رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل آفة العلماء
انتقدت على أكثر العلماء والزهاد أنهم يبطنون الكبر.
فهذا ينظر في موضعه وارتفاع غيره عليه وهذا لا يعود مريضاً فقيراً يرى
نفسه خيراً منه.
حتى إني رأيت جماعة يومأ إليهم، منهم من يقول لا أدفن إلا في دكة أحمد بن
حنبل، ويعلم أن في ذلك كسر عظام الموتى، ثم يرى نفسه أهلاً لذلك التصدر.
ومنهم من يقول. ادفنوني إلى جانب مسجدي ظناً منه أنه يصير بعد موته مزاراً
كمعروف الكرخي.
وهذه خلة مهلكة ولا يعلمون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ظن أنه خير من غيره فقد تكبر.
وقل من رأيت إلا وهو يرى نفسه.
والعجب كل العجب ممن يرى نفسه، أتراه بماذا رآها !.
إن كان بالعلم فقد سبقه العلماء، وإن كان بالتعبد فقد سبقه العباد، أو
بالمال فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلة دينية.
فإن قال: قد عرفت ما لم يعرف غيري من العلم في زمني، فما علي ممن تقدم.
قيل له: ما نأمرك يا حافظ القرآن أن ترى نفسك في الحفظ كمن يحفظ النصف.
ولا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي.
إنما نحذر عليك أن ترى نفسك خيراً من ذلك الشخص المؤمن وإن قل علمه.
فإن الخيرية بالمعاني لا بصور العلم والعبادة.
ومن تلمح خصال نفسه وذنوبها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير، وهو من
حال غيره على شك.
فالذي يحذر منه الإعجاب بالنفس، ورؤية التقدم في أحوال الآخرة، والمؤمن
الحق لا يزال يحتقر نفسه.
وقد قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مت ندفنك في حجرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إلي من أن
أرى نفسي أهلاً لذلك.
وقد روينا: أن رجلاً من الرهبان رأى في المنام قائلاً يقول له: فلان
الإسكافي خير منك، فنزل من صومعته فجاء فسأله عن عمله فلم يذكر كبير عمله.
فقيل له في المنام: عد إليه وقل له: مم صفرة وجهك ؟.
فعاد فسأل فقال: ما رأيت مسلماً إلا وظننته خيراً مني فقيل له: فبذاك
ارتفع.
فصل علاج الغاضب
متى رأيت صاحبك قد غضب وأخذ يتكلم بما لا يصلح، فلا ينبغي أن تعقد على ما
يقوله خنصراً، ولا أن تؤاخذه به.
فإن حاله حال السكران، لا يدري ما يجري.
بل اصبر لفورته، ولا تعول عليها، فإن الشيطان قد غلبه، والطبع قد هاج،
والعقل قد استتر.
ومتى أخذت في نفسك عليه، أو أجبته بمقتضى فعله كنت كعاقل واجه مجنوناً، أو
كمفيق عاتب مغمى عليه. فالذنب لك.
بل انظر بعين الرحمة، وتلمح تصريف القدر له، وتفرج في لعب الطبع به. واعلم
أنه إذا انتبه ندم على ما جرى، وعرف لك فضل الصبر.
وأقل الأقسام أن تسلمه فيما يفعل في غضبه إلى ما يستريح به.
وهذه الحالة ينبغي أن يتلمحها الولد عند غضب الوالد، والزوجة عند
غضب الزوج، فتتركه يشتفي بما يقول، ولا تعول على ذلك، فسيعود نادماً
معتذراً.
ومتى قوبل على حالته ومقالته صارت العداوة متمكنة، وجازى في الإفاقة على
ما فعل في حقه وقت السكر.
وأكثر الناس على غير هذه الطريق.
متى رأوا غضبان قابلوه بما يقول ويعمل، وهذا على غير مقتضى الحكمة؛ بل
الحكمة ما ذكرته، " وما يعقلها إلاَّ العالمون " .
فصل تجارب مع الناس
ليس في الدنيا أكثر بلاهة ممن يسيء إلى شخص ويعلم أنه قد بلغ إلى قلبه
بالأذى ثم يصطلحان في الظاهر، فيعلم أن ذلك الأثر محيي بالصلح.
وخصوصاً مع الملوك، فإن لذتهم الكبرى أن لا يرتفع عليهم أحد، ولا ينكسر
لهم غرض، فإذا جرى شيء من ذلك لم ينجبر.
واعتبر هذا بأبي مسلم الخراساني، فإنه غض من قدر المنصور قبل ولايته فحصل
ذلك في نفسه فقتله.
ومن نظر في التواريخ رأى جماعة قد جرى لهم مثل هذا، ولا ينبغي لمن أساء
إلى ذي سلطان أن يقع في يده، فإنه إذا رام التخلص لم يقدر. فيبقى ندمه على
ترك احترازه، وحسرته على مساكنة الظمآن للسلامة أشد عليه من كل ما يلقى به
من الهوان والأذى.
ومن هذا الجنس الأصدقاء المتماثلون، فإنك متى آذيت شخصاً وبلغ إلى قلبه
أذاك فلا تثق بمودته، فإن أذاك نصب عينه، فإن لم يحتل عليك لم يصف لك.
ولا تخالط إلا من أنعمت عليه فحسب، فهو لم ير منك إلا خيراً فيكون في
نفسه، وكذلك الولد والزوجة والمعاملون.
ويلحق بهذا أن أقول: لا ينبغي أن تعادي أحداً ولا تتكلم في حقه، فربما
صارت له دولة فاشتفى.
وربما احتيج إليه فلم يقدر عليه.
فالعاقل يصور في نفسه كل ممكن، ويستر ما في قلبه من البغض والود، ويداري
من يكنون له الغيظ والحقد، هذه مشاورة العقل إن قبلت.
فصل الاستعداد لليوم والغد
كل من يتلمح العواقب ولا يستعد لما يجوز وقوعه فليس بكامل العقل.
واعتبر هذا في جميع الأحوال، مثل أن يغتر بشبابه ويدوم على المعاصي ويسوف
بالتوبة.
فربما أخذ بغتة ولم يبلغ بعض ما أمل.
وكذلك إذا سوف بالعمل أو بحفظ العلم، فإن الزمان ينقضي بالتسويف ويفوت
المقصود.
وربما عزم على فعل خير أو وقف شيء من ماله فسوف فبغت.
فالعاقل من أخذ بالحزم في تصوير ما يجوز وقوعه وعمل بمقتضى ذلك فإن امتد
الأجل لم يضره، وإن وقع المخوف كان محترزاً.
ومما يتعلق بالدنيا أن يميل مع السلطان ويسيء إلى بعض حواشيه ثقة بقربه
منه، فربما تغير ذلك السلطان فارتفع عدوه فانتقم منه.
وقد يعادي بعض الأصدقاء ولا يبالي به لأنه دونه في الحالة الحاضرة.
فربما صعدت مرتبة ذلك فاستوفى ما أسلفه إليه من القبيح وزاد.
فالعاقل من نظر فيما يجوز وقوعه ولم يعاد أحداً.
فإن كان بينهما ما يوجب المعاداة كتم ذلك، فإن صح له أن يثب على عدوه
فينتقم منه انتقاماً يبيحه الشرع جاز، على أن العفو أصلح في باب العيش.
ولهذا ينبغي أن يخدم البطال، فإنه ربما عمل فعرف ذلك لمن خدم.
وقس على أنموذج ما ذكرته من جميع الأحوال.
فصل علماء الآخرة ملوك
بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة.
وقد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنهما فقال: والله لا ينال أحد من الدنيا
شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عنده كريماً.
فالسعيد من اقتنع بالبلغة، فإن الزمان أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا.
اللهم إلا أن يكون متورعاً في كسبه، معيناً لنفسه عن الطمع، قاصداً إعانة
أهل الخير والصدقة على المحتاجين، فكسب هذا أصلح من بطالته.
فأما الصعود الذي سببه مخالطة السلاطين فبعيد أن يسلم معه الدين، فإن وقعت
سلامته ظاهراً فالعاقبة خطرة.
قال أبو محمد التميمي: ما غبطت أحداً إلا الشريف أبا جعفر يوم مات القائم
بأمر الله فإنه غسله وخرج ينفض أكمامه فقعد في مسجده لا يبالي بأحد ونحن
منزعجون لا ندري ما يجري علينا.
وذاك أن التميمي كان متعلقاً على السلطان يمضي له في الرسائل، فخاف مغبة
القرب.
وقد رأينا جماعة من العلماء خالطوا السلطان فكانت مغبتهم سيئة.
ولعمري إنهم طلبوا الراحة فأخطأوا طريقها، لأن غموم القلب لا توازيها لذة
مال ولا لذة مطعم، هذا في الدنيا قبل الآخرة.
وليس أشرف وأطيب عيشاً من منفرد في زاوية لا يخالط السلاطين ولا
يبالي أطاب مطعمه أم لم يطب.
فإنه لا يخلو من كسرة وقعب ماء ثم هو سليم من أن تقال له كلمة تؤذيه، أو
يعيبه الشرع حين دخوله عليهم أو الخلق.
ومن تأمل حال أحمد بن حنبل في انقطاعه، وحال ابن أبي داؤد، ويحيى بن أكثم
عرف الفرق في طيب العيش في الدنيا والسلامة في الآخرة.
وما أحسن ما قال ابن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من
لذيذ العيش لجالدونا عليه بالسيوف.
ولقد صدق ابن أدهم، فإن السلطان إن أكل شيئاً خاف أن يكون قد طرح له فيه
سم، وإن نام خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة، فإن
خرج كان منزعجاً من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا
تبقي له لذة مطعم ولا منكح.
وكلما استظرف المطاعم أكثر منها ففسدت معدته، وكلما استجد الجواري أكثر
منهن فذهبت قوته، ولا يكاد يبعد ما بين الوطء والوطء فلا يجد في الوطء
كبير لذة لأن لذة الوطء بقدر بعد ما بين الزمانين، وكذلك لذة الأكل.
فإن من أكل على شبع ووطىء من غير صدق شهوة وقلق لم يجد اللذة التامة التي
يجدها الفقير إذا جاع والعزب إذا وجد امرأة.
ثم إن الفقير يرمي نفسه على الطريق في الليل فينام ولذة الأمن قد حرمها
الأمراء فلذتهم ناقصة وحسابهم زائد.
والله ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغاً من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا
العلماء المخلصين كالحسن وأحمد وسفيان، والعباد المحققين كمعروف، فإن لذة
العلم تزيد على كل لذة.
وأما ضرهم إذا جاعوا أو ابتلوا بأذى، فإن ذلك يزيد في رفعتهم.
وكذلك لذة الخلوة والتعبد. فهذا معروف، كان منفرداً بربه طيب العيش معه
لذيذ الخلوة به.
ثم قد مات منذ نحو أربعمائة سنة فما يخلو أن يهدي إليه كل يوم ما تقدير
مجموعة أجزاء من القرآن.
وأقله من يقل على قبره فيقرأ: " قل هو اللّه أحد " ، ويهديها له.
والسلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة.
هذا بعد الموت، ويوم الحشر تنشر الكرامات التي لا توصف، وكذلك قبور
العلماء المحققين.
ولما بليت أقوام بمخالطة الأمراء أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها.
فقال سفيان بن عيينة منذ أخذت من مال فلان الأمير منعت ما كان وهب لي من
فهم القرآن.
وهذا أبو يوسف القاضي لا يزور قبره اثنان.
فالصبر عن مخالطة الأمراء وإن أوجب ضيق العيش من وجه يحصل طيب العيش من
جهات.
ومع التخليط لا يحصل مقصود. فمن عزم جزم.
كان أبو الحسن القزويني لا يخرج من بيته إلا وقت الصلاة، فربما جاء
السلطان فيقعد لانتظاره ليسلم عليه.
ومد النفس في هذا ربما أضجر السامع، ومن ذاق عرف.
فصل التزام الجادة
من عرف الشرع كما ينبغي وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم وأحوال الصحابة
وأكابر العلماء علم أن أكثر الناس على غير الجادة.
وإنما يمشون مع العادة، يتزاورون فيغتاب بعضهم بعضاً، ويطلب كل واحد منهم
عورة أخيه، ويحسده إن كانت نعمة، ويشمت به إن كانت مصيبة، ويتكبر عليه إن
نصح له، ويخادعه لتحصيل شيء من الدنيا، ويأخذ عليه العثرات إن أمكن.
هذا كله يجري بين المنتمين إلى الزهد لا الرعاع.
فالأولى بمن عرف الله سبحانه، وعرف الشرع، وسير السلف الصالحين الانقطاع
عن الكل.
فإن اضطر إلى لقاء منتسب إلى العلم والخير تلقاه وقد لبس درع الحذر، ولم
يطل معه الكلام، ثم عجل الهرب منه إلى مخالطة الكتب التي تحوي تفسيراً
لنطاق الكمال.
فصل كمال الخلق
الكمال عزيز. والكامل قليل الوجود.
فأول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن وحسن صورة الباطن.
فصورة البدن تسمى خلقاً، وصورة الباطن تسمى خلقاً.
ودليل كمال صورة البدن حسن الصمت، واستعمال الأدب.
ودليل صورة الباطن حسن الطبائع والأخلاق.
فالطبائع العفة، والنزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشره.
والأخلاق الكرم، والإيثار، وستر العيوب، وابتداء المعروف، والحلم عن
الجاهل.
فمن رزق هذه الأشياء رقته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلة
أوجبت النقص.
فصل لا بد من الابتلاء
ليس في الدنيا أبله ممن يريد معاملة الحق سبحانه على بلوغ الأغراض.
فأين تكون البلوى إذن ؟.
لا والله، لا بد من انعكاس المرادات ومن توقف أجوبة السؤالات، ومن تشفي
الأعداء في أوقات.
فأما من يريد أن تدم له السلامة والنصر على من يعاديه، والعافية
من غير بلاء، فما عرف التكليف، ولا فهم التسليم.
أليس الرسول صلى الله عليه وسلم ينصر يوم بدر ثم يجري عليه ما يجري يوم
أحد.
أليس يصد عن البيت ويقهر بعد ذلك.
فلا بد من جيد ورديء، والجيد يوجب الشكر، والرديء يحرك إلى السؤال والدعاء.
فإن امتنع الجواب، أريد نفوذ البلاء، والتسليم للقضاء.
وههنا يبين الإيمان، ويظهر في التسليم جواهر الرجال.
فإن تحقق التسليم باطناً وظاهراً فذلك شأن الكامل.
وإن وجد في الباطن انعصار من القضاء لا من المقتضى فإن الطبع لا بد أن
ينفر من المؤذي دل على ضعف المعرفة.
فإن خرج الأمر إلى الاعتراض باللسان، فتلك حال الجهال نعوذ بالله منها.
فصل لا بد من التصبر
من الابتلاء العظيم إقامة الرجل في غير مقامه. مثل أن يحوج الرجل الصالح
إلى مداراة الظالم والتردد إليه، وإلى مخالطة من لا يصلح، وإلى أعمال لا
تليق به أو إلى أمور تقطع عليه مراده الذي يؤثره.
فقد يقال للعالم: تردد على الأمير وإلا خفنا عليك سطوته، فيتردد فيرى ما
لا يصلح له ولا يمكنه أن ينكر.
أو يحتاج إلى شيء من الدنيا وقد منع حقه، فيحتاج أن يعرض بذكر ذلك، أو
يصرح لينال بعض حقه، ويحتاج إلى مداراة من تصعب مداراته، بل تتشتت همته
لتلك الضرورات.
وكذلك يفتقر إلى الدخول في أمور لا تليق به، مثل أن يحتاج إلى الكسب
فيتردد إلى السوق أو يخدم من يعطيه أجرته.
وهذا لا يحتمله قلب المراقب لله سبحانه لأجل ما يخالطه من الأكدار.
أو يكون له عائلة وهو فقير فيتفكر في إغنائهم، فيدخل في مداخل كلها عنده
عظيمة.
وقد يبتلى بفقد من يحب، أو ببلاء في بدنه، أو بعكس أغراضه وتسليط معاديه
عليه، فيرى الغاسق يقهره. والظالم يذله.
وكل هذه الأشياء تكدر عليه العيش، وتكاد تزلزل القلب.
وليس في الابتلاء بقوة الأشياء إلا التسليم واللجأ إلى القدر في الفرج.
يرى الرجل المؤمن الحازم يثبت لهذه العظائم، ولا يتغير قلبه، ولا ينطق
بالشكوى لسانه.
أو ليس الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج أن يقول: من يواريني من ينصرني.
ويفتقر إلى أن يدخل مكة في جوار كافر.
ويشق السلى على ظهره وتقتل أصحابه، ويداري المؤلفة، ويشتد جوعه وهو ساكن
لا يتغير.
وما ذاك إلا أنه علم أن الدنيا دار ابتلاء، لينظر الله فيها كيف تعملون.
ومما يهون هذه الأشياء علم العبد بالأجر، وإن ذلك مراد الحق.
فما لجرح إذا أرضاكم ألم.
فصل داء الحرص عند العارفين
لا ينكر أن الطباع تحب المال، لأنه سبب بقاء الأبدان، لكنه يزيد حبه في
بعض القلوب حتى يصير محبوباً لذاته للتوصل به إلى المقاصد.
فترى البخيل يحمل على نفسه العجائب، ويمنعها اللذات، وتصير لذاته في جمع
المال. وهذه جبلة في خلق كثير.
وليس العجب أن تكون في الجهال وينبغي أن يؤثر فيها عند العلماء المجاهدة
للطبع ومخالفته، خصوصاً في الأفعال اللازمة في جمع المال.
فأما أن يكون العالم جامعاً للمال من وجوه قبيحة ومن شبهات قوية وبحرص
شديد وبذل في الطلب، ثم يأخذ من الزكوات ولا تحل له مع الغنى، ثم يدخره
ولا ينفع به، فهذه بهيمية تخرج عن صفات الآدمية.
بل البهيمية أعذر، لأنها بالرياضة تتغير طباعها، وهؤلاء ما غيرتهم رياضة،
ولا أفادهم العلم.
ولقد كان أبو الحسن البسطامي مقيماً في رباط البسطامي الذي على نهر عيسى،
وكان لا يلبس إلا الصوف شتاء وصيفاً، وكان يحترم ويقصد، فخلف ما لا يزيد
على أربعة آلاف دينار.
ورأينا بعض أشياخنا وقد بلغ الثمانين وليس له أهل ولا ولد، وقد مرض فألقى
نفسه عند بعض أصدقائه يتكلف له ذلك الرجل ما يشتهيه وما يشفيه، فمات فخلف
أموالاً عظيمة.
ورأينا صدقة بن الحسين الناسخ، وكان على الدوام يذم الزمان وأهله، ويبالغ
في الطلب من الناس ويتجفف وهو في المسجد وحده ليس له من يقوم بأمره، فمات
فخلف فيما قيل ثلاث مائة دينار.
وكان يصحبنا أبو طالب بن المؤيد الصوفي. وكان يجمع المال، فسرق منه نحو
مائة دينار، فتلهف عليها وكان ذلك سبب هلاكه.
ومن أحوال الناس أنك ترى أقواماً جلسوا على صفة القوم يطلبون الفتوح،
فيأتيهم منها الكثير الذي يصيرون به من الأغنياء، وهم لا يمتنعون من أخذ
زكاة ولا من طلب.
وكذلك القصاص، يخرجون إلى البلاد ويطلبون، فيحصل لهم المال
الكثير، فلا يتركون الطلب عادة.
فيا سبحان الله. أي شيء أفاد العلم. بل الجهل كان لهؤلاء أعذر.
ومن أقبح أحوالهم لزومهم الأسباب التي تجلب لهم الدنيا من التخاشع والتنسك
في الظاهر، وملازمة حث العزلة عن المخالطة، وكل هؤلاء بمعزل عن الشرع.
ولقد تأملت على بعضهم من القدح في نظيره إلى أن يبلغ به إلى التعرض به
للهلاك.
فالويل لهم، ما أقل ما يتمتعون بظواهر الدنيا، وإن كان مقلب القلوب قد صرف
القلوب عن محبتهم، لأن الحق عز وجل لا يميل بالقلوب إلا إلى المخلصين.
فقد فاتتهم الدنيا على الحقيقة، وما حصلوا إلا صورة الحطام.
نسأل الله عز وجل عقلاً يدبر دنيانا، ويحصل لنا آخرتنا، والرزاق قادر.
فصل قليل ما هم
ينبغي لمن عرف شرف الوجود أن يحصل أفضل الموجود.
هذا العمر موسم. والتجارات تختلف. والعامة تقول: عليكم بما خف حمله وكثر
ثمنه.
فينبغي للمستيقظ أن لا يطلب إلا الأنفس.
وأنفس الأشياء في الدنيا معرفة الحق عز وجل.
فمن العارفين السالكين من وافى في طريقه بغيته في السفر، ومنهم من همته
متعلقة بطلب ربحه، ومنهم من ينظر إلى ما يرضى الحبيب فيجلبه إلى بلد
المعاملة، ويرضي بالقبول ثمناً، ويرى أن كل البضائع لا تفي بحق الحفاوة.
ومنهم من يرى لزوم الشكر في اختياره هذا السلوك دون غيره فيقر بالعجز.
وقد ارتفع قوم عن هذه الأحوال، فرأوا مجرد التوفيق يشغلهم عن النظر إلى
العمل.
أولئك الأقلون عدداً وإن الأعظمين قدراً أقل نسلاً من عنقاء مغرب.
فصل أيها الشيوخ استعدوا للرحيل
من علم قرب الرحيل عن مكة استكثر من الطواف خصوصاً إن كان لا يؤمل العود
لكبر سنه وضعف قوته.
فكذلك ينبغي لمن قاربه ساحل الأجل بعلو سنه أن يبادر اللحظات، وينتظر
الهاجم بما يصلح له.
فقد كان في قوس الأجل منزع زمان الشباب، واسترخى الوتر في المشيب عن سية
القوس. فانحدر إلى القاب وضعفت القوى.
وما بقي إلا الاستسلام لمحارب التلف، فالبدار البدار إلى التنظيف ليكون
القدوم على طهارة.
وأي عيش في الدنيا يطيب لمن أيامه السلمية تغذ به إلى الهلاك، وصعود عمره
نزول عن الحياة، وطول بقائه نقص مدى المدة، فليتفكر فيما بين يديه، وهو
أهم مما ذكرناه.
أليس في الصحيح: ما منكم أحد إلا ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي من
الجنة والنار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله.
فواأسفاً لمهدد، لم يحسن التأهب، ويا طيب عيش الموعود بأزيد المنى.
وليعلم من شارف السبعين، أن النفس أنين، أعان الله من قطع عقبة العمر على
رمل زرود الموت.
فصل سير الرسول مثل أعلى
من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين
ينشأ الرضى، فليفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه رأى أن الخالق مالك، وللمالك
التصرف في مملوكه، ورآه حكيماً لا يصنع شيئاً عبثاً، فسلم تسليم مملوك
لحكيم، فكانت العجائب تجري عليه ولا يوجد منه تغير، ولا من الطبع تأفف.
ولا يقول بلسان الحال: لو كان كذا، بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف
الرياح.
هذا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق وحده، والكفر قد ملأ
الآفاق، فجعل يفر من مكان إلى مكان، واستتر في دار الخيزران، وهم يضربونه
إذا خرج، ويدمون عقبه وشق السلى على ظهره وهو ساكت ساكن.
ويخرج كل موسم فيقول: من يؤويني من ينصرني ؟.
ثم خرج من مكة فلم يقدر على العود إلا في جوار كافر، ولم يوجد من الطبع
تأنف، ولا من الباطن اعتراض.
إذا لو كان غيره لقال: يا رب أنت مالك الخلق، واقدر على النصر، فلم أذل ؟.
كما قال عمر رضي الله عنه يوم صلح الحديبية: ألسنا على الحق ؟ فلم. نعطي
الدنية في ديننا؟.
ولما قال هذا، قال له رسول صلى الله عليه وسلم: إني عبد الله ولن يضيعني،
فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما.
فقوله: إني عبد الله، إقرار بالملك وكأنه قال: أنا مملوك يفعل بي ما يشاء.
وقوله: لن يضيعني بيان حكمته، وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً.
ثم يبتلى بالجوع فيشد الحجر، ولله خزائن السموات والأرض.
وتقتل أصحابه، ويشج وجهه، وتكسر رباعيته، ويمثل بعمه وهو ساكت.
ثم يرزق ابناً ويسلب منه فيتعلل بالحسن والحسين فيخبر بما سيجري
عليهما.
ويسكن بالطبع إلى عائشة رضي الله عنها فينغص عيشه بقذفها.
ويبالغ في إظهار المعجزات فيقام في وجهه مسيلمة والعنسي وابن صياد.
ويقيم ناموس الأمانة والصدق، فيقال: كذاب ساحر.
ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلان وهو ساكن ساكت.
فإن أخبر بحاله فليعلم الصبر.
ثم يشدد عليه الموت، فيسلب روحه الشريفة وهو مضطجع في كساء ملبد وإزار
غليظ، وليس عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذ.
هذا الشيء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغي نبي قبله، ولو ابتليت به
الملائكة ما صبرت.
هذا آدم عليه السلام يباح له الجنة سوى شجرة فلا يقع ذباب حرصه إلا على
الفقر.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول في المباح ما لي وللدنيا !.
وهذا نوح عليه السلام يضج مما لاقى، فيصيح من كمد وجده " لا تَذر على
الأرض من الكافرين دياراً " . ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اهد
قدمي فإنهم لا يعلمون.
هذا الكليم موسى صلى الله عليه وسلم، يستغيث عند عبادة قومه العجل ويتوكأ
على القدر قائلاً: " إن هي إِلاَّ فتنتك " ويوجه إليه ملك الموت فيقلع
عينه.
وعيسى صلى الله عليه وسلم يقول: إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عني.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يخير بين البقاء والموت، فيختار الرحيل إلى
الرفيق الأعلى.
هذا سليمان صلى الله عليه وسلم يقول: هب لي ملكاً، ونبينا صلى الله عليه
وسلم يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً.
هذا والله فعل رجل عرف الوجود والموجد، فماتت أغراضه، وسكنت اعتراضاته
فصار هواه فيما يجري.
فصل خداع الشهوات
أكثر شهوات الحس النساء، وقد يرى الإنسان امرأة في ثيابها فيتخايل له أنها
أحسن من زوجته.
أو يتصور بفكره المستحسنات وفكره لا ينظر إلا إلى الحسن من المرأة، فيسعى
في التزوج والتسري.
فإذا حصل له مراده لم يزل ينظر في عيوب الحاصل التي ما كان يتفكر فيها
فيمل ويطلب شيئاً آخر.
ولا يدري أن حصول أغراضه في الظاهر ربما اشتمل على محن منها أن تكون
الثانية لا دين لها أو لا عقل أو لا محبة لها أو لا تدبير فيفوت أكثر مما
حصل.
وهذا المعنى هو الذي أوقع الزناة في الفواحش، لأنهم يجالسون المرأة حال
استتار عيوبها عنهم وظهور محاسنها، فتلذ لهم تلك الساعة، ثم ينتقلون إلى
أخرى.
فليعلم العاقل أن لا سبيل إلى حصول مراد تام كما يريد: " ولستم بآخذيه
إلاَّ أن تغمضوا فيه " .
وما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز وجل: " ولهم فيها أزواج مطهرة " .
وذو الأنفة يأنف من الوسخ صورة، وعيب الخلق معنى.
فليقنع بما باطنه الدين، وظاهره الستر والقناعة. فإنه يعيش مرفه السر، طيب
القلب. ومتى ما استكثر، فإنما يستكثر من شغل قلبه ورقة دينه.
فصل أصناف الناس
سبحان من شغل كل شخص بفن لتنام العيون في الدنيا.
فأما في العلوم فحبب إلى هذا القرآن، وإلى هذا الحديث وإلى هذا النحو، إذ
لولا ذلك ما حفظت العلوم.
وألهم هذا المتعيش أن يكون خبازاً، وهذا أن يكون هراساً، وهذا أن ينقل
الشوك من الصحراء، وهذا أن ينقي البثار ليلتئم الخلق.
ولو ألهم أكثر الناس أن يكونوا خبازين مثلاً، بات الخبز وهلك، أو هراسين
جفت الهرايس، بل يلهم هذا وذاك بقدر لينتظم أمر الدنيا وأمر الآخرة.
ويندر من الخلق من يلهمه الكمال وطلب الأفضل، والجمع بين العلوم والأعمال،
ومعاملات القلوب، وتتفاوت أرباب هذه الحال.
فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار.
نسأله العفو إن لم يقع الرضى، والسلامة إن لم نصلح للمعاملة.
فصل أساس الدين
علم الحديث هو الشريعة، لأنه مبين للقرآن وموضح للحلال والحرام، وكاشف عن
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه.
وقد مزجوه بالكذب، وأدخلوا في المنقولات كل قبيح.
فإذا وفق الزاهد والواعظ لم يذكروا إلا ما شهدا بصحته.
وإن حرما التوفيق، عمل الزاهد بكل حديث يسمعه لحسن ظنه بالرواة، وقال
الواعظ كل شيء يراه الجهلة بالتصحيح، ففسد أحوال الزاهد، وانحرف عن جادة
الهدى. وهو لا يعلم.
وكيف لا وعموم الأحاديث الدالة على الزهد لا تثبت، مثل حديث ابن
عمر رضي الله عنهما: أيما أمرىء مسلم اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه
غفر له. وهذا حديث موضوع، يمنع الإنسان ما أبيح له مما يتقوى به على
الطاعة.
ومثل قوله: من وضع ثياباً حساناً، وكذلك ما رووا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قدم له أدمان فقال: أدمان في قدح، لا حاجة لي فيه، أكره أن
يسألني الله عن فضول الدنيا.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل البطيخ بالرطب، ومثل هذا
إذا تتبع كثير، فقد بنوا على فساد، ففسدت أحوال الواعظ والموعوظ، لأنه
يبني كلامه على أشياء فاسدة ومحالات.
ولقد كان جماعة من المتزهدين يعملون على أحاديث ومنقولات لا تصح، فيضيع
زمانهم في غير المشروع.
ثم ينكرون على العلماء استعمالهم للمباحات، ويرون أن التجفف هو الدين.
وكذلك الوعاظ يحدثون الناس بما لا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا
أصحابه فقد صار المحال عندهم شريعة.
فسبحان من حفظ هذه الشريعة بأخبار أخيار ينفون عنها تحريف الغالين،
وانتحال المبطلين.
انتقدت على أكثر العلماء والزهاد أنهم يبطنون الكبر.
فهذا ينظر في موضعه وارتفاع غيره عليه وهذا لا يعود مريضاً فقيراً يرى
نفسه خيراً منه.
حتى إني رأيت جماعة يومأ إليهم، منهم من يقول لا أدفن إلا في دكة أحمد بن
حنبل، ويعلم أن في ذلك كسر عظام الموتى، ثم يرى نفسه أهلاً لذلك التصدر.
ومنهم من يقول. ادفنوني إلى جانب مسجدي ظناً منه أنه يصير بعد موته مزاراً
كمعروف الكرخي.
وهذه خلة مهلكة ولا يعلمون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ظن أنه خير من غيره فقد تكبر.
وقل من رأيت إلا وهو يرى نفسه.
والعجب كل العجب ممن يرى نفسه، أتراه بماذا رآها !.
إن كان بالعلم فقد سبقه العلماء، وإن كان بالتعبد فقد سبقه العباد، أو
بالمال فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلة دينية.
فإن قال: قد عرفت ما لم يعرف غيري من العلم في زمني، فما علي ممن تقدم.
قيل له: ما نأمرك يا حافظ القرآن أن ترى نفسك في الحفظ كمن يحفظ النصف.
ولا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي.
إنما نحذر عليك أن ترى نفسك خيراً من ذلك الشخص المؤمن وإن قل علمه.
فإن الخيرية بالمعاني لا بصور العلم والعبادة.
ومن تلمح خصال نفسه وذنوبها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير، وهو من
حال غيره على شك.
فالذي يحذر منه الإعجاب بالنفس، ورؤية التقدم في أحوال الآخرة، والمؤمن
الحق لا يزال يحتقر نفسه.
وقد قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مت ندفنك في حجرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إلي من أن
أرى نفسي أهلاً لذلك.
وقد روينا: أن رجلاً من الرهبان رأى في المنام قائلاً يقول له: فلان
الإسكافي خير منك، فنزل من صومعته فجاء فسأله عن عمله فلم يذكر كبير عمله.
فقيل له في المنام: عد إليه وقل له: مم صفرة وجهك ؟.
فعاد فسأل فقال: ما رأيت مسلماً إلا وظننته خيراً مني فقيل له: فبذاك
ارتفع.
متى رأيت صاحبك قد غضب وأخذ يتكلم بما لا يصلح، فلا ينبغي أن تعقد على ما
يقوله خنصراً، ولا أن تؤاخذه به.
فإن حاله حال السكران، لا يدري ما يجري.
بل اصبر لفورته، ولا تعول عليها، فإن الشيطان قد غلبه، والطبع قد هاج،
والعقل قد استتر.
ومتى أخذت في نفسك عليه، أو أجبته بمقتضى فعله كنت كعاقل واجه مجنوناً، أو
كمفيق عاتب مغمى عليه. فالذنب لك.
بل انظر بعين الرحمة، وتلمح تصريف القدر له، وتفرج في لعب الطبع به. واعلم
أنه إذا انتبه ندم على ما جرى، وعرف لك فضل الصبر.
وأقل الأقسام أن تسلمه فيما يفعل في غضبه إلى ما يستريح به.
وهذه الحالة ينبغي أن يتلمحها الولد عند غضب الوالد، والزوجة عند
غضب الزوج، فتتركه يشتفي بما يقول، ولا تعول على ذلك، فسيعود نادماً
معتذراً.
ومتى قوبل على حالته ومقالته صارت العداوة متمكنة، وجازى في الإفاقة على
ما فعل في حقه وقت السكر.
وأكثر الناس على غير هذه الطريق.
متى رأوا غضبان قابلوه بما يقول ويعمل، وهذا على غير مقتضى الحكمة؛ بل
الحكمة ما ذكرته، " وما يعقلها إلاَّ العالمون " .
فصل تجارب مع الناس
ليس في الدنيا أكثر بلاهة ممن يسيء إلى شخص ويعلم أنه قد بلغ إلى قلبه
بالأذى ثم يصطلحان في الظاهر، فيعلم أن ذلك الأثر محيي بالصلح.
وخصوصاً مع الملوك، فإن لذتهم الكبرى أن لا يرتفع عليهم أحد، ولا ينكسر
لهم غرض، فإذا جرى شيء من ذلك لم ينجبر.
واعتبر هذا بأبي مسلم الخراساني، فإنه غض من قدر المنصور قبل ولايته فحصل
ذلك في نفسه فقتله.
ومن نظر في التواريخ رأى جماعة قد جرى لهم مثل هذا، ولا ينبغي لمن أساء
إلى ذي سلطان أن يقع في يده، فإنه إذا رام التخلص لم يقدر. فيبقى ندمه على
ترك احترازه، وحسرته على مساكنة الظمآن للسلامة أشد عليه من كل ما يلقى به
من الهوان والأذى.
ومن هذا الجنس الأصدقاء المتماثلون، فإنك متى آذيت شخصاً وبلغ إلى قلبه
أذاك فلا تثق بمودته، فإن أذاك نصب عينه، فإن لم يحتل عليك لم يصف لك.
ولا تخالط إلا من أنعمت عليه فحسب، فهو لم ير منك إلا خيراً فيكون في
نفسه، وكذلك الولد والزوجة والمعاملون.
ويلحق بهذا أن أقول: لا ينبغي أن تعادي أحداً ولا تتكلم في حقه، فربما
صارت له دولة فاشتفى.
وربما احتيج إليه فلم يقدر عليه.
فالعاقل يصور في نفسه كل ممكن، ويستر ما في قلبه من البغض والود، ويداري
من يكنون له الغيظ والحقد، هذه مشاورة العقل إن قبلت.
كل من يتلمح العواقب ولا يستعد لما يجوز وقوعه فليس بكامل العقل.
واعتبر هذا في جميع الأحوال، مثل أن يغتر بشبابه ويدوم على المعاصي ويسوف
بالتوبة.
فربما أخذ بغتة ولم يبلغ بعض ما أمل.
وكذلك إذا سوف بالعمل أو بحفظ العلم، فإن الزمان ينقضي بالتسويف ويفوت
المقصود.
وربما عزم على فعل خير أو وقف شيء من ماله فسوف فبغت.
فالعاقل من أخذ بالحزم في تصوير ما يجوز وقوعه وعمل بمقتضى ذلك فإن امتد
الأجل لم يضره، وإن وقع المخوف كان محترزاً.
ومما يتعلق بالدنيا أن يميل مع السلطان ويسيء إلى بعض حواشيه ثقة بقربه
منه، فربما تغير ذلك السلطان فارتفع عدوه فانتقم منه.
وقد يعادي بعض الأصدقاء ولا يبالي به لأنه دونه في الحالة الحاضرة.
فربما صعدت مرتبة ذلك فاستوفى ما أسلفه إليه من القبيح وزاد.
فالعاقل من نظر فيما يجوز وقوعه ولم يعاد أحداً.
فإن كان بينهما ما يوجب المعاداة كتم ذلك، فإن صح له أن يثب على عدوه
فينتقم منه انتقاماً يبيحه الشرع جاز، على أن العفو أصلح في باب العيش.
ولهذا ينبغي أن يخدم البطال، فإنه ربما عمل فعرف ذلك لمن خدم.
وقس على أنموذج ما ذكرته من جميع الأحوال.
بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة.
وقد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنهما فقال: والله لا ينال أحد من الدنيا
شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عنده كريماً.
فالسعيد من اقتنع بالبلغة، فإن الزمان أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا.
اللهم إلا أن يكون متورعاً في كسبه، معيناً لنفسه عن الطمع، قاصداً إعانة
أهل الخير والصدقة على المحتاجين، فكسب هذا أصلح من بطالته.
فأما الصعود الذي سببه مخالطة السلاطين فبعيد أن يسلم معه الدين، فإن وقعت
سلامته ظاهراً فالعاقبة خطرة.
قال أبو محمد التميمي: ما غبطت أحداً إلا الشريف أبا جعفر يوم مات القائم
بأمر الله فإنه غسله وخرج ينفض أكمامه فقعد في مسجده لا يبالي بأحد ونحن
منزعجون لا ندري ما يجري علينا.
وذاك أن التميمي كان متعلقاً على السلطان يمضي له في الرسائل، فخاف مغبة
القرب.
وقد رأينا جماعة من العلماء خالطوا السلطان فكانت مغبتهم سيئة.
ولعمري إنهم طلبوا الراحة فأخطأوا طريقها، لأن غموم القلب لا توازيها لذة
مال ولا لذة مطعم، هذا في الدنيا قبل الآخرة.
وليس أشرف وأطيب عيشاً من منفرد في زاوية لا يخالط السلاطين ولا
يبالي أطاب مطعمه أم لم يطب.
فإنه لا يخلو من كسرة وقعب ماء ثم هو سليم من أن تقال له كلمة تؤذيه، أو
يعيبه الشرع حين دخوله عليهم أو الخلق.
ومن تأمل حال أحمد بن حنبل في انقطاعه، وحال ابن أبي داؤد، ويحيى بن أكثم
عرف الفرق في طيب العيش في الدنيا والسلامة في الآخرة.
وما أحسن ما قال ابن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من
لذيذ العيش لجالدونا عليه بالسيوف.
ولقد صدق ابن أدهم، فإن السلطان إن أكل شيئاً خاف أن يكون قد طرح له فيه
سم، وإن نام خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة، فإن
خرج كان منزعجاً من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا
تبقي له لذة مطعم ولا منكح.
وكلما استظرف المطاعم أكثر منها ففسدت معدته، وكلما استجد الجواري أكثر
منهن فذهبت قوته، ولا يكاد يبعد ما بين الوطء والوطء فلا يجد في الوطء
كبير لذة لأن لذة الوطء بقدر بعد ما بين الزمانين، وكذلك لذة الأكل.
فإن من أكل على شبع ووطىء من غير صدق شهوة وقلق لم يجد اللذة التامة التي
يجدها الفقير إذا جاع والعزب إذا وجد امرأة.
ثم إن الفقير يرمي نفسه على الطريق في الليل فينام ولذة الأمن قد حرمها
الأمراء فلذتهم ناقصة وحسابهم زائد.
والله ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغاً من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا
العلماء المخلصين كالحسن وأحمد وسفيان، والعباد المحققين كمعروف، فإن لذة
العلم تزيد على كل لذة.
وأما ضرهم إذا جاعوا أو ابتلوا بأذى، فإن ذلك يزيد في رفعتهم.
وكذلك لذة الخلوة والتعبد. فهذا معروف، كان منفرداً بربه طيب العيش معه
لذيذ الخلوة به.
ثم قد مات منذ نحو أربعمائة سنة فما يخلو أن يهدي إليه كل يوم ما تقدير
مجموعة أجزاء من القرآن.
وأقله من يقل على قبره فيقرأ: " قل هو اللّه أحد " ، ويهديها له.
والسلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة.
هذا بعد الموت، ويوم الحشر تنشر الكرامات التي لا توصف، وكذلك قبور
العلماء المحققين.
ولما بليت أقوام بمخالطة الأمراء أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها.
فقال سفيان بن عيينة منذ أخذت من مال فلان الأمير منعت ما كان وهب لي من
فهم القرآن.
وهذا أبو يوسف القاضي لا يزور قبره اثنان.
فالصبر عن مخالطة الأمراء وإن أوجب ضيق العيش من وجه يحصل طيب العيش من
جهات.
ومع التخليط لا يحصل مقصود. فمن عزم جزم.
كان أبو الحسن القزويني لا يخرج من بيته إلا وقت الصلاة، فربما جاء
السلطان فيقعد لانتظاره ليسلم عليه.
ومد النفس في هذا ربما أضجر السامع، ومن ذاق عرف.
فصل التزام الجادة
من عرف الشرع كما ينبغي وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم وأحوال الصحابة
وأكابر العلماء علم أن أكثر الناس على غير الجادة.
وإنما يمشون مع العادة، يتزاورون فيغتاب بعضهم بعضاً، ويطلب كل واحد منهم
عورة أخيه، ويحسده إن كانت نعمة، ويشمت به إن كانت مصيبة، ويتكبر عليه إن
نصح له، ويخادعه لتحصيل شيء من الدنيا، ويأخذ عليه العثرات إن أمكن.
هذا كله يجري بين المنتمين إلى الزهد لا الرعاع.
فالأولى بمن عرف الله سبحانه، وعرف الشرع، وسير السلف الصالحين الانقطاع
عن الكل.
فإن اضطر إلى لقاء منتسب إلى العلم والخير تلقاه وقد لبس درع الحذر، ولم
يطل معه الكلام، ثم عجل الهرب منه إلى مخالطة الكتب التي تحوي تفسيراً
لنطاق الكمال.
الكمال عزيز. والكامل قليل الوجود.
فأول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن وحسن صورة الباطن.
فصورة البدن تسمى خلقاً، وصورة الباطن تسمى خلقاً.
ودليل كمال صورة البدن حسن الصمت، واستعمال الأدب.
ودليل صورة الباطن حسن الطبائع والأخلاق.
فالطبائع العفة، والنزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشره.
والأخلاق الكرم، والإيثار، وستر العيوب، وابتداء المعروف، والحلم عن
الجاهل.
فمن رزق هذه الأشياء رقته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلة
أوجبت النقص.
ليس في الدنيا أبله ممن يريد معاملة الحق سبحانه على بلوغ الأغراض.
فأين تكون البلوى إذن ؟.
لا والله، لا بد من انعكاس المرادات ومن توقف أجوبة السؤالات، ومن تشفي
الأعداء في أوقات.
فأما من يريد أن تدم له السلامة والنصر على من يعاديه، والعافية
من غير بلاء، فما عرف التكليف، ولا فهم التسليم.
أليس الرسول صلى الله عليه وسلم ينصر يوم بدر ثم يجري عليه ما يجري يوم
أحد.
أليس يصد عن البيت ويقهر بعد ذلك.
فلا بد من جيد ورديء، والجيد يوجب الشكر، والرديء يحرك إلى السؤال والدعاء.
فإن امتنع الجواب، أريد نفوذ البلاء، والتسليم للقضاء.
وههنا يبين الإيمان، ويظهر في التسليم جواهر الرجال.
فإن تحقق التسليم باطناً وظاهراً فذلك شأن الكامل.
وإن وجد في الباطن انعصار من القضاء لا من المقتضى فإن الطبع لا بد أن
ينفر من المؤذي دل على ضعف المعرفة.
فإن خرج الأمر إلى الاعتراض باللسان، فتلك حال الجهال نعوذ بالله منها.
فصل لا بد من التصبر
من الابتلاء العظيم إقامة الرجل في غير مقامه. مثل أن يحوج الرجل الصالح
إلى مداراة الظالم والتردد إليه، وإلى مخالطة من لا يصلح، وإلى أعمال لا
تليق به أو إلى أمور تقطع عليه مراده الذي يؤثره.
فقد يقال للعالم: تردد على الأمير وإلا خفنا عليك سطوته، فيتردد فيرى ما
لا يصلح له ولا يمكنه أن ينكر.
أو يحتاج إلى شيء من الدنيا وقد منع حقه، فيحتاج أن يعرض بذكر ذلك، أو
يصرح لينال بعض حقه، ويحتاج إلى مداراة من تصعب مداراته، بل تتشتت همته
لتلك الضرورات.
وكذلك يفتقر إلى الدخول في أمور لا تليق به، مثل أن يحتاج إلى الكسب
فيتردد إلى السوق أو يخدم من يعطيه أجرته.
وهذا لا يحتمله قلب المراقب لله سبحانه لأجل ما يخالطه من الأكدار.
أو يكون له عائلة وهو فقير فيتفكر في إغنائهم، فيدخل في مداخل كلها عنده
عظيمة.
وقد يبتلى بفقد من يحب، أو ببلاء في بدنه، أو بعكس أغراضه وتسليط معاديه
عليه، فيرى الغاسق يقهره. والظالم يذله.
وكل هذه الأشياء تكدر عليه العيش، وتكاد تزلزل القلب.
وليس في الابتلاء بقوة الأشياء إلا التسليم واللجأ إلى القدر في الفرج.
يرى الرجل المؤمن الحازم يثبت لهذه العظائم، ولا يتغير قلبه، ولا ينطق
بالشكوى لسانه.
أو ليس الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج أن يقول: من يواريني من ينصرني.
ويفتقر إلى أن يدخل مكة في جوار كافر.
ويشق السلى على ظهره وتقتل أصحابه، ويداري المؤلفة، ويشتد جوعه وهو ساكن
لا يتغير.
وما ذاك إلا أنه علم أن الدنيا دار ابتلاء، لينظر الله فيها كيف تعملون.
ومما يهون هذه الأشياء علم العبد بالأجر، وإن ذلك مراد الحق.
فما لجرح إذا أرضاكم ألم.
لا ينكر أن الطباع تحب المال، لأنه سبب بقاء الأبدان، لكنه يزيد حبه في
بعض القلوب حتى يصير محبوباً لذاته للتوصل به إلى المقاصد.
فترى البخيل يحمل على نفسه العجائب، ويمنعها اللذات، وتصير لذاته في جمع
المال. وهذه جبلة في خلق كثير.
وليس العجب أن تكون في الجهال وينبغي أن يؤثر فيها عند العلماء المجاهدة
للطبع ومخالفته، خصوصاً في الأفعال اللازمة في جمع المال.
فأما أن يكون العالم جامعاً للمال من وجوه قبيحة ومن شبهات قوية وبحرص
شديد وبذل في الطلب، ثم يأخذ من الزكوات ولا تحل له مع الغنى، ثم يدخره
ولا ينفع به، فهذه بهيمية تخرج عن صفات الآدمية.
بل البهيمية أعذر، لأنها بالرياضة تتغير طباعها، وهؤلاء ما غيرتهم رياضة،
ولا أفادهم العلم.
ولقد كان أبو الحسن البسطامي مقيماً في رباط البسطامي الذي على نهر عيسى،
وكان لا يلبس إلا الصوف شتاء وصيفاً، وكان يحترم ويقصد، فخلف ما لا يزيد
على أربعة آلاف دينار.
ورأينا بعض أشياخنا وقد بلغ الثمانين وليس له أهل ولا ولد، وقد مرض فألقى
نفسه عند بعض أصدقائه يتكلف له ذلك الرجل ما يشتهيه وما يشفيه، فمات فخلف
أموالاً عظيمة.
ورأينا صدقة بن الحسين الناسخ، وكان على الدوام يذم الزمان وأهله، ويبالغ
في الطلب من الناس ويتجفف وهو في المسجد وحده ليس له من يقوم بأمره، فمات
فخلف فيما قيل ثلاث مائة دينار.
وكان يصحبنا أبو طالب بن المؤيد الصوفي. وكان يجمع المال، فسرق منه نحو
مائة دينار، فتلهف عليها وكان ذلك سبب هلاكه.
ومن أحوال الناس أنك ترى أقواماً جلسوا على صفة القوم يطلبون الفتوح،
فيأتيهم منها الكثير الذي يصيرون به من الأغنياء، وهم لا يمتنعون من أخذ
زكاة ولا من طلب.
وكذلك القصاص، يخرجون إلى البلاد ويطلبون، فيحصل لهم المال
الكثير، فلا يتركون الطلب عادة.
فيا سبحان الله. أي شيء أفاد العلم. بل الجهل كان لهؤلاء أعذر.
ومن أقبح أحوالهم لزومهم الأسباب التي تجلب لهم الدنيا من التخاشع والتنسك
في الظاهر، وملازمة حث العزلة عن المخالطة، وكل هؤلاء بمعزل عن الشرع.
ولقد تأملت على بعضهم من القدح في نظيره إلى أن يبلغ به إلى التعرض به
للهلاك.
فالويل لهم، ما أقل ما يتمتعون بظواهر الدنيا، وإن كان مقلب القلوب قد صرف
القلوب عن محبتهم، لأن الحق عز وجل لا يميل بالقلوب إلا إلى المخلصين.
فقد فاتتهم الدنيا على الحقيقة، وما حصلوا إلا صورة الحطام.
نسأل الله عز وجل عقلاً يدبر دنيانا، ويحصل لنا آخرتنا، والرزاق قادر.
فصل قليل ما هم
ينبغي لمن عرف شرف الوجود أن يحصل أفضل الموجود.
هذا العمر موسم. والتجارات تختلف. والعامة تقول: عليكم بما خف حمله وكثر
ثمنه.
فينبغي للمستيقظ أن لا يطلب إلا الأنفس.
وأنفس الأشياء في الدنيا معرفة الحق عز وجل.
فمن العارفين السالكين من وافى في طريقه بغيته في السفر، ومنهم من همته
متعلقة بطلب ربحه، ومنهم من ينظر إلى ما يرضى الحبيب فيجلبه إلى بلد
المعاملة، ويرضي بالقبول ثمناً، ويرى أن كل البضائع لا تفي بحق الحفاوة.
ومنهم من يرى لزوم الشكر في اختياره هذا السلوك دون غيره فيقر بالعجز.
وقد ارتفع قوم عن هذه الأحوال، فرأوا مجرد التوفيق يشغلهم عن النظر إلى
العمل.
أولئك الأقلون عدداً وإن الأعظمين قدراً أقل نسلاً من عنقاء مغرب.
من علم قرب الرحيل عن مكة استكثر من الطواف خصوصاً إن كان لا يؤمل العود
لكبر سنه وضعف قوته.
فكذلك ينبغي لمن قاربه ساحل الأجل بعلو سنه أن يبادر اللحظات، وينتظر
الهاجم بما يصلح له.
فقد كان في قوس الأجل منزع زمان الشباب، واسترخى الوتر في المشيب عن سية
القوس. فانحدر إلى القاب وضعفت القوى.
وما بقي إلا الاستسلام لمحارب التلف، فالبدار البدار إلى التنظيف ليكون
القدوم على طهارة.
وأي عيش في الدنيا يطيب لمن أيامه السلمية تغذ به إلى الهلاك، وصعود عمره
نزول عن الحياة، وطول بقائه نقص مدى المدة، فليتفكر فيما بين يديه، وهو
أهم مما ذكرناه.
أليس في الصحيح: ما منكم أحد إلا ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي من
الجنة والنار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله.
فواأسفاً لمهدد، لم يحسن التأهب، ويا طيب عيش الموعود بأزيد المنى.
وليعلم من شارف السبعين، أن النفس أنين، أعان الله من قطع عقبة العمر على
رمل زرود الموت.
من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين
ينشأ الرضى، فليفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه رأى أن الخالق مالك، وللمالك
التصرف في مملوكه، ورآه حكيماً لا يصنع شيئاً عبثاً، فسلم تسليم مملوك
لحكيم، فكانت العجائب تجري عليه ولا يوجد منه تغير، ولا من الطبع تأفف.
ولا يقول بلسان الحال: لو كان كذا، بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف
الرياح.
هذا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق وحده، والكفر قد ملأ
الآفاق، فجعل يفر من مكان إلى مكان، واستتر في دار الخيزران، وهم يضربونه
إذا خرج، ويدمون عقبه وشق السلى على ظهره وهو ساكت ساكن.
ويخرج كل موسم فيقول: من يؤويني من ينصرني ؟.
ثم خرج من مكة فلم يقدر على العود إلا في جوار كافر، ولم يوجد من الطبع
تأنف، ولا من الباطن اعتراض.
إذا لو كان غيره لقال: يا رب أنت مالك الخلق، واقدر على النصر، فلم أذل ؟.
كما قال عمر رضي الله عنه يوم صلح الحديبية: ألسنا على الحق ؟ فلم. نعطي
الدنية في ديننا؟.
ولما قال هذا، قال له رسول صلى الله عليه وسلم: إني عبد الله ولن يضيعني،
فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما.
فقوله: إني عبد الله، إقرار بالملك وكأنه قال: أنا مملوك يفعل بي ما يشاء.
وقوله: لن يضيعني بيان حكمته، وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً.
ثم يبتلى بالجوع فيشد الحجر، ولله خزائن السموات والأرض.
وتقتل أصحابه، ويشج وجهه، وتكسر رباعيته، ويمثل بعمه وهو ساكت.
ثم يرزق ابناً ويسلب منه فيتعلل بالحسن والحسين فيخبر بما سيجري
عليهما.
ويسكن بالطبع إلى عائشة رضي الله عنها فينغص عيشه بقذفها.
ويبالغ في إظهار المعجزات فيقام في وجهه مسيلمة والعنسي وابن صياد.
ويقيم ناموس الأمانة والصدق، فيقال: كذاب ساحر.
ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلان وهو ساكن ساكت.
فإن أخبر بحاله فليعلم الصبر.
ثم يشدد عليه الموت، فيسلب روحه الشريفة وهو مضطجع في كساء ملبد وإزار
غليظ، وليس عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذ.
هذا الشيء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغي نبي قبله، ولو ابتليت به
الملائكة ما صبرت.
هذا آدم عليه السلام يباح له الجنة سوى شجرة فلا يقع ذباب حرصه إلا على
الفقر.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول في المباح ما لي وللدنيا !.
وهذا نوح عليه السلام يضج مما لاقى، فيصيح من كمد وجده " لا تَذر على
الأرض من الكافرين دياراً " . ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اهد
قدمي فإنهم لا يعلمون.
هذا الكليم موسى صلى الله عليه وسلم، يستغيث عند عبادة قومه العجل ويتوكأ
على القدر قائلاً: " إن هي إِلاَّ فتنتك " ويوجه إليه ملك الموت فيقلع
عينه.
وعيسى صلى الله عليه وسلم يقول: إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عني.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يخير بين البقاء والموت، فيختار الرحيل إلى
الرفيق الأعلى.
هذا سليمان صلى الله عليه وسلم يقول: هب لي ملكاً، ونبينا صلى الله عليه
وسلم يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً.
هذا والله فعل رجل عرف الوجود والموجد، فماتت أغراضه، وسكنت اعتراضاته
فصار هواه فيما يجري.
فصل خداع الشهوات
أكثر شهوات الحس النساء، وقد يرى الإنسان امرأة في ثيابها فيتخايل له أنها
أحسن من زوجته.
أو يتصور بفكره المستحسنات وفكره لا ينظر إلا إلى الحسن من المرأة، فيسعى
في التزوج والتسري.
فإذا حصل له مراده لم يزل ينظر في عيوب الحاصل التي ما كان يتفكر فيها
فيمل ويطلب شيئاً آخر.
ولا يدري أن حصول أغراضه في الظاهر ربما اشتمل على محن منها أن تكون
الثانية لا دين لها أو لا عقل أو لا محبة لها أو لا تدبير فيفوت أكثر مما
حصل.
وهذا المعنى هو الذي أوقع الزناة في الفواحش، لأنهم يجالسون المرأة حال
استتار عيوبها عنهم وظهور محاسنها، فتلذ لهم تلك الساعة، ثم ينتقلون إلى
أخرى.
فليعلم العاقل أن لا سبيل إلى حصول مراد تام كما يريد: " ولستم بآخذيه
إلاَّ أن تغمضوا فيه " .
وما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز وجل: " ولهم فيها أزواج مطهرة " .
وذو الأنفة يأنف من الوسخ صورة، وعيب الخلق معنى.
فليقنع بما باطنه الدين، وظاهره الستر والقناعة. فإنه يعيش مرفه السر، طيب
القلب. ومتى ما استكثر، فإنما يستكثر من شغل قلبه ورقة دينه.
سبحان من شغل كل شخص بفن لتنام العيون في الدنيا.
فأما في العلوم فحبب إلى هذا القرآن، وإلى هذا الحديث وإلى هذا النحو، إذ
لولا ذلك ما حفظت العلوم.
وألهم هذا المتعيش أن يكون خبازاً، وهذا أن يكون هراساً، وهذا أن ينقل
الشوك من الصحراء، وهذا أن ينقي البثار ليلتئم الخلق.
ولو ألهم أكثر الناس أن يكونوا خبازين مثلاً، بات الخبز وهلك، أو هراسين
جفت الهرايس، بل يلهم هذا وذاك بقدر لينتظم أمر الدنيا وأمر الآخرة.
ويندر من الخلق من يلهمه الكمال وطلب الأفضل، والجمع بين العلوم والأعمال،
ومعاملات القلوب، وتتفاوت أرباب هذه الحال.
فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار.
نسأله العفو إن لم يقع الرضى، والسلامة إن لم نصلح للمعاملة.
علم الحديث هو الشريعة، لأنه مبين للقرآن وموضح للحلال والحرام، وكاشف عن
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه.
وقد مزجوه بالكذب، وأدخلوا في المنقولات كل قبيح.
فإذا وفق الزاهد والواعظ لم يذكروا إلا ما شهدا بصحته.
وإن حرما التوفيق، عمل الزاهد بكل حديث يسمعه لحسن ظنه بالرواة، وقال
الواعظ كل شيء يراه الجهلة بالتصحيح، ففسد أحوال الزاهد، وانحرف عن جادة
الهدى. وهو لا يعلم.
وكيف لا وعموم الأحاديث الدالة على الزهد لا تثبت، مثل حديث ابن
عمر رضي الله عنهما: أيما أمرىء مسلم اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه
غفر له. وهذا حديث موضوع، يمنع الإنسان ما أبيح له مما يتقوى به على
الطاعة.
ومثل قوله: من وضع ثياباً حساناً، وكذلك ما رووا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قدم له أدمان فقال: أدمان في قدح، لا حاجة لي فيه، أكره أن
يسألني الله عن فضول الدنيا.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل البطيخ بالرطب، ومثل هذا
إذا تتبع كثير، فقد بنوا على فساد، ففسدت أحوال الواعظ والموعوظ، لأنه
يبني كلامه على أشياء فاسدة ومحالات.
ولقد كان جماعة من المتزهدين يعملون على أحاديث ومنقولات لا تصح، فيضيع
زمانهم في غير المشروع.
ثم ينكرون على العلماء استعمالهم للمباحات، ويرون أن التجفف هو الدين.
وكذلك الوعاظ يحدثون الناس بما لا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا
أصحابه فقد صار المحال عندهم شريعة.
فسبحان من حفظ هذه الشريعة بأخبار أخيار ينفون عنها تحريف الغالين،
وانتحال المبطلين.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل درجات الحديث في مسند الإمام أحمد
كان قد سألني بعض أصحاب الحديث: هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح ؟ فقلت: نعم.
فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت
فكر ذلك.
وإذا بهم قد كتبوا فتاوي، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان، منهم أبو العلاء
الهمداني يعظمون هذا القول، ويردونه ويقبحون قول من قاله.
فبقيت دهشاً متعجباً، وقلت في نفسي: واعجبا صار المنتسبون إلى العلم عامة
أيضاً.
وما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث ولم يبحثوا عن صحيحة وسقيمه، وظنوا أن من
قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد.
وليس كذلك فإن الإمام أحمد روى المشهور والجيد والرديء.
ثم هو قد رد كثيراً مما روى ولم يقل به ولم يجعله مذهباً له.
أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ مجهول !.
ومن نظر في كتاب العلل الذي صنفه أبو بكر الخلال رأى أحاديث كثيرة كلها في
المسند، وقد طعن فيها أحمد.
ونقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء في مسألة النبيذ قال:
إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم.
ويدل على ذلك أن عبد الله قال قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن حراس عن
حذيفة ؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي داود ؟ قلت: نعم.
قال: الأحاديث بخلافه. قلت: فقد ذكرته في المسند. قال قصدت في المسند
المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرد لهذا المسند إلا الشيء بعد
الشيء اليسير.
ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم
يكن في الباب شيء يدفعه.
قال القاضي - وقد أخبر عن نفسه - كيف طريقه في المسند فمن جعله أصلاً
للصحة فقد خالفه وترك مقصده.
قلت: قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة،
وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا قد روي.
والبكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
فصل أتباع شهوات بهيمية
بلغني عن بعض فساق القدماء أنه كان يقول: ما أرى العيش غير أن تتبع النفس
هواها فمخطئاً أو مصيباً.
فتدبرت حال هذا وإذا به ميت النفس، ليس له أنفة على عرضه ولا خوف عار.
ومثل هذا ليس في مسلاخ الآدميين، فإن الإنسان قد يقدم على القتل لئلا يقال
جبان. ويحمل الأثقال ليقال ما قصر. ويخاف العار فيصبر على كل آفة من
الفقر، وهو يستر ذلك حتى لا يرى بعين ناقصة.
حتى إن الجاهل إذا قيل له يا جاهل غضب. واللصوص المتهيئون للحرام إذا قال
أحدهم للآخر لا تتكلم، فإن أختك تفعل وتصنع، أخذته الحمية فقتل الأخت.
ومن له نفس لا يقف في مقام تهمة لئلا يظن به.
فأما من لا يبالي أن يرى سكران، ولا يهمه أن شهر بين الناس، ولا يؤلمه ذكر
الناس له بالسوء فذاك في عداد البهائم.
وهذا الذي يريد أن يتبع النفس هواها لا يلتذ به لأنه لا يخاف عنتاً ولا
لوماً، ولا يكون له عرض يحذر عليه، فهو بهيمة في مسلاخ إنسان.
وإلا فأي عيش لمن شرب الخمر، وأخذ عقيب ذلك وضرب وشاع في الناس ما قد فعل
به.
أما يفي ذلك باللذة، لا ؟ بل يربو عليها أضعافاً.
وأي عيش لمن ساكن الكسل إذا رأى أقرانه قد برزوا في العلم وهو
جاهل.
أو استغنوا بالتجارة وهو فقير، فهل يبقى للالتذاذ بالكسل والراحة معنى ؟.
ولو تفكر الزاني في الأحدوثة عنه، أو تصور أخذ الحد منه، لكف الكف.
غير أنه يرى لذة حاضرة كأنها لمع برق، ويا شؤم ما أعقبت من طول الأسى.
هذا كله في العاجل. فأما الآجل فمنغصة العذاب دائمة، " والذين آمنوا
مشفقون منها " .
نسأل الله أنفة من الرذائل وهمة في طلب الفضائل إنه قريب مجيب.
فصل عواقب الخطايا
قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم.
والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة، فكم مغرور بإمهال العصاة لم
يمهل.
وأسرع المعاصي عقوبة ما خلا عن لذة تنسي النهي، فتكون تلك الخطيئة
كالمعاندة والمبارزة.
فإن كانت توجب اعتراضاً على الخالق أو منازعة له في عظمته، فتلك التي لا
تتلافى.
خصوصاً إن وقعت من عارف بالله، فإنه يندر إهماله.
قال عبد المجيد بن عبد العزيز: كان عندنا بخراسان رجل كتب مصحفاً في ثلاثة
أيام فلقيه رجل فقال: في كم كتبت هذا ؟. فأومأ بالسبابة والوسطى والإبهام
وقال: في ثلاث " وما مسنا من لغوب " فجفت أصابعه الثلاث، فلم ينتفع بها
فيما بعد.
وخطر لبعض الفصحاء أن يقدر أن يقول مثل القرآن، فصعد إلى غرفة فانفرد
فيها، وقال: أمهلوني ثلاثاً، فصعدوا إليه بعد الثلاث ويده قد يبست على
القلم وهو ميت.
قال عبد الحميد: ورأيت رجلاً كان يأتي امرأته حائضاً، فحاض، فلما كثر
الأمر به تاب فانقطع عنه.
ويلحق هذا أن يعير الإنسان شخصاً بفعل، وأعظمه أن يعيره بما ليس إليه،
فيقول يا أعمى، ويا قبيح الخلقة.
وقال ابن سيرين: عيرت رجلاً بالفقر فحبست على دين، وقد تتأخر العقوبة
وتأتي في آخر العمر.
فيا طول التعثير مع كبر السن لذنوب كانت في الشباب.
فالحذر الحذر من عواقب الخطايا والبدار البدار إلى محوها بالإنابة.
فلها تأثيرات قبيحة إن أسرعت وإلا اجتمعت وجاءت.
فصل فضل التعفف
اعلم أن الآدمي قد خلق لأمر عظيم... وهو مطالب بمعرفة خالقه بالدليل، ولا
يكفيه التقليد. وذلك يفتقر إلى جمع الهم في طلبه.
وهو مطالب بإقامة المفروضات، واجتناب المحارم. فإن سمت همته إلى طلب العلم
احتاج إلى زيادة جمع الهم.
فأسعد الناس من له قوت دار بقدر الكفاية، لا من منن الناس وصدقاتهم، وقد
قنع به.
وأما إذا لم يكن له قوت يكفي فالهم الذي يريد اجتماعه في تلك الأمور يتشتت
ويصير طالباً للتحليل في جمع القوت.
فيذهب العمر في تصحيل قوت البدن الذي يريد من بقائه غير بقائه، ويفوت
المقصود ببقائه، وربما احتاج إلى الأنذال، قال الشاعر:
حسبي من الدهر ما كفاني ... يصون عرضي عن الهوان
مخافة أن يقول قوم ... فضل فلان على فلان
فينبغي للعاقل أن إذا رزق قوتاً أو كان له مواد أن يحفظها ليتجمع همه، ولا
ينبغي أن يبذر في ذلك فإنه يحتاج فيتشتت همه.
والنفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت، فإن لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته وقلل
الغلو ليجمع بين همه وضرورته.
وليقنع بالقليل، فإنه متى سمت همته إلى فضول المال وقع المحذور من التشتت،
لأن التشتت في الأول للعدم، وهذا التشتت يكون للحرص على الفضول فيذهب
العمر على البارد:
ومن ينفق الأيام في حفظ ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
فافهم هذا يا صاحب الهمة في طلب الفضائل، فإنك ما لم تعزل قوت الصبيان
شتتوا قلبك، وطبعك طفل. ففرغ همك من استعانته.
واعرف قدر شرف المال الذي أوجب جمع همك، وصان عرضك عن الخلق.
وإياك أن يحملك الكرم على فرط الإخراج، فتصير كالفقير المتعرض لك بالتعرض
لغيرك.
وفي الحديث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عليه آثار
الفقر، فعرض به فأعطى شيئاً. فجاء فقير آخر فأثره الأول ببعض ما أعطى،
فرماه النبي صلى الله عليه وسلم، ونهاه عن مثل ذلك.
والقناعة بما يكفي، وترك التشوف إلى الفضول أصل الأصول.
ولما آيس الإمام أحمد بن حنبل نفسه من قبول الهدايا والصلات اجتمع همه.
وحسن ذكره. ولما أطمعها ابن المديني وغيره سقط ذكره.
ثم فيمن ! إنما هو سلطان جائز، أو مزك منان ؟ أو صديق مدل بما يعطي. والعز
ألذ من كل لذة، والخروج عن ربقة المنن ولو بسف التراب أفضل.
فصل التجمل مع الناس
قد ركب في الطباع حب التفضيل على الجنس فما أحد إلا وهو يحب أن يكون أعلى
درجة من غيره.
فإذا وقعت نكبة أوجبت نزوله عن مرتبة سواه، فينبغي أن يتجلد بستر تلك
النكبة، لئلا يرى بعين نقص.
وليتجمل المتعفف حتى لا يرى بعين الرحمة، وليتحامل المريض لئلا يشمت به ذو
العافية.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قدومه مكة وقد أخذتهم الحمى فخاف
أن يشمت بهم الأعداء حين ضعفهم عن السعي، فقال: رحم الله من أظهر من نفسه
الجلد، فيرملوا - والرمل شدة السعي - .
وزال ذلك السبب وبقي الحكم، ليتذكر السبب فيفهم معناه.
واستأذنوا على معاوية وهو في الموت، فقال لأهله أجلسوني، فقعد متمكناً
يظهر العافية، فلما خرج العواد أنشد:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصائب والفقر والبلاء، لئلا يتحملوا
مع النوائب شماتة الأعداء، وإنها لأشد من كل نائبة.
وكان فقيرهم يظهر الغنى، ومريضهم يظهر العافية.
بلى، ثم نكتة ينبغي التفطن لها، ربما أظهر الإنسان كثرة المال وسبوغ
النعم، فأصابه عدوه بالعين فلا يفي ما تبجح به بما يلاقي من انعكاس النعمة.
والعين لا تصيب إلا ما يستحسن، ولا يكفي الاستحسان في إصابة العين حتى
يكون من حاسد، ولا يكفي ذلك حتى يكون من شرير الطبع.
فإذا اجتمعت هذه الصفات خيف من إصابة العين، فليكن الإنسان مظهراً للتجمل
مقدار ما يأمن إصابة العين ويعلم أنه في خير.
وليحذر الإفراط في إظهار النعم، فإن العين هناك محذورة.
وقد قال يعقوب لبنيه عليهم السلام: " لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من
أبواب متفرقة " .
وإنما خاف عليهم العين فليفهم هذا الفصل فإنه ينفع من له تدبر.
فصل مثال أهل العمل ومراتب الجنة
إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في معرفته ومحادثته ورؤيته في البقاء الدائم.
وإنما ابتدىء كوننا في الدنيا لأنها في مثال مكتب نتعلم فيه الخط والأدب
ليصلح الصبي عند بلوغه للرتب.
فمن الصبيان بعيد الذهن يطول مكثه في الكتب ويخرج وما فهم شيئاً.
وهذا مثال من لا يعلم وجوده، ولا نال المراد من كونه.
ومن الصبيان من يجمع مع بعد ذهنه، وقلة فهمه وعدم تعلمه أذى الصبيان، فهو
يؤذيهم. ويسرق مطاعمهم، ويستغيثون من يده، فلا هو صلح، ولا فهم، ولا كف عن
الشر.
وهذا مثل أهل الشر والمؤذيين.
ومن الصبيان من علق بشيء من الخط لكنه ضعيف الاستخراج، رديء، الكتابة،
فخرج ولم يعلق إلا بقدر ما يعلق به حساب معاملته.
وهذا مثل من فهم بعض الشيء وفاتته الفضائل التامة.
ومنهم من جود الخط ولم يتعلم الحساب، وأتقن الآداب حفظاً، غير أنه قاصر في
أدب النفس، فهذا يصلح أن يكون كاتباً للسلطان على مخاطرة لسوء ما في باطنه
من الشره وقلة التأدب.
ومنهم من سمت همته إلى المعالي الكاملة، فهو مقدم الصبيان في المكتب ونائب
عن معلمهم، ثم يرتفع عنهم بعزة نفسه، وأدب باطنه، وكمال صناعة الآداب
الظاهرة.
ولا يزال حاث من باطنه يحثه على تعجيل التعلم، وتحصيل كل فضيل لعلمه أن
المكتب لا يراد لنفسه بل لأخذ الأدب منه، والرحلة إلى حالة الرجولية
والتصوف فهو يبادر الزمان في نيل كل فضيلة.
فهذا مثل المؤمن الكامل يسبق الأقران يوم التجاريب، ويعرض لوح عمله جيد
الخط، فيقول بلسان حاله " هاؤم اقرؤا كتابيه " .
وكذلك الدنيا وأهلها. من الناس هالك بعيد عن الحق وهم الكفار.
ومنهم خاطىء مع قليل من الإيمان فهو معاقب والمصير إلى خير.
ومنهم سليم لكنه قاصر.
ومنهم تام لكنه بالإضافة إلى من دونه، وهو ناقص بإضافة إلى من فوقه.
فالبدار البدار يا أرباب الفهوم فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة، وسفر إلى
المستقر والقرب من السلطان ومجاورته فتهيئوا للمجالسة، واستعدوا للمخاطبة،
وبالغوا في استعمال الأدب لتصلحوا للقرب من الحضرة.
ولا يشغلنكم عن تضمير الخيل تكاسل، وليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم
السباق.
فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا.
ومنازلهم على قدرهم، فما منزل النفاط كمنزل الحاجب، ولا منزل الحاجب كمكان
الوزير.
جنتان، من ذهب آنيتهما وما فيهما. وجنتان من فضة آنيتهما وما
فيهما، والفردوس الأعلى لآخرين.
والذين في أرض الجنة ينظرون أهل الدرجات كما يرون الكوكب الدري.
فليتذكر الساعي حلاوة التسليم إلى الأمين.
وليتذكر في لذاذة المدح يوم السباق. وليحذر المسابق من تقصير لا يمكن
استدراكه.
وليخف من عيب يبقى قبح ذكره.
هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن أزرى بهم اتباع الهوى ثم لحقتهم العافية
فنجوا بعد لأي، فليتعظ وليصبر عن المشتهى، فالأيام قلائل.
يدخل فقراء المؤمنين قبل الأغنياء إلى الجنة بخمس مائة عام، فالجد الجد،
بإقدام المبادرة.
فقد لاح العلم خصوصاً لمن بانت له بانة الوادي، إما بالعلم الدال على
الطريق، وإما بالشيب الذي هو علم الرحيل وهو ما يأمله أهل الجد.
وكان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه، فيقال له في هذا الوقت ! فيقول أبادر طي
صحيفتي.
وبعد هذا، فالمراد موفق، والمطلوب معان. وإذا أدرك لأمر هيأك له.
فصل اختلاف المعادن والمراتب
تأملت حالة عجيبة، وهو أن أهل الجنة الساكنين في أرضها في نقص عظيم
بالإضافة إلى من فوقهم، وهم يعلمون فضل أولئك.
فلو تفكروا فيما فاتهم من ذلك وقعت الحسرات، غير أن ذلك لا يكون، لأن ذلك
لا يقع لهم لطيب منازلهم، ولا يقع في الجنة غم.
ويرضى كل بما أعطى من وجهين، أحدهما أنه لا يظن أن يكون نعيم فوق ما هو
فيه، وإن علت منزلة غيره، والثاني أنه يحبب إليه كما ولده المستوحش
الخلقة، فإنه يؤثره على الأجنبي المستحسن.
إلا أن تحت هذا معنى لطيفاً، وهو أن القوم خلقت لهم همم قاصرة في الدنيا
عن طلب الفضائل، ثم يتفاوت قصورها.
فمنهم من يحفظ بعض القرآن ولا يتوق إلى التمام. ومنهم من يسمع يسيراً من
الحديث. ومنهم من يعرف قليلاً من الفقه، ومنهم من قد رضي من كل شيء
بيسيره، ومنهم مقتصر على الفرائض: ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليلة ولو
علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل، ونبت عن النقص فاستخدمت البدن
كما قال الشاعر:
ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
ويدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع سمر ولا يسهل عليه
السهر في سماع القرآن.
والإنسان يحشر ومعه تلك الهمة، فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا، فكما
لم تتق إلى الكمال وقنعت بالدون قنعت في الآخرة بمثل ذلك.
ثم إن القوم يتفكرون بعقولهم، فيعلمون أن الجزاء على قدر العمل، ولا يطمع
من صلى ركعتين في ثواب من صلى ألفاً.
فإن قال قائل فكيف يتصور لها ألا تروم ما ناله من هو أفضل منها !.
قلت: إن لم يتصور نيله يتصور الحزن على فوته.
وهل رأيت عامياً يحزن على فوات الفقه حزناً يقلقه ! هيهات.
لو كان ذلك الحزن عنده لحركه إلى التشاغل.
فليس عندهم همة توجب الأسف مع أنهم قد رضوا بما فيه. فافهم ما قلته وبادر،
فهذا ميدان السباق.
فصل حكمة تعدد الملل
تفكرت في إبقاء اليهود والنصارى بيننا وأخذ الجزية منهم، فرأيت في ذلك
حكماً عجيبة.
منها ما قد ذكر أن الإسلام كان ضعيفاً فتقوى بما يؤخذ من جزيتهم.
ومنها ظهور عزه بذلهم إلى غير ذلك مما قد قيل.
ووقع لي فيه معنى عجيب. وهو أن وجودهم وتعبدهم وحفظهم شرع نبيهم صلى الله
عليه وسلم دليل على أنه قد كان أنبياء وشرائع وأن نبينا صلى الله عليه
وسلم ليس ببدع من الرسل، فقد اجتمعت الجن وهم على إثبات صانع، وإقرار
برسل، فبان أننا ما ابتدعنا ما لم يكن.
ثم هم يصبرون على باطلهم، ويؤدون الجزية، فكيف لا نصبر على حق، والدولة
لنا.
وفي بقائهم احترام لما كان صحيحاً من الدين وليرجع متبصر وليستعمل مفكر.
فصل مشارب أهل العلم
قد ثبت بالدليل شرف العلم وفضله، إلا أن طلاب العلم افترقوا، فكل تدعوه
نفسه إلى شيء.
فمنهم من أذهب عمره في القراءات، وذاك تفريط في العلم، لأنه إنما ينبغي أن
يعتمد على المشهور منها لا على الشاذ.
وما أقبح القارىء يسأل عن مسألة الفقه وهو لا يدري.
وليس ما شغله عن ذلك إلا كثرة الطرق في روايات القراءات.
ومنهم من يتشاغل بالنحو وعلله فحسب، ومنهم من يتشاغل باللغة فحسب، ومنهم
من يكتب الحديث ويكثر ولا ينظر في فهم ما كتب.
وقد رأينا في مشايخنا المحدثين من كان يسأل عن مسألة في الصلاة فلا يدري
ما يقول.
وكذلك القراء، وكذلك أهل اللغة والنحو.
وحدثني عبد الرحمن بن عيسى الفقيه قال حدثني ابن المنصوري قال حضرنا مع
أبي محمد بن الخشاب، وكان إمام الناس في النحو واللغة، فتذاكروا الفقه،
فقال: سلوني عما شئتم، فقال له رجل: إن قيل لنا رفع اليدين في الصلاة ما
هو فماذا نقول، فقال: هو ركن ! فدهشت الجماعة من قلة فقهه.
وإنما ينبغي للعاقل أن يأخذ من كل علم طرفاً ثم يهتم بالفقه.
ثم ينظر في مقصود العلوم، وهو المعاملة لله سبحانه والمعرفة به والحب له.
وما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم، وإنما ينبغي أن يعرف من ذلك
اليسير والمنازل لعلم الأوقات، فأما النظر فيما يدعى أنه القضاء والحكم
فجهل محض لأنه لا سبيل إلى علم ذلك حقيقة، وقد جرب فبان جهل مدعيه.
وقد تقع الإصابة في وقت. وعلى تقدير الإصابة لا فائدة فيه إلا التعجيل
الغم.
فإن قال قائل: يمكن دفع ذلك فقد سلم أنه لا حقيقة له.
وأبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيمياء فإنه هذيان فارغ. وإذا كان لا
يتصور قلب الذهب نحاساً لم يتصور قلب النحاس ذهباً. فإنما فاعل هذا مستحل
للتدليس على الناس في النقود. هذا إذا صح له مراده.
وينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده، إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال.
وليجتهد في مجالسة العلماء، والنظر في الأقوال المختلفة، وتحصيل الكتب،
فلا يخلو كتاب من فائدة.
وليجعل همته للحفظ، ولا ينظر ولا يكتب إلا وقت التعب من الحفظ.
وليحذر صحبة السلطان، ولينظر في منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة
والتابعين، وليجتهد في رياضة نفسه والعمل بعلمه، ومن تولاه الحق وفقه.
فصل هذه الحجب على العقل
طال تعجبي من أقوام لهم أنفة وعندهم كبر زائد في الحد.
خصوصاً العرب الذين من كلمة ينفرون، ويحاربون، ويرضون بالقل والذل حتى أن
قوماً منهم أدركوا الإسلام فقالوا: كيف نركع ونسجد فتعلونا أستاهنا ؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود.
ومع هذه الأنفة يذلون لمن هم خير منه، هذا يعبد حجراً، وهذا يعبد خشبة.
وقد كان قوم يعبدون الخيل والبقر، وإن هؤلاء لأخس من إبليس، فإن إبليس أنف
لادعائه الكمال أن يسجد لناقص فقال: " أنا خير منه " وفرعون أنف أن يعبد
شيئاً أصلاً.
فالعجب ذل هؤلاء المفتخرين المتعجبين المتكبرين لحجر أو خشبة.
وإنما ينبغي أن يذل الناقص للكاملين. وقد أشير إلى هذا في ذم الأصنام في
قوله تعالى: " ألهم أرجل يمشون بها، أم لهم أيد يبطشون بها، أم لهم أعين
يبصرون بها " .
والمعنى أن لكم هذه الآلات المدركة وهم ليس لهم شيء منها، فكيف يعبد
الكامل الناقص.
غير أن هوى القوم في متابعة الأسلاف، واستحلاء ما اخترعوه بآرائهم غطى على
العقول، فلم تتأمل حقائق الأمور.
ثم غطى الحسد على أقوام فتركوا الحق وقد عرفوه.
فأمية بن أبي الصلت يقر برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقصده ليؤمن به،
ثم يعود فيقول: لا أؤمن برسول ليس من ثقيف.
وأبو جهل يقول والله ما كذب محمد قط، ولكن إذا كانت السدانة والحجابة في
بني هاشم ثم النبوة فما بقي لنا ؟.
وأبو طالب يرى المعجزات ويقول: إني لأعلم أنك على الحق ولولا أن تعيرني
نساء قريش لأقررت بها عينك.
فنعوذ بالله من ظلمة حسد، وغيابة كبر، وحماقة هوى يغطي على نور العقل.
ونسأله إلهام الرشد، والعمل بمقتضى الحق.
كان قد سألني بعض أصحاب الحديث: هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح ؟ فقلت: نعم.
فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت
فكر ذلك.
وإذا بهم قد كتبوا فتاوي، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان، منهم أبو العلاء
الهمداني يعظمون هذا القول، ويردونه ويقبحون قول من قاله.
فبقيت دهشاً متعجباً، وقلت في نفسي: واعجبا صار المنتسبون إلى العلم عامة
أيضاً.
وما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث ولم يبحثوا عن صحيحة وسقيمه، وظنوا أن من
قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد.
وليس كذلك فإن الإمام أحمد روى المشهور والجيد والرديء.
ثم هو قد رد كثيراً مما روى ولم يقل به ولم يجعله مذهباً له.
أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ مجهول !.
ومن نظر في كتاب العلل الذي صنفه أبو بكر الخلال رأى أحاديث كثيرة كلها في
المسند، وقد طعن فيها أحمد.
ونقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء في مسألة النبيذ قال:
إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم.
ويدل على ذلك أن عبد الله قال قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن حراس عن
حذيفة ؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي داود ؟ قلت: نعم.
قال: الأحاديث بخلافه. قلت: فقد ذكرته في المسند. قال قصدت في المسند
المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرد لهذا المسند إلا الشيء بعد
الشيء اليسير.
ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم
يكن في الباب شيء يدفعه.
قال القاضي - وقد أخبر عن نفسه - كيف طريقه في المسند فمن جعله أصلاً
للصحة فقد خالفه وترك مقصده.
قلت: قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة،
وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا قد روي.
والبكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
بلغني عن بعض فساق القدماء أنه كان يقول: ما أرى العيش غير أن تتبع النفس
هواها فمخطئاً أو مصيباً.
فتدبرت حال هذا وإذا به ميت النفس، ليس له أنفة على عرضه ولا خوف عار.
ومثل هذا ليس في مسلاخ الآدميين، فإن الإنسان قد يقدم على القتل لئلا يقال
جبان. ويحمل الأثقال ليقال ما قصر. ويخاف العار فيصبر على كل آفة من
الفقر، وهو يستر ذلك حتى لا يرى بعين ناقصة.
حتى إن الجاهل إذا قيل له يا جاهل غضب. واللصوص المتهيئون للحرام إذا قال
أحدهم للآخر لا تتكلم، فإن أختك تفعل وتصنع، أخذته الحمية فقتل الأخت.
ومن له نفس لا يقف في مقام تهمة لئلا يظن به.
فأما من لا يبالي أن يرى سكران، ولا يهمه أن شهر بين الناس، ولا يؤلمه ذكر
الناس له بالسوء فذاك في عداد البهائم.
وهذا الذي يريد أن يتبع النفس هواها لا يلتذ به لأنه لا يخاف عنتاً ولا
لوماً، ولا يكون له عرض يحذر عليه، فهو بهيمة في مسلاخ إنسان.
وإلا فأي عيش لمن شرب الخمر، وأخذ عقيب ذلك وضرب وشاع في الناس ما قد فعل
به.
أما يفي ذلك باللذة، لا ؟ بل يربو عليها أضعافاً.
وأي عيش لمن ساكن الكسل إذا رأى أقرانه قد برزوا في العلم وهو
جاهل.
أو استغنوا بالتجارة وهو فقير، فهل يبقى للالتذاذ بالكسل والراحة معنى ؟.
ولو تفكر الزاني في الأحدوثة عنه، أو تصور أخذ الحد منه، لكف الكف.
غير أنه يرى لذة حاضرة كأنها لمع برق، ويا شؤم ما أعقبت من طول الأسى.
هذا كله في العاجل. فأما الآجل فمنغصة العذاب دائمة، " والذين آمنوا
مشفقون منها " .
نسأل الله أنفة من الرذائل وهمة في طلب الفضائل إنه قريب مجيب.
فصل عواقب الخطايا
قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم.
والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة، فكم مغرور بإمهال العصاة لم
يمهل.
وأسرع المعاصي عقوبة ما خلا عن لذة تنسي النهي، فتكون تلك الخطيئة
كالمعاندة والمبارزة.
فإن كانت توجب اعتراضاً على الخالق أو منازعة له في عظمته، فتلك التي لا
تتلافى.
خصوصاً إن وقعت من عارف بالله، فإنه يندر إهماله.
قال عبد المجيد بن عبد العزيز: كان عندنا بخراسان رجل كتب مصحفاً في ثلاثة
أيام فلقيه رجل فقال: في كم كتبت هذا ؟. فأومأ بالسبابة والوسطى والإبهام
وقال: في ثلاث " وما مسنا من لغوب " فجفت أصابعه الثلاث، فلم ينتفع بها
فيما بعد.
وخطر لبعض الفصحاء أن يقدر أن يقول مثل القرآن، فصعد إلى غرفة فانفرد
فيها، وقال: أمهلوني ثلاثاً، فصعدوا إليه بعد الثلاث ويده قد يبست على
القلم وهو ميت.
قال عبد الحميد: ورأيت رجلاً كان يأتي امرأته حائضاً، فحاض، فلما كثر
الأمر به تاب فانقطع عنه.
ويلحق هذا أن يعير الإنسان شخصاً بفعل، وأعظمه أن يعيره بما ليس إليه،
فيقول يا أعمى، ويا قبيح الخلقة.
وقال ابن سيرين: عيرت رجلاً بالفقر فحبست على دين، وقد تتأخر العقوبة
وتأتي في آخر العمر.
فيا طول التعثير مع كبر السن لذنوب كانت في الشباب.
فالحذر الحذر من عواقب الخطايا والبدار البدار إلى محوها بالإنابة.
فلها تأثيرات قبيحة إن أسرعت وإلا اجتمعت وجاءت.
اعلم أن الآدمي قد خلق لأمر عظيم... وهو مطالب بمعرفة خالقه بالدليل، ولا
يكفيه التقليد. وذلك يفتقر إلى جمع الهم في طلبه.
وهو مطالب بإقامة المفروضات، واجتناب المحارم. فإن سمت همته إلى طلب العلم
احتاج إلى زيادة جمع الهم.
فأسعد الناس من له قوت دار بقدر الكفاية، لا من منن الناس وصدقاتهم، وقد
قنع به.
وأما إذا لم يكن له قوت يكفي فالهم الذي يريد اجتماعه في تلك الأمور يتشتت
ويصير طالباً للتحليل في جمع القوت.
فيذهب العمر في تصحيل قوت البدن الذي يريد من بقائه غير بقائه، ويفوت
المقصود ببقائه، وربما احتاج إلى الأنذال، قال الشاعر:
حسبي من الدهر ما كفاني ... يصون عرضي عن الهوان
مخافة أن يقول قوم ... فضل فلان على فلان
فينبغي للعاقل أن إذا رزق قوتاً أو كان له مواد أن يحفظها ليتجمع همه، ولا
ينبغي أن يبذر في ذلك فإنه يحتاج فيتشتت همه.
والنفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت، فإن لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته وقلل
الغلو ليجمع بين همه وضرورته.
وليقنع بالقليل، فإنه متى سمت همته إلى فضول المال وقع المحذور من التشتت،
لأن التشتت في الأول للعدم، وهذا التشتت يكون للحرص على الفضول فيذهب
العمر على البارد:
ومن ينفق الأيام في حفظ ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
فافهم هذا يا صاحب الهمة في طلب الفضائل، فإنك ما لم تعزل قوت الصبيان
شتتوا قلبك، وطبعك طفل. ففرغ همك من استعانته.
واعرف قدر شرف المال الذي أوجب جمع همك، وصان عرضك عن الخلق.
وإياك أن يحملك الكرم على فرط الإخراج، فتصير كالفقير المتعرض لك بالتعرض
لغيرك.
وفي الحديث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عليه آثار
الفقر، فعرض به فأعطى شيئاً. فجاء فقير آخر فأثره الأول ببعض ما أعطى،
فرماه النبي صلى الله عليه وسلم، ونهاه عن مثل ذلك.
والقناعة بما يكفي، وترك التشوف إلى الفضول أصل الأصول.
ولما آيس الإمام أحمد بن حنبل نفسه من قبول الهدايا والصلات اجتمع همه.
وحسن ذكره. ولما أطمعها ابن المديني وغيره سقط ذكره.
ثم فيمن ! إنما هو سلطان جائز، أو مزك منان ؟ أو صديق مدل بما يعطي. والعز
ألذ من كل لذة، والخروج عن ربقة المنن ولو بسف التراب أفضل.
قد ركب في الطباع حب التفضيل على الجنس فما أحد إلا وهو يحب أن يكون أعلى
درجة من غيره.
فإذا وقعت نكبة أوجبت نزوله عن مرتبة سواه، فينبغي أن يتجلد بستر تلك
النكبة، لئلا يرى بعين نقص.
وليتجمل المتعفف حتى لا يرى بعين الرحمة، وليتحامل المريض لئلا يشمت به ذو
العافية.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قدومه مكة وقد أخذتهم الحمى فخاف
أن يشمت بهم الأعداء حين ضعفهم عن السعي، فقال: رحم الله من أظهر من نفسه
الجلد، فيرملوا - والرمل شدة السعي - .
وزال ذلك السبب وبقي الحكم، ليتذكر السبب فيفهم معناه.
واستأذنوا على معاوية وهو في الموت، فقال لأهله أجلسوني، فقعد متمكناً
يظهر العافية، فلما خرج العواد أنشد:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصائب والفقر والبلاء، لئلا يتحملوا
مع النوائب شماتة الأعداء، وإنها لأشد من كل نائبة.
وكان فقيرهم يظهر الغنى، ومريضهم يظهر العافية.
بلى، ثم نكتة ينبغي التفطن لها، ربما أظهر الإنسان كثرة المال وسبوغ
النعم، فأصابه عدوه بالعين فلا يفي ما تبجح به بما يلاقي من انعكاس النعمة.
والعين لا تصيب إلا ما يستحسن، ولا يكفي الاستحسان في إصابة العين حتى
يكون من حاسد، ولا يكفي ذلك حتى يكون من شرير الطبع.
فإذا اجتمعت هذه الصفات خيف من إصابة العين، فليكن الإنسان مظهراً للتجمل
مقدار ما يأمن إصابة العين ويعلم أنه في خير.
وليحذر الإفراط في إظهار النعم، فإن العين هناك محذورة.
وقد قال يعقوب لبنيه عليهم السلام: " لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من
أبواب متفرقة " .
وإنما خاف عليهم العين فليفهم هذا الفصل فإنه ينفع من له تدبر.
إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في معرفته ومحادثته ورؤيته في البقاء الدائم.
وإنما ابتدىء كوننا في الدنيا لأنها في مثال مكتب نتعلم فيه الخط والأدب
ليصلح الصبي عند بلوغه للرتب.
فمن الصبيان بعيد الذهن يطول مكثه في الكتب ويخرج وما فهم شيئاً.
وهذا مثال من لا يعلم وجوده، ولا نال المراد من كونه.
ومن الصبيان من يجمع مع بعد ذهنه، وقلة فهمه وعدم تعلمه أذى الصبيان، فهو
يؤذيهم. ويسرق مطاعمهم، ويستغيثون من يده، فلا هو صلح، ولا فهم، ولا كف عن
الشر.
وهذا مثل أهل الشر والمؤذيين.
ومن الصبيان من علق بشيء من الخط لكنه ضعيف الاستخراج، رديء، الكتابة،
فخرج ولم يعلق إلا بقدر ما يعلق به حساب معاملته.
وهذا مثل من فهم بعض الشيء وفاتته الفضائل التامة.
ومنهم من جود الخط ولم يتعلم الحساب، وأتقن الآداب حفظاً، غير أنه قاصر في
أدب النفس، فهذا يصلح أن يكون كاتباً للسلطان على مخاطرة لسوء ما في باطنه
من الشره وقلة التأدب.
ومنهم من سمت همته إلى المعالي الكاملة، فهو مقدم الصبيان في المكتب ونائب
عن معلمهم، ثم يرتفع عنهم بعزة نفسه، وأدب باطنه، وكمال صناعة الآداب
الظاهرة.
ولا يزال حاث من باطنه يحثه على تعجيل التعلم، وتحصيل كل فضيل لعلمه أن
المكتب لا يراد لنفسه بل لأخذ الأدب منه، والرحلة إلى حالة الرجولية
والتصوف فهو يبادر الزمان في نيل كل فضيلة.
فهذا مثل المؤمن الكامل يسبق الأقران يوم التجاريب، ويعرض لوح عمله جيد
الخط، فيقول بلسان حاله " هاؤم اقرؤا كتابيه " .
وكذلك الدنيا وأهلها. من الناس هالك بعيد عن الحق وهم الكفار.
ومنهم خاطىء مع قليل من الإيمان فهو معاقب والمصير إلى خير.
ومنهم سليم لكنه قاصر.
ومنهم تام لكنه بالإضافة إلى من دونه، وهو ناقص بإضافة إلى من فوقه.
فالبدار البدار يا أرباب الفهوم فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة، وسفر إلى
المستقر والقرب من السلطان ومجاورته فتهيئوا للمجالسة، واستعدوا للمخاطبة،
وبالغوا في استعمال الأدب لتصلحوا للقرب من الحضرة.
ولا يشغلنكم عن تضمير الخيل تكاسل، وليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم
السباق.
فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا.
ومنازلهم على قدرهم، فما منزل النفاط كمنزل الحاجب، ولا منزل الحاجب كمكان
الوزير.
جنتان، من ذهب آنيتهما وما فيهما. وجنتان من فضة آنيتهما وما
فيهما، والفردوس الأعلى لآخرين.
والذين في أرض الجنة ينظرون أهل الدرجات كما يرون الكوكب الدري.
فليتذكر الساعي حلاوة التسليم إلى الأمين.
وليتذكر في لذاذة المدح يوم السباق. وليحذر المسابق من تقصير لا يمكن
استدراكه.
وليخف من عيب يبقى قبح ذكره.
هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن أزرى بهم اتباع الهوى ثم لحقتهم العافية
فنجوا بعد لأي، فليتعظ وليصبر عن المشتهى، فالأيام قلائل.
يدخل فقراء المؤمنين قبل الأغنياء إلى الجنة بخمس مائة عام، فالجد الجد،
بإقدام المبادرة.
فقد لاح العلم خصوصاً لمن بانت له بانة الوادي، إما بالعلم الدال على
الطريق، وإما بالشيب الذي هو علم الرحيل وهو ما يأمله أهل الجد.
وكان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه، فيقال له في هذا الوقت ! فيقول أبادر طي
صحيفتي.
وبعد هذا، فالمراد موفق، والمطلوب معان. وإذا أدرك لأمر هيأك له.
فصل اختلاف المعادن والمراتب
تأملت حالة عجيبة، وهو أن أهل الجنة الساكنين في أرضها في نقص عظيم
بالإضافة إلى من فوقهم، وهم يعلمون فضل أولئك.
فلو تفكروا فيما فاتهم من ذلك وقعت الحسرات، غير أن ذلك لا يكون، لأن ذلك
لا يقع لهم لطيب منازلهم، ولا يقع في الجنة غم.
ويرضى كل بما أعطى من وجهين، أحدهما أنه لا يظن أن يكون نعيم فوق ما هو
فيه، وإن علت منزلة غيره، والثاني أنه يحبب إليه كما ولده المستوحش
الخلقة، فإنه يؤثره على الأجنبي المستحسن.
إلا أن تحت هذا معنى لطيفاً، وهو أن القوم خلقت لهم همم قاصرة في الدنيا
عن طلب الفضائل، ثم يتفاوت قصورها.
فمنهم من يحفظ بعض القرآن ولا يتوق إلى التمام. ومنهم من يسمع يسيراً من
الحديث. ومنهم من يعرف قليلاً من الفقه، ومنهم من قد رضي من كل شيء
بيسيره، ومنهم مقتصر على الفرائض: ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليلة ولو
علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل، ونبت عن النقص فاستخدمت البدن
كما قال الشاعر:
ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
ويدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع سمر ولا يسهل عليه
السهر في سماع القرآن.
والإنسان يحشر ومعه تلك الهمة، فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا، فكما
لم تتق إلى الكمال وقنعت بالدون قنعت في الآخرة بمثل ذلك.
ثم إن القوم يتفكرون بعقولهم، فيعلمون أن الجزاء على قدر العمل، ولا يطمع
من صلى ركعتين في ثواب من صلى ألفاً.
فإن قال قائل فكيف يتصور لها ألا تروم ما ناله من هو أفضل منها !.
قلت: إن لم يتصور نيله يتصور الحزن على فوته.
وهل رأيت عامياً يحزن على فوات الفقه حزناً يقلقه ! هيهات.
لو كان ذلك الحزن عنده لحركه إلى التشاغل.
فليس عندهم همة توجب الأسف مع أنهم قد رضوا بما فيه. فافهم ما قلته وبادر،
فهذا ميدان السباق.
تفكرت في إبقاء اليهود والنصارى بيننا وأخذ الجزية منهم، فرأيت في ذلك
حكماً عجيبة.
منها ما قد ذكر أن الإسلام كان ضعيفاً فتقوى بما يؤخذ من جزيتهم.
ومنها ظهور عزه بذلهم إلى غير ذلك مما قد قيل.
ووقع لي فيه معنى عجيب. وهو أن وجودهم وتعبدهم وحفظهم شرع نبيهم صلى الله
عليه وسلم دليل على أنه قد كان أنبياء وشرائع وأن نبينا صلى الله عليه
وسلم ليس ببدع من الرسل، فقد اجتمعت الجن وهم على إثبات صانع، وإقرار
برسل، فبان أننا ما ابتدعنا ما لم يكن.
ثم هم يصبرون على باطلهم، ويؤدون الجزية، فكيف لا نصبر على حق، والدولة
لنا.
وفي بقائهم احترام لما كان صحيحاً من الدين وليرجع متبصر وليستعمل مفكر.
قد ثبت بالدليل شرف العلم وفضله، إلا أن طلاب العلم افترقوا، فكل تدعوه
نفسه إلى شيء.
فمنهم من أذهب عمره في القراءات، وذاك تفريط في العلم، لأنه إنما ينبغي أن
يعتمد على المشهور منها لا على الشاذ.
وما أقبح القارىء يسأل عن مسألة الفقه وهو لا يدري.
وليس ما شغله عن ذلك إلا كثرة الطرق في روايات القراءات.
ومنهم من يتشاغل بالنحو وعلله فحسب، ومنهم من يتشاغل باللغة فحسب، ومنهم
من يكتب الحديث ويكثر ولا ينظر في فهم ما كتب.
وقد رأينا في مشايخنا المحدثين من كان يسأل عن مسألة في الصلاة فلا يدري
ما يقول.
وكذلك القراء، وكذلك أهل اللغة والنحو.
وحدثني عبد الرحمن بن عيسى الفقيه قال حدثني ابن المنصوري قال حضرنا مع
أبي محمد بن الخشاب، وكان إمام الناس في النحو واللغة، فتذاكروا الفقه،
فقال: سلوني عما شئتم، فقال له رجل: إن قيل لنا رفع اليدين في الصلاة ما
هو فماذا نقول، فقال: هو ركن ! فدهشت الجماعة من قلة فقهه.
وإنما ينبغي للعاقل أن يأخذ من كل علم طرفاً ثم يهتم بالفقه.
ثم ينظر في مقصود العلوم، وهو المعاملة لله سبحانه والمعرفة به والحب له.
وما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم، وإنما ينبغي أن يعرف من ذلك
اليسير والمنازل لعلم الأوقات، فأما النظر فيما يدعى أنه القضاء والحكم
فجهل محض لأنه لا سبيل إلى علم ذلك حقيقة، وقد جرب فبان جهل مدعيه.
وقد تقع الإصابة في وقت. وعلى تقدير الإصابة لا فائدة فيه إلا التعجيل
الغم.
فإن قال قائل: يمكن دفع ذلك فقد سلم أنه لا حقيقة له.
وأبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيمياء فإنه هذيان فارغ. وإذا كان لا
يتصور قلب الذهب نحاساً لم يتصور قلب النحاس ذهباً. فإنما فاعل هذا مستحل
للتدليس على الناس في النقود. هذا إذا صح له مراده.
وينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده، إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال.
وليجتهد في مجالسة العلماء، والنظر في الأقوال المختلفة، وتحصيل الكتب،
فلا يخلو كتاب من فائدة.
وليجعل همته للحفظ، ولا ينظر ولا يكتب إلا وقت التعب من الحفظ.
وليحذر صحبة السلطان، ولينظر في منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة
والتابعين، وليجتهد في رياضة نفسه والعمل بعلمه، ومن تولاه الحق وفقه.
فصل هذه الحجب على العقل
طال تعجبي من أقوام لهم أنفة وعندهم كبر زائد في الحد.
خصوصاً العرب الذين من كلمة ينفرون، ويحاربون، ويرضون بالقل والذل حتى أن
قوماً منهم أدركوا الإسلام فقالوا: كيف نركع ونسجد فتعلونا أستاهنا ؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود.
ومع هذه الأنفة يذلون لمن هم خير منه، هذا يعبد حجراً، وهذا يعبد خشبة.
وقد كان قوم يعبدون الخيل والبقر، وإن هؤلاء لأخس من إبليس، فإن إبليس أنف
لادعائه الكمال أن يسجد لناقص فقال: " أنا خير منه " وفرعون أنف أن يعبد
شيئاً أصلاً.
فالعجب ذل هؤلاء المفتخرين المتعجبين المتكبرين لحجر أو خشبة.
وإنما ينبغي أن يذل الناقص للكاملين. وقد أشير إلى هذا في ذم الأصنام في
قوله تعالى: " ألهم أرجل يمشون بها، أم لهم أيد يبطشون بها، أم لهم أعين
يبصرون بها " .
والمعنى أن لكم هذه الآلات المدركة وهم ليس لهم شيء منها، فكيف يعبد
الكامل الناقص.
غير أن هوى القوم في متابعة الأسلاف، واستحلاء ما اخترعوه بآرائهم غطى على
العقول، فلم تتأمل حقائق الأمور.
ثم غطى الحسد على أقوام فتركوا الحق وقد عرفوه.
فأمية بن أبي الصلت يقر برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقصده ليؤمن به،
ثم يعود فيقول: لا أؤمن برسول ليس من ثقيف.
وأبو جهل يقول والله ما كذب محمد قط، ولكن إذا كانت السدانة والحجابة في
بني هاشم ثم النبوة فما بقي لنا ؟.
وأبو طالب يرى المعجزات ويقول: إني لأعلم أنك على الحق ولولا أن تعيرني
نساء قريش لأقررت بها عينك.
فنعوذ بالله من ظلمة حسد، وغيابة كبر، وحماقة هوى يغطي على نور العقل.
ونسأله إلهام الرشد، والعمل بمقتضى الحق.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى