رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل درجات العابدين
قد سمعنا بجماعة من الصالحين عاملوا الله عز وجل على طريق السلامة والمحبة
واللطف فعاملهم كذلك، لأنهم لا يحتمل طبعهم غير ذلك.
ففي الأوائل برخ العابد خرج يستسقي فقال: - مناجياً الله - ما هذا الذي لا
نعرفه منك. اسقنا الساعة فسقوا.
وفي الصحابة أنس بن النضر يقول: والله لا تكسر سن الربيع، فجرى الأمر كما
قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله
لأبره.
وهؤلاء قوم غلب عليهم ملاحظة اللطف والرفق، فلطف بهم، وأجروا على ما
اعتقدوا.
وهناك أعلى من هؤلاء يسألون فلا يجابون، وهم بالمنع راضون.
ليس لأحدهم انبساط، بل قد قيدهم الخوف، ونكس رؤوسهم الحذر، ولم يروا
ألسنتهم أهلاً للانبساط، فغاية آمالهم العفو.
فإن انبسط أحدهم بسؤال فلم ير الإجابة عاد على نفسه بالتوبيخ،
فقال: مثلك لا يجاب، وربما قال لعل المصلحة في منعي.
وهؤلاء الرجال حقاً، والأبله الذي يرى له من الحق أن يجاب، فإن لم يجب
تذمر في باطنه كأنه يطلب أجرة عمله، وكأنه قد نفع الخالق بعبادته.
وإنما التعبد حقاً من يرضى ما يفعله الخالق، فإن سأل فأجيب رأى ذلك فضلاً.
وإن منع رأى تصرف مالك، فلم يجل في قلبه اعتراض بحال.
فصل علماء القشور وعلماء اللباب
رأيت جماعة من العلماء يتفسحون ويظنون أن العلم يدفع عنهم، وما يدرون أن
العلم خصمهم وأنه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب.
وذاك لأن الجاهل لم يتعرض بالحق، والعالم لم يتأدب معه.
ورأيت بعض القوم يقول: أنا قد ألقيت منجلي بين الحصادين ونمت. ثم كان
يتفسح في أشياء لا تجوز.
فتفكرت فإذا العلم الذي هو معرفة الحقائق، والنظر في سير القدماء، والتأدب
بآداب القوم، ومعرفة الحق وما يجب له، ليس عند القوم.
وإنما عندهم صور ألفاظ يعرفون بها ما يحل وما يحرم، وليس كذلك العلم
النافع.
إنما العلم فهم الأصول ومعرفة المعبود وعظمته وما يستحقه، والنظر في سير
الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتأدب بآدابهم، وفهم ما نقل عنهم،
هو العلم النافع الذي يدع أعظم العلماء أحقر عند نفسه من أجهل الجهال.
ورأيت بعض من تعبد مدة ثم فتر، فبلغني أنه قال: قد عبدته عبادة ما عبده
بها أحد، والآن قد ضعفت. فقلت: ما أخوفني أن تكون كلمته هذه سبباً لرد
الكل.
لأنه قد رأى أنه عمل مع الحق شيئا، وإنما وقف يسأل النجاة بطلب الدرجات
ففي حق نفسه فعل.
وما مثله إلا كمثل من وقف يكدي، فلا ينبغي أن يمن على المعطي.
وإنما سبب هذا الانبساط الجهل بالحقائق، وأين هو من كبار علماء المعاملة
الذين كان فيهم مثل صلة بن أشيم إذا رآه السبع هرب منه وهو يقول إذا انقضى
الليل عند صلاته: يا رب أجرني من النار. أو مثلي يسأل الجنة !.
وأبلغ من ذا قول عمر: وددت أن أنجو كفافاً لا لي ولا علي.
وقول سفيان عند موته لحماد بن سلمة: أترجو لمثلي أن ينجو من النار. وقول
أحمد: لا بعد.
فأنا أحمد الله عز وجل إذ تخلصت من جهل المتسمين بالعلم من هؤلاء الذين
ذممتهم. وبالزهد من هؤلاء الذين عبتهم فإني قد اطلعت من عظمة الخالق وسير
المحققين على ما يخرس لسان الانبساط. ويمحو النظر إلى كل فعل.
وكيف أنظر إلى فعلي المستحسن ؟ وهو الذي وهبه لي وأطلعني على ما خفي عن
غيري.
فهل حصل ذلك بي أو بلطفه ؟ وكيف أشكر توفيقي الشكر !.
ثم أي عالم إذا سبر أمور العلماء من القدماء لا يحتقر نفسه. هذا في صورة
العلم. فدع معناه.
وأي عابد يسمع بالعباد ولا يجري فيي صورة التعبد، فدع المعنى.
نسأل الله عز وجل معرفة تعرفنا أقدارنا، حتى لا يبقى للعجب بمحتقر ما
عندنا أثر في قلوبنا: ونرغب إليه في معرفة لعظمته تخرس الألسان أن تنطق
بالإدلال ونرجو من فضله توفيقاً نلاحظ به آفات الأعمال التي بها نزهو حتى
تثمر الملاحظة لعيوبها الخجل من وجودها، إنه قريب مجيب.
فصل الآخرة خير وأبقى
سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة: وليس في الدنيا طيب عيش على الدوام
إلا للعارف الذي شغله رضى حبيبه والتزود للرحيل إليه.
فإنه إن وجد راحة في الدنيا استعان بها على طلب الآخرة.
وإن وجد شدة اغتنم الصبر عليها لثواب الآخرة، فهو راض بكل ما يجري عليه
يرى ذلك من قضاء الخالق، ويعلم أنه مراده، كما قال قائلهم:
إن كان رضاكم في سهري ... فسلام اللّه على وسني
فأما من طلب حظه فإنه يقلق لفوت مراده، ويتنغص لبعد ما يشتهي.
فلو افتقر تغير قلبه، ولو ذلك تغير، وهذا لأنه قائم مع غرضه وهواه.
وما أحسن قول الحصري: إيش علي مني وإيش لي فيّ.
وهذا كلام عارف، لأنه إن كان ينظر إلى حقيقة الملكة فعبد يتصرف فيه مولاه.
فاعتراضه لا وجه له، وإرادته أن يقع غير ما يجب فضول في البين، وإن نظر.
أن النفس كالملك له فقد خرجت عن يده من يوم " إِنَّ اللّه اشترى " .
أفيحسن لمن باع شاة أن يغضب على المشتري إذا ذبحها أو يتغير قلبه ؟.
والله لو قال المالك سبحانه: إنما خلقتكم ليستدل على وجودي، ثم
أنا أفنيكم ولا إعادة، لكان يجب على النفوس العارفة به أن تقول سمعاً لما
قلت وطاعة.
وأي شيء لنا فينا حتى نتكلم.
فكيف وقد وعد بالأجر الجزيل، والخلود في النعيم، الذي لا ينفد.
لكن طريق الوصول تحتاج إلى صبر على المشقة وما يبقى لتعب رمل زرود أثر إذا
لاح الحرم.
فالصبر الصبر يا أقدام المبتدئين، لاح المنزل.
والسرور السرور يا متوسطين ضربت الخيم.
والفرح الكامل يا عارفين، قد تلقيتم بالبشائر.
زالت والله أثقال المعاملات عنكم، فكانت معرفتكم بالمبتلى حلاوة تعقبت
شربة المجاهدة، فلم يبق في الفم للمر أثر.
تخايلوا قرب المناجاة ولذة الحضور ودوار كؤوس الرضى عنكم فقد أخذت شمس
الدنيا في الأفول:
ما بيننا له إِلاَّ تصر ... م هذه السبع البواقي
حتى يطول حديثنا ... بصنوف ما كنا نلاقي
فصل حكمة المنع
تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان: يا سفيان عد منع الله إياك عطاء منه
لك، فإنه لم يمنعك بخلاً، إنما منعك لطفاً. فرأيته كلام من قد عرف الحقائق.
فإن الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر، وعجزه أصلح له، لأنه
لو قدر عليهن تشتت قلبه إما بحفظهن أو بالكسب عليهن.
فإن قوي عشقه لهن ضاع عمره وانقلب هم الآخرة إلا اهتمام بهن.
فإن لم يردنه فذاك الهلاك الأكبر.
وإن طلبن نفقة لم يطقها كان سبب ذهاب مروءته وهلاك عرضه.
وإن أردن الوطء وهو عاجز فربما أهلكنه أو فجرن.
وإن مات معشوقه هلك هو أسفاً.
فالذي يطلب الفائق يطلب سكيناً لذبحه وما يعلم.
وكذلك إنفاذ قدر القوت فإنه نعمة، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً.
ومتى كثر، تشتت الهمم، فالعاقل من علم أن الدنيا لم تخلق للتنعيم، فقنع
بدفع الوقت على كل حال.
فصل القدرة على التكليف
رأيت جماعة من الخلق يتعللون بالأقدار، فيقول قائلهم: إن وفقت فعلت، وهذا
تعلل بارد، ودفع للأمر بالراح.
وهو يشير إلى رد أقوال الأنبياء والشرائع جميعها.
فإن لو قال كافر للرسول: إن وفقني أسلمت. لم يجبه إلا بضرب العنق.
وهذا جنس قول الناس لعلي رضي الله عنه: ندعوك إلى كتاب الله فقال: كلمة حق
أريد بها باطل.
وكذلك قول الممتنعين عن الصدقة " أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه " .
ولعمري إن التوفيق أصل الفعل، ولكن التوفيق أمر خفي. والخطاب بالفعل أمر
جلي.
فلا ينبغي أن يتشاغل عن الجلي بذكر الخفي.
ومما يقطع هذا الاحتجاج أن يقال لهذا القائل: إن الله سبحانه لم يكلفك
شيئاً إلا وعندك أدوات ذلك الفعل ولك قدرة عليه.
فإن كانت القدرة عليه معدومة والأدوات غير محصلة فلا أمر ولا تكليف.
وإن كنت تسعى بتلك الأدوات في تحصيل غرضك وهواك، فاسع بها في إقامة مفروضك.
مثال ذلك: أنك تسافر في طلب الربح، وتسأل الحج فلا تفعل، ويثقل عليك
الانتباه بالليل. فلو أردت الخروج إلى العيد انتبهت سحراً.
وتقف في بعض أغراضك مع صديق تحادثه ساعات فإذا وقفت في الصلاة استعجلت
وثقل عليك.
فإياك إياك أن تتعلق بأمر لا حجة لك فيه. ثم من نصيبك ينقص، ومن حظك يضيع،
فإنما تحرك لك، وإنما تحرض لنفعك.
فبادر فإنك مبادر بك. ومما يزيل كسلك - إن تأملته - أن تتخايل ثواب
المجتهدين وقد فاتك.
ويكفي ذلك في توبيخ المقصر إن كانت له نفس. فأما الميت الهمة. فما لجرح
بميت إيلام.
كيف بك إذا قمت من قبرك وقد قربت نجائب النجاة لأقوام وتعثرت، وأسرعت
أقدام الصالحين على الصراط وتخبطت.
هيهات، ذهبت حلاوة البطالة، وبقيت مرارة الأسف، ونضب ماء كأس الكسل، وبقي
رسول الندامة !.
وما قدر البقاء في الدنيا بالإضافة إلى دوام الآخرة ؟.
ثم ما قدر عمرك في الدنيا ونصفه نوم، وباقيه غفلة ؟.
فيا خاطباً حور الجنة وهو لا يملك فلساً من عزيمة، افتح عين الفكر في ضوء
العبر لعلك تبصر مواقع خطابك.
فإن رأيت تثبيطاً من الباطن فاستغث بعون اللطف، وتنبه في الأسحار، لعلك
تتلمح ركب الأرباح، وتعلق على قطار المستغفرين ولو خطوات، وانزل في رباع
المجتهدين ولو منزلاً أي منزل.
فصل أصناف الضلالات
نظرت في قول أبي الدرداء رضي الله عنه: ما أعرف شيئاً مما كنا
عليه اليوم إلا القبلة، فقلت واعجباً كيف لو رآنا اليوم وما معنا من
الشريعة إلا الرسم.
الشريعة هي الطريق. وإنما تعرف شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما
بأفعاله أو أقواله.
وسبب الانحراف عن طريقه صلى الله عليه وسلم إما الجهل بها أو الخروج عليها
فيجري الإنسان مع الطبع والعادات، وربما اتخذ ما يضاد الشريعة طريقاً، وقد
كانت الصحابة شاهدته وسمعت منه فقل أن ينحرف أحد منهم عن جادته، إلا أبا
الدرداء رضي الله عنه رأى بعض الانحراف لميل الطباع فضج فإنه قد يعرف
الإنسان الصواب، غير أن طبعه يميل عنه.
وما زالت الأحاديث المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي
الله عنهم يقل الإسعاد بها والنظر فيها إلى أن أعرض عنها بالكلية في
زماننا هذا وجهلت إلا النادر، واتخذت طرائق تضاد الشريعة. وصارت عادات،
وكانت أسهل عند الخلق من اتباع الشريعة.
وإذا كان عامة من ينسب إلى العلم قد أعرض عن علوم الشريعة فكيف العوام ؟.
ولما أعرض كثير من العلماء عن المنقولات ابتدعوا في الأصول والفروع.
فالأصوليون تشاغلوا بالكلام وأخذوه من الفلاسفة وعلماء المنطق.
ودخلت أيدي الفروعيين في ذلك فتشاغلوا بالجدل، وتركوا الحديث الذي يدور
عليه الحكم.
ثم رأى القصاص أن النفاق بالنفاق، فأقبل قوم منهم على التلبيس بالزهد،
ومقصودهم الدنيا.
ورأى جمهورهم أن القلوب تميل إلى الأغاني، فأحضروا المطربين من القراء
وأنشدوا أشعار الغزل، وتركوا الاشتغال بالحديث، ولم يلتفتوا إلى نهي
العوام عن الربا والزنا، وأمرهم بأداء الواجبات.
وصار متكلمهم يقطع المجلس بذكر ليلى والمجنون والطور وموسى وأبي يزيد
والحلاج والهذيان الذي لا محصول له.
وانفرد أقوام بالتزهد والانقطاع، فامتنعوا عن عيادة المرضى، والمشي بين
الناس، وأظهروا التخاشع، ووضعوا كتباً للرياضات، والتقلل من الطعام. وصارت
الشريعة عندهم كلام أبي يزيد والشبلي والمتصوفة.
ومعلوم أن من سبر الشريعة لم ير فيها من ذاك شيئاً.
وأما الأمراء فجروا مع العادات، وسموا ما يفعلونه من التنطع سياسات لم
يعملوا فيها بمقتضى الشريعة، وتبع الأخير في ذلك المتقدم.
فأين الشريعة المحمدية ؟.
ومن أين تعرف مع الإعراض عن المنقولات ؟.
نسأل الله عز وجل التوفيق للقيام بالشريعة، والإعانة على رد البدع إنه
قادر.
فصل مخاطر الهوى
كنت أسمع علياً بن الحسين الواعظ يقول على المنبر: والله لقد بكيت البارحة
من يد نفسي.
فبقيت أنا أتفكر وأقول: أي شيء قد فعلت نفس هذا حتى يبكي ؟.
هذا رجل متنعم له الجواري التركيات. وقد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من
النساء. ولا يطعم إلا الغاية من الدجاج والحلوى.
وله الدخل الكثير والمال الوافر والجاه العريض والأفضال على الناس.
وقد حصل طرفاً من العلم واستعبد كثيراً من العلماء بمعروفه، وراحته دائمة
الندى. فما الذي يبكيه منها ؟.
فتفكرت فعلمت أن النفس لا تقف عند حد بل تروم من اللذات ما لا منتهى له،
وكلما حصل لها عرض برد عندها وطلبت سواه، فيفنى العمر ويضعف البدن ويقع
النقص، ويرق الجاه، ولا يحصل المراد.
وليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليس في الدنيا على
الحقيقة لذة، إنما هي راحة من مؤلم.
فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها ومالت إليه، وعلم سترها
ودينها، أن يعقد الخنصر على صحبتها.
وأكثر أسباب دوام محبتها أن لا يطلب بصره، فمتى أطلق بصره أو أطمع نفسه في
غيرها، فإن الطمع في الجديد ينغص الخلق وينقص المخالطة، ولا يستر عيوب
الخارج، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب، ويتكدر العيش مع الحاضر القريب،
كما قال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين الحور موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضرّ مهجته ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ثم تصير الثانية كالأولى، وتطلب النفس ثالثة وليس لهذا آخر، بل الغض عن
المشتهيات، ويأس النفوس من طلب المستحسنات، يطيب العيش مع المعاشر.
ومن لم يقبل هذا النصح تعثر في طرق الهوى وهلك على البارد، وربما
سعى لنفسه في الهلاك العاجل، وفي العار الحاضر، فإن كثيراً من المستحسنات
لسن بصينات ولا يفي التمتع بهن بالعار الحاصل.
ومنهن المبذرات في المال، ومنهن المبغضة للزوج وهو يحبها كعابد صنم.
وأبله البله الشيخ الذي يطلب صبية... ولعمري إن كمال المتعة إنما يكون
بالصبا، كما قال القائل: فعلت بنفسي النساء الصغار ومتى لم تكن الصبية
بالغة لم يكمل الاستمتاع، فإذا بلغت أرادت كثرة الجماع والشيخ لا يقدر.
فإن حمل على نفسه لم يبلغ مرادها، وهلك سريعاً.
ولا ينبغي أن يغتر بشهوته الجماع، فإن شهوته كالفجر الكاذب.
وقد رأينا شيخنا اشترى جارية فبات معها فانقلب عنها ميتاً.
وكان في المارستان شاب قد بقي شهرين بالقيام، فدخلت عليه زوجته فوطئها
فانقلب عنها ميتاً.
فبان أن النفس باقية بما عندها من الدم، والمني، فإذا فرغا ولم تجد ما
تعتمد عليه ذهبت.
وإن قنع الشيخ بالاستمتاع من غير وطء فهي لا تقنع فتصير كالعدو له.
فربما غلبها الهوى ففجرت أو احتالت على قتله، خصوصاً الجواري اللواتي
أغلبهن قد جئن من بلاد الشرك ففيهن قسوة القلب.
وقبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء، فإن اتفق معه صاحبة دين قبل
ذلك فليرع لها معاشرتها، وليتمم نقصه عندها تارة بالإنفاق، وتارة بحسن
الخلق.
وليزد في تعريفها أحوال الصالحات والزاهدات، وليكثر من ذكر القيامة وذم
الدنيا، وليعرض بذكر محبة العرب، فإنهم كانوا يعشقون ولا يرون وطء
المعشوق، كما قال قائلهم:
إنما الحب قبلة ... وغمز كف وعضد
إنما العشق هكذا ... إن نكح الحب فسد
فإن قدر أن يشغلها بالحمل، أو ولد عرقلها به، فاستبقى قوته في مدة
اشتغالها بذلك.
فإن وطىء فليصبر عن الإنزال حفظاً لقوته وقضاء لحقها.
وقد قيل لبشر: لم لم تتزوج ؟ فقال: على ماذا أغر مسلمة، وقد قال الله عز
وجل: " ولهنَّ مثلُ الذي عليهنَّ بالمعرُوفِ " .
والمسكين من دخل في أمر لم يتلمح عواقبه قبل الدخول ورأى حبة الفخ فبادر
طالباً لها ناسياً تعرقل الجناح والذبح.
ومجموع ما قد بسطته حفظ البصر عن الإطلاق، ويأس النفس عن التحصيل، قنوعاً
بالحاصل خصوصاً من قد علت سنه، وعلم أن الصبية عدو له متمنية هلاكه، وهو
يربيها لغيره.
وفي بعض ما ذكرته ما يردع العاقل عن التعرض لهذه الآفات، نسأل الله عز وجل
توفيقاً من فضله وعملاً بمقتضى العقل والشرع، إنه مجيب قريب.
قد سمعنا بجماعة من الصالحين عاملوا الله عز وجل على طريق السلامة والمحبة
واللطف فعاملهم كذلك، لأنهم لا يحتمل طبعهم غير ذلك.
ففي الأوائل برخ العابد خرج يستسقي فقال: - مناجياً الله - ما هذا الذي لا
نعرفه منك. اسقنا الساعة فسقوا.
وفي الصحابة أنس بن النضر يقول: والله لا تكسر سن الربيع، فجرى الأمر كما
قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله
لأبره.
وهؤلاء قوم غلب عليهم ملاحظة اللطف والرفق، فلطف بهم، وأجروا على ما
اعتقدوا.
وهناك أعلى من هؤلاء يسألون فلا يجابون، وهم بالمنع راضون.
ليس لأحدهم انبساط، بل قد قيدهم الخوف، ونكس رؤوسهم الحذر، ولم يروا
ألسنتهم أهلاً للانبساط، فغاية آمالهم العفو.
فإن انبسط أحدهم بسؤال فلم ير الإجابة عاد على نفسه بالتوبيخ،
فقال: مثلك لا يجاب، وربما قال لعل المصلحة في منعي.
وهؤلاء الرجال حقاً، والأبله الذي يرى له من الحق أن يجاب، فإن لم يجب
تذمر في باطنه كأنه يطلب أجرة عمله، وكأنه قد نفع الخالق بعبادته.
وإنما التعبد حقاً من يرضى ما يفعله الخالق، فإن سأل فأجيب رأى ذلك فضلاً.
وإن منع رأى تصرف مالك، فلم يجل في قلبه اعتراض بحال.
فصل علماء القشور وعلماء اللباب
رأيت جماعة من العلماء يتفسحون ويظنون أن العلم يدفع عنهم، وما يدرون أن
العلم خصمهم وأنه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب.
وذاك لأن الجاهل لم يتعرض بالحق، والعالم لم يتأدب معه.
ورأيت بعض القوم يقول: أنا قد ألقيت منجلي بين الحصادين ونمت. ثم كان
يتفسح في أشياء لا تجوز.
فتفكرت فإذا العلم الذي هو معرفة الحقائق، والنظر في سير القدماء، والتأدب
بآداب القوم، ومعرفة الحق وما يجب له، ليس عند القوم.
وإنما عندهم صور ألفاظ يعرفون بها ما يحل وما يحرم، وليس كذلك العلم
النافع.
إنما العلم فهم الأصول ومعرفة المعبود وعظمته وما يستحقه، والنظر في سير
الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتأدب بآدابهم، وفهم ما نقل عنهم،
هو العلم النافع الذي يدع أعظم العلماء أحقر عند نفسه من أجهل الجهال.
ورأيت بعض من تعبد مدة ثم فتر، فبلغني أنه قال: قد عبدته عبادة ما عبده
بها أحد، والآن قد ضعفت. فقلت: ما أخوفني أن تكون كلمته هذه سبباً لرد
الكل.
لأنه قد رأى أنه عمل مع الحق شيئا، وإنما وقف يسأل النجاة بطلب الدرجات
ففي حق نفسه فعل.
وما مثله إلا كمثل من وقف يكدي، فلا ينبغي أن يمن على المعطي.
وإنما سبب هذا الانبساط الجهل بالحقائق، وأين هو من كبار علماء المعاملة
الذين كان فيهم مثل صلة بن أشيم إذا رآه السبع هرب منه وهو يقول إذا انقضى
الليل عند صلاته: يا رب أجرني من النار. أو مثلي يسأل الجنة !.
وأبلغ من ذا قول عمر: وددت أن أنجو كفافاً لا لي ولا علي.
وقول سفيان عند موته لحماد بن سلمة: أترجو لمثلي أن ينجو من النار. وقول
أحمد: لا بعد.
فأنا أحمد الله عز وجل إذ تخلصت من جهل المتسمين بالعلم من هؤلاء الذين
ذممتهم. وبالزهد من هؤلاء الذين عبتهم فإني قد اطلعت من عظمة الخالق وسير
المحققين على ما يخرس لسان الانبساط. ويمحو النظر إلى كل فعل.
وكيف أنظر إلى فعلي المستحسن ؟ وهو الذي وهبه لي وأطلعني على ما خفي عن
غيري.
فهل حصل ذلك بي أو بلطفه ؟ وكيف أشكر توفيقي الشكر !.
ثم أي عالم إذا سبر أمور العلماء من القدماء لا يحتقر نفسه. هذا في صورة
العلم. فدع معناه.
وأي عابد يسمع بالعباد ولا يجري فيي صورة التعبد، فدع المعنى.
نسأل الله عز وجل معرفة تعرفنا أقدارنا، حتى لا يبقى للعجب بمحتقر ما
عندنا أثر في قلوبنا: ونرغب إليه في معرفة لعظمته تخرس الألسان أن تنطق
بالإدلال ونرجو من فضله توفيقاً نلاحظ به آفات الأعمال التي بها نزهو حتى
تثمر الملاحظة لعيوبها الخجل من وجودها، إنه قريب مجيب.
سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة: وليس في الدنيا طيب عيش على الدوام
إلا للعارف الذي شغله رضى حبيبه والتزود للرحيل إليه.
فإنه إن وجد راحة في الدنيا استعان بها على طلب الآخرة.
وإن وجد شدة اغتنم الصبر عليها لثواب الآخرة، فهو راض بكل ما يجري عليه
يرى ذلك من قضاء الخالق، ويعلم أنه مراده، كما قال قائلهم:
إن كان رضاكم في سهري ... فسلام اللّه على وسني
فأما من طلب حظه فإنه يقلق لفوت مراده، ويتنغص لبعد ما يشتهي.
فلو افتقر تغير قلبه، ولو ذلك تغير، وهذا لأنه قائم مع غرضه وهواه.
وما أحسن قول الحصري: إيش علي مني وإيش لي فيّ.
وهذا كلام عارف، لأنه إن كان ينظر إلى حقيقة الملكة فعبد يتصرف فيه مولاه.
فاعتراضه لا وجه له، وإرادته أن يقع غير ما يجب فضول في البين، وإن نظر.
أن النفس كالملك له فقد خرجت عن يده من يوم " إِنَّ اللّه اشترى " .
أفيحسن لمن باع شاة أن يغضب على المشتري إذا ذبحها أو يتغير قلبه ؟.
والله لو قال المالك سبحانه: إنما خلقتكم ليستدل على وجودي، ثم
أنا أفنيكم ولا إعادة، لكان يجب على النفوس العارفة به أن تقول سمعاً لما
قلت وطاعة.
وأي شيء لنا فينا حتى نتكلم.
فكيف وقد وعد بالأجر الجزيل، والخلود في النعيم، الذي لا ينفد.
لكن طريق الوصول تحتاج إلى صبر على المشقة وما يبقى لتعب رمل زرود أثر إذا
لاح الحرم.
فالصبر الصبر يا أقدام المبتدئين، لاح المنزل.
والسرور السرور يا متوسطين ضربت الخيم.
والفرح الكامل يا عارفين، قد تلقيتم بالبشائر.
زالت والله أثقال المعاملات عنكم، فكانت معرفتكم بالمبتلى حلاوة تعقبت
شربة المجاهدة، فلم يبق في الفم للمر أثر.
تخايلوا قرب المناجاة ولذة الحضور ودوار كؤوس الرضى عنكم فقد أخذت شمس
الدنيا في الأفول:
ما بيننا له إِلاَّ تصر ... م هذه السبع البواقي
حتى يطول حديثنا ... بصنوف ما كنا نلاقي
فصل حكمة المنع
تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان: يا سفيان عد منع الله إياك عطاء منه
لك، فإنه لم يمنعك بخلاً، إنما منعك لطفاً. فرأيته كلام من قد عرف الحقائق.
فإن الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر، وعجزه أصلح له، لأنه
لو قدر عليهن تشتت قلبه إما بحفظهن أو بالكسب عليهن.
فإن قوي عشقه لهن ضاع عمره وانقلب هم الآخرة إلا اهتمام بهن.
فإن لم يردنه فذاك الهلاك الأكبر.
وإن طلبن نفقة لم يطقها كان سبب ذهاب مروءته وهلاك عرضه.
وإن أردن الوطء وهو عاجز فربما أهلكنه أو فجرن.
وإن مات معشوقه هلك هو أسفاً.
فالذي يطلب الفائق يطلب سكيناً لذبحه وما يعلم.
وكذلك إنفاذ قدر القوت فإنه نعمة، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً.
ومتى كثر، تشتت الهمم، فالعاقل من علم أن الدنيا لم تخلق للتنعيم، فقنع
بدفع الوقت على كل حال.
رأيت جماعة من الخلق يتعللون بالأقدار، فيقول قائلهم: إن وفقت فعلت، وهذا
تعلل بارد، ودفع للأمر بالراح.
وهو يشير إلى رد أقوال الأنبياء والشرائع جميعها.
فإن لو قال كافر للرسول: إن وفقني أسلمت. لم يجبه إلا بضرب العنق.
وهذا جنس قول الناس لعلي رضي الله عنه: ندعوك إلى كتاب الله فقال: كلمة حق
أريد بها باطل.
وكذلك قول الممتنعين عن الصدقة " أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه " .
ولعمري إن التوفيق أصل الفعل، ولكن التوفيق أمر خفي. والخطاب بالفعل أمر
جلي.
فلا ينبغي أن يتشاغل عن الجلي بذكر الخفي.
ومما يقطع هذا الاحتجاج أن يقال لهذا القائل: إن الله سبحانه لم يكلفك
شيئاً إلا وعندك أدوات ذلك الفعل ولك قدرة عليه.
فإن كانت القدرة عليه معدومة والأدوات غير محصلة فلا أمر ولا تكليف.
وإن كنت تسعى بتلك الأدوات في تحصيل غرضك وهواك، فاسع بها في إقامة مفروضك.
مثال ذلك: أنك تسافر في طلب الربح، وتسأل الحج فلا تفعل، ويثقل عليك
الانتباه بالليل. فلو أردت الخروج إلى العيد انتبهت سحراً.
وتقف في بعض أغراضك مع صديق تحادثه ساعات فإذا وقفت في الصلاة استعجلت
وثقل عليك.
فإياك إياك أن تتعلق بأمر لا حجة لك فيه. ثم من نصيبك ينقص، ومن حظك يضيع،
فإنما تحرك لك، وإنما تحرض لنفعك.
فبادر فإنك مبادر بك. ومما يزيل كسلك - إن تأملته - أن تتخايل ثواب
المجتهدين وقد فاتك.
ويكفي ذلك في توبيخ المقصر إن كانت له نفس. فأما الميت الهمة. فما لجرح
بميت إيلام.
كيف بك إذا قمت من قبرك وقد قربت نجائب النجاة لأقوام وتعثرت، وأسرعت
أقدام الصالحين على الصراط وتخبطت.
هيهات، ذهبت حلاوة البطالة، وبقيت مرارة الأسف، ونضب ماء كأس الكسل، وبقي
رسول الندامة !.
وما قدر البقاء في الدنيا بالإضافة إلى دوام الآخرة ؟.
ثم ما قدر عمرك في الدنيا ونصفه نوم، وباقيه غفلة ؟.
فيا خاطباً حور الجنة وهو لا يملك فلساً من عزيمة، افتح عين الفكر في ضوء
العبر لعلك تبصر مواقع خطابك.
فإن رأيت تثبيطاً من الباطن فاستغث بعون اللطف، وتنبه في الأسحار، لعلك
تتلمح ركب الأرباح، وتعلق على قطار المستغفرين ولو خطوات، وانزل في رباع
المجتهدين ولو منزلاً أي منزل.
نظرت في قول أبي الدرداء رضي الله عنه: ما أعرف شيئاً مما كنا
عليه اليوم إلا القبلة، فقلت واعجباً كيف لو رآنا اليوم وما معنا من
الشريعة إلا الرسم.
الشريعة هي الطريق. وإنما تعرف شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما
بأفعاله أو أقواله.
وسبب الانحراف عن طريقه صلى الله عليه وسلم إما الجهل بها أو الخروج عليها
فيجري الإنسان مع الطبع والعادات، وربما اتخذ ما يضاد الشريعة طريقاً، وقد
كانت الصحابة شاهدته وسمعت منه فقل أن ينحرف أحد منهم عن جادته، إلا أبا
الدرداء رضي الله عنه رأى بعض الانحراف لميل الطباع فضج فإنه قد يعرف
الإنسان الصواب، غير أن طبعه يميل عنه.
وما زالت الأحاديث المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي
الله عنهم يقل الإسعاد بها والنظر فيها إلى أن أعرض عنها بالكلية في
زماننا هذا وجهلت إلا النادر، واتخذت طرائق تضاد الشريعة. وصارت عادات،
وكانت أسهل عند الخلق من اتباع الشريعة.
وإذا كان عامة من ينسب إلى العلم قد أعرض عن علوم الشريعة فكيف العوام ؟.
ولما أعرض كثير من العلماء عن المنقولات ابتدعوا في الأصول والفروع.
فالأصوليون تشاغلوا بالكلام وأخذوه من الفلاسفة وعلماء المنطق.
ودخلت أيدي الفروعيين في ذلك فتشاغلوا بالجدل، وتركوا الحديث الذي يدور
عليه الحكم.
ثم رأى القصاص أن النفاق بالنفاق، فأقبل قوم منهم على التلبيس بالزهد،
ومقصودهم الدنيا.
ورأى جمهورهم أن القلوب تميل إلى الأغاني، فأحضروا المطربين من القراء
وأنشدوا أشعار الغزل، وتركوا الاشتغال بالحديث، ولم يلتفتوا إلى نهي
العوام عن الربا والزنا، وأمرهم بأداء الواجبات.
وصار متكلمهم يقطع المجلس بذكر ليلى والمجنون والطور وموسى وأبي يزيد
والحلاج والهذيان الذي لا محصول له.
وانفرد أقوام بالتزهد والانقطاع، فامتنعوا عن عيادة المرضى، والمشي بين
الناس، وأظهروا التخاشع، ووضعوا كتباً للرياضات، والتقلل من الطعام. وصارت
الشريعة عندهم كلام أبي يزيد والشبلي والمتصوفة.
ومعلوم أن من سبر الشريعة لم ير فيها من ذاك شيئاً.
وأما الأمراء فجروا مع العادات، وسموا ما يفعلونه من التنطع سياسات لم
يعملوا فيها بمقتضى الشريعة، وتبع الأخير في ذلك المتقدم.
فأين الشريعة المحمدية ؟.
ومن أين تعرف مع الإعراض عن المنقولات ؟.
نسأل الله عز وجل التوفيق للقيام بالشريعة، والإعانة على رد البدع إنه
قادر.
فصل مخاطر الهوى
كنت أسمع علياً بن الحسين الواعظ يقول على المنبر: والله لقد بكيت البارحة
من يد نفسي.
فبقيت أنا أتفكر وأقول: أي شيء قد فعلت نفس هذا حتى يبكي ؟.
هذا رجل متنعم له الجواري التركيات. وقد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من
النساء. ولا يطعم إلا الغاية من الدجاج والحلوى.
وله الدخل الكثير والمال الوافر والجاه العريض والأفضال على الناس.
وقد حصل طرفاً من العلم واستعبد كثيراً من العلماء بمعروفه، وراحته دائمة
الندى. فما الذي يبكيه منها ؟.
فتفكرت فعلمت أن النفس لا تقف عند حد بل تروم من اللذات ما لا منتهى له،
وكلما حصل لها عرض برد عندها وطلبت سواه، فيفنى العمر ويضعف البدن ويقع
النقص، ويرق الجاه، ولا يحصل المراد.
وليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليس في الدنيا على
الحقيقة لذة، إنما هي راحة من مؤلم.
فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها ومالت إليه، وعلم سترها
ودينها، أن يعقد الخنصر على صحبتها.
وأكثر أسباب دوام محبتها أن لا يطلب بصره، فمتى أطلق بصره أو أطمع نفسه في
غيرها، فإن الطمع في الجديد ينغص الخلق وينقص المخالطة، ولا يستر عيوب
الخارج، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب، ويتكدر العيش مع الحاضر القريب،
كما قال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين الحور موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضرّ مهجته ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ثم تصير الثانية كالأولى، وتطلب النفس ثالثة وليس لهذا آخر، بل الغض عن
المشتهيات، ويأس النفوس من طلب المستحسنات، يطيب العيش مع المعاشر.
ومن لم يقبل هذا النصح تعثر في طرق الهوى وهلك على البارد، وربما
سعى لنفسه في الهلاك العاجل، وفي العار الحاضر، فإن كثيراً من المستحسنات
لسن بصينات ولا يفي التمتع بهن بالعار الحاصل.
ومنهن المبذرات في المال، ومنهن المبغضة للزوج وهو يحبها كعابد صنم.
وأبله البله الشيخ الذي يطلب صبية... ولعمري إن كمال المتعة إنما يكون
بالصبا، كما قال القائل: فعلت بنفسي النساء الصغار ومتى لم تكن الصبية
بالغة لم يكمل الاستمتاع، فإذا بلغت أرادت كثرة الجماع والشيخ لا يقدر.
فإن حمل على نفسه لم يبلغ مرادها، وهلك سريعاً.
ولا ينبغي أن يغتر بشهوته الجماع، فإن شهوته كالفجر الكاذب.
وقد رأينا شيخنا اشترى جارية فبات معها فانقلب عنها ميتاً.
وكان في المارستان شاب قد بقي شهرين بالقيام، فدخلت عليه زوجته فوطئها
فانقلب عنها ميتاً.
فبان أن النفس باقية بما عندها من الدم، والمني، فإذا فرغا ولم تجد ما
تعتمد عليه ذهبت.
وإن قنع الشيخ بالاستمتاع من غير وطء فهي لا تقنع فتصير كالعدو له.
فربما غلبها الهوى ففجرت أو احتالت على قتله، خصوصاً الجواري اللواتي
أغلبهن قد جئن من بلاد الشرك ففيهن قسوة القلب.
وقبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء، فإن اتفق معه صاحبة دين قبل
ذلك فليرع لها معاشرتها، وليتمم نقصه عندها تارة بالإنفاق، وتارة بحسن
الخلق.
وليزد في تعريفها أحوال الصالحات والزاهدات، وليكثر من ذكر القيامة وذم
الدنيا، وليعرض بذكر محبة العرب، فإنهم كانوا يعشقون ولا يرون وطء
المعشوق، كما قال قائلهم:
إنما الحب قبلة ... وغمز كف وعضد
إنما العشق هكذا ... إن نكح الحب فسد
فإن قدر أن يشغلها بالحمل، أو ولد عرقلها به، فاستبقى قوته في مدة
اشتغالها بذلك.
فإن وطىء فليصبر عن الإنزال حفظاً لقوته وقضاء لحقها.
وقد قيل لبشر: لم لم تتزوج ؟ فقال: على ماذا أغر مسلمة، وقد قال الله عز
وجل: " ولهنَّ مثلُ الذي عليهنَّ بالمعرُوفِ " .
والمسكين من دخل في أمر لم يتلمح عواقبه قبل الدخول ورأى حبة الفخ فبادر
طالباً لها ناسياً تعرقل الجناح والذبح.
ومجموع ما قد بسطته حفظ البصر عن الإطلاق، ويأس النفس عن التحصيل، قنوعاً
بالحاصل خصوصاً من قد علت سنه، وعلم أن الصبية عدو له متمنية هلاكه، وهو
يربيها لغيره.
وفي بعض ما ذكرته ما يردع العاقل عن التعرض لهذه الآفات، نسأل الله عز وجل
توفيقاً من فضله وعملاً بمقتضى العقل والشرع، إنه مجيب قريب.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل التعجيل بالخير
أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة، وتأميله الإصلاح فيما بعد وليس
لهذا الأمل منتهى، ولا للاغترار حد.
فكلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل.
وأي موعظة أبلغ من أن ترى ديار الأقران وأحوال الإخوان وقبور المحبوبين،
فتعلم أنك بعد أيام مثلهم، ثم لا يقع انتباه حتى ينتبه الغير بك، هذا
والله شأن الحمقى.
حاشا من له عقل أن يسلك هذا المسلك.
بلى والله إن العاقل ليبادر السلامة، فيدخر من زمنها للزمن، ويتزود عند
القدرة على الزاد لوقت العسرة.
خصوصاً لمن قد علم أن مراتب الآخرة إنما تعلو بمقدار علو العلم لها، وأن
التدارك بعد الفوت لا يمكن.
وقدر أن العاصي عفى عنه، أينال مراتب العمال ؟.
ومن أجال على خاطره ذكر الجنة التي لا موت فيها ولا مرض ولا نوم ولا غم،
بل لذاتها متصلة من غير انقطاع، وزيادتها على قدر زيادة الجد ههنا انتهب
هذا الزمان فلم ينم إلا ضرورة، ولم يغفل عن عمارة لحظة.
ومن رأى أن ذنباً قد مضت لذته وبقيت آفاته دائمة كفاه ذلك زاجراً عن مثله،
خصوصاً الذنوب التي تتصل آثارها مثل أن يزني بذات زوج، فتحمل منه فتلحق
بالزوج فيمنع الميراث أهله ويأخذه من ليس من أهله، وتتغير الأنساب والفرش،
ويتصل ذلك أبداً، وكله شؤم لحظة.
فنسأل الله عز وجل توفيقاً يلهم الرشاد، ويمنع الفساد إنه قريب مجيب.
فصل من مزالق علم الكلام
تأملت سبب تخليط العقائد، فإذا هو الميل إلى الحس وقياس الغائبات على
الحاضر.
فإن أقواماً غلب عليهم الحس، فلما لم يشاهدوا الصانع جحدوا وجوده، ونسوا
أنه قد ظهر بأفعاله. وأن هذه الأفعال لا بد لها من فاعل.
فإن العاقل إذا مر على صحراء خالية ثم عاد وفيها غرس وبناء علم
أنه لا بد من غارس، إذ الغرس لا يكون بنفسه ولا البناء.
ثم جاء قوم فأثبتوا وجود الصانع، ثم قاسوه على أحواله فشبهوا، حتى إن
قائلهم يقول: في قوله: ينزل إلى السماء ينتقل، ويستدل بأن العرب لا تعرف
النزول إلا الانتقال.
وضل خلق كثير في صفاته كما ضل خلق كثير في ذاته. فظن أقوام أنه يتأثر حين
سمعوا أنه يغضب ويرضى.
ونسوا أن صفته تعالى قديمة لا يحدث منها شيء.
وضل خلق في أفعاله فأخذوا يعللون فلم يقنعوا بشيء فخرج منهم قوم إلى أن
نسبوا فعله إلى ضد الحكمة تعالى عن ذلك.
ومن رزق التوفيق فليحضر قلبه لما أقول: إعلم أن ذاته سبحانه لا تشبه
الذوات، وصفاته ليست كالصفات، وأفعاله لا تقاس بأفعال الخلق.
أما ذاته سبحانه فإنا لا نعرف ذاتاً إلا أن تكون جسماً وذاك يستدعي سابقة
تأليف، وهو منزه عن ذلك، لأنه المؤلف، وإما أن يكون جوهراً فالجوهر متحيز،
وله أمثال، وقد جل عن ذلك، أو عرضاً، فالعرض لا يقوم بنفسه بل بغيره، وقد
تعالى عن ذلك.
فإذا أثبتنا ذاتاً قديمة خارجة عما يعرف، فليعلم أن الصفات تابعة لتلك
الذات، فلا يجوز لنا أن نقيس شيئاً منها على ما نفعله ونفهمه، بل نؤمن به
ونسلمه.
وكذلك أفعاله، فإن أحدنا لو فعل فعلاً يجتلب به نفعاً ولا يدفع عنه ضراً
عد عابثاً. وهو سبحانه أوجد الخلق لا لنفع يعود إليه، ولا لرفع ضر إذ
المنافع لا تصل إليه والمضار لا تتطرق عليه.
فإن قال قائل: إنما خلق الخلق لينفعهم: قلنا: يبطله، إنه خلق منهم للكفر
وعذبهم.
ونراه يؤلم الحيوان والأطفال، ويخلق المضار، وهو قادر أن لا يفعل ذلك.
فإن قال قائل: إنه يثيب على ذلك. قلنا: وهو قادر أن يثيب بلا هذه الأشياء،
فإن السلطان لو أراد أن يغني فقيراً فجرحه ثم أغناه ليم على ذلك، لأنه
قادر أن يغنيه بلا جراح.
ثم من يرى ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من الجوع
والقتل مع قدرة الناصر، ثم يسأل أمه فلا يجاب، ولو كان المسؤول بعضنا قلنا
لم تمنع ما لا يضرك ؟.
غير أن الحق سبحانه لا تقاس أفعاله على أفعالنا ولا تعلل.
والذي يوجب علينا التسليم أن حكمته فوق العقل، فهي تقضي على العقول،
والعقول لا تقضي عليها.
ومن قاس فعله على أفعالنا غلط الغلط الفاحش؛ وإنما هلكت المعتزلة من هذا
الفن.
فإنهم قالوا: كيف يأمر بشيء ويقضي بامتناعه ؟ ولو أن إنساناً إلى داره ثم
أقام من يصد الداخل لعيب.
ولقد صدقوا فيما يتعلق بالشاهد. فأما من أفعاله لا تعلل ولا يقاس يشاهد،
فإنا لا نصل إلى معرفة حكمته.
فإن قال قائل: فكيف يمكنني أن أقود عقلي إلى ما ينافيه. قلنا: لا منافاة،
لأن العقل قد قطع بالدليل الجلي أنه حكيم، وأنه مالك، والحكيم لا يفعل
شيئاً إلا الحكمة، غير أن الحكمة، لا يبلغها العقل.
ألا ترى أن الخضر خرق سفينة وقتل شخصاً، فأنكر عليه موسى عليهما السلام
بحكم العلم ولم يطلع على حكمة فعله، فلما أظهر له الحكمة أذعن، ولله المثل
الأعلى.
فإياك إياك أن تقيس شيئاً من أفعاله على أفعال الخلق، أو شيئاً من صفاته
أو ذاته سبحانه وتعالى فإنك إن حفظت هذا سلمت من التشبيه الذي وقع فيه من
رأى الاستواء اعتماداً، والنزول نقلة، ونجوت من الاعتراض الذي أخرج قوماً
إلى الكفر حتى طعنوا في الحكمة.
وأول القوم إبليس، فإنه رأى تقديم الطين على النار ليس بحكمة، فنسي أنه
إنما علم ذلك بزعمه بالفهم الذي وهب له، والعقد الذي منحه، فنسي أن الواهب
أعلم " أولم يروا أن اللّه الذي خلقهم هو أشد منهم قوة " .
ولقد رأيت لابن الرومي اعتراضاً على من يقول بتخليد الكفار في النار. قال:
إن ذلك التأبيد مزيد من الانتقام ينكره العقل، وينبغي كل ما يقوله العقل،
ولا يرد بعضه إذ ليس رد بعضه بأولى من رد الكل، وتخليد الكفار لا غرض فيه
للمعذب ولا للمعذب فلا يجوز أن يكون.
فقلت العجب من هذا الذي يدعي وجود العقل ولا عقل عنده.
وأول ما أقول له: أصح عندك الخبر عن الخالق سبحانه أنه أخبر بخلود أهل
النار أم لم يصح؟.
فإن كان ما صح عنه فالكلام إذن في إثبات النبوة وصحة القرآن، فما وجه ذكر
الفرع مع جحد الأصل ؟.
وإن قال قد ثبت عندي فواجب عليه أن يتمحل لإقامة العذر، إلا أن يقف في وجه
المعارضة.
وإنما ينكر هذا من يأخذ الأمر من الشاهد، وقد بينا أن ذات الحق
كالذوات وأن صفته لا كالصفات، وأن أفعاله لا تعلل.
ولو تلمح شيئاً من التعليل لخلود الكفار لبان، إذ من الجائز أن يكون دوام
تعذيبهم لإظهار صدق الوعيد. فإنه قال: من كفر بي خلدته في العذاب ولا
جناية كالكفر ولا عقوبة كدوام الإحراق فهو يدوم ليظهر صدق الوعيد.
ومن الجائز أن يكون ذلك لتتمة تنعيم المؤمنين فإنهم أعداء الكفار. وقد قال
سبحانه " ويشف صدور قوم مؤمنين " .
وكم من قلق في صدر، وحنق على أبي جهل فيما فعل، وكم من غم في قلب عمار
وأمه سمية وغيرهم من أفعال الكفار بهم فدوام عذابهم شفاء لقلوب أهل
الإيمان.
ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام الاعتراض وذكر المعذب بما لا يحسن، فكلما
زاد عذابهم زاد كفرهم واعتراضهم فيهم يعذبون لذلك.
ودليل كفرهم " ويحلفون له كما يحلفون لكم " فإذن كفرهم ما زال، ومعرفتهم
به ما حصلت، والشر كامن في البواطن، وعلى ذلك يقع التعذيب " ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه " .
فصل التسليم لله
ينبغي للمؤمن بالله سبحانه إذا نظر في الفصل الذي قد تقدم هذا أن لا يعترض
على الله سبحانه في شيء لا في باطنه ولا في ظاهره، ولا يطلب تعليلات
أفعاله كلها.
فإن المتكلمين أعرضوا عن السنن وتكلموا بآرائهم فما صفى لهم شرب، بدليل
اختلافهم.
وكذلك إضمار القياس؛ فإنهم لما أعلموه جاءت أحاديث تعكر عليهم.
والصواب التعليل لما يمكن، والتسليم لما يخفى.
وكذلك سؤال الحق سبحانه، فإذا دعاه المؤمن ولم ير إجابة سلم وفوض وتأول
للمنع.
فيقول: ربما يكون المنع أصلح وربما يكون لأجل ذنوبي، وربما يكون التأخير
أولى، وربما لم يكن هذا مصلحة.
وإذا لم يجد تأويلاً لم يختلج في باطنه نوع اعتراض، بل يرى أنه قد تعبد
بالدعاء فإن أنعم عليه فبفضل، وإن لم يجب فما لك يفعل ما يشاء.
على أن أكثر السؤال إنما يقع في طلب أعراض الدنيا التي إذا ردت كان أصلح.
فليكن هم العاقل في إقامة حق الحق والرضى بتدبيره وإن أساء.
فمتى أقبلت عليه أقبل على إصلاح شأنك.
وإذا عرفت أنه كريم فلذ به ولا تسأل.
ومتى أقبلت على طاعاته فمحال أن يجود صانع وينصح في العمل ثم لا يعطى
الأجرة.
فصل اليقين بالآخرة
والله إني لأتخايل دخول الجنة ودوام الإقامة فيها من غير مرض ولا بصاق ولا
نوم ولا آفة تطرأ بل صحة دائمة وأغراض متصلة لا يعتورها منغص، في نعيم
متجدد في كل لحظة إلى زيادة لا تتناهى. فأطيش ويكاد الطبع يضيق عن تصديق
ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه.
ومعلوم أن تلك المنازل إنما تكون على قدر الاجتهاد ههنا.
فواعجبا من مضيع لحظة يقع فيها.
فتسبيحة تغرس له في الجنة نخلة أكلها دائم وظلها.
فيا أيها الخائف من فوت ذلك شجع قلبك بالرجاء.
ويا أيها المنزعج لذكر الموت تلمح ما بعد مرارة الشربة من العافية.
فإنه من ساعة خروج الروح لا بل قبل خروجها تنكشف المنازل لأصحابها. فيهون
سير المجذوب للذة المنتقل إليه.
ثم الأرواح في حواصل طير تعلق في أشجار الجنة.
فكل الآفات والمخافات في نهار الأجل، وقد اصفرت شمس العمر. فالبدار البدار
قبل الغروب ولا معين يرافق على تلك الطريق إلا الفكر إذا جلس مع العقل
فتذاكر العواقب فإذا فرغ ذلك المجلس، فالنظر في سير المجدين فإنه يعود
مستجلباً للفكر منها شتى الفضائل والتوفيق من وراء ذلك.
ومتى أرادك لشيء هيأك له.
فأما مخالطة الذين ليس عندهم خبر إلا من العاجلة فهو من أكبر أسباب مرض
الفهم وعلل العقل.
والعزلة عن الشر حمية والحمية سبب العافية.
فصل عشاق الدنيا
رأيت سبب الهموم والغموم الإعراض عن الله عز وجل والإقبال على الدنيا.
وكلما فات منها شيء وقع الغم لفواته.
فأما من رزق معرفة الله تعالى استراح لأنه يستغني بالرضا بالقضاء فمهما
قدر له رضي.
وإن دعا فلم ير أثر الإجابة لم يختلج في قلبه اعتراض، لأنه مملوك مدبر
فتكون همته في خدمة الخالق.
ومن هذه صفته لا يؤثر جمع مال، ولا مخالطة الخلق ولا الالتذاذ بالشهوات.
لأنه إما أن يكون مقصراً في المعرفة فهو مقبل على التعبد المحض يزهد في
الفاني لينال الباقي.
وإما أن يكون له ذوق في المعرفة فإنه مشغول عن الكل بصاحب الكل.
فتراه متأدباً في الخلوة به، مستأنساً بمناجاته، مستوحشاً من
مخالطة خلقه، راضياً بما يقدر له.
فعيشه معه كعيش محب قد خلا بحبيبه لا يريد سواه، ولا يهتم بغيره.
فأما من لم يرزق هذه الأشياء، فإنه لا يزال في تنغيص متكدر العيش، لأن
الذي يطلبه من الدنيا لا يقدر عليه، فيبقى أبداً في الحسرات مع ما يفوته
من الآخرة بسوء المعاملة، نسأل الله عز وجل أن يستصلحنا له فإنه لا حول
ولا قوة إلا به.
فصل الدنيا مثار القلق
إن اعتمدت على الزوجة لم تكن كما أريد. إن حسنت صورتها لم تكمل أخلاقها
وإن تمت أخلاقها كانت مريدة لغرضها لا لي. ولعلها تنتظر رحيلي.
وإن اعتمدت على الولد فكذلك، والخادم والمريد لي كذلك، فإن لم يكن لهما
مني فائدة لم يريداني.
وأما الصديق فليس ثم، وأخ في الله كعنقاء مغرب، ومعارف يفتقدون أهل الخير
ويعتقدون فيهم قد عدموا وبقيت وحدي.
وعدت إلى نفسي - وهي لا تصفوا إلي أيضاً ولا تقيم على حالة سليمة - فلم
يبق إلا الخالق سبحانه، فرأيت أني اعتمدت على إنعامه فما آمن ذلك البلاء،
وإن رجوت عفوه فما آمن عقوبته، فواأسفا لا طمأنينة ولا قرار.
واقلقي من قلقي، واحرقي من حرقي.
بالله ما العيش إلا في الجنة، حيث يقع اليقين بالرضا والمعاشرة لمن لا
يخون ولا يؤذي. فأما الدنيا فما هي دار ذاك.
فصل حقائق الناس
ينبغي لمن صحب سلطاناً أو محتشماً أن يكون ظاهره معه وباطنه سواء؛ فإنه قد
يدس إليه من يخبره، فربما افتضح في الابتلاء.
وقد كان جماعة من الملوك يقصدون تقريب المنادم، ويجعلون له حجرة في دورهم،
فإذا أرادوا أن يختصوه اختبروه باطناً وذاك لا يدري، فيظهر منه ما لا يصلح
فيطرد !.
ولقد امتحن أبرويز رجلاً من خاصته، فدس إليه جارية معها ألطاف، وأمرها أن
لا تقعد عنده فحملتها.
ثم أنفذها مرة أخرى وأمرها أن تقعد بعد التسليم هنيهة ففعلت، فلاحظها
الرجل.
ثم بعثها ثالثة وأمرها أن تطيل القعود عنده وتحدثه، فأطالت الحديث معه،
فأبدى لها شيئاً من الميل إليها، فقالت: أخاف أن يطلع علينا، ولكن دعني
أدبر في هذا.
فذهبت فأخبرت الملك بذلك، فوجه غيرها من خواص جواريه بمثل ذلك، فلما جاءته
قال: ما فعلت فلانة قالت مريضة فاربد لونه.
ثم فعلت الجارية الثانية مثل ما فعلت الأولى، فقالت له: إن الملك يمضي إلى
بستانه فيقيم هناك.
فإن أدرك على أن تمضي معه فأظهر أنك عليل.
فإن خيرك بين الانصراف إلى دور نسائك أو المقام هنا فاختر المقام ههنا،
وأخبره أنك لا تقدر على الحركة.
فإن أجابك إلى ذلك جئت إليك كل ليلة ما دام الملك غائباً، فسكن إلى قولها،
ثم مضت وأخبرت الملك بذلك.
فلما كان بعد ثلاث، استدعاه الملك فقال: إني مريض.
فعاد الرسول فأخبره فتبسم. وقال: أول الشر.
فوجه إليه محفة حمل فيها إليه فلما بصر به أبرويز قال: والمحفة الشر
الثاني.
فرأى العصابة على رأسه. قال: والعصابة الشر الثالث.
فقال له الملك: أيهما أحب إليك، الانصراف إلى نسائك ليمرضنك أو المقام
ههنا إلى وقت رجوعي، قال: المقام ههنا أرفق لي لقلة الحركة، فتبسم وقال:
حركتك ههنا إن تركت أكثر من حركتك إلى منزلك.
ثم أمر له بعصا الزناة التي كان يوسم بها من زنا.
فأيقن الرجل بالأمر، وأمر أن يكتب ما كان من أمره حرفاً حرفاً فيقرأ على
الناسر حرفاً حرفاً إذا حضروا، وأن ينفى إلى أقصى المملكة، وتجعل العصا
على رأس رمح يكون معه حيث كان ليحذر منه من لا يعرفه.
فلما نفي أخذ من بعض الموكلين مدية فجب بها ذكره وقال: ومات من ساعته.
قلت: وقد كان جماعة من الأمراء يتنكرون ويسألون العوام عن سيرتهم، فيتكلم
العامي بما لا يصلح فيضبطونه وربما بعثوا دسيساً عليه.
ورب كلمات قالها مسترسل فبلغها فضولي فأهلكت صاحبها.
ورأى عمر بن عبد العزيز رجلاً من العمال كثير الصلاة، فدس عليه من قال له:
إن أخذت لك الولاية الفلانية فما تعطيني ؟ قال: أعطيتك كذا وكذا، قال له
عمر: غررتنا بصلاتك.
وقد بلغت أن رجلاً كلم امرأة فأجابته فاستدعته إلى دارها فلما دخل أقامت
على قتله.
فقد ينجلي من هذه الحكاية أنه لا ينبغي أن يسكن إلى قول امرأة أو بعل يجوز
أنه يكون جاسوساً ومختبراً.
وكذلك لا يظهر ما ينبغي إخفاؤه من مال أو مذهب أو سب رجل فربما
كان له في الحاضرين قريب.
ولا يوثق بمودة لا أصل لها فربما كانت تحتها آفة تقصده.
وليحذر من كل أمر يحتمل. ورب كلمة نقلها صديق إلى صديق فتحث بها من لا
يقصد أذى للقائل فبلغت فتأذى.
ورب مظهر للمحبة مبالغ حتى يستمكن من مراده.
فالحذر الحذر من الطمأنينة إلى أحد خصوصاً من عدو آذيته أو قتلت له قريباً.
فربما أظهر الجميل شبكة لاصطيادك كحديث الزباء.
أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة، وتأميله الإصلاح فيما بعد وليس
لهذا الأمل منتهى، ولا للاغترار حد.
فكلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل.
وأي موعظة أبلغ من أن ترى ديار الأقران وأحوال الإخوان وقبور المحبوبين،
فتعلم أنك بعد أيام مثلهم، ثم لا يقع انتباه حتى ينتبه الغير بك، هذا
والله شأن الحمقى.
حاشا من له عقل أن يسلك هذا المسلك.
بلى والله إن العاقل ليبادر السلامة، فيدخر من زمنها للزمن، ويتزود عند
القدرة على الزاد لوقت العسرة.
خصوصاً لمن قد علم أن مراتب الآخرة إنما تعلو بمقدار علو العلم لها، وأن
التدارك بعد الفوت لا يمكن.
وقدر أن العاصي عفى عنه، أينال مراتب العمال ؟.
ومن أجال على خاطره ذكر الجنة التي لا موت فيها ولا مرض ولا نوم ولا غم،
بل لذاتها متصلة من غير انقطاع، وزيادتها على قدر زيادة الجد ههنا انتهب
هذا الزمان فلم ينم إلا ضرورة، ولم يغفل عن عمارة لحظة.
ومن رأى أن ذنباً قد مضت لذته وبقيت آفاته دائمة كفاه ذلك زاجراً عن مثله،
خصوصاً الذنوب التي تتصل آثارها مثل أن يزني بذات زوج، فتحمل منه فتلحق
بالزوج فيمنع الميراث أهله ويأخذه من ليس من أهله، وتتغير الأنساب والفرش،
ويتصل ذلك أبداً، وكله شؤم لحظة.
فنسأل الله عز وجل توفيقاً يلهم الرشاد، ويمنع الفساد إنه قريب مجيب.
تأملت سبب تخليط العقائد، فإذا هو الميل إلى الحس وقياس الغائبات على
الحاضر.
فإن أقواماً غلب عليهم الحس، فلما لم يشاهدوا الصانع جحدوا وجوده، ونسوا
أنه قد ظهر بأفعاله. وأن هذه الأفعال لا بد لها من فاعل.
فإن العاقل إذا مر على صحراء خالية ثم عاد وفيها غرس وبناء علم
أنه لا بد من غارس، إذ الغرس لا يكون بنفسه ولا البناء.
ثم جاء قوم فأثبتوا وجود الصانع، ثم قاسوه على أحواله فشبهوا، حتى إن
قائلهم يقول: في قوله: ينزل إلى السماء ينتقل، ويستدل بأن العرب لا تعرف
النزول إلا الانتقال.
وضل خلق كثير في صفاته كما ضل خلق كثير في ذاته. فظن أقوام أنه يتأثر حين
سمعوا أنه يغضب ويرضى.
ونسوا أن صفته تعالى قديمة لا يحدث منها شيء.
وضل خلق في أفعاله فأخذوا يعللون فلم يقنعوا بشيء فخرج منهم قوم إلى أن
نسبوا فعله إلى ضد الحكمة تعالى عن ذلك.
ومن رزق التوفيق فليحضر قلبه لما أقول: إعلم أن ذاته سبحانه لا تشبه
الذوات، وصفاته ليست كالصفات، وأفعاله لا تقاس بأفعال الخلق.
أما ذاته سبحانه فإنا لا نعرف ذاتاً إلا أن تكون جسماً وذاك يستدعي سابقة
تأليف، وهو منزه عن ذلك، لأنه المؤلف، وإما أن يكون جوهراً فالجوهر متحيز،
وله أمثال، وقد جل عن ذلك، أو عرضاً، فالعرض لا يقوم بنفسه بل بغيره، وقد
تعالى عن ذلك.
فإذا أثبتنا ذاتاً قديمة خارجة عما يعرف، فليعلم أن الصفات تابعة لتلك
الذات، فلا يجوز لنا أن نقيس شيئاً منها على ما نفعله ونفهمه، بل نؤمن به
ونسلمه.
وكذلك أفعاله، فإن أحدنا لو فعل فعلاً يجتلب به نفعاً ولا يدفع عنه ضراً
عد عابثاً. وهو سبحانه أوجد الخلق لا لنفع يعود إليه، ولا لرفع ضر إذ
المنافع لا تصل إليه والمضار لا تتطرق عليه.
فإن قال قائل: إنما خلق الخلق لينفعهم: قلنا: يبطله، إنه خلق منهم للكفر
وعذبهم.
ونراه يؤلم الحيوان والأطفال، ويخلق المضار، وهو قادر أن لا يفعل ذلك.
فإن قال قائل: إنه يثيب على ذلك. قلنا: وهو قادر أن يثيب بلا هذه الأشياء،
فإن السلطان لو أراد أن يغني فقيراً فجرحه ثم أغناه ليم على ذلك، لأنه
قادر أن يغنيه بلا جراح.
ثم من يرى ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من الجوع
والقتل مع قدرة الناصر، ثم يسأل أمه فلا يجاب، ولو كان المسؤول بعضنا قلنا
لم تمنع ما لا يضرك ؟.
غير أن الحق سبحانه لا تقاس أفعاله على أفعالنا ولا تعلل.
والذي يوجب علينا التسليم أن حكمته فوق العقل، فهي تقضي على العقول،
والعقول لا تقضي عليها.
ومن قاس فعله على أفعالنا غلط الغلط الفاحش؛ وإنما هلكت المعتزلة من هذا
الفن.
فإنهم قالوا: كيف يأمر بشيء ويقضي بامتناعه ؟ ولو أن إنساناً إلى داره ثم
أقام من يصد الداخل لعيب.
ولقد صدقوا فيما يتعلق بالشاهد. فأما من أفعاله لا تعلل ولا يقاس يشاهد،
فإنا لا نصل إلى معرفة حكمته.
فإن قال قائل: فكيف يمكنني أن أقود عقلي إلى ما ينافيه. قلنا: لا منافاة،
لأن العقل قد قطع بالدليل الجلي أنه حكيم، وأنه مالك، والحكيم لا يفعل
شيئاً إلا الحكمة، غير أن الحكمة، لا يبلغها العقل.
ألا ترى أن الخضر خرق سفينة وقتل شخصاً، فأنكر عليه موسى عليهما السلام
بحكم العلم ولم يطلع على حكمة فعله، فلما أظهر له الحكمة أذعن، ولله المثل
الأعلى.
فإياك إياك أن تقيس شيئاً من أفعاله على أفعال الخلق، أو شيئاً من صفاته
أو ذاته سبحانه وتعالى فإنك إن حفظت هذا سلمت من التشبيه الذي وقع فيه من
رأى الاستواء اعتماداً، والنزول نقلة، ونجوت من الاعتراض الذي أخرج قوماً
إلى الكفر حتى طعنوا في الحكمة.
وأول القوم إبليس، فإنه رأى تقديم الطين على النار ليس بحكمة، فنسي أنه
إنما علم ذلك بزعمه بالفهم الذي وهب له، والعقد الذي منحه، فنسي أن الواهب
أعلم " أولم يروا أن اللّه الذي خلقهم هو أشد منهم قوة " .
ولقد رأيت لابن الرومي اعتراضاً على من يقول بتخليد الكفار في النار. قال:
إن ذلك التأبيد مزيد من الانتقام ينكره العقل، وينبغي كل ما يقوله العقل،
ولا يرد بعضه إذ ليس رد بعضه بأولى من رد الكل، وتخليد الكفار لا غرض فيه
للمعذب ولا للمعذب فلا يجوز أن يكون.
فقلت العجب من هذا الذي يدعي وجود العقل ولا عقل عنده.
وأول ما أقول له: أصح عندك الخبر عن الخالق سبحانه أنه أخبر بخلود أهل
النار أم لم يصح؟.
فإن كان ما صح عنه فالكلام إذن في إثبات النبوة وصحة القرآن، فما وجه ذكر
الفرع مع جحد الأصل ؟.
وإن قال قد ثبت عندي فواجب عليه أن يتمحل لإقامة العذر، إلا أن يقف في وجه
المعارضة.
وإنما ينكر هذا من يأخذ الأمر من الشاهد، وقد بينا أن ذات الحق
كالذوات وأن صفته لا كالصفات، وأن أفعاله لا تعلل.
ولو تلمح شيئاً من التعليل لخلود الكفار لبان، إذ من الجائز أن يكون دوام
تعذيبهم لإظهار صدق الوعيد. فإنه قال: من كفر بي خلدته في العذاب ولا
جناية كالكفر ولا عقوبة كدوام الإحراق فهو يدوم ليظهر صدق الوعيد.
ومن الجائز أن يكون ذلك لتتمة تنعيم المؤمنين فإنهم أعداء الكفار. وقد قال
سبحانه " ويشف صدور قوم مؤمنين " .
وكم من قلق في صدر، وحنق على أبي جهل فيما فعل، وكم من غم في قلب عمار
وأمه سمية وغيرهم من أفعال الكفار بهم فدوام عذابهم شفاء لقلوب أهل
الإيمان.
ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام الاعتراض وذكر المعذب بما لا يحسن، فكلما
زاد عذابهم زاد كفرهم واعتراضهم فيهم يعذبون لذلك.
ودليل كفرهم " ويحلفون له كما يحلفون لكم " فإذن كفرهم ما زال، ومعرفتهم
به ما حصلت، والشر كامن في البواطن، وعلى ذلك يقع التعذيب " ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه " .
فصل التسليم لله
ينبغي للمؤمن بالله سبحانه إذا نظر في الفصل الذي قد تقدم هذا أن لا يعترض
على الله سبحانه في شيء لا في باطنه ولا في ظاهره، ولا يطلب تعليلات
أفعاله كلها.
فإن المتكلمين أعرضوا عن السنن وتكلموا بآرائهم فما صفى لهم شرب، بدليل
اختلافهم.
وكذلك إضمار القياس؛ فإنهم لما أعلموه جاءت أحاديث تعكر عليهم.
والصواب التعليل لما يمكن، والتسليم لما يخفى.
وكذلك سؤال الحق سبحانه، فإذا دعاه المؤمن ولم ير إجابة سلم وفوض وتأول
للمنع.
فيقول: ربما يكون المنع أصلح وربما يكون لأجل ذنوبي، وربما يكون التأخير
أولى، وربما لم يكن هذا مصلحة.
وإذا لم يجد تأويلاً لم يختلج في باطنه نوع اعتراض، بل يرى أنه قد تعبد
بالدعاء فإن أنعم عليه فبفضل، وإن لم يجب فما لك يفعل ما يشاء.
على أن أكثر السؤال إنما يقع في طلب أعراض الدنيا التي إذا ردت كان أصلح.
فليكن هم العاقل في إقامة حق الحق والرضى بتدبيره وإن أساء.
فمتى أقبلت عليه أقبل على إصلاح شأنك.
وإذا عرفت أنه كريم فلذ به ولا تسأل.
ومتى أقبلت على طاعاته فمحال أن يجود صانع وينصح في العمل ثم لا يعطى
الأجرة.
والله إني لأتخايل دخول الجنة ودوام الإقامة فيها من غير مرض ولا بصاق ولا
نوم ولا آفة تطرأ بل صحة دائمة وأغراض متصلة لا يعتورها منغص، في نعيم
متجدد في كل لحظة إلى زيادة لا تتناهى. فأطيش ويكاد الطبع يضيق عن تصديق
ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه.
ومعلوم أن تلك المنازل إنما تكون على قدر الاجتهاد ههنا.
فواعجبا من مضيع لحظة يقع فيها.
فتسبيحة تغرس له في الجنة نخلة أكلها دائم وظلها.
فيا أيها الخائف من فوت ذلك شجع قلبك بالرجاء.
ويا أيها المنزعج لذكر الموت تلمح ما بعد مرارة الشربة من العافية.
فإنه من ساعة خروج الروح لا بل قبل خروجها تنكشف المنازل لأصحابها. فيهون
سير المجذوب للذة المنتقل إليه.
ثم الأرواح في حواصل طير تعلق في أشجار الجنة.
فكل الآفات والمخافات في نهار الأجل، وقد اصفرت شمس العمر. فالبدار البدار
قبل الغروب ولا معين يرافق على تلك الطريق إلا الفكر إذا جلس مع العقل
فتذاكر العواقب فإذا فرغ ذلك المجلس، فالنظر في سير المجدين فإنه يعود
مستجلباً للفكر منها شتى الفضائل والتوفيق من وراء ذلك.
ومتى أرادك لشيء هيأك له.
فأما مخالطة الذين ليس عندهم خبر إلا من العاجلة فهو من أكبر أسباب مرض
الفهم وعلل العقل.
والعزلة عن الشر حمية والحمية سبب العافية.
رأيت سبب الهموم والغموم الإعراض عن الله عز وجل والإقبال على الدنيا.
وكلما فات منها شيء وقع الغم لفواته.
فأما من رزق معرفة الله تعالى استراح لأنه يستغني بالرضا بالقضاء فمهما
قدر له رضي.
وإن دعا فلم ير أثر الإجابة لم يختلج في قلبه اعتراض، لأنه مملوك مدبر
فتكون همته في خدمة الخالق.
ومن هذه صفته لا يؤثر جمع مال، ولا مخالطة الخلق ولا الالتذاذ بالشهوات.
لأنه إما أن يكون مقصراً في المعرفة فهو مقبل على التعبد المحض يزهد في
الفاني لينال الباقي.
وإما أن يكون له ذوق في المعرفة فإنه مشغول عن الكل بصاحب الكل.
فتراه متأدباً في الخلوة به، مستأنساً بمناجاته، مستوحشاً من
مخالطة خلقه، راضياً بما يقدر له.
فعيشه معه كعيش محب قد خلا بحبيبه لا يريد سواه، ولا يهتم بغيره.
فأما من لم يرزق هذه الأشياء، فإنه لا يزال في تنغيص متكدر العيش، لأن
الذي يطلبه من الدنيا لا يقدر عليه، فيبقى أبداً في الحسرات مع ما يفوته
من الآخرة بسوء المعاملة، نسأل الله عز وجل أن يستصلحنا له فإنه لا حول
ولا قوة إلا به.
فصل الدنيا مثار القلق
إن اعتمدت على الزوجة لم تكن كما أريد. إن حسنت صورتها لم تكمل أخلاقها
وإن تمت أخلاقها كانت مريدة لغرضها لا لي. ولعلها تنتظر رحيلي.
وإن اعتمدت على الولد فكذلك، والخادم والمريد لي كذلك، فإن لم يكن لهما
مني فائدة لم يريداني.
وأما الصديق فليس ثم، وأخ في الله كعنقاء مغرب، ومعارف يفتقدون أهل الخير
ويعتقدون فيهم قد عدموا وبقيت وحدي.
وعدت إلى نفسي - وهي لا تصفوا إلي أيضاً ولا تقيم على حالة سليمة - فلم
يبق إلا الخالق سبحانه، فرأيت أني اعتمدت على إنعامه فما آمن ذلك البلاء،
وإن رجوت عفوه فما آمن عقوبته، فواأسفا لا طمأنينة ولا قرار.
واقلقي من قلقي، واحرقي من حرقي.
بالله ما العيش إلا في الجنة، حيث يقع اليقين بالرضا والمعاشرة لمن لا
يخون ولا يؤذي. فأما الدنيا فما هي دار ذاك.
ينبغي لمن صحب سلطاناً أو محتشماً أن يكون ظاهره معه وباطنه سواء؛ فإنه قد
يدس إليه من يخبره، فربما افتضح في الابتلاء.
وقد كان جماعة من الملوك يقصدون تقريب المنادم، ويجعلون له حجرة في دورهم،
فإذا أرادوا أن يختصوه اختبروه باطناً وذاك لا يدري، فيظهر منه ما لا يصلح
فيطرد !.
ولقد امتحن أبرويز رجلاً من خاصته، فدس إليه جارية معها ألطاف، وأمرها أن
لا تقعد عنده فحملتها.
ثم أنفذها مرة أخرى وأمرها أن تقعد بعد التسليم هنيهة ففعلت، فلاحظها
الرجل.
ثم بعثها ثالثة وأمرها أن تطيل القعود عنده وتحدثه، فأطالت الحديث معه،
فأبدى لها شيئاً من الميل إليها، فقالت: أخاف أن يطلع علينا، ولكن دعني
أدبر في هذا.
فذهبت فأخبرت الملك بذلك، فوجه غيرها من خواص جواريه بمثل ذلك، فلما جاءته
قال: ما فعلت فلانة قالت مريضة فاربد لونه.
ثم فعلت الجارية الثانية مثل ما فعلت الأولى، فقالت له: إن الملك يمضي إلى
بستانه فيقيم هناك.
فإن أدرك على أن تمضي معه فأظهر أنك عليل.
فإن خيرك بين الانصراف إلى دور نسائك أو المقام هنا فاختر المقام ههنا،
وأخبره أنك لا تقدر على الحركة.
فإن أجابك إلى ذلك جئت إليك كل ليلة ما دام الملك غائباً، فسكن إلى قولها،
ثم مضت وأخبرت الملك بذلك.
فلما كان بعد ثلاث، استدعاه الملك فقال: إني مريض.
فعاد الرسول فأخبره فتبسم. وقال: أول الشر.
فوجه إليه محفة حمل فيها إليه فلما بصر به أبرويز قال: والمحفة الشر
الثاني.
فرأى العصابة على رأسه. قال: والعصابة الشر الثالث.
فقال له الملك: أيهما أحب إليك، الانصراف إلى نسائك ليمرضنك أو المقام
ههنا إلى وقت رجوعي، قال: المقام ههنا أرفق لي لقلة الحركة، فتبسم وقال:
حركتك ههنا إن تركت أكثر من حركتك إلى منزلك.
ثم أمر له بعصا الزناة التي كان يوسم بها من زنا.
فأيقن الرجل بالأمر، وأمر أن يكتب ما كان من أمره حرفاً حرفاً فيقرأ على
الناسر حرفاً حرفاً إذا حضروا، وأن ينفى إلى أقصى المملكة، وتجعل العصا
على رأس رمح يكون معه حيث كان ليحذر منه من لا يعرفه.
فلما نفي أخذ من بعض الموكلين مدية فجب بها ذكره وقال: ومات من ساعته.
قلت: وقد كان جماعة من الأمراء يتنكرون ويسألون العوام عن سيرتهم، فيتكلم
العامي بما لا يصلح فيضبطونه وربما بعثوا دسيساً عليه.
ورب كلمات قالها مسترسل فبلغها فضولي فأهلكت صاحبها.
ورأى عمر بن عبد العزيز رجلاً من العمال كثير الصلاة، فدس عليه من قال له:
إن أخذت لك الولاية الفلانية فما تعطيني ؟ قال: أعطيتك كذا وكذا، قال له
عمر: غررتنا بصلاتك.
وقد بلغت أن رجلاً كلم امرأة فأجابته فاستدعته إلى دارها فلما دخل أقامت
على قتله.
فقد ينجلي من هذه الحكاية أنه لا ينبغي أن يسكن إلى قول امرأة أو بعل يجوز
أنه يكون جاسوساً ومختبراً.
وكذلك لا يظهر ما ينبغي إخفاؤه من مال أو مذهب أو سب رجل فربما
كان له في الحاضرين قريب.
ولا يوثق بمودة لا أصل لها فربما كانت تحتها آفة تقصده.
وليحذر من كل أمر يحتمل. ورب كلمة نقلها صديق إلى صديق فتحث بها من لا
يقصد أذى للقائل فبلغت فتأذى.
ورب مظهر للمحبة مبالغ حتى يستمكن من مراده.
فالحذر الحذر من الطمأنينة إلى أحد خصوصاً من عدو آذيته أو قتلت له قريباً.
فربما أظهر الجميل شبكة لاصطيادك كحديث الزباء.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل عجز الشيخوخة
رأيت النفس بعد علو السن يقوى أملها ويزداد حرصها كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم. يشيب ابن آدم وتشب منه خصلتان: الحرص والأمل.
ورأيت أكثر أسباب ذلك فراغ اليد من الدنيا وكثرة العائلة وقوة الحاجة.
فيحتاج الإنسان إلى التعرض بما يشين العرض ليحصل الغرض.
فقلت إلهي أبعد رؤية جبال عرفة أضل ؟ أبعد مشارفة الحرم تأخذني أعراب
البادية ؟.
واأسافا أيطلع فجر النحر وما وصلت إلى عرفات ويا ضياع سفر العم وما حصل
المقصود:
قد كنت أرجوك لنيل المنى ... واليوم لا أطلب إلاَّ الرضى
ثم قلت: يا نفس ما لك ملجأ إلا اللجأ واستغاثة الغريق.
فإن رحمت وإلا فكم من حسرة تحت التراب.
فصل الاشتغال عن الهوى
شكا لي بعض الأشياخ فقال: قد علت سني وضعفت قوتي، ونفسي تطلب مني شراء
الجوار الصغار.
ومعلوم أنهن يردن النكاح وليس فيّ.
ولا تقنع مني النفس بربة البيت إذ قد كبرت.
فقلت له: عندي جوابان: أحدهما الجواب العامي، وهو أن أقول: ينبغي أن تشتغل
بذكر الموت وما قد توجهت إليه، وتحذر من اشتراء جارية لا تقدر على إيفاء
حقها فإنها تبغضك، فإن أجهدت استعجلت التلف. وإن استبقيت قوتك غضبت هي،
على أنها لا تريد شيخاً كيف كان.
وقد أنشدنا علي بن عبيد الله قال أنشدنا محمد التميمي:
أفق يا فؤادي من غرامك واستمع ... مقالة محزون عليك شفيق
علقت فتاة قلبها متعلق ... بغيرك فاستوثقت غير وثيق
وأصبحت موثوقاً وراحت طليقة ... فكم بين موثوق وبين طليق
فاعلم أنها تعد عليك الأيام، وتطلب منك فضل المال لتستعد لغيرك.
وربما قصدت حتفك، فاحذر والسلامة في الترك، والاقتناع بما يدفع الزمان.
والجواب الثاني فإني أقول: لا يخلو أن تكون قادراً على الوطء في وقت أو لا
تكون.
فإن كنت لا تقدر فالأولى مصابرة الترك للكل. وإن كان يمكن الحازم أن يداري
المرأة بالنفقة وطيب الخلق إلا أنه يخاطر.
وإن كنت تقدر في أوقات على ذلك، ورأيت من نفسك توقاً شديداً، فعليك
فالمراهقات فإنهن ما عرفن النكاح، وما طلبن الوطء، وأغمرهن بالإنفاق وحسن
الخلق مع الاحتياط عليهن، والمنع من مخالطة النسوة.
وإذا اتفق وطء فتصبر عن الإنزال ريثما تقضي المرأة حاجتها.
واعتدم وعظها وتذكيرها بالآخرة، واذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح،
وقبح صورة الفعل، ولفت قلبها إلى ذكر الصالحين، ولا تخل نفسك من الطيب
والتزين والكياسة والمداراة والإنفاق الواسع.
فهذا ربما حرك الناقة للمسير مع خطر السلامة.
فصل الحكم بعد تريث
أبله الناس من عمل على الحال الحاضرة، ولم يتصور تغيرها ولا وقوع ما يجوز
وقوعه.
مثاله أن يغتر بدولة فيعمل بمقتضى ملكه فإذا تغيرت هلك.
وربما عادى خلقاً اغتراراً بأنه متسلط أو أنه صاحب سلطان، فإذا تغيرت حاله
أكل كفيه ندماً عند فوات التدارك.
وكذلك من له مال يبذره سكوناً إلى وجود المال، وينسى حاله عند العدم.
وكذا من يتناول الشهوات، ويكثر من المآكل والمشارب والنكاح ثقة بعافيته
وينسى ما يعقب ذلك من الأمراض والآفات.
ومن أظرف الأحوال أن يحب جاريته فيعتها ويهب لها، أو امرأة فيسكن إليها
ويهب لها فتتمكن، ولا تمضي الأيام حتى يسلوها أو يطلب غيرها، ولا يجد
طريقاً للخلاص.
فإن تخلص منها أخذت ما غنمت منه فلقي من الغيظ أضعاف ما يلتذ به.
فلا ينبغي أن يوثق بامرأة ولا بمحبة إنسان، فإنه قد يحب امرأة ويظن أنه لا
يسلوها أبداً فيسترسل إليها والسلو يحدث.
وربما أحب غيرها فينسى الأولى فيصعب عليه الخلاص من الأولى.
فالعاقل لا يدخل في شيء حتى يهيء الخروج منه، فإن الأشياء لا
تثبت، والمحبة لا تدوم، والتغير مقرون بكل حال.
وكذلك يعطي ماله ولده ثم يبقى كلاً عليه فيتمنى الولد هلاكه، وربما عل به
في النفقة.
وكذلك قد يثق بالصديق فيبث أسراره إليه، فربما أظهر ذلك فكان منها ما يوجب
هلاكه.
وكذلك يغتر الإنسان بالسلامة وينسى طروق الموت فيأتيه بغتة فيبتهته وقد
فات الاستدراك ولم يبق إلا الندم.
فالعاقل من كانت عينه مراقبة للعواقب، محترزة مما يجوز وقوعه، عاملة
بالاحتياط في كل حال حافظة للمال والسر، غير واثقة بزوجة ولا ولد ولا
صديق، متأهبة للرحيل متهيئة للنقلة. هذه صفة أهل الحزم.
فصل التسليم واليقين
من أعجب الأمور طلب الاطلاع على تحقيق العرفان لذات الله عز وجل وصفاته
وأفعاله، وهيهات، ليس إلا المعرفة بالجملة.
ولقد أوغل المتكلمون فما وقعوا بشيء فرجع عقلاؤهم إلى التسليم.
وكذلك أصحاب الرأي، مالوا إلى القياس فإذا أشياء كثيرة بعكس مرادهم، فلم
يجدوا ملجأ إلا التسليم، فسموا ما خالفهم استحساناً.
الفقيه من علل بما يمكن، فإذا عجز استطرح للتسليم، هذا شأن العبيد.
فأما من يقول لم فعل كذا وما معنى كذا، فإنه يطلب الاطلاع على سر الملك،
وما يجد إلى ذلك سبيلاً لوجهين: أحدهما أن الله تعالى ستر كثيراً من حكمه
عن الخلق.
والثاني أنه ليس في البشر إدراك حكم الله تعلى كلها، فلا يبقى مع المعترض
سوى الاعتراض المخرج إلى الكفر " فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر
هل يذهبن كيده ما يغيظ " .
والمعنى من رضي بأفعالي وإلا فليخنق نفسه فما أفعل إلا ما أريد.
فصل أثر المخالطة
من رزقه الله تعالى العلم، والنظر في سير السلف، رأى أن هذا العالم ظلمة.
وجمهور العالم على غير الجادة، والمخالطة لهم تضر ولا تنفع.
فالعجب لمن يترخص في المخالطة وهو يعلم أن الطبع يسرق من المخالطة.
وإنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع والأعلى في العلم والعمل ليستفاد منه.
فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي، إلا أن يكون عامياً يقصد من يعلمه، فينبغي
أن يخالط بالاحتراز.
وفي هذا الزمان إن وقعت المخالطة للعوام عكرت الفؤاد فهم ظلمة مستحكمة،
فإذا ابتلى العالم بمخالطتهم فليشمر ثياب الحذر، ولتكن مجالسته إياهم
للتذكرة والتأديب فحسب.
وإن وقعت المخالطة للعلماء فأكثرهم على غير الجادة، مقصودهم صورة العلم لا
العمل به. فلا تكاد ترى من تذاكره أمر الآخرة، إنما شغلهم الغيبة وقصد
الغلبة واجتلاب الدنيا.
ثم فيهم من الحسد للنظراء ما لا يوصف.
وإن وقعت المخالطة للأمراء، فذاك تعرض لفساد الدين.
لأنه إن تولى لهم ولاية دنيوية فالظلم من ضروراتها، لغلبة العادة عليهم
والإعراض عن الشرع.
وإن كانت ولاية دينية كالقضاء، فإنهم يأمرونه بأشياء لا يكاد يمكنه
المراجعة فيها، ولو راجع لم يقبلوا.
وأكثر القوم يخاف على منصبه، فيفعل ما أمر به وإن لم يجبر.
وربما رأيت في هذا الزمان أقواماً يبذلون المال ليكونوا قضاة، أو شهوداً،
ومقصودهم الرفعة.
ثم أكثر الشهود يشهد على من لا يعرفه، ويقول إنه معروف ويدري أنه كذاب،
وإنما عرف لأجل حبة يعطاها.
وكم قد وقعت شهادة على غير المشهود عليه، أو على مكره ؟.
وإن وقعت المخالطة للمتزهدين فأكثرهم على غير الجادة، وعلى خلاف العلم، قد
جعلوا لأنفسهم نواميس، فلا يتنسمون ولا يخرجون إلى سوق، ويظهرون التخشع
الزائد وكله نفاق.
وفيهم من يلبس الصوف تحت ثيابه، وربما يوح بكمه ليرى. وقد حكي عن طاهر بن
الحسين أنه قال لبعض المتزهدين. مذ كم قدمت العراق ؟ قال: دخلتها منذ
عشرين سنة، وأنا منذ ثلاثين سنة صائم.
قال: سألناك عن مسألة فأجبت عن اثنتين.
وبيوت الصوفية أربطة فهي خوارج على المساجد.
وهي دكاكين كريهة يقعد فيها الكسالى عن الكسب مع القدرة عليه، ويتعرضون
بالقعود للصدقات، ولأحوال الظلمة.
وقد أراحوا أنفسهم من إعادة العلم.
وأكثرهم لا يصلي نافلة، ولا يقوم الليل، بل يهمهم المأكول والمشروب والرقص.
وقد اتخذوا سنناً تخالف الشريعة فهم يلبسون المرقع لا من فقر. وهذا قبيح.
لأنه ليس عندهم من أمارات الزهد سوى الملبس الدون، فثيابهم تصيح نحن زهاد،
وباقي أفعالهم المستورة تفضحهم إذا طلع عليها.
فالمطب دائر، والحمام والحلوى كثيرة، والطيب والدعة، والكبر حاصل
بذلك الزي.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن فضلة وقد رآه أشعث الهيئة. أما
لك مال ؟ قال بلى من كل المال آتاني الله عز وجل ! قال: فإن الله عز وجل
إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن ترى عليه.
ومن أخلاقهم تنفير الناس من العلم، ويزعمون أن لا حاجة إلى الوسائط، وإنما
هو قلب ورب.
ولهم من الأقوال والأفعال المنكرات ما قد ذكرته في تلبيس إبليس.
آه لو كان للزمان عمر لاحتاج كل يوم إلى مائة درة، لا بل كان يستعمل السيف
في هؤلاء الخوارج.
وهم داخل البلد لا قدرة للعلماء عليهم، إذ قولهم فيهم لا يقبل.
فمن رزقه الله سبحانه النظر في سير السلف، ووفقه للاقتداء بهم، آثر أن
يعتزل عن أكثر الخلق، ولا يخالطهم فإنه من خالطهم أوذي.
ومن دارهم لم يسلم من المداهنة فالنصح اليوم مردود.
فصل التأني في معاملة الناس
من البله أن تبادر عدواً أو حسوداً بالمخاصمة.
وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما.
إن اعتذر قبلتن وإن أخذ الخصومة صفحت. وأريت أن الأمر قريب.
ثم تبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال وتتجافاه باطناً مع إظهار المخالطة
في الظاهر.
فإذا أردت أن تؤذيه فأول ما تؤذيه به إصلاحك لنفسك واجتهادك في علاج ما
يعرفك به.
ومن أعظم العقوبة له العفو عنه الله.
وإن بالغ في السب فبالغ في الصفح تنب عنك العوام في شتمه، ويحمدك العلماء
على حلمك.
وما تؤذيه به من ذلك، وتورثه به الكمد ظاهراً، وغيره في الباطن أضعاف،
وخير مما تؤذيه به من كلمة إذا قلتها له سمعت أضعافها.
ثم بالخصومة تعلمه أنك عدوه فيأخذ الحذر ويبسط اللسان، وبالصفح يجهل مما
في باطنك، فيمكنك حينئذ أن تشتفي منه، أما أن تلقاه بما يؤذي دينك هو الذي
قد اشتفى منك.
وما ظفر قط من ظفر به الإثم بل الصفح الجميل.
وإنما يقع هذا ممن يرى أن تسليطه عليه إما عقوبة لذنب أو لرفع درجة
بالابتلاء فهو لا يرى الخصم وإنما يرى القدرة.
فصل حقيقة الدعاء
إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها فليس لك إلا الدعاء واللجأ إلى الله
بعد أن تقدم التوبة من الذنوب.
فإن الزلل يوجب العقوبة فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب ارتفع السبب.
فإذا ثبت ودعوت ولم تر للإجابة أثراً فتقد أمرك، فربما كانت التوبة ما صحت
فصصحها ثم ادع ولا تمل من الدعاء.
فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة،
فأنت تثاب وتجاب إلى منافعك.
ومن منافعك أن لا تعطي ما طلبت بل تعوض غيره.
فإذا جاء إبليس فقال كم تدعوه ولا ترى إجابة، فقل أنا أتعبد بالدعاء. وأنا
موقن أن الجواب حاصل.
غير أنه ربما كان تأخيره لبعض المصالح، فهو يجيء في وقت مناسب، ولو لم
يحصل حصل التعبد والذل.
فإياك أن تسأل شيئاً إلا وتقرنه بسؤال الخيرة.
فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك.
وإذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا ليبين صاحبك لك في بعض الآراء
ما يعجز رأيك عنه، وترى أن ما وقع لك لا يصلح فكيف لا تسأل الخير ربك وهو
أعلم المصالح ؟ والاستخارة من حسن المشاورة.
فصل أقسام الناس
نظرت إلى الناس فرأيتهم ينقسمون بين عالم وجاهل.
فأما الجهال فانقسموا، فمنهم سلطان قد ربي في الجهل ولبس الحرير وشرب
الخمور وظلم الناس، وله عمال على مثل حاله، فهؤلاء بمعزل عن الخير بالجملة.
ومنهم تجار همتهم الاكتساب وجمع الأموال، وأكثرهم لا يؤدي الزكاة ولا
يتحاشى من الربا. فهؤلاء في صور الناس.
ومنهم أرباب معاش يطففون المكيال ويخسرون الميزان ويبخسون الناس ويتعاملون
بالربا وهم في الأسواق طول النهار لا همة لهم إلا ما هم فيه. فإذا جاء
الليل وقعوا نياماً كالسكارى، فهمة أحدهم ما يأكل ويلتذ به، وليس عندهم من
الصلاة خبر، فإن صلى أحدهم نقرها أو جمع بينهما، فهؤلاء في عداد البهائم.
ومن الناس ذو رذالة في جميع أحوالهم فهذا كالناس وهذا زبال وهذا نخال وهذا
يكسح الحش فهؤلاء أرذل القوم.
ومنهم من يطلب اللذات ولا يساعده المعاش فيخرج إلى قطع الطريق، وهؤلاء
أحمق الجماعة، إذ لا عيش لهم.
فإن التذوا لحظة بأكل أو شرب فحركت الريح قصبة هربوا خوفاً من
السلطان وما أقل بقاءهم، ثم القتل والصلب مع إثم الآخرة.
ومنهم أرباب قرى قد عمهم الجهل، وأكثرهم لا يتحاشى من نجاسة، فهم في زمرة
البقر.
ورأيت النساء ينقسمن أيضاً، فمنهن المستحسنة التي تبغي.
ومنهن الخائنة لزوجها في ماله.
ومنهن من لا تصلي ولا تعرف شيئاً من الدين، فهؤلاء حشو النار.
فإذ سمعن موعظة فإنها كما مرت على حجر.
وإذا قرىء عندهن القرآن فكأنهن يسمعن السمر.
وأما العلماء فالمبتدئون منهم ينقسمون إلى ذي نية خبيثة يقصد بالعلم
المباهاة لا العمل، ويميل إلى الفسق ظناً أن العلم يدفع عنه، وإنما هو حجة
عليه.
وأما المتوسطون والمشهورون، فأكثرهم يغشي السلاطين ويسكت عن إنكار المنكر.
وقليل من العلماء من تسلم له نيته ويحسن قصده.
فمن أراد الله به خيراً رزقه حسن القصد في طلب العلم، فهو يحصله لينتفع به
وينفع، ولا يبالي بعمل مما يدله عليه العلم.
فتراه يتجافى أرباب الدنيا، ويحذر مخالطة العوام، ويقنع بالقليل خوفاً من
المخاطرة في الدنيا في تحصيل الكثير.
ويؤثر العزلة فليس مذكراً للآخرة مثلها.
وليس على العالم أضر من الدخول على السلاطين فإنه يحسن للعالم الدنيا
ويهون عليه المنكر.
وربما أراد أن ينكر فلا يصح له، فإن عدم القناعة وتقلبت نفسه في طلب فضول
الدنيا فهيهات أن يسلم منها لأنه يتعرض بأربابها.
وإن الإنسان ليمشي في السوق ساعة، فينسى بما يرى، ما يعلم.
فكيف إذا انضم إلى ذلك التردد إلى الأغنياء والطمع في أموالهم.
فأما الوحدة فإنها سبب رجوع القلب وجمع الهم، والنظر في العواقب والتهيؤ
للرحيل وتحصيل الزاد.
فإذا انضمت إليها القناعة جلبت الأحوال المستحسنة.
ولا تحسن اليوم المجالسة إلا لكتاب يحدثك عن أسرار السلف.
فأما مجالسة العلماء فمخاطرة، إذ لا يجتمعون على ذكر الآخرة في الأغلب.
ومجالسة العوام فتنة للدين، إلا أن يحترز في مجالسهم ويمنعهم من القول
فيقول هو ويكلفهم السماع.
ثم يستوفز للبعد عنهم، ولا يمكن الانقطاع الكلي إلا بقطع الطمع. ولا ينقطع
الطمع إلا بالقناعة باليسير أو يتميز بتجارة، أو أن يكون له عقار يستغله.
فإنه متى احتاج تشتت الهم، ومتى انقطع العالم عن الخلق وقطع طمعه فيهم
وتوفر على ذكر الآخرة فذاك الذي ينفع وينتفع به. والله الموفق.
فصل مهر الجنة.
من تأمل بعين الفكر دوام البقاء في الجنة في صفاء بلا كدر، ولذات بلا
انقطاع، وبلوغ كل مطلوب للنفس، والزيادة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب بشر من غير تغيير ولا زوال، إذ لا يقال ألف ألف سنة، ولا مائة
ألف ألف، بل ولو أن الإنسان عد الألوف ألوف السنين لا ينقضي عدده. وكان له
نهاية، فبقاء الآخرة لا نفاد له.
إلا أنه لا يحصل ذلك إلا بنقد هذا العمر.
وما مقدار عمر غايته مائة سنة منها خمسة عشر صبوة وجهل، وثلاثون بعد
السبعين - إن حصلت - ضعف وعجز.
والتوسط نصف نوم، وبعضه زمان أكل وشرب وكسب، والمنتحل منه للعبادات يسير.
أفلا يشتري ذلك الدائم بهذا القليل ؟ إن الإعراض عن الشروع في هذا البيع
والشراء لغبن فاحش في العقل، وخلل داخل في الإيمان بالوعد.
فإن من يدري كيف يعقد البيع بالعلم، هو الذي يدل على الطريق ويعرف ما يصلح
لها ويحذر من فظاعتها.
ولقد دخل إبليس على طائفة من المتزهدين بآفات أعظمها أنه صرفهم عن العلم.
فكأنه شرع في إطفاء المصباح ليسرق في الظلمة، حتى أنه أخذ قوماً من كبار
العلماء فسلك بهم من ذلك ما ينهي عنه العلم.
فرأيت أبا حامد الطوسي يحكي عن نفسه في بعض مصنفاته قال: شاورت متبوعاً
مقدماً من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن فمنعني منه، وقال: السبيل
أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال
وعلم، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجود ذلك وعدمه. ثم تخلو بنفسك في
زاوية، فتقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب، ولا
تزال تقول: الله الله إلى أن تنتهي إلى حالة لو ترك تحريك اللسان رأيت كأن
الكلمة جارية على لسانك. ثم تنظر ما يفتح عليك مما فتح مثله على الأنبياء
والأولياء.
قلت: وهذا أمر لا أتعجب أنا فيه من الموصى به وإنما أتعجب من الذي قبله مع
معرفته وفهمه.
وهل يقطع الطريق بالإعراض عن تلاوة القرآن ؟.
وله فتح للأنبياء ما فتح بمجاهدتهم ورياضتهم ؟.
وهل يوثق بما يظهر من هذه المسالك ؟.
ثم ما الذي يفتح. أثم اطلاع على علم الغيب أم هو وحي ؟...
فهذا كله من تلاعب إبليس بالقوم.
وربما كان ما يتخايل لهم من أثر الماليخوليا أو من إبليس.
فعليك بالعلم. وانظر في سير السلف هل فعل أحد منهم من هذا شيئاً أو أمر به
؟. وإنما تشاغلوا بالقرآن والعلم فدلهم على إصلاح البواطن وتصفيتها.
نسأل الله عز وجل علماً نافعاً، للعدو مانعاً، إنه قادر.
فصل التصرف مع المحبوب
من أراد اصطفاء محبوب؛ فالمحبوب نوعان: امرأة يقصد منها حسن الصورة، وصديق
يقصد منه حسن المعنى.
فإذا أعجبتك صورة امرأة فتأمل خلالها الباطنة مديدة قبل أن يتعلق القلب
بها تعلقاً محكماً، فإن رأيتها كما تحب - وأصل ذلك كله الدين كما قال:
عليك بذات الدين - فمل إليها واستولدها.
وكن في ميلك معتدلاً، فإنه من الغلط أن تظهر لمحبوبك المحبة، فإنه يشتط
عليك، وتلقى منه الأذى والتجني والهجران والإذلال وطلب الإنفاق الكثير -
وإن كانت تحبك - لأن هذا إنما يجتلبه حب الإدلال والتسلط على المقهور.
وثم نكتة عجيبة، وهو أنك ربما عملت بمقتضى الحال الحاضرة، وهي تحكم بكمال
الحب، ثم إن ذلك لا يثبت إليك فتقع وتبقى مقهوراً أو يصعب عليك الخلاص.
وربما تمكنت منك بمعرفة سرك أو بأخذ كثير من مالك.
ومن أحسن ما بلغني في هذا أن جارية لبعض الخلفاء كانت تحبه حباً شديداً،
ولا تظهر له ذلك، فسألت عن هذا فقالت: لو أظهرت ما عندي فجفاني هلكت، قال
الشاعر:
لا تظهرن مودة لحبيب ... فتى بعينك منه كل عجيب
أظهرت يوماً للحبيب مودتي ... فأخذت من هجرانه بنصيبي
وكذا ينبغي أن تكتم بعض حبك للولد، لأنه يتسلط عليك، ويضيع مالك، ويبالغ
في الإدلال، ويمتنع عن التعلم والتأدب.
وكذلك إذا اصطفيت صديقاً وخبرته، فلا تخبره بكل ما عندك، بل تعاهده
بالإحسان كما تتعاهد الشجرة، فإنها إذا كانت جيدة الأصل حسنت ثمرتها
بالتعاهد، ثم كن منه على حذر فقد تتغير الأحوال، وقد قيل:
احذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أدرى بالمضرة
رأيت النفس بعد علو السن يقوى أملها ويزداد حرصها كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم. يشيب ابن آدم وتشب منه خصلتان: الحرص والأمل.
ورأيت أكثر أسباب ذلك فراغ اليد من الدنيا وكثرة العائلة وقوة الحاجة.
فيحتاج الإنسان إلى التعرض بما يشين العرض ليحصل الغرض.
فقلت إلهي أبعد رؤية جبال عرفة أضل ؟ أبعد مشارفة الحرم تأخذني أعراب
البادية ؟.
واأسافا أيطلع فجر النحر وما وصلت إلى عرفات ويا ضياع سفر العم وما حصل
المقصود:
قد كنت أرجوك لنيل المنى ... واليوم لا أطلب إلاَّ الرضى
ثم قلت: يا نفس ما لك ملجأ إلا اللجأ واستغاثة الغريق.
فإن رحمت وإلا فكم من حسرة تحت التراب.
شكا لي بعض الأشياخ فقال: قد علت سني وضعفت قوتي، ونفسي تطلب مني شراء
الجوار الصغار.
ومعلوم أنهن يردن النكاح وليس فيّ.
ولا تقنع مني النفس بربة البيت إذ قد كبرت.
فقلت له: عندي جوابان: أحدهما الجواب العامي، وهو أن أقول: ينبغي أن تشتغل
بذكر الموت وما قد توجهت إليه، وتحذر من اشتراء جارية لا تقدر على إيفاء
حقها فإنها تبغضك، فإن أجهدت استعجلت التلف. وإن استبقيت قوتك غضبت هي،
على أنها لا تريد شيخاً كيف كان.
وقد أنشدنا علي بن عبيد الله قال أنشدنا محمد التميمي:
أفق يا فؤادي من غرامك واستمع ... مقالة محزون عليك شفيق
علقت فتاة قلبها متعلق ... بغيرك فاستوثقت غير وثيق
وأصبحت موثوقاً وراحت طليقة ... فكم بين موثوق وبين طليق
فاعلم أنها تعد عليك الأيام، وتطلب منك فضل المال لتستعد لغيرك.
وربما قصدت حتفك، فاحذر والسلامة في الترك، والاقتناع بما يدفع الزمان.
والجواب الثاني فإني أقول: لا يخلو أن تكون قادراً على الوطء في وقت أو لا
تكون.
فإن كنت لا تقدر فالأولى مصابرة الترك للكل. وإن كان يمكن الحازم أن يداري
المرأة بالنفقة وطيب الخلق إلا أنه يخاطر.
وإن كنت تقدر في أوقات على ذلك، ورأيت من نفسك توقاً شديداً، فعليك
فالمراهقات فإنهن ما عرفن النكاح، وما طلبن الوطء، وأغمرهن بالإنفاق وحسن
الخلق مع الاحتياط عليهن، والمنع من مخالطة النسوة.
وإذا اتفق وطء فتصبر عن الإنزال ريثما تقضي المرأة حاجتها.
واعتدم وعظها وتذكيرها بالآخرة، واذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح،
وقبح صورة الفعل، ولفت قلبها إلى ذكر الصالحين، ولا تخل نفسك من الطيب
والتزين والكياسة والمداراة والإنفاق الواسع.
فهذا ربما حرك الناقة للمسير مع خطر السلامة.
أبله الناس من عمل على الحال الحاضرة، ولم يتصور تغيرها ولا وقوع ما يجوز
وقوعه.
مثاله أن يغتر بدولة فيعمل بمقتضى ملكه فإذا تغيرت هلك.
وربما عادى خلقاً اغتراراً بأنه متسلط أو أنه صاحب سلطان، فإذا تغيرت حاله
أكل كفيه ندماً عند فوات التدارك.
وكذلك من له مال يبذره سكوناً إلى وجود المال، وينسى حاله عند العدم.
وكذا من يتناول الشهوات، ويكثر من المآكل والمشارب والنكاح ثقة بعافيته
وينسى ما يعقب ذلك من الأمراض والآفات.
ومن أظرف الأحوال أن يحب جاريته فيعتها ويهب لها، أو امرأة فيسكن إليها
ويهب لها فتتمكن، ولا تمضي الأيام حتى يسلوها أو يطلب غيرها، ولا يجد
طريقاً للخلاص.
فإن تخلص منها أخذت ما غنمت منه فلقي من الغيظ أضعاف ما يلتذ به.
فلا ينبغي أن يوثق بامرأة ولا بمحبة إنسان، فإنه قد يحب امرأة ويظن أنه لا
يسلوها أبداً فيسترسل إليها والسلو يحدث.
وربما أحب غيرها فينسى الأولى فيصعب عليه الخلاص من الأولى.
فالعاقل لا يدخل في شيء حتى يهيء الخروج منه، فإن الأشياء لا
تثبت، والمحبة لا تدوم، والتغير مقرون بكل حال.
وكذلك يعطي ماله ولده ثم يبقى كلاً عليه فيتمنى الولد هلاكه، وربما عل به
في النفقة.
وكذلك قد يثق بالصديق فيبث أسراره إليه، فربما أظهر ذلك فكان منها ما يوجب
هلاكه.
وكذلك يغتر الإنسان بالسلامة وينسى طروق الموت فيأتيه بغتة فيبتهته وقد
فات الاستدراك ولم يبق إلا الندم.
فالعاقل من كانت عينه مراقبة للعواقب، محترزة مما يجوز وقوعه، عاملة
بالاحتياط في كل حال حافظة للمال والسر، غير واثقة بزوجة ولا ولد ولا
صديق، متأهبة للرحيل متهيئة للنقلة. هذه صفة أهل الحزم.
فصل التسليم واليقين
من أعجب الأمور طلب الاطلاع على تحقيق العرفان لذات الله عز وجل وصفاته
وأفعاله، وهيهات، ليس إلا المعرفة بالجملة.
ولقد أوغل المتكلمون فما وقعوا بشيء فرجع عقلاؤهم إلى التسليم.
وكذلك أصحاب الرأي، مالوا إلى القياس فإذا أشياء كثيرة بعكس مرادهم، فلم
يجدوا ملجأ إلا التسليم، فسموا ما خالفهم استحساناً.
الفقيه من علل بما يمكن، فإذا عجز استطرح للتسليم، هذا شأن العبيد.
فأما من يقول لم فعل كذا وما معنى كذا، فإنه يطلب الاطلاع على سر الملك،
وما يجد إلى ذلك سبيلاً لوجهين: أحدهما أن الله تعالى ستر كثيراً من حكمه
عن الخلق.
والثاني أنه ليس في البشر إدراك حكم الله تعلى كلها، فلا يبقى مع المعترض
سوى الاعتراض المخرج إلى الكفر " فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر
هل يذهبن كيده ما يغيظ " .
والمعنى من رضي بأفعالي وإلا فليخنق نفسه فما أفعل إلا ما أريد.
من رزقه الله تعالى العلم، والنظر في سير السلف، رأى أن هذا العالم ظلمة.
وجمهور العالم على غير الجادة، والمخالطة لهم تضر ولا تنفع.
فالعجب لمن يترخص في المخالطة وهو يعلم أن الطبع يسرق من المخالطة.
وإنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع والأعلى في العلم والعمل ليستفاد منه.
فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي، إلا أن يكون عامياً يقصد من يعلمه، فينبغي
أن يخالط بالاحتراز.
وفي هذا الزمان إن وقعت المخالطة للعوام عكرت الفؤاد فهم ظلمة مستحكمة،
فإذا ابتلى العالم بمخالطتهم فليشمر ثياب الحذر، ولتكن مجالسته إياهم
للتذكرة والتأديب فحسب.
وإن وقعت المخالطة للعلماء فأكثرهم على غير الجادة، مقصودهم صورة العلم لا
العمل به. فلا تكاد ترى من تذاكره أمر الآخرة، إنما شغلهم الغيبة وقصد
الغلبة واجتلاب الدنيا.
ثم فيهم من الحسد للنظراء ما لا يوصف.
وإن وقعت المخالطة للأمراء، فذاك تعرض لفساد الدين.
لأنه إن تولى لهم ولاية دنيوية فالظلم من ضروراتها، لغلبة العادة عليهم
والإعراض عن الشرع.
وإن كانت ولاية دينية كالقضاء، فإنهم يأمرونه بأشياء لا يكاد يمكنه
المراجعة فيها، ولو راجع لم يقبلوا.
وأكثر القوم يخاف على منصبه، فيفعل ما أمر به وإن لم يجبر.
وربما رأيت في هذا الزمان أقواماً يبذلون المال ليكونوا قضاة، أو شهوداً،
ومقصودهم الرفعة.
ثم أكثر الشهود يشهد على من لا يعرفه، ويقول إنه معروف ويدري أنه كذاب،
وإنما عرف لأجل حبة يعطاها.
وكم قد وقعت شهادة على غير المشهود عليه، أو على مكره ؟.
وإن وقعت المخالطة للمتزهدين فأكثرهم على غير الجادة، وعلى خلاف العلم، قد
جعلوا لأنفسهم نواميس، فلا يتنسمون ولا يخرجون إلى سوق، ويظهرون التخشع
الزائد وكله نفاق.
وفيهم من يلبس الصوف تحت ثيابه، وربما يوح بكمه ليرى. وقد حكي عن طاهر بن
الحسين أنه قال لبعض المتزهدين. مذ كم قدمت العراق ؟ قال: دخلتها منذ
عشرين سنة، وأنا منذ ثلاثين سنة صائم.
قال: سألناك عن مسألة فأجبت عن اثنتين.
وبيوت الصوفية أربطة فهي خوارج على المساجد.
وهي دكاكين كريهة يقعد فيها الكسالى عن الكسب مع القدرة عليه، ويتعرضون
بالقعود للصدقات، ولأحوال الظلمة.
وقد أراحوا أنفسهم من إعادة العلم.
وأكثرهم لا يصلي نافلة، ولا يقوم الليل، بل يهمهم المأكول والمشروب والرقص.
وقد اتخذوا سنناً تخالف الشريعة فهم يلبسون المرقع لا من فقر. وهذا قبيح.
لأنه ليس عندهم من أمارات الزهد سوى الملبس الدون، فثيابهم تصيح نحن زهاد،
وباقي أفعالهم المستورة تفضحهم إذا طلع عليها.
فالمطب دائر، والحمام والحلوى كثيرة، والطيب والدعة، والكبر حاصل
بذلك الزي.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن فضلة وقد رآه أشعث الهيئة. أما
لك مال ؟ قال بلى من كل المال آتاني الله عز وجل ! قال: فإن الله عز وجل
إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن ترى عليه.
ومن أخلاقهم تنفير الناس من العلم، ويزعمون أن لا حاجة إلى الوسائط، وإنما
هو قلب ورب.
ولهم من الأقوال والأفعال المنكرات ما قد ذكرته في تلبيس إبليس.
آه لو كان للزمان عمر لاحتاج كل يوم إلى مائة درة، لا بل كان يستعمل السيف
في هؤلاء الخوارج.
وهم داخل البلد لا قدرة للعلماء عليهم، إذ قولهم فيهم لا يقبل.
فمن رزقه الله سبحانه النظر في سير السلف، ووفقه للاقتداء بهم، آثر أن
يعتزل عن أكثر الخلق، ولا يخالطهم فإنه من خالطهم أوذي.
ومن دارهم لم يسلم من المداهنة فالنصح اليوم مردود.
فصل التأني في معاملة الناس
من البله أن تبادر عدواً أو حسوداً بالمخاصمة.
وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما.
إن اعتذر قبلتن وإن أخذ الخصومة صفحت. وأريت أن الأمر قريب.
ثم تبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال وتتجافاه باطناً مع إظهار المخالطة
في الظاهر.
فإذا أردت أن تؤذيه فأول ما تؤذيه به إصلاحك لنفسك واجتهادك في علاج ما
يعرفك به.
ومن أعظم العقوبة له العفو عنه الله.
وإن بالغ في السب فبالغ في الصفح تنب عنك العوام في شتمه، ويحمدك العلماء
على حلمك.
وما تؤذيه به من ذلك، وتورثه به الكمد ظاهراً، وغيره في الباطن أضعاف،
وخير مما تؤذيه به من كلمة إذا قلتها له سمعت أضعافها.
ثم بالخصومة تعلمه أنك عدوه فيأخذ الحذر ويبسط اللسان، وبالصفح يجهل مما
في باطنك، فيمكنك حينئذ أن تشتفي منه، أما أن تلقاه بما يؤذي دينك هو الذي
قد اشتفى منك.
وما ظفر قط من ظفر به الإثم بل الصفح الجميل.
وإنما يقع هذا ممن يرى أن تسليطه عليه إما عقوبة لذنب أو لرفع درجة
بالابتلاء فهو لا يرى الخصم وإنما يرى القدرة.
إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها فليس لك إلا الدعاء واللجأ إلى الله
بعد أن تقدم التوبة من الذنوب.
فإن الزلل يوجب العقوبة فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب ارتفع السبب.
فإذا ثبت ودعوت ولم تر للإجابة أثراً فتقد أمرك، فربما كانت التوبة ما صحت
فصصحها ثم ادع ولا تمل من الدعاء.
فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة،
فأنت تثاب وتجاب إلى منافعك.
ومن منافعك أن لا تعطي ما طلبت بل تعوض غيره.
فإذا جاء إبليس فقال كم تدعوه ولا ترى إجابة، فقل أنا أتعبد بالدعاء. وأنا
موقن أن الجواب حاصل.
غير أنه ربما كان تأخيره لبعض المصالح، فهو يجيء في وقت مناسب، ولو لم
يحصل حصل التعبد والذل.
فإياك أن تسأل شيئاً إلا وتقرنه بسؤال الخيرة.
فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك.
وإذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا ليبين صاحبك لك في بعض الآراء
ما يعجز رأيك عنه، وترى أن ما وقع لك لا يصلح فكيف لا تسأل الخير ربك وهو
أعلم المصالح ؟ والاستخارة من حسن المشاورة.
نظرت إلى الناس فرأيتهم ينقسمون بين عالم وجاهل.
فأما الجهال فانقسموا، فمنهم سلطان قد ربي في الجهل ولبس الحرير وشرب
الخمور وظلم الناس، وله عمال على مثل حاله، فهؤلاء بمعزل عن الخير بالجملة.
ومنهم تجار همتهم الاكتساب وجمع الأموال، وأكثرهم لا يؤدي الزكاة ولا
يتحاشى من الربا. فهؤلاء في صور الناس.
ومنهم أرباب معاش يطففون المكيال ويخسرون الميزان ويبخسون الناس ويتعاملون
بالربا وهم في الأسواق طول النهار لا همة لهم إلا ما هم فيه. فإذا جاء
الليل وقعوا نياماً كالسكارى، فهمة أحدهم ما يأكل ويلتذ به، وليس عندهم من
الصلاة خبر، فإن صلى أحدهم نقرها أو جمع بينهما، فهؤلاء في عداد البهائم.
ومن الناس ذو رذالة في جميع أحوالهم فهذا كالناس وهذا زبال وهذا نخال وهذا
يكسح الحش فهؤلاء أرذل القوم.
ومنهم من يطلب اللذات ولا يساعده المعاش فيخرج إلى قطع الطريق، وهؤلاء
أحمق الجماعة، إذ لا عيش لهم.
فإن التذوا لحظة بأكل أو شرب فحركت الريح قصبة هربوا خوفاً من
السلطان وما أقل بقاءهم، ثم القتل والصلب مع إثم الآخرة.
ومنهم أرباب قرى قد عمهم الجهل، وأكثرهم لا يتحاشى من نجاسة، فهم في زمرة
البقر.
ورأيت النساء ينقسمن أيضاً، فمنهن المستحسنة التي تبغي.
ومنهن الخائنة لزوجها في ماله.
ومنهن من لا تصلي ولا تعرف شيئاً من الدين، فهؤلاء حشو النار.
فإذ سمعن موعظة فإنها كما مرت على حجر.
وإذا قرىء عندهن القرآن فكأنهن يسمعن السمر.
وأما العلماء فالمبتدئون منهم ينقسمون إلى ذي نية خبيثة يقصد بالعلم
المباهاة لا العمل، ويميل إلى الفسق ظناً أن العلم يدفع عنه، وإنما هو حجة
عليه.
وأما المتوسطون والمشهورون، فأكثرهم يغشي السلاطين ويسكت عن إنكار المنكر.
وقليل من العلماء من تسلم له نيته ويحسن قصده.
فمن أراد الله به خيراً رزقه حسن القصد في طلب العلم، فهو يحصله لينتفع به
وينفع، ولا يبالي بعمل مما يدله عليه العلم.
فتراه يتجافى أرباب الدنيا، ويحذر مخالطة العوام، ويقنع بالقليل خوفاً من
المخاطرة في الدنيا في تحصيل الكثير.
ويؤثر العزلة فليس مذكراً للآخرة مثلها.
وليس على العالم أضر من الدخول على السلاطين فإنه يحسن للعالم الدنيا
ويهون عليه المنكر.
وربما أراد أن ينكر فلا يصح له، فإن عدم القناعة وتقلبت نفسه في طلب فضول
الدنيا فهيهات أن يسلم منها لأنه يتعرض بأربابها.
وإن الإنسان ليمشي في السوق ساعة، فينسى بما يرى، ما يعلم.
فكيف إذا انضم إلى ذلك التردد إلى الأغنياء والطمع في أموالهم.
فأما الوحدة فإنها سبب رجوع القلب وجمع الهم، والنظر في العواقب والتهيؤ
للرحيل وتحصيل الزاد.
فإذا انضمت إليها القناعة جلبت الأحوال المستحسنة.
ولا تحسن اليوم المجالسة إلا لكتاب يحدثك عن أسرار السلف.
فأما مجالسة العلماء فمخاطرة، إذ لا يجتمعون على ذكر الآخرة في الأغلب.
ومجالسة العوام فتنة للدين، إلا أن يحترز في مجالسهم ويمنعهم من القول
فيقول هو ويكلفهم السماع.
ثم يستوفز للبعد عنهم، ولا يمكن الانقطاع الكلي إلا بقطع الطمع. ولا ينقطع
الطمع إلا بالقناعة باليسير أو يتميز بتجارة، أو أن يكون له عقار يستغله.
فإنه متى احتاج تشتت الهم، ومتى انقطع العالم عن الخلق وقطع طمعه فيهم
وتوفر على ذكر الآخرة فذاك الذي ينفع وينتفع به. والله الموفق.
فصل مهر الجنة.
من تأمل بعين الفكر دوام البقاء في الجنة في صفاء بلا كدر، ولذات بلا
انقطاع، وبلوغ كل مطلوب للنفس، والزيادة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب بشر من غير تغيير ولا زوال، إذ لا يقال ألف ألف سنة، ولا مائة
ألف ألف، بل ولو أن الإنسان عد الألوف ألوف السنين لا ينقضي عدده. وكان له
نهاية، فبقاء الآخرة لا نفاد له.
إلا أنه لا يحصل ذلك إلا بنقد هذا العمر.
وما مقدار عمر غايته مائة سنة منها خمسة عشر صبوة وجهل، وثلاثون بعد
السبعين - إن حصلت - ضعف وعجز.
والتوسط نصف نوم، وبعضه زمان أكل وشرب وكسب، والمنتحل منه للعبادات يسير.
أفلا يشتري ذلك الدائم بهذا القليل ؟ إن الإعراض عن الشروع في هذا البيع
والشراء لغبن فاحش في العقل، وخلل داخل في الإيمان بالوعد.
فإن من يدري كيف يعقد البيع بالعلم، هو الذي يدل على الطريق ويعرف ما يصلح
لها ويحذر من فظاعتها.
ولقد دخل إبليس على طائفة من المتزهدين بآفات أعظمها أنه صرفهم عن العلم.
فكأنه شرع في إطفاء المصباح ليسرق في الظلمة، حتى أنه أخذ قوماً من كبار
العلماء فسلك بهم من ذلك ما ينهي عنه العلم.
فرأيت أبا حامد الطوسي يحكي عن نفسه في بعض مصنفاته قال: شاورت متبوعاً
مقدماً من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن فمنعني منه، وقال: السبيل
أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال
وعلم، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجود ذلك وعدمه. ثم تخلو بنفسك في
زاوية، فتقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب، ولا
تزال تقول: الله الله إلى أن تنتهي إلى حالة لو ترك تحريك اللسان رأيت كأن
الكلمة جارية على لسانك. ثم تنظر ما يفتح عليك مما فتح مثله على الأنبياء
والأولياء.
قلت: وهذا أمر لا أتعجب أنا فيه من الموصى به وإنما أتعجب من الذي قبله مع
معرفته وفهمه.
وهل يقطع الطريق بالإعراض عن تلاوة القرآن ؟.
وله فتح للأنبياء ما فتح بمجاهدتهم ورياضتهم ؟.
وهل يوثق بما يظهر من هذه المسالك ؟.
ثم ما الذي يفتح. أثم اطلاع على علم الغيب أم هو وحي ؟...
فهذا كله من تلاعب إبليس بالقوم.
وربما كان ما يتخايل لهم من أثر الماليخوليا أو من إبليس.
فعليك بالعلم. وانظر في سير السلف هل فعل أحد منهم من هذا شيئاً أو أمر به
؟. وإنما تشاغلوا بالقرآن والعلم فدلهم على إصلاح البواطن وتصفيتها.
نسأل الله عز وجل علماً نافعاً، للعدو مانعاً، إنه قادر.
فصل التصرف مع المحبوب
من أراد اصطفاء محبوب؛ فالمحبوب نوعان: امرأة يقصد منها حسن الصورة، وصديق
يقصد منه حسن المعنى.
فإذا أعجبتك صورة امرأة فتأمل خلالها الباطنة مديدة قبل أن يتعلق القلب
بها تعلقاً محكماً، فإن رأيتها كما تحب - وأصل ذلك كله الدين كما قال:
عليك بذات الدين - فمل إليها واستولدها.
وكن في ميلك معتدلاً، فإنه من الغلط أن تظهر لمحبوبك المحبة، فإنه يشتط
عليك، وتلقى منه الأذى والتجني والهجران والإذلال وطلب الإنفاق الكثير -
وإن كانت تحبك - لأن هذا إنما يجتلبه حب الإدلال والتسلط على المقهور.
وثم نكتة عجيبة، وهو أنك ربما عملت بمقتضى الحال الحاضرة، وهي تحكم بكمال
الحب، ثم إن ذلك لا يثبت إليك فتقع وتبقى مقهوراً أو يصعب عليك الخلاص.
وربما تمكنت منك بمعرفة سرك أو بأخذ كثير من مالك.
ومن أحسن ما بلغني في هذا أن جارية لبعض الخلفاء كانت تحبه حباً شديداً،
ولا تظهر له ذلك، فسألت عن هذا فقالت: لو أظهرت ما عندي فجفاني هلكت، قال
الشاعر:
لا تظهرن مودة لحبيب ... فتى بعينك منه كل عجيب
أظهرت يوماً للحبيب مودتي ... فأخذت من هجرانه بنصيبي
وكذا ينبغي أن تكتم بعض حبك للولد، لأنه يتسلط عليك، ويضيع مالك، ويبالغ
في الإدلال، ويمتنع عن التعلم والتأدب.
وكذلك إذا اصطفيت صديقاً وخبرته، فلا تخبره بكل ما عندك، بل تعاهده
بالإحسان كما تتعاهد الشجرة، فإنها إذا كانت جيدة الأصل حسنت ثمرتها
بالتعاهد، ثم كن منه على حذر فقد تتغير الأحوال، وقد قيل:
احذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أدرى بالمضرة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى