رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل
قال: وبعض الظلامات وما ليس بظلامات فيه سنن، وبعضها ليس فيها سنن. وما
فيها سنن: فمنها ما هي سنن مكتوبة، ومنها ما هي غير مكتوبة. وكل واحدة من
هذه ترسم العدل والجور، والخير والشر. فالخير بحسب السنن الغير المكتوبة
هي الأَفعال التي كلما تزيّد الإِنسان منها إِلى غير نهاية تزيد حمده
ومدحه أَو كرامته ورفعته، مثل معونة الأَصدقاءِ ومكافأَة المحسنين. والشر
بحسب السنن الغير المكتوبة هو الفعل الذي كلما تزيد الإِنسان منه لحقته
المذمة أَزيد، والهوان أَزيد، وذلك أَيضا إِلى غير نهاية، مثل كفر
الإِحسان والإِساءة إِلى الأَصدقاءِ. وأَما الخير والشر في السنن المكتوبة
فإِنه مقدر لا يزاد فيه ولا ينقص منه. ولما كان الأَمر على هذا وكانت
السنة المقدرة لا تنطبق على كل شخص ولا في كل وقت ولا عند كل مكان، لم تكن
كافية فيما تقدر من الخير والشر في معاملة شخص شخص من أَشخاص الناس،
فاحتيج إِلى الزيادة والنقصان فيها بحسب ما تقتضيه السنة الغير المكتوبة.
فوجب أَن يكون في هذه السنن الغير المكتوبة عدل مكتوب وتفضل: وهو إِما
الزيادة على السنن المكتوبة، وإِما النقصان منها. فإِن كانت الزيادة على
الخير المكتوب سمي إِحسانا، وإِن كانت الزيادة على الشر المكتوب سمي
حِسبة. وإِن كانت نقصاناً من الشر المكتوب سمي صلحا وحلما واحتمالا، وما
أَشبه ذلك من الأَسماءِ. وهذا قد يعرض في السنن المكتوبة للواضعين: إِما
باضطرار، وإِما من قبل أَنفسهم. أَما من قبل أَنفسهم: فإِذا هم غلطوا
فوضعوا تحديدا كليا، وليس بكلى. وأَما من قبل الأَمر نفسه: فمن قبل أَنه
ليس يستطيع أَحد أَن يضع سننا كلية عامة بحسب جميع الناس في جميع الأَزمنة
وجميع الأَمكنة، لأَن ذلك غير متناه، أَعني تبدل النافع والضار. وغاية
الماهر في وضع السنن أَن يضع من ذلك ما هو أَكثري، أَعني لأَكثر الناس في
أَكثر الأَزمنة وأَكثر المواضع. وكلما اجتهد الواضع في أَن تكون السنة
التي يضعها منفعتها أَطول زمانا وللأَكثر من الناس، كانت السنة أَفضل.
وإِذا كان الأَمر كذلك، فباضطرار أَلا تكون السنن المقدرة صادقة أَبدا
ودائما، أَعني في كل شخص وفي كل وقت، ولذلك قد يحتاج إِلى الزيادة
والنقصان فيها. وأَنت تتبين هذا من الملل المكتوبة في زماننا هذا.
والزيادة والنقصان فيها إِنما تكون تفضلا إِذا لحق ذلك مدح أَو كرامة.
والحلم بالجملة هو التفضل في نقصان الشيء المكتوب أَو رفعه في الموضع الذي
يلحق ذلك مدح أَو كرامة. مثال ذلك ما حكاه أَرسطو من أَن السنة كانت عندهم
أَلا يشيل أَحد يده بالخاتم وأَن فعل ذلك يستوجب عقوبة وأَنه ظالم. والسنة
الغير المكتوبة تقتضي أَن يصفح عن مثل هذا. فالصفح إِذن عن مثل هذا عدل.
وكذلك يشبه أَن يكون الأَمر عندنا في قطع اليد في النصاب وبخاصة في
المطعومات. وإِذا كان هذا هو الحلم فهو بيّن أَي الأَشياء هي من الحلم
وأَيّ الأَشياء ليست هي من الحلم وأَيّ الناس هم الحلماءُ وأَيهم ليس
كذلك. فإِن المرءَ إِنما يكون حليما في الأَشياءِ التي يجمل فيها الصفح.
قال: وضروب الإِساءة والظلم وإِن لم تكن صنفا واحداً بل أَصنافاً كثيرة،
فليس يجب أَن يسوى بين ما يقع منها على جهة الخطاءِ وهو الذي يكون من
السهو والغلط، وما ليس يقع على جهة الغلط وهو الذي يكون عن المكر والشر.
قال: والإِساءة: هي ما لم تكن عن جهل ولا عن شرارة؛ وأَما الظلم
فهو ما كان من شرارة، لا من جهل.
والمقدمات التي بها يخاطِب من يَسئل الصفح عن الذنب الذي أَوجبت العقوبةَ
فيه الشريعةُ المكتوبة على فاعله، أَعني التي ذكرها أَرسطو في هذا الكتاب:
إِحداها أَن يقول الجاني: إِنه، أَيها المعاقب، يجب أَلا تقتدي بهذه السنة
نفسها في ما أَوجبته علىّ من العقوبة، لكن بخلق الواضع لها في الصفح
والرحمة.
والمقدمة الثانية أَن يقول: إِنه ليس يجب أَن ننظر إِلى ظاهر لفظ الشارع
في هذه العقوبة التي وضعها، لكن إِلى مقصوده، وذلك في الموضع الذي يكون
المفهوم من اللفظ ضد ما يقتضي ظاهره من العقوبة. والثالثة أَن يقول إِنه
ليس يجب أَن نتنزل العقوبة على حسب الفعل الظاهر مني، لكن على حسب النية
والاختيار، وذلك حيث يظن أَن ذلك الفعل لم يكن عن اختيار منه. والرابعة
أَن يقول: إِنه ليس ينبغي أَن يعاقب على ما كان في الفرط ونادرا، لكن على
ما كان متكررا من الجاني، وذلك إِذا لم يتقدم منه ذلك الفعل. والخامسة أَن
يقول: إِن الإِنسان ليس ينبغي أَن يعاقب على حسب حاله الحاضرة حتى ينظر
إِلى أَحواله المتقدمة وأَحواله المستقبلة، وذلك عندما تكون هذه الأَحوال
شافعة له. والسادسة أَن يذكره بالخيرات التي وصلت من الجاني إِلى المجني
عليه. والسابعة أَن يذكره بالخيرات التي وصلت إِلى الجاني من المجني عليه،
فإِن ذلك يحركه إِلى أَن يعدو العفو عنه من جملة تلك الخيرات. والثامنة
أَن يحرضه على التأَني عند الظلم بأَن يقول له: إِنه ليس ينبغي أَن يعجل
الإِنسان إِذا ناله جور من إِنسان، فيكافئه بالعجلة، لكن يتوقف، فعسى أَن
يكون في عاقبة ذلك خير يناله. والتاسعة أَن يقول: إِنه ينبغي للإِنسان أَن
يكون مع الناس مسامحا يقنع بالقول الجميل دون الفعل، وأَلا يكون شديد
الاستقصاءِ. والعاشرة أَن يقول: إِنه ينبغي لللإِنسان أَن يكون متنزها عن
الخصومات والعقوبات. والحادية عشرة أَن يقول: إِن الاحتمال والصفح من
الخلق الفاضل؛ والمتهورون وذوو الخَرَق يقرون بهذا إِذ يتشبهون بالحلماءِ
فضلا عن غيرهم.
فقد تبين من هذا القول: ماهو التفضل والحلم والصفح، وما الحالم والصافح،
ومن أَي من المتقدمات يستدعى الحلم والصفح. ولأَن المجني عليه يعظم الظلم
الواقع به والجاني يصغره، فقد ينبغي هاهنا أَن يقال في أَنواع الظلم
العظيم والظلم اليسير.
ومن الظلم العظيم ما يكون من الإِنسان القوي للضعيف، وما يكون من الغني
للفقير. ولذلك ما قد يكون الظلم في الأُمور اليسيرة عظيما: إِما من عظم
الشر نفسه الموجود في ذلك الشر اليسير، وإِما من عظم الضرر. أَما عظم
الضرر في الشيءِ فمثل من يسلب الإِنسان قوته إِذا كان يسيرا وليس ملك
غيره. وأَما الشر الذي هو عظم في نفسه، وإِن كان الفعل يسيرا، فمثل ما حكي
أرسطو أَن رجلا خان الصناع الذين كانوا يدعون عندهم بالمقربن، وهم
المختصون عندهم بصناعة محاريب البيوت المختصة بعبادة الله في ثلاثة أَفلس
من مقدسة من المال المختص ببيوت العبادة.
قال: فإِن ثلاثة أَفلس هي شيء يسير من طريق الجور في المال،
وأَخذها من طريق ما هي من المال المقدس للصناع المقربين شر عظيم، وذلك أَن
لك يدل على قوة الشر الذي في أَخها إِذ كان قد هتك حرمة بيت الله وحرمة
ماله، ولذلك فاعل هذا ليس يرى أَحدٌ أَنه اتقى من الظلم شيئا، بل بلغ فيه
الغاية. وأَما إِذا اعتبر مقدار المضرة في أَخذ الأَفلس الثلاثة، فليس
هنالك ظلم يعتد به. وأَمثال هذه المظالم، أَعني التي تقع ببيوت الله
وأَوليائه، ليس فيها صفح ولا حلم ولا احتمال، لأَن الصفح فيها والحلم ليس
تقتضيه مصلحة، بل يجب أَن يكون الحاكم في أَمثال هذه ينفذ العقوبة ولا بد،
إِما لمكان الانتقام من الجاني فقط، وإِما لما في ذلك من المصلحة العامة
ولمكان هذا، قال الفقهاءُ عندنا إِن من قال في صاحب الشريعة عليه السلام
إِن زره وسخ قتل. ومن الظلم العظيم أَن يجمع على الإِنسان أَخذ ماله
وتعذيبه. ومن الظلم العظيم أَيا أَن يكون العادلون والصالحون، وبالجملة
ذوو الفضائل يعذبون على فضائلهم. ولذلك يكون الظلم الواقع بهؤلاءِ فخرا
لهم وكرامة ليست يسيرة. ولذلك ترى كثيراً من ملوك الجور يقصدون إِهانة
العلماءُ بالضرب وغير ذلك من الشر، فيكون ذلك فخرا لهم في الحياة وبعد
الممات، كما عرض لمالك وغيره من الفقهاءِ. وكذلك المقتولون من هؤلاءِ يعرض
لهم من ذلك بعد الموت كرامة عظيمة، مثل ما نال أَصحاب عيسى عليه السلام
بعد موتهم من الكرامة من التابعين لهم. وبالجملة كل من أُوذي على شيءِ
يكرم عليه الإِنسان فهو يستفيد بتلك الأَذية كرامة عظيمة. ومن الظلم
العظيم أَن يكون نوعا من الظلم مبتدعا لم يفعله أَحد غيره لا قبله ولا
بعده. ومما يعظم به الظلم أَن يكون هو أَول من فعله، فاقتدى به كل من أَتى
بعده ففعل ذلك الفعل، كما قيل في هابيل وقابيل ومن الظلم العظيم إِلحاق
الغرامة والخسران على الذين يتولون إِيصال الخيرات إِلى الناس مثل الظلم
الذي يقع على واضعي السنن. ومن الظلم العظيم الذي يوجب العقوبات العظيمة
في الشرائع المكتوبة مثل الإِلقاء إِلى السباع عند بعض الأُمم. ومن الظلم
العظيم الظلمُ الذي يقع من المرءِ بقرابته وخاصته لأَن ذلك يكون لبغضهم
والنفور عنهم. وأَذية القرابة وبغضهم إِنما يحمل عليه إِفراط الشرارة. ومن
الظلم العظيم الغدر بالأَمانات والفجور في الأَيمان ونقض العهود وما أَشبه
ذلك من الأٌمور التي تقتص في الأَخبار المكتوبة ولذلك كانت عقوبة هؤلاءِ
ليست كعقوبة سائر الظالمين، بل يفضحون مع العقوبة على رءُوس الأَشهاد مثل
عقاب شهداءِ الزور، فإِنه ليس يقتصر على عقابهم دون أَن يفضحوا في مجالس
الحكام وتسخم وجوههم. ولذلك زيد في عقاب الفرية عندنا التفسيق ورد
الشهادة. وأَقبح ما تكون الخيانة والغدر لمن تقدم منه إِحسان للغادر
والخائن. والذي يرائي بأَفعال الخير، وقصده الشر، هو من هذا النوع. والظلم
في السنن الغير المكتوبة، أَعني تعديها، أَعظم من الظلم في السنن
المكتوبة؛ وذلك أَن السنن الغير المكتوبة كأَنها شيء يضطر إِليها
الإِنسان، إِذ كانت كل الأَمر الطبيعي له، مثل بر الوالدين وشكر المنعم.
وأَما السنن المكتوبة فليس هي باضطرار للإِنسان. وإِن تعدى السنة المكتوبة
فظلم ظلما مستبشعا فهو ظلم عظيم مثل قتل الأَطفال والنساءِ. والغرامة في
الأَشياءِ التي ليس فيها غرامة في السنة المكتوبة من الظلم العظيم. ولذلك
كان أَقوى الأَسباب في فساد الرياسات.
قال: فقد تبين من هذا القول الظلم العظيم والصغير، إِذ الصغير ضد العظيم،
والشيءُ يعرف بمعرفة ضده.
وقد ينبغي أَن نقول في التصديقات التي تسمى غير صناعية، أَعني التي ليس
تكون عن قياس خطبي أَصلا، فإِن أَليق المواضع بذكرها هو هذا الموضع، إِذ
كانت أَخص بالمشاجرية منها بالإِثنين الباقيين من أَجناس الأَشياءِ
الخطبية، أَعني المشاورية والمنافرية.
وهذه التصديقات الغير الصناعية هي خمسة في العدد: أَحدها السنن، والثاني
الشهود، والثالث العقود، والرابع العذاب، والخامس الأَيمان.
والكلام فيها هاهنا إِنما هو كيف يستعمل واحد واحد منها في الشكاية
والاعتذار.
فلنقل أَولا في السنن فنقول إِن السنن لما كانت منها عامة ومنها
مكتوبة، فقد يجب إِن كانت السنن المكتوبة مضادة للشيءِ الذي يَقصد تثبيتَه
الشاكي أَو المعتذر أَن يحتج بالسنة العامة الموافقة له، أَعني المضادة
للسنة المكتوبة، ويقويها، ويزيف السنة المكتوبة. فأَحد المواضع التي ذكر
مما تزيف به السنة المكتوبة هو أَن يقول: إِن الواجب هو الأَخذ بالسنن
الغير المكتوبة، لأَن الإِنسان إِذا اقتصر على ما توجبه السنة المكتوبة لم
يكن محسنا ولا حليما ولا صفوحا، إِذ كان الإِنسان إِنما يوصف بهذه
الأَشياءِ إِذا اقتدى بالسنة العامة على ما تبين، وبالجملة فإِنما يتطرق
المدح والإِكرام من قبل السنن الغير المكتوبة، فاعل الواجب لا يمدح. ولذلك
لا يسمى من يعطي القدر الواجب من المال في السنة المكتوبة سخيا.
وموضع ثان وهو أَن يقول: إِن السنن المكتوبة إِنما يقتصر عليها العامة من
الناس الذين لا روية عندهم، وذلك أَنها أُمور مفروغ منها، فأَما الاقتداءُ
بالسنن الغير المكتوبة وتقديرها فهو لذوي الروية والخواص من الناس.
وموضع ثالث: وهو أَن السنن المكتوبة شاقة إِذ كانت تقصر الإِنسان على
أَشياء محدودة، والسنن العامة ملائمة لطبائع الإِنسان وهو أَهم.
وموضع رابع: وهو أَن السنن المكتوبة كثيرا ما يكون تركها أَنفع وأَفضل
وأَزيد في الخير، إِذ كان الشيءُ المحدود لا يلائم كل إِنسان ولا في كل
حين. وأَما السنن الغير المكتوبة فقد تقدر تقديرا يلائم كل إِنسان وفي كل
زمان.
وموضع خامس وهو: أَن السنة الغير المكتوبة أَبدية غير متغيرة لأَنها في
طبيعة الناس، والسنن المكتوبة متبدلة ومتغيرة. وحكى عن امرأَة مشهورة
عندهم أَنها اعتذرت عن رجل دفن عندهم على غير السنة المكتوبة بأَن قالت:
لم أَكن لأَدفنه على سنة تكون اليوم ولا تكون غدا، بل على السنة التي لا
تبيد أَبداً.
وموضع سادس وهو أَن السنة المكتوبة مظنونة، إِذ كانت مقبولة من الغير،
وإِنما هي معروفة بالطبع. ومن القول النافع في ذلك أَن نقول: أَن نقول:
إِن السنة العامة هي التي يفعل بها الحاكم أَفعالا مختلفة بحسب النافع
لشخص شخص ووقت وقت، والحاكم هو بمنزلة المخلص للفضة من الخبث، ولذلك قد
يجب على الحاكم الفاضل أَلا يقتصر على السنة المكتوبة فقط، بل يستعمل
السنتين معا حتى يتخلص له الحق في ذلك، ويتقرر لديه القول الخاص بالقضية
التي يحكم فيها. ولذلك متى حكم في شيء، وكانت السنة المكتوبة ضد الغير
المكتوبة، أَو كانت فيه سنتان متضادتان، فقد يجب على الحاكم أَن يستعمل
السنة القديمة أَحيانا، أَعني الغير المكتوبة، في موضع، ويطرحها في موضع
آخر؛ وكذلك الحال في السنة المكتوبة. فإِن بهذا الوجه يسقط التعارض الذي
بينهما في الظاهر ويصح الجمع. وهذا الذي قاله بيّن من فعل الفقهاءِ - وهذا
عندنا - في السنن المكتوبة المتضادة.
قال: ومتى أَشكل عليه وجه الجمع، فقد يجب عليه أَن يتوقف ولا ينفذ إِحدى
السنتين، بل يرجئ الحكم حتى يتبين له موضع الشك والشبهة بين السنتين، إِما
العامة النافعة وإِما المكتوبة الواجبة.
فهذا جملة ما قيل هاهنا في دفع السنن المكتوبة إِذا كانت مضادة للشيءِ
الذي يقصد تثبيته.
وأَما إِذا كانت السنة المكتوبة موافقة للأَمر المقصود تثبيته، والعامة
مضادة، فأَحد ما تزيف به السنة الغير المكتوبة المضادة أَن يقال: إِن
السنة العامة متبدلة الموضوع ومتبدلة الأَوقات، فهي بالجملة غير غير
محدودة، بل تحتاج إِلى استنباط وتحديد، وأَما المكتوبة فهي مفروغ منها.
فإِذا كان المضاد في السنة الغير المكتوبة متوهما وغير معلوم بعد، وكان
الموافق لنا في السنة المكتوبة مصرحا به، فقد ينبغي أَن يعتقد أَنه ليس
يجب أَن كون الحكم يتعدى به السنة المكتوبة.
وموضع آخر تزيف به السنة الغير المكتوبة: وهو أَن السنة الغير المكتوبة
تقتضي حكما عاما مثل الإِحسان إِلى من أَحسن إِليك، والمكتوبة تقتضي حكما
خاصا وهو مقدار ذلك الإِحسان ووقته. والعام الكلي ليس يفعله أَحد، وإِنما
يفعل الجزئي. والذي يفعل، هو الذي يجب أَن يمتثل.
وموضع آخر يقوي السنة المكتوبة: وهو أَن الوضع للسنة المكتوبة إِن كان
واجبا، فاستعمالها واجب؛ وإِلا فأَيّ فائدة في وضع شيء لا يستعمل.
وموضع آخر قوي في تثبيت السنة المكتوبة: وهو أَن واضعها نسبته
إِلى الجمهور في تقدمه بعلم المصالح نسبة الطبيب إِلى الذين يطبهم،
وبالجملة نسبة أَهل الصنائع إِلى من لم يكن من أَهل تلك الصناعة. وكما أَن
الطبيب ليس ينبغي للإِنسان العليل أَن يتوانى أَو يتردد في قبوله قوله أَو
تأوله، كذلك الحال في قبول قول الواضع للسنة المكتوبة، بل المضرة في
مخالفة واضع السنن أَشد من المضرة في مخالفة الطبيب. وذلك أَن مخالفة
الطبيب إِنما تلحق منها مضرة لواحد من الناس، ومخالفة واضع السنن يلحق منه
هلاك أَهل المدينة بأَسرها.
وموضع آخر: وهو أَن الذين ينصبون حكاما في المدن إِنما هم الذين علموا
السنن المكتوبة، لا السنن الغير المكتوبة. فإِن كل الجمهور يستوون في
إِدراكها. وإِذا كان ذلك كذلك، فواجب أَن تمتثل السنن المكتوبة، وإِلا كان
استعمال الحكام عبثا وباطلا.
فهذا جملة ما قاله في السنن.
القول في الشهود
فأَما الشهود، فمنهم قوم قد سلفوا، ومنهم حدث وموجودون. ومن الحدث من
يشارك المشهود له في الخير الذي يرجوه أَو الشر الذي يخافه. وأَعني
بالشهود القدماء الأَسلاف المعروفين المقبولين عند جمهور الناس المشهور
فضلهم. فهؤلاءِ تقبل شهادتهم على الأَشياءِ السالفة سواء أَخبروا أَنهم
عاينوها أَو لم يخبروا بذلك، لأَنه يحمل أَمرهم على الجملة فيما أَخبروا
به على التصديق. والشهادات: إِما شهادة على أَشياء سالفة وهي التي لم
يدركها أَكثر الموجودين في ذلك الوقت، وإِما شهادة على أُمور موجودة،
وإِما شهادة على أُمور مستقبلة. فأَما الأَشياءُ السالفة فإِن الشهود
عليها هم الأَسلاف لا محالة. وأَما الأَشياءُ الموجودة في زماننا فإِن
الشهود عليها مَنْ في زماننا. وأَما الأَشياءُ المستقبلة فقد يكون الشهود
عليها قوما تقدموا وقوما موجودين في زماننا هذا. والشهود على الأَشياء
المستقبلة صنفان: الكهان سواء كان تكهنهم بصناعة أَو بغير صناعة، وذوو
الأَمثلة السائرة التي تمنع أَو تأذن في العمل، مثل ما يقال: صل رحمك،
فإِن صاحب الشرع عليه السلام قد قال: صلة الرحم تزيد في العمر. وأَشباه
هذا. فأَما الشهود الموجودون فالمقبولون والمعمول بشهادتهم هم الذين
امتحنهم أَهل معارفهم، أَعني جيرانهم أَو قرابتهم أَو أَهل مدينتهم،
فوجدوها مقيمين على الأَحوال التي تقبل بها شهادتهم غير منتقلين عنها.
وأَما الشهود من الأَسلاف فقد استقر عمرهم على القبول، فلذلك ليس يحتاجون
إِلى الامتحان، وأَعني بالقبول إِما عدالتهم إِن شهدوا على أَشياء ماضية،
وإِما صحة وجود الملكات لهم التي يخبرون بها عن الأُمور المستقبلة إِن
كانت شهادتهم في أُمور مستقبلة. ومما يشترط في قبول شهادة الشهود الحدث
أَلا يشاركوا المشهود له في خير يرجوه ولا شر يتوقعه، مثل أَن يكونوا آباء
للمشهود له أَو أَبناء أَو قرابة. وذلك أَنه إِن أَراد منهم أَن يكذبوا،
كما يقول أَرسطو، ربما كذبوا. وأَما الأَسلاف فليس يتصور فيهم هذا إِذ قد
عدموا. والشهود الحدث إِنما تقبل شهادتهم إِذا شهدوا أَن الأَمر كان أَو
لم يكن، وليس تقبل شهادتهم على أَن الأَمر عدل أَو جور. وأَما الأَسلاف
فإِنه تقبل في ذلك شهادتهم، إِما لأَنهم لا يتهمون، لأَنهم ليسوا مشاركين
للشهود له؛ وإِما لأَن قولهم يحمل على أَن الحاكم كان كذلك في الزمان
السالف. والتصديقات قد تقع من قبل الشهادات، وقد تقع من قبل قرائن
الأَحوال المشاكلة، فتقوم مقام الشهادات والحكم بقرائن الأَحوال المشاكلة
هو من فعل ذوي الفطانة والحذق من الحكام. ولذلك ينبغي للحاكم أَلا يغلط في
المشاكلات المموهة كما لا يغلط الصيرفي في الفضة المغشوشة.وإِذا كانت هذه
الأَحوال قد توقف الحاكم على الأَمر الصادق نفسه، مع كون الشهادة الكاذبة
مضادة لها، فهي أَحرى أَن توقف عليه حيث لا تكون هنالك شهادة، أَو حيث
تكون الشهادة موافقة لها ولذلك كانت هذه الأَحوال تقوم عند الحكام مقام
الشهود. فإِنه لا خلاف بين أَن يحكم بالشهود أَو يحكم بهذه الأَحوال
المشاكلة التي تقترن بالمتكلمين. وهذه الأَحوال هي غير الضمائر، ولذلك عدت
مع الشهادات.
والشهادات: منها ما هي في الأَمر المتنازع فيه، ومنها ما هي في
الشهود، ومنها ما هي في المتخاصمين. والشهادة على الشهود: منها ما هي في
تقويتهم، ومنها ما هي في توهينهم. وأَما الشهادة على المتخاصمين فهي
بتعديل أَحدهما وتجريح الآخر. والشهادة على الشهود تكون إِما أَنه صديق
أَو عدو، وإِما أَنه وسط بين المدعى والمدعى عليه، وهو أَلا يكون صديقا
لأَحدهما ولا عدوا للآخر. وهنا فصول أُخر في الشهود سوى هذه الفصول سيقال
فيها حيث يقال في المواضع العامة التي تعمل منها الضمائر وذلك في المقالة
الثانية من هذا الكتاب.
فهذا جملة ما قاله في الشهادات.
القول في العقود
والعقود هي الشرائط التي يتفق عليها بعض الناس مع بعض. والشرائط التي يتفق
عليها إِنما هي نافعة في أَمرين: أَحدهما في تخسيس المعترِف بها وذمه،
إِذا لم يقف عندها وهو مصدق بها، وفي مدحه إِذا وفي بها. والمنفعة الثانية
في تصديق المدعى وتكذيب المدعى عليه إِذا أَنكرها. وليس في هذا الموضع فرق
بينها وبين الشهود، وذلك أَن الشروط إِذا كانت مكتوبة أَو شهد عليها
الشهود قامت مقام الشهود في تبيين الأَمر الذي فيه الخصومة وتبيين حال
الذين يتخاصمون، أَعني كيف أَحوالهم في الفضيلة والرذيلة. وذلك أَن التزام
الشرط يدل على الفضيلة، ومخالفته تدل على الرذيلة. وإِذا اعترف الخصم
بالشرط وادعى أَنه لا يلزمه، فقد يحتاج المتكلم أَن يقنع في وجوب لزوم
الشرط بأَن يقول: الشرط سنة خاصية وجزئية فيجب الوقوف عنده على الجهة التي
يجب الوقوف عند السنن. وإِذا كانت السنة مخالفة للشرط، قال: إِن السنة ليس
تحكم على الشرط ولا ترأَسه، لأَن السنة تقتضي مصلحة عامة والشرط مصلحة
خاصة، والخاص يحكم على العام؛ فإِذن الشرط هو الذي يرأَس السنة، لا السنة
ترأَس الشرط. وإِن لم تكن مخالفة له، أَعني للشرط، قال: إِن الشرط نوع من
السنة، إِن كانت السنة موضوعة عندهم بالاصطلاح، أَو أَن السنة توجب الوقوف
عند الشرط، إِن كانت السنة عندهم بوحي من الله.
وموضع آخر: وهو أَن يقول إِن الشروط هي التي تقتضي المصالح الخاصة بحسب
شخص شخص ووقت وقت. فإِن لم يوقف عند الشرائط، بطلت المصالح. وإِن الشرط هو
الذي يلتزمه الإِنسان باختياره وعن رويته. وما هو بهذه الصفة فلا يعذر في
أَلا يقف عنده. إِلى غير ذلك من المواضع التي تشبه هذه مما يطول الكلام
بذكرها إِن ريم استقصاؤها في هذا الموضع.
فهذا ما قاله في الأَشياءِ التي تثبت بها الشروط. وأَما الأَشياءُ التي
تزيف منها الشروط إِذا رأَى المتكلم أَن الأَصوب والأَصلح تزييف الشروط
فهي: السنن المكتوبة والسنن العامة؛ مثل أَن يقول: إِن السنن المكتوبة
أَشد مشاكلة ومناسبة للمصالح، لأَن السنة المكتوبة مشتركة، والمشتركة أَعم
صلاحا من الخاصة التي هي الشرط. والصلاح العام أَهم من الصلاح الخاص.
وموضع آخر وهو أَن الشروط يمكن أَن يلتزمها الإِنسان لمكان مخالطة وخديعة
تجرى عليه، وما توجبه السنن ليس يمكن فيه الخديعة، فالسنن أَولى من الشروط.
وموضع آخر: وهو أَن يقول إِن الحاكم هو الفاحص عن العدل والكاشف عنه،
أَعني العدل الذي يكون بحسب المدينة، ولذلك يجب عليه أَن يفحص عن العدل
الذي اشترطاه في أَنفسهما، أَعني المتعاقدين. فإِن كان عدلا في المدينة،
تركهما على الشرط. وإِن كان غير عدل أَبطل الشرط.
وأَيضا فإشن السنن لا توضع عن قسر ولا عن غلط؛ والشروط قد يمكن ذلك فيها.
وبالجملة فينبغي أَن نتبع أَضداد الشرط في السنن، فإِن لم نلفه في السنة
المكتوبة، فربما أَلفناه في السنة العامة، فزيفناه بذلك. وإِن أَلفيناه في
المكتوبة احتججنا في إِبطاله بها سواء كانت السنة سنة تلك المدينة أَو سنة
لمدينة ترأَس تلك المدينة.
ومما يبطل العقود أَن تكون هنالك عقود مضادة إِما متقدمة عليها وإِما
متأَخرة عنها. والأَواخر أَبداً في الأَكثر تقضي على الأَوائل. وقد تقضي
المتقدمة على المتأَخرة، إِذا كانت المتقدمة صحيحة، والمتأَخرة مغلطة
خادعة.
وأَيضا فينبغي للذي يزيف الشرط أَن يتأَمل أَلفاظه، فإِن كان فيها ما يمكن
تحريفه، حرفه وأَخرجه عن المفهوم الذي يقتضي علة الحاكم. وهذا إِنما يمكن
أَن يفعله من كان له بصر بالأَلفاظ المشتركة والمعاني المتشابهة.
فهذا آخر ما قاله في العقود.
القول في العذاب
قال: وأَما التقرير بالعذاب فإِنها شهادة ما لقول المعذب، وفيه له تصديق
ما، لأَنه يخاف إِن كذب أَن تعاد عليه العقوبة، ولما تخيل أَيضا أَن في
الصدق النجاة من الشر الواقع به، إِلا أَنه صدق مُكره عليه. ولذلك ( لا)
يعسر إِدراك الأَشياء التي بها يمكن أَن يثبت الإِقرار الذي يكون تحت
العذاب إِذا كان موافقا للمتكلم، وأَن يزيف إِذا كان موافقا للخصم. إِلا
أَن تزييفه ونقضه هو حق في نفسه. فإِن المعذبين لمكان الإِكراه ليس يكون
اعترافهم بالكاذب أَقل من اعترافهم بالصادق، بل قد يعترفون بالذي يطلب
منهم لمكان النجاة من العذاب وإِن كان كاذبا. وأَيضا فإِنهم إِذا صبروا
على العذاب ولم يقولوا الحق فقد يبادرون إِلى الكاذب ليظن به أَنه هو
الصادق، ليستريحوا من العذاب بذلك سريعا. ولذلك ما ينبغي للحكام أَن لا
يستعملوا هذا النوع من الاستدلال بل يعودون فيستعملون الدلالات الأُخر.
فإِن كثيراً من الناس لصحة أَبدانهم وعزة نفوسهم يصبرون على الأَذى صبراً
شديداً فلا يعترفون بالصادق. وأَما الجبناءُ وأَهل الضعف فقد يقرون على
أَنفسهم بالكاذب قبل أَن يروا الشدائد. ولذلك ليس في العذاب شيءٌ يوثق به.
ولمكان هذا درأَ الشرع عندنا الحدود التي تتعلق بالإِقرارات التي تحت
الإِكراه.
القول في الأَيمان
قال: وأَما الأَيمان فإِنها تستعمل لمكان أَربعة أَشياء، وذلك أَن الحالف
إِما أَن يحلف ليعطى شيئا ويأْخذ شيئا، مثل ما يكون في البيوع. وأَما أَلا
يعطى شيئا ولا يأْخذ شيئا. وإِما أَن يعطى ولا يأْخذ. وإِما أَن يأْخذ ولا
يعطى. وحلف الإِنسان ليعطى إِنما يكون لأَشياء أُخر ضارة به، أَعني إِن
أَمسك ولم يعط. واليمين إِما أَن تكون من المدعى أَو المدعى عليه. وليس في
اليمين شيءٌ من التصديق، إِذا علم أَن الحالف رجل فاجر. وإِذا لزمت اليمين
أَحد الخصمين فنكل، فقد لزمته الحجة. لأَن المطالبة باليمين تَحد على
الصدق. وإِذا عجز المتحدّى، فقد لزمته الحجة.
قال: ولما كان المطالب باليمين متردداً بين مكروهين أَحدهما مما يناله من
قبل اليمين - إِذا حلف كاذبا - وهو الاستهانة بالله و حرماته؛ والثاني
المكروه الذي يناله من الأَخذ منه أَو الإِعطاء، فهو أَبداً إِنما يفعل
أَقل المكروهين ضررا عنده. فلذلك قد يصدق بعض الناس إِذا حلف، ويكذب
بعضهم. وهذا أَحد ما يزيف به الاحتجاج بالأَيمان.
قال: وقد يُصدق الرجل الفاضل ويُرى أَنه لمحق، وإِن لم يحلف. لكن تصديقه
ليس هو لمكان أَنه لم يحلف، ولكن لمكان فضيلته، ومن أَجل أَنه ليس ممن
يحنث ولا يفجر بغير يمين، فضلا مع اليمين.
قال: وأَما التحدي باليمين فإِنه كثيراً ما يكون من الرجل الفاسق نحو
الثقة الأَمين، لأَن تحرج الثقة عن اليمين مما يوقع التصديق بقول الفاسق.
قال: وهذا هو مثل أَن يغلب المتهور المتوقي أَو يدعوه إِلى أَن يغلبه
ويتحداه بذلك. فإِن المتوقي يتجنبه.
قال: ولكن ليس للثقة الأَمين، وإِن كان الأَمر هكذا، أَن يأْخذ بغير يمين،
إِذا كان خصمه ليس يراه ثقة، بل ليس يأْخذ إِلا أَن يحلف.
قال: وبذلك كان يحكم فلان لرجل مشهور في الحكام عندهم. وكذلك هي السنة
عندنا قال: والثقة الأَمين، إِذا اشتد عليه إِتيان اليمين عند الدعوى
عليه، فإِن أَحب أَن يعطى ويكرم الله ولا يحلف، فقد يجب له أَلا ينكر
الدعوى الكاذبة عندما يُعطِى ما طولب به. فإِنه إِن أَنكر وأَعطى، أَوهم
أَن المدعى محق وأَنه إِنما أَعطى لمكان اليمين الفاجرة التي لزمته، ولذلك
ليس ينبغي أَن يلجئ نفسه إِلى أَن يُطالب باليمين، لأَنه إِذا طولب
باليمين فلم يحلف ظن به الكذب.
قال: وهو معلوم عند الحكومة في المشاجرة الخاصة والعامة كيف
يعتذر المرءُ إِذا خالف يمينه أَو يعتذر عنه، وكيف يؤنب مخالف اليمين
ويعذل. وذلك أَن الأَشياءَ التي يخالف فيها اليمين هي تلك الأَشياءُ
الأَربعة التي يحلف عليها، وهي التي يهواها إِنسان إِنسان من الناس، وذلك
إِما أَن يأَخذ ويعطى، وإِما أَلا يأخذ ولا يعطى، وإِما أَن يعطى ولا
يأْخذ، وإِما أَن يأْخذ ولا يعطى. فإِذا حلف المرءُ على واحد من هذه
الأَربعة، فلا يخلو أَن يكون القول الذي يستعمله في تثبيت ذلك الشيء إِما
موافقا لما حلف عليه وإِما مخالفا، وذلك يكون إِذا جحد اليمين.
فإِن كان مخالفا، فإِنَّ أَحَدَ ما يؤنب به المخالف لليمين أَن يقال: إِن
اليمين هي شريعة من الشرائع، فمتى خالفها المرءُ طوعا وجحدها، فقد ظلم؛
لأَن الظلم هو مخالفة للشريعة طوعا.
وأَما المعتذر عن مخالفة اليمين فقد يعتذر أَن يمينه كانت بإِكراه أَو
بغلط أَو بغفلة، وأَنه إِذ حلف لم ينو ذلك الشيءَ الذي خالفه، وإِنما نوى
غيره، وأَن الذي حمله على اليمين هو اللجاج ومخالفة الخصم وضيق الصدر
والحرج، وبالجملة التهيؤ الموجود فيه لسبوق اليمين وبدورها والمسارعة
إِليها وإِلى الإِنكار والجحود.
ومما يستعمل في التثبيت على السنن والأَيمان والتمسك بها أَن يقال: إِنه
قد يجب عليكم أَن تثبتوا على أَيمانكم ولا تخالفوها، فإِن اليمين هو حكم
شرعي أَلزمه المرءُ نفسه طوعا وعن علم، فقد يجب عليه أَلا يخالفه. وأَما
أُولئك الذين يحلفون لمكان الخديعة أَو الغفلة أَو التهيؤ للجحود
والمسارعة إِلى اليمين فلا يثبتون على أَيمانهم إِلى غير ذلك من أَشياء
تشبه هذا القول مما تعظم به اليمين وتفخم.
فهذا هو القول في التصديقات التي تكون بلا قياس، وجهات استعمالها في هذه
الصناعة.
وهنا انقضت المعاني التي تضمنتها هذه المقالة التي هي الأُولى.
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله
المقالة الثانية
من الخطابة
قال: أَما من أَي أَصناف الأَقاويل يكون الإِذن والمنع والمدح والذم
والشكاية والإِعتذار وأَي المقدمات والقضايا هي التي تؤخذ أَجزاءِ هذه
الأَقاويل التي تفعل التصديق في هذه الثلاثة فقد قيل فيها في المقالة
الأُولى. فإِن المخاطبات في الأُمور الجزئية إِنما تكون من أَجل هذه
الأَغراض الستة التي ذكرناها وبالأَقيسة والمقدمات التي عددناها فيما سلف.
ومن أَجل أَن الخطابة لا بد فيها من حاكم يرجح أَحد قولي المتخاطبين، إِذ
كانت الأَقاويل المستعملة فيها غير يقينية، ولذلك احتيج إِلى الحكام في
المشوريات أَكثر ذلك، إِذ كانت أُموراً ممكنة، وكذلك يحتاج إِليهم في
التشاجر والمدح والذم، فقد ينبغي أَن ننظر هاهنا ليس في الأَقاويل المثبتة
والمبطلة، بل وفي بيان الأَقاويل التي تفيد الحاكم الانفعالات التي تصيره
إِلى الميل في الأَحكام.فإِنه قد يختلف تصديق الحاكم بكلام المتكلم،
وتصديق المتكلم بحكم الحاكم إِذا عرف المتكلم أَي امرئ هو الحاكم في
صداقته له أَو عداوته، وعرف الحاكم أَي امرئ هو المتكلم في فضيلته
ومعرفته. أَما معرفة الحاكم بالمتكلم فغناءُ ذلك في الأَكثر إِنما هو في
الأُمور المشورية. وأَما معرفة المتكلم بحال الحاكم فالانتفاع بذلك إِنما
يكون أَكثر ذلك في الخصومات. وذلك أَنه ليست أَحكام الحكام على من أَحبوه
أَو قَلَوْه حكما واحداً، ولا من كانوا عليه غضاباً أَو غير غضاب أَو
خائفين منه أَو غير خائفين منه، بل توجد أَحكام الحكام تختلف بحسب هذا
اختلافا كثيرا في القدر والمبلغ. فإِذا حكموا على من يحبون، فإِما أَلا
يخسروه شيئا وإِما أَن يخسروه اليسير. وأَما حكمهم لمن يبغضون فخلاف ذلك.
وكذلك فرق بين أَن يحكم الحاكم وهو منشرح الصدر للمتكلم حسن الظن به وبين
أَن يحكم وهو ضيق الصدر مكترث به.
قال: والمتكلمون يكونون مصدقين في أَقاويلهم أَكثر ذلك لعلل
ثلاث؛ لأَنه قد يُصدق المرءُ بهذه الثلاث دون قول مثبت. وهذه الثلاث هي:
المعرفة والفضيلة والإِلف، أَعني أَن لا يكون مستوحشا من الذي يشير عليه
إِما لمكان جهله به أَو مباينته له في الجنس أَو المكان أَو اللسان.
والمشيرون يصيرون غير مصدقين ومكذبين إِما من أَجل عدم هذه الأَحوال
الثلاثة فيهم أَو عدم بعضها، لأَنهم إِما أَن يكونوا لا يشيرون برأْي صواب
لمكان جهلهم وخطائهم، أَعني أَنهم يشيرون بما لا ينتفع به لضعف رأْيهم.
وإِما أَن يكونوا عارفين، لكنهم يمنعهم من الإِشارة بالصواب الخبث
والشرارة. وإِما أَن يكونوا عارفين ذوي فضائل، لكن يكونون مستوحشين من
الذين يشيرون عليهم. وذلك أَنهم إِذا كانوا بهذه الصفة، أَمكنهم أَن
يعرفوا الأَمر الأَفضل فلا يشيرون به. وهو بين أَنه ليس سوى هذه الخلال
الثلاث خلة إِذا وجدت للمتكلم أَمكن أَن يكون بها مصدقا عند السامعين.
فأَما من أَين يعرف المرءُ أَن المتكلم بهذه الحال أَو يثبت أَنه على هذه
الحال عند من لا يعرف ذلك فمن الأَشياءِ التي ذكرت في باب المديح، أَعني
أَنه ذو معرفة وفضيلة.
وأَما أَنه متأَنس وصديق فإِن القول فيها هو جزءٌ من القول في المقدمات
التي يثبت بها الانفعالات التي تختلف أَحكام الحكام بسببها وهي التي
تلزمها إِما اللذة وإِما الأَذى، مثل الغضب والرحمة والخوف وأَضداد هذه
وما أَشبه ذلك.
قال: وقد ينبغي أَن نقول فيها هاهنا وذلك يكون بان ننظر من كل واحد من هذه
الانفعالات في ثلاثة أَشياء، أَعني في الأَشياءِ الفاعلة لذلك الانفعال،
وفي الناس المستعدين لذلك الانفعال، وعلى من يقع ذلك الانفعال غالبا.
ومثال ذلك: إِذا نظرنا في الغضب، أَن نقول: بأَية حالة يكون المرءُ غضوبا،
وما الأَشياءُ الفاعلة للغضب، ومَنْ القوم الذي يغضب عليهم بالطبع. فإِن
الغضب إِنما يوجد ولا باجتماع هذه الثلاث. وإِذا وجد بعضها ولم يوجد بعض،
فليس يوجد الغضب ولا بد. وبالجملة فيفعل في هذا الجنس مثل ما فعل في
الأَبواب المتقدمة، أَعني في باب الخصومات، وفي باب المشورة، حيث حددنا
الأَشياءَ التي يقصد تثبيتها، ثم الأَشياء التي بها يلتئم وجودها، أَعني
النافع أَو الضار أَو العدل أَو الجور. والاثنان من هذه الثلاثة هي التي
تأْتلف منها المقدمات التي إِذا خوطب بها الإِنسان حركته إِلى ذلك
الانفعال، أَعني الفاعلة له وبمن يقع ذلك الانفعال. وأَما الذين هم معدون
لذلك الانفعال، فإِنما يوجد من أَحوالهم التي هم بها معدون أَنهم قد
انفعلوا لا أَن تحركوا بذلك إِلى ذلك الانفعال. ومثال ذلك أَن المرءَ
إِنما يحركه إِلى الغضب إِذا وصفت له حضور الأَشياء الفاعلة للغضب والمرء
الذي يجب أَن يغضب عليه. فأَما الأَحوال التي بها يكون المرء معدا لأَن
يغضب، فإِنما يثبت بها أَنه قد غضب. لكن معرفة هذه الأَحوال نافعة لمن
يريد أَن يُغضِب، لأَنه يعرف الوقت الذي يكون فيه المرءُ مستعدا لقبول
القول الذي يحركه لذلك الانفعال.
قال: والغضب هو حزن أَو أَثر نفساني يكون عنه شوق من النفس إِلى عقوبة ترى
واجبة بالمغضوب عليه من أَجل احتقار منه بالمرءِ الغاضب أَو بمن هو بسببه
ومتصل به.
والاحتقار هو الذي يسميه أَرسطو صغر النفس لأَن نفس المحتقر به كأَنها
تصغر بالأَشياءِ الصغيرة التي يتوهم فيها.
وإِذا كان هذا هو حد الغضب، فالغضب إِنما يكون من إِنسان مشار إِليه أَو
ناس مشارين إِليهم على إِنسان مشار إِليه أَو ناس مشارين إِليهم لا على
الإِنسان الكلي وذلك لشيء فعله المغضوب عليه بالغاضب أَو بأَحد ممن هو
بسببه.
وكل غضب فيلزمه أَبدا شيء من اللذة من قبل أَن الغاضب يؤمل أَن ينتقم من
المغضوب عليه. وإِذا أَمل التذ، لأَن هذا الأَمل هو الظن بأَنه سيظفر من
المغضوب عليه بما هو كالممتنع على غير، وهو العقوبة التي تتوق نفسه
إِليها. ولذلك قد يشرف الغاضب في نفسه بما يتخيل فيها من القدرة على
العقوبة، ولذلك ليس يغضب على من هو فوق رتبته جدا ولا على من هو دونه جدا.
قال: وما أَحسن ما قال الشعراء في الغضب: إِن الذي يعتلج منه في
النفس شيء أَحلى من العسل والشهد، وإِن الذي يغشى الفكر منه هو شيء شبيه
بالدخان. ولذلك لا يعقل الغضبان ولا يفهم. وإِنما قيل فيه: إِنه أَحلى من
العسل، لمكان اللذة التي تكون فيه عن تخيل الانتقام لأَن تخيل الشيء
المتشوق وتردده في النفس لذيذ، إِذا لم يكن هنالك فكر يفهم معه شيء مكروه
مقترن بالمتشوق، ولا شيء يعوق، ولكن يقوى حصول إِمكانه، كالحال في
الخيالات التي يلتذ بها في النوم.
قال: والاحتقار بالشيءِ والتهاون به يكون من قبل أَن الشيءَ لا قدر له ولا
يستحق أَنيعتنى به، أَعني أَن يقتنى إِن كان خيرا أَو يحتال في دفعه إِن
كان شرا. ولذلك كانت الخيارات والشرور جميعا يظن بها أَنها مستوجبات
للعناية بها. وكذلك الأُمور اللازمة للخير والشر مثل الخوف للشر والتأْميل
للخير هي أَيضا معتنى بها. وإِنما يرى الناس أَنه لا يستحق شيئا من
العناية ما ظن به أَنه ليس فيه خير يرتجى ولا شر يتقى؛ وإِن كان، فنزر
قليل جدا.
وأَنواع الاحتقار، وهو الذي يسميه أَرسطو صغر النفس، ثلاثة: الإِهانة،
والسخرية والطَّنْز، والشتيمة.
فإِن الذي يهان، وهو الذي يفعل به ضد أَفعال الكرامة، محتقر. وإِنما
يتهاون المرءُ بالذي يرى أَنه ليس أَهلا لشيء. وكذلك الذي يطنز به هو
محتقر أَيضا، إِذا كان الطنز بالشيءِ يعوق عن تشوقه وإِرادته.
والطنز الذي بهذه الصفة هو الطنز الذي ليس يقصد به فاعله شيئا يستفيده سوى
مضرة المطنوز به. وذلك أَنه لما كان المطنوز به محتقرا، فهو بيّن أَنه لا
يَخاف منه ضرراً. ولو ظن ذلك، لخاف فلم يحتقره. وأَما الذين يطنزون
لينالوا بالطنز منفعة مَا، فأُولئك إِنما ينبغي أَن يُسَموا مستعطفين
ومحتالين، مثل أَهل الدعابة الذين يتخذهم الملوك، وليس يدخلون في ذلك
الجنس، وإِنما يدخلون في جنس المحتالين.
وكذلك الشتيمة هي احتقار للمشتوم والشتيمة التي بهذه الصفة هي التزييف
والبهرجة التي يقصد بها أَذى المشتوم بالشيءِ الذي إِذا صرح به خزي به
المشتوم. وليس تكون الشتيمة التي بهذه الصفة إِلا إِذا كان الذي شتم به قد
وجد للمشتوم فيما سلف لا فيما يستقبل، وأَن يكون شتما قبيحا يخزى منه
المشتوم، وأَن يكون ليس يقصد به أَن يحصل منه للمشتوم منفعة ما، مثل الشتم
الذي يقصد به الأَدب، فإِن هذا ليس هو احتقاراً، وإِنما هو معاقبة. وإِنما
كان الشتم ملذاً، لأَن الشاتمين يظنون بأَنفسهم أَنهم أَفضل من المشتومين.
ولذلك ما يوجد الأَغنياءُ والأَحداث شتامين وفحاشين، لأَنهم يظنون
بأَنفسهم الفضيلة على غيرهم. وهذا من فعل الشاتمين بيّن. فإِن الشتيمة
احتقار. وإِنما يحتقر من ليس أَهلا لشيء، وهو الذي ليس له شيء من الكرامة،
لا من أَجل خير يرجى منه، ولا من أَجل شر يتوقى منه.
قال: والذين يظنون أَن لهم حقا واجبا على كثير من الناس في الحسب والقوة
والفضيلة، وبالجملة: في كل ما يفضل به إِنسان إِنسانا، مثل فضل الغنى على
الفقير، والبليغ على العي، وذي الرياسة على المرؤوس، أَو الذي يرى نفسه
مستعدا للرياسة وإِن لم يكن رئيسا، جميع هؤلاءِ معدون لأَن يغضبوا على
الناس من أَدنى شيء يتخيلونه فيهم من الاحتقار. ولذلك قيل إِن شدة
الاستشاطة والغضب توجد في أَبناءِ الملوك ومَن يتصل بهم الذين نشأُوا في
الترفه ولم يلقوا قط إِلا بما يسرهم من إِكرام الناس لهم والمعاملة
الجميلة. ويوجد في هذا الصنف مع شدة الاستشاطة أَشياءَ تلزم شدة الاستشاطة
مثل فرط الانتقام وأَلا يقنعوا من الجاني عليهم بالشيءِ اليسير إِلا
بالعقوبة العظيمة. وذلك أَنهم يمتعضون لعِظَم شأْنهم في أَنفسهم.
ومن الأَحوال التي إِذا كانت في الإِنسان صار بها معدا لأَن يغضب عليه أَن
يكون ذلك الإِنسان ممن يتوقع منه الإِحسان بعادة فلا يفعل ذلك إِما
بالإِنسان الذي عوده ذلك أَو بمن يتصل به. وذلك إِذا علم ذلك الإِنسان إِن
تركه ذلك كان بهوى منه، أَو علم أَنه يهوى أَن يترك ذلك وإِن لم يترك. وقد
يعد ترك الإِحسان المعتاد في فاعلات الغضب. وإِذا كان هذا هكذا، ففاعل
الغضب بالجملة إِنما هو الاحتقار أَو ما يظن أَنه احتقار.
والناس المستعدون للغضب هم الذين توجد فيهم أَحوال تخيل فيهم في
أَكثر ما يرد عليهم أَنه احتقار. والمستعدون لأَن يُغضب عليهم هم الذين
يخيل فيهم إِلى الغير أَن أَكثر الأَفعال التي تَصدر منهم هي احتقار.
وإِذ قد تبين بالجملة من أَجل أَي شيءٍ يكون الغضب ومَن الذين هم غضوبون
ومَن الذين يغضب عليهم، فقد يجب أَن نعدد هاهنا هذه الأَحوال. فمن
الأَحوال التي بها يكون المرءُ غضوبا أَن يكون الإِنسان يتشوق إِلى شيء
ويكون تشوقه إِليه مع غم وأَذى فإِن هؤلاءِ يسرع إِليهم الغضب، فُعِل
بأَحدهم شيء مُوجب للغضب أَو لم يفعل، لأَنه لضيق صدره يظن أَنه فعل به
ذلك. ومن هؤلاءِ الذين لهم أَشياء تؤذيهم، فهم يشتاقون إِلى زوال ذلك
المؤذي. فإِن هؤلاءِ يغضبون على كل شيء ومن كل شيء، مثال الذين يمسهم فقر
أَو مرض. فإِن هؤلاءِ يشتهون الصحة والأَشياء المستعملة في الصحة والثروة
والأَشياء المدركة بالثروة. ولذلك ليس يقال لما يتردد في نفوس هؤلاءِ من
هذه الشهوة أضنه سبب لأَن يقال فيهم إِنهم شهوانيون، بل ذلك سبب لأَن يقال
فيهم إِنهم ضجرون. وأَكثر ما يغضب هؤلاءِ على الذين يحتقرون الأَمر الواقع
بهم، مثل الذين يتهاونون بالوجع الذي يصيب العليل في حال إِصابته إِياه.
وكذلك الذين يتهاونون بالحاجة الماسة التي أَصابت إِنسانا ما في حال فقره.
ومثل من يتهاون بالجور الواقع على إِنسان ما. ومن هذا الجنس من يتهاون
بصديق المرءِ. وبالجملة فكل من يتهاون بما يؤذي الإِنسان ويحزنه أَو بما
يلذه ويسره. والإِنسان الذي أَخفق أَمله يسرع إِليه الغضب، لأَنه قد ظن
ظنا ما فأَخفق ظنه.
قال: وقد تبين من هذه الأَشياءِ في أَي أَحوال من أَحوال الإِنسان وعوارض
من عوارض نفسه، وفي أَي سن، وخلق يكون أَشد استعداداً للغضب، وعلى من
يغضبون، وبمن يهزأون ومن يعيرون إِذا كانوا في شيء شيء من هذه الأُمور.
أَما في الأَحوال فمثل غضب أُولي الرياسة على من لا رياسة له.
وأَما في العوارض فمثل غضب المغتمين على المسرورين.
وأَما في الخلق فمثل غضب الشجعان على الجبناءِ.
وأَما في السن فمثل غضب المشايخ على الشباب.
قال: وإِنما يشتم ويستهان بالذين تكون حالهم في أَفعالهم وأَقوالهم
وحالاتهم حال من لا ينتفع بشيء من تلك الأَفعال والأَقوال والأَحوال، أَو
يظن بهم ذلك. فإِنه إِذا اعتبر أَمر الشتيمة والاحتقار وجدت لا تتعدى هذا
الصنف. ولذلك قد يظن أَن ما يقع من الاستهانة والاستخفاف بالفضلاءِ
والحكماءِ أَنه أَمر واجب. لأَن الجمهور يرون أَنهم لا ينتفعون من
أَحوالهم بشيء، وكذلك سائر الفضائل التي هي غير نافعة، وخاصة ما كان منها
إِنما يحصل بعد تعب عظيم ويحفظ بعد حصوله بتعب عظيم أَيضا. وذلك أَن
الجمهور لما كانوا يعتقدون في أَمثال هؤلاءِ أَنه ليس لهم منفعة في ما
يقتنون من ذلك ولا شيء فيه قوة منفعة كان أَحرى أَن يظنوا أَنه ليس
ينتفعون منهم بتلك الأَشياء. لأَنهم إِذا لم ينفعوا أَنفسهم، فأَحرى أَلا
ينفعوا غيرهم. وإِذا رأَى الجمهور في كثير من هذه الأَشياءِ أَن لهم فيها
منفعة، وإِن كان لا ينتفع بها أَهلها، أَعني الذي يقتنونها، ربما
استعطفوهم واسترحموهم بعد التغيير، وذلك في وقت حاجتهم إِليه، واعتذروا
إِليهم مما سلف. وهذا من فعلهم إِنما ينتفعون به معهم إِذا كان التغيير
المتقدم لهم غير مفرط ولا خارج عن العادة. لأَنه إِذا كان مفرطا ظن بهم
أَنهم يستهزئون بهم في حال الاستعطاف والتودد.
قال: والذين يحسنون، ثم يقطعون إِحسانهم؛ والذين لا يكافئون المرءَ على
فعله بما يجب لذلك الفعل، أَو يفعلون معه ضد فعله؛ والذين يرون المحسنين
إِليهم بحال خسيسة، وذلك بأَن يرى الذي أَحسن إِليه أَن ذلك الإِحسان خسيس
أَو أَن قدره فوق ذلك؛ فإِن هؤلاءِ يغضب عليهم. وهذه الأَفعال كلها هي من
فاعلات الغضب، لأَنه يظن بهم أَنهم متهاونون.
قال: وهاهنا قوم يغضبون من التهاون الواقع بأُمور خسيسة لهم أَو بالتي هي
أَخس من الخسيسة وهي التي ليس يرى لها أَحد قدراً في شيء ولا يمكن فيها
كلام تعظم به أَصلا ولا يطالب أَحد بتعظيمها. وليس يجب أَن يكون الأَمر
كذلك، أَعني أَن يغضب المرءُ على من يحتقر منه الأُمور اليسيرة، بل إِنما
يجب أَن يقع الغضب على من احتقر من المرءِ أُموراً لها قدرٌ.
قال: والأَصدقاءُ قد يُغضب عليهم إِذا لم يقولوا في أَصدقائهم
قولا جميلا عندما ينالهم مكروه، أَو يمتعضون إِذا ذكروا بسوء. وأَكثر من
ذلك إِذا لم يحسنوا إِليهم إِذا مستهم حاجة أَو لم يألموا بما نزل بهم من
المكروه، ولذلك قيل:
يواسيك أَو يسليك أَو يتفجع.
وإِنما يغضب على هؤلاءِ عدم الارتماض بالمكروه الذي وقع بهم يدل على
الاستهانة بهم. وذلك أَن من المعلوم أَن الإِنسان يغضب إِذا أُوذي من
يعتني به، وكذلك يغضب على الصديق الذي يتهم صديقه ويسيء الظن به، وعلى
الذي يتهاون بما بلغه عنه من قول، لأَنهم في هذه الأَحوال يشبهون
الأَعداءَ. وذلك أَن الأَعداءَ هم الذين لا يمتعضون للمكروه الذي ينزل
بعدوهم ولا يسوءهم الشر النازل بهم. وأَما الأَصدقاءُ فيمضهم السوء النازل
بإِخوانهم ويتفجعون لذلك ويجزعون.
قال: وقد يغضب على الذين يتهاونون بأُمور خارجة عن الإِنسان، وتلك هي خمسة
أَصناف: أَحدها الذين يتهاونون ب
قال: وبعض الظلامات وما ليس بظلامات فيه سنن، وبعضها ليس فيها سنن. وما
فيها سنن: فمنها ما هي سنن مكتوبة، ومنها ما هي غير مكتوبة. وكل واحدة من
هذه ترسم العدل والجور، والخير والشر. فالخير بحسب السنن الغير المكتوبة
هي الأَفعال التي كلما تزيّد الإِنسان منها إِلى غير نهاية تزيد حمده
ومدحه أَو كرامته ورفعته، مثل معونة الأَصدقاءِ ومكافأَة المحسنين. والشر
بحسب السنن الغير المكتوبة هو الفعل الذي كلما تزيد الإِنسان منه لحقته
المذمة أَزيد، والهوان أَزيد، وذلك أَيضا إِلى غير نهاية، مثل كفر
الإِحسان والإِساءة إِلى الأَصدقاءِ. وأَما الخير والشر في السنن المكتوبة
فإِنه مقدر لا يزاد فيه ولا ينقص منه. ولما كان الأَمر على هذا وكانت
السنة المقدرة لا تنطبق على كل شخص ولا في كل وقت ولا عند كل مكان، لم تكن
كافية فيما تقدر من الخير والشر في معاملة شخص شخص من أَشخاص الناس،
فاحتيج إِلى الزيادة والنقصان فيها بحسب ما تقتضيه السنة الغير المكتوبة.
فوجب أَن يكون في هذه السنن الغير المكتوبة عدل مكتوب وتفضل: وهو إِما
الزيادة على السنن المكتوبة، وإِما النقصان منها. فإِن كانت الزيادة على
الخير المكتوب سمي إِحسانا، وإِن كانت الزيادة على الشر المكتوب سمي
حِسبة. وإِن كانت نقصاناً من الشر المكتوب سمي صلحا وحلما واحتمالا، وما
أَشبه ذلك من الأَسماءِ. وهذا قد يعرض في السنن المكتوبة للواضعين: إِما
باضطرار، وإِما من قبل أَنفسهم. أَما من قبل أَنفسهم: فإِذا هم غلطوا
فوضعوا تحديدا كليا، وليس بكلى. وأَما من قبل الأَمر نفسه: فمن قبل أَنه
ليس يستطيع أَحد أَن يضع سننا كلية عامة بحسب جميع الناس في جميع الأَزمنة
وجميع الأَمكنة، لأَن ذلك غير متناه، أَعني تبدل النافع والضار. وغاية
الماهر في وضع السنن أَن يضع من ذلك ما هو أَكثري، أَعني لأَكثر الناس في
أَكثر الأَزمنة وأَكثر المواضع. وكلما اجتهد الواضع في أَن تكون السنة
التي يضعها منفعتها أَطول زمانا وللأَكثر من الناس، كانت السنة أَفضل.
وإِذا كان الأَمر كذلك، فباضطرار أَلا تكون السنن المقدرة صادقة أَبدا
ودائما، أَعني في كل شخص وفي كل وقت، ولذلك قد يحتاج إِلى الزيادة
والنقصان فيها. وأَنت تتبين هذا من الملل المكتوبة في زماننا هذا.
والزيادة والنقصان فيها إِنما تكون تفضلا إِذا لحق ذلك مدح أَو كرامة.
والحلم بالجملة هو التفضل في نقصان الشيء المكتوب أَو رفعه في الموضع الذي
يلحق ذلك مدح أَو كرامة. مثال ذلك ما حكاه أَرسطو من أَن السنة كانت عندهم
أَلا يشيل أَحد يده بالخاتم وأَن فعل ذلك يستوجب عقوبة وأَنه ظالم. والسنة
الغير المكتوبة تقتضي أَن يصفح عن مثل هذا. فالصفح إِذن عن مثل هذا عدل.
وكذلك يشبه أَن يكون الأَمر عندنا في قطع اليد في النصاب وبخاصة في
المطعومات. وإِذا كان هذا هو الحلم فهو بيّن أَي الأَشياء هي من الحلم
وأَيّ الأَشياء ليست هي من الحلم وأَيّ الناس هم الحلماءُ وأَيهم ليس
كذلك. فإِن المرءَ إِنما يكون حليما في الأَشياءِ التي يجمل فيها الصفح.
قال: وضروب الإِساءة والظلم وإِن لم تكن صنفا واحداً بل أَصنافاً كثيرة،
فليس يجب أَن يسوى بين ما يقع منها على جهة الخطاءِ وهو الذي يكون من
السهو والغلط، وما ليس يقع على جهة الغلط وهو الذي يكون عن المكر والشر.
قال: والإِساءة: هي ما لم تكن عن جهل ولا عن شرارة؛ وأَما الظلم
فهو ما كان من شرارة، لا من جهل.
والمقدمات التي بها يخاطِب من يَسئل الصفح عن الذنب الذي أَوجبت العقوبةَ
فيه الشريعةُ المكتوبة على فاعله، أَعني التي ذكرها أَرسطو في هذا الكتاب:
إِحداها أَن يقول الجاني: إِنه، أَيها المعاقب، يجب أَلا تقتدي بهذه السنة
نفسها في ما أَوجبته علىّ من العقوبة، لكن بخلق الواضع لها في الصفح
والرحمة.
والمقدمة الثانية أَن يقول: إِنه ليس يجب أَن ننظر إِلى ظاهر لفظ الشارع
في هذه العقوبة التي وضعها، لكن إِلى مقصوده، وذلك في الموضع الذي يكون
المفهوم من اللفظ ضد ما يقتضي ظاهره من العقوبة. والثالثة أَن يقول إِنه
ليس يجب أَن نتنزل العقوبة على حسب الفعل الظاهر مني، لكن على حسب النية
والاختيار، وذلك حيث يظن أَن ذلك الفعل لم يكن عن اختيار منه. والرابعة
أَن يقول: إِنه ليس ينبغي أَن يعاقب على ما كان في الفرط ونادرا، لكن على
ما كان متكررا من الجاني، وذلك إِذا لم يتقدم منه ذلك الفعل. والخامسة أَن
يقول: إِن الإِنسان ليس ينبغي أَن يعاقب على حسب حاله الحاضرة حتى ينظر
إِلى أَحواله المتقدمة وأَحواله المستقبلة، وذلك عندما تكون هذه الأَحوال
شافعة له. والسادسة أَن يذكره بالخيرات التي وصلت من الجاني إِلى المجني
عليه. والسابعة أَن يذكره بالخيرات التي وصلت إِلى الجاني من المجني عليه،
فإِن ذلك يحركه إِلى أَن يعدو العفو عنه من جملة تلك الخيرات. والثامنة
أَن يحرضه على التأَني عند الظلم بأَن يقول له: إِنه ليس ينبغي أَن يعجل
الإِنسان إِذا ناله جور من إِنسان، فيكافئه بالعجلة، لكن يتوقف، فعسى أَن
يكون في عاقبة ذلك خير يناله. والتاسعة أَن يقول: إِنه ينبغي للإِنسان أَن
يكون مع الناس مسامحا يقنع بالقول الجميل دون الفعل، وأَلا يكون شديد
الاستقصاءِ. والعاشرة أَن يقول: إِنه ينبغي لللإِنسان أَن يكون متنزها عن
الخصومات والعقوبات. والحادية عشرة أَن يقول: إِن الاحتمال والصفح من
الخلق الفاضل؛ والمتهورون وذوو الخَرَق يقرون بهذا إِذ يتشبهون بالحلماءِ
فضلا عن غيرهم.
فقد تبين من هذا القول: ماهو التفضل والحلم والصفح، وما الحالم والصافح،
ومن أَي من المتقدمات يستدعى الحلم والصفح. ولأَن المجني عليه يعظم الظلم
الواقع به والجاني يصغره، فقد ينبغي هاهنا أَن يقال في أَنواع الظلم
العظيم والظلم اليسير.
ومن الظلم العظيم ما يكون من الإِنسان القوي للضعيف، وما يكون من الغني
للفقير. ولذلك ما قد يكون الظلم في الأُمور اليسيرة عظيما: إِما من عظم
الشر نفسه الموجود في ذلك الشر اليسير، وإِما من عظم الضرر. أَما عظم
الضرر في الشيءِ فمثل من يسلب الإِنسان قوته إِذا كان يسيرا وليس ملك
غيره. وأَما الشر الذي هو عظم في نفسه، وإِن كان الفعل يسيرا، فمثل ما حكي
أرسطو أَن رجلا خان الصناع الذين كانوا يدعون عندهم بالمقربن، وهم
المختصون عندهم بصناعة محاريب البيوت المختصة بعبادة الله في ثلاثة أَفلس
من مقدسة من المال المختص ببيوت العبادة.
قال: فإِن ثلاثة أَفلس هي شيء يسير من طريق الجور في المال،
وأَخذها من طريق ما هي من المال المقدس للصناع المقربين شر عظيم، وذلك أَن
لك يدل على قوة الشر الذي في أَخها إِذ كان قد هتك حرمة بيت الله وحرمة
ماله، ولذلك فاعل هذا ليس يرى أَحدٌ أَنه اتقى من الظلم شيئا، بل بلغ فيه
الغاية. وأَما إِذا اعتبر مقدار المضرة في أَخذ الأَفلس الثلاثة، فليس
هنالك ظلم يعتد به. وأَمثال هذه المظالم، أَعني التي تقع ببيوت الله
وأَوليائه، ليس فيها صفح ولا حلم ولا احتمال، لأَن الصفح فيها والحلم ليس
تقتضيه مصلحة، بل يجب أَن يكون الحاكم في أَمثال هذه ينفذ العقوبة ولا بد،
إِما لمكان الانتقام من الجاني فقط، وإِما لما في ذلك من المصلحة العامة
ولمكان هذا، قال الفقهاءُ عندنا إِن من قال في صاحب الشريعة عليه السلام
إِن زره وسخ قتل. ومن الظلم العظيم أَن يجمع على الإِنسان أَخذ ماله
وتعذيبه. ومن الظلم العظيم أَيا أَن يكون العادلون والصالحون، وبالجملة
ذوو الفضائل يعذبون على فضائلهم. ولذلك يكون الظلم الواقع بهؤلاءِ فخرا
لهم وكرامة ليست يسيرة. ولذلك ترى كثيراً من ملوك الجور يقصدون إِهانة
العلماءُ بالضرب وغير ذلك من الشر، فيكون ذلك فخرا لهم في الحياة وبعد
الممات، كما عرض لمالك وغيره من الفقهاءِ. وكذلك المقتولون من هؤلاءِ يعرض
لهم من ذلك بعد الموت كرامة عظيمة، مثل ما نال أَصحاب عيسى عليه السلام
بعد موتهم من الكرامة من التابعين لهم. وبالجملة كل من أُوذي على شيءِ
يكرم عليه الإِنسان فهو يستفيد بتلك الأَذية كرامة عظيمة. ومن الظلم
العظيم أَن يكون نوعا من الظلم مبتدعا لم يفعله أَحد غيره لا قبله ولا
بعده. ومما يعظم به الظلم أَن يكون هو أَول من فعله، فاقتدى به كل من أَتى
بعده ففعل ذلك الفعل، كما قيل في هابيل وقابيل ومن الظلم العظيم إِلحاق
الغرامة والخسران على الذين يتولون إِيصال الخيرات إِلى الناس مثل الظلم
الذي يقع على واضعي السنن. ومن الظلم العظيم الذي يوجب العقوبات العظيمة
في الشرائع المكتوبة مثل الإِلقاء إِلى السباع عند بعض الأُمم. ومن الظلم
العظيم الظلمُ الذي يقع من المرءِ بقرابته وخاصته لأَن ذلك يكون لبغضهم
والنفور عنهم. وأَذية القرابة وبغضهم إِنما يحمل عليه إِفراط الشرارة. ومن
الظلم العظيم الغدر بالأَمانات والفجور في الأَيمان ونقض العهود وما أَشبه
ذلك من الأٌمور التي تقتص في الأَخبار المكتوبة ولذلك كانت عقوبة هؤلاءِ
ليست كعقوبة سائر الظالمين، بل يفضحون مع العقوبة على رءُوس الأَشهاد مثل
عقاب شهداءِ الزور، فإِنه ليس يقتصر على عقابهم دون أَن يفضحوا في مجالس
الحكام وتسخم وجوههم. ولذلك زيد في عقاب الفرية عندنا التفسيق ورد
الشهادة. وأَقبح ما تكون الخيانة والغدر لمن تقدم منه إِحسان للغادر
والخائن. والذي يرائي بأَفعال الخير، وقصده الشر، هو من هذا النوع. والظلم
في السنن الغير المكتوبة، أَعني تعديها، أَعظم من الظلم في السنن
المكتوبة؛ وذلك أَن السنن الغير المكتوبة كأَنها شيء يضطر إِليها
الإِنسان، إِذ كانت كل الأَمر الطبيعي له، مثل بر الوالدين وشكر المنعم.
وأَما السنن المكتوبة فليس هي باضطرار للإِنسان. وإِن تعدى السنة المكتوبة
فظلم ظلما مستبشعا فهو ظلم عظيم مثل قتل الأَطفال والنساءِ. والغرامة في
الأَشياءِ التي ليس فيها غرامة في السنة المكتوبة من الظلم العظيم. ولذلك
كان أَقوى الأَسباب في فساد الرياسات.
قال: فقد تبين من هذا القول الظلم العظيم والصغير، إِذ الصغير ضد العظيم،
والشيءُ يعرف بمعرفة ضده.
وقد ينبغي أَن نقول في التصديقات التي تسمى غير صناعية، أَعني التي ليس
تكون عن قياس خطبي أَصلا، فإِن أَليق المواضع بذكرها هو هذا الموضع، إِذ
كانت أَخص بالمشاجرية منها بالإِثنين الباقيين من أَجناس الأَشياءِ
الخطبية، أَعني المشاورية والمنافرية.
وهذه التصديقات الغير الصناعية هي خمسة في العدد: أَحدها السنن، والثاني
الشهود، والثالث العقود، والرابع العذاب، والخامس الأَيمان.
والكلام فيها هاهنا إِنما هو كيف يستعمل واحد واحد منها في الشكاية
والاعتذار.
فلنقل أَولا في السنن فنقول إِن السنن لما كانت منها عامة ومنها
مكتوبة، فقد يجب إِن كانت السنن المكتوبة مضادة للشيءِ الذي يَقصد تثبيتَه
الشاكي أَو المعتذر أَن يحتج بالسنة العامة الموافقة له، أَعني المضادة
للسنة المكتوبة، ويقويها، ويزيف السنة المكتوبة. فأَحد المواضع التي ذكر
مما تزيف به السنة المكتوبة هو أَن يقول: إِن الواجب هو الأَخذ بالسنن
الغير المكتوبة، لأَن الإِنسان إِذا اقتصر على ما توجبه السنة المكتوبة لم
يكن محسنا ولا حليما ولا صفوحا، إِذ كان الإِنسان إِنما يوصف بهذه
الأَشياءِ إِذا اقتدى بالسنة العامة على ما تبين، وبالجملة فإِنما يتطرق
المدح والإِكرام من قبل السنن الغير المكتوبة، فاعل الواجب لا يمدح. ولذلك
لا يسمى من يعطي القدر الواجب من المال في السنة المكتوبة سخيا.
وموضع ثان وهو أَن يقول: إِن السنن المكتوبة إِنما يقتصر عليها العامة من
الناس الذين لا روية عندهم، وذلك أَنها أُمور مفروغ منها، فأَما الاقتداءُ
بالسنن الغير المكتوبة وتقديرها فهو لذوي الروية والخواص من الناس.
وموضع ثالث: وهو أَن السنن المكتوبة شاقة إِذ كانت تقصر الإِنسان على
أَشياء محدودة، والسنن العامة ملائمة لطبائع الإِنسان وهو أَهم.
وموضع رابع: وهو أَن السنن المكتوبة كثيرا ما يكون تركها أَنفع وأَفضل
وأَزيد في الخير، إِذ كان الشيءُ المحدود لا يلائم كل إِنسان ولا في كل
حين. وأَما السنن الغير المكتوبة فقد تقدر تقديرا يلائم كل إِنسان وفي كل
زمان.
وموضع خامس وهو: أَن السنة الغير المكتوبة أَبدية غير متغيرة لأَنها في
طبيعة الناس، والسنن المكتوبة متبدلة ومتغيرة. وحكى عن امرأَة مشهورة
عندهم أَنها اعتذرت عن رجل دفن عندهم على غير السنة المكتوبة بأَن قالت:
لم أَكن لأَدفنه على سنة تكون اليوم ولا تكون غدا، بل على السنة التي لا
تبيد أَبداً.
وموضع سادس وهو أَن السنة المكتوبة مظنونة، إِذ كانت مقبولة من الغير،
وإِنما هي معروفة بالطبع. ومن القول النافع في ذلك أَن نقول: أَن نقول:
إِن السنة العامة هي التي يفعل بها الحاكم أَفعالا مختلفة بحسب النافع
لشخص شخص ووقت وقت، والحاكم هو بمنزلة المخلص للفضة من الخبث، ولذلك قد
يجب على الحاكم الفاضل أَلا يقتصر على السنة المكتوبة فقط، بل يستعمل
السنتين معا حتى يتخلص له الحق في ذلك، ويتقرر لديه القول الخاص بالقضية
التي يحكم فيها. ولذلك متى حكم في شيء، وكانت السنة المكتوبة ضد الغير
المكتوبة، أَو كانت فيه سنتان متضادتان، فقد يجب على الحاكم أَن يستعمل
السنة القديمة أَحيانا، أَعني الغير المكتوبة، في موضع، ويطرحها في موضع
آخر؛ وكذلك الحال في السنة المكتوبة. فإِن بهذا الوجه يسقط التعارض الذي
بينهما في الظاهر ويصح الجمع. وهذا الذي قاله بيّن من فعل الفقهاءِ - وهذا
عندنا - في السنن المكتوبة المتضادة.
قال: ومتى أَشكل عليه وجه الجمع، فقد يجب عليه أَن يتوقف ولا ينفذ إِحدى
السنتين، بل يرجئ الحكم حتى يتبين له موضع الشك والشبهة بين السنتين، إِما
العامة النافعة وإِما المكتوبة الواجبة.
فهذا جملة ما قيل هاهنا في دفع السنن المكتوبة إِذا كانت مضادة للشيءِ
الذي يقصد تثبيته.
وأَما إِذا كانت السنة المكتوبة موافقة للأَمر المقصود تثبيته، والعامة
مضادة، فأَحد ما تزيف به السنة الغير المكتوبة المضادة أَن يقال: إِن
السنة العامة متبدلة الموضوع ومتبدلة الأَوقات، فهي بالجملة غير غير
محدودة، بل تحتاج إِلى استنباط وتحديد، وأَما المكتوبة فهي مفروغ منها.
فإِذا كان المضاد في السنة الغير المكتوبة متوهما وغير معلوم بعد، وكان
الموافق لنا في السنة المكتوبة مصرحا به، فقد ينبغي أَن يعتقد أَنه ليس
يجب أَن كون الحكم يتعدى به السنة المكتوبة.
وموضع آخر تزيف به السنة الغير المكتوبة: وهو أَن السنة الغير المكتوبة
تقتضي حكما عاما مثل الإِحسان إِلى من أَحسن إِليك، والمكتوبة تقتضي حكما
خاصا وهو مقدار ذلك الإِحسان ووقته. والعام الكلي ليس يفعله أَحد، وإِنما
يفعل الجزئي. والذي يفعل، هو الذي يجب أَن يمتثل.
وموضع آخر يقوي السنة المكتوبة: وهو أَن الوضع للسنة المكتوبة إِن كان
واجبا، فاستعمالها واجب؛ وإِلا فأَيّ فائدة في وضع شيء لا يستعمل.
وموضع آخر قوي في تثبيت السنة المكتوبة: وهو أَن واضعها نسبته
إِلى الجمهور في تقدمه بعلم المصالح نسبة الطبيب إِلى الذين يطبهم،
وبالجملة نسبة أَهل الصنائع إِلى من لم يكن من أَهل تلك الصناعة. وكما أَن
الطبيب ليس ينبغي للإِنسان العليل أَن يتوانى أَو يتردد في قبوله قوله أَو
تأوله، كذلك الحال في قبول قول الواضع للسنة المكتوبة، بل المضرة في
مخالفة واضع السنن أَشد من المضرة في مخالفة الطبيب. وذلك أَن مخالفة
الطبيب إِنما تلحق منها مضرة لواحد من الناس، ومخالفة واضع السنن يلحق منه
هلاك أَهل المدينة بأَسرها.
وموضع آخر: وهو أَن الذين ينصبون حكاما في المدن إِنما هم الذين علموا
السنن المكتوبة، لا السنن الغير المكتوبة. فإِن كل الجمهور يستوون في
إِدراكها. وإِذا كان ذلك كذلك، فواجب أَن تمتثل السنن المكتوبة، وإِلا كان
استعمال الحكام عبثا وباطلا.
فهذا جملة ما قاله في السنن.
القول في الشهود
فأَما الشهود، فمنهم قوم قد سلفوا، ومنهم حدث وموجودون. ومن الحدث من
يشارك المشهود له في الخير الذي يرجوه أَو الشر الذي يخافه. وأَعني
بالشهود القدماء الأَسلاف المعروفين المقبولين عند جمهور الناس المشهور
فضلهم. فهؤلاءِ تقبل شهادتهم على الأَشياءِ السالفة سواء أَخبروا أَنهم
عاينوها أَو لم يخبروا بذلك، لأَنه يحمل أَمرهم على الجملة فيما أَخبروا
به على التصديق. والشهادات: إِما شهادة على أَشياء سالفة وهي التي لم
يدركها أَكثر الموجودين في ذلك الوقت، وإِما شهادة على أُمور موجودة،
وإِما شهادة على أُمور مستقبلة. فأَما الأَشياءُ السالفة فإِن الشهود
عليها هم الأَسلاف لا محالة. وأَما الأَشياءُ الموجودة في زماننا فإِن
الشهود عليها مَنْ في زماننا. وأَما الأَشياءُ المستقبلة فقد يكون الشهود
عليها قوما تقدموا وقوما موجودين في زماننا هذا. والشهود على الأَشياء
المستقبلة صنفان: الكهان سواء كان تكهنهم بصناعة أَو بغير صناعة، وذوو
الأَمثلة السائرة التي تمنع أَو تأذن في العمل، مثل ما يقال: صل رحمك،
فإِن صاحب الشرع عليه السلام قد قال: صلة الرحم تزيد في العمر. وأَشباه
هذا. فأَما الشهود الموجودون فالمقبولون والمعمول بشهادتهم هم الذين
امتحنهم أَهل معارفهم، أَعني جيرانهم أَو قرابتهم أَو أَهل مدينتهم،
فوجدوها مقيمين على الأَحوال التي تقبل بها شهادتهم غير منتقلين عنها.
وأَما الشهود من الأَسلاف فقد استقر عمرهم على القبول، فلذلك ليس يحتاجون
إِلى الامتحان، وأَعني بالقبول إِما عدالتهم إِن شهدوا على أَشياء ماضية،
وإِما صحة وجود الملكات لهم التي يخبرون بها عن الأُمور المستقبلة إِن
كانت شهادتهم في أُمور مستقبلة. ومما يشترط في قبول شهادة الشهود الحدث
أَلا يشاركوا المشهود له في خير يرجوه ولا شر يتوقعه، مثل أَن يكونوا آباء
للمشهود له أَو أَبناء أَو قرابة. وذلك أَنه إِن أَراد منهم أَن يكذبوا،
كما يقول أَرسطو، ربما كذبوا. وأَما الأَسلاف فليس يتصور فيهم هذا إِذ قد
عدموا. والشهود الحدث إِنما تقبل شهادتهم إِذا شهدوا أَن الأَمر كان أَو
لم يكن، وليس تقبل شهادتهم على أَن الأَمر عدل أَو جور. وأَما الأَسلاف
فإِنه تقبل في ذلك شهادتهم، إِما لأَنهم لا يتهمون، لأَنهم ليسوا مشاركين
للشهود له؛ وإِما لأَن قولهم يحمل على أَن الحاكم كان كذلك في الزمان
السالف. والتصديقات قد تقع من قبل الشهادات، وقد تقع من قبل قرائن
الأَحوال المشاكلة، فتقوم مقام الشهادات والحكم بقرائن الأَحوال المشاكلة
هو من فعل ذوي الفطانة والحذق من الحكام. ولذلك ينبغي للحاكم أَلا يغلط في
المشاكلات المموهة كما لا يغلط الصيرفي في الفضة المغشوشة.وإِذا كانت هذه
الأَحوال قد توقف الحاكم على الأَمر الصادق نفسه، مع كون الشهادة الكاذبة
مضادة لها، فهي أَحرى أَن توقف عليه حيث لا تكون هنالك شهادة، أَو حيث
تكون الشهادة موافقة لها ولذلك كانت هذه الأَحوال تقوم عند الحكام مقام
الشهود. فإِنه لا خلاف بين أَن يحكم بالشهود أَو يحكم بهذه الأَحوال
المشاكلة التي تقترن بالمتكلمين. وهذه الأَحوال هي غير الضمائر، ولذلك عدت
مع الشهادات.
والشهادات: منها ما هي في الأَمر المتنازع فيه، ومنها ما هي في
الشهود، ومنها ما هي في المتخاصمين. والشهادة على الشهود: منها ما هي في
تقويتهم، ومنها ما هي في توهينهم. وأَما الشهادة على المتخاصمين فهي
بتعديل أَحدهما وتجريح الآخر. والشهادة على الشهود تكون إِما أَنه صديق
أَو عدو، وإِما أَنه وسط بين المدعى والمدعى عليه، وهو أَلا يكون صديقا
لأَحدهما ولا عدوا للآخر. وهنا فصول أُخر في الشهود سوى هذه الفصول سيقال
فيها حيث يقال في المواضع العامة التي تعمل منها الضمائر وذلك في المقالة
الثانية من هذا الكتاب.
فهذا جملة ما قاله في الشهادات.
القول في العقود
والعقود هي الشرائط التي يتفق عليها بعض الناس مع بعض. والشرائط التي يتفق
عليها إِنما هي نافعة في أَمرين: أَحدهما في تخسيس المعترِف بها وذمه،
إِذا لم يقف عندها وهو مصدق بها، وفي مدحه إِذا وفي بها. والمنفعة الثانية
في تصديق المدعى وتكذيب المدعى عليه إِذا أَنكرها. وليس في هذا الموضع فرق
بينها وبين الشهود، وذلك أَن الشروط إِذا كانت مكتوبة أَو شهد عليها
الشهود قامت مقام الشهود في تبيين الأَمر الذي فيه الخصومة وتبيين حال
الذين يتخاصمون، أَعني كيف أَحوالهم في الفضيلة والرذيلة. وذلك أَن التزام
الشرط يدل على الفضيلة، ومخالفته تدل على الرذيلة. وإِذا اعترف الخصم
بالشرط وادعى أَنه لا يلزمه، فقد يحتاج المتكلم أَن يقنع في وجوب لزوم
الشرط بأَن يقول: الشرط سنة خاصية وجزئية فيجب الوقوف عنده على الجهة التي
يجب الوقوف عند السنن. وإِذا كانت السنة مخالفة للشرط، قال: إِن السنة ليس
تحكم على الشرط ولا ترأَسه، لأَن السنة تقتضي مصلحة عامة والشرط مصلحة
خاصة، والخاص يحكم على العام؛ فإِذن الشرط هو الذي يرأَس السنة، لا السنة
ترأَس الشرط. وإِن لم تكن مخالفة له، أَعني للشرط، قال: إِن الشرط نوع من
السنة، إِن كانت السنة موضوعة عندهم بالاصطلاح، أَو أَن السنة توجب الوقوف
عند الشرط، إِن كانت السنة عندهم بوحي من الله.
وموضع آخر: وهو أَن يقول إِن الشروط هي التي تقتضي المصالح الخاصة بحسب
شخص شخص ووقت وقت. فإِن لم يوقف عند الشرائط، بطلت المصالح. وإِن الشرط هو
الذي يلتزمه الإِنسان باختياره وعن رويته. وما هو بهذه الصفة فلا يعذر في
أَلا يقف عنده. إِلى غير ذلك من المواضع التي تشبه هذه مما يطول الكلام
بذكرها إِن ريم استقصاؤها في هذا الموضع.
فهذا ما قاله في الأَشياءِ التي تثبت بها الشروط. وأَما الأَشياءُ التي
تزيف منها الشروط إِذا رأَى المتكلم أَن الأَصوب والأَصلح تزييف الشروط
فهي: السنن المكتوبة والسنن العامة؛ مثل أَن يقول: إِن السنن المكتوبة
أَشد مشاكلة ومناسبة للمصالح، لأَن السنة المكتوبة مشتركة، والمشتركة أَعم
صلاحا من الخاصة التي هي الشرط. والصلاح العام أَهم من الصلاح الخاص.
وموضع آخر وهو أَن الشروط يمكن أَن يلتزمها الإِنسان لمكان مخالطة وخديعة
تجرى عليه، وما توجبه السنن ليس يمكن فيه الخديعة، فالسنن أَولى من الشروط.
وموضع آخر: وهو أَن يقول إِن الحاكم هو الفاحص عن العدل والكاشف عنه،
أَعني العدل الذي يكون بحسب المدينة، ولذلك يجب عليه أَن يفحص عن العدل
الذي اشترطاه في أَنفسهما، أَعني المتعاقدين. فإِن كان عدلا في المدينة،
تركهما على الشرط. وإِن كان غير عدل أَبطل الشرط.
وأَيضا فإشن السنن لا توضع عن قسر ولا عن غلط؛ والشروط قد يمكن ذلك فيها.
وبالجملة فينبغي أَن نتبع أَضداد الشرط في السنن، فإِن لم نلفه في السنة
المكتوبة، فربما أَلفناه في السنة العامة، فزيفناه بذلك. وإِن أَلفيناه في
المكتوبة احتججنا في إِبطاله بها سواء كانت السنة سنة تلك المدينة أَو سنة
لمدينة ترأَس تلك المدينة.
ومما يبطل العقود أَن تكون هنالك عقود مضادة إِما متقدمة عليها وإِما
متأَخرة عنها. والأَواخر أَبداً في الأَكثر تقضي على الأَوائل. وقد تقضي
المتقدمة على المتأَخرة، إِذا كانت المتقدمة صحيحة، والمتأَخرة مغلطة
خادعة.
وأَيضا فينبغي للذي يزيف الشرط أَن يتأَمل أَلفاظه، فإِن كان فيها ما يمكن
تحريفه، حرفه وأَخرجه عن المفهوم الذي يقتضي علة الحاكم. وهذا إِنما يمكن
أَن يفعله من كان له بصر بالأَلفاظ المشتركة والمعاني المتشابهة.
فهذا آخر ما قاله في العقود.
قال: وأَما التقرير بالعذاب فإِنها شهادة ما لقول المعذب، وفيه له تصديق
ما، لأَنه يخاف إِن كذب أَن تعاد عليه العقوبة، ولما تخيل أَيضا أَن في
الصدق النجاة من الشر الواقع به، إِلا أَنه صدق مُكره عليه. ولذلك ( لا)
يعسر إِدراك الأَشياء التي بها يمكن أَن يثبت الإِقرار الذي يكون تحت
العذاب إِذا كان موافقا للمتكلم، وأَن يزيف إِذا كان موافقا للخصم. إِلا
أَن تزييفه ونقضه هو حق في نفسه. فإِن المعذبين لمكان الإِكراه ليس يكون
اعترافهم بالكاذب أَقل من اعترافهم بالصادق، بل قد يعترفون بالذي يطلب
منهم لمكان النجاة من العذاب وإِن كان كاذبا. وأَيضا فإِنهم إِذا صبروا
على العذاب ولم يقولوا الحق فقد يبادرون إِلى الكاذب ليظن به أَنه هو
الصادق، ليستريحوا من العذاب بذلك سريعا. ولذلك ما ينبغي للحكام أَن لا
يستعملوا هذا النوع من الاستدلال بل يعودون فيستعملون الدلالات الأُخر.
فإِن كثيراً من الناس لصحة أَبدانهم وعزة نفوسهم يصبرون على الأَذى صبراً
شديداً فلا يعترفون بالصادق. وأَما الجبناءُ وأَهل الضعف فقد يقرون على
أَنفسهم بالكاذب قبل أَن يروا الشدائد. ولذلك ليس في العذاب شيءٌ يوثق به.
ولمكان هذا درأَ الشرع عندنا الحدود التي تتعلق بالإِقرارات التي تحت
الإِكراه.
القول في الأَيمان
قال: وأَما الأَيمان فإِنها تستعمل لمكان أَربعة أَشياء، وذلك أَن الحالف
إِما أَن يحلف ليعطى شيئا ويأْخذ شيئا، مثل ما يكون في البيوع. وأَما أَلا
يعطى شيئا ولا يأْخذ شيئا. وإِما أَن يعطى ولا يأْخذ. وإِما أَن يأْخذ ولا
يعطى. وحلف الإِنسان ليعطى إِنما يكون لأَشياء أُخر ضارة به، أَعني إِن
أَمسك ولم يعط. واليمين إِما أَن تكون من المدعى أَو المدعى عليه. وليس في
اليمين شيءٌ من التصديق، إِذا علم أَن الحالف رجل فاجر. وإِذا لزمت اليمين
أَحد الخصمين فنكل، فقد لزمته الحجة. لأَن المطالبة باليمين تَحد على
الصدق. وإِذا عجز المتحدّى، فقد لزمته الحجة.
قال: ولما كان المطالب باليمين متردداً بين مكروهين أَحدهما مما يناله من
قبل اليمين - إِذا حلف كاذبا - وهو الاستهانة بالله و حرماته؛ والثاني
المكروه الذي يناله من الأَخذ منه أَو الإِعطاء، فهو أَبداً إِنما يفعل
أَقل المكروهين ضررا عنده. فلذلك قد يصدق بعض الناس إِذا حلف، ويكذب
بعضهم. وهذا أَحد ما يزيف به الاحتجاج بالأَيمان.
قال: وقد يُصدق الرجل الفاضل ويُرى أَنه لمحق، وإِن لم يحلف. لكن تصديقه
ليس هو لمكان أَنه لم يحلف، ولكن لمكان فضيلته، ومن أَجل أَنه ليس ممن
يحنث ولا يفجر بغير يمين، فضلا مع اليمين.
قال: وأَما التحدي باليمين فإِنه كثيراً ما يكون من الرجل الفاسق نحو
الثقة الأَمين، لأَن تحرج الثقة عن اليمين مما يوقع التصديق بقول الفاسق.
قال: وهذا هو مثل أَن يغلب المتهور المتوقي أَو يدعوه إِلى أَن يغلبه
ويتحداه بذلك. فإِن المتوقي يتجنبه.
قال: ولكن ليس للثقة الأَمين، وإِن كان الأَمر هكذا، أَن يأْخذ بغير يمين،
إِذا كان خصمه ليس يراه ثقة، بل ليس يأْخذ إِلا أَن يحلف.
قال: وبذلك كان يحكم فلان لرجل مشهور في الحكام عندهم. وكذلك هي السنة
عندنا قال: والثقة الأَمين، إِذا اشتد عليه إِتيان اليمين عند الدعوى
عليه، فإِن أَحب أَن يعطى ويكرم الله ولا يحلف، فقد يجب له أَلا ينكر
الدعوى الكاذبة عندما يُعطِى ما طولب به. فإِنه إِن أَنكر وأَعطى، أَوهم
أَن المدعى محق وأَنه إِنما أَعطى لمكان اليمين الفاجرة التي لزمته، ولذلك
ليس ينبغي أَن يلجئ نفسه إِلى أَن يُطالب باليمين، لأَنه إِذا طولب
باليمين فلم يحلف ظن به الكذب.
قال: وهو معلوم عند الحكومة في المشاجرة الخاصة والعامة كيف
يعتذر المرءُ إِذا خالف يمينه أَو يعتذر عنه، وكيف يؤنب مخالف اليمين
ويعذل. وذلك أَن الأَشياءَ التي يخالف فيها اليمين هي تلك الأَشياءُ
الأَربعة التي يحلف عليها، وهي التي يهواها إِنسان إِنسان من الناس، وذلك
إِما أَن يأَخذ ويعطى، وإِما أَلا يأخذ ولا يعطى، وإِما أَن يعطى ولا
يأْخذ، وإِما أَن يأْخذ ولا يعطى. فإِذا حلف المرءُ على واحد من هذه
الأَربعة، فلا يخلو أَن يكون القول الذي يستعمله في تثبيت ذلك الشيء إِما
موافقا لما حلف عليه وإِما مخالفا، وذلك يكون إِذا جحد اليمين.
فإِن كان مخالفا، فإِنَّ أَحَدَ ما يؤنب به المخالف لليمين أَن يقال: إِن
اليمين هي شريعة من الشرائع، فمتى خالفها المرءُ طوعا وجحدها، فقد ظلم؛
لأَن الظلم هو مخالفة للشريعة طوعا.
وأَما المعتذر عن مخالفة اليمين فقد يعتذر أَن يمينه كانت بإِكراه أَو
بغلط أَو بغفلة، وأَنه إِذ حلف لم ينو ذلك الشيءَ الذي خالفه، وإِنما نوى
غيره، وأَن الذي حمله على اليمين هو اللجاج ومخالفة الخصم وضيق الصدر
والحرج، وبالجملة التهيؤ الموجود فيه لسبوق اليمين وبدورها والمسارعة
إِليها وإِلى الإِنكار والجحود.
ومما يستعمل في التثبيت على السنن والأَيمان والتمسك بها أَن يقال: إِنه
قد يجب عليكم أَن تثبتوا على أَيمانكم ولا تخالفوها، فإِن اليمين هو حكم
شرعي أَلزمه المرءُ نفسه طوعا وعن علم، فقد يجب عليه أَلا يخالفه. وأَما
أُولئك الذين يحلفون لمكان الخديعة أَو الغفلة أَو التهيؤ للجحود
والمسارعة إِلى اليمين فلا يثبتون على أَيمانهم إِلى غير ذلك من أَشياء
تشبه هذا القول مما تعظم به اليمين وتفخم.
فهذا هو القول في التصديقات التي تكون بلا قياس، وجهات استعمالها في هذه
الصناعة.
وهنا انقضت المعاني التي تضمنتها هذه المقالة التي هي الأُولى.
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله
المقالة الثانية
من الخطابة
قال: أَما من أَي أَصناف الأَقاويل يكون الإِذن والمنع والمدح والذم
والشكاية والإِعتذار وأَي المقدمات والقضايا هي التي تؤخذ أَجزاءِ هذه
الأَقاويل التي تفعل التصديق في هذه الثلاثة فقد قيل فيها في المقالة
الأُولى. فإِن المخاطبات في الأُمور الجزئية إِنما تكون من أَجل هذه
الأَغراض الستة التي ذكرناها وبالأَقيسة والمقدمات التي عددناها فيما سلف.
ومن أَجل أَن الخطابة لا بد فيها من حاكم يرجح أَحد قولي المتخاطبين، إِذ
كانت الأَقاويل المستعملة فيها غير يقينية، ولذلك احتيج إِلى الحكام في
المشوريات أَكثر ذلك، إِذ كانت أُموراً ممكنة، وكذلك يحتاج إِليهم في
التشاجر والمدح والذم، فقد ينبغي أَن ننظر هاهنا ليس في الأَقاويل المثبتة
والمبطلة، بل وفي بيان الأَقاويل التي تفيد الحاكم الانفعالات التي تصيره
إِلى الميل في الأَحكام.فإِنه قد يختلف تصديق الحاكم بكلام المتكلم،
وتصديق المتكلم بحكم الحاكم إِذا عرف المتكلم أَي امرئ هو الحاكم في
صداقته له أَو عداوته، وعرف الحاكم أَي امرئ هو المتكلم في فضيلته
ومعرفته. أَما معرفة الحاكم بالمتكلم فغناءُ ذلك في الأَكثر إِنما هو في
الأُمور المشورية. وأَما معرفة المتكلم بحال الحاكم فالانتفاع بذلك إِنما
يكون أَكثر ذلك في الخصومات. وذلك أَنه ليست أَحكام الحكام على من أَحبوه
أَو قَلَوْه حكما واحداً، ولا من كانوا عليه غضاباً أَو غير غضاب أَو
خائفين منه أَو غير خائفين منه، بل توجد أَحكام الحكام تختلف بحسب هذا
اختلافا كثيرا في القدر والمبلغ. فإِذا حكموا على من يحبون، فإِما أَلا
يخسروه شيئا وإِما أَن يخسروه اليسير. وأَما حكمهم لمن يبغضون فخلاف ذلك.
وكذلك فرق بين أَن يحكم الحاكم وهو منشرح الصدر للمتكلم حسن الظن به وبين
أَن يحكم وهو ضيق الصدر مكترث به.
قال: والمتكلمون يكونون مصدقين في أَقاويلهم أَكثر ذلك لعلل
ثلاث؛ لأَنه قد يُصدق المرءُ بهذه الثلاث دون قول مثبت. وهذه الثلاث هي:
المعرفة والفضيلة والإِلف، أَعني أَن لا يكون مستوحشا من الذي يشير عليه
إِما لمكان جهله به أَو مباينته له في الجنس أَو المكان أَو اللسان.
والمشيرون يصيرون غير مصدقين ومكذبين إِما من أَجل عدم هذه الأَحوال
الثلاثة فيهم أَو عدم بعضها، لأَنهم إِما أَن يكونوا لا يشيرون برأْي صواب
لمكان جهلهم وخطائهم، أَعني أَنهم يشيرون بما لا ينتفع به لضعف رأْيهم.
وإِما أَن يكونوا عارفين، لكنهم يمنعهم من الإِشارة بالصواب الخبث
والشرارة. وإِما أَن يكونوا عارفين ذوي فضائل، لكن يكونون مستوحشين من
الذين يشيرون عليهم. وذلك أَنهم إِذا كانوا بهذه الصفة، أَمكنهم أَن
يعرفوا الأَمر الأَفضل فلا يشيرون به. وهو بين أَنه ليس سوى هذه الخلال
الثلاث خلة إِذا وجدت للمتكلم أَمكن أَن يكون بها مصدقا عند السامعين.
فأَما من أَين يعرف المرءُ أَن المتكلم بهذه الحال أَو يثبت أَنه على هذه
الحال عند من لا يعرف ذلك فمن الأَشياءِ التي ذكرت في باب المديح، أَعني
أَنه ذو معرفة وفضيلة.
وأَما أَنه متأَنس وصديق فإِن القول فيها هو جزءٌ من القول في المقدمات
التي يثبت بها الانفعالات التي تختلف أَحكام الحكام بسببها وهي التي
تلزمها إِما اللذة وإِما الأَذى، مثل الغضب والرحمة والخوف وأَضداد هذه
وما أَشبه ذلك.
قال: وقد ينبغي أَن نقول فيها هاهنا وذلك يكون بان ننظر من كل واحد من هذه
الانفعالات في ثلاثة أَشياء، أَعني في الأَشياءِ الفاعلة لذلك الانفعال،
وفي الناس المستعدين لذلك الانفعال، وعلى من يقع ذلك الانفعال غالبا.
ومثال ذلك: إِذا نظرنا في الغضب، أَن نقول: بأَية حالة يكون المرءُ غضوبا،
وما الأَشياءُ الفاعلة للغضب، ومَنْ القوم الذي يغضب عليهم بالطبع. فإِن
الغضب إِنما يوجد ولا باجتماع هذه الثلاث. وإِذا وجد بعضها ولم يوجد بعض،
فليس يوجد الغضب ولا بد. وبالجملة فيفعل في هذا الجنس مثل ما فعل في
الأَبواب المتقدمة، أَعني في باب الخصومات، وفي باب المشورة، حيث حددنا
الأَشياءَ التي يقصد تثبيتها، ثم الأَشياء التي بها يلتئم وجودها، أَعني
النافع أَو الضار أَو العدل أَو الجور. والاثنان من هذه الثلاثة هي التي
تأْتلف منها المقدمات التي إِذا خوطب بها الإِنسان حركته إِلى ذلك
الانفعال، أَعني الفاعلة له وبمن يقع ذلك الانفعال. وأَما الذين هم معدون
لذلك الانفعال، فإِنما يوجد من أَحوالهم التي هم بها معدون أَنهم قد
انفعلوا لا أَن تحركوا بذلك إِلى ذلك الانفعال. ومثال ذلك أَن المرءَ
إِنما يحركه إِلى الغضب إِذا وصفت له حضور الأَشياء الفاعلة للغضب والمرء
الذي يجب أَن يغضب عليه. فأَما الأَحوال التي بها يكون المرء معدا لأَن
يغضب، فإِنما يثبت بها أَنه قد غضب. لكن معرفة هذه الأَحوال نافعة لمن
يريد أَن يُغضِب، لأَنه يعرف الوقت الذي يكون فيه المرءُ مستعدا لقبول
القول الذي يحركه لذلك الانفعال.
قال: والغضب هو حزن أَو أَثر نفساني يكون عنه شوق من النفس إِلى عقوبة ترى
واجبة بالمغضوب عليه من أَجل احتقار منه بالمرءِ الغاضب أَو بمن هو بسببه
ومتصل به.
والاحتقار هو الذي يسميه أَرسطو صغر النفس لأَن نفس المحتقر به كأَنها
تصغر بالأَشياءِ الصغيرة التي يتوهم فيها.
وإِذا كان هذا هو حد الغضب، فالغضب إِنما يكون من إِنسان مشار إِليه أَو
ناس مشارين إِليهم على إِنسان مشار إِليه أَو ناس مشارين إِليهم لا على
الإِنسان الكلي وذلك لشيء فعله المغضوب عليه بالغاضب أَو بأَحد ممن هو
بسببه.
وكل غضب فيلزمه أَبدا شيء من اللذة من قبل أَن الغاضب يؤمل أَن ينتقم من
المغضوب عليه. وإِذا أَمل التذ، لأَن هذا الأَمل هو الظن بأَنه سيظفر من
المغضوب عليه بما هو كالممتنع على غير، وهو العقوبة التي تتوق نفسه
إِليها. ولذلك قد يشرف الغاضب في نفسه بما يتخيل فيها من القدرة على
العقوبة، ولذلك ليس يغضب على من هو فوق رتبته جدا ولا على من هو دونه جدا.
قال: وما أَحسن ما قال الشعراء في الغضب: إِن الذي يعتلج منه في
النفس شيء أَحلى من العسل والشهد، وإِن الذي يغشى الفكر منه هو شيء شبيه
بالدخان. ولذلك لا يعقل الغضبان ولا يفهم. وإِنما قيل فيه: إِنه أَحلى من
العسل، لمكان اللذة التي تكون فيه عن تخيل الانتقام لأَن تخيل الشيء
المتشوق وتردده في النفس لذيذ، إِذا لم يكن هنالك فكر يفهم معه شيء مكروه
مقترن بالمتشوق، ولا شيء يعوق، ولكن يقوى حصول إِمكانه، كالحال في
الخيالات التي يلتذ بها في النوم.
قال: والاحتقار بالشيءِ والتهاون به يكون من قبل أَن الشيءَ لا قدر له ولا
يستحق أَنيعتنى به، أَعني أَن يقتنى إِن كان خيرا أَو يحتال في دفعه إِن
كان شرا. ولذلك كانت الخيارات والشرور جميعا يظن بها أَنها مستوجبات
للعناية بها. وكذلك الأُمور اللازمة للخير والشر مثل الخوف للشر والتأْميل
للخير هي أَيضا معتنى بها. وإِنما يرى الناس أَنه لا يستحق شيئا من
العناية ما ظن به أَنه ليس فيه خير يرتجى ولا شر يتقى؛ وإِن كان، فنزر
قليل جدا.
وأَنواع الاحتقار، وهو الذي يسميه أَرسطو صغر النفس، ثلاثة: الإِهانة،
والسخرية والطَّنْز، والشتيمة.
فإِن الذي يهان، وهو الذي يفعل به ضد أَفعال الكرامة، محتقر. وإِنما
يتهاون المرءُ بالذي يرى أَنه ليس أَهلا لشيء. وكذلك الذي يطنز به هو
محتقر أَيضا، إِذا كان الطنز بالشيءِ يعوق عن تشوقه وإِرادته.
والطنز الذي بهذه الصفة هو الطنز الذي ليس يقصد به فاعله شيئا يستفيده سوى
مضرة المطنوز به. وذلك أَنه لما كان المطنوز به محتقرا، فهو بيّن أَنه لا
يَخاف منه ضرراً. ولو ظن ذلك، لخاف فلم يحتقره. وأَما الذين يطنزون
لينالوا بالطنز منفعة مَا، فأُولئك إِنما ينبغي أَن يُسَموا مستعطفين
ومحتالين، مثل أَهل الدعابة الذين يتخذهم الملوك، وليس يدخلون في ذلك
الجنس، وإِنما يدخلون في جنس المحتالين.
وكذلك الشتيمة هي احتقار للمشتوم والشتيمة التي بهذه الصفة هي التزييف
والبهرجة التي يقصد بها أَذى المشتوم بالشيءِ الذي إِذا صرح به خزي به
المشتوم. وليس تكون الشتيمة التي بهذه الصفة إِلا إِذا كان الذي شتم به قد
وجد للمشتوم فيما سلف لا فيما يستقبل، وأَن يكون شتما قبيحا يخزى منه
المشتوم، وأَن يكون ليس يقصد به أَن يحصل منه للمشتوم منفعة ما، مثل الشتم
الذي يقصد به الأَدب، فإِن هذا ليس هو احتقاراً، وإِنما هو معاقبة. وإِنما
كان الشتم ملذاً، لأَن الشاتمين يظنون بأَنفسهم أَنهم أَفضل من المشتومين.
ولذلك ما يوجد الأَغنياءُ والأَحداث شتامين وفحاشين، لأَنهم يظنون
بأَنفسهم الفضيلة على غيرهم. وهذا من فعل الشاتمين بيّن. فإِن الشتيمة
احتقار. وإِنما يحتقر من ليس أَهلا لشيء، وهو الذي ليس له شيء من الكرامة،
لا من أَجل خير يرجى منه، ولا من أَجل شر يتوقى منه.
قال: والذين يظنون أَن لهم حقا واجبا على كثير من الناس في الحسب والقوة
والفضيلة، وبالجملة: في كل ما يفضل به إِنسان إِنسانا، مثل فضل الغنى على
الفقير، والبليغ على العي، وذي الرياسة على المرؤوس، أَو الذي يرى نفسه
مستعدا للرياسة وإِن لم يكن رئيسا، جميع هؤلاءِ معدون لأَن يغضبوا على
الناس من أَدنى شيء يتخيلونه فيهم من الاحتقار. ولذلك قيل إِن شدة
الاستشاطة والغضب توجد في أَبناءِ الملوك ومَن يتصل بهم الذين نشأُوا في
الترفه ولم يلقوا قط إِلا بما يسرهم من إِكرام الناس لهم والمعاملة
الجميلة. ويوجد في هذا الصنف مع شدة الاستشاطة أَشياءَ تلزم شدة الاستشاطة
مثل فرط الانتقام وأَلا يقنعوا من الجاني عليهم بالشيءِ اليسير إِلا
بالعقوبة العظيمة. وذلك أَنهم يمتعضون لعِظَم شأْنهم في أَنفسهم.
ومن الأَحوال التي إِذا كانت في الإِنسان صار بها معدا لأَن يغضب عليه أَن
يكون ذلك الإِنسان ممن يتوقع منه الإِحسان بعادة فلا يفعل ذلك إِما
بالإِنسان الذي عوده ذلك أَو بمن يتصل به. وذلك إِذا علم ذلك الإِنسان إِن
تركه ذلك كان بهوى منه، أَو علم أَنه يهوى أَن يترك ذلك وإِن لم يترك. وقد
يعد ترك الإِحسان المعتاد في فاعلات الغضب. وإِذا كان هذا هكذا، ففاعل
الغضب بالجملة إِنما هو الاحتقار أَو ما يظن أَنه احتقار.
والناس المستعدون للغضب هم الذين توجد فيهم أَحوال تخيل فيهم في
أَكثر ما يرد عليهم أَنه احتقار. والمستعدون لأَن يُغضب عليهم هم الذين
يخيل فيهم إِلى الغير أَن أَكثر الأَفعال التي تَصدر منهم هي احتقار.
وإِذ قد تبين بالجملة من أَجل أَي شيءٍ يكون الغضب ومَن الذين هم غضوبون
ومَن الذين يغضب عليهم، فقد يجب أَن نعدد هاهنا هذه الأَحوال. فمن
الأَحوال التي بها يكون المرءُ غضوبا أَن يكون الإِنسان يتشوق إِلى شيء
ويكون تشوقه إِليه مع غم وأَذى فإِن هؤلاءِ يسرع إِليهم الغضب، فُعِل
بأَحدهم شيء مُوجب للغضب أَو لم يفعل، لأَنه لضيق صدره يظن أَنه فعل به
ذلك. ومن هؤلاءِ الذين لهم أَشياء تؤذيهم، فهم يشتاقون إِلى زوال ذلك
المؤذي. فإِن هؤلاءِ يغضبون على كل شيء ومن كل شيء، مثال الذين يمسهم فقر
أَو مرض. فإِن هؤلاءِ يشتهون الصحة والأَشياء المستعملة في الصحة والثروة
والأَشياء المدركة بالثروة. ولذلك ليس يقال لما يتردد في نفوس هؤلاءِ من
هذه الشهوة أضنه سبب لأَن يقال فيهم إِنهم شهوانيون، بل ذلك سبب لأَن يقال
فيهم إِنهم ضجرون. وأَكثر ما يغضب هؤلاءِ على الذين يحتقرون الأَمر الواقع
بهم، مثل الذين يتهاونون بالوجع الذي يصيب العليل في حال إِصابته إِياه.
وكذلك الذين يتهاونون بالحاجة الماسة التي أَصابت إِنسانا ما في حال فقره.
ومثل من يتهاون بالجور الواقع على إِنسان ما. ومن هذا الجنس من يتهاون
بصديق المرءِ. وبالجملة فكل من يتهاون بما يؤذي الإِنسان ويحزنه أَو بما
يلذه ويسره. والإِنسان الذي أَخفق أَمله يسرع إِليه الغضب، لأَنه قد ظن
ظنا ما فأَخفق ظنه.
قال: وقد تبين من هذه الأَشياءِ في أَي أَحوال من أَحوال الإِنسان وعوارض
من عوارض نفسه، وفي أَي سن، وخلق يكون أَشد استعداداً للغضب، وعلى من
يغضبون، وبمن يهزأون ومن يعيرون إِذا كانوا في شيء شيء من هذه الأُمور.
أَما في الأَحوال فمثل غضب أُولي الرياسة على من لا رياسة له.
وأَما في العوارض فمثل غضب المغتمين على المسرورين.
وأَما في الخلق فمثل غضب الشجعان على الجبناءِ.
وأَما في السن فمثل غضب المشايخ على الشباب.
قال: وإِنما يشتم ويستهان بالذين تكون حالهم في أَفعالهم وأَقوالهم
وحالاتهم حال من لا ينتفع بشيء من تلك الأَفعال والأَقوال والأَحوال، أَو
يظن بهم ذلك. فإِنه إِذا اعتبر أَمر الشتيمة والاحتقار وجدت لا تتعدى هذا
الصنف. ولذلك قد يظن أَن ما يقع من الاستهانة والاستخفاف بالفضلاءِ
والحكماءِ أَنه أَمر واجب. لأَن الجمهور يرون أَنهم لا ينتفعون من
أَحوالهم بشيء، وكذلك سائر الفضائل التي هي غير نافعة، وخاصة ما كان منها
إِنما يحصل بعد تعب عظيم ويحفظ بعد حصوله بتعب عظيم أَيضا. وذلك أَن
الجمهور لما كانوا يعتقدون في أَمثال هؤلاءِ أَنه ليس لهم منفعة في ما
يقتنون من ذلك ولا شيء فيه قوة منفعة كان أَحرى أَن يظنوا أَنه ليس
ينتفعون منهم بتلك الأَشياء. لأَنهم إِذا لم ينفعوا أَنفسهم، فأَحرى أَلا
ينفعوا غيرهم. وإِذا رأَى الجمهور في كثير من هذه الأَشياءِ أَن لهم فيها
منفعة، وإِن كان لا ينتفع بها أَهلها، أَعني الذي يقتنونها، ربما
استعطفوهم واسترحموهم بعد التغيير، وذلك في وقت حاجتهم إِليه، واعتذروا
إِليهم مما سلف. وهذا من فعلهم إِنما ينتفعون به معهم إِذا كان التغيير
المتقدم لهم غير مفرط ولا خارج عن العادة. لأَنه إِذا كان مفرطا ظن بهم
أَنهم يستهزئون بهم في حال الاستعطاف والتودد.
قال: والذين يحسنون، ثم يقطعون إِحسانهم؛ والذين لا يكافئون المرءَ على
فعله بما يجب لذلك الفعل، أَو يفعلون معه ضد فعله؛ والذين يرون المحسنين
إِليهم بحال خسيسة، وذلك بأَن يرى الذي أَحسن إِليه أَن ذلك الإِحسان خسيس
أَو أَن قدره فوق ذلك؛ فإِن هؤلاءِ يغضب عليهم. وهذه الأَفعال كلها هي من
فاعلات الغضب، لأَنه يظن بهم أَنهم متهاونون.
قال: وهاهنا قوم يغضبون من التهاون الواقع بأُمور خسيسة لهم أَو بالتي هي
أَخس من الخسيسة وهي التي ليس يرى لها أَحد قدراً في شيء ولا يمكن فيها
كلام تعظم به أَصلا ولا يطالب أَحد بتعظيمها. وليس يجب أَن يكون الأَمر
كذلك، أَعني أَن يغضب المرءُ على من يحتقر منه الأُمور اليسيرة، بل إِنما
يجب أَن يقع الغضب على من احتقر من المرءِ أُموراً لها قدرٌ.
قال: والأَصدقاءُ قد يُغضب عليهم إِذا لم يقولوا في أَصدقائهم
قولا جميلا عندما ينالهم مكروه، أَو يمتعضون إِذا ذكروا بسوء. وأَكثر من
ذلك إِذا لم يحسنوا إِليهم إِذا مستهم حاجة أَو لم يألموا بما نزل بهم من
المكروه، ولذلك قيل:
يواسيك أَو يسليك أَو يتفجع.
وإِنما يغضب على هؤلاءِ عدم الارتماض بالمكروه الذي وقع بهم يدل على
الاستهانة بهم. وذلك أَن من المعلوم أَن الإِنسان يغضب إِذا أُوذي من
يعتني به، وكذلك يغضب على الصديق الذي يتهم صديقه ويسيء الظن به، وعلى
الذي يتهاون بما بلغه عنه من قول، لأَنهم في هذه الأَحوال يشبهون
الأَعداءَ. وذلك أَن الأَعداءَ هم الذين لا يمتعضون للمكروه الذي ينزل
بعدوهم ولا يسوءهم الشر النازل بهم. وأَما الأَصدقاءُ فيمضهم السوء النازل
بإِخوانهم ويتفجعون لذلك ويجزعون.
قال: وقد يغضب على الذين يتهاونون بأُمور خارجة عن الإِنسان، وتلك هي خمسة
أَصناف: أَحدها الذين يتهاونون ب
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
القول في المسكنات للغضب
قال: ومن أَجل أَن ضد الغضب هو سكون الغضب، فقد ينبغي أَن ننظر من أَمر
سكون الغضب في أَضداد تلك الأَشياءِ الثلاثة التي ذكرناها، أَعني بأَية
حال يكون الناس الذين يسهل سكون غضبهم، وبأَية حالة يكون الناس الذين يسهل
سكون الغضب عليهم، وأَما الأَشياء المسكنة للغضب.
قال: والسكون هو عدم الغضب أَو فتوره. وإِذا كان الغضب إِنما
سببه التهاون الذي يكون بالمشيئة والطوْع، فهو بيّن أَن الذينلا يتهاونون
- وإِن تهاونوا، فبكره، أَو بغير روية - أَو الذين يظنون أَنهم بهذه
الحال، أَنه لا يغضب عليهم؛ وإِن غضب عليهم، فيكون عنهم سكون الغضب سريعا.
وقد يكون سكون الغضب بأَن يفعل بالغاضب آلام ومكاره تنسيه الاحتقار به
الذي كان سبب غضبه على جهة القصد والتعمد لذلك. وهذا إِنما يفعله الدهاة
ذوو الشرور العظيمة. ومما يفعل السكون أَن يفعل المرءُ بنفسه الأَشياء
التي ظنها الغاضب احتقارا به. فإِن هذا يوهم فيه أَنه ليس يرى فيها أَنها
احتقار، إِذ كان أَحد لا يرى أَنه محتقر لنفسه.
قال: ومما يفعل الكون الاعتراف بالذنب أَو أَن يجعل على نفسه أَلا يعود
إِليه وهو المسمى عندنا توبة، أَو أَن ينقلب إِلى ضد الاستهانة وهو
الإِجلال. وإِنما كان الاعتراف مسكنا للغضب لأَنه يوجب العقوبة. ووجوب
العقوبة مما يفتر الاهتمام بما فعل والارتماض له. وذلك بيّن عند مشاهدة
المعاقبات المحسوسة، فإِنا قد نعاقب أَكثر ذلك بشدة وزيادة الذين يجحدون
ويحتجون عن أَنفسهم. فأَما الذين يقرون ويعترفون أَن العقوبة النازلة بهم
عدل، فقد يفتر الغضب عن هؤلاءِ. وأَيضا فإِنه قد تكون علة الجحود للأَمر
الظاهر وقاحة الوجه والصلف. والوَقاح مستهزيء مستهين. فإِن الذين لا
يُستحى منهم ليس لهم قدر، فيشتد الغضب لذلك على الجاحد. وأَيضا فإِن
الإِقرار ذلة واعتراف بالنقيصة، وهذا يتنزل منزلة العقوبة الواقعة بهم.
وأَما الذين لا يعترفون فإِنهم يرون غير خائفين ولا متذللين للغاضب عليهم.
وذلك مما يخيل فيه الاستهانة بالغاضب عليهم.
قال: وقد يدل على أَن الغضب يفتر عن الذين يذلون ويتواضعون ما يظهر من فعل
الكلاب، وذلك أَنه تكف عن الناس الجلوس والمتدين وتنهش المستعجلين. وقد
تأْتي مواضع ليس يظن بالجحود فيها أَنه استهانة بل دعوى الحق، وذلك إِذا
لم يكن الذنب ظاهراً.
قال: ومن الأَصناف الذين لا يغضب عليهم، أَو شأْن الغضب أَن يفتر عنهم،
الصنف من الناس الذين هم طيبو النفوس، سلسو القياد، حسنو الخلق يحتملون،
وهم الذين يسميهم أرسطو مفراحين. والصنف المحتاج أَيضا يقل الغضب عليه
لمكان الرحمة له، إِذ كانت الحاجة النازلة به بمنزلة العقوبة. والصنف من
الناس الذين يستعفون من الخصومات ويتفادون من المنازعات، فإِنه أَيضا يسكن
الغضب عنهم لمكان الذلة والتواضع الموجود فيهم. والذين لا يشتمون أَحدا
ولا يطنزون به ولا يحتقرونه. أَو الذين إِن فعلوا ذلك فعلوه في الأَقل
فليس يغضب عليهم. وإِن غضب، فيسكن الغضب عنهم سريعا.
قال: وبالجملة فينبغي أَن تؤخذ مسكنات الغضب وذلك في الأَكثر من أَضدادها
التي عددت قبل في باب الغضب.
قال: والذين يُهابُون أَو يَستحى منهم لا يُغضب عليهم ما داموا بهذه
الحال، لأَنه لا يمكن أَن يغضب المرءُ على إِنسان ما ويخافه معا في حال
واحدة. والذين فعلوا الاحتقار والاستهانة بالمرءِ في حال غضبهم عليه،
فإِما أَلا يغضب عليهم، وإِما إِن غضب عليهم فيسير، لأَن الغاضب على
إِنسان ما ليس يظن به أَنه يحتقره، ويغضب عليه معا. وذلك أَن الاحتقار ليس
فيه أَذى للمحتقر سواء كانت فيه لذة أَو لم تكن. وأَما الغضب فهو لذة مع
أَذى كما تقدم في حَده. والإِنسان المغضوب عليه فقد يسكن الغضب عنه أَن
يكون يستحي مما فعل.
قال: والأَحوال التي يكون فيها الغضب قبيحا أَو غير جميل، فأَما
أَلا يغضب فيها الإِنسان من الأَشياءِ المغضبة الواردة عليه من خارج،
وإِما إِن غضب فيسكن غضبه سريعا، وذلك كأَفعال الاحتقار التي يؤدب ويعلم
بها الإِنسان مثل انتهار المتعلم، ومثل أَفعال الاحتقار التي يقصد بها
المزح في الحالة التي يكون المقصود منها المزح، أَو التي يقصد بها اللهو
في الحالة أَيضا التي يكون المقصود منها اللهو. والفرق بين المزح واللهو
عند أَرسطو أَن المزاح يقصد به تطييب نفس الممزوح به، لا أَن ينال بذلك
المازح لذة. واللهو يقصد به أَن يلتذ اللاهي لا الملهو به. ولذلك يمزح
الأَخيار ولا يلهون. وكذلك أَيضا أَفعال الاحتقار التي يقصد بها التأْنيب
والموعظة عند الزلات والعوارض الرديئة. ومنها أَيضا سد الخلة بالشيءِ
اليسير المحتقر، فإِن المحتاج لا يغضب منه إِذا كان فيه سد خلته، ولو كان
نزراً محتقراً.
قال: وبالجملة فكل فعل من أَفعال الاحتقار أَو المحتقر إِذا لم يقترن به
أَذى للمحتقر به ولا لذة قبيحة، أَو اقترن به رجاء وأَمل فليس يغضب منه.
فمثال ما لا يقترن به أَذى الاحتقار الذي يؤدب به. ومثال ما لا يقترن به
لذة قبيحة المزاح الذي لا يخرج إِلى الفحش. ومثال ما يقترن به حسن رجاء سد
الخلة.
قال: وإِذا طال الزمان ولم يتكرر من المغضوب عليه فعل يوجب تجدد الغضب،
فقد يسكن طول الزمان الغضب.
قال: ومما يسكن الغضب العظيم الأَخذ بالثأْر إِما أَولا فمن الجاني نفسه
وإِما ثانيا فممن يتصل بالجاني. وربما لم يسكن الغضب أَخذ الثأْر من
الجاني الأَول حتى يأْخذه ممن يتصل به، إِذا لم ير الجاني الأَول كفؤا له،
ورأَى أَن من يتصل به هو كفؤ له. ولذلك ربما ترك الجاني نفسه وأَخذ الثأْر
ممن يتصل به. وقد يسكن الغضب الانتقام من غير الظالم ومن غير من يتصل به
بل ممن اتفق من الناس. وكذلك قد يسكن الغضب نزول الشرور العظيمة بالجانين،
وإِن لم يكن ذلك من قبل المجني عليهم، لأَنهم يرون كأَنهم قد أَدركوا
ثأْرهم.
قال: والذين يعتقدون في أَنفسهم أَنهم ظالمون فليس يغضبون من الأَفعال
الواردة عليهم من المظلومين، لأَنهم يرون أَو تلك الأَفعال هي عدل، والعدل
لا يغضب منه.
قال: ولذلك ما ينبغي أَن يتقدم المعاقِب أَولا فيبين بالقول أَن المعاقَب
ظالم، وحينئذ يعاقب. فإِنه إِذا كان الأَمر كذلك، لم يلحقه أَذى من
المعاقَب.
وقد ينفق في أَفراد من الناس وهم الشرار والعبيد العُتاة أَن يعلموا أَنهم
ظالمون، ولكن مع ذلك يغضبون ويتذمرون، وإِنْ كانت العقوبة التي نالتهم
بعدل، لأَن هؤلاءِ لا يرون أَن ينالهم أَذى.
والذين لا يشعرون بالاحتقار والضيم النازل بهم لا يغضبون أَيضا. وهذا قد
يعرض من قبل الجهل، وقد يعرض من قبل كبر النفس لأَنهم يرون أَن الأَفعال
التي يضامون بها ويحقرون ليس هي مما يوجب لهم تحقيرا. ولذلك قد يختبر كبار
النفوس بأَن يسلب عنهم كثير من أَفعال الفضائل التي تنسب إِليهم ليرى كيف
تأَثرهم عن ذلك، فإِنه كلما كان الفعل المسلوب عنه أَكبر ولم يغضب منه،
كان أَدل على كبر نفسه.
قال: ولموضع هذا لما أَراد فلان أَن يختبر كبر نفس فلان لرجل معروف عندهم
بكبر النفس، قال له إِنك لست معدوداً في فتاحي المدائن، ليعلم هل يغضب من
ذلك أَم لا. وبالجملة فكل من لا يتأَذى بالاحتقار إِما من قبل صغر قدر
المحتقر وإِما من قبل كبر قدر المحتقر به. والمستضام فإِنه لا يغضب، لأَن
الغضب قد قيل في حده إِنه أَذى مع شوق إِلى الانتقام. والهالكون لا يغضب
عليهم لأَنهم قد صاروا إِلى شر أَعظم من الشر المؤمل فيهم.
قال: ولذلك ما استعمل أُوميروش هذا المعنى في تسكين غضب فلان على فلان
لناس مشهورين عندهم بأَن قال في المغضوب عليه: إِنه الآن معانق للأَرض
البكماءِ التي لا يفارقها أَبدا. وإِنما كان الأَمر هكذا لأَن الذي تنزل
به مصيبة الموت يرثى له، إِذ كانت أَعظم المصائب. ولهذا الذي قاله ينبغي
أَن يعتقد أَن الناس الذين لا يكفون عن الأَموات، إِذا لم يكن من يتصل بهم
ممن يغضب عليه أَو ينافس في دنيا، أَنهم من شر الناس.
قال: فقد تبين أَن الذين يريدون أَن يسكنوا الغضب أَو يفتروه أَن من هذه
المواضع ينبغي أَن يأْخذوا المقدمات المسكنة له، أَعني جزئيات هذه المواضع.
والغضب بالجملة يفتر ويسكن عن ستة أَصناف من الناس كما قيل:
أَحدها الصنف المخوفون، والصنف الثاني المستحى منهم، والصنف الثالث
المفراحون من الناس، والرابع الذين يفعلون الاحتقار لا بالاختيار، والخامس
أَن يكون قد نزل بهم من الشر ما هو أَعظم من الذي يتشوقه الغاضب عليهم،
والسادس أَن يكونوا قد بادوا وهلكوا.
وهذا آخر ما قاله في الغضب وضده.
القول في الصداقة والمحبة
قال: فأَما مَنْ الناس الذين يصادِقون ويصادَقون بالطبع وما الأَشياءُ
الفاعلة للصداقة فإِنه قد يوقف على ذلك إِذا تقدم أَولا فحُدت الصداقة
والمصادقة، فنقول: إِن الصداقة هي أَن يكون الإِنسان يهوى الخير لإِنسان
آخر من أَجل ذات ذلك الإِنسان، لا من أَجل ذات نفسه، وأَن تكون له قوة
ومَلكة يفعل بها الخير له. والمصادقة هي أَن يكون كل واحد منهما من صاحبه
بهذه الحال. وإِذا كان ذلك كذلك، فالصديق بالحقيقة هو الذي يحب ويُحَب
معا. وقد يظن أَنه يحتاج هاهنا في الصداقة التامة إِلى شرط ثالث وهو أَن
يكون كل واحد منهما مع أَنه يُحب الخير لصاحبه من أَجل ذات صاحبه أَن يعلم
كل واحد منهما محبة صاحبه له. وإِذا كان هذا موضوعا لنا في حد الصداقة
فبين أَن الصديق هو الذي يستلذ الخير الذي يكون لصديقه، ويشاركه في
المؤذيات والمحزنات التي تنزل به ليس من أَجل ذاته لكن من أَجل ذات صديقه.
وإِذا كان الصديق بهذه الصفة، فكل واحد من أَصدقائه يفرح به ويسر به.
ولذلك كان الناس المشاركون بالطبع في السراءِ والضراءِ محبوبين، وأَما
الأَعداءُ فهم بضد هؤلاءِ، أَعني أَنهم تؤذيهم الخيرات الواصلة إِلى
أَعدائهم وتلذهم الشرور الواقعة بهم. وإِذا كانت الصداقة يلزمها هذا فبين
أَن العلامة التي يوقف منها على أَن المرءَ محب وصديق هي أَن يحزن للشر
الواقع بصديقه، وأَن يسر بالخير الواصل إِليه. ومن علامة الصداقة أَيضا
المشاركة في الخير والشر. وكذلك من علامتها أَن يكون فعل المرءِ مضادا
لفعل العدو في الشيءِ الواحد بعينه إِذا قاس أَحدهما إِلى الآخر، مثل أَن
يستعين بإِنسانين فيعينه أَحدهما ويسلمه الآخر؛ فإِن الذي يعينه صديق
والذي يسلمه عدو. وإِذ قد تبين أَن الصديق هو الذي يهوى الخير من أَجل ذات
صديقه، وأَن هؤلاءِ محبوبون بالطبع، فبين أَن الذين يحسنون إِلى إِنسان ما
أَو ناس ما أَو إِلى من هو بسببهم أَنهم محبوبون عند أُولئك الذين أَحسنوا
إِليهم، وأَن الإِحسان أَحد فاعلات المحبة. وكذلك الذين يفعلون بآخرين
أُموراً عظيمة ذوات كلفة ومشقة بسهولة ونشاط هم أَيضا محبوبون عند الذين
يفعلون بهم ذلك، وسواءٌ كان ذلك الأَمر شاقا بإِطلاق أَو كان شاقا في وقت
فعله فقط، باشروا ذلك بأَنفسهم أَو لم يباشروا ذلك بأَنفسهم، لكن كانوا هم
السبب في إِيصال ذلك الأَمر الجسيم إِليهم.
قال: والذين يظن بهم أَنهم يهمون بالإِحسان محبوبون. وصديق
الصديق محبوب وكذلك الذين يحبون المحبوبين محبوبون. وكذلك الذين يحبهم
المحبوبون والذين يعادون ويبغضون مَنْ يبغض المرءَ محبوب أَيضا عنده.
وكذلك الذين يبغضهم المبغضون للمرءِ هم أَيضا محبوبون عنده. وجميع هؤلاءِ،
أَعني المحبوبين، يرون أَنهم أَصدقاءُ، لأَنهم يرون أَن الخيرات التي
لأُولئك هي لهم ولذلك يهوون أَن تكون الخيرات التي لهم هي أَيضا
لأَصدقائهم، كما هي لهم من قبل أَصدقائهم، أَعني الذين كانوا يحسنون
إِليهم ويكرمونهم. ولمكان هذا يكرم الأَسخياء والشجعان، أَعني لمكان ما
يرى الناس أَنه يصل إِليهم من المنفعة بهم. والخيرات التي تصل إِليهم من
الناس هي الكرامة. والفضلاءُ الأَبرار هم الذين يُسْدون إِلى كل أَحد من
الخير بحسب ما يقدرون عليه بحسب حال حال من أَحوالهم وأَقل أَحوالهم أَنهم
لا يكلفون أَحداً شيئا وهؤلاء، كما يقول أَرسطو، إِنما يكونون بهذه الحال
إِذا كانوا لا يعيشون من أَصحابهم، يعني أَنه لا يكون عيشهم من مواساة
أَصحابهم لهم، بل يكون معاشهم من استعمالهم أَنفسهم وكدهم أَبدانهم.
والأَفضل من هؤلاءِ مَنْ كان معاشهم من شيءٍ شريف، مثل المعاش الذين يكون
من الحرب التي تكون على طريق السنة، لا من أُمور سوقية، أَو يكون معاشهم
من الصيد أَو من الرعاية، وبالجملة: يكون معاشهم من وجه لا يحتاجون فيه
لأَهل المدينة من غير أَن يلحقهم بذلك شين. فهذا الصنف من الناس قد يظن
بهم أَكثر من غيرهم أَنهم أَعفاء غير ظلامين سليمة صدورهم. والذين يفوض
إِليهم أَن تفعل بهم الأَفعال التي تفعل بالأَصدقاءِ إِن اختاروا ذلك هم
أَيضا محبوبون. وهؤلاءِ هم الأَخيار ذوو الفضائل. فإِن هؤلاءِ يرون مكتفين
بأَنفسهم وبأَحوالهم عن الأَشياءِ التي من خارج. ولذلك متى أَراد إِنسان
أَن يفعل بهم فعل الصديق بصديقه من إِيصال الخير إِليه خيّرهم في ذلك.
والسعداء المنجحون إِما في كل الخيرات، أَعني النفسانية والبدنية والتي من
خارج، وإِما في الخيرات التي هي منها فضائل فقط، وإِما في الأَشياءِ التي
يتعجب من نيلها إِما بإِطلاق وإِما بالإِضافة لأُولئك الذين نالوها،
محبوبون أَيضا.
قال: والطيبو النفوس والذين عشرتهم وملازمتهم النهار كله لمكان الالتذاذ
بهم من غير أَن يمل حديثهم فإِن جميع هؤلاءِ محبوبون لأَن أَخلاقهم جميلة
سهلة وليسوا موبخين على الخطإِ والإِساءة ولا يشغبون ولا يتعسرون ولا
يحرشون ولا يستثيرون لفعل الشر إِذا أُثيروا ولذلك كان جميع من اجتمعت فيه
هذه الصفات المذمومة صخابين، أَعني المستعلين على الإِنسان برفع الصوت عند
المخاطبة وبالحرد، فالصخابون هم أَضداد أُولئك. وكذلك الجفاة من الناس
القادرون على ضربهم بقوة أَبدانهم أَو الصابرون على ما ينالهم من المكروه
أَو الذين جمعوا الأَمرين مسارعون إِلى الصخب وإِلى عذل أَقاربهم وجيرانهم
وأَصدقائهم. وذلك إِما - إِذا أَمكنهم - أَن يعذلوهم، وإِما إِذا أَوهموا
أَن عذلهم هو من جهة الشفقة.
قال: والذين يمدحون قد يحبون الممدوحين لأَنهم يتوقعون منهم أَن
يشاركوهم في الخيرات التي عندهم لمكان مدحهم إِياهم. وأَما المادحون
فمحبوبون عند الممدوحين، وإِن كان المدح بأَشياء لا يأْمن الممدوح أَلا
تكون فيه وأَن تكون كذبا. والذين ينظفون لباسهم وأَزياءهم طول أَعمارهم
محبوبون، لأَنهم يرون أَنهم مُكرمون للناس بتلك النظافة وغير مؤذين لهم
بالمناظر القبيحة. والذين لا يعيرون بالذنوب ولا يعاتبون على الجنايات،
فإِن الذين يفعلون ذلك موبخون، والموبخون مبغضون؛ وأَعني بالذنوب
الإِساءات التي تكون بين الله وبيْن العبد، وبالجنايات الإِساءات التي
تكون بين إِنسان وإِنسان. والذين لا يصرون على الضغن ولا يقيمُون على
العذل واللجاج، لكنهم يرضون سريعا ويزول غضبهم، محبوبون، وذلك أَنه يظن
بهم أَنه كما أَنهم بهذه الحال للناس، كذلك هم لأَصدقائهم، بل هم أَحرى
بذلك. والذين لا ينطقون بالشر ولا يعرفون شرور أَقاربهم وجيرانهم وذوي
معارفهم لأَنهم أَخيار ليس عندهم شر محبوبون. والذين لا يشغبون على الذين
يغضبون عليهم أَو يجدون عليهم في أَنفسهم ويحقدون محبوبون، فإِن الذين هم
بخلاف ذلك صخابون. والذين يتعجبون من غيرهم بالنوع الذي يتعجبون به من
أَنفسهم محبوبون، لأَنهم ليس يظن بهم أَنهم يراؤون بذلك التعجب، إِذ كان
ليس أَحد يتعجب من نفسه إِلا بشيءٍ هو عنده بالحقيقة فضيلة ومتعجب منه.
والذين يفرحون بالمرءِ وبما عنده محبون عند الذي يفرح به، ولا سيما إِذا
كان الفرح عن انفعال بيّن، لأَنه يظن به أَنه أَحرى أَن يكون ذلك الفرح
ثابتا وأَنه لا يرائي بذلك الفرح. والمكرِمون محبوبون عند الذين يكرمونهم.
والمكرَمون محبوبون عند المكرِمين لهم. والذين يحب المرءُ أَن يحسدوه
حسداً لا يَبلغ بهم الاغتيال له والسعاية عليه محبوبون، لأَنه ليس يهوى
المرءُ هذا من أَحد إِلا وهو يهوى أَن يقف ذلك المرءُ على فضائله. وإِنما
يهوى ذلك منه إِذا كان عنده أَهلا لذلك. فلذلك من كان بهذه الصفة عندك
فإِما أَن تكون صديقه أَو تهوى أَن تكون صديقه، لأَنه إِذا كنت صديقه كان
أَحرى أَن يقف على الفضائل التي فيك. والذين يفعلون الخيرات محبوبون عند
المفعول بهم الخير إِن لم يتبعوا الخير بشر هو أَعظم وأَفظع، مثل الامتنان
الكثير والاستخدام الشاق. والذين يحبون الأَقارب والأَباعد الأَحياء منهم
والأَموات، أَعني ممن هو قريب أَو صميم أَو من المعارف. فإِن الأَموات لا
يحبون إِلا بشرطين: أَحدهما أَن يكون موتهم قريب العَهْد، والثاني أَن
يكونوا أَقرباء أَو معروفين. فكل أَحد يحبهم لمكان صدق محبتهم، لأَنه إِذا
أَحب الأَجنبي فهو أَحرى أَن يحب القريب. وإِذا أَحب الميت فهو أَحرى أَن
يحب الحي. ولذلك كان بالجملة الذين يحبون أَصدقاءهم جدا جدا ولا يخذلونهم
محبوبون، فإِن هؤلاءِ الصنف من الناس هم خيار، والإِنسان يحب الخيار الذين
ليسوا بأَصدقاء، فكيف الخيار الأَصدقاء. والذين ليس ودهم رياء ولا تصنعا
مودودون. والذين يخبرهم المرء بمساوئه ولا يستحي عندهم من ذكرها هم
أَصدقاء له، لأَن الصديق هو الذي لا يستحي عنده من ترك الأَشياءِ التي
يفعلها المرءُ لمكان الحمد والمرءُ القليل الحياءِ يود المرء القليل
الحياءِ، لأَنه لا يخافه ويثق به. وقد يحب المرءُ المرءَ الذي لا يخافه
ويثق به ويأْمنه؛ لأَنه ليس يحب أَحد الذي يخافه.
قال: فأَما أَنواع أَفعال الصداقة فهي الصحبة والأنس والوصلة وما أَشبه
ذلك النحو مما يفعله الأَصدقاءُ بعضهم ببعض. وأَما الفاعلات للصداقة
فالأَيادي والمنن، وأَن يفعل المرءُ بالمرء الخير حين لا يحتاج إِليه،
أَعني إِلى المرءِ. وإِذا فعل الخير لم يخبر بذلك، وأَن يبين أَنه إِنما
فعل ذلك لمكان المفعول به لا لمكان شيء آخر.
فهذا جملة ما قاله في المحبة.
قال: وأَما العداوة والبغضاءُ فقد ينبغي أَن تؤخذ فيها هذه الأَشياء
الثلاثة من الأُمور المضادة لهذه وهي معلومة بعلم هذه التي ذكرناها. وأَما
فاعلات العداوة فهي فعل ما يغيظ الإِنسان، والعبث، والنميمة؛ وأَعني
بالعبث الازدراء بالجملة، وأَعني بالنميمة السعاية الخبيثة بين نفسين.
والفرق بين الغضب والعداوة أَن الغضب يكون بالأَشياءِ التي تفعل
بالغاضب أَو بمن هو من سببه؛ والبغضة والعداوة فقد تكون وإِن لم يفعل
المبغض بالمبغض له شيئا. فإِنا قد نبغض ذوي النقائص، وإِن لم يجنوا علينا
شيئا. وبالجملة إِذا ظننا بالمرءِ ما يستحق البغضة، فنحن نبغضه أَبدا.
وفرق آخر: وهو أَن الغضب إِنما يكون على الأَشخاص مثل زيد وعمرو أَو
أَقوام محصورين بالعدد؛ وأَما البغضة والعداوة فإِنها تكون للجنس، فإِنا
نبغض البربر ويبغضوننا. وكذلك البغضة قد تكون للصنف فإِنا نبغض السارق
والنموم، وقد يبغضه الناس أَجمعون. وفرق ثالث: وهو أَن الغضب قد يسكن بطول
الزمان من غير أَن يفعل المغضوب عليه بالغاضب ما يزيل الغضب عنه؛ والعداوة
ليس تسكن بطول الزمان، ما لم يفعل المعادَى بالمعادِى ما يوجب مودته.
وأَيضا فإِن الغضب إِنما هو تشوق إِلى شر محدود أَن ينزل بالمغضوب عليه؛
وأَما البغضة فإِنها تشوق إِلى أَن ينزل بالمبغض شر غير محدود، أَعني أَنه
كلما وقع به شر تشوق العدو إِلى أَن يقع به شر أَكثر. وذلك أَن الذي يغضب
إِنما يهوى أَن ينزل بالمغضوب عليه شر محدود يشفى به صدره. وأَما العدو
فإِنه ليس يهوى هذا، بل شراً غير محدود، أَعني شرا أَكثر مما نزل به.
فالبغضة تخالف الغضب بهذه الفصول. وأَيضا فإِن المؤذيات مبغضات،
والأَشياءُ التي هي أَكثر أَذية هي مبغضات أَكثر، مثل الجور والجهالة.
وأَيضا فإِن الغاضب يجد حزنا مع لذة كما قيل؛ وأَما المبغض فليس يجد لذة.
وأَيضا فإِن الغضب قد يزول بأَيسر شيء يفعله الإِنسان، أَعني بأَشياء
كثيرة؛ وأَما البغضة فليس تزول بذلك. وأَيضا فإِن الغاضب إِنما يهوى أَن
ينزل بالمغضوب عليه مكروه ما فقط. مع أَلا ينعدم من الوجود؛ وأَما المبغض
فإِنه يهوى أَن ينعدم المبغض من العالم أَصلا.
قال: وهو معلوم أَنه من قبل هذه الأَشياء التي ذكرناها قد يمكننا أَن نثبت
بالقول انهم أَعداء أَو أَصدقاء أَو أَن نجعلهم كذلك إِن لم يكونوا كذلك،
أَعني إِما أَعداء وإِما أَصدقاء. وكذلك يمكننا بمعرفة هذه الأَشياء
بعينها أَن ننقض على القائلين دعواهم في المحبة والصداقة، أَعني أَن فلانا
عدو وأَن فلانا صديق إِذا دفعنا ذلك، وذلك إِنما يكون، كما قلنا، بمعرفة
ما هي الصداقة والعداوة والغضب، وبمعرفة هذه الأَشياء الثلاثة من كل واحد
منها، أَعني الفاعلات لها، والناس المعدين للفعل بها والانفعال عنها. وقد
ينتفع بمعرفة تثبيت العداوة والغضب في تثبيت الجور، لأَن أَحد الأَسباب
التي من قبلها يجور الجائر هي البغضة والغضب، مثل أَن يثبت في زيد أَنه
جار علينا من قبل أَن بيننا وبينه عداوة.
فهذا آخر ما قاله في الصداقة والعداوة.
القول في الخوف
قال: فأَما معرفة ممن يكون الخوف ومماذا يكون، أَعني الفاعلات له، ومَنْ
الذين يخافون، فنحن نبين ذلك هاهنا، بعد أَن نحد الخوف ما هو، كما فعلنا
في الأَبواب المتقدمة.
فليكن الخوف حزنا أَو اختلاطا من تخيل شر يتوقع أَن يفسد أَو
يؤذى، وأَعني بالحزن الغم والأَذى الذي يلحق النفس، وبالاختلاط اختلال
الروية، وبالفساد الهلاك، وبالأَذية ما دون الهلاك. وإِنما اشترط في الشر
المخوف أَن يكون مهلكا أَو مؤذيا، لأَن إِمكان وجود النقائص في الإِنسان
هي شرور متوقعة، ولكن ليس يخافها الإِنسان، مثل أَن يكون ظلوما أَو كسلان؛
وليس أَن يكون الفساد أَو الأَذى المخوف يسيراً، بل وأَن يكون عظيما. فإِن
اليسير لا يخافه أَحد. وأَيضا فليس يخاف من هذه ما كان متوقعا حدوثه في
الزمان المستقبل البعيد، بل ما كان متوقعا في الزمان المستقبل القريب.
فإِن الشر المتوقع في الزمان المستقبل البعيد ليس يخافه أَحد، بدليل أَن
كل أَحد يعلم أَنه يموت لا محالة، ولكن لأَنه ليس يعلم أَنه قريب، فهو لا
يخاف الموت. وإِذا كان حد الخوف هو هذا، فبين من ذلك أَن المخوفين هم
الذين يظن بهم أَن لهم قوة عظيمة على الإِفساد، أَعني الإِهلاك، أَو على
إِدخال نوع من الضرر يؤدي إِلى حزن أَو أَذى عظيم إِما جسدي مثل الأَسقام
وإِما نفساني مثل الذل والصغار. وكوْن مَن هذه صفته مخوفا معروف بنفسه.
فإِن المخوف إِنما هو الشر الذي يظن قريبا. ولذلك كان الخطر أَو الهول
الشديد إِنما هو اقتراب الأَمر المخوف وهو الذي يفعل العداوة والغضب في
الخائف ويحركه إِلى دفع الشيء المخوف ومقاومته. وإِذا كان المرء يهوى الشر
وله قوة عليه، فبين أَن شره قريب من الفعل، فهو ضرورة مخوف. والحَال في
المخوف كالحال في الظلوم، أَعني أَن الظلوم إِنما يكون ظلوما متوقع الظلم
بهذين المعنيين، أَعني بالقوة على الظلم ويهوى الظلم؛ لأَن الظلوم إِنما
يظلم بالفعل، إِذ كانت له قوة على الظلم وإِرادة لفعل الظلم. فالظلوم لا
محالة أَبدا مريد لفعل الظلم، وهواه متقدم لفعله. وإِنما يفعل الظلم في
الوقت الذي تكون له القوة على فعله. فإِذن باجتماع هذين له، يكون ظلمه
قريبا. وكذلك المخوف أَيضا إِنما يكون لمن اجتمع له هذان، أَعني القوة
والإِرادة. ولذلك لا يخاف أَحد شر الضعفاءِ، وإِن كانوا مريدين للشر؛ كما
لا يخاف الأَقوياء، إِذا لم يكونوا مريدين للشر. وكثير من الناس إِنما
يمنعهم من الشر ضعفهم أَو الخوف من شر مهول يطرأ عليهم. وما كان من الشر
المتوقع قد حدث بإِنسان آخر فهو يخاف أَكثر. والذين يعرفون بأَنهم يفعلون
الشرور الشديدة الفظيعة الناسُ لهم خائفون بالطبع. والذين يقدرون على
العقوبات مخوفون إِلا أَن يعرفوا بالصفح والعفو، وبالجملة الذين يقدرون
على الضرر مخوفون أَبداً عند الذين يكونون ذلك النوع من الضرر ممكنا لهم.
مثال ذلك أَن السراق مخوفون عند ذوي الأَموال، لا عند من لا مال له.
وإِنما كان ذلك كذلك لأَن الظلم يكون في الناس أَكثر ذلك مع القوة، أَعني
حيث توجد القوة يوجد الظلم. والذين يقع بهم الظلم مراراً، ويظنون أَنهم
سيظلمون، هم خائفون أَبداً، مثل أَهل الذمة. والذين يلقون أَبدا خلاف ما
يؤملونه هم خائفون. والذين في طباعهم الظلم، إِذا كانت لهم قوة، فهم
مخوفون. وكل ما لا يمكن أَن يشترك فيه اثنان فهو مخوف خطر، مثل الرياسة.
وذوو الرياسات والسلطان هم أَبداً مخوفون ولا سيما إِذا كانوا يهوون
الإِضرار بمن يفضلهم في الرأي وفي غير ذلك من الفضائل. والناس الذين
يخافونهم أَفاضلهم وذوو الكمالات فيهم هم مخوفون، سواء كانوا ممن لم يزل
بهذه الصفة أَو حصلت له هذه الصفة حين كبر وعظم قدره. وأَصدقاءُ المظلومين
مخوفون عند الظالمين لهم. وكذلك أَصدقاءُ الأَعداءِ أَيضا مخوفون. كما أَن
العدو مخوف. وليس السريع الغضب من الناس ذوى الأُنس والانبساط مخوفين عند
الغضب والحقد، لأَن هؤلاءِ ينحل غضبهم سريعا. وإِنما المخوفون ذوو الأَناة
في الغضب والحقد وذوو الإِزراءِ بالناس الدهاة الذين لا يظهرون ما يريدونه
من الشر هل هو بالقرب أَو بالبعد وهم أَضداد ذوى الأُنس، وذلك أَن ذوى
الأُنس يظن بهم أَنهم لا يرون أَحداً دونهم، وذوو الإِزراءِ يرون الناس
دون أَقدارهم.
قال: وجميع هذه الأَشياءِ المخوفة تكون مخوفة أَكثر إِذا كان
الفساد الواقع عن ذلك الشيء المخوف مما لا يمكن أَن يتلافى فساده، لكن
يكون إِفساده إِفساداً بالكلية، ولا سيما إِذا كان المفسد لا يمكن أَن
يكافأَ على إِفساده بأَن تنزل به الأَضداد التي هي مكروهة عنده. والذين لا
يجد الإِنسان عليهم ناصراً، فخوفه منهم أَشد. وبالجملة: فالشرور المخوفة
هي الشرور التي تحدث بآخرين، إِذا كان حدوثها بأُولئك الآخرين مما يخيل
وقوعها بالمرءِ، وذلك لموضع التشابه الذي بينه وبين أُولئك الآخرين الذين
نزل بهم الشر. مثال ذلك أَن الشاب إِنما يجزع من الموت إِذا رآه قد نزل
بشاب آخر مثله، لا إِذا رآه قد نزل بشيخ أَو بكهل.
قال: وهذا الذي ذكرنا من جزئيات الأُمور المخوفة والأُمور التي هي أَشد
مخافة وأَعظم هو قريب من أَن يكون يأْتى على جميعها إِلا اليسير الذي يمكن
الإِنسان أَن يأْتى به من تلقائه.
قال: فأَما أَي الأَحوال هي أَحوال الناس التي إِذا وجدت لهم، كانوا
خائفين فنحن الآن مخبرون عنها، فنقول: إِن الخوف هو توقع المرء أَن يمسه
شر مفسد. وهذا معلوم بنفسه. فإِنه ليس أَحد يظن أَنه لا يناله شر فيخاف
أَصلا، ولا إِن ظن بالشرور أَنها لا تناله يخاف أَصلا منها. ولا يخاف
أَصلا من الناس الذين يظن بهم أَنه لا يناله منهم شر أَصلا. ولا يخاف
أَيضا في الوقت الذي لا يظن أَنه يلحقه فيه شر. وإِذا كان ذلك كذلك،
فالخوف ضرورةً إِنما يكون للذين يظنون أَنهم تنالهم شرور، ومن الشرور التي
يظنون أَنها تنالهم، وعند الناس الذين يظنون أَنهم ينالونهم بذلك، وفي
الوقت الذي يظنون لحوق الشر لهم وتأْثيره فيهم. وإِذا كان الخائفون هم
هؤلاءِ بالجملة، فمن البيّن أَن الذين يظنون أَنهم لا ينالهم شر هم
المصححو الأَبدان، الحسنة أَحوالهم جدا من قبل الأَشياءِ التي من خارج.
والذين يظنون أَيضا بأَنفسهم أَنهم بهاتين الحالتين وإِن لم يكونوا كذلك،
أَعني صحة البدن وموافقة الأَشياءِ التي من خارج وحسن أَحوالهم بها.
قال: ولذلك ما يوجد هذا الصنف من الناس شتامين جائرين متهورين. وسبب هذا
الظن يكون إِما في الصحة فمن الشباب والشدة، وذلك أَن الشاب والشديد يظن
بنفسه أَنه مصحح، وإِن لم يكن كذلك؛ وإِما في حسن الحال من قبل الأَشياءِ
التي من خارج، فيعرضُ هذا الظن من أَمرين أَيضا: من العدة ومن كثرة
الأَصحاب. وأَضداد هؤلاءِ هم الذين قد أَشعروا أَنفسهم أَنهم يلقون كل
بلاء، فهم ضعفاء عند الشرور المتوقعة كضعف الذين نزل بهم الشر بالفعل،
ولكن على حال؛ فهؤلاءِ يوجد لهم رجاء في الخلاص، فهم يسعون في حصوله. ومن
العلامة الدالة على ذلك أَنهم يحتاجون عند الخوف إِلى المشاورة. وليس أَحد
يستشير فيما لا يخاف، ولا فيما يخاف ولا يرجو الخلوص منه. ولذلك حَدَّ
الخوف الذي يكف به الخائف عن الفعل الذي قصد به كفه عنه هو الخوف الذي
يقترن به رجاءُ الخلوص من ذلك الشر المخوف، وهو الخوف الذي ينتفع به في
هذه الصناعة، أَعني الذي ينبغي للخطيب أَن يمكنه في نفس الذي يريد أَن
يخيفه، أَعني الحاكم أَو السامع. وذلك إِذا أَثبت عندهم أَنهم ممن ينالهم
الشر أَو تصيبهم المصائب من خصمه، مثل أَن يقول لهم: إِن آخرين قد لقوا
ذلك منه من نظرائهم وأَشباههم، وإِنه كثيرا ما تلقى الشرور من الأَشياءِ
التي لا يظن بها أَنها شرور، أَو من الشرور التي يظن بها الإِنسان أَنها
لا تناله، أَو من الناس الذين لا يظن بهم ذلك، أَو في الوقت الذي لا يظن
ذلك فيه، وما أَشبه هذا من الأَقاويل.
فقد تبين من هذا القول ما هو الخوف والأُمور الفاعلة له والناس المستعدون
لهذا الانفعال.
القول في الشجاعة
قال: وقد ينبغي أَيضا أَن نخبر ما هي الشجاعة وما الأَشياءُ الفاعلة لها
وأَي الأَحوال التي إِذا وجدت في الناس كانوا بها مستعدين لقبول هذا
الانفعال، أَعني شجعانا.
قال: والشجاعة والأَمن هما ضد الخوف، وهما يكونان مع تخيل أَو
توهم لرجاءِ الخلاص الذي كأَنه بالقرب، وتوهم المخوفات إِما مفقودة أَلبتة
وإِما بعيدة الوقوع. وتوهم الأُمور المشجعة أَنها منه بالقرب مما يشجع.
وأَعني بالمشجعات العدة التي تلقى بها المخوفات الواردة. ثم أَن يتوهم
أَيضا الردع والتنكير على الذي يخافه في الشيءِ الذي يخافه فيه مما يشجع.
وكذلك أَن يتوهم أَن له أَعوانا كثيرة وقوما عظاما يمنعون أَن يُنال بشر.
ومما يشجع الإِنسان ويؤمنه أَن يكون لا ظالما فيخاف المكافأَة على الظلم،
ولا مظلوما فيخاف تكرر الظلم عليه. ومما يؤمنك من الإِنسان أَو من ناس
بأَعيانهم أَلا يكون بينك وبينه نزاع ولا محاماة في شيء ألبتة وسواء ظن بك
أَن لك قوة على المنازعة أَو ليس لك قوة. ومما يؤمن من الإِنسان الصداقة
والإِحسان المتقدم عليه في الفعل أَو الانفعال، أَعني مثل إِعطائه المال
أَو الرحمة عليه. ومما يؤمن من الإِنسان الذي يخاف منه أَن يكون ذلك
الإِنسان يفعل أَفعال أَهل الفضل أَو أَهل الشرف ويحب أَن يذكر بها، أَو
يفعل أَفعال الصنفين جميعا.
قال: فأَما الأَحوال التي إِذا كانت في الناس كانوا بها شجعاء فأَحدها أَن
يكونوا يظنون أَنهم سيتلافون ويصلحون الشرور الواقعة بهم عند الإِقدام على
ذلك الشيء الذي يخافون من فعله وقوع الشر بهم وأَنهم لا يأَلمون منه أَو
لا يهلكون، أَعني من ذلك الشر الواقع بهم. ومنها أَن يكونوا قد أَشفوا
مراراً كثيرة على الشر العظيم وتخلصوا منه، فإِن هذا مما يشجعهم على الشر
المخوف.
قال: وقد يوجد الناس غير خائفين من الشرور المتوقعة ولا مكترثين بها على
جهتين: إِحداهما أَن يكونوا لم يجربوا ذلك الشيء المخوف، أَعني أَن يكونوا
غير عالمين به. والجهة الثانية: أَن يكونوا مجربين له عالمين به، وذلك
بيّن مما يعرض عند ارتجاج البحر وهوله للراكبين له. فإِن الذين لم يجربوا
أَهوال البحر يوجدون شجعانا فيه لجهلهم بعواقبه، والذين لهم تجربة به
يوجدون شجعانا أَيضا عليه لما اطرد لهم من السلامة فيه. ومما يؤمن من الشر
المخوف أَن يكون غير مخوف عند شبيهه الإِنسان ونظيره، أَو عند من هو دونه،
وإِن كان قد يظن أَنه قد يتخطى الشر الدون ويعتمد الأَرفع، ولذلك قيل:
إِن الرياح إِذا ما أَعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالرَتَم.
لكن المطرد هو الأَول. والذين يظنون أَنهم أَفضل من الرؤساءِ المتسلطين
عليهم فليس يخافون منهم. وكذلك الذين هم بالحقيقة أَفضل والذين يساوونهم
في الفضل ليسوا بخائفين أَيضا لهم. وكذلك الذين يظنون أَنهم يفضلونهم في
الأَشياءِ التي بها صح لهم التسلط والرياسة، مثل كثرة المال وشدة البدن
ونصرة الإِخوان وأَهل البلد وعدة الحرب إِما كلها وإِما النفيسة الخطيرة
منها عند تلك الأُمة. فإِن ذلك يختلف. ومما يشجع ويؤمن أَلا يوجد المرءُ
ظالما لأَحد إِلا لعدوه ظلما يخيف به عدوه فقط. وبالجملة: فالصنف من الناس
الذين يكونون على حال جميلة فيما بينهم وبين الله آمنون. وكذلك الذين
يكونون على حال جميلة فيما بينهم وبين الناس. وكذلك من كان عند الناس بهذه
الحال ربما يتوسم فيه من العلامات الدالة على حسن الحال عند المعاملة.
والذين تكون أَحوالهم جميلة عند أَصحاب الأَلسنة، أَعني المتسلطين
بأَلسنتهم، كالخطباءِ والشعراءِ، وعند العقلاءِ فهم أَيضا غير خائفين،
لأَنهم إِذا كانوا آمنين عند هؤلاءِ، فأَحرى أَن يكونوا آمنين عند غيرهم
قال: والغضب أَيضا مما يشجع. ومما يشجع الإِنسان ويبعث غضبه أَن يكون
مظلوما لا ظالما. والمظلوم إِنما يشجع لمكان الغضب، ولما يعتقد من أَن
الله تعالى ناصرٌ للمظلومين. ومما يشجع على فعل الشيء أَن يظن الإِنسان
أَنه لا يلقى عليه شرا، وإِن لقي، أَنه يقاومه ويتلافى إِفساده.
قال: فأَما المشجعات والمخوفات فقد قيل فيها بالكفاية.
القول في الحياءِ والخجل
قال: فأَما الأَشياء هي التي منها يستحى أَوْ لا يستحى، وعند من
يكون الحياءِ من الناس وأَي حالة فيها هي الحالة التي إِذا كانت في
الإِنسان عرض له هذا الانفعال، فذلك يعلم مما نقوله. فليكن الخزي أَو
الاستحياءِ حزنا أَو اختلاطا يعرض عن وقوع الشرور التي تصير المرءَ غير
محمود، إِما في الحال الحاضرة وإِما فيما سلف وإِما فيما يستقبل.
وأَما الوقاحة فاستهانة وقلة أَلم واكتراث بحدوث هذه بأَعينها، أَعني التي
يكون منها الحياءُ.
وإِذا كان هذا هو حد الاستحياء، فبين أَنه إِنما يستحي المرءُ من هذا
النحو، أَعني مما كان من الشرور يظن قبيحا مستبشعا إِذا ظهر عليه أَو على
من يعنى به. وكلما كان من هذا النحو فهو إِما من فعل الشرارة، وإِما من
فعل الرداءة. وأَعني بفعل الشرارة ما يلحق الغير منه مضرة، مثل جحد
الوديعة وركوب الظلم؛ وأَعني بفعل الرداءة النقائص التي لا يلحق الغير
منها في الأَكثر مضرة مثل إِلقاء السلاح والفرار جبنا وخوفا.
قال: ومن الشرور القبيحة التي يستحي منها معاشرة الذين لا ينبغي أَن
يعاشروا، وحيث لا ينبغي أَن يعاشروا. والذين لا ينبغي أَن يعاشروا هم ذوو
الشرارات وذوو الأَخلاق الدنيئة. ومن الشنيع أَيضا الذي يستحي منه
الأَكتساب من الأُمور الحقيرة أَو المستقبحة أَو من الضعفاءِ كالذي يرزأ
من المساكين أَو من الأَموات.
قال: ومن هذا يقال في المثل: ولو من الميت أَكفانه. وهذا كله من قبح
المكسب واللؤم.
ومن الخلق التي يُستحي منها أَن يكون الإِنسان موسرا ولا ينتفع من ماله
بشيء. وإِن انتفع فنفع يسير. ومن ذلك يَسئَل المقلين ويحتاج منهم وأَن
يتسلف أَيضا حيث لا يصلح به وأَن يكون إِذا وعد إِنسانا بشيء فتقاضاه ذلك
الشيءَ سأَله هو أَيضا حاجة ليدفعه بذلك عن تقاضي ما وعده. وعكس هذا،أَعني
إِذا سُئل شيئا ما تقاضى هو السائل ما كان قد وعده به ليدفع عن نفسه
السؤال. ومما يستحي منه أَن يمدح الإِنسان المرءَ عندما يرى ذلك الإِنسان
مقتدرا على قضاءِ الحوائج ولا يمدحه في غير ذلك الوقت، بل إِذا خاب رجاؤه
ربما قلب في ذمه.
قال: ومما يُستحي منه التملق وهو قريب من أَن يكون مدحا، وذلك مثل أَن
يمدح المرء بأَكثر مما فيه، أَو يخرج المساوئ والنقائص في صور الفضائل،
أَو يجد إِنسان وجعاُ أَو مصيبة فيظهر أَنه أَشد تأَلما منه وأَشد حزنا،
وما أَشبه ذلك مما هو من هذا النحو، أَعني من علامات التملق. ومما يُستحى
منه قلة الصبر عند الوجع أَو الشدة، مثل ما يعرض للشيوخ الذين يتخيلون أَن
بهم من ضعف الشيخوخة أَكثر مما بهم، ومثل ما يعرض للمترفين وذوي السلطان
الذين يجزعون لمكان سلطانهم من أَدنى شيء يصيبهم، إِذ كانوا يرون أَنه لا
ينالهم مكروه. وكذلك مَن سوى هؤلاءِ ممن هو أَضعف منهم، أَعني ممن يخيل
إِليه في الضعف اليسير الذي به أَن به ضعفا عظيما. فإِن هذه الأَحوال كلها
مذمومة وهي من علامات الخور والمهانة. ومما يستحي منه أَن يكون المرء يعير
ويلوم من سواه بحسن الانفعال أَو الفعل، مثل أَن يلومه على فعل السخاءِ
أَو عن المحاماة عن أَصدقائه أَو على الإِشفاق والرحمة. ومن ذلك أَن يمدح
المرءُ نفسه أَو أَن يعد منها بأَشياء جميلة، أَو ينسب إِلى نفسه أَفعال
غيره. فإِن هذه كلها من علامات المخرقة.
قال: ومن هذه الأَخلاق المذمومة التي ذكرناها يستدل على ما لم يذكر منها
لأَن لكل واحد من الشرور ومساوئ الأَخلاق أَفعالا وعلامات تدل عليه.
قال: ومن المستقبح من الإِنسان أَن تكون أَفعاله في صورة ما هو
قبيح وإِن لم تكن قبيحة، مثل أَن يكون الإِنسان من أَهل بيت أَو من أَهل
مدينة هم أَهل قبائح، فإِن الإِنسان قد يلحقه من قبل هؤلاءِ مخاز وإِن لم
تكن له أَشياء يخزى منها في نفسه. ومما يعير به الإِنسان أَن يكون أَشباهه
من الناس يفعلون أَفعالا جميلة ولا يشركهم هو فيها، أَعني في كلها أَو
أَكثرها.وأَعني بالأَشباه المتساوين في الجنس والذين هم من مدينة
واحدة،والأَتراب، أَعني ذوي الأَسنان المتقاربة، والذين تجمعهم حالة
واحدة: إِما حلف، وإِما صداقة، وإِما غاية واحدة يقصدونها؛ وبالجملة جميع
الذين يستوون في شيءٍ واحد، مثل أَن يكونوا أَهل صناعة واحدة أَو عمل
واحد. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَن مباينة المرء من يساويه ومخالفته له قبيح
مستنكر حتى في العقوبات النازلة بهم والشرور التي تنالهم، وذلك أَن النكبة
التي تنال مثلا أَهل المدينة، والغموم التي تنال الأَصدقاء، متى لم
يشاركهم الإِنسان فيها، كان قبيحا به، وكذلك جميع الخيرات والشرور الباقية.
قال: وجميع أَفعال المخازي التي ذكرناها إِنما تظهر في هؤلاء الأَصناف من
الناس الذين عددنا، وذلك في الأَكثر مثل الجشعين والخوارين وما أَشبههم.
وهذه الأَفعال التي ذكرناها هي أَفعال تصدر عن الشرارة وقبح الأَخلاق، ولا
سيما إِذا كان الإِنسان من تلقاءِ نفسه هو السبب فيما كان من هذه الأَفعال
أَو يتوقع أَن يكون.
قال: وأَما المخازي التي تلحق الإِنسان مما يناله من غيره أَو يذعن له أَو
تتصل به بأَي وجه اتصل، فكل ما كان مما يؤدي به إِلى أَن يهوى بها عند
الناس وأَن يعير به، وذلك مثل جميع الهئات البدنة القبيحة، مثل أَن تحلق
لحيته، أَو يتزيا الرجل بزي المرأَة، ومثل جميع الفواحش التي تفعل
بالنساءِ والصبيان. ومن هذا الفضيحة والهوان، وأَعني بالفضيحة الاشتهار
عند الناس بأَمر قبيح، وبالهوان مثل أَن يزدرى به فيظلم أَو يكون وحيدا لا
ناصر له. ومن هذه الأَشياء القبيحة التي يركبها الإِنسان ويصبرعليها من
غيره لمكان الطمع والجشع، مثل الذين لا يبالون بأَي وجه اكتسبوا المال من
أَوجه خسة المكسب. وسواء كانت الأَشياءُ لاحقة للإِنسان باختيار منه أَو
بغير اختيار، مثل فعل الفواحش بنساءِ الإِنسان أَو ولده، فإِنه يلحقه بذلك
العار، سواء كان باختياره أَو بغير اختياره. ومما يُستحى منه الا يأَخذ
الإِنسان بثأره.
قال: فهذه التي ذكرناها وما أَشبهها هي الأَحوال التي إِذا كانت في الناس
استحيوا وخزوا منها، وهي الأَشياءُ التي تفعل الخزي والاستحياء.
لأَن الخزي والاستحياء إِنما يعرض للمرءِ إِذا تخيل الأَمر الذي يحمد عليه
أَو الأَمر المحمود وأَنه قد عدمه. ومن أَجل أَن الخزي إِنما يكون من قبل
تخيل عدم الحمد، وكان عدم الحمد إِنما يكترث منه إِذا كان من قبل الفضلاءِ
من الناس، فبين أَنه ليس يُستحى من كل أَحد من الناس. وإِذا كان الأَمر
كذلك، فإِنما يستحي المرءُ بالجملة من القوم الذين يأْلم بفقد مديحهم.
وأَحد هؤلاءِ هم الصنف من الناس الذين يتعجبون منك ويرون لك فضلا كبيرا؛
وكذلك الصنف من الناس الذين تتعجب أَنت منهم تستحي منهم؛ والذين تحب أَن
يكروموك تستحي أَيضا منهم.
قال: والذين لا يستخف بحمدهم فقد يحب أَن يكونوا متعجبا منهم. وإِنما
يتعجب من كل من كان له خيرٌ ما من الخيرات الخطيرة النفيسة، مثل المُلك
والحكمة، أَو يكون الذي يتعجب منه عنده خير من الخيرات التي يكون
المتعجبون منه محتاجين إِليها جدا جدا، أَو يحتاج إِليها من هو رئيس على
المتعجب؛ وبالجملة: من هو أَرفع قدراً من المتعجب.
قال: والذين يحب الإِنسان أَن يكون مكرما عندهم هم أَشباهه من الناس، وذلك
إِما أَترابه وإِما قومه وإِما أَهل مدينته أَو أَهل صناعته. والصنف أَيضا
من الناس الذين يعتقد المرءُ فيهم أَن ظنونهم واعتقاداتهم فيه اعتقادات
صادقة من قِبَل أَنه يرى أَنهم ذوو لب وعقل، مثل المشايخ وذوي الآداب فإِن
الإِنسان يحب الكرامة من هؤلاءِ.
قال: والأَشياءً القبيحة التي هي ظاهرة للأَبصار، وفعلها علانية
هي مما يخزى المرء منها أَكثر من غيرها. ولذلك يقال في المثل: إِنما الخزي
فيما تراه العين. وإِذا كان الأَمر كذلك، فقد ينبغي أَن يكون الاستحياءُ
أَكثر من الذين هم أَبدا حضور وبالقرب من الإِنسان، ومن الذين ينظرون
إِليه من أَجل أَنهم منه بمرأَى العين. والذين لا يستحيون من هؤلاءِ فهم
صنف مذمومون من الناس، لأَنه معلوم أَن الذين يبصرون أَفعال الإِنسان
فإِما يحمدون وإِما يذمون. وتخيل عدم الحمد هو الذي يفعل الحياءَ كما تقدم.
قال: والصنف من الناس الذين لا يسترسل المرءُ إِليهم ويتحفظ منهم فقد
يستحي منهم. وهذا الصنف هم الذين يعتقد الإِنسان فيهم أَنه ليس عندهم رأي
يعبأ به ويعتمد عليه في الأَمر الذي أَخطأَ فيه أَو يظن أَنه أَخطأَ فيه،
حتى يكونوا هم الذين يسددونه إِن أَخطأَ فيه أَو يبصرونه ظنه. لأَنه إِنما
يسترسل الإِنسان في أَفعاله أَو يبوح بها عند خواص الناس، وهم إِما الصنف
من الناس الذي يعتقد فيهم أَن عندهم تسديدا له وتقويما، ولذلك لا يستحي
المتعلم من استاذه، وإِما الأَصدقاءُ الذين يطرح الإِنسان معهم المؤونة.
وإِنما كان المرءُ يتحفظ ممن عدى هذين الصنفين أَن يبوح لهم بقول أَو
يسترسل بحضرتهم في فعل لأَنهم يذمونه على ذلك، حتى أَنه إِن باح بشيءٍ
ظنه، ولم يكن كما ظن، أَعتقد فيه أَن ذلك الذي قد باح به قد فعله، وفضحوه
في ذلك، سواء كان ذلك الأَمر كما ظن، أَو لم يكن. ولذلك كان المظلوم لا
يفصح بالشر الذي يتوقعه بالظالم إِلا لهذين الصنفين من الناس، أَعني الذين
يعبأ بآرائهم ويعتمد عليها حيث يخاف الخطأ أَو الأَصدقاء.
قال: والصنف من الناس الذين يحفظون مساوئ الأَخلاق وينهونه عن الخطأ مستحى
أَيضا منهم وممقوتون.
وكذلك الصنف من الناس الذين انتدبوا لبث مساوئ المعارف وخطئهم كفعل
المزدرين المستهزئين. وأَعني بالمزدرين المخسسين للإِنسان، وبالمستهزئين
المحاكين له، أَعني الذين يحاكون الشيءَ على جهة الازدراءِ به، وهؤلاءِ
ممقوتون مستحى منهم. واسم الحشمة أَحق بهؤلاءِ الذين ذكرهم من اسم
الحياءِ، وذلك أَن الحياءَ يكون ممن يظن به خيرا، والحشمة تكون ممن يظن به
شرا. ولهذا كان الحياءُ من أَهل الشر ممزوجا بخوف. وممن يستحي المرءُ منهم
الذين لم يحقروه قط في شيءٍ لأَنه يحسب أَنه عندهم بمنزلة المتعجب منه.
وممن يستحى منه الذي احتاج إِليك في حاجة فقضيتها له، لأَنه عندك ممن
يمدحك ولا يذمك. ومن هؤلاءِ أَيضا - أَعني الذين يستحي الإِنسان منهم -
الذين يريدون أَن يستحدثوا صداقة الإِنسان، لأَنهم في هذه الحال إِنما
يعرفون منه الفضائل فقط فهو يستحي من أَن يقفوا على مخزى. ومن الذين يستحي
منهم الذين لم يطلعوا للإِنسان على شيءٍ يستحي منه.
قال: ثم إِنه ليس إِنما يستحيون من هذه القبائح التي ذكرت، بل من العلامات
والدلائل التي تدل علها. وذلك أَنه ليس من الزنا يستحيون فقط، لكن ومن
الدلائل التي تدل على الزنا. وكذلك ليس يستحيون من فعل الفواحش أَنفسها،
ولكن ومن النطق بها، لأَن النطق بها علامة أَو دليل على فعلها. فهؤلاءِ هم
أَصناف الناس الذين يستحى منهم.
وأَما الذين لا يستحى منهم فالذين يسترسل الإِنسان إِليهم ويطلعون على
أَمره. وهؤلاءِ صنفان: إِخوان ومساعدون. فأَما الإِخوان فهم الذين يطرح
معهم الإِنسان فعل الجميل الذي هو جميل عند الجمهور من غير أَن يكون
بالحقيقة كذلك. وأَما المساعدون فهم الذين يطرح معهم فعل الجميل بإِطلاق
كان جميلا في الحقيقة أَو في بادي الرأي. ومن الذين لا يستحي الإِنسان
منهم الذين يستخف بهم ويستحقرهم، لأَنه لا يبالي باعتقادهم فيه كان خيرا
أَو شرا ولا ما يكون عنهم من مدح أَو ذم، كما ليس يستحي أَحد من البهائم
والأَطفال.
قال: وليس استحياءُ المرءِ من معارفه ومن الأَباعد استحياء بجهة واحدة.
وذلك أَن الحياءَ الذي يكون بحضرة من يعرفك يكون مما هو في
قال: ومن أَجل أَن ضد الغضب هو سكون الغضب، فقد ينبغي أَن ننظر من أَمر
سكون الغضب في أَضداد تلك الأَشياءِ الثلاثة التي ذكرناها، أَعني بأَية
حال يكون الناس الذين يسهل سكون غضبهم، وبأَية حالة يكون الناس الذين يسهل
سكون الغضب عليهم، وأَما الأَشياء المسكنة للغضب.
قال: والسكون هو عدم الغضب أَو فتوره. وإِذا كان الغضب إِنما
سببه التهاون الذي يكون بالمشيئة والطوْع، فهو بيّن أَن الذينلا يتهاونون
- وإِن تهاونوا، فبكره، أَو بغير روية - أَو الذين يظنون أَنهم بهذه
الحال، أَنه لا يغضب عليهم؛ وإِن غضب عليهم، فيكون عنهم سكون الغضب سريعا.
وقد يكون سكون الغضب بأَن يفعل بالغاضب آلام ومكاره تنسيه الاحتقار به
الذي كان سبب غضبه على جهة القصد والتعمد لذلك. وهذا إِنما يفعله الدهاة
ذوو الشرور العظيمة. ومما يفعل السكون أَن يفعل المرءُ بنفسه الأَشياء
التي ظنها الغاضب احتقارا به. فإِن هذا يوهم فيه أَنه ليس يرى فيها أَنها
احتقار، إِذ كان أَحد لا يرى أَنه محتقر لنفسه.
قال: ومما يفعل الكون الاعتراف بالذنب أَو أَن يجعل على نفسه أَلا يعود
إِليه وهو المسمى عندنا توبة، أَو أَن ينقلب إِلى ضد الاستهانة وهو
الإِجلال. وإِنما كان الاعتراف مسكنا للغضب لأَنه يوجب العقوبة. ووجوب
العقوبة مما يفتر الاهتمام بما فعل والارتماض له. وذلك بيّن عند مشاهدة
المعاقبات المحسوسة، فإِنا قد نعاقب أَكثر ذلك بشدة وزيادة الذين يجحدون
ويحتجون عن أَنفسهم. فأَما الذين يقرون ويعترفون أَن العقوبة النازلة بهم
عدل، فقد يفتر الغضب عن هؤلاءِ. وأَيضا فإِنه قد تكون علة الجحود للأَمر
الظاهر وقاحة الوجه والصلف. والوَقاح مستهزيء مستهين. فإِن الذين لا
يُستحى منهم ليس لهم قدر، فيشتد الغضب لذلك على الجاحد. وأَيضا فإِن
الإِقرار ذلة واعتراف بالنقيصة، وهذا يتنزل منزلة العقوبة الواقعة بهم.
وأَما الذين لا يعترفون فإِنهم يرون غير خائفين ولا متذللين للغاضب عليهم.
وذلك مما يخيل فيه الاستهانة بالغاضب عليهم.
قال: وقد يدل على أَن الغضب يفتر عن الذين يذلون ويتواضعون ما يظهر من فعل
الكلاب، وذلك أَنه تكف عن الناس الجلوس والمتدين وتنهش المستعجلين. وقد
تأْتي مواضع ليس يظن بالجحود فيها أَنه استهانة بل دعوى الحق، وذلك إِذا
لم يكن الذنب ظاهراً.
قال: ومن الأَصناف الذين لا يغضب عليهم، أَو شأْن الغضب أَن يفتر عنهم،
الصنف من الناس الذين هم طيبو النفوس، سلسو القياد، حسنو الخلق يحتملون،
وهم الذين يسميهم أرسطو مفراحين. والصنف المحتاج أَيضا يقل الغضب عليه
لمكان الرحمة له، إِذ كانت الحاجة النازلة به بمنزلة العقوبة. والصنف من
الناس الذين يستعفون من الخصومات ويتفادون من المنازعات، فإِنه أَيضا يسكن
الغضب عنهم لمكان الذلة والتواضع الموجود فيهم. والذين لا يشتمون أَحدا
ولا يطنزون به ولا يحتقرونه. أَو الذين إِن فعلوا ذلك فعلوه في الأَقل
فليس يغضب عليهم. وإِن غضب، فيسكن الغضب عنهم سريعا.
قال: وبالجملة فينبغي أَن تؤخذ مسكنات الغضب وذلك في الأَكثر من أَضدادها
التي عددت قبل في باب الغضب.
قال: والذين يُهابُون أَو يَستحى منهم لا يُغضب عليهم ما داموا بهذه
الحال، لأَنه لا يمكن أَن يغضب المرءُ على إِنسان ما ويخافه معا في حال
واحدة. والذين فعلوا الاحتقار والاستهانة بالمرءِ في حال غضبهم عليه،
فإِما أَلا يغضب عليهم، وإِما إِن غضب عليهم فيسير، لأَن الغاضب على
إِنسان ما ليس يظن به أَنه يحتقره، ويغضب عليه معا. وذلك أَن الاحتقار ليس
فيه أَذى للمحتقر سواء كانت فيه لذة أَو لم تكن. وأَما الغضب فهو لذة مع
أَذى كما تقدم في حَده. والإِنسان المغضوب عليه فقد يسكن الغضب عنه أَن
يكون يستحي مما فعل.
قال: والأَحوال التي يكون فيها الغضب قبيحا أَو غير جميل، فأَما
أَلا يغضب فيها الإِنسان من الأَشياءِ المغضبة الواردة عليه من خارج،
وإِما إِن غضب فيسكن غضبه سريعا، وذلك كأَفعال الاحتقار التي يؤدب ويعلم
بها الإِنسان مثل انتهار المتعلم، ومثل أَفعال الاحتقار التي يقصد بها
المزح في الحالة التي يكون المقصود منها المزح، أَو التي يقصد بها اللهو
في الحالة أَيضا التي يكون المقصود منها اللهو. والفرق بين المزح واللهو
عند أَرسطو أَن المزاح يقصد به تطييب نفس الممزوح به، لا أَن ينال بذلك
المازح لذة. واللهو يقصد به أَن يلتذ اللاهي لا الملهو به. ولذلك يمزح
الأَخيار ولا يلهون. وكذلك أَيضا أَفعال الاحتقار التي يقصد بها التأْنيب
والموعظة عند الزلات والعوارض الرديئة. ومنها أَيضا سد الخلة بالشيءِ
اليسير المحتقر، فإِن المحتاج لا يغضب منه إِذا كان فيه سد خلته، ولو كان
نزراً محتقراً.
قال: وبالجملة فكل فعل من أَفعال الاحتقار أَو المحتقر إِذا لم يقترن به
أَذى للمحتقر به ولا لذة قبيحة، أَو اقترن به رجاء وأَمل فليس يغضب منه.
فمثال ما لا يقترن به أَذى الاحتقار الذي يؤدب به. ومثال ما لا يقترن به
لذة قبيحة المزاح الذي لا يخرج إِلى الفحش. ومثال ما يقترن به حسن رجاء سد
الخلة.
قال: وإِذا طال الزمان ولم يتكرر من المغضوب عليه فعل يوجب تجدد الغضب،
فقد يسكن طول الزمان الغضب.
قال: ومما يسكن الغضب العظيم الأَخذ بالثأْر إِما أَولا فمن الجاني نفسه
وإِما ثانيا فممن يتصل بالجاني. وربما لم يسكن الغضب أَخذ الثأْر من
الجاني الأَول حتى يأْخذه ممن يتصل به، إِذا لم ير الجاني الأَول كفؤا له،
ورأَى أَن من يتصل به هو كفؤ له. ولذلك ربما ترك الجاني نفسه وأَخذ الثأْر
ممن يتصل به. وقد يسكن الغضب الانتقام من غير الظالم ومن غير من يتصل به
بل ممن اتفق من الناس. وكذلك قد يسكن الغضب نزول الشرور العظيمة بالجانين،
وإِن لم يكن ذلك من قبل المجني عليهم، لأَنهم يرون كأَنهم قد أَدركوا
ثأْرهم.
قال: والذين يعتقدون في أَنفسهم أَنهم ظالمون فليس يغضبون من الأَفعال
الواردة عليهم من المظلومين، لأَنهم يرون أَو تلك الأَفعال هي عدل، والعدل
لا يغضب منه.
قال: ولذلك ما ينبغي أَن يتقدم المعاقِب أَولا فيبين بالقول أَن المعاقَب
ظالم، وحينئذ يعاقب. فإِنه إِذا كان الأَمر كذلك، لم يلحقه أَذى من
المعاقَب.
وقد ينفق في أَفراد من الناس وهم الشرار والعبيد العُتاة أَن يعلموا أَنهم
ظالمون، ولكن مع ذلك يغضبون ويتذمرون، وإِنْ كانت العقوبة التي نالتهم
بعدل، لأَن هؤلاءِ لا يرون أَن ينالهم أَذى.
والذين لا يشعرون بالاحتقار والضيم النازل بهم لا يغضبون أَيضا. وهذا قد
يعرض من قبل الجهل، وقد يعرض من قبل كبر النفس لأَنهم يرون أَن الأَفعال
التي يضامون بها ويحقرون ليس هي مما يوجب لهم تحقيرا. ولذلك قد يختبر كبار
النفوس بأَن يسلب عنهم كثير من أَفعال الفضائل التي تنسب إِليهم ليرى كيف
تأَثرهم عن ذلك، فإِنه كلما كان الفعل المسلوب عنه أَكبر ولم يغضب منه،
كان أَدل على كبر نفسه.
قال: ولموضع هذا لما أَراد فلان أَن يختبر كبر نفس فلان لرجل معروف عندهم
بكبر النفس، قال له إِنك لست معدوداً في فتاحي المدائن، ليعلم هل يغضب من
ذلك أَم لا. وبالجملة فكل من لا يتأَذى بالاحتقار إِما من قبل صغر قدر
المحتقر وإِما من قبل كبر قدر المحتقر به. والمستضام فإِنه لا يغضب، لأَن
الغضب قد قيل في حده إِنه أَذى مع شوق إِلى الانتقام. والهالكون لا يغضب
عليهم لأَنهم قد صاروا إِلى شر أَعظم من الشر المؤمل فيهم.
قال: ولذلك ما استعمل أُوميروش هذا المعنى في تسكين غضب فلان على فلان
لناس مشهورين عندهم بأَن قال في المغضوب عليه: إِنه الآن معانق للأَرض
البكماءِ التي لا يفارقها أَبدا. وإِنما كان الأَمر هكذا لأَن الذي تنزل
به مصيبة الموت يرثى له، إِذ كانت أَعظم المصائب. ولهذا الذي قاله ينبغي
أَن يعتقد أَن الناس الذين لا يكفون عن الأَموات، إِذا لم يكن من يتصل بهم
ممن يغضب عليه أَو ينافس في دنيا، أَنهم من شر الناس.
قال: فقد تبين أَن الذين يريدون أَن يسكنوا الغضب أَو يفتروه أَن من هذه
المواضع ينبغي أَن يأْخذوا المقدمات المسكنة له، أَعني جزئيات هذه المواضع.
والغضب بالجملة يفتر ويسكن عن ستة أَصناف من الناس كما قيل:
أَحدها الصنف المخوفون، والصنف الثاني المستحى منهم، والصنف الثالث
المفراحون من الناس، والرابع الذين يفعلون الاحتقار لا بالاختيار، والخامس
أَن يكون قد نزل بهم من الشر ما هو أَعظم من الذي يتشوقه الغاضب عليهم،
والسادس أَن يكونوا قد بادوا وهلكوا.
وهذا آخر ما قاله في الغضب وضده.
القول في الصداقة والمحبة
قال: فأَما مَنْ الناس الذين يصادِقون ويصادَقون بالطبع وما الأَشياءُ
الفاعلة للصداقة فإِنه قد يوقف على ذلك إِذا تقدم أَولا فحُدت الصداقة
والمصادقة، فنقول: إِن الصداقة هي أَن يكون الإِنسان يهوى الخير لإِنسان
آخر من أَجل ذات ذلك الإِنسان، لا من أَجل ذات نفسه، وأَن تكون له قوة
ومَلكة يفعل بها الخير له. والمصادقة هي أَن يكون كل واحد منهما من صاحبه
بهذه الحال. وإِذا كان ذلك كذلك، فالصديق بالحقيقة هو الذي يحب ويُحَب
معا. وقد يظن أَنه يحتاج هاهنا في الصداقة التامة إِلى شرط ثالث وهو أَن
يكون كل واحد منهما مع أَنه يُحب الخير لصاحبه من أَجل ذات صاحبه أَن يعلم
كل واحد منهما محبة صاحبه له. وإِذا كان هذا موضوعا لنا في حد الصداقة
فبين أَن الصديق هو الذي يستلذ الخير الذي يكون لصديقه، ويشاركه في
المؤذيات والمحزنات التي تنزل به ليس من أَجل ذاته لكن من أَجل ذات صديقه.
وإِذا كان الصديق بهذه الصفة، فكل واحد من أَصدقائه يفرح به ويسر به.
ولذلك كان الناس المشاركون بالطبع في السراءِ والضراءِ محبوبين، وأَما
الأَعداءُ فهم بضد هؤلاءِ، أَعني أَنهم تؤذيهم الخيرات الواصلة إِلى
أَعدائهم وتلذهم الشرور الواقعة بهم. وإِذا كانت الصداقة يلزمها هذا فبين
أَن العلامة التي يوقف منها على أَن المرءَ محب وصديق هي أَن يحزن للشر
الواقع بصديقه، وأَن يسر بالخير الواصل إِليه. ومن علامة الصداقة أَيضا
المشاركة في الخير والشر. وكذلك من علامتها أَن يكون فعل المرءِ مضادا
لفعل العدو في الشيءِ الواحد بعينه إِذا قاس أَحدهما إِلى الآخر، مثل أَن
يستعين بإِنسانين فيعينه أَحدهما ويسلمه الآخر؛ فإِن الذي يعينه صديق
والذي يسلمه عدو. وإِذ قد تبين أَن الصديق هو الذي يهوى الخير من أَجل ذات
صديقه، وأَن هؤلاءِ محبوبون بالطبع، فبين أَن الذين يحسنون إِلى إِنسان ما
أَو ناس ما أَو إِلى من هو بسببهم أَنهم محبوبون عند أُولئك الذين أَحسنوا
إِليهم، وأَن الإِحسان أَحد فاعلات المحبة. وكذلك الذين يفعلون بآخرين
أُموراً عظيمة ذوات كلفة ومشقة بسهولة ونشاط هم أَيضا محبوبون عند الذين
يفعلون بهم ذلك، وسواءٌ كان ذلك الأَمر شاقا بإِطلاق أَو كان شاقا في وقت
فعله فقط، باشروا ذلك بأَنفسهم أَو لم يباشروا ذلك بأَنفسهم، لكن كانوا هم
السبب في إِيصال ذلك الأَمر الجسيم إِليهم.
قال: والذين يظن بهم أَنهم يهمون بالإِحسان محبوبون. وصديق
الصديق محبوب وكذلك الذين يحبون المحبوبين محبوبون. وكذلك الذين يحبهم
المحبوبون والذين يعادون ويبغضون مَنْ يبغض المرءَ محبوب أَيضا عنده.
وكذلك الذين يبغضهم المبغضون للمرءِ هم أَيضا محبوبون عنده. وجميع هؤلاءِ،
أَعني المحبوبين، يرون أَنهم أَصدقاءُ، لأَنهم يرون أَن الخيرات التي
لأُولئك هي لهم ولذلك يهوون أَن تكون الخيرات التي لهم هي أَيضا
لأَصدقائهم، كما هي لهم من قبل أَصدقائهم، أَعني الذين كانوا يحسنون
إِليهم ويكرمونهم. ولمكان هذا يكرم الأَسخياء والشجعان، أَعني لمكان ما
يرى الناس أَنه يصل إِليهم من المنفعة بهم. والخيرات التي تصل إِليهم من
الناس هي الكرامة. والفضلاءُ الأَبرار هم الذين يُسْدون إِلى كل أَحد من
الخير بحسب ما يقدرون عليه بحسب حال حال من أَحوالهم وأَقل أَحوالهم أَنهم
لا يكلفون أَحداً شيئا وهؤلاء، كما يقول أَرسطو، إِنما يكونون بهذه الحال
إِذا كانوا لا يعيشون من أَصحابهم، يعني أَنه لا يكون عيشهم من مواساة
أَصحابهم لهم، بل يكون معاشهم من استعمالهم أَنفسهم وكدهم أَبدانهم.
والأَفضل من هؤلاءِ مَنْ كان معاشهم من شيءٍ شريف، مثل المعاش الذين يكون
من الحرب التي تكون على طريق السنة، لا من أُمور سوقية، أَو يكون معاشهم
من الصيد أَو من الرعاية، وبالجملة: يكون معاشهم من وجه لا يحتاجون فيه
لأَهل المدينة من غير أَن يلحقهم بذلك شين. فهذا الصنف من الناس قد يظن
بهم أَكثر من غيرهم أَنهم أَعفاء غير ظلامين سليمة صدورهم. والذين يفوض
إِليهم أَن تفعل بهم الأَفعال التي تفعل بالأَصدقاءِ إِن اختاروا ذلك هم
أَيضا محبوبون. وهؤلاءِ هم الأَخيار ذوو الفضائل. فإِن هؤلاءِ يرون مكتفين
بأَنفسهم وبأَحوالهم عن الأَشياءِ التي من خارج. ولذلك متى أَراد إِنسان
أَن يفعل بهم فعل الصديق بصديقه من إِيصال الخير إِليه خيّرهم في ذلك.
والسعداء المنجحون إِما في كل الخيرات، أَعني النفسانية والبدنية والتي من
خارج، وإِما في الخيرات التي هي منها فضائل فقط، وإِما في الأَشياءِ التي
يتعجب من نيلها إِما بإِطلاق وإِما بالإِضافة لأُولئك الذين نالوها،
محبوبون أَيضا.
قال: والطيبو النفوس والذين عشرتهم وملازمتهم النهار كله لمكان الالتذاذ
بهم من غير أَن يمل حديثهم فإِن جميع هؤلاءِ محبوبون لأَن أَخلاقهم جميلة
سهلة وليسوا موبخين على الخطإِ والإِساءة ولا يشغبون ولا يتعسرون ولا
يحرشون ولا يستثيرون لفعل الشر إِذا أُثيروا ولذلك كان جميع من اجتمعت فيه
هذه الصفات المذمومة صخابين، أَعني المستعلين على الإِنسان برفع الصوت عند
المخاطبة وبالحرد، فالصخابون هم أَضداد أُولئك. وكذلك الجفاة من الناس
القادرون على ضربهم بقوة أَبدانهم أَو الصابرون على ما ينالهم من المكروه
أَو الذين جمعوا الأَمرين مسارعون إِلى الصخب وإِلى عذل أَقاربهم وجيرانهم
وأَصدقائهم. وذلك إِما - إِذا أَمكنهم - أَن يعذلوهم، وإِما إِذا أَوهموا
أَن عذلهم هو من جهة الشفقة.
قال: والذين يمدحون قد يحبون الممدوحين لأَنهم يتوقعون منهم أَن
يشاركوهم في الخيرات التي عندهم لمكان مدحهم إِياهم. وأَما المادحون
فمحبوبون عند الممدوحين، وإِن كان المدح بأَشياء لا يأْمن الممدوح أَلا
تكون فيه وأَن تكون كذبا. والذين ينظفون لباسهم وأَزياءهم طول أَعمارهم
محبوبون، لأَنهم يرون أَنهم مُكرمون للناس بتلك النظافة وغير مؤذين لهم
بالمناظر القبيحة. والذين لا يعيرون بالذنوب ولا يعاتبون على الجنايات،
فإِن الذين يفعلون ذلك موبخون، والموبخون مبغضون؛ وأَعني بالذنوب
الإِساءات التي تكون بين الله وبيْن العبد، وبالجنايات الإِساءات التي
تكون بين إِنسان وإِنسان. والذين لا يصرون على الضغن ولا يقيمُون على
العذل واللجاج، لكنهم يرضون سريعا ويزول غضبهم، محبوبون، وذلك أَنه يظن
بهم أَنه كما أَنهم بهذه الحال للناس، كذلك هم لأَصدقائهم، بل هم أَحرى
بذلك. والذين لا ينطقون بالشر ولا يعرفون شرور أَقاربهم وجيرانهم وذوي
معارفهم لأَنهم أَخيار ليس عندهم شر محبوبون. والذين لا يشغبون على الذين
يغضبون عليهم أَو يجدون عليهم في أَنفسهم ويحقدون محبوبون، فإِن الذين هم
بخلاف ذلك صخابون. والذين يتعجبون من غيرهم بالنوع الذي يتعجبون به من
أَنفسهم محبوبون، لأَنهم ليس يظن بهم أَنهم يراؤون بذلك التعجب، إِذ كان
ليس أَحد يتعجب من نفسه إِلا بشيءٍ هو عنده بالحقيقة فضيلة ومتعجب منه.
والذين يفرحون بالمرءِ وبما عنده محبون عند الذي يفرح به، ولا سيما إِذا
كان الفرح عن انفعال بيّن، لأَنه يظن به أَنه أَحرى أَن يكون ذلك الفرح
ثابتا وأَنه لا يرائي بذلك الفرح. والمكرِمون محبوبون عند الذين يكرمونهم.
والمكرَمون محبوبون عند المكرِمين لهم. والذين يحب المرءُ أَن يحسدوه
حسداً لا يَبلغ بهم الاغتيال له والسعاية عليه محبوبون، لأَنه ليس يهوى
المرءُ هذا من أَحد إِلا وهو يهوى أَن يقف ذلك المرءُ على فضائله. وإِنما
يهوى ذلك منه إِذا كان عنده أَهلا لذلك. فلذلك من كان بهذه الصفة عندك
فإِما أَن تكون صديقه أَو تهوى أَن تكون صديقه، لأَنه إِذا كنت صديقه كان
أَحرى أَن يقف على الفضائل التي فيك. والذين يفعلون الخيرات محبوبون عند
المفعول بهم الخير إِن لم يتبعوا الخير بشر هو أَعظم وأَفظع، مثل الامتنان
الكثير والاستخدام الشاق. والذين يحبون الأَقارب والأَباعد الأَحياء منهم
والأَموات، أَعني ممن هو قريب أَو صميم أَو من المعارف. فإِن الأَموات لا
يحبون إِلا بشرطين: أَحدهما أَن يكون موتهم قريب العَهْد، والثاني أَن
يكونوا أَقرباء أَو معروفين. فكل أَحد يحبهم لمكان صدق محبتهم، لأَنه إِذا
أَحب الأَجنبي فهو أَحرى أَن يحب القريب. وإِذا أَحب الميت فهو أَحرى أَن
يحب الحي. ولذلك كان بالجملة الذين يحبون أَصدقاءهم جدا جدا ولا يخذلونهم
محبوبون، فإِن هؤلاءِ الصنف من الناس هم خيار، والإِنسان يحب الخيار الذين
ليسوا بأَصدقاء، فكيف الخيار الأَصدقاء. والذين ليس ودهم رياء ولا تصنعا
مودودون. والذين يخبرهم المرء بمساوئه ولا يستحي عندهم من ذكرها هم
أَصدقاء له، لأَن الصديق هو الذي لا يستحي عنده من ترك الأَشياءِ التي
يفعلها المرءُ لمكان الحمد والمرءُ القليل الحياءِ يود المرء القليل
الحياءِ، لأَنه لا يخافه ويثق به. وقد يحب المرءُ المرءَ الذي لا يخافه
ويثق به ويأْمنه؛ لأَنه ليس يحب أَحد الذي يخافه.
قال: فأَما أَنواع أَفعال الصداقة فهي الصحبة والأنس والوصلة وما أَشبه
ذلك النحو مما يفعله الأَصدقاءُ بعضهم ببعض. وأَما الفاعلات للصداقة
فالأَيادي والمنن، وأَن يفعل المرءُ بالمرء الخير حين لا يحتاج إِليه،
أَعني إِلى المرءِ. وإِذا فعل الخير لم يخبر بذلك، وأَن يبين أَنه إِنما
فعل ذلك لمكان المفعول به لا لمكان شيء آخر.
فهذا جملة ما قاله في المحبة.
قال: وأَما العداوة والبغضاءُ فقد ينبغي أَن تؤخذ فيها هذه الأَشياء
الثلاثة من الأُمور المضادة لهذه وهي معلومة بعلم هذه التي ذكرناها. وأَما
فاعلات العداوة فهي فعل ما يغيظ الإِنسان، والعبث، والنميمة؛ وأَعني
بالعبث الازدراء بالجملة، وأَعني بالنميمة السعاية الخبيثة بين نفسين.
والفرق بين الغضب والعداوة أَن الغضب يكون بالأَشياءِ التي تفعل
بالغاضب أَو بمن هو من سببه؛ والبغضة والعداوة فقد تكون وإِن لم يفعل
المبغض بالمبغض له شيئا. فإِنا قد نبغض ذوي النقائص، وإِن لم يجنوا علينا
شيئا. وبالجملة إِذا ظننا بالمرءِ ما يستحق البغضة، فنحن نبغضه أَبدا.
وفرق آخر: وهو أَن الغضب إِنما يكون على الأَشخاص مثل زيد وعمرو أَو
أَقوام محصورين بالعدد؛ وأَما البغضة والعداوة فإِنها تكون للجنس، فإِنا
نبغض البربر ويبغضوننا. وكذلك البغضة قد تكون للصنف فإِنا نبغض السارق
والنموم، وقد يبغضه الناس أَجمعون. وفرق ثالث: وهو أَن الغضب قد يسكن بطول
الزمان من غير أَن يفعل المغضوب عليه بالغاضب ما يزيل الغضب عنه؛ والعداوة
ليس تسكن بطول الزمان، ما لم يفعل المعادَى بالمعادِى ما يوجب مودته.
وأَيضا فإِن الغضب إِنما هو تشوق إِلى شر محدود أَن ينزل بالمغضوب عليه؛
وأَما البغضة فإِنها تشوق إِلى أَن ينزل بالمبغض شر غير محدود، أَعني أَنه
كلما وقع به شر تشوق العدو إِلى أَن يقع به شر أَكثر. وذلك أَن الذي يغضب
إِنما يهوى أَن ينزل بالمغضوب عليه شر محدود يشفى به صدره. وأَما العدو
فإِنه ليس يهوى هذا، بل شراً غير محدود، أَعني شرا أَكثر مما نزل به.
فالبغضة تخالف الغضب بهذه الفصول. وأَيضا فإِن المؤذيات مبغضات،
والأَشياءُ التي هي أَكثر أَذية هي مبغضات أَكثر، مثل الجور والجهالة.
وأَيضا فإِن الغاضب يجد حزنا مع لذة كما قيل؛ وأَما المبغض فليس يجد لذة.
وأَيضا فإِن الغضب قد يزول بأَيسر شيء يفعله الإِنسان، أَعني بأَشياء
كثيرة؛ وأَما البغضة فليس تزول بذلك. وأَيضا فإِن الغاضب إِنما يهوى أَن
ينزل بالمغضوب عليه مكروه ما فقط. مع أَلا ينعدم من الوجود؛ وأَما المبغض
فإِنه يهوى أَن ينعدم المبغض من العالم أَصلا.
قال: وهو معلوم أَنه من قبل هذه الأَشياء التي ذكرناها قد يمكننا أَن نثبت
بالقول انهم أَعداء أَو أَصدقاء أَو أَن نجعلهم كذلك إِن لم يكونوا كذلك،
أَعني إِما أَعداء وإِما أَصدقاء. وكذلك يمكننا بمعرفة هذه الأَشياء
بعينها أَن ننقض على القائلين دعواهم في المحبة والصداقة، أَعني أَن فلانا
عدو وأَن فلانا صديق إِذا دفعنا ذلك، وذلك إِنما يكون، كما قلنا، بمعرفة
ما هي الصداقة والعداوة والغضب، وبمعرفة هذه الأَشياء الثلاثة من كل واحد
منها، أَعني الفاعلات لها، والناس المعدين للفعل بها والانفعال عنها. وقد
ينتفع بمعرفة تثبيت العداوة والغضب في تثبيت الجور، لأَن أَحد الأَسباب
التي من قبلها يجور الجائر هي البغضة والغضب، مثل أَن يثبت في زيد أَنه
جار علينا من قبل أَن بيننا وبينه عداوة.
فهذا آخر ما قاله في الصداقة والعداوة.
القول في الخوف
قال: فأَما معرفة ممن يكون الخوف ومماذا يكون، أَعني الفاعلات له، ومَنْ
الذين يخافون، فنحن نبين ذلك هاهنا، بعد أَن نحد الخوف ما هو، كما فعلنا
في الأَبواب المتقدمة.
فليكن الخوف حزنا أَو اختلاطا من تخيل شر يتوقع أَن يفسد أَو
يؤذى، وأَعني بالحزن الغم والأَذى الذي يلحق النفس، وبالاختلاط اختلال
الروية، وبالفساد الهلاك، وبالأَذية ما دون الهلاك. وإِنما اشترط في الشر
المخوف أَن يكون مهلكا أَو مؤذيا، لأَن إِمكان وجود النقائص في الإِنسان
هي شرور متوقعة، ولكن ليس يخافها الإِنسان، مثل أَن يكون ظلوما أَو كسلان؛
وليس أَن يكون الفساد أَو الأَذى المخوف يسيراً، بل وأَن يكون عظيما. فإِن
اليسير لا يخافه أَحد. وأَيضا فليس يخاف من هذه ما كان متوقعا حدوثه في
الزمان المستقبل البعيد، بل ما كان متوقعا في الزمان المستقبل القريب.
فإِن الشر المتوقع في الزمان المستقبل البعيد ليس يخافه أَحد، بدليل أَن
كل أَحد يعلم أَنه يموت لا محالة، ولكن لأَنه ليس يعلم أَنه قريب، فهو لا
يخاف الموت. وإِذا كان حد الخوف هو هذا، فبين من ذلك أَن المخوفين هم
الذين يظن بهم أَن لهم قوة عظيمة على الإِفساد، أَعني الإِهلاك، أَو على
إِدخال نوع من الضرر يؤدي إِلى حزن أَو أَذى عظيم إِما جسدي مثل الأَسقام
وإِما نفساني مثل الذل والصغار. وكوْن مَن هذه صفته مخوفا معروف بنفسه.
فإِن المخوف إِنما هو الشر الذي يظن قريبا. ولذلك كان الخطر أَو الهول
الشديد إِنما هو اقتراب الأَمر المخوف وهو الذي يفعل العداوة والغضب في
الخائف ويحركه إِلى دفع الشيء المخوف ومقاومته. وإِذا كان المرء يهوى الشر
وله قوة عليه، فبين أَن شره قريب من الفعل، فهو ضرورة مخوف. والحَال في
المخوف كالحال في الظلوم، أَعني أَن الظلوم إِنما يكون ظلوما متوقع الظلم
بهذين المعنيين، أَعني بالقوة على الظلم ويهوى الظلم؛ لأَن الظلوم إِنما
يظلم بالفعل، إِذ كانت له قوة على الظلم وإِرادة لفعل الظلم. فالظلوم لا
محالة أَبدا مريد لفعل الظلم، وهواه متقدم لفعله. وإِنما يفعل الظلم في
الوقت الذي تكون له القوة على فعله. فإِذن باجتماع هذين له، يكون ظلمه
قريبا. وكذلك المخوف أَيضا إِنما يكون لمن اجتمع له هذان، أَعني القوة
والإِرادة. ولذلك لا يخاف أَحد شر الضعفاءِ، وإِن كانوا مريدين للشر؛ كما
لا يخاف الأَقوياء، إِذا لم يكونوا مريدين للشر. وكثير من الناس إِنما
يمنعهم من الشر ضعفهم أَو الخوف من شر مهول يطرأ عليهم. وما كان من الشر
المتوقع قد حدث بإِنسان آخر فهو يخاف أَكثر. والذين يعرفون بأَنهم يفعلون
الشرور الشديدة الفظيعة الناسُ لهم خائفون بالطبع. والذين يقدرون على
العقوبات مخوفون إِلا أَن يعرفوا بالصفح والعفو، وبالجملة الذين يقدرون
على الضرر مخوفون أَبداً عند الذين يكونون ذلك النوع من الضرر ممكنا لهم.
مثال ذلك أَن السراق مخوفون عند ذوي الأَموال، لا عند من لا مال له.
وإِنما كان ذلك كذلك لأَن الظلم يكون في الناس أَكثر ذلك مع القوة، أَعني
حيث توجد القوة يوجد الظلم. والذين يقع بهم الظلم مراراً، ويظنون أَنهم
سيظلمون، هم خائفون أَبداً، مثل أَهل الذمة. والذين يلقون أَبدا خلاف ما
يؤملونه هم خائفون. والذين في طباعهم الظلم، إِذا كانت لهم قوة، فهم
مخوفون. وكل ما لا يمكن أَن يشترك فيه اثنان فهو مخوف خطر، مثل الرياسة.
وذوو الرياسات والسلطان هم أَبداً مخوفون ولا سيما إِذا كانوا يهوون
الإِضرار بمن يفضلهم في الرأي وفي غير ذلك من الفضائل. والناس الذين
يخافونهم أَفاضلهم وذوو الكمالات فيهم هم مخوفون، سواء كانوا ممن لم يزل
بهذه الصفة أَو حصلت له هذه الصفة حين كبر وعظم قدره. وأَصدقاءُ المظلومين
مخوفون عند الظالمين لهم. وكذلك أَصدقاءُ الأَعداءِ أَيضا مخوفون. كما أَن
العدو مخوف. وليس السريع الغضب من الناس ذوى الأُنس والانبساط مخوفين عند
الغضب والحقد، لأَن هؤلاءِ ينحل غضبهم سريعا. وإِنما المخوفون ذوو الأَناة
في الغضب والحقد وذوو الإِزراءِ بالناس الدهاة الذين لا يظهرون ما يريدونه
من الشر هل هو بالقرب أَو بالبعد وهم أَضداد ذوى الأُنس، وذلك أَن ذوى
الأُنس يظن بهم أَنهم لا يرون أَحداً دونهم، وذوو الإِزراءِ يرون الناس
دون أَقدارهم.
قال: وجميع هذه الأَشياءِ المخوفة تكون مخوفة أَكثر إِذا كان
الفساد الواقع عن ذلك الشيء المخوف مما لا يمكن أَن يتلافى فساده، لكن
يكون إِفساده إِفساداً بالكلية، ولا سيما إِذا كان المفسد لا يمكن أَن
يكافأَ على إِفساده بأَن تنزل به الأَضداد التي هي مكروهة عنده. والذين لا
يجد الإِنسان عليهم ناصراً، فخوفه منهم أَشد. وبالجملة: فالشرور المخوفة
هي الشرور التي تحدث بآخرين، إِذا كان حدوثها بأُولئك الآخرين مما يخيل
وقوعها بالمرءِ، وذلك لموضع التشابه الذي بينه وبين أُولئك الآخرين الذين
نزل بهم الشر. مثال ذلك أَن الشاب إِنما يجزع من الموت إِذا رآه قد نزل
بشاب آخر مثله، لا إِذا رآه قد نزل بشيخ أَو بكهل.
قال: وهذا الذي ذكرنا من جزئيات الأُمور المخوفة والأُمور التي هي أَشد
مخافة وأَعظم هو قريب من أَن يكون يأْتى على جميعها إِلا اليسير الذي يمكن
الإِنسان أَن يأْتى به من تلقائه.
قال: فأَما أَي الأَحوال هي أَحوال الناس التي إِذا وجدت لهم، كانوا
خائفين فنحن الآن مخبرون عنها، فنقول: إِن الخوف هو توقع المرء أَن يمسه
شر مفسد. وهذا معلوم بنفسه. فإِنه ليس أَحد يظن أَنه لا يناله شر فيخاف
أَصلا، ولا إِن ظن بالشرور أَنها لا تناله يخاف أَصلا منها. ولا يخاف
أَصلا من الناس الذين يظن بهم أَنه لا يناله منهم شر أَصلا. ولا يخاف
أَيضا في الوقت الذي لا يظن أَنه يلحقه فيه شر. وإِذا كان ذلك كذلك،
فالخوف ضرورةً إِنما يكون للذين يظنون أَنهم تنالهم شرور، ومن الشرور التي
يظنون أَنها تنالهم، وعند الناس الذين يظنون أَنهم ينالونهم بذلك، وفي
الوقت الذي يظنون لحوق الشر لهم وتأْثيره فيهم. وإِذا كان الخائفون هم
هؤلاءِ بالجملة، فمن البيّن أَن الذين يظنون أَنهم لا ينالهم شر هم
المصححو الأَبدان، الحسنة أَحوالهم جدا من قبل الأَشياءِ التي من خارج.
والذين يظنون أَيضا بأَنفسهم أَنهم بهاتين الحالتين وإِن لم يكونوا كذلك،
أَعني صحة البدن وموافقة الأَشياءِ التي من خارج وحسن أَحوالهم بها.
قال: ولذلك ما يوجد هذا الصنف من الناس شتامين جائرين متهورين. وسبب هذا
الظن يكون إِما في الصحة فمن الشباب والشدة، وذلك أَن الشاب والشديد يظن
بنفسه أَنه مصحح، وإِن لم يكن كذلك؛ وإِما في حسن الحال من قبل الأَشياءِ
التي من خارج، فيعرضُ هذا الظن من أَمرين أَيضا: من العدة ومن كثرة
الأَصحاب. وأَضداد هؤلاءِ هم الذين قد أَشعروا أَنفسهم أَنهم يلقون كل
بلاء، فهم ضعفاء عند الشرور المتوقعة كضعف الذين نزل بهم الشر بالفعل،
ولكن على حال؛ فهؤلاءِ يوجد لهم رجاء في الخلاص، فهم يسعون في حصوله. ومن
العلامة الدالة على ذلك أَنهم يحتاجون عند الخوف إِلى المشاورة. وليس أَحد
يستشير فيما لا يخاف، ولا فيما يخاف ولا يرجو الخلوص منه. ولذلك حَدَّ
الخوف الذي يكف به الخائف عن الفعل الذي قصد به كفه عنه هو الخوف الذي
يقترن به رجاءُ الخلوص من ذلك الشر المخوف، وهو الخوف الذي ينتفع به في
هذه الصناعة، أَعني الذي ينبغي للخطيب أَن يمكنه في نفس الذي يريد أَن
يخيفه، أَعني الحاكم أَو السامع. وذلك إِذا أَثبت عندهم أَنهم ممن ينالهم
الشر أَو تصيبهم المصائب من خصمه، مثل أَن يقول لهم: إِن آخرين قد لقوا
ذلك منه من نظرائهم وأَشباههم، وإِنه كثيرا ما تلقى الشرور من الأَشياءِ
التي لا يظن بها أَنها شرور، أَو من الشرور التي يظن بها الإِنسان أَنها
لا تناله، أَو من الناس الذين لا يظن بهم ذلك، أَو في الوقت الذي لا يظن
ذلك فيه، وما أَشبه هذا من الأَقاويل.
فقد تبين من هذا القول ما هو الخوف والأُمور الفاعلة له والناس المستعدون
لهذا الانفعال.
القول في الشجاعة
قال: وقد ينبغي أَيضا أَن نخبر ما هي الشجاعة وما الأَشياءُ الفاعلة لها
وأَي الأَحوال التي إِذا وجدت في الناس كانوا بها مستعدين لقبول هذا
الانفعال، أَعني شجعانا.
قال: والشجاعة والأَمن هما ضد الخوف، وهما يكونان مع تخيل أَو
توهم لرجاءِ الخلاص الذي كأَنه بالقرب، وتوهم المخوفات إِما مفقودة أَلبتة
وإِما بعيدة الوقوع. وتوهم الأُمور المشجعة أَنها منه بالقرب مما يشجع.
وأَعني بالمشجعات العدة التي تلقى بها المخوفات الواردة. ثم أَن يتوهم
أَيضا الردع والتنكير على الذي يخافه في الشيءِ الذي يخافه فيه مما يشجع.
وكذلك أَن يتوهم أَن له أَعوانا كثيرة وقوما عظاما يمنعون أَن يُنال بشر.
ومما يشجع الإِنسان ويؤمنه أَن يكون لا ظالما فيخاف المكافأَة على الظلم،
ولا مظلوما فيخاف تكرر الظلم عليه. ومما يؤمنك من الإِنسان أَو من ناس
بأَعيانهم أَلا يكون بينك وبينه نزاع ولا محاماة في شيء ألبتة وسواء ظن بك
أَن لك قوة على المنازعة أَو ليس لك قوة. ومما يؤمن من الإِنسان الصداقة
والإِحسان المتقدم عليه في الفعل أَو الانفعال، أَعني مثل إِعطائه المال
أَو الرحمة عليه. ومما يؤمن من الإِنسان الذي يخاف منه أَن يكون ذلك
الإِنسان يفعل أَفعال أَهل الفضل أَو أَهل الشرف ويحب أَن يذكر بها، أَو
يفعل أَفعال الصنفين جميعا.
قال: فأَما الأَحوال التي إِذا كانت في الناس كانوا بها شجعاء فأَحدها أَن
يكونوا يظنون أَنهم سيتلافون ويصلحون الشرور الواقعة بهم عند الإِقدام على
ذلك الشيء الذي يخافون من فعله وقوع الشر بهم وأَنهم لا يأَلمون منه أَو
لا يهلكون، أَعني من ذلك الشر الواقع بهم. ومنها أَن يكونوا قد أَشفوا
مراراً كثيرة على الشر العظيم وتخلصوا منه، فإِن هذا مما يشجعهم على الشر
المخوف.
قال: وقد يوجد الناس غير خائفين من الشرور المتوقعة ولا مكترثين بها على
جهتين: إِحداهما أَن يكونوا لم يجربوا ذلك الشيء المخوف، أَعني أَن يكونوا
غير عالمين به. والجهة الثانية: أَن يكونوا مجربين له عالمين به، وذلك
بيّن مما يعرض عند ارتجاج البحر وهوله للراكبين له. فإِن الذين لم يجربوا
أَهوال البحر يوجدون شجعانا فيه لجهلهم بعواقبه، والذين لهم تجربة به
يوجدون شجعانا أَيضا عليه لما اطرد لهم من السلامة فيه. ومما يؤمن من الشر
المخوف أَن يكون غير مخوف عند شبيهه الإِنسان ونظيره، أَو عند من هو دونه،
وإِن كان قد يظن أَنه قد يتخطى الشر الدون ويعتمد الأَرفع، ولذلك قيل:
إِن الرياح إِذا ما أَعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالرَتَم.
لكن المطرد هو الأَول. والذين يظنون أَنهم أَفضل من الرؤساءِ المتسلطين
عليهم فليس يخافون منهم. وكذلك الذين هم بالحقيقة أَفضل والذين يساوونهم
في الفضل ليسوا بخائفين أَيضا لهم. وكذلك الذين يظنون أَنهم يفضلونهم في
الأَشياءِ التي بها صح لهم التسلط والرياسة، مثل كثرة المال وشدة البدن
ونصرة الإِخوان وأَهل البلد وعدة الحرب إِما كلها وإِما النفيسة الخطيرة
منها عند تلك الأُمة. فإِن ذلك يختلف. ومما يشجع ويؤمن أَلا يوجد المرءُ
ظالما لأَحد إِلا لعدوه ظلما يخيف به عدوه فقط. وبالجملة: فالصنف من الناس
الذين يكونون على حال جميلة فيما بينهم وبين الله آمنون. وكذلك الذين
يكونون على حال جميلة فيما بينهم وبين الناس. وكذلك من كان عند الناس بهذه
الحال ربما يتوسم فيه من العلامات الدالة على حسن الحال عند المعاملة.
والذين تكون أَحوالهم جميلة عند أَصحاب الأَلسنة، أَعني المتسلطين
بأَلسنتهم، كالخطباءِ والشعراءِ، وعند العقلاءِ فهم أَيضا غير خائفين،
لأَنهم إِذا كانوا آمنين عند هؤلاءِ، فأَحرى أَن يكونوا آمنين عند غيرهم
قال: والغضب أَيضا مما يشجع. ومما يشجع الإِنسان ويبعث غضبه أَن يكون
مظلوما لا ظالما. والمظلوم إِنما يشجع لمكان الغضب، ولما يعتقد من أَن
الله تعالى ناصرٌ للمظلومين. ومما يشجع على فعل الشيء أَن يظن الإِنسان
أَنه لا يلقى عليه شرا، وإِن لقي، أَنه يقاومه ويتلافى إِفساده.
قال: فأَما المشجعات والمخوفات فقد قيل فيها بالكفاية.
القول في الحياءِ والخجل
قال: فأَما الأَشياء هي التي منها يستحى أَوْ لا يستحى، وعند من
يكون الحياءِ من الناس وأَي حالة فيها هي الحالة التي إِذا كانت في
الإِنسان عرض له هذا الانفعال، فذلك يعلم مما نقوله. فليكن الخزي أَو
الاستحياءِ حزنا أَو اختلاطا يعرض عن وقوع الشرور التي تصير المرءَ غير
محمود، إِما في الحال الحاضرة وإِما فيما سلف وإِما فيما يستقبل.
وأَما الوقاحة فاستهانة وقلة أَلم واكتراث بحدوث هذه بأَعينها، أَعني التي
يكون منها الحياءُ.
وإِذا كان هذا هو حد الاستحياء، فبين أَنه إِنما يستحي المرءُ من هذا
النحو، أَعني مما كان من الشرور يظن قبيحا مستبشعا إِذا ظهر عليه أَو على
من يعنى به. وكلما كان من هذا النحو فهو إِما من فعل الشرارة، وإِما من
فعل الرداءة. وأَعني بفعل الشرارة ما يلحق الغير منه مضرة، مثل جحد
الوديعة وركوب الظلم؛ وأَعني بفعل الرداءة النقائص التي لا يلحق الغير
منها في الأَكثر مضرة مثل إِلقاء السلاح والفرار جبنا وخوفا.
قال: ومن الشرور القبيحة التي يستحي منها معاشرة الذين لا ينبغي أَن
يعاشروا، وحيث لا ينبغي أَن يعاشروا. والذين لا ينبغي أَن يعاشروا هم ذوو
الشرارات وذوو الأَخلاق الدنيئة. ومن الشنيع أَيضا الذي يستحي منه
الأَكتساب من الأُمور الحقيرة أَو المستقبحة أَو من الضعفاءِ كالذي يرزأ
من المساكين أَو من الأَموات.
قال: ومن هذا يقال في المثل: ولو من الميت أَكفانه. وهذا كله من قبح
المكسب واللؤم.
ومن الخلق التي يُستحي منها أَن يكون الإِنسان موسرا ولا ينتفع من ماله
بشيء. وإِن انتفع فنفع يسير. ومن ذلك يَسئَل المقلين ويحتاج منهم وأَن
يتسلف أَيضا حيث لا يصلح به وأَن يكون إِذا وعد إِنسانا بشيء فتقاضاه ذلك
الشيءَ سأَله هو أَيضا حاجة ليدفعه بذلك عن تقاضي ما وعده. وعكس هذا،أَعني
إِذا سُئل شيئا ما تقاضى هو السائل ما كان قد وعده به ليدفع عن نفسه
السؤال. ومما يستحي منه أَن يمدح الإِنسان المرءَ عندما يرى ذلك الإِنسان
مقتدرا على قضاءِ الحوائج ولا يمدحه في غير ذلك الوقت، بل إِذا خاب رجاؤه
ربما قلب في ذمه.
قال: ومما يُستحي منه التملق وهو قريب من أَن يكون مدحا، وذلك مثل أَن
يمدح المرء بأَكثر مما فيه، أَو يخرج المساوئ والنقائص في صور الفضائل،
أَو يجد إِنسان وجعاُ أَو مصيبة فيظهر أَنه أَشد تأَلما منه وأَشد حزنا،
وما أَشبه ذلك مما هو من هذا النحو، أَعني من علامات التملق. ومما يُستحى
منه قلة الصبر عند الوجع أَو الشدة، مثل ما يعرض للشيوخ الذين يتخيلون أَن
بهم من ضعف الشيخوخة أَكثر مما بهم، ومثل ما يعرض للمترفين وذوي السلطان
الذين يجزعون لمكان سلطانهم من أَدنى شيء يصيبهم، إِذ كانوا يرون أَنه لا
ينالهم مكروه. وكذلك مَن سوى هؤلاءِ ممن هو أَضعف منهم، أَعني ممن يخيل
إِليه في الضعف اليسير الذي به أَن به ضعفا عظيما. فإِن هذه الأَحوال كلها
مذمومة وهي من علامات الخور والمهانة. ومما يستحي منه أَن يكون المرء يعير
ويلوم من سواه بحسن الانفعال أَو الفعل، مثل أَن يلومه على فعل السخاءِ
أَو عن المحاماة عن أَصدقائه أَو على الإِشفاق والرحمة. ومن ذلك أَن يمدح
المرءُ نفسه أَو أَن يعد منها بأَشياء جميلة، أَو ينسب إِلى نفسه أَفعال
غيره. فإِن هذه كلها من علامات المخرقة.
قال: ومن هذه الأَخلاق المذمومة التي ذكرناها يستدل على ما لم يذكر منها
لأَن لكل واحد من الشرور ومساوئ الأَخلاق أَفعالا وعلامات تدل عليه.
قال: ومن المستقبح من الإِنسان أَن تكون أَفعاله في صورة ما هو
قبيح وإِن لم تكن قبيحة، مثل أَن يكون الإِنسان من أَهل بيت أَو من أَهل
مدينة هم أَهل قبائح، فإِن الإِنسان قد يلحقه من قبل هؤلاءِ مخاز وإِن لم
تكن له أَشياء يخزى منها في نفسه. ومما يعير به الإِنسان أَن يكون أَشباهه
من الناس يفعلون أَفعالا جميلة ولا يشركهم هو فيها، أَعني في كلها أَو
أَكثرها.وأَعني بالأَشباه المتساوين في الجنس والذين هم من مدينة
واحدة،والأَتراب، أَعني ذوي الأَسنان المتقاربة، والذين تجمعهم حالة
واحدة: إِما حلف، وإِما صداقة، وإِما غاية واحدة يقصدونها؛ وبالجملة جميع
الذين يستوون في شيءٍ واحد، مثل أَن يكونوا أَهل صناعة واحدة أَو عمل
واحد. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَن مباينة المرء من يساويه ومخالفته له قبيح
مستنكر حتى في العقوبات النازلة بهم والشرور التي تنالهم، وذلك أَن النكبة
التي تنال مثلا أَهل المدينة، والغموم التي تنال الأَصدقاء، متى لم
يشاركهم الإِنسان فيها، كان قبيحا به، وكذلك جميع الخيرات والشرور الباقية.
قال: وجميع أَفعال المخازي التي ذكرناها إِنما تظهر في هؤلاء الأَصناف من
الناس الذين عددنا، وذلك في الأَكثر مثل الجشعين والخوارين وما أَشبههم.
وهذه الأَفعال التي ذكرناها هي أَفعال تصدر عن الشرارة وقبح الأَخلاق، ولا
سيما إِذا كان الإِنسان من تلقاءِ نفسه هو السبب فيما كان من هذه الأَفعال
أَو يتوقع أَن يكون.
قال: وأَما المخازي التي تلحق الإِنسان مما يناله من غيره أَو يذعن له أَو
تتصل به بأَي وجه اتصل، فكل ما كان مما يؤدي به إِلى أَن يهوى بها عند
الناس وأَن يعير به، وذلك مثل جميع الهئات البدنة القبيحة، مثل أَن تحلق
لحيته، أَو يتزيا الرجل بزي المرأَة، ومثل جميع الفواحش التي تفعل
بالنساءِ والصبيان. ومن هذا الفضيحة والهوان، وأَعني بالفضيحة الاشتهار
عند الناس بأَمر قبيح، وبالهوان مثل أَن يزدرى به فيظلم أَو يكون وحيدا لا
ناصر له. ومن هذه الأَشياء القبيحة التي يركبها الإِنسان ويصبرعليها من
غيره لمكان الطمع والجشع، مثل الذين لا يبالون بأَي وجه اكتسبوا المال من
أَوجه خسة المكسب. وسواء كانت الأَشياءُ لاحقة للإِنسان باختيار منه أَو
بغير اختيار، مثل فعل الفواحش بنساءِ الإِنسان أَو ولده، فإِنه يلحقه بذلك
العار، سواء كان باختياره أَو بغير اختياره. ومما يُستحى منه الا يأَخذ
الإِنسان بثأره.
قال: فهذه التي ذكرناها وما أَشبهها هي الأَحوال التي إِذا كانت في الناس
استحيوا وخزوا منها، وهي الأَشياءُ التي تفعل الخزي والاستحياء.
لأَن الخزي والاستحياء إِنما يعرض للمرءِ إِذا تخيل الأَمر الذي يحمد عليه
أَو الأَمر المحمود وأَنه قد عدمه. ومن أَجل أَن الخزي إِنما يكون من قبل
تخيل عدم الحمد، وكان عدم الحمد إِنما يكترث منه إِذا كان من قبل الفضلاءِ
من الناس، فبين أَنه ليس يُستحى من كل أَحد من الناس. وإِذا كان الأَمر
كذلك، فإِنما يستحي المرءُ بالجملة من القوم الذين يأْلم بفقد مديحهم.
وأَحد هؤلاءِ هم الصنف من الناس الذين يتعجبون منك ويرون لك فضلا كبيرا؛
وكذلك الصنف من الناس الذين تتعجب أَنت منهم تستحي منهم؛ والذين تحب أَن
يكروموك تستحي أَيضا منهم.
قال: والذين لا يستخف بحمدهم فقد يحب أَن يكونوا متعجبا منهم. وإِنما
يتعجب من كل من كان له خيرٌ ما من الخيرات الخطيرة النفيسة، مثل المُلك
والحكمة، أَو يكون الذي يتعجب منه عنده خير من الخيرات التي يكون
المتعجبون منه محتاجين إِليها جدا جدا، أَو يحتاج إِليها من هو رئيس على
المتعجب؛ وبالجملة: من هو أَرفع قدراً من المتعجب.
قال: والذين يحب الإِنسان أَن يكون مكرما عندهم هم أَشباهه من الناس، وذلك
إِما أَترابه وإِما قومه وإِما أَهل مدينته أَو أَهل صناعته. والصنف أَيضا
من الناس الذين يعتقد المرءُ فيهم أَن ظنونهم واعتقاداتهم فيه اعتقادات
صادقة من قِبَل أَنه يرى أَنهم ذوو لب وعقل، مثل المشايخ وذوي الآداب فإِن
الإِنسان يحب الكرامة من هؤلاءِ.
قال: والأَشياءً القبيحة التي هي ظاهرة للأَبصار، وفعلها علانية
هي مما يخزى المرء منها أَكثر من غيرها. ولذلك يقال في المثل: إِنما الخزي
فيما تراه العين. وإِذا كان الأَمر كذلك، فقد ينبغي أَن يكون الاستحياءُ
أَكثر من الذين هم أَبدا حضور وبالقرب من الإِنسان، ومن الذين ينظرون
إِليه من أَجل أَنهم منه بمرأَى العين. والذين لا يستحيون من هؤلاءِ فهم
صنف مذمومون من الناس، لأَنه معلوم أَن الذين يبصرون أَفعال الإِنسان
فإِما يحمدون وإِما يذمون. وتخيل عدم الحمد هو الذي يفعل الحياءَ كما تقدم.
قال: والصنف من الناس الذين لا يسترسل المرءُ إِليهم ويتحفظ منهم فقد
يستحي منهم. وهذا الصنف هم الذين يعتقد الإِنسان فيهم أَنه ليس عندهم رأي
يعبأ به ويعتمد عليه في الأَمر الذي أَخطأَ فيه أَو يظن أَنه أَخطأَ فيه،
حتى يكونوا هم الذين يسددونه إِن أَخطأَ فيه أَو يبصرونه ظنه. لأَنه إِنما
يسترسل الإِنسان في أَفعاله أَو يبوح بها عند خواص الناس، وهم إِما الصنف
من الناس الذي يعتقد فيهم أَن عندهم تسديدا له وتقويما، ولذلك لا يستحي
المتعلم من استاذه، وإِما الأَصدقاءُ الذين يطرح الإِنسان معهم المؤونة.
وإِنما كان المرءُ يتحفظ ممن عدى هذين الصنفين أَن يبوح لهم بقول أَو
يسترسل بحضرتهم في فعل لأَنهم يذمونه على ذلك، حتى أَنه إِن باح بشيءٍ
ظنه، ولم يكن كما ظن، أَعتقد فيه أَن ذلك الذي قد باح به قد فعله، وفضحوه
في ذلك، سواء كان ذلك الأَمر كما ظن، أَو لم يكن. ولذلك كان المظلوم لا
يفصح بالشر الذي يتوقعه بالظالم إِلا لهذين الصنفين من الناس، أَعني الذين
يعبأ بآرائهم ويعتمد عليها حيث يخاف الخطأ أَو الأَصدقاء.
قال: والصنف من الناس الذين يحفظون مساوئ الأَخلاق وينهونه عن الخطأ مستحى
أَيضا منهم وممقوتون.
وكذلك الصنف من الناس الذين انتدبوا لبث مساوئ المعارف وخطئهم كفعل
المزدرين المستهزئين. وأَعني بالمزدرين المخسسين للإِنسان، وبالمستهزئين
المحاكين له، أَعني الذين يحاكون الشيءَ على جهة الازدراءِ به، وهؤلاءِ
ممقوتون مستحى منهم. واسم الحشمة أَحق بهؤلاءِ الذين ذكرهم من اسم
الحياءِ، وذلك أَن الحياءَ يكون ممن يظن به خيرا، والحشمة تكون ممن يظن به
شرا. ولهذا كان الحياءُ من أَهل الشر ممزوجا بخوف. وممن يستحي المرءُ منهم
الذين لم يحقروه قط في شيءٍ لأَنه يحسب أَنه عندهم بمنزلة المتعجب منه.
وممن يستحى منه الذي احتاج إِليك في حاجة فقضيتها له، لأَنه عندك ممن
يمدحك ولا يذمك. ومن هؤلاءِ أَيضا - أَعني الذين يستحي الإِنسان منهم -
الذين يريدون أَن يستحدثوا صداقة الإِنسان، لأَنهم في هذه الحال إِنما
يعرفون منه الفضائل فقط فهو يستحي من أَن يقفوا على مخزى. ومن الذين يستحي
منهم الذين لم يطلعوا للإِنسان على شيءٍ يستحي منه.
قال: ثم إِنه ليس إِنما يستحيون من هذه القبائح التي ذكرت، بل من العلامات
والدلائل التي تدل علها. وذلك أَنه ليس من الزنا يستحيون فقط، لكن ومن
الدلائل التي تدل على الزنا. وكذلك ليس يستحيون من فعل الفواحش أَنفسها،
ولكن ومن النطق بها، لأَن النطق بها علامة أَو دليل على فعلها. فهؤلاءِ هم
أَصناف الناس الذين يستحى منهم.
وأَما الذين لا يستحى منهم فالذين يسترسل الإِنسان إِليهم ويطلعون على
أَمره. وهؤلاءِ صنفان: إِخوان ومساعدون. فأَما الإِخوان فهم الذين يطرح
معهم الإِنسان فعل الجميل الذي هو جميل عند الجمهور من غير أَن يكون
بالحقيقة كذلك. وأَما المساعدون فهم الذين يطرح معهم فعل الجميل بإِطلاق
كان جميلا في الحقيقة أَو في بادي الرأي. ومن الذين لا يستحي الإِنسان
منهم الذين يستخف بهم ويستحقرهم، لأَنه لا يبالي باعتقادهم فيه كان خيرا
أَو شرا ولا ما يكون عنهم من مدح أَو ذم، كما ليس يستحي أَحد من البهائم
والأَطفال.
قال: وليس استحياءُ المرءِ من معارفه ومن الأَباعد استحياء بجهة واحدة.
وذلك أَن الحياءَ الذي يكون بحضرة من يعرفك يكون مما هو في
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
القول في الاهتمام
فأَما عن ماذا يكون الهم، ومَن يهتم، وبمن يهتم، فإِنا مخبرون
ذلك. فليكن الهم حزنا ما يلحق من قبل شر مفسد أَو محزن يعرض للمرءِ بلا
استيجاب، وذلك إِذا كان الشر يتوقع أَن يحدث عليه أَو على أَحد ممن يتصل
به وكان قريب التوقع. وأَعني بالمفسدات التي تغير البدن، وبالمحزنات التي
تفعل الأَذى النفساني. وإِذا كان حد الاهتمام هو هذا، فهو بين أَن غير
المهتم يكون بهذه الحال التي أَصف، وهو أَن يظن أَنه ليس شيءٌ من الشرور
واقعاً لا به ولا بأَحد ممن هو بسببه، أَعني مثل هذا الشر الموصوف في الحد
أَو شبهه أَو قريبا منه. فإِن المتهم هو الذي يتوقع نزول مثل هذا الشر به
مع رجاء للخلاص منه. ولذلك لا يهتم الذين قد نزلت بهم الشرور العظيمة مثل
الذين عطبوا، ولا الذين يظنون أَنهم سعداء. وذلك أَن الذين يظنون أَنهم
سعداء، يظنون أَنهم لا ينالهم شيءٌ من الشر، إِذ كانوا يرون أَن ذلك من
السعادة، أَعني أَلا ينالهم شر. ومن هؤلاءِ أَيضا، أَعني الذين لا يهتمون،
الذين يظنون أَنهم لا يأْلمون لا من قبل أَبدانهم ولا من قبل نفوسهم، وذلك
من قبل أَنهم قد لقوا شرورا فتخلصوا منها، وإِما من قبل أَنهم مشايخ قد
طالت مزاولتهم للشرور، وإِما من قبل كثرة التجربة، وإِما لمكان عادة جرت
لهم فتطيب نفوسهم كطيب نفوس المقبلين السعداءِ، وإِما لمكان شهرتهم في
الناس وذلك أَن المشهورين يرون أَن الشرور بعيدة عنهم لمكان علو أَقدارهم
وأَن الناس كلهم معينون لهم. وقد يعرض هذا الظن لمكان التأَدب بالصنائع
والأَشياءِ التي تدفع بها الشرور. ومن هؤلاءِ القوم الذين ظنونهم حسنة
جميلة لمكان وجود الآباء لهم والأَبناء والنساء بالأَحوال الجميلة، أَعني
الذين لم تثكلهم ولا أَحزنتهم الأَيام في واحد منهم. وبالجملة: الذين عرض
لهم في هذه الأَصناف الثلاثة جودة الاتفاق. فإِن الشرور المتصلة بهؤلاءِ
تصير الإِنسان ضعيف النفس مهتما بأَدنى شيءٍ يخافه. ومن هؤلاءِ: الذين
تعتريهم وتوجد فيهم الانفعالات التي تخص الشجاعة، مثل الغضب وشدة القلب،
فإِن هؤلاءِ غيرُ ذوي فكرة فيما يتوقع. ومن هذا الصنف أَيضا الناس الذين
من أَخلاقهم الشتم والاستهانة، فإِن هؤلاءِ أَيضا لا يهتمون، لأَنهم لا
يتوهمون أَنه يقع بهم شر، وذلك لنقص فطرهم. والناس الذين يهتمون هم خائفون
جدا جدا لا يهتمون بغيرهم، لأَن المكروبين من الخوف لا يهتمون بآخرين،
لأَنهم مشغولون بالأَلم الخاص الواقع بهم. والذين يظنون بأَحد أَنه حقير
خامل فليس يهتمون به، لأَنهم يرونه أَهلا لوقوع الشر به، أَو لا يرون أَن
وقوع الشر به شر. ولذلك كما يقول أَرسطو: من ظن أَنه ليس في العالم أَحد،
فقد يظن الناس جميعا مستوجبين للشر. وبالجملة فإِنما يهتم المرءُ إِذا كان
بهذه الحال التي وصفنا، أَعني إِذا كان يتوهم ويتخيل أَن شيئا من أَضداد
هذه الأَشياء التي يتخيلها الذي لا يهتم توجد فيه أَو فيمن يتصل به.
فهذا جملة ما قاله في وصف أَحوال الذين يهتمون.
قال: وأَما أَي أَشياء هي التي تفعل الهم، فمعلوم مما قيل في حد الاهتمام.
وذلك أَن جميع ما كان من المفسدات، أَعني المغيرات للبدن، وما كان من
المحزنات أَعني المغيرات للنفس، فكلها فاعلة للاهتمام، وبخاصة ما كان من
المفسدات القاتلة، وما كان من أَنواع الشرور التي اشتمل عليها الحد بأَشد
ما يكون.
قال: ومن المفسدات المؤديات إِلى الموت: أَوجاع البدن والجهد والكبر
والسقم والحاجة إِلى القوت.
قال: وعدم الإِخوان أَو قلتهم، لما كان من سوءِ الجد، فقد يكون ذلك من
الشرور المفسدة التي تهم.
قال: ومن فاعلات الاهتمام الأَحوال التي جرت العادة، إِذا كانت بالناس،
أَن تفعل الاهتمام بهم، مثل الأَحوال التي يكون عليها ذوو السقم والزمانة
من قبح المنظر والقعود عن الحركة والتصرف. ومما يفعل الاهتمام أَن يصير
المرءُ إِلى الشر من حيث أَمل أَن ينال الخير، أَو أَن يصير إِلى أَمر
كبير: إِما يكون الذي يصير إِليه يصيب خيرا فلا يكون له شيءٌ من الخير فيه
أَلبتة، أَو أَن يكون يصير إِلى خير في الوقت الذي يفوت الاستمتاع بذلك
الخير، مثل اليسار في وقت الهرم.
قال: فهذه جملة الأُمور التي تفعل الهم.
قال: وأَما بمَنْ يهتم، أَعني من الغير، إِذا توقع نزول الشر به
أَو يرثى له إِذا نزل به ويرحم، فإِن هذا هو الفرق بين الاهتمام والرحمة.
فالمعارف ومن هم بالإِنسان بسبب، إِن لم يكونوا في غاية القرب من الإِنسان
حتى يكون الشر الواقع بهم هو شر واقع بالإِنسان مثل الولد والوالد.
قال: ومن هنا قيل إِن فلانا لرجل مشهور عندهم لما جُلد ابنه وأَشفى من ذلك
على الموت لم تدمع عينه ولا حزن. ولما رأَى صديقا له يَسئل من فاقة جزع
واهتم.
قال: وإِنما يكون الهم بالغير إِذا توقع حدوث الشر به، أَو الرحمة له إِذا
وقع به، لأَن توقع حدوث الشر بالإِنسان نفسه أَو ممن يتنزل منزلة نفسه أَو
وقوعه به هو شدة نزلت بالإِنسان، أَو يخاف نزولها. ونزول الشدائد
بالإِنسان أَو تخوف نزولها به أَو بمن هو بمنزلة نفسه ومسلاة عن الاهتمام
بغيره أَو الرحمة له. وإِذا نزل الشر بالإِنسان فلا يقال إِنه يرحم نفسه،
ولا إِذا توقع نزوله لم يقل فيه إِنه مهتم ولكن خائف.
قال: ومِن الذين يهتم بهم هماً أَكثر: الصنف من الناس الذين هم أَشباه
الإِنسان، أَعني في الهمم والأَخلاق والمراتب والأَحساب، إِذا كانت
الشدائد قريبة الوقوع بهم.
قال: وبالجملة كلما يخافه الإِنسان على نفسه فهو يهتم به إِذا تخوفه على
الخير. وذلك إِذا تخيل أَن تلك الآلام والشرور قريبة الوقوع، لأَن الشرور
المتخيلة إِنما تكون من أَسباب الهم إِذا تخيلت بهذه الجهة. فأَما الشرور
التي يتخيل وقوعها فيما سلف، مثل السنين الكثيرة، فليس يهتم بها ولا تخاف.
وذلك أَنها ليست مستقبلة فتتوقع. ولا الذكر أَيضا مما يفعل الخوف
والاهتمام. وكذلك الممتنعة الوجود لا تخاف أَلبتة ولا يهتم بها.
قال: وقد يهتم الإِنسان للناس الذين يخيلون بأَصواتهم وهيئاتهم المحسوسة
أَنه قد نزل بهم شر أَو قد قارب أَن ينزل لأَنه بما يخيلون من ذلك يجعلون
الشر بحيث يتخيل أَنه قريب ويجعلونه نصب العين أَو كأَنه قد وقع. لأَن
الهم إِنما يكون في الأَشياءِ التي قد وقعت الآن أَو يتوقع من قرب نزولها.
وظهور العلامات والدلالات التي تدل على الشرور، مثل الأَحوال التي ذكرناها
من أَحوال الخائفين، إِنما تفعل الهم إِذا دلت عليه بهذه الحال، أَعني
أَنه قد حدث أَو قارب حدوثه، وبخاصة إِذا ظنوا أَن أُولئك الذين ظهرت
علامات الشر عليهم هالكون، ولا سيما إِذا كان أُولئك الذين ظن بهم الهلاك
أَفاضل، وأَكثر من ذلك إِن كان هلاكهم في الوقت الذي الحاجة إِليهم أَكثر
أَو الرجاء فيهم أَمكن مثل اَن يعتبطوا أَو يموتوا شبابا. فهذه كلها تفعل
الاهتمام أَكثر من غيرها، أَعني هلاك الفضائل بهلاك الفاضلين الذين لا
يستحقون ذلك في الوقت الذي الحاجة إِليهم فيه شديدة، من قبل أَنه إِذا
وقعت أَمثال هذه الأَشياء أَو دلت العلامات والدلائل على وقوعها، ظن أَن
الشر قريب حتى كأَنه يرى نصب العين.
قال: وقد يوجد الاهتمام والجزع انفعالات مضادة، أَعني مبطلة، ولا سيما
الحزن الذي يكون على الذين ينالون خيرا بلا استئهال، وهو الذي يسمى نفاسة.
لأَن الاهتمام هو الحزن على الشر الذي ينال من لا يستأهله. وهذا الانفعال
الآخر هو خلق شريف، أَعني الحزن على من نال خيرا بلا استئهال، وذلك أَن
الذين يصيرون إِلى غير ما يستأهلونه من خير أَو شر، فينبغي أَن يحزن لهم
جدا جدا. والذين يصيرون إِلى الشر من الأَسباب المعروفة والطرق المعتادة
التي بها يفضي الإِنسان ويحكم على مصيرهم إِليها، فقد يرى الناس أَنهم
أَهل لذلك. وأَما الذين يصيرون إِلى هذه الأَشياء من طرق غير معروفة
فينبغي أَن يكونوا في الوسط من أُولئك، أَعني أَلا يعتقد فيما أَصابه من
الشر أَنه كان باستئهال أَو بغير استئهال، بل ينبغي أَن يفوض أَمرهم إِلى
الله. لأَن ما نال الإِنسان من الجور والشر من طرقه المعروفة، فسببه الجور
والشرارة التي في ذلك الإِنسان، وأَما ما ناله من ذلك من غير طرقه
المعروفة، فإِنا نكل علم ذلك إِلى الله عز وجل.
قال: والحسد أَشد مضادة للاهتمام من الحزن الذي يكون على الخير
الذي ناله من لا يستأهله، وهو الذي قلنا إِنه يسمى نفاسة. وكأَن هذا
الانفعال قريب من أَن يكون في الوسط، أَعني بين الاهتمام والحسد، لأَنه
قريب من الحسد، وذلك أَنه اغتمام بخير، كما أَن الحسد اغتمام بخير. وإِنما
الفرق بينهما أَن الحسد اغتمام بخير ناله من يستحقه، وهذا اغتمام بخير
ناله من لا يستحقه.
قال: وليس الحسد هو الاغتمام الذي ينال الإِنسان لخير أَصابه مستحقه
وأَخطأَه في نفسه، لأَن هذا لا يعْرى منه أَحد، ولا هو أَيضا الاغتمام
الذي يناله من قبل أَنه يعتقد أَن ذلك الخير الذي أَصاب المستحق لو لم
يصبه لكان سيصيبه، وذلك أَن الاغتمام بالخير الذي أَصاب غيره ولم يصبه هو
اغتمام لأَنه لم يعط ذلك الخير ولم يرزقه. والاغتمام بالخير الذي حرمه من
أَجل إِصابته لغيره هو اغتمام من قبل أَنه نالته شقاوة بسبب سعادة ذلك.
وإِذا كان الأَمر هكذا فالحسد هو الاغتمام بخير يناله المستحق له، لا لأَن
ينال هو ذلك الخير.
قال: وهو معلوم أَنه قد يلزم من الاغتمام بنزول الخير والشر بمن يستأهله
ومن لا يستأهله انفعالات متضادة. فإِن الذي يحزن لنيل الخير مَن يستأهله
ومَن لا يستأهله قد يؤلمه هذا إِذا وقع ويبرؤه من هذا الأَلم وقوع الشر
بهم بأَسوإِ ما يكون، أَعني الشرار الذين لا يستأهلون الخير. ولذلك الصنف
من الناس الذين يضربون آباءهم أَو يتدنسون بالقتل،إِذا وقعت بهم العقوبة،
فليس أَحد من الناس يحزن لهم، بل يفرحون بهذا ويرونه خيرا، لأَنه بمنزلة
الفرح الذي يكون إِذا نال الخير المستأهلون له. وذلك أَن الأَمرين جميعا
عدل. ومما يسر به الخيار والحكماءُ نزول الخير بمن يستأهله ونزول الشر
أَيضا بمن يستأهله. وذلك أضن هذين الأَمرين جميعا، إِذ كانا معا عند
الحكماءِ جميلين، فهما جميعا من خلق صنف واحد من الناس، وكلاهما يشتاق
إِليه هذا الصنف من الناس. وأَما ضد هذا، وهو الاغتمام بالخير الذي ناله
المستحق له، فهو موجود لضد هذا الخُلق، لأَن الذي لا يفرح بهذا ويحزن له
هو صنف واحد من الناس وهم أَهل الشرارة والحسد. فإِنه ولا بد إِذا كان
المرءُ يحزن لكون شيء ووجوده أَن يكون يفرح بعدمه وفساده.ولذلك مَنْ كان
من الناس يحزن لوجود الخير لمن لا يستأهله، فهو يفرح بعدم الخير لهم ووجود
الشر. وبالعكس. أَعني أضن الذين يفرحون بوجود الخير لمن يستأهله، يغتمون
بعدمه ووجود الشر لمن يستأهله، وهو الذي يسمى أَسى وأَسفا.
قال: وكل هذه الانفعالات التي تتركب من هذه الأَشياء، أَعني من الخير
والشر وممن يستأهل ومن لا يستأهل، تشترك كلها في أَنها تضاد الهم. وهي
وإِن كانت مختلفة لمكان التركيب، فهي كلها تجتمع في أَنها تصلح أَن تستعمل
في نفي الهم.
القول في النفاسة
قال: ونحن الآن قائلون أَولا في النفاسة وذلك بأَن نخبر على مَن ينفس من
الناس وفيما ينفس ومَن الذين ينفسون، ثم نقول بعد ذلك في تلك الأٌخر التي
عددنا، أَعني الحسد والأَسف، فنقول: إِنه إِن كان النافس هو الذي يحزن
لحسن حال تكون للمرءِ بلا استحقاق، فهو معلوم من هذا الحد نفسه أَنه ليس
تكون النفاسة في جميع الخيرات، لأَنه ليس ينفس على أَحد في الشجاعة ولا في
البر، وبالجملة في جميع الفضائل التي تكون للإِنسان عن الإِرادة. كما أَنه
ليس يهتم المرءُ بوجود أضداد الفضاءل له، وإِنما تكون النفاسة في المال
والقوة، وبالجملة في الخيرات التي تصيب الإِنسان من خارج، مما قد يرى أَن
الخيار يستحقونها، وأَن الشرار لا يستحقونها. وإِنما ينفس في هذه إِذا
كانت حديثة. فإِن المتقادمة من ذلك يظن بها أَنها قريبة من الأَمر الواجب
الذي في الطبع، ولذلك لا ينفس في الأَموال الموروثة، ولا في الرياسات
المتقادمة في الأَكثر؛ وإِنما ينفسون لا محالة في الخيرات المستحدثة، مثل:
السلطان المستحدث، وكثرة الإِخوان، والمال، وغير ذلك من الخيرات. والسبب
في هذا أَن الناس هم أّشد غيظا من الذين يستغنون حديثا منهم على الذين
يكون الغنى فيهم متوارثا، وكذلك الأَمر في سائر الخيرات التي من خارج.
والسبب في ذلك شيئان: أَحدهما أَنهم يرون أَن ذلك الخير الحادث هم كانوا
أَحق به منهم.
والثاني أَنهم رون أَن الواجب فيه كان استصحاب الأَمر القديم له
وهو الفقر مثلا أَو الضعة. ولذلك لا ينفسون في الخيرات المتقادمة لأَنها
مما قد اعتيدت، وكأَنها واجبة لهم. والخير الذي لا يستأهله المرءُ عند
النافس عليه يختلف. وذلك أَن الخير الذي يستأهله واحد واحد من الناس يختلف
في المشاكلة والمقدار، وذلك أَنه ليس كل خير يشاكل كل إِنسان، ولا المقدار
من ذلك واحد، بل لكل إِنسان خير مشاكل ومقار ملائم. فإِن حمل السلاح
والهيئات الحربية هي خيرات، ولكنها غير لائقة بالنساك، وإِنما هي لائقة
بأَهل الشجاعة. وكذلك الإِسراف في النكاح لا يليق بالذين غناهم حديث
وإِنما يليق بالذين لهم قديم غنى، لأَن الحديث الغنى يحتاج إِلى حفظ
اليسار. وأَما القديم الغنى فكأَن غناه شيءَ ثابت لا يخاف عليه. فإِذا كان
المرءُ يليق به خيرٌ ما فلم ينله أَغتم وحزن.
قال: وإِذا نال الإِنسان من الخيرات ما هو أَعظم منه في الكيفية أَو
المقدار، فإِنه من العطية والرزق والمقدور الذي يقال فيه إِنه من عند الله
تعالى، وذلك مثل أَن يظفر الصغير بالكبير إِذا نازعه، والخسيس بالشريف،
والمسيءُ بالناسك. وإِلا فما كان بالناسك. وإِلا فما كان للمسيء أَن يظفر
بالناسك، فإِن الناسك أَفضل من المسيء. ومن هاهنا تتبين الخيرات التي يقال
فيها إِن الناس ينالونها بقدر من الله، والناس الذين يقال فيهم ذلك. وذلك
أَن هذه الخيرات وأَمثال هؤلاءِ الناس هم الذين تنسب الخيرات النازلة بهم
إِلى القدر. ومن الناس الذين ينفس عليهم الذين تصير إِليهم الخيرات
العظيمة. لأَنه ليس يرى أَحد أَن من العدل أَن تصير الخيرات العظام التي
يستأهلها الخيار من الناس إِلى الشرار منهم. ولذلك يأسف الإِنسان وينافس
إِذا كان الخيار الأَفاضل لا يقدرون أَن يظفروا بما يستحقون ويظفر به من
دونهم. وأَما الذين ينافسون فهم الناس المحبون للكرامة وسائر الأُمور التي
يظفر بها من لا يستأهلها. فإِن هذا الصنف من الناس بالجملة يأسف وينافس في
جميع الأُمور التي يرون أَنفسهم أَهلا لها ولا يرون غيرهم أَهلا لها إِذا
فاتتهم ونالها الغير، فعلى هذه الأَصناف من الناس الذين كرنا وفي
الأَشياءِ التي ذكرنا يأَسف وينافس المنافسون. وهذا الصنف الذي ذكرنا هم
المنافسون من الناس. ولذلك مالا يكون المقتنعون من الناس والذين يرون أَن
عندهم حيلة في استجلاب الخيرات منافسين، لأَن المقتنعين ليس يرون أَن
هاهنا أَشياءُ هم أَولى بها من غيرها. وإِن رأَى ذلك أَصحاب الحيلة، فليس
يرون أَنها تفوتهم.
قال: وهو معلوم مما قيل في هذا الباب وفي الذي قبله من أَي الأَشياء إِذا
وقعت يستحي الإِنسان الإِنسان ويخزى جدا إِذا هو لم يفرح بما يوجب الفرح
منها ولم يغتم بما يوجب الغم منها. ومن هذه الأَشياء التي ذكرت يمكن أَن
يستمال الحاكم إِلى النفاسة على الخصم أَو الرحمة له أَو الاهتمام به.
وذلك أَنه إِذا كان هاهنا ناس يستأهلون الخير وأَنهم قد ظفروا وأَنجحوا،
أَو كان هاهنا ناس غير مستأهلين فلم يظفروا ولم ينجحوا، فليس ينبغي أَن
يجزع عليهم بل يفرح بذلك. وبالعكس. أَعني إِن هاهنا ناس يستأهلون الخير
فلم يظفروا، فقد ينبغي أَن يشفق عليهم وأَن يهتم بهم.
القول في الحسد
قال: وهو معلوم مَنْ الناس الذين يَحسدون، وفيما يكون الحسد ومَن
الناس الذين يُحسدون، إِذا وضعنا أَن الحسد هو حزن يعرض للمرءِ من أَجل
نجح الغير وسعادته، وذلك إِذا وجدت له من الخيرات مثل الخيرات التي ذكرنا
في باب النفاسة وجودها لأَناس يستأَهلونها وتليق بهم. وكان ذلك الحزن من
الحاسد ليس لأَنه يهوى أَن يكون له ذلك الخير فقط، أَو يزول عن المحسود
ويكون له، بل لأَن يزول فقط عن المحسود. وإِذا كان الحسد هو هذا، فهو ين
أَن الحاسد إِنما يحسد الصنف من الناس الذين هم أَشباهه وأَمثاله أَو يظن
بهم أَنهم أَشباهه وأَمثاله. وأَعني بالأَشباه المضارعين للمرء في الجنس
وفي النسب وفي القنية وفي الحمد وفي المال. فهؤلاءِ هم المحسودون. وأَما
الحساد فمنهم الناس الذين شافهوا الكمال في الخيرات التي يحسد عليها إِلا
أَنهم لم يكملوا في ذلك ولا نالوا كل الخيرات ولا فاتهم جميعها بل يسير
منها. ولذلك مالا يوجد فاعلو الأَفعال العظيمة، أَعني ذوي الأَقدار
العظيمة والسعداء المنجحين في الأَشياءِ الإِنجاح التام، حسادا لأَنهم
يرون أَنه لم يفتهم شيء وأَن كل شيءٍ لهم. وكذلك الصنف من الناس الذين
يشرفون بشيءٍ من الأَشياءِ ويكرمون بسببه، ولا سيما بالحكمة وصلاح الحال.
ومحبو الكرامة أَشد حسدا من الذين لا يحبون الكرامة. والذين هم حكماءُ
محبون أَن يكرموا بالكرامات التي يكرم بها الحكماءُ، ولذلك يَحسدون الذين
يكرمون بهذه الكرامات. وبالجملة: إِن كل من يحب أَن يحمد على شيءٍ من
الأَشياءِ فإِنه يَحسد غيره في ذلك الشيءِ بعينه. فلذلك الذين يحبون أَن
يكرموا على شيءٍ ما يحسدون على ذلك الشيءِ بعينه.
قال: والناس الصغار النفوس هم أَيضا حساد لأَن كل شيءٍ عظم عندهم يحسدون
عليه، وإِن كان في نفسه صغيرا، حتى إِنهم قد يحسدون على كثير من الشرور
الواقعة بالناس.
فهؤلاءِ هم أَصناف الحساد من الناس.
وأَما فيما يحسدون: فقد يحسدون في الرغبة في الحمد أَو في التشوف إِليه
وفي الجلالة والنباهة بالمال والعبيد. وبالجملة في وجوه السعادات والنجح
كائنا ما كانت وفي كل شيء حسد ولا سيما في الأُمور التي يشتهونها أَو
يظنون أَنه يجب أَن تكون لهم. ومن الحساد الذين هم أَرجح من الإِنسان في
المال قليلا أَو أَنقص منه قليلا.
قال: وهو معلوم أَيضا كما قلنا مَن يحسدون. فقد قلنا إِنهم يحسدون الذين
هم قريب منهم في الزمان، والمكان، والحمد والمجد؛ ومن هنا قيل: إِن
المضارعة بين الناس قد تُحْسِنُ الحسد. والحسد إِنما يكون في الصنف من
الناس الذين لهم عند الإِنسان قدر ما قريب منه، وذلك إِذا كانوا في زمان
واحد أَو قريب، أَو في مكان واحد أَو قريب. ولذلك لا يحسد الشيخ الصبي،
ولا يحد الذين يأتون بعد في الزمان، ولا الذين غبروا. وهلكوا وبخاصة منذ
سنين كثيرة. وكذلك لا يحسد البعداءُ في المكان من الخيار. فإِن خيار
اليونانيين مثلا لا يحسدون الخيار الذين يكونون بأَصنام هرقل من جزيرة
الأَندلس التي هي بلادنا. وكذلك لا يحسد الإِنسان الذين هم أَنقص منه
بكثير، ولا الذين هم أَكمل منه بكثير، وإِنما يحسد من بينه وبينهم مشاركة،
وذلك كالمتنازعين في شيءٍ واحد والمحبين لشيءٍ واحد. وبالجملة: كل
إِنسانين يشتهيان شيئا واحدا، فكل واحد منهما يحب أَلا يكون لصاحبه وأَن
يتوحد به وينفرد. ولذلك كان الحسد أَحرى أَن يكون لهؤلاءِ، وذلك كالفاخر
والمفاخر، فإِن هؤلاءِ يشتهون شيئا واحدا، وكل واحد منهما يحب أَن ينفرد
به. وإِنما يحسد الفاخر للمفاخر في الأَشياءِ التي إِذا اقتناها كان بها
شبيها له. والحزن بهذه الأَشياء أَولا والأَسف عليها إِذا تمكن من النفس
حدث عنه الحسد للذين توجد لهم هذه الخيرات، أَو هي مزمعة أَن توجد لهم،
أَعني في المستقبل، أَو قد وجدت، أَعني فيما سلف. ولذلك قد تدخل الأَشياءُ
التي قيلت في باب الأَسف والنفاسة في باب الحسد، لأَن الأَسف إِذا تمكن من
النفس عاد حسدا.
قال: ومن كان من الغلمان أَكب رسنا فهو يحسد من هو أَصغر منه، إِذا نال
الأَصغر خيرا لم ينله الأَكبر، أَو نال خيرا مثله. وكذلك يحسد من ينال
الشيء بتدبير أَكثر لمن يناله بتدبير أَقل. وكذلك الذين أَدركوا بجهد
وإِبطاء ونصب يحسدون الذين أَدركوا بسهولة وسرعة.
القول في الغبطة
قال: وهو معلوم أَيضا فيما يغبط الغابطون ولمن يغبطون وبأَي
أَحوال يكون الغابطون إِذ كانت الأَشياءُ التي عليها يغبط هي ضد الأَشياء
التي بها يحزن وعليها يحسد وكان قد تقدمت لنا معرفة هذه الأَشياء، وكذلك
الذي يَغْبِط هو ضد الذي يحسِد، والذي يُغبَط ضد الذي يحسد. ولذلك إِن كان
الحسد هو اغتمام بخير يناله من يستحقه، فالغبطة هي فرح بخير يناله من
يستحقه.
قال: وهو معلوم لنا من هذه الأَشياء كيف يتهيأ لنا أَن نستميل الحكام بأَن
نصيرهم بأَحد الانفعالات التي توجب عندهم أَن ينال أَحد المتحاكمين منهم
خيرا والآخر شرا، مثل أَن يصير الحاكم ذا إِشفاق على أَحدهما وذا حسد
للآخر.
القول في الأَسى والأَسف
قال: وأَما بأَية حال يوجد الأَسفون وفيما يأسفون وعلى من يأسفون فمعلوم
أَيضا إِذا وضعنا أَن الأَسى والأَسف هو حزن ما يرى في الوجوه لفقد خيرات
شريفة يهواها المرءُ لنفسه أَو لمن هو بسببه، وذلك إِذا كانت من الخيرات
الممكنة، وكان ذلك الإِنسان بحسب طبعه أَو جنسه أَو سلفه ممن يستأهل ذلك
الخير من غير أَن يهوى أَلا تكون تلك الخيرات لغيره، وإِنما يهوى أَن تكون
له ويحزن من أَجل أَن لم تكن له. وإِذا كان الأَمر هكذا، فبيّن أَن الأَسف
والأَسى خير، وأَنه لا يكون إِلا للخيار، وأَن الحسد شر وخسران، وأَنه لا
يكون إِلا للشرار. وذلك لأَن الأَسى يصير المرءُ بحيث يصير مستعدا لأَن
ينال الخيرات ويستأهلها، لأَن هذا الانفعال لا يعرض إِلا لمن يرى نفسه
مستعدا للخيرات وأَهلا لها، فيكون ذلك سببا لاقتناءِ الفضائل.
وأَما الحسد فإِنه يصير المرء بحيث يكون مهيأ لأَن لا ينيل أَحداً خيراً.
قال: والذين يأسفون هم الذين يروْن أَنفسهم أَهلا لخيرات ليست لهم، لأَنه
ليس أَحد يكترث بالأُمور التي هي يسيرة الخير، أَو بالأُمور التي هي
مذمومة، ولا بالأُمور التي لا يرى نفسه أَهلا لها. ولذلك ما يوجد بهذه
الحال الأَحداث والكبيرة نفوسهم والذين تكون لهم الخيرات التي يستحقها جلة
الرجال والخيار، كاليسار وكثرة الإِخوان، يأسفون أَيضا على ما فاتهم من
هذه الخيرات. وذلك أَن من كان له يسار يأسف على ما فاته من الرياسة، ومن
كانت له رياسة دون يسار يأسف أَيضا على ما فاته من اليسار. وقد يأسف
هؤلاءِ على ما فاتهم من الزيادة والكثرة في هذه الخيرات مما يوجد لغيرهم.
وإِنما كان هؤلاءِ يعتريهم هذا الانفعال، لأَنه يخيل لهم في أَنفسهم أَنهم
خيار أَو قريب من أَن يكونوا خياراً، إِذ كان يوجد لهم الشيءُ الذي
يستأهله الخيار. مثال ذلك أَنه إِذا حاز الرياسة واليسار أَحد ظن أَنه
خيّر. إِذ كان هذان إِنما يستأهلهما الأَخيار. وإِذا ظن ذلك أَصابه الأَسف
على ما فاته من ذلك.
قال: والصنف من الناس الذين يكون آباؤهم الأَولون وأَقاربهم مكرمين قد
يعتريهم كثيرا هذا الانفعال عند أَمثال هذه الخيرات، لأَنهم يرون أَنها
أَهلية وأَنهم لها مستحقون. وإِذا كانت الأُمور التي فيها يكون الأَسى
والأَسف أُمورا مكرمة، أَعني شريفة عظيمة. فواجب أَن تكون إِما فضائل
نفسانية أَو أُمورا فاضلة، أَعني خيرات بدنية أَو خيرات من خارج، وذلك مثل
جميع الأَشياء التي فيها للغير إِما منفعة وإِما حُسن وجمال وإِما لذة.
ولذلك قد يكرم الناس أَهل هذه الأَصناف الثلاثة، أَعني المحسنين إِليهم
وهم أَهل المنفعة، والخيار وهم أَهل الجميل والفعل الحسن، والصنف من الناس
الذين فيهم مستمتع، وهم الملذون، وسواء كان الإِحسان منهم والاستمتاع بهم
لنفوسهم أَو لمن يتصل بهم. ولكون الأَشياء التي يتأَسف عليها هي الأَشياءُ
التي فيها للغير خير ما إِما جميل وإِما نافع وإِما لذيذ، كان الأَسف في
اليسار والجمال أَحرى منه في الصحة.
قال: وهو معلوم أَيضا من الحد مَن الناس الذين يأسى المرءُ ويأسف
على أَلا يكون له حالهم. وذلك أَن الأَسى إِنما يكون على أَحوال الناس
الذين توجد لهم الأُمور المكرمة التي ذكرناها مثل الجمال واليسار والشجاعة
والحكمة والرياسة. وإِنما صارت الرياسة من الأُمور التي يأسف الناس على
فقدها لأَن أَهل الرياسات يقدرون على الإِحسان إِلى أَكثر الناس، ومن
أَعظم أَفعالهم التي يفعلون بها ذلك قود الجيوش والخطابة إِلى غير ذلك من
ملكات الرياسات وأَحوالها التي يفعلون بها الإِحسان إِلى الناس. وكذلك كل
من ينحو نحو الرؤساءِ ممن له ملكة رياسية أَو حالة رئيسية يصدر منها
إِحسان إِلى الغير.
ومن الناس الذين يأسى المرءُ على أَلا يكون مثلهم الذين يود كثير من الناس
أَن يكون مثلهم، وأَن يكونوا من معارفه. ومن هؤلاءِ أَيضا الذين يتعجب
منهم كثير من الناس. ومن هذا الصنف الذين ينطق بالثناءِ عليهم الشعراء
والخطباء ومخلدو الكتب، أَعني المؤرخين. فإِن هؤلاءِ الثلاثة الأَصناف هم
الذين ينطقون بالمدح والثناء. والصنف أَيضا من الناس الذين لا يكترثون
بالخيرات التي فيها غيرهم، ولا يلأسفون عليها لأَن عندهم: إِما جميع
الخيرات التي يؤسف على فقدها، وإِما أَعظم الخيرات وأَجلها قدراً، فقد
يأسف المرءُ أَلا يكون في مثل أَحوال هؤلاءِ؛ لأَن الاكتراث ضد الأَسف،
والذي لا يكترث ضد الذي يأسف. والذين يأسفون هم الناس الذين تكون لهم
الشرور المضادة للخيرات التي يكون عنها الأَسف. ومن هنا يبين عدم الاكتراث
الذي هو ضد الأَسف، ومَن الذي لا يكترث له. فإِنه لا يكترث أَحد بأَحوال
الناس الأَسفين. ومن الناس الذين لا يكترث بهم ذوو الجَد، أَعني السعداء،
إِذا كان لهم الجَد خلواً من الفضائل التي تستحق الخير الذي نالهم
بالاتفاق، فإِن الناس يستخفون بأَمثال هؤلاءِ ولا يكترثون بأَحوالهم.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
القول في الخلقيات
قال: أَما الأَحوال التي إِذا وجدت في الناس اعترتهم الانفعالات بها وهي
التي يكون المرءُ بها مستعدا وهي التي يتوطَّأُ بها لقبول الانفعال
والأَشياءُ التي يكون عنها الانفعال أَو زوال الانفعال والسلو عنه وهي
التي منها تعمل المقاييس الانفعالية فقد قيل في ذلك في هذه المقالة.
وأَما الأَشياءُ التي تعمل منها الأَقاويل التصديقية في جنس جنس من
الأَجناس الثلاثة، أَعني المشورية والمنافرية والمشاجرية، فقد قيل فيها في
المقالة الأُولى.
وقد بقي أَن نقول هاهنا في الأَحوال التي يتبعها خلق خلق من الأَخلاق.
فإِن بمعرفة أَي خلق يتبع أَي حال يمكننا أَن نحرك الذي نخاطبه إِلى أَن
يتخلق بذلك الخلق، وذلك إِذا أَوهمناه وجود تلك الحال فيه أَو كانت موجودة
مثال ذلك أَن كبر النفس يتبعه السخاء. فإِذا أَثبتنا عند إِنسان ما أَنه
كبير النفس حركناه إِلى السخاءِ بأَن نؤلف له القول هكذا: إِنه كبير
النفس، والكبير النفس يجب أَن يكون سخيا، فإِنه واجب أَن يكون سخيا. وكذلك
ما أَشبه هذا.
قال: وهذه الأَحوال وهي التي المقصود منها تعديدها وأَي خلق يتبع واحدا
واحدا منها هي خمسة: أَحدها: الانفعالات. والثاني: الهمم. والثالث:
الأَسنان. والرابع: الجدود. والخامس: الأَنفس.
وأَعني بالانفعالات مثل الغضب والرحمة، فإِن هذه يتبعها خلق خاص، وبالهمم
الأَشياء التي يختارها كل صنف ويؤثرها في حياته سواء كانت صناعة أَو فضيلة
أَو لذة ينهمل فيها. فإِن الأَخلاق أَيضا تختلف باختلاف هذه. وأَعني
بالأَسنان سن الشباب وسن الإِكتهال وسن الشيخوخة، وذلك أَن لهذه الأَسنان
أَخلاقا خاصة بها. وأَعني بالجدود الأَشياء التي تحصل للإِنسان في بدنه
ومن خارج بدنه بالاتفاق وذلك مثل الحسب واليسار الشاذ والجَلَد المفرط،
وأَعني بالنفوس الفطر المتباينة التي فطر عليها الناس والعادات المختلفة.
القول في أَخلاق الشباب
قال: فإِما الأَحداث وهم الذين جاوزوا اسبوعين من سنهم إِلى نحو
الثلاثة الأَسابيع فمن أَخلاقهم أَنهم يشتهون كل شيء، وهم مسارعون جموحون
إِلى ركوب ما يشتهونه، وأَغلب الشهوات عليهم الشهوات البدنية المنسوبة
إِلى الزهرة. وهم مع ذلك سريع تغيرهم وتقلبهم يشتهون الشيءَ سريعا ويملونه
سريعا. والسبب في اشتهائهم كل شيء أَن آراءَهم مضطربة لم تستقر بعد كل شيء
من المؤثرات في هذه الحياة الدنيا. وليست آراؤهم وهي التي تكون عن بصيرة
ونظر. ومثال ما يصيبهم من شدة الشهوة مع سرعة زوالها مثل العطش الذي يصيب
المرضى فإِنه عطش سريع الزوال إِلا أَنه شديد جدا. وهم مع ذلك سريعو الغضب
منقادون له تقهرهم حدته وسورته، لأَنهم من أَجل حبهم للكرامة لا يصبرون
إِذا استخف بهم مستخف لكن يمتعضون إِذا ظنوا أَنهم يعابون. وهم محبون
للكرامة وأَشد من ذلك للغلبة، وذلك أَن الحداثة تشتاق الفخامة؛ والغلبة
شيء من الفخامة. وهم للكرامة والغلبة أَشد حبا منهم للمال. وإِنما لا
يحبون المال لأَنهم لم يجربوا الفاقة. وهم يصدقون بالقول سريعا لأَنهم لم
ينخدعوا كثيرا. وهم حسنٌ ظنهم، فسيحٌ أَملهم لحرارة طباعهم كالذي يعرض لمن
يشرب الخمر لمكان الحرارة العارضة له عن شربها. ثم لا يخورون ولا ينكلون،
بل يحملون المشقة فيما يهوونه وذلك لقوة حرارتهم. وهم أَكثر ذلك يعيشون
بالأَمل، لأَن الأَمل إِنما هو للزمان المستقبل، والذكر للماضي. والمستقبل
موجود للغلمان أَكثر من الماضي لأَنه في أَول وجودهم، ولذلك يأمنون كثيرا
ولا يذكرون. وهم يسيرٌ اختداعهم واغترارهم وذلك أَن من شأنهم التصديق من
غير دليل أَو بدليل ضعيف. وإِذا غولطوا بالدليل سهلت مغالطتهم. وهم مع
أَنهم من ذوي التأميل شجعان، وذلك أَن الشجعان غضوبون حسنٌ أَملهم. فأَما
حسن الأَمل فيحدث لهم أَلا يجزعوا، وذلك أَن قوة الرجاءِ في الظفر تشجعهم،
وأَحد ما يشجع هو تأميل الخير، وأَما الغضب فيحدث لهم شدة القلب، لأَنه
ليس من أَحد يخاف فيغضب. ومن خلقهم أَن الحياءَ يغلب عليهم لأَنهم لم
يصيروا بعد إِلى أَن يميزوا بين الأَشياءِ التي يجب أَن يستحى منها وبين
التي لا يستحى منها. فهم لاتهامهم أَنفسهم في كل شيء يستحيون من كل شيء
خوفا من أَن يكونوا قد اخطأْوا. وهم يتمسكون بالسنن جدا ويراقبونها،
والسبب في ذلك أَنهم لم يعملوا النظر فيها حتى يتبين لهم ما هو منها عدل
مما ليس بعدل. وهم كبراء الأَنفس. ويظنون أَنهم لا يفتقرون أَبدا، والسبب
في ذلك أَنهم لم يجربوا الضراءَ والضرورة. ويتشوقون أَبداً من أَفعال
كبراءِ النفوس العظائم منها، وذلك من طريق اتساع أَملهم.
ومن أَخلاقهم أَنهم يؤثرون الجميل أَشد من إِيثارهم النافع. وإِنما يؤثرون
من النافع ما كان جميلا. وإِنما كانوا لا يؤثرون النافع لقلة تفكرهم في
العواقب، وإِيثارهم للجميل من أَجل إِيثارهم للفضائل، وإِيثارهم للفضائل
من أَجل إِيثارهم للمدح والذم. وهم محبون لأَصحابهم أَكثر من سائر الناس،
لأَن من تمام اللذة والسرور - إِذا وُجدا - الصحبة ومشاركة الإِخوان. وهم
لا يطلبون النافع في شيء من الأَشياء ولا في الأَصدقاءِ. وخطؤهم في
الأَشياءِ كثير، وأَكثر ما يكون في الأَشياءِ النافعة التي يؤثرها
المشايخ. وأَفعالهم غير محدودة ولا مقدرة، فيحبون جدا ويغضبون جدا،
وبالجملة فيفرطون في كل شيء وذلك لسوءِ تمييزهم العواقب. فإِن الأَفعال
إِنما تكون مقدرة بتمييز العواقب. ويظنون أَنهم يعلمون كل شيء وذلك بسبب
إِغراقهم في كل شيء. ويركبون الظلم مجاهرة والأَشياء التي فيها العيب
والفضيحة، وهذا أَيضا لجسارتهم وإِفراطهم في الأَشياءِ. وهم رحماءُ لأضنهم
يظنون بالناس جميعا أَنهم خيار صلحاءُ. وهم لقلة شرهم يبغضون أَهل الشر
لأَنهم يظنون أَن أَهل الشر يفعلون ما لا ينبغي. وهم محبون للهزل و المزح.
وانصرافهم عن الشيءِ سريع، لأَن سرعة الانصراف من ضعف الروية. فهذه هي
أَخلاق الغلمان.
في أَخلاق المشايخ
وأَما الشيوخ الذين تجاوزوا سن الكهولة فهم على كثير من أَضداد
أَخلاق الشباب، أَعني الأَخلاق السخيفة والشكسة. وأَعني بالسخيفة المنسوبة
إِلى الضعف من محبة الهزل والمزاح وتشوق الشهوات البدنية والرحمة للناس
والانخداع؛ وأَعني بالشكاسة الأَخلاق المنسوبة إِلى القوة مثل سرعة الغضب
والجرأَة ومحبة الكرامة والغلبة وامتداد الأَمل وكبر النفس وركوب الظلم
وسائر هذا النوع. وإِنما كان الشيوخ على ضد هذه الأَخلاق، لأَنهم عاشوا
دهرا طويلا فقصر أَملهم، واختدعوا كثيرا وأَخطأُوا كثيرا، فساء ظنهم
بالناس لوقوعهم على أَسباب الخدع والخطأ بالتجارب. وأَكثر الأَفعال
الواقعة بهم كانت كلها شروراً أَو مفضية إِلى الشر. ومن أَخلاقهم أَنهم لا
يشكون في الشيءِ فيما بينهم وبين أَنفسهم ولا يتعجبون من شيء ورد عليهم
ولا يستعظمونه، لأَنه قد تكرر عليهم. وهم مع أَنهم قد جربوا كل شيء كأَنهم
لا يعرفون شيئا. ولا يكترثون بالحمد والذم، لأَن قصدهم الحقائق، مع أَنهم
لا يستطيعون شيئا. ومن شيمهم أَنهم لا يحزمون على شيء أَلبتة ولا يقطعون
عليه بل يقرنون بكلامهم أَبداً (عسى) و( لعل)، وذلك لكثرة خطأهم ولكثرة ما
جربوا من إِخفاق آمالهم. وهم سيئة أَخلاقهم لسوء ظنهم بكل شيء. وسوء ظنهم
لقلة تصديقهم؛ وقلة تصديقهم لكثرة تجاربهم. ومن شيمهم أَنهم لا يحبون جدا
ولا يبغضون جدا ولا يظهرون ذلك إِلا بالكُره وعند الاضطرار، أَعني الحب
والبغض. والحبيب والبغيض عندهم كأَنه في صورة واحدة لدهائهم، وذلك للأُمور
التي قيلت من أَنهم عاشوا دهرا طويلا واختدعوا كثيرا وأَخطأُوا كثيرا
وأَشباه ذلك. وهم صغيرةٌ أَنفسهم متهاونون بالأَشياءِ العظام لا يشتاقون
إِلى شيء سوى ما فيه المعاش. وهم غير ذوي منحة وتكرم، لأَن متاع الدنيا من
الأَشياءِ التي بهم إِليها ضرورة، وأَعني بمتاع الدنيا الأَشياء الضرورية
في هذه الحياة. وإِنما صار لهم ذلك لكثرة التجربة. وأَيضا فإِنهم يرون أَن
الاقتناءَ عسير والتلف يسير، فهم لهذين الشيئين بخلاء، أَعني لوقوفهم
بالتجربة على أَن الأَشياء النافعة في هذه الحياة بهم ضرورة إِليها،
وبخاصة لضعف أَبدانهم، ولوقوفهم بها على أَن الاقتناءَ عسير، وبخاصة في سن
الشيخوخة، وأَن التلف يسير. وهم يسبقون، فيخبرون بما هو كائن لمعرفتهم
بالعواقب. ولهذا كانوا جبناء وهم في هذا على خلاف ما عليه الأَحداث لأَنهم
ذوو برودة في أَمزجتهم وفتور، والفتيان ذوو حرارة وتوقد. والشيخوخة تؤدي
إِلى الجبن لأَن الخوف والجبن تابع للبرد. وهم محبون للحياة لا سيما عند
آخر أَعمارهم. وحبهم للحياة ليس هو ليتمتعوا من الشهوات فيها، بل لأَن
يحيوها فقط، لأَن أَسباب الشهوات قد عدموها، اللهم إِلا شهوة الطعام من
بين شهوات سائر الحواس فإِنها توجد فيهم كثيرة. لأَن الطعام ضروري لهم،
فيجتمع لهم مع اللذة به الضرورة. وهم محبون لأَخيار الملوك وعدول السلاطين
لصغر أَنفسهم الذي السببُ فيه ضعفُ نفوسهم. وعشرتهم للناس وقصدهم إِنما هو
نحو النافع لا نحو الحسن، لأَنهم محبون لأَنفسهم. والنافع هو الشيءُ الذي
هو خير للمرءِ في نفسه؛ والحسن هو ما هو خير للغير. وهم قليلٌ حياؤهم.
وإِنما كان ذلك كذلك، لأَن إِيثارهم للنافع هو أَكثر من إِيثارهم للجميل.
والحياءُ إِنما يكون مخافة فوت الجميل. وتأميلهم يسير لكثرة تجاربهم أَن
أَكثر الأَشياء يؤول إِما إِلى الشر، وإِما إِلى ما شره أَكثر من خيره،
وإِما لما خيره مساوٍ لشره. وكل هذه الثلاثة الأَقسام غير متشوقة.
والأَشياءُ التي هي خير محض، أَو الخير فيها أَغلب، قليلة الوجود، ويحتاج
- في ترقب وجودها - إِلى زمان طويل، والذي بقي من أَعمار الشيوخ يسير.
وأَكثر عيشهم ولذتهم إِنما هو بالذكر لا بالأَمل، بضد ما عليه الأَمر في
الشباب. وذلك أَن الذكر إِنما يكون لما مضى. والشيوخ فقد ذهب أَكثر
أَعمارهم. ولهذا تكون منهم جودة التكهن والحدس على ما يكون. وغضبهم سريع
حديد لقلة احتمالهم، لكنه ضعيف، لضعف حرارتهم. وشهواتهم منها ما قد انقطع،
ومنها ما قد ضعف، فليسوا متحركين نحو الشهوات، لكن نحو النافع. فلذلك قد
يظن بهم العفة لانقطاع شهواتهم، وإِنما هم أَعفاء باشتراك الاسم. ويقلقون
من طلب الأَفضل وإِنما وُكْدهم الضروري. وأَكثر إِشارتهم بالأَشياءِ التي
تحصل الفضيلة
والخلقق الجميل، لا بالأَشياءِ التي تعود على المشار إِليه
بالنافع. ومن خلقهم الظلم، لكن بالمكر والخديعة، لا بركوب الفضائح
والاستهتار كالحال في الشباب. وهم رحماء لكنّ رحمتهم من أَجل ضعفهم وتخيل
سهولة نزول الشر بهم الذي أَشفقوا منه، لا من أَجل حبهم للناس كالحال في
رحمة الشباب. وهم صابرون على الآلام، غير سريع تقلبهم، لأَن الصبر ضد
الهزل الذي هو من أَخلاق الفتيان، ومن أَحب الهزل فليس يحب الجد
والصبر.لجميل، لا بالأَشياءِ التي تعود على المشار إِليه بالنافع. ومن
خلقهم الظلم، لكن بالمكر والخديعة، لا بركوب الفضائح والاستهتار كالحال في
الشباب. وهم رحماء لكنّ رحمتهم من أَجل ضعفهم وتخيل سهولة نزول الشر بهم
الذي أَشفقوا منه، لا من أَجل حبهم للناس كالحال في رحمة الشباب. وهم
صابرون على الآلام، غير سريع تقلبهم، لأَن الصبر ضد الهزل الذي هو من
أَخلاق الفتيان، ومن أَحب الهزل فليس يحب الجد والصبر.
فهذا هو القول في أَخلاق الشباب والمشايخ.
القول في سن الكهول
قال: وأَما الذين هم في عنفوان العمر، وهم الكهول، فمعلوم أَن أَخلاقهم
وسط بين هذه الأَخلاق، وأَنهم مجانبون لإِفراط الطرفين. ولذلك هم أَعدل،
فليسوا بمتهورين ولا جبناء، ولكن مقدمين على ما ينبغي في الوقت الذي
ينبغي، وبمقدار ما ينبغي، ولا يصدقون بكل شيء، ولا يكذبون بكل شيء، لكن
يتصورون الأُمور على كنهها، ويصدقون بها التصديق التابع لطباعها. وليس
عيشهم ولا طلبهم موجه نحو الحسن فقط، ولا نحو النافع فقط، لكن نحو
الأَمرين جميعا. ولا هم أَيضا أَهل جد محض، ولا مجون محض، لكن بين ذلك.
وكذلك هم في الشهوة والشجاعة، أَعني أَنهم أَعفاء مع شجاعة. والغلمان
شجعان شهوانيون والشيوخ جبناء أَعفاء. وجملة القول إِنه قد يحصل لهم
الجزءُ النافع من خلق خلق، دون الجزء الضار الموجود في الأَطراف المذمومة
الحاصل للشيوخ وللشباب بالطبع. وذلك القدر هو المتوسط. وعلى حسب زيادة
أَحد الطرفين في خلق الكهل على الآخر يكون ميله إِلى الشر أَو إِلى الخير،
أَعني إِلى الطرف المذموم أَو المحمود. وذلك أَيضا يختلف بحسب الذي يستعمل
معه الخلق، قرب حالة تكون زيادة الشجاعة فيها وقربها من التهور آثر من
توسط الأَمر في ذلك في حالة أُخرى. فقد يزاد في الشر إِذا احتيج إِلى
استعماله مع قوم ما، ويزاد في الخير إِذا احتيج إِلى استعماله مع قوم
آخرين.
وسن الكهولة هو من خمس وثلاثين إِلى خمسين سنة.
فهذا هو القول في خُلق الأَحداث والشيوخ والكهول.
فصل
ولما كان الكلام الخطبي إِنما يكون أَتم فعلا وأَكثر إِقناعا إِذا رأى
المخاطب به أَنه لم يبق فيه موضع فحص ولا تأَمل ولا معارضة إِلا وقد أَتى
بها فتزيفت، كان واجبا أَن يكون هنالك فاحص عن القول، ومعارض له غير
المتكلم، وهذا إِنما يتم بمناظر وحاكم. أَما فعل المناظر فهو التشكيك على
القول المقنع والإِبطال له. وأَما فعل الحاكم فتمييز حجة كل واحد من
الفريقين، أَعني المتكلم والمناظر، على مثال ما يوجد الأَمر في الخصومات
في المدن. لكن إِذا أُريد أَن يكون القول تام الإِقناع، فواجب أَن يوضع
حاكم ومناظر في جميع أَجناس الأَقاويل الخطبية، أَعني المشاورية
والمشاجرية والمنافرية.
والفرق بين الحاكم والمناظر أَن الحاكم هو أَعلى من المناظر، ولذلك لا
يكلف بالدليل على ما حكم به. وأَما المناظر فهو مساوٍ للمتكلم ولذلك لا
يكتفى منه برد القول دون أَن يأتى على ذلك بدليل. وربما اكتفى في بعض
المدن في الأَقاويل الخصومية بقول الحاكم دون قول المتكلم والمناظر، على
ما عليه الأَمر في ملة الإِسلام، فإِنهم إِنما يستعملون في الخصومات قول
الحاكم مع الأَشياءِ التي من خارج مثل الشهادات والأَيمان.
والفرق بين الشاهد والحاكم أَن الشاهد يشهد بصدق النتيجة، والحاكم يشهد
بصدق القياس المنتج لها، والمناظر يناظر على إِبطالهما. وأَكثر الأَقاويل
الخلقية والانفعالية إِنما يستعمل مع الحكام.
فصل
فأَما الخلق الذي يخص سياسة سياسة من السياسات الأَربع التي عددت
فيما سلف فقد ذكرت في باب المشوريات. وينبغي أَن تكون عندنا هاهنا معدة
لنستعملها في الأَقاويل الخلقية. فإِن هنالك إِنما ذكرت لتعمل منها
الضمائر في الأُمور الثلاثة. وإِذ قد تقرر هذا وكان قد تبينت الأَشياءُ
التي منها تعمل الضمائر والتصديقات في الأُمور الثلاثة، أَعني المشاورية
والمنافرية والمشاجرية، فالأَشياءُ التي منها تعمل الأَقاويل الخلقية
والانفعالية، فقد ينبغي أَن نصير إِلى تبيين المقدمات المشتركة التي في
الأَجناس الثلاثة أَعني في المشاورية والمنافرية والمشاجرية. والأُمور
المشتركة التي يطلب تثبيتها في الأَجناس الثلاثة بالمقدمات المشتركة
أَرْبعة أَصناف: الأَول: هل الأَمر ممكن أَو غير ممكن.
والثاني: هل الأَمر مما سيكون ولا بد أَو لا يكون. والفرق بين هذا والممكن
أَن المقدمات المستعملة في الممكن إِنما تستعمل بلفظ الممكن وعلى أَنه ليس
لأَحد الممكنين فضل على الآخر في الوجود. وأَما المقدمات المستعملة في أَن
الشيءَ كائن في المستقبل فإِنما نستعملها في صورة ما هو كائن لا محالة،
وإِن كنا لا نتيقن ذلك، لكن إِنما نستعملها في هذه الصناعة بهذه الجهة.
والثالث: هل الأَمر قد كان في الماضي أَو لم يكن. وما يستعمل من هذا في
هذه الصناعة فإِنما يستعمل في صورة ما قد علم كونه بالتجربة والحس، وإِن
كنا لا نتحقق ذلك.
والرابع: تعظيم الشيء وتصغيره وتفخيمه وتخسيسه، فإِن هذا أَمرٌ عام مستعمل
في الأَجناس الثلاثة. فإِنه إِذا أُشير بالشيءِ أَن يفعله عُظّم، وإِذا
أُشير بالترك صُغّر. وكذلك يفعلون إِذا مدحوا أَو ذموا أَو شكوا أَو
اعتذروا. فإِذا تم القول في هذه، قلنا بعد ذلك في مواد أَصناف الضمائر
وأَصناف المثال، وأَضفنا إِلى ذلك المواضع المشتركة للأَقاويل الخطبية
وغيرها، فإِنا نكون قد أَتينا على الغرض المقصود من هذه الصناعة. فإِنه
إِنما تكلم في المقالة الأُولى في الضمائر من جهة تأليفها لا من جهة
موادها. وهي من جهة تأليفها ممكن أَن تستعمل في الخطابة وغيرها. وإِنما هي
خاصة بالخطابة من جهة موادها.
فنقول: إِنه وإِن كانت هذه الأَربعة المطالب مشتركة للأَجناس الثلاثة،
فإِن بعضها أَخص ببعض وأَولى أَن تنسب إِلى بَعْضٍ. وذلك أَن التعظيم
والتصغير أَخص بالمنافرية التي هي المدح والذم، وأَن الذي قد كان أخص
بالخصومات وكذلك الذي يستعمل كالكائن؛ فإِن الحكومة إِنما تكون في أَمثال
هذه الأَشياء، وأَن الممكن والذي يتوقع كونه أَخص بالمشورية.
وإِذ قد تقرر هذا، فلنقل في المقدمات التي يقنع بها أَن الأَمر ممكن أَو
غير ممكن، ونعني بالممكن وغير الممكن هاهنا ما هو مقدور لنا ومستطاع عليه
مما هو غير مقدور ولا مستطاع عليه، لا الممكن الذي هو في طبائع الأُمور
ممكن، لكن الذي بحسب الإِرادة والاستطاعة. فمنها: إِن كان الشيءُ له ضد،
وكان ضده ممكنا أَن يكون أَو أَن يفعل، فإِن الشيءَ ممكن أَيضا أَن يفعل؛
مثل إِن كان الإِنسان يمكن أَن يصح، فقد يمكن أَيضا أَن يسقم. والعلة في
ذلك أَن القوة والإِمكان للمتضادين واحد.
ومقدمة ثانية: إِن كان الشبيه ممكنا، فالذي يشبهه أَيضا ممكن.
وثالثة: إِن كان الذي هو أَصعب ممكنا، فالذي هو أَيسر ممكن. وإِن كان
الأَمر الذي هو أَفضل وأَحسن ممكنا، فذلك الأَمر - إِذا قيل بإِطلاق -
ممكن، أَعني من غير هذا الشرط. فإِن إِجادة تكوين البيت أَصعب من تكوين
البيت فقط.
ورابعة: إِن كان الذي بدؤه ممكن، فآخره وتمامه ممكن. والإِقناع في هذا
الموضع أَن نقول: لما كان ما لا يمكن كونه مبدئه، فما يمكن كون مبدئه،
يمكن كونه. وقد بين اختلال هذا الموضع في الثانية من الجدل.
وخامسة: وهي ما كان تمامه ممكنا، فمبدؤه ممكن؛ وهو عكس ما قبله.
وسادسة: إِن كان المتأَخر في الطبيعة أَو في الكون - يعني الزمان
فقط - ممكنا، فالمتقدم أَيضا ممكن؛ مثال المتقدم بالطبع: إِن كان الإِنسان
يمكن أَن يكون كهلا، فقد يمكن أَن يكون غلاما. ومثال المتقدم بالزمان فقط
دون الطبع: الصحة الكائنة بعد المرض. فهذا الموضع ينقسم إِلى مقدمتين، ثم
قد تعكس كل واحدة من هاتين، فيحدث هاهنا أَربع مقدمات. فإِنه إِن كان
المتقدم في الطبيعة أَو في الزمان ممكنا فالمتأَخر أَيضا ممكن.
ومقدمة ثامنة: وهي أَن كل ما هو بالطبع محبوب ومشتهى، فهو ممكن أَن يكون
وأَن يفعل؛ فإِنه ليس يشتاق أَحد - إِذا كان شوقه على المجرى الطبيعي - ما
ليس بممكن.
وتاسعة: وهي أَن الأَشياءَ التي تحتوي عليها العلوم والصناعات ممكنة لنا،
أَعني أَن نعلم ما في العلوم وأَن نعمل ما في الصنائع.
وعاشرة:وهي أَن الأُمور التي بدأَ كونها فينا أَو بحكمنا مثل الأَشياء
التي نجبر عليها عبيدنا أَو نتشفع فيها إِلى أَصدقائنا فهي ممكنة؛ وذلك
أَن الذي في ملك الأَصدقاءِ ممكن، كما أَن الذي في ملكنا ممكن.
وحادية عشرة: وهو أَن الذي تكون أَجزاؤه ممكنة، فالكل ممكن.
وثانية عشرة: وهو إِن كان الكل ممكنا، فالأَجزاءُ ممكنة؛ مثال ذلك أَنه
إِن كان البرهان ممكنا، فمقدمات البرهان ممكنة وتأليفه ممكن.
وثالثة عشرة: وهي إِن كان النوع ممكنا، فالجنس ممكن؛ وعكسه وهو إِن كان
الجنس ممكنا، فالنوع ممكن؛ مثال ذلك إِن كان يمكن أَن تكون سفينة ذات
مجاديف كثيرة، فقد يمكن أَن تكون ذات مجاديف ثلاثة؛ وعكسه إِن أَمكن أَن
تكون ذات ثلاثة مجاديف، أَمكن أَن تكون ذات مجاديف كثيرة.
وخامسة عشرة: وهو إِن كان أَحد المضافين ممكنا، فالمضاف الآخر ممكن، كمثل
الضعف والنصف.
وسادسة عشرة: وهو إِن كان شيء ما يمكن أَن يكون لغير ذي صناعة فهو لذوي
الصناعة أَمكن، وذلك أَن هاهنا أَشياء توجد مرة بالعرض، ومرة بالذات، ومرة
بصناعة، ومرة بلا صناعة. فهذه متى كانت ممكنة بالعرض كان إِمكانها بالذات
أَحْرى. وكذلك يوجد الأَمر فيها إِذا وجدت بصناعة وبغير صناعة.
وسابعة عشرة: وهو إِن ما كان ممكنا للأَوضع والأَخس والأَحقر والأَقل
عناية فهو لأَضداد هؤلاءِ أَمكن، كما قال سقراط: إِنه لشديد علىّ أَن
أَعجز عما يفعله الجاهل؛ أَو كما يقال: إِنه لقبيح أَن يعجز أَرسطو عن
معرفة ما أَدكه زينُنْ.
وأَما المقدمات التي يوقف منها على أَن الشيءَ غير ممكن فمعلومة من أَضداد
هذه التي قيلت. مثال ذلك: أَن ما كان غير ممكن للذين هم أَشد عناية فهو
غير ممكن للذين عنايتهم قليلة؛ وأَن الكل إِذا كان غير ممكن، فالأَجزاء
غير ممكنة.
وأَمَّا المقدمات التي يوقف منها على أَن الأَمر كان أَو لم يكن
فيكاد أَن تكون واحدة بالموضوع، اثنتين بالجهة. فمنها: أَنه إِن كان الذي
هو أَقل تهيأ واستعدادا لأَن يكون قد كان، فالذي هو أَكثر تهيأ قد كان.
وموضع ثان: وهو إِن كان المقابل الذي قد جرت العادة أَن يتقدمه مقابله قد
كان، فإِن الآخر قد كان؛ مثال ذلك إِن كان الإِنسان نسي شيئا فقد كان
علمه، وإِن كان حنث، فقد كان حلف. وموضع ثالث: وهو إِن قدر وهوى أَن يفعل،
ولم يكن شيء من خارج يعوقه، فقد فعل. وقريب من هذا إِن كان قدر على شيء
وغضب، فقد كان. والموضع العام لهذين أَنه إِن كان قادرا على الشيءِ، وهو
متشوق له، فقد فعله. وإِنما كان عاما لأَن التشوق يعم الغضب والهوى.
وإِنما صار هذا الموضع مقنعا لأَن الناس أَكثر ذلك يفعلون ما يشتهون إِذا
قدروا، أَما الأَحداث فللنهامة، وأَما الخيار فلشهوتهم للخير. وإِذا كانت
أُمور قريبة الكون متوقعة، فهي كالموجودة وموضع رابع: وهو إِذا كان إِنسان
عادته أَن يوجد منه فعل ما كثيراً، فإِن ذلك الفعل قد كان منه. وموضع
خامس: وهو أَن ننظر إِذا أَردنا أَن نقنع في شيء ما أَنه قد كان هل تقدمته
أَشياء في طباعها أَن تكون قبل ذلك الشيء الذي أَردنا معرفة كونه، فإِن
كانت تلك الأَشياءُ قد تقدمت، حَدَسْنَا أَن ذلك الأَمر قد كان. وهذه
الأَشياءُ السابقة للشيءِ ربما كانت أَسبابا، وربما كانت علامات؛ مثل أَنه
إِن كانت السماءُ برقت، فقد رعدت. وإِن كان الإِنسان قد جرب شيئا ما لينظر
هل يتأَتى له فيه ذلك الفعل أَم لا، فقد كان منه ذلك الفعْل. وموضع سادس
عكس هذا وهو إِذا وجدت الأَشياءُ المتأَخرة عن الشيءِ، فقد وجد الشيء؛
مثال ذلك إِن كانت السماءُ رعدت، فقد برقت؛ وإِن كان فَعَلَ الآن، فقد
ابتدأَ فيما قبل يَفْعَل.
وهذه الأَشياءُ التي تتأَخر عنها أَشياء وتتقدم عليها أَشياء، منها ما هو
باضطرار، ومنها ما هو على الأَكثر. فمثل الاضطراري: إِن كان نسي، فقد علم؛
ومثال الأَكثري: إِن كانت السماءُ رعدت، فقد برقت.
فهذه هي المواضع التي يوقف منها على أَن الأَمر قد كان.
وأَما معرفة أَن الأَمر لم يكن فمن أَضداد هذه بعينها.
وأَما المقدمات التي يوقف منها على أَن الأَمر سيكون وأَنه متوقع كونه،
فهذه هي بأَعيانها. فأَول ذلك إَن كان الأَمر مقدورا عليه ومشتهى، فسيكون.
وأَعني بالمشتهى هاهنا إِما اللذات المحسوسات، وإِما الأَشياء التي يهواها
الإِنسان من غير أَن تكون أُموراً محسوسة، كالمال والكرامة. وكذلك إِن كان
الأَمر مقدوراً عليه مع الغضب أَوْ كان مقدوراً عليه ومختاراً بفكر وروية،
فهو ممكن. وكذلك الأَشياءُ اللازمة للأَفعال الإِرادية ما كان يلزم منها
باضطرار، وما كان لا يلزم باضطرار، فهي كلها معدودة فيما سيكون، إِذا كانت
الأَشياءُ المتقدمة لها. فمثال ما يلزم أَكثريا للفعل الإِرادي خروج السهم
التابع للرمي، ووقوع البصر على الشيءِ التابع لفتح الأَجفان. وأَيضا إِن
تقدمت أَشياء هي متهيئة أَن يكون عنها شيء، فذلك الشيء سيكون؛ مثل أَنه
إِن كانت السماءُ غامت فستمطر. وموضع آخر: إِن كان الشيءُ الذي هو من أَجل
غاية ما موجودا، فإِن الغاية ستوجد؛ ومثال ذلك إِن كان الأَساس قد كان،
فإِن البيت سيكون.
فأَما المواضع التي يوقف منها على الأَعظم والأَصغر والكثير والقليل
والأَفضل والأَخس فهي بأَعيانها التي عددت في باب الأَنفع والآثر في
المشوريات، إِذا جُعلت أَعم قليلا، وذلك بأَن يترقى من باب النافع إِلى
باب الخير. فإِن الخير جنس مشترك للغايات الثلاث من الأَجناس الثلاثة من
أَجناس الأَقاويل الخطبية، وذلك أَنه في المشورية النافع، وفي المنافرية
الحسن، وفي المشاجرية العدل. وبالجملة فمواضع المقايسة تستعمل خاصة وعامة
حتى يمكن أَن تؤخذ مشتركة لجميع المطالب على ما تبن فيه الأَمر في الثانية
من الجدل. إِلا أَن هاهنا إِنما ينتفع بالكليات إِذا طوبق بها الجزئيات،
واستعملت قوة الكُلي فيها، وذلك بأَن يحد كل واحد منهما ويوصف بما يخصه.
فإِن غاية هذه الصناعة إِنما هو التكلم في الجزئيات لا في الكليات، وفيها
تقع مخاطبة الجمهور بعضهم بعضا. وذلك أَنه قد يحتاج في مطابقة الكليات في
المواد إِلى ملكةٍ ودربة، وذلك أَحد ما يتفاضل فيه الخطباءُ.
فقد قيل في الممكن ولا ممكن، وفي أَن الأَمر كان أَو لم يكن، وفي
أَنه يكون أَو لا يكون، وفي التعظيم والتصغير.
وقد بقي علينا القول في الأُمور العامة للتصديقات كلها، وذلك مما لم يستوف
فيه القول في المقالة الأُولى، وأَعني بالتصديقات العامة المقاييس الخطبية
والمواضع الخطبية، فنقول: إِن الأَقاويل الخطبية، كما سلف، جنسان: مثال
وضمير. وأَما الرأي فهو جزء من الضمير. وأَكثر ذلك إِنما يحتاج إِليه في
المشوريات. وسنقول في ذلك. والمثال كما قيل في هذه الصناعة شبيه
بالاستقراء في صناعة الجدل، والضمير شبيه بالقياس فيها. والمثال في هذه
الصناعة نوعان: فأَحدهما: أَن يتمثل المتكلم بأُمور قد كانت ووجدت، مثل
قول القائل: إِنه ينبغي للملك أَلا يغتر فيميز النصحاء من حرسه من غير
النصحاءِ، وإِلا خيف أَن يثبوا عليه فيقتلوه، كما عرض للمتوكل كل من بني
العباس.
النوع الثاني: أَن يكون الخطيب يصنع المثال صنعة ويخترعه اختراعا، وهذا
ربما كان مقدمة، وربما كان حديثا طويلا. والحديث الطويل ربما كان معلوم
الكذب عند التكلم والسامع كالحال في الحكايات الموضوعة في كتاب دمنة
وكليلة، وربما لم يكن معلوم الكذب ككثير من الأَلغاز التي يستعملها أَصحاب
السياسات. واسم المثل والأَمثال أَخص بالمقدمة المخترعة عند أَرسطو،
والمثال أَخص بالموجود منها. والمقدمات التي جرت عادة الجمهور من العرب
وغيرهم أَن يستعملوها في مخاطبتهم، مثل قولهم: ذكرتني الطعن وكنتُ ناسيا،
وقولهم: بلغ الماءُ الزبى، وغير ذلك، هي داخلة في هذا الجنس، إِلا أَن
بعضها مقدمات أَو اخترعها أَول من تكلم بها ليجعلها مثالات عامة لأُمور
كثيرة، وبعضها إِنما نطق بها فقط لموافقة الحال الحاضرة فحفظ ذلك وجعل
مثالا في أَشياء كثيرة، مثل قول القائل: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا، فإِن
الحكاية في ذلك مشهورة عن أَول من تكلم بهذا المثل، والسبب في ذلك.
ومثال المثل المخترع الذي إِنما هو مقدمة فقط قول سقراط: إِنه لا ينبغي
أَن يتسلط أُناس بالقرعة، كما لا ينبغي أَن يوضع الصراع قرعةً، أَي يوضع
الصراع بالقرعة. فإِن هذا القول اخترعه سقراط وجعله مثالا لقول القائل:
إِنه لا ينبغي أَن يتسلط ناس بالقرعة، مثل أَن يلزم واحد من أَهل السفينة
أَخذ السكان بالقرعة، فإِن القرعة تصيب أَيهم كان من غير أَن يكون ذلك ممن
يحسن الملاحة.
قال: أَما الأَحوال التي إِذا وجدت في الناس اعترتهم الانفعالات بها وهي
التي يكون المرءُ بها مستعدا وهي التي يتوطَّأُ بها لقبول الانفعال
والأَشياءُ التي يكون عنها الانفعال أَو زوال الانفعال والسلو عنه وهي
التي منها تعمل المقاييس الانفعالية فقد قيل في ذلك في هذه المقالة.
وأَما الأَشياءُ التي تعمل منها الأَقاويل التصديقية في جنس جنس من
الأَجناس الثلاثة، أَعني المشورية والمنافرية والمشاجرية، فقد قيل فيها في
المقالة الأُولى.
وقد بقي أَن نقول هاهنا في الأَحوال التي يتبعها خلق خلق من الأَخلاق.
فإِن بمعرفة أَي خلق يتبع أَي حال يمكننا أَن نحرك الذي نخاطبه إِلى أَن
يتخلق بذلك الخلق، وذلك إِذا أَوهمناه وجود تلك الحال فيه أَو كانت موجودة
مثال ذلك أَن كبر النفس يتبعه السخاء. فإِذا أَثبتنا عند إِنسان ما أَنه
كبير النفس حركناه إِلى السخاءِ بأَن نؤلف له القول هكذا: إِنه كبير
النفس، والكبير النفس يجب أَن يكون سخيا، فإِنه واجب أَن يكون سخيا. وكذلك
ما أَشبه هذا.
قال: وهذه الأَحوال وهي التي المقصود منها تعديدها وأَي خلق يتبع واحدا
واحدا منها هي خمسة: أَحدها: الانفعالات. والثاني: الهمم. والثالث:
الأَسنان. والرابع: الجدود. والخامس: الأَنفس.
وأَعني بالانفعالات مثل الغضب والرحمة، فإِن هذه يتبعها خلق خاص، وبالهمم
الأَشياء التي يختارها كل صنف ويؤثرها في حياته سواء كانت صناعة أَو فضيلة
أَو لذة ينهمل فيها. فإِن الأَخلاق أَيضا تختلف باختلاف هذه. وأَعني
بالأَسنان سن الشباب وسن الإِكتهال وسن الشيخوخة، وذلك أَن لهذه الأَسنان
أَخلاقا خاصة بها. وأَعني بالجدود الأَشياء التي تحصل للإِنسان في بدنه
ومن خارج بدنه بالاتفاق وذلك مثل الحسب واليسار الشاذ والجَلَد المفرط،
وأَعني بالنفوس الفطر المتباينة التي فطر عليها الناس والعادات المختلفة.
القول في أَخلاق الشباب
قال: فإِما الأَحداث وهم الذين جاوزوا اسبوعين من سنهم إِلى نحو
الثلاثة الأَسابيع فمن أَخلاقهم أَنهم يشتهون كل شيء، وهم مسارعون جموحون
إِلى ركوب ما يشتهونه، وأَغلب الشهوات عليهم الشهوات البدنية المنسوبة
إِلى الزهرة. وهم مع ذلك سريع تغيرهم وتقلبهم يشتهون الشيءَ سريعا ويملونه
سريعا. والسبب في اشتهائهم كل شيء أَن آراءَهم مضطربة لم تستقر بعد كل شيء
من المؤثرات في هذه الحياة الدنيا. وليست آراؤهم وهي التي تكون عن بصيرة
ونظر. ومثال ما يصيبهم من شدة الشهوة مع سرعة زوالها مثل العطش الذي يصيب
المرضى فإِنه عطش سريع الزوال إِلا أَنه شديد جدا. وهم مع ذلك سريعو الغضب
منقادون له تقهرهم حدته وسورته، لأَنهم من أَجل حبهم للكرامة لا يصبرون
إِذا استخف بهم مستخف لكن يمتعضون إِذا ظنوا أَنهم يعابون. وهم محبون
للكرامة وأَشد من ذلك للغلبة، وذلك أَن الحداثة تشتاق الفخامة؛ والغلبة
شيء من الفخامة. وهم للكرامة والغلبة أَشد حبا منهم للمال. وإِنما لا
يحبون المال لأَنهم لم يجربوا الفاقة. وهم يصدقون بالقول سريعا لأَنهم لم
ينخدعوا كثيرا. وهم حسنٌ ظنهم، فسيحٌ أَملهم لحرارة طباعهم كالذي يعرض لمن
يشرب الخمر لمكان الحرارة العارضة له عن شربها. ثم لا يخورون ولا ينكلون،
بل يحملون المشقة فيما يهوونه وذلك لقوة حرارتهم. وهم أَكثر ذلك يعيشون
بالأَمل، لأَن الأَمل إِنما هو للزمان المستقبل، والذكر للماضي. والمستقبل
موجود للغلمان أَكثر من الماضي لأَنه في أَول وجودهم، ولذلك يأمنون كثيرا
ولا يذكرون. وهم يسيرٌ اختداعهم واغترارهم وذلك أَن من شأنهم التصديق من
غير دليل أَو بدليل ضعيف. وإِذا غولطوا بالدليل سهلت مغالطتهم. وهم مع
أَنهم من ذوي التأميل شجعان، وذلك أَن الشجعان غضوبون حسنٌ أَملهم. فأَما
حسن الأَمل فيحدث لهم أَلا يجزعوا، وذلك أَن قوة الرجاءِ في الظفر تشجعهم،
وأَحد ما يشجع هو تأميل الخير، وأَما الغضب فيحدث لهم شدة القلب، لأَنه
ليس من أَحد يخاف فيغضب. ومن خلقهم أَن الحياءَ يغلب عليهم لأَنهم لم
يصيروا بعد إِلى أَن يميزوا بين الأَشياءِ التي يجب أَن يستحى منها وبين
التي لا يستحى منها. فهم لاتهامهم أَنفسهم في كل شيء يستحيون من كل شيء
خوفا من أَن يكونوا قد اخطأْوا. وهم يتمسكون بالسنن جدا ويراقبونها،
والسبب في ذلك أَنهم لم يعملوا النظر فيها حتى يتبين لهم ما هو منها عدل
مما ليس بعدل. وهم كبراء الأَنفس. ويظنون أَنهم لا يفتقرون أَبدا، والسبب
في ذلك أَنهم لم يجربوا الضراءَ والضرورة. ويتشوقون أَبداً من أَفعال
كبراءِ النفوس العظائم منها، وذلك من طريق اتساع أَملهم.
ومن أَخلاقهم أَنهم يؤثرون الجميل أَشد من إِيثارهم النافع. وإِنما يؤثرون
من النافع ما كان جميلا. وإِنما كانوا لا يؤثرون النافع لقلة تفكرهم في
العواقب، وإِيثارهم للجميل من أَجل إِيثارهم للفضائل، وإِيثارهم للفضائل
من أَجل إِيثارهم للمدح والذم. وهم محبون لأَصحابهم أَكثر من سائر الناس،
لأَن من تمام اللذة والسرور - إِذا وُجدا - الصحبة ومشاركة الإِخوان. وهم
لا يطلبون النافع في شيء من الأَشياء ولا في الأَصدقاءِ. وخطؤهم في
الأَشياءِ كثير، وأَكثر ما يكون في الأَشياءِ النافعة التي يؤثرها
المشايخ. وأَفعالهم غير محدودة ولا مقدرة، فيحبون جدا ويغضبون جدا،
وبالجملة فيفرطون في كل شيء وذلك لسوءِ تمييزهم العواقب. فإِن الأَفعال
إِنما تكون مقدرة بتمييز العواقب. ويظنون أَنهم يعلمون كل شيء وذلك بسبب
إِغراقهم في كل شيء. ويركبون الظلم مجاهرة والأَشياء التي فيها العيب
والفضيحة، وهذا أَيضا لجسارتهم وإِفراطهم في الأَشياءِ. وهم رحماءُ لأضنهم
يظنون بالناس جميعا أَنهم خيار صلحاءُ. وهم لقلة شرهم يبغضون أَهل الشر
لأَنهم يظنون أَن أَهل الشر يفعلون ما لا ينبغي. وهم محبون للهزل و المزح.
وانصرافهم عن الشيءِ سريع، لأَن سرعة الانصراف من ضعف الروية. فهذه هي
أَخلاق الغلمان.
في أَخلاق المشايخ
وأَما الشيوخ الذين تجاوزوا سن الكهولة فهم على كثير من أَضداد
أَخلاق الشباب، أَعني الأَخلاق السخيفة والشكسة. وأَعني بالسخيفة المنسوبة
إِلى الضعف من محبة الهزل والمزاح وتشوق الشهوات البدنية والرحمة للناس
والانخداع؛ وأَعني بالشكاسة الأَخلاق المنسوبة إِلى القوة مثل سرعة الغضب
والجرأَة ومحبة الكرامة والغلبة وامتداد الأَمل وكبر النفس وركوب الظلم
وسائر هذا النوع. وإِنما كان الشيوخ على ضد هذه الأَخلاق، لأَنهم عاشوا
دهرا طويلا فقصر أَملهم، واختدعوا كثيرا وأَخطأُوا كثيرا، فساء ظنهم
بالناس لوقوعهم على أَسباب الخدع والخطأ بالتجارب. وأَكثر الأَفعال
الواقعة بهم كانت كلها شروراً أَو مفضية إِلى الشر. ومن أَخلاقهم أَنهم لا
يشكون في الشيءِ فيما بينهم وبين أَنفسهم ولا يتعجبون من شيء ورد عليهم
ولا يستعظمونه، لأَنه قد تكرر عليهم. وهم مع أَنهم قد جربوا كل شيء كأَنهم
لا يعرفون شيئا. ولا يكترثون بالحمد والذم، لأَن قصدهم الحقائق، مع أَنهم
لا يستطيعون شيئا. ومن شيمهم أَنهم لا يحزمون على شيء أَلبتة ولا يقطعون
عليه بل يقرنون بكلامهم أَبداً (عسى) و( لعل)، وذلك لكثرة خطأهم ولكثرة ما
جربوا من إِخفاق آمالهم. وهم سيئة أَخلاقهم لسوء ظنهم بكل شيء. وسوء ظنهم
لقلة تصديقهم؛ وقلة تصديقهم لكثرة تجاربهم. ومن شيمهم أَنهم لا يحبون جدا
ولا يبغضون جدا ولا يظهرون ذلك إِلا بالكُره وعند الاضطرار، أَعني الحب
والبغض. والحبيب والبغيض عندهم كأَنه في صورة واحدة لدهائهم، وذلك للأُمور
التي قيلت من أَنهم عاشوا دهرا طويلا واختدعوا كثيرا وأَخطأُوا كثيرا
وأَشباه ذلك. وهم صغيرةٌ أَنفسهم متهاونون بالأَشياءِ العظام لا يشتاقون
إِلى شيء سوى ما فيه المعاش. وهم غير ذوي منحة وتكرم، لأَن متاع الدنيا من
الأَشياءِ التي بهم إِليها ضرورة، وأَعني بمتاع الدنيا الأَشياء الضرورية
في هذه الحياة. وإِنما صار لهم ذلك لكثرة التجربة. وأَيضا فإِنهم يرون أَن
الاقتناءَ عسير والتلف يسير، فهم لهذين الشيئين بخلاء، أَعني لوقوفهم
بالتجربة على أَن الأَشياء النافعة في هذه الحياة بهم ضرورة إِليها،
وبخاصة لضعف أَبدانهم، ولوقوفهم بها على أَن الاقتناءَ عسير، وبخاصة في سن
الشيخوخة، وأَن التلف يسير. وهم يسبقون، فيخبرون بما هو كائن لمعرفتهم
بالعواقب. ولهذا كانوا جبناء وهم في هذا على خلاف ما عليه الأَحداث لأَنهم
ذوو برودة في أَمزجتهم وفتور، والفتيان ذوو حرارة وتوقد. والشيخوخة تؤدي
إِلى الجبن لأَن الخوف والجبن تابع للبرد. وهم محبون للحياة لا سيما عند
آخر أَعمارهم. وحبهم للحياة ليس هو ليتمتعوا من الشهوات فيها، بل لأَن
يحيوها فقط، لأَن أَسباب الشهوات قد عدموها، اللهم إِلا شهوة الطعام من
بين شهوات سائر الحواس فإِنها توجد فيهم كثيرة. لأَن الطعام ضروري لهم،
فيجتمع لهم مع اللذة به الضرورة. وهم محبون لأَخيار الملوك وعدول السلاطين
لصغر أَنفسهم الذي السببُ فيه ضعفُ نفوسهم. وعشرتهم للناس وقصدهم إِنما هو
نحو النافع لا نحو الحسن، لأَنهم محبون لأَنفسهم. والنافع هو الشيءُ الذي
هو خير للمرءِ في نفسه؛ والحسن هو ما هو خير للغير. وهم قليلٌ حياؤهم.
وإِنما كان ذلك كذلك، لأَن إِيثارهم للنافع هو أَكثر من إِيثارهم للجميل.
والحياءُ إِنما يكون مخافة فوت الجميل. وتأميلهم يسير لكثرة تجاربهم أَن
أَكثر الأَشياء يؤول إِما إِلى الشر، وإِما إِلى ما شره أَكثر من خيره،
وإِما لما خيره مساوٍ لشره. وكل هذه الثلاثة الأَقسام غير متشوقة.
والأَشياءُ التي هي خير محض، أَو الخير فيها أَغلب، قليلة الوجود، ويحتاج
- في ترقب وجودها - إِلى زمان طويل، والذي بقي من أَعمار الشيوخ يسير.
وأَكثر عيشهم ولذتهم إِنما هو بالذكر لا بالأَمل، بضد ما عليه الأَمر في
الشباب. وذلك أَن الذكر إِنما يكون لما مضى. والشيوخ فقد ذهب أَكثر
أَعمارهم. ولهذا تكون منهم جودة التكهن والحدس على ما يكون. وغضبهم سريع
حديد لقلة احتمالهم، لكنه ضعيف، لضعف حرارتهم. وشهواتهم منها ما قد انقطع،
ومنها ما قد ضعف، فليسوا متحركين نحو الشهوات، لكن نحو النافع. فلذلك قد
يظن بهم العفة لانقطاع شهواتهم، وإِنما هم أَعفاء باشتراك الاسم. ويقلقون
من طلب الأَفضل وإِنما وُكْدهم الضروري. وأَكثر إِشارتهم بالأَشياءِ التي
تحصل الفضيلة
والخلقق الجميل، لا بالأَشياءِ التي تعود على المشار إِليه
بالنافع. ومن خلقهم الظلم، لكن بالمكر والخديعة، لا بركوب الفضائح
والاستهتار كالحال في الشباب. وهم رحماء لكنّ رحمتهم من أَجل ضعفهم وتخيل
سهولة نزول الشر بهم الذي أَشفقوا منه، لا من أَجل حبهم للناس كالحال في
رحمة الشباب. وهم صابرون على الآلام، غير سريع تقلبهم، لأَن الصبر ضد
الهزل الذي هو من أَخلاق الفتيان، ومن أَحب الهزل فليس يحب الجد
والصبر.لجميل، لا بالأَشياءِ التي تعود على المشار إِليه بالنافع. ومن
خلقهم الظلم، لكن بالمكر والخديعة، لا بركوب الفضائح والاستهتار كالحال في
الشباب. وهم رحماء لكنّ رحمتهم من أَجل ضعفهم وتخيل سهولة نزول الشر بهم
الذي أَشفقوا منه، لا من أَجل حبهم للناس كالحال في رحمة الشباب. وهم
صابرون على الآلام، غير سريع تقلبهم، لأَن الصبر ضد الهزل الذي هو من
أَخلاق الفتيان، ومن أَحب الهزل فليس يحب الجد والصبر.
فهذا هو القول في أَخلاق الشباب والمشايخ.
القول في سن الكهول
قال: وأَما الذين هم في عنفوان العمر، وهم الكهول، فمعلوم أَن أَخلاقهم
وسط بين هذه الأَخلاق، وأَنهم مجانبون لإِفراط الطرفين. ولذلك هم أَعدل،
فليسوا بمتهورين ولا جبناء، ولكن مقدمين على ما ينبغي في الوقت الذي
ينبغي، وبمقدار ما ينبغي، ولا يصدقون بكل شيء، ولا يكذبون بكل شيء، لكن
يتصورون الأُمور على كنهها، ويصدقون بها التصديق التابع لطباعها. وليس
عيشهم ولا طلبهم موجه نحو الحسن فقط، ولا نحو النافع فقط، لكن نحو
الأَمرين جميعا. ولا هم أَيضا أَهل جد محض، ولا مجون محض، لكن بين ذلك.
وكذلك هم في الشهوة والشجاعة، أَعني أَنهم أَعفاء مع شجاعة. والغلمان
شجعان شهوانيون والشيوخ جبناء أَعفاء. وجملة القول إِنه قد يحصل لهم
الجزءُ النافع من خلق خلق، دون الجزء الضار الموجود في الأَطراف المذمومة
الحاصل للشيوخ وللشباب بالطبع. وذلك القدر هو المتوسط. وعلى حسب زيادة
أَحد الطرفين في خلق الكهل على الآخر يكون ميله إِلى الشر أَو إِلى الخير،
أَعني إِلى الطرف المذموم أَو المحمود. وذلك أَيضا يختلف بحسب الذي يستعمل
معه الخلق، قرب حالة تكون زيادة الشجاعة فيها وقربها من التهور آثر من
توسط الأَمر في ذلك في حالة أُخرى. فقد يزاد في الشر إِذا احتيج إِلى
استعماله مع قوم ما، ويزاد في الخير إِذا احتيج إِلى استعماله مع قوم
آخرين.
وسن الكهولة هو من خمس وثلاثين إِلى خمسين سنة.
فهذا هو القول في خُلق الأَحداث والشيوخ والكهول.
ولما كان الكلام الخطبي إِنما يكون أَتم فعلا وأَكثر إِقناعا إِذا رأى
المخاطب به أَنه لم يبق فيه موضع فحص ولا تأَمل ولا معارضة إِلا وقد أَتى
بها فتزيفت، كان واجبا أَن يكون هنالك فاحص عن القول، ومعارض له غير
المتكلم، وهذا إِنما يتم بمناظر وحاكم. أَما فعل المناظر فهو التشكيك على
القول المقنع والإِبطال له. وأَما فعل الحاكم فتمييز حجة كل واحد من
الفريقين، أَعني المتكلم والمناظر، على مثال ما يوجد الأَمر في الخصومات
في المدن. لكن إِذا أُريد أَن يكون القول تام الإِقناع، فواجب أَن يوضع
حاكم ومناظر في جميع أَجناس الأَقاويل الخطبية، أَعني المشاورية
والمشاجرية والمنافرية.
والفرق بين الحاكم والمناظر أَن الحاكم هو أَعلى من المناظر، ولذلك لا
يكلف بالدليل على ما حكم به. وأَما المناظر فهو مساوٍ للمتكلم ولذلك لا
يكتفى منه برد القول دون أَن يأتى على ذلك بدليل. وربما اكتفى في بعض
المدن في الأَقاويل الخصومية بقول الحاكم دون قول المتكلم والمناظر، على
ما عليه الأَمر في ملة الإِسلام، فإِنهم إِنما يستعملون في الخصومات قول
الحاكم مع الأَشياءِ التي من خارج مثل الشهادات والأَيمان.
والفرق بين الشاهد والحاكم أَن الشاهد يشهد بصدق النتيجة، والحاكم يشهد
بصدق القياس المنتج لها، والمناظر يناظر على إِبطالهما. وأَكثر الأَقاويل
الخلقية والانفعالية إِنما يستعمل مع الحكام.
فأَما الخلق الذي يخص سياسة سياسة من السياسات الأَربع التي عددت
فيما سلف فقد ذكرت في باب المشوريات. وينبغي أَن تكون عندنا هاهنا معدة
لنستعملها في الأَقاويل الخلقية. فإِن هنالك إِنما ذكرت لتعمل منها
الضمائر في الأُمور الثلاثة. وإِذ قد تقرر هذا وكان قد تبينت الأَشياءُ
التي منها تعمل الضمائر والتصديقات في الأُمور الثلاثة، أَعني المشاورية
والمنافرية والمشاجرية، فالأَشياءُ التي منها تعمل الأَقاويل الخلقية
والانفعالية، فقد ينبغي أَن نصير إِلى تبيين المقدمات المشتركة التي في
الأَجناس الثلاثة أَعني في المشاورية والمنافرية والمشاجرية. والأُمور
المشتركة التي يطلب تثبيتها في الأَجناس الثلاثة بالمقدمات المشتركة
أَرْبعة أَصناف: الأَول: هل الأَمر ممكن أَو غير ممكن.
والثاني: هل الأَمر مما سيكون ولا بد أَو لا يكون. والفرق بين هذا والممكن
أَن المقدمات المستعملة في الممكن إِنما تستعمل بلفظ الممكن وعلى أَنه ليس
لأَحد الممكنين فضل على الآخر في الوجود. وأَما المقدمات المستعملة في أَن
الشيءَ كائن في المستقبل فإِنما نستعملها في صورة ما هو كائن لا محالة،
وإِن كنا لا نتيقن ذلك، لكن إِنما نستعملها في هذه الصناعة بهذه الجهة.
والثالث: هل الأَمر قد كان في الماضي أَو لم يكن. وما يستعمل من هذا في
هذه الصناعة فإِنما يستعمل في صورة ما قد علم كونه بالتجربة والحس، وإِن
كنا لا نتحقق ذلك.
والرابع: تعظيم الشيء وتصغيره وتفخيمه وتخسيسه، فإِن هذا أَمرٌ عام مستعمل
في الأَجناس الثلاثة. فإِنه إِذا أُشير بالشيءِ أَن يفعله عُظّم، وإِذا
أُشير بالترك صُغّر. وكذلك يفعلون إِذا مدحوا أَو ذموا أَو شكوا أَو
اعتذروا. فإِذا تم القول في هذه، قلنا بعد ذلك في مواد أَصناف الضمائر
وأَصناف المثال، وأَضفنا إِلى ذلك المواضع المشتركة للأَقاويل الخطبية
وغيرها، فإِنا نكون قد أَتينا على الغرض المقصود من هذه الصناعة. فإِنه
إِنما تكلم في المقالة الأُولى في الضمائر من جهة تأليفها لا من جهة
موادها. وهي من جهة تأليفها ممكن أَن تستعمل في الخطابة وغيرها. وإِنما هي
خاصة بالخطابة من جهة موادها.
فنقول: إِنه وإِن كانت هذه الأَربعة المطالب مشتركة للأَجناس الثلاثة،
فإِن بعضها أَخص ببعض وأَولى أَن تنسب إِلى بَعْضٍ. وذلك أَن التعظيم
والتصغير أَخص بالمنافرية التي هي المدح والذم، وأَن الذي قد كان أخص
بالخصومات وكذلك الذي يستعمل كالكائن؛ فإِن الحكومة إِنما تكون في أَمثال
هذه الأَشياء، وأَن الممكن والذي يتوقع كونه أَخص بالمشورية.
وإِذ قد تقرر هذا، فلنقل في المقدمات التي يقنع بها أَن الأَمر ممكن أَو
غير ممكن، ونعني بالممكن وغير الممكن هاهنا ما هو مقدور لنا ومستطاع عليه
مما هو غير مقدور ولا مستطاع عليه، لا الممكن الذي هو في طبائع الأُمور
ممكن، لكن الذي بحسب الإِرادة والاستطاعة. فمنها: إِن كان الشيءُ له ضد،
وكان ضده ممكنا أَن يكون أَو أَن يفعل، فإِن الشيءَ ممكن أَيضا أَن يفعل؛
مثل إِن كان الإِنسان يمكن أَن يصح، فقد يمكن أَيضا أَن يسقم. والعلة في
ذلك أَن القوة والإِمكان للمتضادين واحد.
ومقدمة ثانية: إِن كان الشبيه ممكنا، فالذي يشبهه أَيضا ممكن.
وثالثة: إِن كان الذي هو أَصعب ممكنا، فالذي هو أَيسر ممكن. وإِن كان
الأَمر الذي هو أَفضل وأَحسن ممكنا، فذلك الأَمر - إِذا قيل بإِطلاق -
ممكن، أَعني من غير هذا الشرط. فإِن إِجادة تكوين البيت أَصعب من تكوين
البيت فقط.
ورابعة: إِن كان الذي بدؤه ممكن، فآخره وتمامه ممكن. والإِقناع في هذا
الموضع أَن نقول: لما كان ما لا يمكن كونه مبدئه، فما يمكن كون مبدئه،
يمكن كونه. وقد بين اختلال هذا الموضع في الثانية من الجدل.
وخامسة: وهي ما كان تمامه ممكنا، فمبدؤه ممكن؛ وهو عكس ما قبله.
وسادسة: إِن كان المتأَخر في الطبيعة أَو في الكون - يعني الزمان
فقط - ممكنا، فالمتقدم أَيضا ممكن؛ مثال المتقدم بالطبع: إِن كان الإِنسان
يمكن أَن يكون كهلا، فقد يمكن أَن يكون غلاما. ومثال المتقدم بالزمان فقط
دون الطبع: الصحة الكائنة بعد المرض. فهذا الموضع ينقسم إِلى مقدمتين، ثم
قد تعكس كل واحدة من هاتين، فيحدث هاهنا أَربع مقدمات. فإِنه إِن كان
المتقدم في الطبيعة أَو في الزمان ممكنا فالمتأَخر أَيضا ممكن.
ومقدمة ثامنة: وهي أَن كل ما هو بالطبع محبوب ومشتهى، فهو ممكن أَن يكون
وأَن يفعل؛ فإِنه ليس يشتاق أَحد - إِذا كان شوقه على المجرى الطبيعي - ما
ليس بممكن.
وتاسعة: وهي أَن الأَشياءَ التي تحتوي عليها العلوم والصناعات ممكنة لنا،
أَعني أَن نعلم ما في العلوم وأَن نعمل ما في الصنائع.
وعاشرة:وهي أَن الأُمور التي بدأَ كونها فينا أَو بحكمنا مثل الأَشياء
التي نجبر عليها عبيدنا أَو نتشفع فيها إِلى أَصدقائنا فهي ممكنة؛ وذلك
أَن الذي في ملك الأَصدقاءِ ممكن، كما أَن الذي في ملكنا ممكن.
وحادية عشرة: وهو أَن الذي تكون أَجزاؤه ممكنة، فالكل ممكن.
وثانية عشرة: وهو إِن كان الكل ممكنا، فالأَجزاءُ ممكنة؛ مثال ذلك أَنه
إِن كان البرهان ممكنا، فمقدمات البرهان ممكنة وتأليفه ممكن.
وثالثة عشرة: وهي إِن كان النوع ممكنا، فالجنس ممكن؛ وعكسه وهو إِن كان
الجنس ممكنا، فالنوع ممكن؛ مثال ذلك إِن كان يمكن أَن تكون سفينة ذات
مجاديف كثيرة، فقد يمكن أَن تكون ذات مجاديف ثلاثة؛ وعكسه إِن أَمكن أَن
تكون ذات ثلاثة مجاديف، أَمكن أَن تكون ذات مجاديف كثيرة.
وخامسة عشرة: وهو إِن كان أَحد المضافين ممكنا، فالمضاف الآخر ممكن، كمثل
الضعف والنصف.
وسادسة عشرة: وهو إِن كان شيء ما يمكن أَن يكون لغير ذي صناعة فهو لذوي
الصناعة أَمكن، وذلك أَن هاهنا أَشياء توجد مرة بالعرض، ومرة بالذات، ومرة
بصناعة، ومرة بلا صناعة. فهذه متى كانت ممكنة بالعرض كان إِمكانها بالذات
أَحْرى. وكذلك يوجد الأَمر فيها إِذا وجدت بصناعة وبغير صناعة.
وسابعة عشرة: وهو إِن ما كان ممكنا للأَوضع والأَخس والأَحقر والأَقل
عناية فهو لأَضداد هؤلاءِ أَمكن، كما قال سقراط: إِنه لشديد علىّ أَن
أَعجز عما يفعله الجاهل؛ أَو كما يقال: إِنه لقبيح أَن يعجز أَرسطو عن
معرفة ما أَدكه زينُنْ.
وأَما المقدمات التي يوقف منها على أَن الشيءَ غير ممكن فمعلومة من أَضداد
هذه التي قيلت. مثال ذلك: أَن ما كان غير ممكن للذين هم أَشد عناية فهو
غير ممكن للذين عنايتهم قليلة؛ وأَن الكل إِذا كان غير ممكن، فالأَجزاء
غير ممكنة.
وأَمَّا المقدمات التي يوقف منها على أَن الأَمر كان أَو لم يكن
فيكاد أَن تكون واحدة بالموضوع، اثنتين بالجهة. فمنها: أَنه إِن كان الذي
هو أَقل تهيأ واستعدادا لأَن يكون قد كان، فالذي هو أَكثر تهيأ قد كان.
وموضع ثان: وهو إِن كان المقابل الذي قد جرت العادة أَن يتقدمه مقابله قد
كان، فإِن الآخر قد كان؛ مثال ذلك إِن كان الإِنسان نسي شيئا فقد كان
علمه، وإِن كان حنث، فقد كان حلف. وموضع ثالث: وهو إِن قدر وهوى أَن يفعل،
ولم يكن شيء من خارج يعوقه، فقد فعل. وقريب من هذا إِن كان قدر على شيء
وغضب، فقد كان. والموضع العام لهذين أَنه إِن كان قادرا على الشيءِ، وهو
متشوق له، فقد فعله. وإِنما كان عاما لأَن التشوق يعم الغضب والهوى.
وإِنما صار هذا الموضع مقنعا لأَن الناس أَكثر ذلك يفعلون ما يشتهون إِذا
قدروا، أَما الأَحداث فللنهامة، وأَما الخيار فلشهوتهم للخير. وإِذا كانت
أُمور قريبة الكون متوقعة، فهي كالموجودة وموضع رابع: وهو إِذا كان إِنسان
عادته أَن يوجد منه فعل ما كثيراً، فإِن ذلك الفعل قد كان منه. وموضع
خامس: وهو أَن ننظر إِذا أَردنا أَن نقنع في شيء ما أَنه قد كان هل تقدمته
أَشياء في طباعها أَن تكون قبل ذلك الشيء الذي أَردنا معرفة كونه، فإِن
كانت تلك الأَشياءُ قد تقدمت، حَدَسْنَا أَن ذلك الأَمر قد كان. وهذه
الأَشياءُ السابقة للشيءِ ربما كانت أَسبابا، وربما كانت علامات؛ مثل أَنه
إِن كانت السماءُ برقت، فقد رعدت. وإِن كان الإِنسان قد جرب شيئا ما لينظر
هل يتأَتى له فيه ذلك الفعل أَم لا، فقد كان منه ذلك الفعْل. وموضع سادس
عكس هذا وهو إِذا وجدت الأَشياءُ المتأَخرة عن الشيءِ، فقد وجد الشيء؛
مثال ذلك إِن كانت السماءُ رعدت، فقد برقت؛ وإِن كان فَعَلَ الآن، فقد
ابتدأَ فيما قبل يَفْعَل.
وهذه الأَشياءُ التي تتأَخر عنها أَشياء وتتقدم عليها أَشياء، منها ما هو
باضطرار، ومنها ما هو على الأَكثر. فمثل الاضطراري: إِن كان نسي، فقد علم؛
ومثال الأَكثري: إِن كانت السماءُ رعدت، فقد برقت.
فهذه هي المواضع التي يوقف منها على أَن الأَمر قد كان.
وأَما معرفة أَن الأَمر لم يكن فمن أَضداد هذه بعينها.
وأَما المقدمات التي يوقف منها على أَن الأَمر سيكون وأَنه متوقع كونه،
فهذه هي بأَعيانها. فأَول ذلك إَن كان الأَمر مقدورا عليه ومشتهى، فسيكون.
وأَعني بالمشتهى هاهنا إِما اللذات المحسوسات، وإِما الأَشياء التي يهواها
الإِنسان من غير أَن تكون أُموراً محسوسة، كالمال والكرامة. وكذلك إِن كان
الأَمر مقدوراً عليه مع الغضب أَوْ كان مقدوراً عليه ومختاراً بفكر وروية،
فهو ممكن. وكذلك الأَشياءُ اللازمة للأَفعال الإِرادية ما كان يلزم منها
باضطرار، وما كان لا يلزم باضطرار، فهي كلها معدودة فيما سيكون، إِذا كانت
الأَشياءُ المتقدمة لها. فمثال ما يلزم أَكثريا للفعل الإِرادي خروج السهم
التابع للرمي، ووقوع البصر على الشيءِ التابع لفتح الأَجفان. وأَيضا إِن
تقدمت أَشياء هي متهيئة أَن يكون عنها شيء، فذلك الشيء سيكون؛ مثل أَنه
إِن كانت السماءُ غامت فستمطر. وموضع آخر: إِن كان الشيءُ الذي هو من أَجل
غاية ما موجودا، فإِن الغاية ستوجد؛ ومثال ذلك إِن كان الأَساس قد كان،
فإِن البيت سيكون.
فأَما المواضع التي يوقف منها على الأَعظم والأَصغر والكثير والقليل
والأَفضل والأَخس فهي بأَعيانها التي عددت في باب الأَنفع والآثر في
المشوريات، إِذا جُعلت أَعم قليلا، وذلك بأَن يترقى من باب النافع إِلى
باب الخير. فإِن الخير جنس مشترك للغايات الثلاث من الأَجناس الثلاثة من
أَجناس الأَقاويل الخطبية، وذلك أَنه في المشورية النافع، وفي المنافرية
الحسن، وفي المشاجرية العدل. وبالجملة فمواضع المقايسة تستعمل خاصة وعامة
حتى يمكن أَن تؤخذ مشتركة لجميع المطالب على ما تبن فيه الأَمر في الثانية
من الجدل. إِلا أَن هاهنا إِنما ينتفع بالكليات إِذا طوبق بها الجزئيات،
واستعملت قوة الكُلي فيها، وذلك بأَن يحد كل واحد منهما ويوصف بما يخصه.
فإِن غاية هذه الصناعة إِنما هو التكلم في الجزئيات لا في الكليات، وفيها
تقع مخاطبة الجمهور بعضهم بعضا. وذلك أَنه قد يحتاج في مطابقة الكليات في
المواد إِلى ملكةٍ ودربة، وذلك أَحد ما يتفاضل فيه الخطباءُ.
فقد قيل في الممكن ولا ممكن، وفي أَن الأَمر كان أَو لم يكن، وفي
أَنه يكون أَو لا يكون، وفي التعظيم والتصغير.
وقد بقي علينا القول في الأُمور العامة للتصديقات كلها، وذلك مما لم يستوف
فيه القول في المقالة الأُولى، وأَعني بالتصديقات العامة المقاييس الخطبية
والمواضع الخطبية، فنقول: إِن الأَقاويل الخطبية، كما سلف، جنسان: مثال
وضمير. وأَما الرأي فهو جزء من الضمير. وأَكثر ذلك إِنما يحتاج إِليه في
المشوريات. وسنقول في ذلك. والمثال كما قيل في هذه الصناعة شبيه
بالاستقراء في صناعة الجدل، والضمير شبيه بالقياس فيها. والمثال في هذه
الصناعة نوعان: فأَحدهما: أَن يتمثل المتكلم بأُمور قد كانت ووجدت، مثل
قول القائل: إِنه ينبغي للملك أَلا يغتر فيميز النصحاء من حرسه من غير
النصحاءِ، وإِلا خيف أَن يثبوا عليه فيقتلوه، كما عرض للمتوكل كل من بني
العباس.
النوع الثاني: أَن يكون الخطيب يصنع المثال صنعة ويخترعه اختراعا، وهذا
ربما كان مقدمة، وربما كان حديثا طويلا. والحديث الطويل ربما كان معلوم
الكذب عند التكلم والسامع كالحال في الحكايات الموضوعة في كتاب دمنة
وكليلة، وربما لم يكن معلوم الكذب ككثير من الأَلغاز التي يستعملها أَصحاب
السياسات. واسم المثل والأَمثال أَخص بالمقدمة المخترعة عند أَرسطو،
والمثال أَخص بالموجود منها. والمقدمات التي جرت عادة الجمهور من العرب
وغيرهم أَن يستعملوها في مخاطبتهم، مثل قولهم: ذكرتني الطعن وكنتُ ناسيا،
وقولهم: بلغ الماءُ الزبى، وغير ذلك، هي داخلة في هذا الجنس، إِلا أَن
بعضها مقدمات أَو اخترعها أَول من تكلم بها ليجعلها مثالات عامة لأُمور
كثيرة، وبعضها إِنما نطق بها فقط لموافقة الحال الحاضرة فحفظ ذلك وجعل
مثالا في أَشياء كثيرة، مثل قول القائل: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا، فإِن
الحكاية في ذلك مشهورة عن أَول من تكلم بهذا المثل، والسبب في ذلك.
ومثال المثل المخترع الذي إِنما هو مقدمة فقط قول سقراط: إِنه لا ينبغي
أَن يتسلط أُناس بالقرعة، كما لا ينبغي أَن يوضع الصراع قرعةً، أَي يوضع
الصراع بالقرعة. فإِن هذا القول اخترعه سقراط وجعله مثالا لقول القائل:
إِنه لا ينبغي أَن يتسلط ناس بالقرعة، مثل أَن يلزم واحد من أَهل السفينة
أَخذ السكان بالقرعة، فإِن القرعة تصيب أَيهم كان من غير أَن يكون ذلك ممن
يحسن الملاحة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى