أوتوا العلم درجات والله بماتعملون خبير وقد أخبر سبحانه في كتابه برفع الدرجات في اربعة مواضع احدها هذا والثاني قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم
ينفقون اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم
والثالث قوله تعالى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات اولئك لهم الدرجات
العلى والرابع قوله تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين اجرا
عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة فهذه اربعة مواضع في ثلاثة منها الرفعة بالدرجات لاهل الايمان الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والرابع الرفعة بالجهاد فعادت رفعة الدرجات كلها إلى العلم والجهاد اللذين بهما قوام الدين الوجه العشرون انه سبحانه استشهد بأهل العلم والايمان يوم القيامة على بطلان قول الكفار فقال تعالى ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين اوتو العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم
البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون الوجه الحادي والعشرون انه
سبحانه اخبر انهم اهل خشيته بل خصهم من بين الناس بذلك فقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء
إن الله عزيز غفور وهذا حصر لخشيته في أولى العلم وقال تعالى جزاؤهم عند
ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا رضى الله عنهم ورضوا
عنه ذلك لمن خشى ربه وقد اخبر ان اهل خشيته هم العلماء فدل على ان هذا الجزاء المذكور للعلماء بمجموع النصين وقال ابن مسعود رضى الله عنه كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا الوجه الثاني والعشرون انه سبحانه اخبر عن امثاله التي يضربها لعباده يدلهم على صحة ما أخبر به ان اهل العلم هم المنتفعون بها المختصون بعلمها فقال تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها
إلا العالمون وفي القرآن بضعة واربعون مثلا وكان بعض السلف إذا مر بمثل لا
يفهمه يبكي ويقول لست من العالمين الوجه الثالث والعشرون انه سبحانه ذكر
مناظرة إبراهيم لابيه وقومه وغلبته لهم بالحجة وأخبر عن تفضيله بذلك ورفعه
درجته بعلم الحجة فقال تعالى عقيب مناظرته لابيه وقومه في سورة الانعام
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
قال زيد بن أسلم رضى الله عنه نرفع درجات من نشاء بعلم الحجة الوجه الرابع
والعشرون انه سبحانه أخبر انه خلق الخلق ووضع بيته الحرام والشهر الحرام
والهدى والقلائد ليعلم عباده أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فقال تعالى
الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان
الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علما فدل
على ان علم العباد بربهم وصفاته وعبادته وحده هو الغاية المطلوبة من الخلق
والامر الوجه الخامس والعشرون ان الله سبحانه امر اهل العلم بالفرح بما آتاهم وأخبر انه خير مما يجمع الناس فقال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وفسر فضل الله بالايمان ورحمته بالقرآن والايمان والقرآن هما العلم النافع والعمل الصالح والهدى ودين الحق وهما افضل
علم وافضل عمل الوجه السادس والعشرون انه سبحانه شهد لمن آتاه العلم بانه
قد آتاه خيرا كثيرا فقال تعالى يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد
اوتى خيرا كثيرا قال
ابن قتيبة والجمهور
الحكمة إصابة الحق والعمل به وهي العلم النافع والعمل الصالح الوجه السابع
والعشرون انه سبحانه عدد نعمه وفضله على رسوله وجعل من اجلها ان آتاه
الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم فقال تعالى وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما الوجه الثامن والعشرون انه سبحانه ذكر عباده المؤمنين بهذه النعمة وأمرهم بشكرها وأن يذكروه على إسدائها اليهم فقال تعالى كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون الوجه التاسع والعشرون انه سبحانه لما اخبر ملائكته بأنه يريد ان يجعل في الارض خليفة قالوا له اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم مالا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لاعلم لنا الا ما علتمنا كلمتناانك انت العليم الحكيم إلى آخر قصة آدم وأمر الملائكة بالسجود لآدم فأبى ابليس فلعنه وأخرجه من السماء وبيان فضل العلم من هذه القصة من وجوه احدها انه سبحانه رد على الملائكة لما سألوه كيف يجعل في الارض من هم اطوع له منه فقال اني اعلم مالا تعلمون فأجاب سؤالهم بأنه يعلم من بواطن الامور وحقائقها مالا يعلمونه وهو العليم الحكيم فظهر من هذا الخليفة من خيار خلقه ورسله وأنبيائه وصالحي عباده والشهداء والصديقين والعلماء وطبقات اهل العلم والايمان من هو خير من الملائكة وظهر من ابليس من هو شر العالمين فأخرج سبحانه هذا وهذا والملائكة لم يكن لها علم لا بهذا ولا بهذا ولا بما في خلق آدم واسكانه الارض من الحكم الباهرة الثاني انه سبحانه لما اراد اظهار تفضيل آدم وتمييزه وفضله ميزه عليهم بالعلم فعلمه الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء
هؤلاء إن كنتم صادقين جاء في التفسير انهم قالوا لن يخلق ربنا خلقا هو
اكرم عليه منا فظنوا انهم خير وافضل من الخليفة الذي يجعله الله في الارض
فلما امتحنهم بعلم ما علمه لهذا الخليفة اقروا بالعجز وجهل ما لم يعلموه فقالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم فحينئذ اظهر لهم فضل آدم بما خصه به من العلم فقال يا آدم انبئهم باسمائهم فلما انبأهم بأسمائهم أقروا له بالفضل الثالث انه سبحانه لما ان عرفهم فضل آدم بالعلم وعجزهم عن معرفة ما علمه قال لهم الم اقل لكم اني اعلم غيب السموات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون فعرفهم سبحانه نفسه بالعلم وانه احاط علما بظاهرهم وباطنهم وبغيب السموات والارض فتعرف اليهم بصفة العلم وعرفهم فضل نبيه وكليمه بالعلم وعجزهم عما آتاه آدم من العلم وكفى بهذا شرفا للعلم الرابع انه سبحانه جعل في آدم
من صفات الكمال ما كان به افضل من غيره من المخلوقات وأراد سبحانه ان يظهر لملائكته فضله وشرفه فأظهر لهم احسن ما فيه وهو علمه فدل على ان العلم اشرف ما في الانسان وان فضله وشرفه إنما هو بالعلم ونظير هذا ما فعله بنبيه يوسف عليه السلام لما أراد اظهار فضله وشرفه على اهل زمانه كلهم اظهر للملك واهل مصر من علمه بتأويل رؤياه ما عجز عنه علماء التعبير فحينئذ قدمه ومكنه وسلم إليه خزائن الارض وكان قبل ذلك قد حبسه على ما رآه من حسن وجهه وجمال صورته ولما ظهر له حسن صورة علمه وجمال
معرفته اطلقه من الحبس ومكنه في الارض فدل على ان صورة العلم عند بني آدم
ابهى واحسن من الصورة الحسية ولو كانت اجمل صورة وهذا وجه مستقل في تفضيل
العلم مضاف إلى ما تقدم
فتم به ثلاثون وجها الوجه الحادي والثلاثون انه سبحانه ذم اهل الجهل في
مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى ولكن اكثرهم يجهلون وقال ولكن اكثرهم لا
يعلمون وقال تعالى ام تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون ان هم الا كالانعام
بل هم اضل سبيلا فلم يقتصر سبحانه على تشبيه الجهال بالانعام حتى جعلهم اضل
سبيلا منهم وقال ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون اخبر
ان الجهال شر الدواب عنده على اختلاف اصنافها من الحمير والسباع والكلاب
والحشرات وسائر الدواب فالجهال شر منهم وليس علي دين الرسل اضر من الجهال
بل اعداؤهم على الحقيقة وقال تعالى لنبيه وقد اعاذه فلاتكونن من الجاهلين
وقال كليمه موسى عليه الصلاة و السلام اعوذ بالله ان اكون من الجاهلين وقال
لأول رسله نوح عليه السلام إني أعظك أن تكون من الجاهلين فهذه حال
الجاهلين عنده والاول حال اهل العلم عنده واخبر سبحانه عن عقوبته لاعدائه
انه منعهم علم كتابه ومعرفته وفقهه فقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك
وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم اكنة ان
يفقهوه وفي آذانهم وقرا وأمر نبيه بالاعراض عنهم فقال وأعرض عن الجاهلين
واثنى على عباده بالاعراض عنهم ومتاركتهم كما في قوله وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا اعمالنا ولكم اعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين وقال تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وكل
هذا يدل على قبح الجهل عنده وبغضه للجهل وأهله وهو كذلك عند الناس فإن كل
احد يتبرا منه وإن كان فيهالوجه الثاني والثلاثون ان العلم حياة ونور
والجهل موت وظلمة والشر كله سببه عدم الحياة والنور والخير كله سببه النور
والحياة فإن النور يكشف عن حقائق الاشياء ويبين مراتبها والحياة هي المصححة
لصفات الكمال الموجبة لتسديد الاقوال والاعمال فكلما تصرف من الحياة فهو خير كله كالحياء الذي سببه كمال حياة القلب وتصوره حقيقة القبح ونفرته منه وضده الوقاحة
والفحش وسببه موت القلب وعدم نفرته من القبيح وكالحياء الذي هو المطر الذي
به حياة كل شيء قال تعالى او من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشى به
في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كان ميتا بالجهل قلبه فأحياه بالعلم وجعل له من الايمان
نورا يمشى به في الناس وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا
برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور
رحيم لئلا يعلم اهل الكتاب ان لا يقدرون على شيء من فضل الله وان الفضل
بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقال تعالى والله ولي الذين
آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون وقال تعالى وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي إلى صراط
مستقيم فأخبر انه روح تحصل به الحياة ونور يحصل به الاضاءة والاشراف فجمع
بين الاصلين الحياة والنور وقال تعالى قد جاءكم من الله نوروكتاب مبين يهدي
به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم وقال تعالى فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي انزلنا والله بما تعمل
ون خبير وقال تعالى يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا اليكم
نورا مبينا وقال تعالى قد انزل الله اليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله
مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور
وقال تعالى الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح
في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا
غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من
يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيء عليم فضرب سبحانه مثلا لنوره
الذي قذفه في قلب المؤمن كما قال ابي بن كعب رضى الله عنه مثل نوره في قلب عبده المؤمن وهو نور القرآن والايمان الذي اعطاه إياه كما قال في آخر الآية نور على نور يعنى نور الايمان على نور القرآن كما قال
بعض السلف يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وان لم يسمع فيها بالاثر فإذا سمع
فيها بالاثر كان نورا على نور وقد جمع الله سبحانه بين ذكر هذين النورين وهما الكتاب والايمان في غير موضع من كتابه كقوله ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وقوله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضل الله الايمان ورحمته القرآن وقوله تعالى او من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقد تقدمت هذه الايات وقال في آية النور نور على نور
وهو نور الايمان على نور القرآن وفي حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم ان الله ضرب مثلا صراطا مستقيما وعلى كتفي الصراط داران لهما ابواب مفتحة على الابواب ستور وداع يدعو على الصراط وداع يدعو فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم والابواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع احد في حدود الله
حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه رواه الترمذي وهذا لفظه والامام احمد ولفظه والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن فذكر الاصلين وهما داعي القرآن وداعي الايمان وقال حذيفة حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ان الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من الايمان
ثم علموا من القرآن وفي الصحيحين من حديث ابي موسى الاشعري رضى الله عنه
عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الاترجة
طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها
طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها
مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرولا ريح لها
فجعل الناس اربعة اقسام اهل الايمان والقرآن وهم خيار الناس الثاني اهل الايمان الذين لا يقرءون القرآن وهم دونهم فهؤلاء هم السعداء والاشقياء قسمان احدهما من اوتى قرآنا بلا إيمان فهو منافق والثاني من لا اوتى قرآنا ولا إيمانا والمقصود ان القرآن والايمان هما نور يجعله الله في قلب من يشاء من عباده وأنهما اصل كل خير في الدنيا والاخرة وعلمهما اجل العلوم وافضلها بل لا علم في الحقيقة ينفع صاحبه الا علمهما والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم الوجه الثالث والثلاثون ان الله سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة
يحرم اكلها وأباح صيد الكلب المعلم وهذا ايضا من شرف العلم انه لا يباح إلا
صيد الكلب العالم واما الكلب الجاهل فلا يحل اكل صيده فدل على شرف العلم وفضله قال الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم قل احل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما امسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله ان الله سريع الحساب ولولا مزية العلم والتعليم وشرفهما كان
صيد الكلب المعلم والجاهل سواء الوجه الرابع والثلاثون ان الله سبحانه
اخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوارة بيده وكلمه منه إليه انه رحل إلى رجل عالم يتعلم منه ويزداد علما إلى علمه فقال وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى ابلغ مجمع البحرين او امضى حقبا حرصا منه على لقاء هذا العالم وعلى التعلم منه فلما لقيه سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه وقال له هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا فبدأه بعد السلام بالاستئذان على متابعته وانه لا يتبعه إلا باذنه وقال على ان تعلمن مما علمت
رشدا فلم يجيء ممتحنا ولا متعلما وإنما جاء متعلما مستزيدا علما إلى علمه وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم فإن نبي الله وكليمه سافر ورحل حتى لقى النصب من سفره في تعلم ثلاث مسائل من رجل عالم ولما سمع به لم يقر له قرار حتى لقيه وطلب منه متابعته وتعليمه وفي قصتهما عبر وآيات وحكم ليس هذا موضع ذكرها الوجه الخامس والثلاثون قوله تعالى وما كان
المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ندب تعالى المؤمنين إلى التفقه
في الدين وهو تعلمه وانذار قومهم إذا رجعوا اليهم وهو التعليم وقد اختلف
في الاية فقيل المعنى ان المؤمنين لم يكونوا لينفروا كلهم للتفقه والتعلم
بل ينبغي ان ينفر من كل فرقة منهم طائفة تتفقه تلك الطائفة ثم ترجع تعلم
القاعدين فيكون النفير على هذا نفير تعلم والطائفة تقال على الواحد فما زاد قالوا فهو دليل على قبول خبر الواحد وعلى هذا نفير تعلم والطائفة تقال على الواحد فما زاد قالوا فهو دليل على قبول خير الواحد وعلى هذا حملها الشافعي وجماعة وقالت طائفة اخرى المعنى وما كان المؤمنون لينفروا إلى الجهاد كلهم بل ينبغي ان تنفر طائفة للجهاد وفرقة تقعد تتفقه في الدين فإذا جاءت الطائفة التي نفرت فقهتها القاعدة وعلمتها ما انزل
من الدين والحلال والحرام وعلى هذا فيكون قوله ليتفقهوا ولينذروا للفرقة
التي نفرت منها طائفة وهذا قول الاكثرين وعلى هذا فالنفير نفير جهاد على
اصله فإنه حيث استعمل إنما يفهم
منه الجهاد قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا باموالكم وأنفسكم
وقال النبي صلى الله عليه و سلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا
استنفرتم فانفروا وهذا هو المعروف من هذه اللفظة وعلى القولين فهو ترغيب في
التفقه في الدين وتعلمه وتعليمه فإن ذلك يعدل الجهاد بل ربما يكون افضل منه كما سيأتي تقريره في الوجه الثامن والمائة
ان شاء الله تعالى الوجه السادس والثلاثون قوله تعالى والعصر إن الانسان
لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر قال
الشافعي رضى الله عنه لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم وبيان ذلك
ان المراتب اربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله
احداها معرفة الحق الثانية عمله به الثالثة تعليمه من لا يحسنه الرابعة
صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه فذكر تعالى المراتب الاربعة في هذه
السورة واقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر ان كل احد في خسر الا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة وعملوا
الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة اخرى وتواصوا بالحق وصى به بعضهم بعضا تعليما وارشادا فهذه مرتبة ثالثة وتواصوا بالصبر صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة وهذانهاية الكمال فإن الكمال ان يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره وكماله باصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح القوة العلمية بالايمان
وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه اياه وصبره عليه
وتوصيته بالصبر على العلم والعمل فهذه السورة على اختصارها هي من اجمع سور
القرآن للخير بحذافيره والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه شافيا من كل داء هاديا إلى كل خير الوجه السابع والثلاثون انه سبحانه ذكر فضله ومنته على انبيائه ورسله واوليائه وعباده بما آتاهم من العلم فذكر نعمته على خاتم انبيائه ورسله بقوله وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما وقد تقدمت هذه الاية وقال في يوسف ولما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما وكذلك تجزى المحسنين وقال في كليمه موسى ولما بلغ اشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ولما كان الذي آتاه موسى من ذلك أمرا عظيما خصه
به على غيره ولا يثبت له إلا الأقوياء أولو العزم هيأه له بعد أن بلغ أشده
واستوى يعني تم كلمت قوته وقال في حق المسيح يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي
عليك وعلىوالدتك إذ ايدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك
الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وقال في حقه ويعلمه الكتاب والحكمة
والتوراة والانجيل فجعل تعليمه مما بشر
به امه واقر عينها به وقال في حق داود وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وقال في
حق الخضر صاحب موسى وفتاه فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا
وعلمناه من لدنا علما فذكر من نعمه عليه تعليمه وما آتاه من رحمته وقال تعالى يذكر نعمته على داود وسليمان وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فذكر النبيين الكريمين وأثنى عليهما بالحكم والعلم وخص بفهم القضية احدهما وقد ذكرت الحكمين الداوودي والسليماني ووجههما ومن صار من الائمةالى هذا ومن صار إلى هذا وترجيح الحكم السليماني
من عدة وجوه وموافقته للقياس وقواعد الشرع في كتاب الاجتهاد والتقليد وقال
تعالى قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس
تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا انتم ولا آباؤكم قل الله يعني الذي انزله جعل سبحانه تعليمهم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم دليلا على صحة النبوة والرسالة إذ لا ينال هذا العلم إلا من جهة الرسل فكيف يقولون ما أنزل
الله على بشر من شيء وهذا من فضل العلم وشرفه وأنه دليل على صحة النبوة
والرسالة والله الموفق للرشاد وقال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث
فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن
كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال تعالى هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم
يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي
ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم يعني وبعث في آخرين منهم لما يلحقوا بهم وقد اختلف في هذا اللحاق المنفي فقيل هو اللحاق في الزمان أي يتأخر زمانهم
عنهم وقيل هو اللحاق في الفضل والسبق وعلى التقديرين فامتن عليهم سبحانه
بان علمهم بعد الجهل وهداهم بعد الضلالة ويالها من منة عظيمة فاتت المنن
وجلت ان يقدر العباد لها على ثمن الوجه الثامن والثلاثون ان اول سورة
انزلها الله في كتابه سورة القلم فذكر فيها ما من به على الانسان من تعليمه ما لم يعلم فذكر فيها فضله بتعليمه وتفضيله الإنسان بما علمه
اياه وذلك يدل على شرف التعليم والعلم فقال تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق
خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم فافتتح السورة بالامر بالقراءة الناشئة عن العلم وذكر خلقه خصوصا وعموما فقال الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم وخص الانسان من بين المخلوقات لما اودعه من عجائبه وآياته الدالة على ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وكمال
رحمته وانه لا إله غيره ولا رب سواه وذكر هنا مبدا خلقه من علق لكون
العلقة مبدأ الاطوار التي انتقلت اليها النطفة فهي مبدأ تعلق التخليق ثم
اعاد الأمر بالقراءة مخبرا عن نفسه بأنه الاكرم وهو الافعل من الكرم وهو
كثرة الخير ولا احد أولى بذلك منه سبحانه فإن الخير كله بيديه والخير كله
منه والنعم كلها هو موليها والكمال كله والمجد كله له فهو الاكرم حقا ثم ذكر تعليمه عموما وخصوصا فقال الذي علم بالقلم فهذا يدخل فيه تعليم الملائكة والناس ثم ذكر تعليم الانسان خصوصا فقال علم الإنسان ما لم يعلم فاشتملت هذه الكلمات
على انه معطى الموجودات كلها بجميع اقسامها فان الوجود له مراتب اربعة
احداها مرتبتها الخارجية المدلول عليها بقوله خلق المرتبة الثانية الذهنية
المدلول عليها بقوله علم الانسان ما لم
يعلم المرتبة الثالثة والرابعة اللفظية والخطية فالخطية مصرح بها في قوله
الذي علم بالقلم واللفظية من لوازم التعليم بالقلم فإن الكتابة فرع النطق
والنطق فرع التصور فاشتملت هذه الكلمات
على مراتب الوجود كلها وانه سبحانه هو معطيها بخلقه وتعليمه فهو الخالق
المعلم وكل شيء في الخارج فبخلقه وجد وكل علم في الذهن فبتعليمه حصل وكل
لفظ في اللسان او خط في البنان فباقداره وخلقه وتعليمه وهذا من آيات قدرته
وبراهين حكمته لا إله إلا هو الرحمن الرحيم والمقصود انه سبحانه تعرف إلى عباده بما علمهم
إياه بحكمته من الخط واللفظ والمعنى فكان العلم احد الادلة الدالة عليه بل
من اعظمها وأظهرها وكفى بهذا شرفا وفضلا له الوجه التاسع والثلاثون انه
سبحانه سمى الحجة العلمية سلطانا قال ابن عباس رضى الله عنه كل سلطان في
القرآن فهو حجة وهذا كقوله تعالى قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الارض ان عندكم من سلطان بهذا اتقولون على الله
مالا تعلمون يعني ما عندكم من حجة بما قلتم ان هو الا قول على الله بلا علم وقال تعالى ان هي الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان يعني ما أنزل
بها حجة ولا برهانا بل هي من تلقاء انفسكم وآبائكم وقال تعالى ام لكم
سلطان مبين فائتوا بكتابكم إن كنتم صادقين يعني حجة واضحة فائتوا بها إن
كنتم صادقين في دعواكم إلا موضعا واحدا اختلف فيه وهو قوله ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية فقيل المراد به القدرة والملك أي ذهب عني مالي وملكي فلا مال
لي ولا سلطان وقيل هو على بابه أي انقطعت حجتي وبطلت فلا حجة لي والمقصود
ان الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانا لانها توجب تسلط صاحبها واقتداره فله
بها سلطان على الجاهلين بل سلطان العلم اعظم من سلطان اليد ولهذا ينقاد
الناس للحجة مالا ينقادون لليد فان الحجة تنقاد لها القلوب واما اليد فإنما ينقاد
لها البدن فالحجة تأسر القلب وتقوده وتذل المخالف وان اظهر العناد
والمكابرة فقلبه خاضع لها ذليل مقهور تحت سلطانها بل سلطان الجاه ان لم يكن
معه علم يساس به فهو بمنزلة سلطان السباع والاسود ونحوها قدرة بلا علم ولا
رحمة بخلاف سلطان الحجة فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة ومن لم يكن له اقتدار
في علمه فهو اما لضعف حجته وسلطانه واما لقهر
سلطان اليد والسيف له والا فالحجة ناصرة نفسها ظاهرة على الباطل قاهرة له
الوجه الاربعون ان الله تعالى وصف اهل النار بالجهل واخبر انه سد عيهم طرق
العلم فقال تعالى حكاية عنهم وقالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير فأخبروا انهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون والسمع والعقل هما اصل العلم وبهما ينال
وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها
ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالانعام بل هم
اضل اولئك هم الغافلون فاخبر سبحانه انهم لم يحصل لهم علم من جهة من جهات
العلم الثلاث وهي العقل والسمع والبصر كما قال
في موضع آخر صم بكم عمي فهم لا يعقلون وقال تعالى افلم يسيروا في الارض
فتكون لهم قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها لاتعمى الابصار ولكن
تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى وجعلنالهم سمعا وابصارا وافئدة فما اغنى عنهم سمعهم ولا ابصارهم ولا افئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن فقد وصف اهل الشقاء كما ترى بعدم العلم وشبههم بالانعام تارة وتارة بالحمار الذي يحمل الاسفار وتارة جعلهم اضل من الانعام وتارة جعلهم شر الدواب عنده وتارة جعلهم امواتا غير احياء وتارة اخبر انهم في ظلمات الجهل والضلال وتارة اخبر ان على قلوبهم اكنة وفي آذانهم وقرا وعلى ابصارهم غشاوة وهذا كله يدل على قبح الجهل وذم اهله وبغضه لهم كما انه يحب
اهل العلم ويمدحهم ويثنى عليهم كما تقدم والله المستعان الوجه الحادي والاربعون ما في
الصحيحين من حديث معاوية رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و
سلم يقول من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وهذا يدل على ان من لم يفقهه
في دينه لم يرد به خيرا كما ان من اراد به خير افقهه في دينه ومن فقهه في دينه فقد اراد به خيرا إذا اريد بالفقه العلم المستلزم للعمل واما ان
اريد به مجرد العلم فلا يدل على ان من فقه في الدين فقد اريد به خيرا فإن
الفقه حينئذ يكون شرطا لارادة الخير وعلى الاول يكون موجبا والله اعلم
الوجه الثاني والاربعون ما في الصحيحين ايضا من حديث ابي موسى رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث اصاب ارضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها اجادب امسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا واصاب طائفة منها اخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني
الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك راسا ولم يقبل هدى الله الذي
ارسلت به شبه صلى الله عليه و سلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث لما يحصل بكل واحد منهما من
الحياة والنافع والاغذية والادوية وسائر مصالح العباد فإنها بالعلم والمطر
وشبه القلوب بالاراضي التي قع عليها المطر لانها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر انواع النبات النافع كما ان القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته ثم قسم الناس إلى ثلاثة
اقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط احكامه واستخراج
حكمه وفوائده احدها اهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه
واستنبطوا وجوه الاحكام والحكم والفوائد منه فهؤلاء بمنزلة الارض التي قبلت
الماء وهذا بمنزلة الحفظ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط فإنه بمنزلة انبات الكلأ والعشب بالماء
فهذا مثل الحفاظ الفقهاء اهل الرواية والدراية القسم الثاني اهل الحفظ
الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه ولم يرزقوا تفقها في معانيه ولا استنباطا ولا
استخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه فهم بمنزلة من يقرا القرآن ويحفظه
ويراعي حروفه واعرابه ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله كما قال على ابن ابي طالب رضى الله عنه إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله اعظم تفاوت فرب شخص يفهم من النص حكما او حكمين ويفهم منه الآخر مائة او مائتين فهؤلاء بمنزلة الارض التي امسكت الماء للناس فانتفعوا به هذا يشرب منه وهذا يسقى وهذا يزرع فهؤلاء القسمان
هم السعداء والاولون ارفع درجة واعلى قدرا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
والله ذو الفضل العظيم القسم الثالث الذين لا نصيب لهم منه لا حفظا ولا فهما ولا رواية ولا دراية بل هم بمنزلة
الارض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء وهؤلاء هم الاشقياء والقسمان الاولان اشتركا في العلم والتعليم كل بحسب ما قبله
ووصل إليه فهذا يعلم الفاظ القرآن ويحفظها وهذا يعلم معانيه واحكامه
وعلومه والقسم الثالث لا علم ولا تعليم فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله راسا
ولم يقبلوه وهؤلاء شر من الانعام وهم وقود النار فقد اشتمل هذا الحديث
الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم وعظم موقعه وشقاء من ليس
من اهله وذكر اقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم وسعيدهم وتقسم سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد وفيه دلالة على ان حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر بل اعظم وانهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الارض التي فقدت الغيث قال الامام احمد الناس محتاجون إلى العلم اكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لان الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة او مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الانفاس وقد قال تعالى انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي انزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم ثم شبه القلوب بالاودية فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا وقلب صغيرا إنما يسع علما قليلا كواد صغير إنما يسع ماء
قليلا فقال فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا هذا مثل ضربة الله
تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته فإنه يستخرج منها زبد الشبهات
البالطة فيطفو على وجه القلب كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فقوق الماء وأخبر سبحانه انه راب يطفو ويعلو على الماء لايستقر في ارض الوادي كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطفت فلا تستقر فيه بل تجفى وترمى فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناس من الهدى ودين الحق كما يستقر في الوادي الماء الصافي ويذهب الزبد جفاء وما يعقل عن الله امثاله إلا العالمون ثم ضرب سبحانه لذلك مثلا آخر فقال ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع زبد مثله يعني أن مما يوقد
عليه بنو آدم من الذهب والفضة والنحاس والحديد يخرج منه خبثه وهو الزبد
الذي تلقيه النار وتخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها فإنه يقذف ويلقى به
ويستقر الجوهر الخالص وحده وضرب سبحانه مثلا بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة ومثلا بالنار لما فيها من الاضاءة والاشراف والاحراق فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الارض بالماء وتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها كما تحرق النار ما يلقى فيها وتميز جيدها من زبدها كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه منه فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العبر والعلم قال الله تعالى وتلك
الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون الوجه الثالث والاربعون ما في
الصحيحين ايضا من حديث سهل بن سعد رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله
عليه و سلم قال لعلي رضى الله عنه لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من
حمر النعم وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة اهله بحيث إذا اهتدى
رجل واحد بالعالم كان ذلك خيرا له من حمر النعم وهي خيارها واشرفها عند
أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس الوجه الرابع والاربعون ما روى مسلم في صحيحيه من حديث ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
من دعا إلى هدى كان له من الاجر مثل اجور من تبعه لا ينقص ذلك من اجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا اخبر صلى الله عليه و سلم ان المتسبب إلى الهدى بدعوته له مثل اجر من اهتدى به والمتسبب إلى الضلالة بدعوته عليه مثل إثم من ضل به لان هذا بذل قدرته في هداية الناس وهذا بذل قدرته في ضلالتهم فنزل كل واحد منهما بمنزلة الفاعل التام وهذه قاعدة الشريعة كما هو مذكور في غير هذا الموضع قال تعالى ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء ما يزرون وقال تعالى وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم وهذا يدل على ان من دعا الامة إلى غير
سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فهوعدوه حقا لانه قطع وصول اجر من
اهتدى بسنته إليه وهذا من اعظم معاداته نعوذ بالله من الخذلان الوجه الخامس
والاربعون ما خرجا في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا
فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها
فاخبر صلى الله عليه و سلم انه لا ينبغي لاحد ان يحسد احدا يعني حسد غبطة
ويتمنىمثل حاله من غير ان يتمنى زوال نعمة الله عنه إلا في واحدةمن هاتين
الخصلتين وهي الاحسان إلى الناس بعلمه او بماله وما عدا
هذين فلا ينبغي غبطته ولا تمنى مثل حاله لقلة منفعة الناس به الوجه السادس
والاربعون قال الترمذي حدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا سلمة بن رجاء حدثنا
الوليد بن حميد حدثنا القاسم عن ابي امامة الباهلي قال ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم رجلان احدهما عالم
والآخر عابد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فصل العالم على العابد
كفضلي على أدناكم ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان الله وملائكته
واهل السموات والارض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على
معلمي الناس الخير قال الترمذي هذا حديث حسن غريب سمعت أبا عمار
الحسين ابن حريث الخزاعي قال سمعت الفضيل بن عياض يقول عالم عامل معلم
يدعى كبيرا في ملكوت السموات وهذا مروى عن الصحابة قال ابن عباس علماء هذه الامة رجلان فرجل اعطاه الله علما
فبذله للناس ولم يأخذ عليه صفدا ولم يشتر به ثمنا اولئك يصلى عليهم طير السماء وحيتان البحر ودواب الارض والكرام الكاتبون ورجل آتاه الله علما فضن
به عن عباده واخذ به صفدا واشترى به ثمنا فذلك ياتي يوم القيامة يلجم
بلجام من نار ذكره ابن عبد البر مرفوعا وفي رفعه نظر وقوله ان الله
وملائكته واهل السموات والارض يصلون على معلم الناس الخير لما كان تعليمه للناس الخير سببا لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم جازاه الله من جنس عمله بان جعل عليه من صلاته وصلاة ملائكته واهل الارض ما يكون سببا لنجاته وسعادته وفلاحه وأيضا فإن معلم الناس الخير لما كان مظهرا لدين الرب واحكامه ومعرفا لهم بأسمائه وصفاته جعل الله من صلاته وصلاة أهل سمواته وأرضه عليه ما يكون تنويها به وتشريفا له وإظهارا للثناء عليه بين اهل السماءوالارض الوجه السابع والاربعون ما رواه ابو داود والترمذي من حديث ابي الدرداء رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع اجنحتها رضا لطالب العلم وان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الارض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ان العلماء ورثة الانبياء ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن اخذه اخذ بحظ وافر وقد رواه الوليد بن مسلم عن خالد بن يزيد عن عثمان ابن ايمن عن ابي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من غدا لعلم يتعلمه فتح الله له به طريقا إلى الجنة وفرشت له الملائكة اكنافها وصلت عليه ملائكة السماء وحيتان البحر وللعالم من الفضل على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب والعلماء ورثة الانبياء ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا
العلم فمن اخذ بالعلم اخذ بحظ وافر وموت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة نسد
ونجم طمس وموت قبيلة ايسر من موت عالم وهذا حديث حسن والطريق التي يسلكها إلى الجنة جزاء على سلوكه في الدنيا طريق العلم الموصلة إلى رضا ربه ووضع الملائكة اجنحتها له تواضعا له وتوقيرا وإكراما لما يحمله من ميراث النبوة ويطلبه وهو يدل على المحبة والتعظيم فمن محبة الملائكة له وتعظيمه تضع اجنحتها له لأنه طالب لما به
حياة العالم ونجاته ففيه شبه من الملائكةوبينه وبينهم تناسب فان الملائكة
انصح خلق الله وانفعهم لبني آدم وعلى ايديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى
ومن نفعهم لبني آدم ونصحهم انهم يستغفرون لمسيئهم ويثنون على مؤمنيهم
ويعينونهم على اعدائهم من الشياطين ويحرصون على مصالح العبد اضعاف حرصه على
مصلحة نفسه بل يريدون له من خير الدنيا والاخرة ما لا يريده العبد ولا يخطر بباله كما قال بعض التابعين وجدنا الملائكة انصح خلق الله لعباده ووجدنا الشياطين اغش الخلق للعباد وقال تعالى الذين يحملون
العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر
للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وادخلهم جنات عدن التي
وعدتهم ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم إنك انت العزيز الحكيم وقهم
السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم فأي نصح
للعباد مثل هذا الا نصح الانبياء فإذا طلب العبد العلم فقد سعى في اعظم ما ينصح به عباد الله فلذلك تحبه الملائكة وتعظمه حتى تضع اجنحتها له رضا ومحبة وتعظيما وقال ابو حاتم الرازي سمعت ابن ابي اويس يقول سمعت مالك
بن انس يقول معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم تضع اجنحتها يعني
تبسطها بالدعاء لطالب العلم بدلا من الايدي وقال احمد بن مروان المالكي
في كتاب المجالسة له حدثنا زكريا بن عبد الرحمن البصري قال سمعت احمد بن
شعيب يقول كنا عند بعض المحدثين بالبصرة فحدثنا بحديث النبي صلى الله عليه و
سلم ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم وفي المجلس معنا رجل من
المعتزلة فجعل يستهزئ بالحديث فقال والله لاطرقن غدا نعلي بمسامير فأطأ بها
أجنحة الملائكة ففعل ومشى في النعلين فجفت رجلاه جميعا ووقعت فيهما الاكلة وقال الطبراني سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى الساجي قال كنا نمشي في بعض ازقة البصرة إلى باب بعض المحدثين فاسرعنا المشي وكان معنا رجل ماجن منهم في دينه فقال ارفعوا ارجلكم عن اجنحة الملائكة لاتكسروها كالمستهزيء فما زال
من موضعه حتى جفت رجلاه وسقط وفي السنن والمسانيد من حديث صفوان ابن عسال
بعسال قال قلت يا رسول الله إني جئت أطلب العلم قال مرحبا بطالب العلم إن
طالب العلم لتحف به الملائكة وتظله بأجنحتها فيركب بعضهم بعضا حتى تبلغ السماء الدنيامن حبهم لما يطلب
وذكر حديث المسح على الخفين قال ابوعبد الله الحاكم اسناده صحيح وقال ابن
عبد البر هو حديث صحيح حسن ثابت محفوظ مرفوع ومثله لا يقال بالرأي ففي هذا
الحديث حف الملائكة له بأجنحتها إلى السماء وفي الاول وضعها اجنحتها له فالوضع تواضع وتوقير وتبجيل والحف بالاجنحة حفظ وحماية
وصيانة فتضمن الحديثان تعظيم الملائكة له وحبها اياه وحياطته وحفظه فلو لم
يكن لطالب العلم إلا هذا الحظ الجزيل لكفى به شرفا وفضلا وقوله صلى الله
عليه و سلم ان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الارض حتى الحيتان
في الماء فإنه لما كان
العالم سببا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع المهلكات وكان
سعيه مفصورا على هذا وكانت نجاة العباد على يديه جوزي من جنس عمله وجعل من
في السموات والأرض ساعيا في نجاته من اسباب الهلكات باستغفارهم له وإذا
كانت الملائكة تستغفر للؤمنين فكيف لا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم وقد قيل ان
من في السموات ومن في الارض المستغفرين
للعالم عام في الحيوانات ناطقها وبهيمها طيرها وغيره ويؤكد هذا قوله حتى الحيتان في الماء وحتى النملة في جحرها فقيل سبب هذا الاستغفار ان العالم يعلم الخلق مراعاة هذه الحيوانات ويعرفهم ما يحل منها وما يحرم
ويعرفهم كيفية تناولها واستخدامها وركوبها والانتفاع بها وكيفية ذبحها على
احسن الوجوه وارفقها بالحيوان والعالم اشفق الناس على الحيوان واقومهم
ببيان ما خلق له وبالجملة فالرحمة والاحسان التي خلق بهما ولهما الحيوان وكتب لهما حظهما منه إنما يعرف
بالعلم فالعالم معرف لذلك فاستحق ان تستغفر له البهائم والله أعلم وقوله
وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب تشبيه مطابق لحال
القمر والكواكب فان القمر يضيء الافاق ويمتد نوره في اقطار العالم وهذه حال
العالم وأما الكوكب فنوره لا يجاوز نفسه او ما قرب منه وهذه حال العابد الذي يضيء نور عبادته عليه دون غيره وان جاوز نور عبادته غيره فإنما يجاوزه غير بعيد كما يجاوز ضوء الكوكب له مجاوزة يسيرة ومن هذا الاثر المروي إذا كان يوم القيامة يقول الله للعابد ادخل الجنة فإنما كانت منفعتك لنفسك ويقال للعالم اشفع تشفع فإنما كانت منفعتك للناس وروى ابن جريج عن عطاءعن ابن عباس رضى الله عنهما إذا
كان يوم القيامة يؤتى بالعابد والفقيه فيقال للعابد ادخل الجنة ويقال
للفقيه اشفع تشفع وفي التشبيه المذكور لطيفه اخرى وهو ان الجهل كالليل في
ظلمته وجنسه والعلماء
والعباد بمنزلة القمر والكواكب الطالعة في تلك الظلمة وفضل نور العالم
فيها علىنور العابد كفضل نور القمر على الكواكب وأيضا فالدين قوامه وزينته
واضاءته بعلمائه وعباده فإذا ذهب علماؤه وعباده ذهب الدين كما ان السماء اضاءتها وزينتها بقمرها وكواكبها فإذا خسف قمرها وانتشرت كواكبها اتاها ماتوعد وفضل علماء الدين على العباد كفضل ما بين القمر والكواكب فإن قيل كيف وقع تشبيه العالم بالقمر دون الشمس وهي اعظم نورا قيل فيه فائدتان احداهما ان نور القمر لما كان
مستفادا من غيره كان تشبيه العالم الذي نوره مستفاد من شمس الرسالة بالقمر
اولى من تشبيهه بالشمس الثانية ان الشمس لا يختلف حالها في نورها ولا
يلحقها محاق ولا تفاوت في الاضاءة واما القمر فإنه يقل نوره ويكثر ويمتليء وينقص كما ان العلماء في العلم على مراتبهم من كثرته وقلته فيفضل كل منهم في علمه بحسب كثرته وقلته وظهوره وخفائه كما يكون القمر كذلك فعالم كالبدر ليلة تمه وآخر دونه بليلة وثانية وثالثة وما بعدها إلى آخر مراتبه وهم درجات عند الله فإن قيل تشبيه العلماء بالنجوم أمر معلوم كقوله صلى الله عليه و سلم اصحابي كالنجوم ولهذا هي في تعبير الرؤيا عبارة عن العلماء فكيف وقع تشبيههم هنا بالقمر قيل اما تشبيه العلماء بالنجوم فإن النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وكذلك العلماء والنجوم زينة للسماء
فكذلك العلماء زينة للآرض وهي رجوم للشياطين حائلة بينهم وبين استراق السمع لئلا يلبسوا بما يسترقونه من الوحي الوارد إلى الرسل من الله على ايدي ملائكته وكذلك العلماء رجوم لشياطين الانس والجن الذي يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فالعلماء رجوم لهذا الصنف من الشياطين ولولاهم لطمست معالم الدين بتلبيس المضلين ولكن الله سبحانه اقامهم حراسا وحفظه لدينه ورجوما لاعدائه واعداء رسله فهذا وجه تشبيههم بالنجوم وأما تشبههم بالقمر فذلك كان في مقام تفضيلهم على اهل العبادة المجردة وموازنة ما بينهما من الفضل والمعنى انهم يفضلون العباد الذين ليسوا بعلماء كما يفضل القمر سائر الكواكب فكل من التشبهين لائق بموضعه والحمد لله وقوله ان العلماء ورثة الانبياء هذا من اعظم المناقب لاهل العلم فإن الانبياء خير خلق الله فورثتهم خير الخلق بعدهم ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته اذهم الذين يقومون مقامه من بعده ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما ارسلوا به الا العلماء كانوا احق الناس بميراثهم وفي هذا تنبيه على انهم اقرب الناس اليهم فإن الميراث إنا يكون لاقرب الناس إلى الموروث وهذا كما انه
ثابت في ميراث الدينار والدرهم فكذلك هو في ميراث النبوة والله يختص
برحمته من يشاء وفيه ايضا ارشاد وامر للأمة بطاعهم واحترامهم وتعزيزهم
وتوفيرهم وإجلالهم فإنهم ورثة من هذه بعض حقوقهم على الأمة وخلفاؤهم فيهم
وفيه تنبيه على ان محبتهم من الدين وبغضهم مناف للدين كما هو ثابت لموروثهم وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو في موروثهم قال على كرم الله وجهه ورضى عنه محبة العلماء دين يدان به وقال صلى الله عليه و سلم فيما يروى عن ربه عز و جل من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وورثة الانبياء سادات اولياء لله عز و جل وفيه تنبيه للعلماء على سلوك هدى الانبياء وطريقتهم في التبليغ من الصبر والاحتمال ومقابلة إساءة الناس اليهم بالاحسان والرفق بهم واستجلابهم إلى الله باحسن الطرق وبذل ما يمكن من النصيحة لهم فإنه بذلك يحصل له نصيبهم من هذا الميراث العظيم قدره الجليل خطره وفيه ايضا تنبيه لاهل العلم علىتربية الامة كما يربى الوالد ولده فيبربونهم بالتدريج والترقي من صغار العلم إلى كباره وتحميلهم منه ما يطيقون كما يفعل الاب بولده الطفل في ايصال الغذاء إليه فإن ارواح البشر بالنسبة إلى الانبياء والرسل كالاطفال بالنسبة إلى آبائهم بل دون هذه النسبة بكثير ولهذا كل روح لم تربها الرسل لم تفلح ولم تصلح لصالحه كما قيل
ومن لا يربيه الرسول ويسقه ... لبانا له قد در من ثدي قدسه فذاك لقيط ماله نسبة الولا ... ولا يتعدى طور ابناء جنسه
وقوله ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم هذا من كمال الانبياء وعظم
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
نصحهم للأمم وتمام
نعمة الله عليهم وعلى اممهم ان ازاح جميع العلل وحسم جميع المواد التي
توهم بعض النفوس ان الانبياء من وجنس الملوك الذين يريدون الدنيا وملكها فحماهم الله سبحانه وتعالى من ذلك اتم الحماية ثم لما كان
الغالب على الناس ان احدهم يريد الدنيا لولده من بعده ويسعى ويتعب ويحرم
نفسه لولده سد هذه الذريعة عن انبيائه ورسله وقطع هذا الوهم الذي عساه ان
يخالط كثيرا من النفوس التي تقول فلعله ان لم يطلب الدنيا لنفسه فهو يحصلها
لولده فقال صلى الله عليه و سلم نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركنا هو صدقة فلم تورث الانبياء دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم واما قوله تعالى وورث سليمان
داود فهو ميراث العلم والنبوة لا غير وهذا باتفاق اهل العلم من المفسرين
وغيرهم وهذا لان داود عليه السلام كان له اولاد كثيرة سوى سليمان فلو كان الموروث هو المال لم يكن سليمان مختصا به وأيضا فإن كلام الله يصان عن الاخبار بمثل هذا فإنه بمنزلة ان يقال مات فلان وورثه ابنه ومن المعلوم ان كل احد يرثه ابنه وليس في الاخبار بمثل هذا فائدة وأيضا فإن ما قبل الاية وما بعدها يبين ان المراد بهذه الوراثة وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال قال تعالى ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داوود وإنما سيق هذا لبيان فضل سليمان وما خصه الله به من كرامته وميراثه ما كان
لابيه من اعلى المواهب وهو العلم والنبوة ان هذا لهو الفضل المبين وكذلك
قول زكريا عليه الصلاة و السلام وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي
عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا فهذا
ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله وإلا فلا يظن بني كريم انه يخاف عصبته ان يرثوه ماله
فيسأل الله العظيم ولدا يمنعهم ميراثه ويكون احق به منهم وقد نزه الله
انبياءه ورسله عن هذا وأمثاله فبعدا لمن حرف كتاب الله ورد على رسوله كلامه
ونسب الانبياء إلى ما هم
برآء منزهون عنه والحمد لله على توفيقه وهدايته ويذكر عن ابي هريرة رضى
الله عنه انه مر بالسوق فوجدهم في تجاراتهم وبيوعاتهم فقال انتم ههنا فيما انتم فيه وميراث رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم في مسجده فقاموا سراعا إلى المسجد فلم يجدوا فيه الا القرآن والذكر ومجالس العلم فقالوا اين ما قلت يا أبا هريرة فقال هذا ميراث محمد صلى الله عليه و سلم يقسم بين ورثته وليس بمواريثكم ودنياكم او كما قال وقوله فمن اخذه اخذ بحظ وافر اعظم الحظوظ واجداها مانفع
العبد ودام نفعه له وليس هذا الا حظه من العلم والدين فهو الحظ الدائم
النافع الذي إذا انقطعت الحظوظ لاربابها فهو موصول له ابد الابدين وذلك
لانه موصول بالحي الذي لا يموت فلذلك لاينقطع ولا يفوت وسائر الحظوظ تعدم
وتتلاشى بتلاشي متعلقاتها كما قال تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءمنثورا فإن الغاية لما كانت منقطعة زائلة تبعتها اعمالهم فانقطعت
عنهم احوج ما يكون العامل إلى عمله
وهذه هي المصيبة التي لا تجبر عياذا بالله واستعانة به وافتقارا وتوكلا
عليه ولا حول ولا قوة الا بالله وقوله موت العالم مصيبة لاتجبر وثلمة لا
تسد ونجم طمس وموت قبيلة ايسر من موت عالم لما كان صلاح الوجود بالعلماء ولولاهم كان الناس كالبهائم بل أسوأ حالا كان موت العالم مصيبة لا يجبرها الا خلف غيره له وأيضا فإن العلماء هم الذين يسوسون العباد والبلاد والممالك
فموتهم فساد لنظام العالم ولهذا لا يزال الله يغرس في هذا الدين منهم
خالفا عن سالف يحفظ بهم دينه وكتابه وعباده وتأمل إذا كان في الوجود رجل قد
فاق العالم في الغنى والكرم وحاجتهم إلى ما عنده شديدة وهو محسن اليهم بكل ممكن ثم مات وانقطعت عنهم تلك المادة فموت العالم اعظم مصيبة من موت مثل هذا بكثير ومثل هذا يموت بموته أمم وخلائق كما قيل :
تعلم ما الرزية فقد مال ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر ... يموت بموته بشر كثير وقال آخر
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما والوجه الثامن والاربعون ما روى الترمذي من حديث الوليد بن مسلم حدثنا روح بن جناح عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما قال
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيه اشد على الشيطان من الف عابد قال
الترمذي غريب لانعرفه الا من هذا الوجه من حديث الوليد بن مسلم قلت قد رواه
ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي اليقطيني حدثنا عمر بن سعيد بن سنان حدثنا
هشام بن عمار
حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا روح بن جناح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن
ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الخطيب والاول هو المحفوظ عن
روح مجاهد عن ابن عباس وما أرى الوهم وقع في هذا الحديث إلا من ابي جعفر لان عمر بن سنان عنده عن هشام بن عمار عن الوليد عن روح عن الزهري عن سعيد حديث في السماء بيت يقال له البيت المعمور حيال الكعبة وحديث ابن عباس كانا في كتاب ابن سنان عن هشام يتلو احدهما الاخر فكتب ابو جعفر اسناد حديث ابي هريرة رضى الله عنه ثم عارضه لسهو اوزاغ نظره فنزل إلى متن حديث ابن عباس فركب متن هذا على اسناد هذا وكل واحد منهما ثقة مأمون برئ من تعمد الغلط وقد رواه ابو احمد بن عدي عن محمد بن سعيد بن مهران حدثنا شيبان ابو الربيع السمان
عن ابي الزناد عن الاعرج عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم لكل شيء دعامة ودعامة الاسلام الفقه في الدين والفقيه اشد
على الشيطان من ألف
عابد ولهذا الحديث علة وهو انه روى من كلام ابي هريرة وهو اشبه رواه همام بن يحيى حدثنا يزيد بن عياض حدثنا صفوان بن سليم عن سليمان عن يسار عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما عبد
الله بشيء افضل من فقه في الدين قال وقال ابو هريرة لان افقه ساعة احب الي
من ان احيي ليلة اصليها حتى اصبح والفقيه اشد على الشيطان من ألف عابد
ولكل شيء دعامة ودعامة الدين الفقه وقد روى باسناد فيه من لا يحتج به من
حديث عاصم بن ابي النجودعن زر بن حبيش عن عمر بن الخطاب يرفعه ان الفقيه
اشد على الشيطان من الف ورع وألف مجتهد والف متعبد وقال المزني روى عن ابن
عباس انه قال ان الشياطين قالوا لابليس يا سيدنا مالنا نراك تفرح بموت العالم مالا تفرح بموت العابد والعالم لا نصيب منه والعابد نصيب منه قال انطلقوا فانطلقوا إلى عابد
فاتوه في عبادته فقالوا إنا نريد ان نسألك فانصرف فقال ابليس هل يقدر ربك
ان يجعل الدنيا في جوف بيضة فقال لا أدري فقال اترونه كفر في ساعة ثم جاؤوا إلى عالم
في حلقته يضحك اصحابه ويحدثهم فقالوا إنا نريد ان نسألك فقال سل فقال هل
يقدر ربك ان يجعل الدنيا في جوف بيضة قال نعم قالوا كيف قال يقول كن فيكون
فقال أترون ذلك لا يعدو نفسه وهذا يفسد على عالما كثيرا
وقد رويت هذه الحكاية على وجه آخر وإنهم سألوا العابد فقالوا هل يقدر ربك
أن يخلق مثل نفسه فقال لاادري فقال اترونه لم تنفعه عبادته مع جهله وسألوا
عن ذلك فقال هذه المسألة محال لأنه لو كان مثله لم يكن مخلوقا فكونه مخلوقا
وهو مثل نفسه مستحيل فإذا كان مخلوقا لم يكن مثله بل كان عبدا من عبيده
وخلقا من خلقه فقال أترون ذلك اترون هذا يهدم في ساعة ما ابنيه في سنين اوكما قال وروى عن عبد الله بن عمرو فضل العالم على العابد سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس سبعين عاما وذلك ان الشيطان يضع البدعة فيبصرها العالم وينهى عنها والعابد مقبل على عبادة ربه لا يتوجه لها ولا يعرفها وهذا معناه صحيح فإن العالم يفسد على الشيطان ما يسعى فيه ويهدم ما يبنيه فكل ما أراد إحياء بدعة وإماتة
سنة حال العالم بينه وبين ذلك فلا شيء اشد عليه من بقاء العالم بين ظهراني
الامة ولا شيء احب إليه من زواله من بين اظهرهم ليتمكن من إفساد الدين
وإغواء الامة وأما العابد فغايته ان يجاهده ليسلم منه في خاصة نفسه وهيهات له ذلك الوجه التاسع والاربعون ما روى الترمذي من حديث ابي هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم قال الترمذي هذا حديث حسن ولما كانت الدنيا حقيرة عند الله لاتساوي لديه جناح بعوضة كانت وما فيها في غاية البعد منه وهذا هو حقيقة اللعنة وهو سبحانه إنما خلقها مزرعة للآخرة ومعبرا اليها يتزود منها عبادة إليه فلم يكن يقرب منها إلا ما كان متضمنا
لاقامة ذكره ومفضيا إلى محابه وهوالعلم الذي به يعرف الله ويعبد ويذكر ويثنى عليه ويمجد ولهذا خلقها وخلق اهلها كما قال تعالى وما خلقت
الجن والانس الا ليعبدون وقال الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن
يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل
شيء علما فتضمنت هاتان الايتان انه سبحانه إنما خلق السموات والارض وما بينهما ليعرف باسمائه وصفاته وليعبد فهذا المطلوب وما كان طريقا إليه من العلم والتعلم فهو المستثنى من اللعنة واللعنة واقعة على ما عداه إذ هو بعيد عن الله وعن محابه وعن دينه وهذا هو متعلق العقاب في الآخرة فإنه كما كان متعلق اللعنة التي تضمن الذم والبغض فهو متعلق العقاب والله سبحانه إنما يحب من عباده ذكره وعبادته ومعرفته ومحبته ولوازم ذلك وما افضى إليه وما عداه فهو مبغوض له مذموم عنده الوجه الخمسون ما رواه
الترمذي من حديث ابي جعفر الرازي عن الربيع بن انس قال قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع قال
الترمذي هذا حديث حسن غريب رواه بعضهم فلم يرفعه وإنما جعل طلب العلم من سبيل الله لان به قوام الاسلام كما ان
قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد ولهذا كان الجهاد نوعين جهاد
باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير والثاني الجهاد بالحجة والبيان وهذا
جهاد الخاصة من اتباع الرسل وهو جهاد الائمة وهو افضل الجهادين لعظم منفعته
وشدة مؤنته وكثرة اعدائه قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية ولو شئنا
لبعثنا في كل قرية نذيرا فلاتطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا فهذا جهاد
لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين وهو جهاد المنافقين ايضا فإن المنافقين لم
يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوامعهم في الظاهر وربما كانوا
يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار
والمنافقين واغلظ عليهم ومعلوم ان جهاد المنافقين بالحجة والقرآن والمقصود
ان سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله
ولهذا قال معاذ رضى الله عنه عليكم بطلب العلم فإن تعلمه لله خشية
ومدارسته عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد ولهذا قرن سبحانه بين
الكتاب المنزل والحديد الناصر كما قال
تعالى لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب واميزان ليقوم الناس
بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره
ورسله بالغيب ان الله قوي عزيز فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قوام الدين كما قيل :
فما هو إلا الوحي اوحدمرهف ... تميل ظباه اخدعا كل ما يل ... فهذا شفاء الداء من كل عاقل ... وهذا دواء الداء من كل جاهل ... ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة يسمى سبيل الله فسر الصحابة رضى الله عنهم
قوله اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم بالامراء والعلماء
فإنهم المجاهدون في سبيل الله هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بالسنتم بألسنتهم فطلب
العلم وتعليمه من اعظم سبيل الله عز و جل قال كعب الاحبار طالب العلم
كالغادي الرايح في سبيل الله عز و جل وجاء عن بعض الصحابة رضى الله عنهم
إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد وقال سفيان بن عيينة من طلب العلم فقد بايع الله عز و جل وقال ابو الدرداء من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص في عقله ورأيه الوجه الحادي والخمسون ما رواه
الترمذي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا ابو اسامة عن الاعمش عن ابي صالح عن
ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من سلك طريقا يلتمس فيه
علما سهل الله له طريقا إلى الجنة
قال الترمذي هذا حديث حسن قال بعضهم ولم يقل في هذا الحديث صحيح لانه يقال
دلس الاعمش في هذا الحديث لانه رواه بعضهم فقال حدثت عن ابي صالح والحديث
رواه مسلم في صحيحه من اوجه عن الاعمش عن ابي صالح قال الحاكم في المستدرك
هو صحيح على شرط البخاري ومسلم رواه عن الاعمش جماعة
منهم زايدة وأبو معاوية وابن نمير وقد تقدم حديث ابي الدرداء في ذلك
والحديث محفوظ وله اصل وقد تظاهر الشرع والقدر على ان الجزاء من جنس العمل
فكما سلك
طريقا يطلب فيه حياة قلبه ونجاته من الهلاك سلك الله به طريقا يحصل له ذلك
وقد روى من حديث عائشة رواه ابن عدي من حديث محمد بن عبد الملك الانصاري
عن الزهري عن عروة عنها مرفوعا ولفظه اوحى الله إلى انه من سلك مسلكا يطلب العلم سهلت له طريقا إلى الجنة
الوجه الثاني الخمسون ان النبي صلى الله عليه و سلم دعا لمن سمع كلامه
ووعاه وبلغه بالنضرة وهي البهجة ونضارة الوجه وتحسينه ففي الترمذي وغيره من
حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال نضر الله امرا سمع
مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو افقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم اخلاص العمل لله ومناصحة ائمة المسلمين ولزوم جماعتهم
فإن دعوتهم تحيط من ورائهم وروى هذا الاصل عن النبي صلى الله عليه و سلم
ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وجبير بن مطعم وانس بن مالك وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير قال الترمذي حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح وحديث زيد بن ثابت حديث حسن وأخرج الحاكم في صحيحه حديث جبير بن مطعم والنعمان
بن بشير وقال في حديث جبير على شرط البخاري ومسلم ولو لم يكن في فضل العلم
الا هذا وحده لكفى به شرفا فإن النبي صلى الله عليه و سلم دعا لمن سمع
كلامه ووعاه وحفظه وبلغه وهذه هي مراتب العلم اولها وثانيها سماعه وعقله فإذا سمعه وعاه بقلبه أي عقله واستقر في قلبه كما يستقر الشيء الذي يوعى في وعائه ولا يخرج منه
وكذلك عقله هو بمنزلة عقل البعير والدابة ونحوها حتى لا تشرد وتذهب ولهذا
كان الوعي والعقل قدرا زائدا على مجرد إدراك المعلوم المرتبة الثالثة
تعامده وحفظه حتى لاينساه فيذهب المرتبة الرابعة تبليغه وبثه في الامة
ليحصل به ثمرته ومقصوده وهو بثه في الامة فهو بمنزلة الكنز المدفون في
الارض الذي لا ينفق منه وهو معرض لذهابه فإن العلم ما لم ينفق منه ويعلم فإنه يوشك ان يذهب فإذا انفق منه نما وزكا على الانفاق فمن قام بهذه المراتب الاربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمنة لجمال الظاهر والباطن فإن النضرة هي البهجة والحسن الذي يكساه الوجه من آثار الايمان
وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتذاذه به فتظهر هذه البهجة
والسرور والفرحة نضارة على الوجه ولهذا يجمع له سبحانه بين البهجة والسرور
والنضرة كما في
قوله تعالى فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا فالنضرة في
وجوههم والسرور في قلوبهم فالنعيم وطيب القلب يظهر نضارة في الوجه كما قال
تعالى تعرف في وجوههم نضرة النعيم والمقصود ان هذه النضرة في وجه من سمع
سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ووعاها وحفظها وبلغها فهي اثر تلك
الحلاوة والبهجة والسرور الذي في قلبه وباطنه وقوله صلى الله عليه و سلم رب
حامل فقه إلى من هو افقه منه تنبيه على فائدة التبليغ وان المبلغ قد يكون افهم من المبلغ فيحصل له في تلك المقالة ما لم
يحصل للمبلغ او يكون المعنى ان المبلغ قد يكون افقه من المبلغ فإذا سمع
تلك المقالة حملها على احسن وجوهها واستنبط فقهها وعلم المراد منها وقوله
صلى الله عليه و سلم ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إلى آخره
اي لايحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة فإنها تنفى الغل والغش وهو
فساد القلب وسخايمه فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملة
لانه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه فلم يبق فيه موضع للغل والغش كما قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فلما اخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء فانصرف عنه السوء والفحشاء ولهذا لما علم
ابليس انه لا سبيل له على اهل الاخلاص استثناهم من شرطته التي اشترطها
للغواية والاهلاك فقال فبعزتك لاغوينهم اجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال
تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فالاخلاص هو
سبيل الخلاص والإسلام هو مركب السلامة والايمان خاتم الامان
وقوله ومناصحة ائمة المسلمين هذا ايضا مناف للغل والغش فإن النصيحة لا
تجامع الغل إذ هي ضده فمن نصح الائمة والامة فقد برئ من الغل وقوله ولزوم جماعتهم هذا ايضا مما يطهر القلب من الغل والغش فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها ويسوؤه ما يسؤوهم ويسره ما يسرهم وهذا بخلاف من انجاز عنهم واشتغل بالطعن
عليهم والعيب والذم لهم كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم فإن
قلوبهم ممتلئة نحلا وغشا ولهذا تجد الرافضة ابعد الناس من الاخلاص اغشهم
للائمة والامة واشدهم بعدا عن جماعة
المسلمين فهؤلاء اشد الناس غلا وغشا بشهادة الرسول والامة عليهم وشهادتهم
على انفسهم بذلك فانهم لايكونون قط الا اعوانا وظهرا على اهل الاسلام فاي
عدو قام للمسلمين كانوا اعوان ذلك العدو وبطانته وهذا امر قد شاهدته الامة
منهم ومن لم يشاهد فقد سمع منه ما يصم
الاذان ويشجي القلوب وقوله فإن دعوتهم تحيط من ورائهم هذا من احسن الكلام
وأوجزه وافخمه معنى شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم المانع من دخول عدوهم عليهم فتلك الدعوة التي هي دعوة الاسلام وهم داخلونها لما كانت سورا وسياجا عليهم اخبر ان من لزم جماعة المسلمين احاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الاسلام كما احاطت بهم فالدعوة تجمع شمل الامة وتلم شعثها وتحيط بها فمن دخل في جماعتها
احاطت به وشملته الوجه الثالث والخمسون ان النبي صلى الله عليه و سلم امر
بتبليغ العلم عنه ففي الصحيحين من حديث عبد الله ابن عمرو قال قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج
ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وقال ليبلغ الشاهد منكم الغائب
روى ذلك ابو بكرة ووابصة بن معبد وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس واسماء
بنت يزيد بن السكن وحجير وابو قريع وسرى بنت نبهان ومعاوية بن حيدة
القشيري وعم ابي حرة وغيرهم فأمر صلى الله عليه و سلم بالتبلغ عنه لما في ذلك من حصول الهدى بالتبلغ وله صلى الله عليه و سلم اجر من بلغ عنه واجر من قبل ذلك البلاغ وكلما كثر التبلغ عنه تضاعف له الثواب فله من الاجر بعدد كل مبلغ وكل مهتد بذلك البلاغ سوى ماله من اجر عمله المختص به فكل من هدى واهتدى بتبليغه فله اجره لانه هو الداعي إليه ولو لم يكن في تبليغ العلم عنه الا حصول ما يحبه
صلى الله عليه و سلم لكفى به فضلا وعلامة المحب الصادق ان يسعى في حصول
محبوب محبوبه ويبذل جهده وطاقته فيها ومعلوم انه لا شيء احب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من ايصاله الهدى إلى جميع
الامة فالمبلغ عنه ساع في حصول محابه فهو اقرب الناس منه واحبهم إليه وهو
نائبه وخليفته في امته وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم واهله الوجه الرابع
والخمسون ان النبي صلى الله عليه و سلم قدم بالفضائل العلمية في أعلا
الولايات الدينية واشرفها وقدم بالعلم بالافضل على غيره فروى مسلم في صحيحه
من حديث ابي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه و سلم يؤم القوم اقرؤهم
لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة
سواء فاقدمهم إسلاما او سنا وذكر الحديث فقدم في الامامة تفضيله العلم علىتقدم الاسلام والهجرة ولما كان
العلم بالقرآن افضل من العلم بالسنة لشرف معلومه على معلوم السنة قدم
العلم به ثم قدم العلم بالسنة على تقدم الهجرة وفيه من زيادة العمل ماهو متميز به لكن إنما راعى التقديم بالعلم ثم بالعمل وراعى التقديم بالعلم بالافضل على غيره وهذا يدل على شرف العلم وفضله وإن اهله هم اهل التقدم إلى المراتب الدينية الوجه الخامس والخمسون ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان
بن عفان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال خيركم من تعلم
القرآن وعلمه وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها وتعلم
معانيه وتعليمها وهو اشرف قسمي علمه وتعليمه فإن المعنى هو المقصود واللفظ
وسيلة إليه فنعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها وتعلم اللفظ المجرد
وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها وبينهما كما بين الغايات والوسائل الوجه السادس والخمسون ما رواه
الترمذي وغيره في نسخة عمرو ابن الحارث عن دراج عن ابي الهيثم عن ابي سعيد
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون
منتهاه الجنة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وهذه نسخةمعروفة رواها الناس
وساق احمد في المسند أكثرها او كثيرا منها ولهذا الحديث شواهد فجعل النبي
صلى الله عليه و سلم النهمة في العلم وعدم الشبع منه من لوازم الايمان واوصاف المؤمنين واخبر ان هذا لا يزال دأب المؤمن حتى دخوله الجنة ولهذا كان أئمة الاسلام إذا قيل لاحدهم إلى متى تطلب العلم فيقول إلى الممات قال نعيم ابن حماد سمعت عبد الله بن المبارك رضى الله عنه يقول وقد عابه قوم في كثرة طلبه للحديث فقالوا له إلى متى تسمع قال إلى الممات وقال الحسين بن منصور الخصاص قلت لاحمد بن حنبل رضى الله عنه إلى متى يكتب الرجل الحديث قال إلى الموت وقال عبد الله بن محمد البغوي سمعت احمد بن حنبل رضى الله عنه يقول إنما اطلب العلم إلى ان ادخل القبر وقال محمد بن إسماعيل
الصائغ كنت اصوغ مع ابي ببغداد فمر بنا احمد بن حنبل وهو يعدو ونعلاه في
يديه فأخذ ابي بمجامع ثوبه فقال يا ابا عبد الله الا تستحي إلى متى تعدو مع هؤلاء قال إلى الموت
وقال عبد الله بن بشر الطالقاني ارجو ان يأتيني أمر ابي والمحبرة بين يدي
ولم يفارقني العلم والمحبرة وقال حميد بن محمد بن يزيد البصري جاء ابن
بسطام الحافظ يسألني عن الحديث فقلت له ما اشد حرصك على الحديث فقال او ما احب ان اكون في قطار آل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل لبعض العلماء متى يحسن بالمرء ان يتعلم قال ما حسنت به الحياة وسئل الحسن عن الرجل له ثمانون سنة ايحسن ان يطلب العلم قال إن كان يحسن به ان يعيش الوجه السابع والخمسون ما رواه
الترمذي ايضا من حديث إبراهيم بن الفضل عن المقبري عن ابي هريرة رضى الله
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث
وجدها فهو احق بها قال الترمذي هذا
حديث غريب لانعرفه الا من هذا الوجه وإبراهيم ابن الفضل المديني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه وهذا ايضا شاهد لما تقدم
وله شواهد والحكمة هي العلم فإذا فقده المؤمن فهو بمنزلة من فقد ضالة
نفيسة من نفائسه فإذا وجدها قر قلبه وفرحت نفسه بوجدانها كذلك المؤمن إذا
وجد ضالة قلبه وروحه التي هو دائما في
طلبها ونشدانها والتفتيش عليها وهذا من احسن الامثلة فإن قلب المؤمن يطلب
العلم حيث وجده اعظم من طلب صاحب الضالة لها الوجه الثامن والخمسون قال
الترمذي حدثنا ابو كريب حدثنا خلف بن ايوب عن عوف عن ابن سيرين عن ابي
هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم خصلتان لا يجتمعان في
منافق حسن سمت وفقه في الدين قال الترمذي هذا حديث غريب ولا يعرف هذا
الحديث من حديث عوف الا من حديث هذا الشيخ خلف بن أيوب العامري ولم أر احدا
يروى عنه غير ابي كريب محمد بن العلاء ولا أدري كيف هو وهذه شهادة بان من
اجتمع فيه حسن السمت والفقه في الدين فهو مؤمن واحرى بهذا الحديث ان يكون
حقا وإن كان اسناده فيه جهالة فان حسن السمت والفقه في الدين من اخص علامات الايمان ولن يجمعهما الله في منافق فان النفاق ينافيهما وينافيانه
الوجه التاسع والخمسون قال الترمذي حدثنا مسلم ابن حاتم الانصاري حدثنا
ابوحاتم البصري حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري عن ابيه عن علي بن زيد عن
سعيد بن المسيب قال قال انس بن مالك
رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا بني ان قدرت ان تصبح
وتمسي وليس في قلبك غش لاحد فافعل ثم قال يا بني وذلك من سنتي ومن احيا
سنتي فقد احبني ومن احبني كان معي في الجنة وفي الحديث قصة طويلة قال
الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ومحمد بن عبد الله الانصاري صدوق
وابوه ثقة وعلي بن زيد صدوق الا انه ربما يرفع
الشيء الذي يوقفه غيره سمعت محمد بن بشارة يقول قال ابو الوليد قال شعبة
حدثنا على بن زيد وكان رفاعا قال الترمذي ولا يعرف لسعيد من السميب عن انس
رواية الا هذا الحديث بطوله وقد روى عباد المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد
عن انس ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب وذاكرت به محمد بن اسمعيل فلم
يعرفه ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن انس هذا الحديث ولا غيره ومات انس سنة ثلاث وتسعين وسعيد بن المسيب سنة خمس وتسعين بعده بسنتين قلت ولهذا الحديث شواهد منها ما رواه
الدارمي عبد الله حدثنا محمد بن عيينة عن مروان بن معاوية الفزاري عن كثير
ابن عبد الله عن ابيه عن جده ان النبي صلى الله عليه و سلم قال لبلال بن
الحارث اعلم قال ما أعلم يا رسول الله قال اعلم يا بلال قال ما اعلم
يا رسول الله قال انه من احيا سنة من سنني قد اميتت بعدي كان له من الاجر
مثل من عمل بها من غير ان ينقص من اجورهم شيء ومن ابتدع
بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص
ذلك من اوزار الناس شيئا رواه الترمذي عنه وقال حديث حسن قال ومحمد بن
عيينة مصيصي شامي وكثير ابن عبد الله هو ابن عمرو بن عوف المزني وفي حديثه
ثلاثة اقوال لاهل الحديث منهم من يصححه ومنهم من يحسنه وهما للترمذي ومنهم من يضعفه ولا يراه حجة كالامام احمد وغيره ولكن هذا الاصل ثابت من وجوه كحديث من دعا إلى هدى
كان له من الاجر مثل احور من اتبعه وهو صحيح من وجوه وحديث من دل على خير
فله مثل اجر فاعله وهو حديث حسن رواه الترمذي وغيره فهذا الاصل محفوظ عن
النبي صلى الله عليه و سلم فالحديث الضعيف فيه بمنزلة الشواهد والمتابعات
فلا يضر ذكره الوجه الستون ان النبي صلى الله عليه و سلم اوصى بطلبه العلم
خيرا وما ذاك
الا لفضل مطلوبهم وشرفه قال الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابو داود
الحفري عن سفيان عن ابي هرون قال كنا نأتي ابا سعيد فيقول مرحبا بوصية رسول
الله صلى الله عليه و سلم ان النبي صلى الله عليه و سلم قال ان الناس لكم
تبع وان رجالا يأتونكم من اقطار الارض يتفقهون في الدين فإذا اتوكم
فاستوصوا بهم خيرا حدثنا قتيبة حدثنا روح بن قيس عن ابي هرون العبدي عن ابي
سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يأتيكم رجال من قبل المشرق
يتعلمون فإذا جاؤكم فاستوصوا بهم خيرا فكان ابو سعيد إذا رآنا قال مرحبا
بوصية رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الترمذي هذا حديث لانعرفه الا من
حديث ابي هرون العبدي عن ابي سعيد قال ابو بكر العطار قال علي ابن المديني
قال يحيى بن سعيد كان شعبة يضعف ابا هرون العبدي قال يحيى وما زال ابن عوف يروى عن ابي هرون حتى مات وأبو هرون اسمه عمارة بن جوين الوجه الحادي والستون ما رواه الترمذي من حديث ابي داود عن عبد الله بن سنحبرة عن سنحبرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من طلب العلم كان كفارة لما مضى
هذا الاصل لم اجد فيه الا هذا الحديث وليس بشيء فان ابا داود هو نفيع
الاعمى غير ثقة ولكن قد تقدم ان العالم يستغفر له من في السموات ومن في
الارض وقد رويت آثار عديدة عن جماعة من الصحابة في هذا المعنى منها ما رواه الثوري عن عبد الكريم عن مجاهد عن ابن عباس ان ملكا موكلا بطالب العلم حتى يرده من حيث ابداه مغفورا له ومنها ما رواه قطر بن خليفة عن ابي الطفيل عن علي ما انتعل
عبد قط ولا تخفف ولا لبس ثوبا ليغدو في طلب العلم إلا غفرت ذنوبه حيث يخطو
عند باب بيته وقد رواه ابن عدي مرفوعا وقال ليس يرويه عن قطر غير اسمعيل
ابن يحيى التميمي قلت وقد رواه اسمعيل بن يحيى هذا عن الثوري حدثنا محمد بن
ايوب الجوزجاني عن مجالد عن الشعبي عن الاسود عن عائشة مرفوعا من انتعل
ليتعلم خيرا غفر له قبل ان
يخطو وقد
رواه عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن قطر عن ابي الطفيل عن علي وهذه
الاسانيد وان لم تكن بمفردها حجة فطلب العلم من افضل الحسنات والحسنات
يذهبن السيئات فجدير ان يكون طلب العلم ابتغاء وجه الله يكفر ماضي من السيئات فقد دلت النصوص ان اتباع السيئة الحسنة تمحوها فكيف بما هو
من افضل الحسنات واجل الطاعات فالعمدة على ذلك لاعلى حديث ابي داود والله
اعلم وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ان الرجل ليخرج من منزله وعليه
من الذنوب مثل جبال تهامة فإذا سمع العلم خاف ورجع وتاب فانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلاتفارقوا مجالس العلماء الوجه الثاني والستون ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا في المسجد مجلسان مجلس يتفقهون ومجلس يدعون الله تعالى ويسألونه فقال كلا المجلسين إلى خير اماهؤلاء فيدعون الله وأما هؤلاء
فيتعلمون ويفقهون الجاهل هؤلاء افضل بالتعليم ارسلت ثم قعد معهم الوجه
الثالث والستون ان الله تبارك وتعالى يباهي ملائكته بالقوم الذين يتذاكرون
العلم ويذكرون الله ويحمدونه علىما من عليهم به منه قال الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار حدثنا ابو نعامة عن ابي عثمان عن ابي سعيد قال خرج معاوية إلى المسجد فقال م يجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله عز و جل قال الله ما اجلسكم إلا ذلك قالوا الله ما اجلسنا إلا ذلك قال أما إني لم استحلفكم تهمة لكم وما كان احد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه و سلم اقل حديثا عنه مني ان رسول الله ص عليه وآله وسلم خرج على حلقة من اصحابه قال ما يجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للاسلام ومن علينا بك قال الله ما اجلسكم إلا ذلك قالوا الله ما اجلسنا إلا ذلك قال أما إني
لم استحلفكم تهمة لكم انه اتاني جبريل فأخبرني ان الله تعالى يباهي بكم
الملائكة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه الا من هذا الوجه وابو
نعامة السعدي اسمه عمرو بن عيسى وأبو عثمان
النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل فهؤلاء كانوا قد جلسوا يحمدون الله بذكر
اوصافه وآلائه ويثنون عليه بذلك ويذكرون حسن الإسلام ويعترفون لله بالفضل
العظيم إذ هداهم له ومن عليهم برسوله وهذا اشرف علم على الاطلاق ولا يعني
به الا الراسخون في العلم فإنه يتضمن معرفة الله وصفاته وافعاله ودينه
ورسوله ومحبة ذلك وتعظيمه والفرح به وأحرى بأصحاب هذا العلم ان يباهي الله
بهم الملائكة وقد بشر النبي صلى الله عليه و سلم الرجل الذي كان يحب سورة
الاخلاص وقال احبها لانها صفة الرحمن عز و جل فقال حبك اياها ادخلك الجنة
وفي لفظ آخر اخبروه ان الله يحبه فدل على ان من احب صفات الله احبه الله
وأدخله الجنة والجهمية اشد الناس نفرة وتنفيرا عن صفاته ونعوت كماله يعاقبون ويذمون من
يذكرها ويقرؤها ويجمعها ويعتني بها ولهذا لهم المقت والذم عند الامة وعلى لسان كل عالم من علماء
الاسلام والله تعالى اشد بغضا ومقتا لهم جزاء وفاقا الوجه الرابع والستون
ان افضل منازل الخلق عند الله منزلة الرسالة والنبوة فالله يصطفى من
الملائكة رسلا ومن الناس وكيف لا يكون افضل الخلق عند الله من جعلهم وسائط
بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته وتعريف اسمائه وصفاته وأفعاله واحكامه ومراضيه ومساخطه وثوابه وعقابه وخصهم بوحيه واختصهم بتفضيله وارتضاهم لرسالته إلى عباده وجعلهم ازكى العالمين نفوسا واشرفهم اخلاقا واكملهم علوما واعمالا
واحسنهم خلقة واعظمهم محبة وقبولا في قلوب الناس وبرأهم من كل وصم وعيب
وكل خلق دنيء وجعل اشرف مراتب الناس بعدهم مرتبة خلافتهم ونيابتهم في اممهم
فانهم يخلفونهم على منهاجهم وطريقهم من نصيحتهم للأمة وارشادهم الضال
وتعليمهم الجاهل ونصرهم المظلوم واخذهم على يد الظالم وامرهم بالمعروف
وفعله ونهيهم عن المنكر وتركه والدعوة إلى الله
بالحكمة للمستجيبين والموعظة الحسنة للمعرضين الغافلين والجدال بالتي هي
احسن للمعاندين المعارضين فهذه حال اتباع المرسلين وورثه النبيين قال تعالى
قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسواء كان المعنى أنا ومن اتبعني على بصيرة وانا ادعو إلى الله او المعنى ادعو إلى الله على بصيرة والقولان متلازمان فإنه لا يكون من اتباعه حقا إلا من دعا إلى الله على بصيرة كما كان متبوعه يفعل صلى الله عليه و سلم فهؤلاء خلفاء الرسل حقا وورثتهم دون الناس وهم أولو العلم الذين قاموا بما جاء به علما وعملا وهداية وارشادا وصبرا وجهادا وهؤلاء هم الصديقون وهم افضل اتباع الانبياء ورأسهم وإمامهم
الصديق الاكبر ابو بكر رضى الله عنه قال الله تعالى ومن يطع الله والرسول
فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما فذكر مراتب السعداء وهي اربعة وبدأ باعلاهم مرتبة ثم الذين يلونهم إلى آخر المراتب وهؤلاء الاربعة هم اهل الجنة الذين هم اهلها جعلنا الله منهم بمنه وكرمه الوجه الخامس والستون ان الانسان إنما يميز على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان وإلا فغيره من الدواب والسباع أكثر أكلا منه واقوى بطشا وأكثر جماعا واولادا واطول اعمارا وإنما ميز
على الدواب والحيوانات بعلمه وبيانه فإذا عدم العلم بقى معه القدر المشترك
بينه وبين سائر الدواب وهي الحيوانية المحضة فلا يبقى فيه فضل عليهم بل قد
يبقى شرا منهم كما قال
تعالى في هذا الصنف من الناس إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا
يعقلون فهؤلاء هم الجهال ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم أي ليس عندهم محل
قابل للخير ولو كان محلهم قابلا للخير لاسمعهم أي
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
يخطو وقد رواه عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن قطر عن ابي
الطفيل عن علي وهذه الاسانيد وان لم تكن بمفردها حجة فطلب العلم من افضل
الحسنات والحسنات يذهبن السيئات فجدير ان يكون طلب العلم ابتغاء وجه الله
يكفر ماضي من السيئات فقد دلت النصوص ان اتباع السيئة الحسنة تمحوها فكيف بما هو
من افضل الحسنات واجل الطاعات فالعمدة على ذلك لاعلى حديث ابي داود والله
اعلم وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ان الرجل ليخرج من منزله وعليه
من الذنوب مثل جبال تهامة فإذا سمع العلم خاف ورجع وتاب فانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلاتفارقوا مجالس العلماء الوجه الثاني والستون ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا في المسجد مجلسان مجلس يتفقهون ومجلس يدعون الله تعالى ويسألونه فقال كلا المجلسين إلى خير اماهؤلاء فيدعون الله وأما هؤلاء
فيتعلمون ويفقهون الجاهل هؤلاء افضل بالتعليم ارسلت ثم قعد معهم الوجه
الثالث والستون ان الله تبارك وتعالى يباهي ملائكته بالقوم الذين يتذاكرون
العلم ويذكرون الله ويحمدونه علىما من عليهم به منه قال الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار حدثنا ابو نعامة عن ابي عثمان عن ابي سعيد قال خرج معاوية إلى المسجد فقال م يجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله عز و جل قال الله ما اجلسكم إلا ذلك قالوا الله ما اجلسنا إلا ذلك قال أما إني لم استحلفكم تهمة لكم وما كان احد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه و سلم اقل حديثا عنه مني ان رسول الله ص عليه وآله وسلم خرج على حلقة من اصحابه قال ما يجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للاسلام ومن علينا بك قال الله ما اجلسكم إلا ذلك قالوا الله ما اجلسنا إلا ذلك قال أما إني
لم استحلفكم تهمة لكم انه اتاني جبريل فأخبرني ان الله تعالى يباهي بكم
الملائكة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه الا من هذا الوجه وابو
نعامة السعدي اسمه عمرو بن عيسى وأبو عثمان
النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل فهؤلاء كانوا قد جلسوا يحمدون الله بذكر
اوصافه وآلائه ويثنون عليه بذلك ويذكرون حسن الإسلام ويعترفون لله بالفضل
العظيم إذ هداهم له ومن عليهم برسوله وهذا اشرف علم على الاطلاق ولا يعني
به الا الراسخون في العلم فإنه يتضمن معرفة الله وصفاته وافعاله ودينه
ورسوله ومحبة ذلك وتعظيمه والفرح به وأحرى بأصحاب هذا العلم ان يباهي الله
بهم الملائكة وقد بشر النبي صلى الله عليه و سلم الرجل الذي كان يحب سورة
الاخلاص وقال احبها لانها صفة الرحمن عز و جل فقال حبك اياها ادخلك الجنة
وفي لفظ آخر اخبروه ان الله يحبه فدل على ان من احب صفات الله احبه الله
وأدخله الجنة والجهمية اشد الناس نفرة وتنفيرا عن صفاته ونعوت كماله يعاقبون ويذمون من
يذكرها ويقرؤها ويجمعها ويعتني بها ولهذا لهم المقت والذم عند الامة وعلى لسان كل عالم من علماء
الاسلام والله تعالى اشد بغضا ومقتا لهم جزاء وفاقا الوجه الرابع والستون
ان افضل منازل الخلق عند الله منزلة الرسالة والنبوة فالله يصطفى من
الملائكة رسلا ومن الناس وكيف لا يكون افضل الخلق عند الله من جعلهم وسائط
بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته وتعريف اسمائه وصفاته وأفعاله واحكامه ومراضيه ومساخطه وثوابه وعقابه وخصهم بوحيه واختصهم بتفضيله وارتضاهم لرسالته إلى عباده وجعلهم ازكى العالمين نفوسا واشرفهم اخلاقا واكملهم علوما واعمالا
واحسنهم خلقة واعظمهم محبة وقبولا في قلوب الناس وبرأهم من كل وصم وعيب
وكل خلق دنيء وجعل اشرف مراتب الناس بعدهم مرتبة خلافتهم ونيابتهم في اممهم
فانهم يخلفونهم على منهاجهم وطريقهم من نصيحتهم للأمة وارشادهم الضال
وتعليمهم الجاهل ونصرهم المظلوم واخذهم على يد الظالم وامرهم بالمعروف
وفعله ونهيهم عن المنكر وتركه والدعوة إلى الله
بالحكمة للمستجيبين والموعظة الحسنة للمعرضين الغافلين والجدال بالتي هي
احسن للمعاندين المعارضين فهذه حال اتباع المرسلين وورثه النبيين قال تعالى
قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسواء كان المعنى أنا ومن اتبعني على بصيرة وانا ادعو إلى الله او المعنى ادعو إلى الله على بصيرة والقولان متلازمان فإنه لا يكون من اتباعه حقا إلا من دعا إلى الله على بصيرة كما كان متبوعه يفعل صلى الله عليه و سلم فهؤلاء خلفاء الرسل حقا وورثتهم دون الناس وهم أولو العلم الذين قاموا بما جاء به علما وعملا وهداية وارشادا وصبرا وجهادا وهؤلاء هم الصديقون وهم افضل اتباع الانبياء ورأسهم وإمامهم
الصديق الاكبر ابو بكر رضى الله عنه قال الله تعالى ومن يطع الله والرسول
فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما فذكر مراتب السعداء وهي اربعة وبدأ باعلاهم مرتبة ثم الذين يلونهم إلى آخر المراتب وهؤلاء الاربعة هم اهل الجنة الذين هم اهلها جعلنا الله منهم بمنه وكرمه الوجه الخامس والستون ان الانسان إنما يميز على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان وإلا فغيره من الدواب والسباع أكثر أكلا منه واقوى بطشا وأكثر جماعا واولادا واطول اعمارا وإنما ميز
على الدواب والحيوانات بعلمه وبيانه فإذا عدم العلم بقى معه القدر المشترك
بينه وبين سائر الدواب وهي الحيوانية المحضة فلا يبقى فيه فضل عليهم بل قد
يبقى شرا منهم كما قال
تعالى في هذا الصنف من الناس إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا
يعقلون فهؤلاء هم الجهال ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم أي ليس عندهم محل
قابل للخير ولو كان محلهم قابلا للخير لاسمعهم أي
لافهمهم والسمع ههنا سمع فهم والا فسمع الصوت حاصل لهم وبه قامت حجة الله
عليهم قال تعالى ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون وقال تعالى
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بمالا يسمع الا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون وسواء كان المعنى ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا
يسمع من الدواب إلا اصواتا مجردة او كان المعنى ومثل الذين كفروا حين
ينادون كمثل دواب الذي ينعق بها فلا تسمع الا صوت الدعاء والنداء فالقولان
متلازمان بل هما واحد وإن كان التقدير الثاني اقرب إلى اللفظ
وأبلغ في المعنى فعلى التقديرين لم يحصل لهم من الدعوة إلا الصوت الحاصل
للأنعام فهؤلاء لم يحصل لهم حقيقة الانسانية التي يميز بها صاحبها عن سائر
الحيوان والسمع يراد به ادراك الصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به القبول
والاجابة والثلاثة في القرآن فمن الاول قوله قد سمع الله قول التي تجادلك
في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير وهذا اصرح ما يكون في إثبات صفة السمع ذكر الماضي والمضارع واسم الفاعل سمع ويسمع وهو سميع وله السمع كما قالت عائشة رضى الله عنها الحمد لله الذي وسع سمعه الاصوات لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم وأنا في جانب البيت وأنه ليخفى على بعض كلامها
فأنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها والثاني سمع الفهم كقوله
ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم أي لافهمهم ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون لما في قلوبهم من الكبر والاعراض عن قبول الحق ففيهم آفتان إحداهما انهم
لا يفهمون الحق لجهلهم ولو فهموه لتولوا عنه وهم معرضون عنه لكبرهم وهذا
غاية النقص والعيب والثالث سمع القبول والاجابة كقوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم أي قابلون مستجيبون ومنه قوله سماعون
للكذب أي قابلون له مستجيبون لاهله ومنه قول المصلى سمع الله لمن حمده أي
اجاب الله حمد من حمده ودعاء من دعاه وقول النبي صلى الله عليه و سلم إذا
قال الامام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم أي يجيبكم والمقصود ان الانسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده كان الحيوان البهيم خيرا منه لسلامته في المعاد مما يهلكه دون الانسان الجاهل الوجه السادس والستون إن العلم حاكم علىما سواه ولا يحكم عليه شيء فكل شيء اختلف في وجوده وعدمه وصحته وفساده ومنفعته ومضرته ورجحانه ونقصانه وكماله ونقصه ومدحه وذمه ومرتبته في الخير وجودته ورداءته وقربه وبعده وإفضائه إلىمطلوب كذا وعدم إفضائه وحصول المقصود به وعدم حصوله إلى سائر جهات المعلومات فإن العلم حاكم على ذلك كله فإذا حكم العلم انقطع النزاع ووجب الاتباع وهو الحاكم على الممالك والسياسات والاموال
والاقلام فملك لا يتأيد بعلم لا يقوم وسيف بلا علم مخراق لاعب وقلم بلا
علم حرمة حركةعابث والعلم مسلط حاكم على ذلك كله ولا يحكم شيء من ذلك على
العلم وقد اختلف في تفضيل مداد العلماء
على دم الشهداء وعكسه وذكر لكل قول وجوه من التراجيح والادلة ونفس هذا
النزاع دليل على تفضيل العلم ومرتبته فإن الحاكم في هذه المسئلة هو العلم
فيه واليه وعنده يقع التحاكم والتخاصم والمفضل منهما من حكم له بالفضل فإن قيل فكيف يقبل حكمه لنفسه قيل وهذا ايضا دليل على تفضيله وعلو مرتبته وشرفه فإن الحاكم إنما لم يسغ ان يحكم لنفسه لاجل مظنة التهمة والعلم تلحقه تهمة في حكمه لنفسه فإنه إذا حكم حكم بما تشهد
العقول والنظر بصحته وتتلقاه بالقبول ويستحيل حكمه لتهمة فإنه إذا حكم بها
انعزل عن مرتبته وانحط عن درجته فهو الشاهد المزكي العدل والحاكم الذي لا
يجور ولا يعزل فإن قيل فماذا حكمه في هذه المسئلة التي ذكرتموها قيل هذه المسئلة كثر فيها الجدال واتسع المجال وأدلى كل منهما بحجته واستعلى بمرتبته والذي يفصل النزاع ويعيد المسالة إلىمواقع الاجماع الكلام في أنواع مراتب الكمال وذكر الافضل منهما والنظر في أي هذين الامرين اولى به واقرب إليه فهذه الاصول الثلاثة تبين الصواب ويقع بها فصل الخطاب فاما مراتب الكمال
فاربع النبوة والصديقية والشهادة والولاية وقد ذكرها الله سبحانه في قوله
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى
بالله عليما وذكر تعالى هؤلاء الاربع في سورة الحديد فذكر تعالى الايمان به وبرسوله ثم ندب المؤمنين إلى ان
تخشع قلوبهم لكتابه ووحيه ثم ذكر مراتب الخلائق شقيهم وسعيدهم فقال إن
المصدقين والمصدقات واقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم اجر كريم والذين
آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداءعند ربهم لهم اجرهم ونورهم
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب الجحيم وذكر المنافقين قبل ذلك
فاستوعبت هذه الاية اقسام العباد شقيهم وسعيدهم والمقصود انه ذكر فيها
المراتب الاربعة الرسالة والصديقية والشهادة والولاية فأعلا هذه المراتب
النبوة والرسالة ويليها الصديقية فالصديقون هم أئمة اتباع الرسل ودرجتهم
اعلا الدرجات بعد النبوة فإن جرى قلم العالم بالصديقية وسال مداده بها كان
افضل من دم الشهيد الذي لم يحلقه في رتبة الصديقية وان سال دم الشهيد
بالصديقية وقطر عليها كان افضل من مداد العالم الذي قصر عنها فافضلهما صديقهما فان استويا في الصديقية استويا في المرتبة والله اعلم والصديقية هي كمال الايمان بما جاء به الرسول علما وتصديقا وقياما فهي راجعة إلى نفس العلم فكل من كان اعلم بما جاء به الرسول واكمل تصديقا له كان اتم صديقية فالصديقية شجرة اصولها العلم وفروعها التصديق وثمرتها العمل فهذه كلمات
جامعة في مسئلة العالم والشهيد وايهما افضل الوجه السابع والستون ان النصوص النبوية قد تواترت بان افضل الاعمال إيمان بالله فهو رأس الامر والاعمال بعده على مراتبها ومنازلها والايمان له ركنان احدهما معرفة ما جاء
به الرسول والعلم به والثاني تصديقه بالقول والعمل والتصديق بدون العلم
والمعرفة محال فإنه فرع العلم بالشيء المصدق به فإذا العلم من الايمان بمنزلة الروح من الجسد ولاتقوم شجرة الايمان الا على ساق العلم والمعرفة فالعلم إذا اجل المطالب واسنى المواهب الوجه الثامن والستون ان صفات الكمال كلها ترجع إلى العلم والقدرة والارادة والارادة فرع العلم فإنهاتستلزم الشعور بالمراد فهي مفتقرة إلى العلم في ذاتها وحقيقتها والقدرة لا تؤثر إلا بواسطة الارادة والعلم لايفتقر في تعلقه بالمعلوم إلى واحدة منهما وأما القدرة وإلارادة فكل منها يفتقر في تعلقه بالمراد والمقدور إلى العلم
وذلك يدل على فضيلته وشرف منزلته الوجه التاسع والستون ان العلم اعم
الصفات تعلقا بمتعلقه واوسعها فإنه يتعلق بالواجب والممكن والمستحيل
والجائز والموجود والمعدوم فذات الرب سبحانه وصفاته واسماؤه معلومة له ويعلم العباد من ذلك ما علمهم العليم الخبير وأما القدرة والارادة فكل منهما خاص التعلق اما القدرة فإنما تتعلق
بالممكن خاصة لابالمستحيل ولا بالواجب فهي اخص من العلم من هذا الوجه وأعم
من الارادة فإن الارادة لاتتعلق الا ببعض الممكنات وهو ما أريد
وجوده فالعلم اوسع وأعم وأشمل في ذاته ومتعلقه الوجه السبعون ان الله
سبحانه اخبر عن اهل العلم بأنه جعلهم ائمة يهدون بأمره وياتم بهم من بعدهم
فقال تعالى وجعلناهم ائمة يهدون بامرنا لما صبروا وكانوا يآياتنا يوقنون وقال في موضع آخر والذين يقولون ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعلنا للمتقين إماما أي ائمة يقتدى بنا من بعدنا فأخبر سبحانه ان بالصبر واليقين تنال الامامة في الدين وهي ارفع مراتب الصديقين واليقين هو كمال العلم وغايته فبتكميل مرتبة العلم تحصل إمامة الدين وهي ولاية آلتها العلم يختص الله بها من يشاء من عباده الوجه الحادي والسبعون ان حاجة العباد إلى العلم ضرورية فوق حاجة الجسم إلى الغذاء لان الجسم يحتاج إلى الغذاء في اليوم مرة او مرتين وحاجة الانسان إلى العلم بعدد الانفاس لان كل نفس من انفاسه فهو محتاج فيه إلى ان يكون مصاحبا لايمان او حكمة فإن فارقه الايمان او حكمة في نفس من انفاسه فقد عطب وقرب هلاكه وليس إلى حصول ذلك سبيل إلا بالعلم فالحاجة إليه فوق الحاجة إلى الطعام والشراب وقد ذكر الامام احمد هذا المعنى بعينه فقال الناس احوج إلى العلم منهم إلى الطعام
والشراب لان الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة او مرتين والعلم
يحتاج إليه كل وقت الوجه الثاني والسبعون إن صاحب العلم اقل تعبا وعملا
وأكثر اجرا واعتبر هذا بالشاهد فإن الصناع والإجراء يعانون
الاعمال الشاقة بأنفسهم والاستاذ المعلم يجلس بأمرهم وينهاهم ويريهم كيفية العمل ويأخذ اضعاف ما يأخذونه وقد اشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذا المعنى حيث قال افضل الاعمال إيمان بالله ثم الجهاد فالجهاد فيه بذل النفس وغاية المشقة والايمان علم القلب وعمله وتصديقه وهو افضل الاعمال مع ان مشقة الجهاد فوق مشقته باضعاف مضاعفة وهذا لان العلم يعرف مقادير الاعمال ومراتبها وفاضلها من مفضولها وراجحها من مرجوحها فصاحبه لا يختار لنفسه الا افضل الاعمال والعامل بلا علم يظن ان الفضيلة في كثرة المشقة فهو يتحمل المشاق وإن كان ما يعانيه مفضولا ورب عمل فاضل والمفضول اكثر مشقة منه واعتبر هذا بحال الصديق فإنه افضل الامة ومعلوم ان فيهم من هو اكثر عملا وحجا وصوما وصلاة وقراءة منه قال ابو بكر بن عياش ما سبقكم ابو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه وهذا موضوع المثل المشهور
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشى رويدا وتجي في الاول الوجه الثالث والسبعون ان العلم إمام العمل وقائد له والعمل تابع له ومؤتم به فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه كما قال بعض السلف من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح وألاعمال إنما تتفاوت
في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له فالعمل الموافق للعلم
هو المقبول والمخالف له هو المردود فالعلم هو الميزان وهو المحك قال تعالى
هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا وهو العزيز الغفور قال
الفضيل بن عياض هو اخلص العمل واصوبه قالوا يا ابا علي ما اخلصه
واصوبه قال ان العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا
ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا فالخالص ان يكون لله والصواب
ان يكون على السنة وقد قال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا
ولا يشرك بعبادة ربه احدا فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الاعمال
سواه وهو ان يكون موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم مرادا به وجه
الله ولا يتمكن العامل من الاتيان بعمل يجمع هذين الوصفين إلا بالعلم فإنه
إن لم يعلم ما جاء به الرسول لم يمكنه قصده وإن لم يعرف معبوده لم يمكنه إرادته وحده فلولا العلم لما كان عمله مقبولا فالعلم هو الدليل على الاخلاص وهو الدليل على المتابعة وقد قال الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين واحسن ما قيل في تفسير الاية إنه إنما يتقبل الله عمل من اتقاه في ذلك العمل وتقواه فيه ان يكون لوجهه علىموافقة امره وهذا إنما يحصل
بالعلم وإذا كان هذا منزلة العلم وموقعه علم انه اشرف شيء واجله وافضله
والله أعلم الوجه الرابع والسبعون ان العامل بلا علم كالسائر بلا دليل
ومعلوم ان عطب مثل هذا اقرب من سلامته
وان قدر
سلامته اتفاقا نادرا فهو غير محمود بل مذموم عند العقلاء وكان شيخ الاسلام
ابن تيمية يقول من فارق الدليل ضل السبيل ولا دليل إلا بما جاء به الرسول قال الحسن العامل على غير علم كالسالك على غير طريق والعامل على غير علم ما يفسد اكثر مما يصلح فاطلبوا اللم طلبا لا تضروا بالعبادة واطلبوا العبادة طلبا لا تضروا بالعلم فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حى خرجوا بأسيافهم على امة محمد صلى الله عليه و سلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا والفرق بين هذا وبين ما قبله
ان العلم مرتبته في الوجه الاول مرتبة المطاع المتبوع المقتدى به المتبع
حكمه المطاع امره ومرتبته فيه فيهذا الوجه مرتبة الدليل المرشد إلى المطلوب الموصل إلى الغاية
الوجه الخامس والسبعون ان النبي صلى الله عليه و سلم ثبت في الصحيحين عنه
انه كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والارض عالم
الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك انك تهدى من تشاء إلى صراط
مستقيم وفي بعض السنن انه كان يكبر تكبيرة الاحرام في صلاة الليل ثم يدعو
بهذا الدعاء والهداية هي العلم بالحق مع قصده وإيثاره على غيره فالمهتدي هو
العامل بالحق المريد له وهي اعظم نعمة لله على العبد ولهذا امرنا سبحانه
ان نسأله هداية الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس فإن العبد
محتاج إلى معرفة الحق الذي يرضى الله في كل حركة غاهرة وباطنة فإذا عرفها فهو محتاج إلىمن يلهمه قصد الحق فيجعل إرادته في قلبه ثم إلى من يقدره على فعله ومعلوم ان ما يجهله العبد اضعاف اضعاف ما يعلمه وإن كل ما يعلم انه حق لا تطاوعه نفسه على غرادته ولو اراده لعجز عن كثير منه فهو مضطر كل وقت إلى هداية تتعلق بالماضي وبالحال والمستقبل أما الماضي فهو محتاج إلى محاسبة نفسه عليه وهل وقع على السداد فيشكر الله عليه ويستديمه ام خرج فيه عن الحق فيتوب إلى الله تعالى منه ويتسغفره ويعزم على ان لا يعود وأما الهداية في الحال فهي مطلوبة منه فإنه ابن وقته فيحتاج ان يعلم حكم ما هو متلبس به من الافعال هل هو صواب ام خطأ وأما المستقبل فحاجته في الهداية اظهر ليكون سيره على الطريق وإذا كان هذا شأن الهداية علم ان العبد اشد شيء اضطرارا اليها وان ما يورده
بعض الناس من السؤال الفاسد وهي انا إذا كنا مهتدين فأي حاجة بنا ان نسأل
الله ان يهدينا وهل هذا الا تحصيل الحاصل افسد سؤال وابعده عن الصواب وهو
دليل على ان صاحبه لم يحصل معنى الهداية ولا احاط علما بحقيقتها ومسماها فلذلك تكلف من تكلف الجواب عنه بان المعنى ثبتنا على الهداية وادمها لنا ومن احاط علما بحقية الهداية وحاجة العبد اليها علم ان الذي لم يحصل له منها اضعاف ما حصل له انه كل وقت محتاج إلىهدايةمتجددة لاسيما والله تعالىخالق افعال القلوب والجوارح فهو كل وقت محتاج ان يخلق الله له هداية
خاصة ثم ان لم يصرف عنه الموانع والصوارف التي تمنع موجب الهداية وتصرفها
لم ينتفع بالهداية ولم يتم مقصودها له فإن الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه
بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه ومعلوم ان وساوس العبد وخواطره وشهوات الغي في قلبه كل منها مانع وصول اثر الهداية إليه فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تاما فحاجاته إلى هداية الله له مقرونة بانفاسه وهي اعظم حاجة للعبد وذكر النبي صلى الله عليه و سلم في الدعاء العظيم القدر من اوصاف الله وربوبيته ما يناسب المطلوب فان فطر السموات والارض توسل إلى الله
بهذا الوصف في الهداية للفطرة التي ابتدأ الخلق عليها فذكر كونه فاطر
السموات والارض والمطلوب تعليم الحق والتوفيق له فذكر علمه سبحانه بالغيب
والشهادة وان من هو بكل شيء عليم جدير ان يطلب منه عبده ان يعلمه ويرشده
ويهديه وهو بمنزلة التوسل إلى الغني بغناه وسعة كرمه ان يعطى عبده شيئا من ماله والتوسل إلى الغفور
بسعة مغفرته ان يغفر لعبده ويعفوه ان يعفو عنه وبرحمته ان يرحمه ونظائر
ذلك وذكر ربوبيته تعالى لجبريل وميكائيل وإسرافيل وهذا والله اعلم لان
المطلوب هدى يحيا به القلب وهؤلاء الثلاثة الاملاك قد جعل الله تعالى على
ايديهم اسباب حياة العباد اما جبريل فهو صاحب الوحي الذي يوحيه الله إلى الانبياء وهو سبب حياة الدنيا والاخرة واما ميكائيل فهو موكل بالقطر الذي به سبب حياة كل شيء واما إسرافيل
فهو الذي ينفخ في الصور فيحيى الله الموتى بنفخته فإذا هم قيام لرب
العالمين والهداية لها اربع مراتب وهي مذكورة في القرآن المرتبة الاولى
الهداية العامة وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والادمي لمصالحه التي بها
قام امره قال الله تعالى سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى
فذكر امورا اربعة الخلق والتسوية والتقدير والهداية فسوى خلقه واتقنه
وأحكمه ثم قدر له اسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه اليها
والهداية تعليم فذكر انه الذي خلق وعلم كما ذكر نظير ذلك في أول سورة انزلها على رسوله وقد تقدم ذلك وقال تعالى حكاية عن عدوه فرعون انه قال لموسى فمن ربكما يا
موسى قال ربنا الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى وهذه المرتبة اسبق مراتب
الهداية وأعمها المرتبة الثانية هداية البيان والدلالة التي أقام بها حجته
على عباده وهذه لا تستلزم الاهتداء التام قال تعالى وأما ثمود
فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى يعني بينا لهم ودللناهم وعرفناهم
فآثروا الضلالة والعمى وقال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم
وزين لهم الشيطان اعمالهم
فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وهذه المرتبة اخص من الاولى وأعم من
الثانية وهي هدى التوفيق والالهام قال الله تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فعم بالدعوة خلقه وخص بالهداية من شاء منهم قال تعالى
إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء مع قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فاثبت هداية الدعوة والبيان ونفي هداية التوفيق والامام
وقال النبي صلى الله عليه و سلم في نشهد الحاجة من يهد الله فلا مضل له
ومن يضلل فلا هادي له وقال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لايهدي من يضل
أي من يضله الله لايهتدي أبدا وهذه الهداية الثالثة هي الهداية الموجبة
المستلزمة للاهتداء واما الثانية فشرط لاموجب فلا يستحيل تخلف الهدى عنها بخلاف الثالثة فإن تخلف الهدى عنها مستحيل المرتبة الرابعة الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة والنار قال تعالى احشرواالذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم واما قول اهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله فيحتمل ان يكونوا ارادوا الهداية إلى طريق الجنة وأن يكونوا ارادوا الهداية في الدنيا التي اوصلتهم إلى دار النعيم ولو قيل إن كلا الأمرين مراد لهم وانهم حمدوا الله على هدايته لهم في الدنيا وهدايتهم إلى طريق
الجنة كان احسن وابلغ وقد ضرب الله تعالى لمن لم يحصل له العلم بالحق
واتباعه مثلا مطابقا لحاله فقال تعالى قل اندعو من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على اعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له اصحاب يدعونه إلى الهدى
ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين الوجه السادس
والسبعون ان فضيلة الشيء وشرفه يظهر تارة من عموم منفعته وتارةمن شدة
الحاجة إليه وعدم الاستغناء عن وتارةمن ظهور النقص والشر بفقده وتارة من
حصول اللذة والسرور والبهجة بوجوده لكونه محبوبا ملائما فادراكه يعقب غاية اللذة وتارة من كمال الثمرة المترتبة عليه وشرف علته الغائية وافضاله إلى اجل المطالب وهذه الوجوه ونحوها تنشأ وتظهر من متعلقة فإذا كان في نفسه كمالا
وشرفا بقطع النظر عن متعلقاته جمع جهات الشرف والفضل في نفسه ومتعلقاته
ومعلوم ان هذه الجهات بأسرها حاصلة للعلم فإنه أعم شيء نفعا واكثره وادومه
والحاجة إليه فوق الحاجة إلى الغذاء بل فوق الحاجة إلى التنفس إذ غاية مايتصور من فقدهما فقد حياة الجسم وأما فقد
العلم ففيه فقد حياة القلب والروح فلا غنى للعبد عنه طرفة عين ولهذا إذا
فقد من الشخص كان شرا من الحمير بل كان شرا من الدواب عند الله ولا شيء
انقص منه حينئذ وأما حصول اللذة والبهجة بوجوده فلأنه كمال
في نفسه وهو ملائم غاية الملاءمة للنفوس فان الجهل مرض ونقص وهو في غاية
الايذاء والايلام للنفس ومن لم يشعر بهذه الملاءمة والمنافرة فهو لفقد حسه
ونفسه وما لجرح ميت إيلام فحصوله للنفس إدراك منها لغاية محبوبها واتصال به وذلك غاية لذتها وفرحتها وهذا بحسب المعلوم في نفسه ومحبة النفس له ولذتها بقربه والعلوم والمعلومات
متفاوته في ذلك اعظم التفاوت وابينه فليس علم النفوس بفاطرها وباريها
ومبدعها ومحبته والتقرب إليه كعلمها بالطبيعة واحوالها وعوارضه وصحتها
وفسادها وحركاتها وهذا بتبين بالوجه السابع والسبعين وهو ان شرف العلم تابع
لشرف معلومه لوثوق النفس بأدلة وجوده وبراهينه ولشدة الحاجة إلىمعرفته
وعظم النفع بها ولا ريب ان اجل معلوم وأعظمه واكبره فهو الله الذي لا إله
إلا هو رب العالمين وقيوم السموات والارضين الملك الحق المبين الموصوف بالكمال كله المنزه عن كل عيب ونقص وعن كل تمثيل وتشبيه في كماله ولا ريب ان العلم به وباسمائه وصفاته وافعاله اجل العلوم وافضلها ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومة إلى سائر المعلومات وكما ان العلم به اجل العلوم واشرفها فهو اصلها كلها كما ان كل موجود فهو مستند في وجوده إلى الملك الحق المبين ومفتقر إليه في تحقق ذاته وأينيته وكل علم فهو تابع للعلم به مفتقر في تحقق ذاته إليه فالعلم به اصل كل علم كما انه سبحانه رب كل شيء ومليكه وموجده ولا ريب ان كمال العلم بالسبب التام وكونه سببا يستلزم العلم بمسببه كما ان العلم بالعلة التامة ومعرفة كونها علة يستلزم العلم بمعلوله وكل موجود سوى الله فهو مستند في وجوده إليه استناد المصنوع إلى صانعه والمفعول إلى فاعله فالعلم بذاته سبحانه وصفاته وافعاله يستلزم العلم بما سواه فهو في ذاته رب كل شيء ومليكه والعلم به اصل كل علم ومنشؤه فمن عرف الله عرف ما سواه ومن جهل ربه فهو لما سواه اجهل قال تعالى ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم انفسهم فتأمل هذه الاية تجد تحتها معنى شريفا عظيما وهو ان من نسى ربه انساه ذاته ونفسه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه بل نسى ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده فصار معطلا مهملا بمنزلة الانعام السائبة بل ربما كانت الانعام اخبر بمصالحها منه لبقائها هداها الذي اعطاها إياه خالقها وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها فنسى ربه فأنساه نفسه وصفاتها وما تكمل
به وتزكوبه وتسعد به في معاشها ومعادها قال الله تعالى ولا تطع من اغفلنا
قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا فغفل عن ذكر ربه فانفرط عليه امره
وقلبه فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو
به نفسه وقلبه بل هو مشتت القلب مضيعه مفرط الامر حيران لايهتدي سبيلا
والمقصود ان العلم بالله اصل كل علم وهو اصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو
به وتفلح به فالعلم به سعادة العبد والجهل به اصل شقاوته يزيده ايضاحا
الوجه الثامن والسبعون انه لا شيء اطيب للعبد ولا الذ ولا اهنأ ولا انعم
لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه ودوام ذكره والسعي في مرضاته وهذا هو الكمال الذي لاكمال للعبد بدونه وله خلق الخلق ولاجله نزل الوحي وارسلت الرسل وقامت السموات والارض ووجدت الجنة والنار ولاجله شرعت الشرائع
ووضع البيت الحرام ووجب حجه على الناس إقامة لذكره الذي هو من توابع محبته
والرضا به وعنه ولاجل هذا امر بالجهاد وضرب اعناق من اباه وآثر غيره عليه
وجعل له في الآخرة دار الهوان خالدا مخلدا وعلى هذا الامر العظيم اسست
الملة ونصبت القبلة وهو قطب رحى الخلق والامر الذي مدارهما عليه ولاسبيل إلى الدخول إلى ذلك
إلا من باب العلم فإن محبة الشيء فرع عن الشعور به واعرف الخلق بالله
اشدهم حبا له فكل من عرف الله احبه ومن عرف الدنيا واهلها زهد فيهم فالعلم
يفتح هذا الباب العظيم الذي هو سر الخلق والأمر كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى الوجه التاسع والسبعون ان اللذة بالمحبوب تضعف وتقوى بحسب قوة الحب وضعفه فكلما كان الحب اقوى كانت اللذة اعظم ولهذا تعظم لذة الظمآن بشرب الماء البارد بحسب شدة طلبه للماء وكذلك الجائع وكذلك من احب شيئا كانت لذته على قدر حبه إياه والحب تابع للعلم بالمحبوب ومعرفة جماله الظاهر والباطن فلذة النظر إلى الله بعد لقائه بحسب قوة حبه وإرادته وذلك بحسب العلم به وبصفات كماله فإذا العلم هو اقرب الطرق إلى اعظم اللذات وسيأتي تقرير هذا فيما بعد ان شاء الله تعالى الوجه الثمانون ان كل ما سوى الله يفتقر إلى العلم لاقوام له بدونه فإن الوجود وجودان وجود الخلق ووجود الامر والخلق والأمر مصدرهما علم الرب وحكمته فكل ماضمه الوجود من خلقه وامره صادر عن علمه وحكمته فما قامت السموات والارض وما بينهما الا
بالعلم ولا بعثت الرسل وأنزلت الكتب إلا بالعلم ولاعبد الله وحده وحمد
واثنى عليه ومجد إلا بالعلم ولاعرف الحلال من الحرام إلا بالعلم ولاعرف فضل
الاسلام على غيره الا بالعلم واختلف هنا في مسئلة وهي ان العلم صفة فعلية
او انفعالية فقالت طائفة هو صفة فعليه لانه شرط او جزء وسبب في وجود
المفعول فإن الفعل الاختياري يستدعي حياة الفاعل وعلمه وقدرته وإرادته ولا
يتصور وجوده بدون هذه الصفات وقالت طائفة هو انفعالي فإنه تابع للمعلوم
متعلق به على ما هو عليه فإن العالم يدرك المعلوم على ما هو به فادراكه تابع له فكيف يكون متقدما عليه والصواب ان العلم قسمان علم فعلى وهو علم الفاعل المختار بما يريد
ان يفعله فإنه موقوف على ارادته الموقوفة على تصوره المراد وعلمه به فهذا
علم قبل الفعل متقدم عليه مؤثر فيه وعلم انفعالي وهو العلم التابع للمعلوم
الذي لا تأثير له فيه كعلمنا بوجود الانبياء والامم والملوك وسائر
الموجودات فإن هذا العلم لا يؤثر في المعلوم ولا هو شرط فيه فكل من
الطائفتين نظرت جزئيا وحكمت كليا وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس وكلا
القسمين من العلم صفة كمال وعدمه من اعظم النقص يوضحه الوجه الحادي والثمانون
ان فضيلة الشيء تعرف بضده فالضد يظهر حسنه الضد وبضدها نتبين الاشياء ولا
ريب ان الجهل اصل كل فساد وكل ضرر يلحق العبد في دنياه واخراه فهو نتيجة
الجهل والا فمع العلم التام بان هذا الطعام مثلا مسموم من اكله قطع امعاءه
في وقت معين لا يقدم على اكله وان قدر انه قدم عليه لغلبة جوع او استعجال
وفاة فهو لعلمه بموافقة اكله لمقصوده الذي هو احب إليه من العذاب بالجوع او
بغيره وهنا اختلف في مسئلة عظيمة وهي ان العلم هل يستلزم الاهتداء ولا
يتخلف عنه الهدى إلا لعدم العلم اونقصه والا فمع المعرفة الجازمة لا يتصور
الضلال وانه لا يستلزم الهدى فقد يكون الرجل عالما وهو ضال على عمد هذا مما اختلف
فيه المتكلمون وارباب السلوك وغيرهم فقالت فرقة من عرف الحق معرفة لا يشك
فيها استحال ان لا يهتدي وحيث ضل فلنقصان علمه واحتجوا من النصوص بقوله
تعالى لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وما انزل من قبلك فشهد تعالى لكل راسخ في العلم بالايمان وبقوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء
وبقوله تعالى ويرى الذين اوتوا العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق
وبقوله تعالى شهد الله انه لا إله الا هو والملائكة واولو العلم وبقوله
تعالى افمن يعلم انما انزل اليك من ربك الحق كمن هو اعمى قسم الناس قسمين احدهما العلماء بان ما انزل إليه من ربه هوالحق والثاني العمى فدل على انه لا واسطة بينهما وبقوله
تعالى في وصف الكفار صم بكم عمي فهم لا يعقلون وبقوله وطبع الله على
قلوبهم فهم لا يعلمون وبقوله تعالى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى
ابصارهم غشاوة وهذه مدارك العلم الثلاث قد فسدت عليهم وكذلك قوله تعالى
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه واضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على
بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقوله واضله الله على علم
قال سعيد بن جبير على علمه تعالى فيه قال الزجاج أي على ما سبق
في علمه تعالى انه ضال قبل ان يخلقه وختم على سمعه أي طبع عليه فلم يسمع
الهدى وعلى قلبه فلم يعقل الهدى وعلى بصره غشاوة فلا يبصر اسباب الهدى وهذا
في القرآن كثير مما يبين فيه منافاة الضلال للعلم ومنه قوله تعالى ومنهم من يستمع اليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا اللذين اوتو العلم ماذا قال آنفا اولئك الذين طبع الله على قلوبهم فلو كانوا علموا ما قال الرسل لم يسألوا اهل العلم ماذا قال ولما كان مطبوعا على قلوبهم وقال تعالى والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات
وقال تعالى قل آمنوا به أولا تؤمنوا أن الذين اوتو العلم من قبله إذا يتلى
عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا
فهذه شهادة من الله تعالى لاولى العلم بالايمان به وبكلامه وقال تعالى عن اهل النار وقالوا لو كنا نسمع اونعقل ما كنا في اصحاب السعير فدل على ان اهل الضلال لاسمع لهم ولا عقل وقال تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون اخبر تعالى أنه لا
يعقل امثاله الا العالمون والكفار لا يدخلون في مسمى العالمين فهم لا
يعقلونها وقال تعالى بل اتبع الذين ظلموا اهواءهم بغير علم فمن يهدي من اضل
الله وقال تعالى وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله او تأتينا آية
وقال تعالى قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون ولو كان الضلال
بجامع العلم لكان الذين لا يعلمون احسن حالا من الذين يعلمون والنص بخلافه
والقرآن مملوء بسلب العلم والمعرفة عن الكفار فتارة يصفهم بانهم لايعلمون
وتارة بأنهم لا يعقلون وتارة بانهم لا يشعرون وتارة بانهم لا يفقهون وتارة
بأنهم لا يسمعون والمراد بالسمع المنفي سمع الفهم وهو سمع القلب لا إدراك
الصوت وتارة بأنهم لا يبصرون فدل ذلك كله على ان الكفر مستلزم للجهل مناف
للعلم لا يجامعه ولهذا يصف سحبانه الكفار بانهم جاهلون كقوله تعالى وعباد
الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقوله تعالى وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا اعمالنا ولكم اعمالكم سلام عليكم لانبتغي الجاهلين وقوله تعالى خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين وقال النبي صلى الله عليه و سلم لما بلغ
قومه من اذاه ذلك المبلغ اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون وفي الصحيحين
عنه من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فدل على ان الفقه مستلزم لارادة
الله الخير في العبد ولا يقال الحديث دل على ان من اراد الله به خيرا فقهه
في الدين ولا يدل على ان كل من فقهه في الدين فقد اراد به خيرا وبينهما فرق ودليلكم انما يتم
بالتقدير الثاني والحديث لا يقتضيه لانا نقول النبي صلى الله عليه و سلم
جعل الفقه في الدين دليلا وعلامة على ارادة الله بصاحبه خيرا والدليل
يستلزم المدلول ولا يتخلف عنه فإن المدلول لازمه ووجود الملزوم بدون لازمه
محال وفي الترمذي وغيره عنه صلى الله عليه و سلم
خصلتان لا يجتمعان في منافق حسن سمت وفقه في الدين فجعل الفقه في الدين
منافيا للنفاق بل لم يكن السلف يطلقون اسم الفقه الاعلى العلم الذي يصحبه
العمل كما سئل
سعد بن إبراهيم عن افقه اهل المدينة قال اتقاهم وسال فرقد السنجي الحسن
البصري عن شيء فاجابه فقال إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن ثكلتك امك فريقد
وهل رأيت بعينيك فقيها إنما الفقيه
الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصيربدينه المداوم على عبادة ربه
الذي لا يهمز من فوقه ولا يسخر بمن دونه ولا يبتغى على علم علمه الله تعالى
اجرا وقال بعض السلف ان الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم
مكر الله ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ماسواه وقال ابن مسعود رضى الله عنه كفى بخشية الله علما وبالاغترار
بالله جهلا قالوا فهذا القرآن والسنة واطلاق السلف من الصحابة والتابعين
يدل على ان العلم والمعرفة مستلزم للهداية وان عدم الهداية دليل على الجهل
وعدم العلم قالوا ويدل عليه ان الانسان ما دام عقله معه لا يؤثر هلاك
نفسه على نجاتها وعذابها العظيم الدائم على نعيمها المقيم والحسن شاهد
بذلك ولهذا وصف الله سبحانه اهل معصيته بالجهل في قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما قال سفيان الثوري كل من عمل ذنبا من خلق الله فهو جاهل كان جاهلا اوعالما ان كان عالما فمن اجهل منه وان كان لا يعلم فمثل ذلك وقوله ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما قال قبل الموت وقال ابن عباس رضى الله عنهما ذنب
المؤمن جهل منه قال فتادة اجمع اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ان كل
شيء عصى الله فيه فهو جهالة وقال السدى كل من عصى الله فهو جاهل قالوا
ويدل على صحة هذا ان مع كمال العلم لاتصدر المعصية من العبد فإنه لو رأى صبيا يتطلع عليه من كوة لم تتحرك جوارحه لمواقعة الفاحشة فكيف يقع منه حال كمال
العلم بنظر الله إليه ورؤيته له وعقابه على الذنب وتحريمه له وسوء عاقبته
فلا بد من غفلة القلب على هذا العلم وغيبته عنه فحينئذ يكون وقومه في
المعصية صادرا عن جهل وغفلة ونسيان مضاد للعلم والذنب محفوف بجهلين جهل
بحقيقة الاسباب الصارفة عنه وجهل بحقيقة المفسدة المترتبة عليه وكل واحد من
الجهلين تحته جهالات كثيرة فما عصى الله إلا بالجهل وما اطيع الا بالعلم فهذا بعض ما احتجت به هذه الطائفة وقالت الطائفة الاخرى العلم لا يستلزم الهداية وكثيرا ما يكون الضلال عن عمد وعلم لا يشك صاحبه فيه بل يؤثر الضلال والكفر وهو عالم بقبحه ومفسدته قالوا وهذا شيخ الضلال وداعي الكفر وإمام
الفجرة إبليس عدو الله قد علم امر الله له بالسجود لادم ولم يشك فيه
فخالفه وعاند الامر وباء بلعنة الله وعذابه الدائم مع علمه بذلك ومعرفته به
واقسم له بعزته انه يغوى خلقه اجمعين الاعباده منهم المخلصين فكان غير شاك
في الله وفي وحدانيته وفي البعث الآخر وفي الجنة والنار ومع ذلك اختار
الخلود في النار واحتمال لعنة الله وغضبه وطرده من سمائه وجنته عن علم بذلك ومعرفة لم يحصل لكثير من الناس ولهذا قال رب فأنظرني إلى يوم
يبعثون وهذا اعتراف منه بالبعث وقرار به وقد علم قسم ربه ليملأن جهنم منه
ومن اتباعه فكان كفره كفر عناد محض لا كفر جهل وقال تعالى إخبارا عن قوم
ثمود وأما ثمود
فهدينهم فاستحبوا العمى على الهدى يعني بينا لهم وعرفناهم فعرفوا الحق
وتيقنوه وآثروا العمى عليه فكان كفر هؤلاء عن جهل وقال تعالىحاكيا عن موسى
إنه قال لفرعون لقد علمت ما انزل
هؤلاء الا رب السموات والارض بصائر وإني لاظنك يا فرعون مثبورا أي هالكا
على قراءة من فتح التاء وهي قراءة الجمهور وضمها الكسائي وحده وقراءة
الجمهور احسن واوضح وافخم معنى وبها تقوم الدلالة ويتم الالزام بتحقق كفر
فرعون وعناده ويشهد
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى