رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل الذنوب وآثارها
ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها.
وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكأنهم قد قطعوا على ذلك.
وهذا أمر غائب، ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها.
ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح: أن الناس يأتون إلى آدم عليه
السلام فيقول: اشفع لنا فيقول: ذنبي. وإلى نوح عليه السلام فيقول: ذنبي،
وإلى إبراهيم، وإلى موسى، وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم.
فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقية.
ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا وهم بعد على خوف منها.
ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع وما أحسن ما قال الفضيل بن عياض
رحمه الله: واسوأتاه منك وإن عفوت. فأف والله لمختار الذنوب ومؤثر لذة
لحظة تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن وإن غفر له.
فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً.
وهذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد، لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب
بالتوبة الصادقة.
وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل.
فصل الحق مع علي بن أبي طالب
نعوذ بالله من سوء الفهم وخصوصاً من المتسمين بالعلم.
روى أحمد في مسنده أنه تنازع أبو عبد الرحمن السلمي وحيان بن عبد الله،
فقال أبو عبد الرحمن لحيان: قد علمت ما الذي حدا صاحبك، يعني علياً، قال
ما هو قال قول النبي صلى الله عليه وسلم: لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وهذا سوء فهم من أبي عبد الرحمن حين ظن أن علياً قاتل وقتل اعتماداً على
أنه قد غفر له.
وينبغي أن يعلم أن معنى الحديث: لتكن أعمالكم المتقدمة ما كانت فقد غفرت
لكم.
فأما غفران ما سيأتي فلا يتضمنه ذلك، أتراه لو وقع من أهل بدر وحاشاهم
الشرك - إذ ليسوا بمعصومين - أما كانوا يؤاخذون به ؟ فكذلك المعاصي.
ثم لو قلنا: إنه يتضمن غفران ما سيأتي، فالمعنى أن مآلكم إلى الغفران.
ثم دعنا من معنى الحديث، كيف يحل لمسلم أن يظن في أمير المؤمنين علي رضي
الله عنه أنه فعل ما لا يجوز اعتماداً على أنه سيغفر له ؟ حوشي من هذا.
وإنما قاتل بالدليل المضطر له إلى القتال، فكان على الحق.
ولا يختلف العلماء أن علياً رضي الله عنه لم يقاتل أحداً إلا والحق مع علي.
كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أدر معه الحق كيفما دار.
فقد غلط أبو عبد الرحمن غلطاً قبيحاً، حمله عليه أنه كان عثمانياً...
فصل سوء المظهر في الزهد
تأملت على متزهدي زماننا أشياء تدل على النفاق والرياء وهم يدعون الإخلاص.
منها أنهم يلزمون زاوية فلا يزورون صديقاً، ولا يعودون مريضاً، ويدعون
أنهم يريدون الانقطاع عن الناس اشتغالاً بالعبادة.
وإنما هي إقامة نواميس ليشار إليهم بالانقطاع، إذ لو مشوا بين الناس زالت
هيبتهم.
وما كان الناس كذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشتري
الحاجة من السوق، وأبو بكر رضي الله عنه يتجر في البز. وأبو عبيدة بن
الجراح يحفر القبور، وأبو طلحة أيضاً، وابن سيرين يغسل الموتى، وما كان
عند القوم إقامة ناموس.
وأصحابنا يلزمون الصمت بين الناس والتخشع والتماوت، وهذا هو النفاق.
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، وبين الناس، ويبكي بالليل.
وقد رأيت من المتزهدين من يلزم المسجد ويصلي فيجتمع الناس فيصلون بصلاته
ليلاً ونهاراً، وقد شاع هذا له فتقوى نفسه عليه بحب المحمدة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاة التطوع: " اجعلوا هذه في البيوت " .
وفي أصحابنا من يظهر الصوم الدائم، ويتقوت بقول الناس: " فلان ما يفطر
أصلاً " .
وهذا الأبله ما يدري أنه لأجل الناس يفعل ذلك، لولا هذا كان يفطر
والناس يرونه يومين أو ثلاثة حتى يذهب عنه ذلك الاسم ثم يعود إلى الصوم.
وقد كان إبراهيم بن أدهم إذا مرض يترك عنده من الطعام ما يأكله الأصحاء.
ورأيت في زهادنا من يصلي الفجر يوم الجمعة بالناس ويقرأ المعوذتين والمعنى
قد ختمت !!!.
فإن هذه الأعمال هي صريحة في النفاق والرياء.
وفيهم من يأخذ الصدقات وهو غني، ولا يبالي أخذ من الظلمة أو من أهل الخير،
ويمشي إلى الأمراء يسألهم، وهو يدري من أين حصلت أموالهم.
فالله الله في إصلاح النيات فإن جمهور هذه الأعمال مردود.
قال مالك بن دينار: وقولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى.
وليعلم المرائي أن الذي يقصده يفوته، وهو التفات القلوب إليه.
فإنه متى لم يخلص حرم محبة القلوب، ولم يلتفت إليه أحد، والمخلص محبوب.
فلو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه، لما فعل.
وكم رأينا من يلبس الصوف ويظهر النسك لا يلتفت إليه، وآخر يلبس جيد الثياب
ويبتسم والقلوب تحبه.
نسأل الله عز وجل إخلاصاً يخلصنا، ونستعيذ به من رياء يبطل أعمالنا إنه
قادر.
فصل لا استقرار في الدنيا
من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف فإنه موضوع على عكس الأغراض.
فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض. فإن دعا وسأل بلوغ غرض تعبد الله
بالدعاء.
فإن أعطى مراده شكر، وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح في الطلب، لأن
الدنيا ليست لبلوغ الأغراض، وليقل لنفسه: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير
لكم " .
من أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه، وربما اعترض في الباطن،
أو ربما قال: حصول غرضي لا يضر، ودعائي لم يستجب.
وهذا كله دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة.
ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر. هذا آدم طاب عيشه في الجنة وأخرج منها.
ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده، والخليل ابتلى بالنار، وإسماعيل بالذبح،
ويعقوب بفقد الولد. ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان
بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا.
وأما ما لقي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش
فمعلوم.
فالدنيا وضعت للبلاء فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن
ما حصل من المراد فلطف، وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا كما
قيل:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
وها هنا تتبين قوة الإيمان وضعفه فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض
التسليم للمالك، والتحكيم لحكمته.
وليقل قد قيل لسيد الكل " ليس لك من الأمر شيء " .
ثم ليسل نفسه بأن المنع ليس عن بخل، وإنما هو لمصلحة لا يعلمها، وليؤجر
الصابر عن أغراضه، وليعلم الله الذين سلموا ورضوا.
ثم إن زمن الابتلاء مقدار يسير، والأغراض مدخرة تلقى بعد قليل، وكأنه
بالظلمة قد انجلت، وبفجر الأجر قد طلع.
ومتى ارتقى فهمه إلى أن ما جرى مراد الحق سبحانه، اقتضى إيمانه أن يريد ما
يريد، ويرضى بما يقدر، إذ لو لم يكن كذلك كان خارجاً عن حقيقة العبودية في
المعنى.
وهذا أصل ينبغي أن يتأمل ويعمل عليه في كل غرض انعكس.
فصل العالم والحاكم
رأيت خلقاً من العلماء والقصاص تضيق عليهم الدنيا فيفزعون إلى مخالطة
السلاطين لينالوا من أموالهم، وهم يعلمون أن السلاطين لا يكادون يأخذون
الدنيا من وجهها، ولا يخرجونها في حقها.
فإن أكثرهم إذا حصل له خراج ينبغي أن يصرف إلى المصالح وهبه لشاعر.
وربما كان معه جندي يصلح أن تكون مشاهرته عشرة دنانير فأعطاه عشرة آلاف.
وربما غزا فأخذ ما ينبغي أن يقسم على الجيش فاصطفاه لنفسه.
هذا غير ما يجري من الظلم في المعاملات.
وأول ما يجري على ذاك العالم أنه قد حرم النفع بعلمه، وقد رأى بعض
الصالحين رجلاً عالماً يخرج من دار يحيى بن خالد البرمكي فقال: أعوذ بالله
من علم لا ينفع.
كيف ؟ ألم تر المنكرات ولا تنكر، وتتناول من طعامهم الذي لا يكاد
يحصل إلا بظلم فينطمس قلبك وتحرم لذة المعاملة للحق سبحانه، ثم لا يقدر لك
أن يهتدي بك أحد. بل ربما كان فعل هذا سبباً لإضلال الناس وصرفهم عن
الاقتداء به، فهو يؤذي نفسه ويؤذي أميره، لأنه يقول: لولا أنني على صواب
ما صحبني ولأنكر علي.
ويؤذي العوام تارة بأن يروا أن ما فيه الأمير صواب، وتارة بأن الدخول عليه
والسكوت عن الإنكار جائز.
أو يحبب إليهم الدنيا، ولا خير والله في سعة من الدنيا ضيقت طريق الآخرة.
وأنا أفتدي أقواماً صابروا عطش الدنيا في هجير الشهوات زمان العمر حتى
رووا يوم الموت من شراب الرضى، وبقيت أذكارهم تروي فتروى صدأ القلوب وتجلو
صداها.
هذا الإمام أحمد يحتاج فيخرج إلى اللقاط ولا يقبل مال سلطان.
هذا إبراهيم الحربي يتغذى بالبقل ويرد على المعتصم ألف دينار.
هذا بشر الحافي يشكو الجوع فيقال له يصنع لك حساء من دقيق فيقول: أخاف أن
يقول الله لي هذا الدقيق من أين لك ؟.
بقيت والله أذكار القوم، وما كان الصبر إلا غفوة يوم.
ومضت لذات المترخصين وبليت الأبدان، ووهن الدين.
فالصبر الصبر يا من وفق، ولا تغبطن من اتسع له أمر الدنيا.
فإنك إذا تأملت تلك السعة رأيتها ضيقاً في باب الدين.
ولا ترخص لنفسك في تأويل، فعمرك في الدنيا قليل:
وسواء إذا انقضى يوم كسرى ... في سرور ويوم صابر كسره
ومتى ضجت النفس لقلة صبر فاتل عليها أخبار الزهاد، فإنها ترعوي وتستحي
وتنكسر إن كانت لها همة أو فيها يقظة.
ومثل لها بين ترخص علي بن المديني وقبوله مال ابن أبي داود، وصبر أحمد.
وكم بين الرجلين والذكرين.
وانظر ما يروى عن كل واحد منهما وما يذكران به.
وسيندم ابن المديني إذا قال أحمد: سلم لي ديني.
فصل الكسب الحرام
تأملت أحوال الناس فرأيت جمهورهم منسلاً من ربقة العبودية.
فإن تعبدوا فعادة أو فيما لا ينافي أغراضهم منافاة تؤذي القلوب.
فأكثر السلاطين يحصلون الأموال من وجوه ردية وينفقونها في وجوه لا تصلح.
وكأنهم قد تملكوها، وليست مال الله الذي إذا غزا أحدهم - باسمه - فغنم
الأموال اصطفاها لنفسه، وأعطاها أصحابه كيف اشتهى.
والعلماء لقوة فقرهم وشدة شرههم، يوافقون الأمراء وينخرطون في سلكهم.
والتجار على العقود الفاسدة، والعوام في المعاصي والإهمال لجانب الشريعة.
فإن فات بعض أغراضهم فربما قالوا ما نريد نصلي، لا صلى الله عليهم.
وقد منعوا الزكاة وتركوا الأمر بالمعروف.
فمن الناس من يغره تأخير العقوبة، ومنهم من كان يقطع بالعفو وأكثرهم
متزلزل الإيمان، فنسأل الله أن يميتنا مسلمين.
فصل هموم الفقر
من العجيب سلامة دين ذي العيال إذا ضاق به الكسب، فما مثله إلا كمثل الماء
إذا ضرب في وجهه سكر، فإنه يعمل باطناً ويبالغ حتى يفتح فتحة.
فكذلك صاحب العيال إذا ضاق به الأمر لا يزال يحتال، فإذا لم يقدر على
الحلال ترخص في تناول الشبهات، فإن ضعف دينه مد يده إلى الحرام.
فالمؤمن إذا علم ضعفه عن الكسب اجتهد في التعفف عن النكاح، وتقليل النفقة
إذا حصل الأولاد، والقناعة باليسير.
فأما من ليس له كسب كالعلماء والمتزهدين، فسلامتهم ظريفة، إذ قد انقطعت
موارد السلاطين عنهم ومراعاة العوام لهم، فإذا كثرت عائلتهم لم يؤمن عليهم
شر ما يجري على الجهال.
فمن قدر منهم على كسب بالنسخ وغيره فليجتهد فيه مع تقليل النفقة والقناعة
باليسير.
فإنه من ترخص منهم اليوم أكل الحرام، لأنه يأخذ من الظلمة خصوصاً بحجة
التنمس والتزهد.
ومن كان له منهم مال فليجتهد في تنميته وحفظه، فما بقي من يؤثر ولا من
يقرض.
وقد صار الجمهور بل الكل كأنهم يعبدون المال، فمن حفظه حفظ دينه.
ولا يلتفت إلى قول الجهلة الذين يأمرون بإخراج المال، فما هذا وقته.
واعلم أنه إذا لم يجتمع الهم، لم يحصل العلم ولا العمل ولا التشاغل بالفكر
في عظمة الله.
وقد كان هم القدماء يجتمع بأشياء جمهورها أنه كان لهم من بيت المال نصيب
في كل عام.
وكان يصلهم فيفضل عنهم.
وفيهم من كان له مال يتجر به كسعيد بن المسيب وسفيان وابن المبارك وكان
همه مجتمعاً، وقد قال سفيان في ماله: لولاك لتمندلوا بي !!.
وفقدت بضاعة لابن المبارك فبكى وقال: هو قوام ديني.
وكان جماعة يسكنون إلى عطاء الإخوان الذين لا يمنون.
وكان ابن المبارك يبعت إلى الفضل وغيره، وكان الليث بن سعد يتفقد الأكابر،
فبعث إلى مالك ألف دينار، وإلى ابن لهيعة ألف دينار، وأعطى منصور ابن عمار
ألف دينار وجارية بثلاثمائة دينار.
وما زال الزمان على هذا إلى أن آل الأمر إلى انمحاق ذلك، فقلت عطايا
السلاطين، وقل من يؤثر من الإخوان.
إلا أنه كان في ذلك القليل ما يدفع عض الزمان.
فأما زماننا هذا، فقد انقبضت الأيدي كلها، حتى قل من يخرج الزكاة الواجبة،
فكيف يجتمع هم من يريد من العلماء والزهاد أن يعمل همه ليلاً ونهاراً في
وجوه الكسب وليس من شأنه هذا ولا يهتدي له.
فقد رأينا الأمر أحوج إلى التعرض للسلاطين والترخص في أخذ ما لا يصلح،
وأحوج المتزهدين إلى التصنع لتحصيل الدنيا.
فالله الله يا من يريد حفظ دينه، قد كررت عليك الوصية بتقليل جهدك، وخفف
العلائق مهما أمكنك، واحتفظ بدرهم يكون معك فإنه دينك، وافهم ما قد شرحته،
فإن ضجت النفس لمراداتها فقل لها: إن كان عندك إيمان فاصبري، وإن أردت
التحصيل لما يفنى ببذل الدين فما ينفعك.
فتفكري في العلماء الذين جمعوا المال من غير وجهه وفي المنمسين ذهب دينهم،
وزالت دنياهم.
وتفكري في العلماء الصادقين كأحمد وبشر، اندفعت الأيام وبقي لهم حسن الذكر.
وفي الجملة " من يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " .
فصل العبادة على أمل
شكا لي رجل من بغضه لزوجته ثم قال: ما أقدر على فراقها لأمور، منها كثرة
دينها علي وصبري قليل، ولا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى، وفي كلمات
تعلم بغضي لها.
فقلت له: هذا لا ينفع وإنما تؤتى البيوت من أبوابها ! فينبغي أن تخلو
بنفسك فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك فتبالغ في الاعتذار والتوبة.
فأما التضجر والأذى لها فما ينفع كما قال الحسن بن الحجاج: عقوبة من الله
لكم فلا تقابلوا عقوبته بالسيف وقابلوها بالاستغفار.
واعلم أنك في مقام مبتلي ولك أجر بالصبر " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير
لكم " فعامل الله سبحانه بالصبر على ما قضى واسأله الفرج.
فإذا جمعت بين الاستغفار وبين التوبة من الذنوب والصبر على القضاء وسؤال
الفرج، حصلت ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها.
ولا تضيع الزمان بشيء لا ينفع، ولا تحتل ظاناً منك أنك تدفع ما قدر: " وإن
يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إِلاَّ هو " .
وقد روينا أن جندياً نزل يوماً في دار أبي يزيد، فجاء أبو يزيد فرآه فوقف
وقال لبعض أصحابه: أدخل إلى المكان الفلاني فاقلع الطين الطري فإنه من وجه
فيه شبهة فقلعه، فخرج الجندي.
وأما أذاك للمرأة فلا وجه له لأنها مسلطة فليكن شغلك بغير هذا.
وقد روي عن بعض السلف أن رجلاً شتمه فوضع خده على الأرض وقال اللهم اغفر
لي الذنب الذي سلطت هذا به علي.
قال الرجل: وهذه المرأة تحبني زائداً في الحد، وتبالغ في خدمتي، غير أن
البغض لها مركوز في طبعي.
قلت له: فعامل الله سبحانه بالصبر عليها فإنك تثاب.
وقد قيل لأبي عثمان النيسابوري: ما أرجى عملك عندك.
قال: كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فآبي.
فجاءتني امرأة، فقالت: يا أبا عثمان، إني قد هويتك، وأنا أسألك بالله أن
تتزوجني.
فأحضرت أباها - وكان فقيراً - فزوجني منها وفرح بذلك.
فلما دخلت إلي رأيتها عوراء عرجاء مشوهة.
وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج، فأقعد حفظاً لقلبها، ولا أظهر لها من
البغض شيئاً وكأني على جمر الغضا من بغضها.
فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت، فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي
قلبها.
قلت له: فهذا عمل الرجال، وأي شيء ينفع ضجيج المبتلى بالتضجر وإظهار البغض.
وإنما طريقه ما ذكرته لك من التوبة والصبر وسؤال الفرج.
وتذكر ذنوباً كانت هذه عقوبتها.
وبالغ، فإن وقع فرج فشيء كأنه ليس في الحساب، وإلا فاستعمال الصبر على
القضاء عبادة.
وتكلف إظهار المودة لها وإن لم تكن في قلبك تثبت على هذا.
وليس القيد ذنباً فيلام، إنما ينبغي التشاغل مع من قيدك به والسلام.
فصل بين النفس والناس
لا ريب أن القلب المؤمن بالإله سبحانه وبأوامره يحتاج إلى
الانعكاف على ذكره وطاعته وامتثال أوامره، وهذا يفتقر إلى جمع الهم.
وكفى بما وضع في الطبع من المنازعة إلى الشهوات مشتتاً للهم المجتمع.
فينبغي للإنسان أن يجتهد في جمع همه لينفرد قلبه بذكر الله سبحانه وتعالى
وإنفاذ أوامره والتهيؤ للقائه.
وذلك إنما يحصل بقطع القواطع، والامتناع عن الشواغل.
وما يمكن قطع القواطع جملة، فينبغي أن يقطع ما يمكن منها.
وما رأيت مشتتاً للهم مبدداً للقلب مثل شيئين: أحدهما: أن تطاع النفس في
طلب كل شيء تشتهيه وذلك لا يوقف على حد فيه، فيذهب الدين والدنيا ولا ينال
كل المراد.
مثل أن تكون الهمة في المستحسنات أو في جمع المال أو في طلب الرياسة، وما
يشبه هذه الأشياء.
فيا له من شتات لا جامع له، يذهب العمر ولا ينال بعض المراد منه.
والثاني: مخالطة الناس خصوصاً العوام والمشي في الأسواق، فإن الطبع يتقاضى
بالشهوات وينسى الرحيل عن الدنيا، ويحب الكسل عن الطاعة والبطالة والغفلة
والراحة.
فيثقل على من ألف مخالطة الناس التشاغل بالعلم أو بالعبادة.
ولا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة وتضيع الساعات في غير شيء.
فمن أراد اجتماع همه فعليه بالعزلة بحيث لا يسمع صوت أحد، فحينئذ يخلو
القلب بمعارفه، ولا تجد النفس رفيقاً مثل الهوى يذكرها ما تشتهي.
فإذا اضطر إلى المخالطة كان على وفاق كما تتهوى للضفدع لحظة ثم تعود إلى
الماء، فهذه طريق السلامة.
فتأمل فوائدها تطب لك.
ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها.
وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكأنهم قد قطعوا على ذلك.
وهذا أمر غائب، ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها.
ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح: أن الناس يأتون إلى آدم عليه
السلام فيقول: اشفع لنا فيقول: ذنبي. وإلى نوح عليه السلام فيقول: ذنبي،
وإلى إبراهيم، وإلى موسى، وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم.
فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقية.
ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا وهم بعد على خوف منها.
ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع وما أحسن ما قال الفضيل بن عياض
رحمه الله: واسوأتاه منك وإن عفوت. فأف والله لمختار الذنوب ومؤثر لذة
لحظة تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن وإن غفر له.
فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً.
وهذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد، لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب
بالتوبة الصادقة.
وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل.
نعوذ بالله من سوء الفهم وخصوصاً من المتسمين بالعلم.
روى أحمد في مسنده أنه تنازع أبو عبد الرحمن السلمي وحيان بن عبد الله،
فقال أبو عبد الرحمن لحيان: قد علمت ما الذي حدا صاحبك، يعني علياً، قال
ما هو قال قول النبي صلى الله عليه وسلم: لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وهذا سوء فهم من أبي عبد الرحمن حين ظن أن علياً قاتل وقتل اعتماداً على
أنه قد غفر له.
وينبغي أن يعلم أن معنى الحديث: لتكن أعمالكم المتقدمة ما كانت فقد غفرت
لكم.
فأما غفران ما سيأتي فلا يتضمنه ذلك، أتراه لو وقع من أهل بدر وحاشاهم
الشرك - إذ ليسوا بمعصومين - أما كانوا يؤاخذون به ؟ فكذلك المعاصي.
ثم لو قلنا: إنه يتضمن غفران ما سيأتي، فالمعنى أن مآلكم إلى الغفران.
ثم دعنا من معنى الحديث، كيف يحل لمسلم أن يظن في أمير المؤمنين علي رضي
الله عنه أنه فعل ما لا يجوز اعتماداً على أنه سيغفر له ؟ حوشي من هذا.
وإنما قاتل بالدليل المضطر له إلى القتال، فكان على الحق.
ولا يختلف العلماء أن علياً رضي الله عنه لم يقاتل أحداً إلا والحق مع علي.
كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أدر معه الحق كيفما دار.
فقد غلط أبو عبد الرحمن غلطاً قبيحاً، حمله عليه أنه كان عثمانياً...
تأملت على متزهدي زماننا أشياء تدل على النفاق والرياء وهم يدعون الإخلاص.
منها أنهم يلزمون زاوية فلا يزورون صديقاً، ولا يعودون مريضاً، ويدعون
أنهم يريدون الانقطاع عن الناس اشتغالاً بالعبادة.
وإنما هي إقامة نواميس ليشار إليهم بالانقطاع، إذ لو مشوا بين الناس زالت
هيبتهم.
وما كان الناس كذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشتري
الحاجة من السوق، وأبو بكر رضي الله عنه يتجر في البز. وأبو عبيدة بن
الجراح يحفر القبور، وأبو طلحة أيضاً، وابن سيرين يغسل الموتى، وما كان
عند القوم إقامة ناموس.
وأصحابنا يلزمون الصمت بين الناس والتخشع والتماوت، وهذا هو النفاق.
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، وبين الناس، ويبكي بالليل.
وقد رأيت من المتزهدين من يلزم المسجد ويصلي فيجتمع الناس فيصلون بصلاته
ليلاً ونهاراً، وقد شاع هذا له فتقوى نفسه عليه بحب المحمدة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاة التطوع: " اجعلوا هذه في البيوت " .
وفي أصحابنا من يظهر الصوم الدائم، ويتقوت بقول الناس: " فلان ما يفطر
أصلاً " .
وهذا الأبله ما يدري أنه لأجل الناس يفعل ذلك، لولا هذا كان يفطر
والناس يرونه يومين أو ثلاثة حتى يذهب عنه ذلك الاسم ثم يعود إلى الصوم.
وقد كان إبراهيم بن أدهم إذا مرض يترك عنده من الطعام ما يأكله الأصحاء.
ورأيت في زهادنا من يصلي الفجر يوم الجمعة بالناس ويقرأ المعوذتين والمعنى
قد ختمت !!!.
فإن هذه الأعمال هي صريحة في النفاق والرياء.
وفيهم من يأخذ الصدقات وهو غني، ولا يبالي أخذ من الظلمة أو من أهل الخير،
ويمشي إلى الأمراء يسألهم، وهو يدري من أين حصلت أموالهم.
فالله الله في إصلاح النيات فإن جمهور هذه الأعمال مردود.
قال مالك بن دينار: وقولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى.
وليعلم المرائي أن الذي يقصده يفوته، وهو التفات القلوب إليه.
فإنه متى لم يخلص حرم محبة القلوب، ولم يلتفت إليه أحد، والمخلص محبوب.
فلو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه، لما فعل.
وكم رأينا من يلبس الصوف ويظهر النسك لا يلتفت إليه، وآخر يلبس جيد الثياب
ويبتسم والقلوب تحبه.
نسأل الله عز وجل إخلاصاً يخلصنا، ونستعيذ به من رياء يبطل أعمالنا إنه
قادر.
فصل لا استقرار في الدنيا
من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف فإنه موضوع على عكس الأغراض.
فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض. فإن دعا وسأل بلوغ غرض تعبد الله
بالدعاء.
فإن أعطى مراده شكر، وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح في الطلب، لأن
الدنيا ليست لبلوغ الأغراض، وليقل لنفسه: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير
لكم " .
من أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه، وربما اعترض في الباطن،
أو ربما قال: حصول غرضي لا يضر، ودعائي لم يستجب.
وهذا كله دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة.
ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر. هذا آدم طاب عيشه في الجنة وأخرج منها.
ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده، والخليل ابتلى بالنار، وإسماعيل بالذبح،
ويعقوب بفقد الولد. ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان
بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا.
وأما ما لقي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش
فمعلوم.
فالدنيا وضعت للبلاء فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن
ما حصل من المراد فلطف، وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا كما
قيل:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
وها هنا تتبين قوة الإيمان وضعفه فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض
التسليم للمالك، والتحكيم لحكمته.
وليقل قد قيل لسيد الكل " ليس لك من الأمر شيء " .
ثم ليسل نفسه بأن المنع ليس عن بخل، وإنما هو لمصلحة لا يعلمها، وليؤجر
الصابر عن أغراضه، وليعلم الله الذين سلموا ورضوا.
ثم إن زمن الابتلاء مقدار يسير، والأغراض مدخرة تلقى بعد قليل، وكأنه
بالظلمة قد انجلت، وبفجر الأجر قد طلع.
ومتى ارتقى فهمه إلى أن ما جرى مراد الحق سبحانه، اقتضى إيمانه أن يريد ما
يريد، ويرضى بما يقدر، إذ لو لم يكن كذلك كان خارجاً عن حقيقة العبودية في
المعنى.
وهذا أصل ينبغي أن يتأمل ويعمل عليه في كل غرض انعكس.
رأيت خلقاً من العلماء والقصاص تضيق عليهم الدنيا فيفزعون إلى مخالطة
السلاطين لينالوا من أموالهم، وهم يعلمون أن السلاطين لا يكادون يأخذون
الدنيا من وجهها، ولا يخرجونها في حقها.
فإن أكثرهم إذا حصل له خراج ينبغي أن يصرف إلى المصالح وهبه لشاعر.
وربما كان معه جندي يصلح أن تكون مشاهرته عشرة دنانير فأعطاه عشرة آلاف.
وربما غزا فأخذ ما ينبغي أن يقسم على الجيش فاصطفاه لنفسه.
هذا غير ما يجري من الظلم في المعاملات.
وأول ما يجري على ذاك العالم أنه قد حرم النفع بعلمه، وقد رأى بعض
الصالحين رجلاً عالماً يخرج من دار يحيى بن خالد البرمكي فقال: أعوذ بالله
من علم لا ينفع.
كيف ؟ ألم تر المنكرات ولا تنكر، وتتناول من طعامهم الذي لا يكاد
يحصل إلا بظلم فينطمس قلبك وتحرم لذة المعاملة للحق سبحانه، ثم لا يقدر لك
أن يهتدي بك أحد. بل ربما كان فعل هذا سبباً لإضلال الناس وصرفهم عن
الاقتداء به، فهو يؤذي نفسه ويؤذي أميره، لأنه يقول: لولا أنني على صواب
ما صحبني ولأنكر علي.
ويؤذي العوام تارة بأن يروا أن ما فيه الأمير صواب، وتارة بأن الدخول عليه
والسكوت عن الإنكار جائز.
أو يحبب إليهم الدنيا، ولا خير والله في سعة من الدنيا ضيقت طريق الآخرة.
وأنا أفتدي أقواماً صابروا عطش الدنيا في هجير الشهوات زمان العمر حتى
رووا يوم الموت من شراب الرضى، وبقيت أذكارهم تروي فتروى صدأ القلوب وتجلو
صداها.
هذا الإمام أحمد يحتاج فيخرج إلى اللقاط ولا يقبل مال سلطان.
هذا إبراهيم الحربي يتغذى بالبقل ويرد على المعتصم ألف دينار.
هذا بشر الحافي يشكو الجوع فيقال له يصنع لك حساء من دقيق فيقول: أخاف أن
يقول الله لي هذا الدقيق من أين لك ؟.
بقيت والله أذكار القوم، وما كان الصبر إلا غفوة يوم.
ومضت لذات المترخصين وبليت الأبدان، ووهن الدين.
فالصبر الصبر يا من وفق، ولا تغبطن من اتسع له أمر الدنيا.
فإنك إذا تأملت تلك السعة رأيتها ضيقاً في باب الدين.
ولا ترخص لنفسك في تأويل، فعمرك في الدنيا قليل:
وسواء إذا انقضى يوم كسرى ... في سرور ويوم صابر كسره
ومتى ضجت النفس لقلة صبر فاتل عليها أخبار الزهاد، فإنها ترعوي وتستحي
وتنكسر إن كانت لها همة أو فيها يقظة.
ومثل لها بين ترخص علي بن المديني وقبوله مال ابن أبي داود، وصبر أحمد.
وكم بين الرجلين والذكرين.
وانظر ما يروى عن كل واحد منهما وما يذكران به.
وسيندم ابن المديني إذا قال أحمد: سلم لي ديني.
فصل الكسب الحرام
تأملت أحوال الناس فرأيت جمهورهم منسلاً من ربقة العبودية.
فإن تعبدوا فعادة أو فيما لا ينافي أغراضهم منافاة تؤذي القلوب.
فأكثر السلاطين يحصلون الأموال من وجوه ردية وينفقونها في وجوه لا تصلح.
وكأنهم قد تملكوها، وليست مال الله الذي إذا غزا أحدهم - باسمه - فغنم
الأموال اصطفاها لنفسه، وأعطاها أصحابه كيف اشتهى.
والعلماء لقوة فقرهم وشدة شرههم، يوافقون الأمراء وينخرطون في سلكهم.
والتجار على العقود الفاسدة، والعوام في المعاصي والإهمال لجانب الشريعة.
فإن فات بعض أغراضهم فربما قالوا ما نريد نصلي، لا صلى الله عليهم.
وقد منعوا الزكاة وتركوا الأمر بالمعروف.
فمن الناس من يغره تأخير العقوبة، ومنهم من كان يقطع بالعفو وأكثرهم
متزلزل الإيمان، فنسأل الله أن يميتنا مسلمين.
من العجيب سلامة دين ذي العيال إذا ضاق به الكسب، فما مثله إلا كمثل الماء
إذا ضرب في وجهه سكر، فإنه يعمل باطناً ويبالغ حتى يفتح فتحة.
فكذلك صاحب العيال إذا ضاق به الأمر لا يزال يحتال، فإذا لم يقدر على
الحلال ترخص في تناول الشبهات، فإن ضعف دينه مد يده إلى الحرام.
فالمؤمن إذا علم ضعفه عن الكسب اجتهد في التعفف عن النكاح، وتقليل النفقة
إذا حصل الأولاد، والقناعة باليسير.
فأما من ليس له كسب كالعلماء والمتزهدين، فسلامتهم ظريفة، إذ قد انقطعت
موارد السلاطين عنهم ومراعاة العوام لهم، فإذا كثرت عائلتهم لم يؤمن عليهم
شر ما يجري على الجهال.
فمن قدر منهم على كسب بالنسخ وغيره فليجتهد فيه مع تقليل النفقة والقناعة
باليسير.
فإنه من ترخص منهم اليوم أكل الحرام، لأنه يأخذ من الظلمة خصوصاً بحجة
التنمس والتزهد.
ومن كان له منهم مال فليجتهد في تنميته وحفظه، فما بقي من يؤثر ولا من
يقرض.
وقد صار الجمهور بل الكل كأنهم يعبدون المال، فمن حفظه حفظ دينه.
ولا يلتفت إلى قول الجهلة الذين يأمرون بإخراج المال، فما هذا وقته.
واعلم أنه إذا لم يجتمع الهم، لم يحصل العلم ولا العمل ولا التشاغل بالفكر
في عظمة الله.
وقد كان هم القدماء يجتمع بأشياء جمهورها أنه كان لهم من بيت المال نصيب
في كل عام.
وكان يصلهم فيفضل عنهم.
وفيهم من كان له مال يتجر به كسعيد بن المسيب وسفيان وابن المبارك وكان
همه مجتمعاً، وقد قال سفيان في ماله: لولاك لتمندلوا بي !!.
وفقدت بضاعة لابن المبارك فبكى وقال: هو قوام ديني.
وكان جماعة يسكنون إلى عطاء الإخوان الذين لا يمنون.
وكان ابن المبارك يبعت إلى الفضل وغيره، وكان الليث بن سعد يتفقد الأكابر،
فبعث إلى مالك ألف دينار، وإلى ابن لهيعة ألف دينار، وأعطى منصور ابن عمار
ألف دينار وجارية بثلاثمائة دينار.
وما زال الزمان على هذا إلى أن آل الأمر إلى انمحاق ذلك، فقلت عطايا
السلاطين، وقل من يؤثر من الإخوان.
إلا أنه كان في ذلك القليل ما يدفع عض الزمان.
فأما زماننا هذا، فقد انقبضت الأيدي كلها، حتى قل من يخرج الزكاة الواجبة،
فكيف يجتمع هم من يريد من العلماء والزهاد أن يعمل همه ليلاً ونهاراً في
وجوه الكسب وليس من شأنه هذا ولا يهتدي له.
فقد رأينا الأمر أحوج إلى التعرض للسلاطين والترخص في أخذ ما لا يصلح،
وأحوج المتزهدين إلى التصنع لتحصيل الدنيا.
فالله الله يا من يريد حفظ دينه، قد كررت عليك الوصية بتقليل جهدك، وخفف
العلائق مهما أمكنك، واحتفظ بدرهم يكون معك فإنه دينك، وافهم ما قد شرحته،
فإن ضجت النفس لمراداتها فقل لها: إن كان عندك إيمان فاصبري، وإن أردت
التحصيل لما يفنى ببذل الدين فما ينفعك.
فتفكري في العلماء الذين جمعوا المال من غير وجهه وفي المنمسين ذهب دينهم،
وزالت دنياهم.
وتفكري في العلماء الصادقين كأحمد وبشر، اندفعت الأيام وبقي لهم حسن الذكر.
وفي الجملة " من يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " .
فصل العبادة على أمل
شكا لي رجل من بغضه لزوجته ثم قال: ما أقدر على فراقها لأمور، منها كثرة
دينها علي وصبري قليل، ولا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى، وفي كلمات
تعلم بغضي لها.
فقلت له: هذا لا ينفع وإنما تؤتى البيوت من أبوابها ! فينبغي أن تخلو
بنفسك فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك فتبالغ في الاعتذار والتوبة.
فأما التضجر والأذى لها فما ينفع كما قال الحسن بن الحجاج: عقوبة من الله
لكم فلا تقابلوا عقوبته بالسيف وقابلوها بالاستغفار.
واعلم أنك في مقام مبتلي ولك أجر بالصبر " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير
لكم " فعامل الله سبحانه بالصبر على ما قضى واسأله الفرج.
فإذا جمعت بين الاستغفار وبين التوبة من الذنوب والصبر على القضاء وسؤال
الفرج، حصلت ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها.
ولا تضيع الزمان بشيء لا ينفع، ولا تحتل ظاناً منك أنك تدفع ما قدر: " وإن
يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إِلاَّ هو " .
وقد روينا أن جندياً نزل يوماً في دار أبي يزيد، فجاء أبو يزيد فرآه فوقف
وقال لبعض أصحابه: أدخل إلى المكان الفلاني فاقلع الطين الطري فإنه من وجه
فيه شبهة فقلعه، فخرج الجندي.
وأما أذاك للمرأة فلا وجه له لأنها مسلطة فليكن شغلك بغير هذا.
وقد روي عن بعض السلف أن رجلاً شتمه فوضع خده على الأرض وقال اللهم اغفر
لي الذنب الذي سلطت هذا به علي.
قال الرجل: وهذه المرأة تحبني زائداً في الحد، وتبالغ في خدمتي، غير أن
البغض لها مركوز في طبعي.
قلت له: فعامل الله سبحانه بالصبر عليها فإنك تثاب.
وقد قيل لأبي عثمان النيسابوري: ما أرجى عملك عندك.
قال: كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فآبي.
فجاءتني امرأة، فقالت: يا أبا عثمان، إني قد هويتك، وأنا أسألك بالله أن
تتزوجني.
فأحضرت أباها - وكان فقيراً - فزوجني منها وفرح بذلك.
فلما دخلت إلي رأيتها عوراء عرجاء مشوهة.
وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج، فأقعد حفظاً لقلبها، ولا أظهر لها من
البغض شيئاً وكأني على جمر الغضا من بغضها.
فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت، فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي
قلبها.
قلت له: فهذا عمل الرجال، وأي شيء ينفع ضجيج المبتلى بالتضجر وإظهار البغض.
وإنما طريقه ما ذكرته لك من التوبة والصبر وسؤال الفرج.
وتذكر ذنوباً كانت هذه عقوبتها.
وبالغ، فإن وقع فرج فشيء كأنه ليس في الحساب، وإلا فاستعمال الصبر على
القضاء عبادة.
وتكلف إظهار المودة لها وإن لم تكن في قلبك تثبت على هذا.
وليس القيد ذنباً فيلام، إنما ينبغي التشاغل مع من قيدك به والسلام.
لا ريب أن القلب المؤمن بالإله سبحانه وبأوامره يحتاج إلى
الانعكاف على ذكره وطاعته وامتثال أوامره، وهذا يفتقر إلى جمع الهم.
وكفى بما وضع في الطبع من المنازعة إلى الشهوات مشتتاً للهم المجتمع.
فينبغي للإنسان أن يجتهد في جمع همه لينفرد قلبه بذكر الله سبحانه وتعالى
وإنفاذ أوامره والتهيؤ للقائه.
وذلك إنما يحصل بقطع القواطع، والامتناع عن الشواغل.
وما يمكن قطع القواطع جملة، فينبغي أن يقطع ما يمكن منها.
وما رأيت مشتتاً للهم مبدداً للقلب مثل شيئين: أحدهما: أن تطاع النفس في
طلب كل شيء تشتهيه وذلك لا يوقف على حد فيه، فيذهب الدين والدنيا ولا ينال
كل المراد.
مثل أن تكون الهمة في المستحسنات أو في جمع المال أو في طلب الرياسة، وما
يشبه هذه الأشياء.
فيا له من شتات لا جامع له، يذهب العمر ولا ينال بعض المراد منه.
والثاني: مخالطة الناس خصوصاً العوام والمشي في الأسواق، فإن الطبع يتقاضى
بالشهوات وينسى الرحيل عن الدنيا، ويحب الكسل عن الطاعة والبطالة والغفلة
والراحة.
فيثقل على من ألف مخالطة الناس التشاغل بالعلم أو بالعبادة.
ولا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة وتضيع الساعات في غير شيء.
فمن أراد اجتماع همه فعليه بالعزلة بحيث لا يسمع صوت أحد، فحينئذ يخلو
القلب بمعارفه، ولا تجد النفس رفيقاً مثل الهوى يذكرها ما تشتهي.
فإذا اضطر إلى المخالطة كان على وفاق كما تتهوى للضفدع لحظة ثم تعود إلى
الماء، فهذه طريق السلامة.
فتأمل فوائدها تطب لك.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل الكفر بسبب الدهر
ما رأت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان وعيبهم للدهر.
وقد كان هذا في الجاهلية، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
فقال: " لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر " .
ومعناه أنتم تسبون من فرق شملكم وأمات أهاليكم، وتنسبونه إلى الدهر، والله
تعالى هو الفاعل لذلك.
فتعجبت كيف علم أهل الأسقام بهذه الحال، وهم على ما كان أهل الجاهلية عليه
ما يتغيرون حتى ربما اجتمع الفطناء الأدباء الظراف على زعمهم فلم يكن لهم
شغل إلا ذم الدهر.
وربما جعلوا الله الدنيا، ويقولون: فعلت وصنعت وحتى رأيت لأبي القاسم
الحريري يقول:
ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصده
تعاميت حتى قيل إني أخو عمي ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده
وقد رأيت خلقاً يعتقدون أنهم فقهاء وفهماء ولا يتحاشون من هذا.
وهؤلاء إن أرادوا بالدهر مرور الزمان، فذاك لا اختيار له ولا مراد ولا
يعرف رشداً من ضلال، ولا ينبغي أن يلام.
فإنه زمان مدبر لا مدبر، فيتصرف فيه ولا يتصرف بأحد.
وما يظن بعاقل أن يشير إلى أن هذا المذموم المعرض عن الرشد السيء الحكم هو
الزمان.
فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة الإسلام، ونسبوا هذه القبائح إلى
الصانع، فاعتقدوا فيه قصور الحكمة وفعل ما لا يصح، كما اعتقده إبليس في
تفضيل آدم.
وهؤلاء لا ينفعهم مع هذا الزيغ اعتقاد إسلام، ولا فعل صلاة.
بل هم شر من الكفار، لا أصلح الله لهم شأناً ولا هداهم إلى رشاد.
فصل كنز الوقت
من عجائب ما أرى من نفسي ومن الخلق كلهم الميل إلى الغفلة عما في أيدينا
مع العلم بقصر العمر، وأنا زيادة الثواب هناك بقدر العمل ههنا.
فيا قصير العمر اغتنم يومي مني، وانتظر ساعة النفر، وإياك أن تشغل قلبك
بغير ما خلق له.
واحمل نفسك على المبر واقمعها إذا أبت، ولا تسرح لها في الطول، فما أنت
إلا في مرعى.
وقبيح بمن كان بين الصفين أن يتشاغل بغير ما هو فيه.
فصل الاحتراس
قد قررت هذا المعنى في هذا الكتاب، وهو الأمر بحفظ السر، والحذر من
الانبساط فيما لا يصلح بين يدي الناس.
فرب منبسط - بين يدي من يظنه صديق - يقول في صديق أو في سلطان يحسب أنه لا
يهتم في ذلك، فيكون سبب هلاكه ذاك.
فأوصى السليم الصدر الذي يظن في الناس الخير أن يحترز من الناس، وأن لا
يقول في الخلق كلمة لا تصلح للخلق.
ولا يغتر بمن يظهر الصداقة أو التدين فقد عم الخبث.
فصل التفكر والنظر
تأملت على أكثر الناس عباداتهم فإذا هي عادات.
فأما أرباب اليقظة فعاداتهم عبادة حقيقية.
فإن الغافل يقول سبحان الله عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في
عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك فيقول: سبحان
الله.
ولو أن إنسان تفكر في رمانة، فنظر في تصفيف حبها وحفظه بالأغشية لئلا
يتضاءل، وإقامة الماء على عظم العجم، وجعل الغشاء عليه يحفظه، وتصوير
الفرخ في بطن البيضة، والآدمي في حشا الأم، إلى غير ذلك من المخلوقات،
أزعجه هذا الفكر إلى تعظيم الخالق، فقال: سبحان الله، وكان هذا التسبيح
ثمرة الفكر؛ فهذا تسبيح المتيقظين.
وما تزال أفكارهم تجول فتقع عباداتهم بالتسبيحات محققة، وكذلك يتفكرون في
قبائح ذنوب قد تقدمت فيوجب ذلك الفكر وقلق القلب وندم النفس، فيثمر ذلك أن
يقول قائلهم: أستغفر الله.
فهذا هو التسبيخ والاستغفار.
فأما الغافلون فيقولون ذلك عادة وشتان ما بين الفريقين.
فصل العزلة دواء
لا يصفو التعبد والتزهد والاشتغال بالآخرة إلا بالانقطاع الكلي عن الخلق،
بحيث لا يبصرهم ولا يسمع كلامهم إلا في وقت ضرورة كصلاة جمعة أو جماعة،
ويحترز في تلك الساعات منهم.
وإن كان عالماً يريد نفعهم وعدهم وقتاً معروفاً واحترز في الكلام معهم.
وأما من يمشي في الأسواق اليوم ويبيع ويشتري مع هذا العالم المظلم، ويرى
المنكرات والمستهجنات فما يعود إلى البيت إلا وقد أظلم القلب.
فلا ينبغي للمريد أن يكون خروجه إلا إلى الصحراء والمقابر.
وقد كان جماعة من السلف يبيعون ويشترون ويحترزون، ومع هذا ما صفا لصافيهم
وقت حتى قاطع الخلق.
قال أبو الدرداء: زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا فاخترت العبادة.
وقد جاء في الحديث: الأسواق تلهي وتلغي.
فمن قدر على الحمية النافعة واضطر إلى المخالطة والكسب للعائلة، فليحترز
احتراز الماشي في الشوك، وبعيد سلامته.
فصل المحافظة على صفاء القلب
من رزق قلباً طيباً، ولذة مناجاة، فليراع حاله وليحترز من التغيير.
وإنما تدوم له حاله بدوام التقوى.
وكنت قد رزقت قلباً طيباً ومناجاة حلوة فأحضر بعض أرباب المناصب إلى
طعامه، فما أمكن خلافه. فتناولت وأكلت منه فلقيت الشدائد، ورأيت العقوبة
في الحال، واستمرت مدة، وغضبت على قلبي، وفقدت كل ما كنت أجده.
فقلت: واعجباً لقد كنت في هذا كالمكره، فتفكرت وإذا به قد يمكن مداراة
الأمر بلقيمات يسيرة، ولكن التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما
يدفع بالمداراة.
فقالت النفس: ومن أين لي أن عين هذا الطعام حرام ؟.
فقالت اليقظة: وأين الورع عن الشبهات ؟.
فلما تناولت بالتأويل لقمة واستحليتها بالطبع لقيت الأمرين بفقد القلب
فاعتبروا يا أولي الأبصار.
فصل اليقظة للآخرة والتدبر
همة المؤمن متعلقة بالآخرة فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من
شغله شيء فهمته شغله.
ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيت البزاز ينظر إلى
الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبناء إلى الحيطان، والحائك إلى
النسيج المخيط.
والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع
صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور،
وإن رأى لذة ذكر الجنة، فهمته متعلقة بما ثم، وذلك يشغله عن كل ما تم.
وأعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة، وأن بقاءه لا ينقطع ولا
يزول، ولا يعتريه منغص، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلباً في تلك اللذات
الدائمة التي لا تفنى يطيش فرحاً ويسهل عليه ما في الطريق إليها من ألم
ومرض وابتلاء وفقد محبوب وهجوم الموت ومعالجة غصصه.
فإن المشتاق إلى الكعبة يهون عليه رمل زرود، والتائق إلى العافية لا يبالي
بمرارة الدواء.
ويعلم أن جودة الثمر ثم على مقدار جودة البذر ههنا فهو يتخير الأجود،
ويغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتور.
ثم يتخايل المؤمن دخول النار والعقوبة فيتنغص عيشه ويقوى قلقه، فعنده
بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء العشوق تارة وفي
صحراء الخوف أخرى، فما يرى البنيان.
فإذا نازله الموت قوي ظنه بالسلامة، ورجا لنفسه النجاة فيهون عليه.
فإذا نزل إلى القبر وجاءه من يسألونه، قال بعضهم لبعض: دعوه فما
استراح إلا الساعة. نسأل الله عز وجل يقظة تامة تحركنا إلى طلب الفضائل،
وتمنعنا من اختيار الرذائل، فإنه إن وفق، وإلا فلا نافع.
فصل مظاهر الاصطفاء
لقد اعتبرت على مولاي سبحانه وتعالى أمراً عجيباً وهو أنه تعالى لا يختار
لمحبته والقرب منه إلا الكامل صورة ومعنى.
ولست أعني حسن التخاطيط وإنما كمال الصورة اعتدالها، والمعتدلة ما تخلو من
حسن، فيتبعها حسن الصورة الباطنة، وهو كمال الأخلاق، وزوال الأكدار، ولا
يرى في باطنه خبثاً ولا كدراً، بل قد حسن باطنه كما حسن ظاهره.
وقد كان موسى عليه السلام كل من رآه يحبه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم
كالقمر ليلة البدر.
وقد يكون الولي أسود اللون، لكنه حسن الصورة لطيف المعاني.
فعلى قدر ما عند الإنسان من التمام في كمال الخلق والخلق، يكون عمله،
ويكون تقريبه إلى الحضرة بحسب ذلك.
فمنهم كالخادم على الباب، ومنهم حاجب، ومنهم مقرب، ويندر من يتم له
الكمال. ولعله لا يوجد في مائة سنة منهم غير واحد.
وهذه حكاية ما تحصل بالاجتهاد بل الاجتهاد يحصل منها. لأنه إذا وقع تماماً
حث على الجد على قدر نقصائه.
وهذا لا حيلة في أصله، إنما هو جبلة، وإذا أرادك لأمر هيأك له.
فصل الحكمة الإلهية وجهل العقول
تأملت على قوم يدعون العقول ويعترضون على حكمة الخالق.
فينبغي أن يقال لهم: هذا الفهم الذي دلكم على رد حكمته أليس هو من منحه ؟.
أفأعطاكم الكمال ورضي لنفسه بالنقص ! هذا هو الكفر المحض الذي يزيد في
القبح على الجحد.
فأول القوم إبليس، فإنه رأى بعقله أن جوهر النار أشرف من جوهر الطين فرد
حكمة الخالق.
ومر على هذا خلق كثير من المعترضين، مثل ابن الراوندي والبقري وهذا المعري
اللعين يقول: كيف يعاب الحجاج بالسخف والدهر أقبح فعلاً منه.
أترى يعني به الزمان ! كلا. فإن ممر الأوقات لا يفعل شيئاً وإنما هو تعريض
بالله جل شأنه. وكان يستعجل الموت ظناً منه أنه يستريح.
وكان يوصي بترك النكاح والنسك، ولا يرى في الإيجاد حكمة إلا العناء والتعب
ومصير الأبدان إلى البلى.
وهذا لو كان ظن كان الإيجاد عبثاً، والحق منزه عن العبث.
قال تعالى: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً " .
فإذا كان ما خلق لنا لم يخلق عبثاً. أفنكون نحن ونحن مواطن معرفته ومجال
تكليفه قد وجدنا عبثاً ؟.
ومثل هذا الجهل إنما يصدر ممن ينظر في قضايا العقول التي يحكم بها على
الظواهر، مثل أن يرى مبنياً ينقض.
والعقل بمجرده لا يرى دلك حكمة ولو كشفت له حكمة ذلك العلم أنه صواب.
كما كشف لموسى مراد الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام.
ومعلوم أن ذبح الحيوان، وتقطيع الرغيف، ومضغ الطعام لا يظهر له فائدة على
الإطلاق.
فإذا علم أنه غذاء لبدن من هو أشرف بدناً من المذبوح حسن ذلك الفعل.
واعجباً أو ما تقضي العقول بوجوب طاعة الحكيم الذي تعجز عن معرفة حكمة
مخلوقاته.
فكيف تعارضه في أفعاله ؟ نعوذ بالله من الخذلان.
فصل وعظ السلاطين
ينبغي لمن وعظ سلطاناً أن يبالغ في التلطف ولا يواجهه بما يقتضي أنه ظالم.
فإن السلاطين حظهم التفرد بالقهر والغلبة فإذا جرى نوع توبيخ لهم كان
إذلالاً وهم لا يحتملون ذلك.
وإنما ينبغي أن يمزج وعظه بذكر شرف الولاية، وحصول الثواب في رعاية
الرعايا، وذكر سير العادلين من أسلافهم.
ثم لينظر الواعظ في حال الموعوظ قبل وعظه.
فإن رأى سيرته حميدة كما كان منصور بن عمار وغيره يعظون الرشيد وهو يبكي.
وقصده الخير زاد في وعظه ووصيته.
وإن رآه ظالماً لا يلتفت إلى الخير، وقد غلب عليه الجهل، اجتهد في أن لا
يراه ولا يعظه.
لأنه إن وعظه خاطر بنفسه، وإن مدحه كان مداهناً.
فإن اضطر إلى موعظته كانت كالإشارة، وقد كان أقوام من السلاطين يلينون عند
الموعظة ويحتملون الواعظين.
حتى أنه قد كان المنصور يواجه بأنك ظالم فيصبر.
وقد تغير الزمان، وفسد أكثر الولاة وداهنهم العلماء، ومن لا يداهن لا يجد
قبولاً للصواب فيسكت.
وقد كانت الولايات لا يسألها إلا من أحكمته العلوم، وثقفته التجارب، فصار
أكثر الولاة يتساوون في الجهل فتأتي الولاية على من ليس من أهلها.
ومثل هؤلاء ينبغي الحذر منهم والبعد عنهم
فمن ابتلى بوعظهم فليكن على غاية التحرز فيما يقول ولا ينبغي أن
يغتر بقولهم عظنا فإنه لو قال كلمة لا توافق أغراضهم ثارت حراراتهم.
وليحذر مذكر السلطان أن يعرض له بأرباب الولايات فإنهم إذا سمعوا بذلك صار
الواعظ مقصوداً لهم بالإهلاك خوفاً من أن يعتبر السلطان أحوالهم فتفسد
أمورهم.
والبعد في هذا الزمان عنهم أصلح، والسكوت عن المواعظ لهم أسلم.
فمن اضطر تلطف غاية التلطف، وجعل وعظه للعوام وهم يسمعون ولا يعنيهم منه
بشيء والله الموفق.
فصل الأنبياء الكذبة، ورسالة الإسلام
الحق لا يشتبه بباطل إنما يموه الباطل عند من لا فهم له.
وهذا في حق من يدعي النبوات، وفي حق من يدعي الكرامات.
أما النبوات فإنه قد ادعاها خلق كثير ظهرت قبائحهم، وبانت فضائحهم، ومنها
ما أوجبته خسة الهمة والتهتك في الشهوات، والتهافت في الأقوال والأفعال،
حتى افتضحوا.
فمنهم الأسود العنسي، ادعى النبوة ولقب نفسه ذا الحمارة لأنه كان يقول
يأتيني ذو الحمار، وكان أول أمره كاهناً يشعوذ فيظهر الأعاجيب. فخرج في
أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فكاتبته مذ حج وواعدته نجران وأخرجوا
عمرو بن حزم وخالد بن سعيد صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفاً له
اليمن، وقاتل شهر بن باذان فقتله وتزوج ابنته فأعانت على قتله فهلك في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبان للعقلاء أنه كان يشعوذ.
ومنهم مسيلمة، ادعى النبوة وتسمى رحمان اليمامة لأنه كان يقول: الذي
يأتيني رحمان. فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وادعى أنه قد أشرك معه،
فالعجب أنه يؤمن برسول ويقول إنه كذاب، ثم جاء بقرآن يضحك الناس، مثل
قوله: يا ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين،
ومن العجائب شاة سوداء تحلب لبناً أبيض فانهتك ستره في الفصاحة.
ثم مسح بيده على رأس صبي فذهب شعره. وبصق في بئر فيبست.
وتزوج سجاح التي ادعت النبوة فقالوا: لا بد لها من مهر فقال: مهرها أني قد
أسقطت عنكم صلاة الفجر والعتمة.
وكانت سجاح هذه قد ادعت النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فاستجاب لها جماعة فقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم اعبروا على
الرباب، فليس دونهم حجاب، فقاتلوهم.
ثم قصدت اليمامة فهابها مسيلمة فراسلها وأهدى لها فحضرت عنده فقالت: اقرأ
علي ما يأتيك به جبريل.
فقال: إنكن معشر النساء خلقتن أفواجاً، وجعلتن لنا أزواجاً، نولجه فيكن
إيلاجاً فقالت: صدقت أنت نبي.
فقال لها: قومي إلى المخدع، فقد هيىء لك المضجع، فإن شئت مستلقاة وإن شئت
على أربع، وإن شئت بثلثيه وإن شئت به أجمع، فقالت: بل به اجمع فهو للشمل
أجمع.
فافتضحت عند العقلاء من أصحابها، فقال منهم عطارد بن حاجب:
أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
فعلنة اللّه رب الناس كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغوانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ومن رعيت حيثما كانا
ثم إنها رجعت عن غيها وأسلمت، وما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل.
ومنهم طليحة بن خويلد، خرج بعد دعوى مسيلمة النبوة وتبعه عوام ونزل
سميراً، فتسمى بذي النون، يقول: إن الذي يأتيه يقال له ذو النون.
وكان من كلامه: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم ولا قبح أدباركم شيئاً
فاذكروا الله أعفة قياماً..
ومن قرآنه: والحمام واليمام وللصرد الصوام ليبلغن ملكنا العراق والشام.
وتبعه عيينة بن حصين، فقاتله خالد بن الوليد فجاء عيينة إلى طليحة فقال:
ويحك أجاءك الملك. قال لا فارجع فقاتل فقاتل ثم عاد، فقال أجاءك فقال لا،
فعاد فقاتل ثم عاد فقال: أجاءك ؟ قال: نعم قال: ما قال لك ؟ قال: قال إن
لك جيشاً لا تنساه، فصاح عيينة: الرجل والله كذاب.
فانصرف الناس منهزمين وهرب طليحة إلى الشام، ثم أسلم وصح إسلامه وقتل
بنهاوند.
وذكر الواقدي: أن رجلاً من بني يربوع يقال له جندب بن كلثوم، كان يلقب
كرداناً ادعى النبوة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يزعم أن
دليله على نبوته أنه يسرج مسامير الحديد والطين. وهذا لأنه كان يطلي ذلك
بدهن البيلسان فتعمل فيه النار.
وقد تنبأ رجل يقال له كهمش الكلابي، وكان يزعم أن الله تعالى
أوحى إليه: يا أيها الجائع اشرب لبناً تشبع، ولا تضرب الذي لا ينفع، فإنه
ليس بمقنع.
وزعم أن دليله على نبوته أنه يطرح بين السباع الضارية فلا تأكله، وحيلته
في ذلك أنه يأخذ دهن الغار وحجر البرسان وقنفدا محرقاً وزبد البحر وصدفاً
محرقاً مسحوقاً وشيئاً من الصبر والحبط فيطلي به جسمه، فإذا قربت منه
السباع فشمت تلك الأرياح وزفورتها نفرت.
وتنبأ بالطائف رجل يقال له أبو جعوانة العامري، وزعم أن دليله أنه يطرح
النار في القطن فلا يحترق. وهذا لأنه يدهنه بدهن معروف.
ومنهم هذيل بن يعفور من بني سعد بن زهير، حكى عنه الأصمعي أنه عارض سورة
الإخلاص فقال: قل هو الله أحد إله كالأسد جالس على الرصد لا يفوته أحد.
ومنهم هذيل بن واسع كان يزعم أنه من ولد النابغة الذبياني، عارض سورة
الكوثر فقال له رجل ما قلت فقال: إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر،
فما يردنك إلا كل فاجر.
فظهر عليه السنوري فقتله وصلبه على العمود، فعبر عليه الرجل فقال: إنا
أعطيناك العمود، فصل لربك من قعود، بلا ركوع ولا سجو، فما أراك تعود.
وممن ظهر فادعى أنه يوحي إليه المختار بن أبي عبيد، وكان متخبطاً في
دعواه، وقتل خلقاً كثيراً وكان يزعم أنه ينصر الحسين رضوان الله عليه ثم
قتل.
ومنهم حنظلة بن يزيد الكوفي، كان يزعم أن دليله أنه يدخل البيضة في
القنينة ويخرجها منها صحيحة وذاك أنه كان ينقع البيضة في الخل الحامض
فيلين قشرها ثم يصب ماء في قنينة، ثم يدس البيضة فيها، فإذا لقيت الماء
صلبت.
وقد تنبأ أقوام قبل نبينا صلى الله عليه وسلم كزرادشت وماني. وافتضحوا.
وما من المدعين إلا من خذل.
وقد جاءت القرامطة بحيل عجيبة، وقد ذكرت جمهور هؤلاء وحيلهم في كتابي
التاريخ المسمى بالمنتظم، وما فيهم من يتم له أمر إلا ويفتضح.
ودليل صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أجلى من الشمس.
فإنه ظهر فقيراً والخلق أعداؤه فوعد بالملك فملك. وأخبر بما سيكون فكان
وصين من زمن النبوة عن الشره وخساسة الهمة والكذب والكبر.
وأيد بالثقة والأمانة والنزاهة والعفة، وظهرت معجزاته للبعيد والقريب.
وأنزل عليه الكتاب العزيز الذي حارت فيه عقول الفصحاء، ولم يقدروا على
الإتيان بآية تشبهه فضلاً عن سورة.
وقد قال قائلهم وافتضح، ثم أخبر أنه لا يعارض فيه كمال قال. وذلك قوله
تعالى: " فأتوا بسُورَةٍ " ثم قال: " فإِنْ لَمْ تَفْعَلوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا " . وكذلك قوله: " فَتَمَنَّوا المَوْتَ " ، " وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ.. " فما تمناه أحد.
إذ لو قال قائل قد تمنيته لبطلت دعواه.
وكان يقول ليلة غزاة بدر: غدا مصرع فلان ههنا فلا يتعداه.
وقال: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، لك
بعدهما من له كبير قدر، ولا من استتب له حال.
ومن أعظم دليل على صدقه أنه لم يرد الدنيا فكان يبيت جائعاً، ويؤثر إذا
وجد، ويلبس الصوف ويقوم الليل.
وإنما تطلب النواميس لاجتلاب الشهوات، فلما لم يردها دل على أنه يدل على
الآخرة التي هي حق.
ثم لم يزل دينه يعلو حتى عم الدنيا، وإن كان الكفر في زوايا الأرض، إلا
أنه مخذول.
وصار في تابعيه من أمته الفقهاء الذين لو سمع كلامهم الأنبياء القدماء
تحيروا في حسن استخراجهم، والزهاد الذين لو رآهم الرهبان تحيروا في صدق
زهدهم، والفطناء الذين لا نظير لهم في القدماء.
أوليس قوم موسى يعبدون بقرة، ويتوقفون في ذبح بقرة، ويعبرون البحر، ثم
يقولون: اجعل لنا إلهاً ؟.
وقوم عيسى يدخرون من المائدة وقد نهوا.
والمعتدون في السبت يعصون الله لأجل الحيتان.
وأمتنا بحمد الله تعالى سليمة من هذه الأشياء، وإنما في بعضها ميل إلى
الشهوات المنهي عنها؛ وذلك من الفروع لا من الأصول.
فإذا ذكروا وندموا على تفريطهم.
فنحمد الله على هذا الدين وعلى أننا من أمة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كان جماعة من المتصنعين بالزهد مالوا إلى طلب الدنيا والرياسة،
فاستغواهم الهوى فخرقوا بإظهار ما يشبه الكرامات كالحلاج وابن الشاش
وغيرهما ممن ذكرت حال تلبيسه في كتاب تلبيس إبليس.
وإنما فعلوا ذلك لاختلاف أغراضهم، ولم يزل الله ينشىء في هذا الدين من
الفقهاء من يظهر ما أخفاه القاصرون.
كما ينشىء من علماء الحديث من يهتك ما أشاعه الواضعون، حفظاًَ
لهذا الدين، ودفعاً للشبهات عنه.
فلا يزال الفقيه والمحدث يظهر أن عوار كل ملبس بوضع حديث أو بإظهار دعوى
تزهد وتنميس فلا يؤثر ما ادعياه إلا عند جاهل بعيد من العلم والعمل.
" لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الباطلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ " .
ما رأت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان وعيبهم للدهر.
وقد كان هذا في الجاهلية، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
فقال: " لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر " .
ومعناه أنتم تسبون من فرق شملكم وأمات أهاليكم، وتنسبونه إلى الدهر، والله
تعالى هو الفاعل لذلك.
فتعجبت كيف علم أهل الأسقام بهذه الحال، وهم على ما كان أهل الجاهلية عليه
ما يتغيرون حتى ربما اجتمع الفطناء الأدباء الظراف على زعمهم فلم يكن لهم
شغل إلا ذم الدهر.
وربما جعلوا الله الدنيا، ويقولون: فعلت وصنعت وحتى رأيت لأبي القاسم
الحريري يقول:
ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصده
تعاميت حتى قيل إني أخو عمي ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده
وقد رأيت خلقاً يعتقدون أنهم فقهاء وفهماء ولا يتحاشون من هذا.
وهؤلاء إن أرادوا بالدهر مرور الزمان، فذاك لا اختيار له ولا مراد ولا
يعرف رشداً من ضلال، ولا ينبغي أن يلام.
فإنه زمان مدبر لا مدبر، فيتصرف فيه ولا يتصرف بأحد.
وما يظن بعاقل أن يشير إلى أن هذا المذموم المعرض عن الرشد السيء الحكم هو
الزمان.
فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة الإسلام، ونسبوا هذه القبائح إلى
الصانع، فاعتقدوا فيه قصور الحكمة وفعل ما لا يصح، كما اعتقده إبليس في
تفضيل آدم.
وهؤلاء لا ينفعهم مع هذا الزيغ اعتقاد إسلام، ولا فعل صلاة.
بل هم شر من الكفار، لا أصلح الله لهم شأناً ولا هداهم إلى رشاد.
من عجائب ما أرى من نفسي ومن الخلق كلهم الميل إلى الغفلة عما في أيدينا
مع العلم بقصر العمر، وأنا زيادة الثواب هناك بقدر العمل ههنا.
فيا قصير العمر اغتنم يومي مني، وانتظر ساعة النفر، وإياك أن تشغل قلبك
بغير ما خلق له.
واحمل نفسك على المبر واقمعها إذا أبت، ولا تسرح لها في الطول، فما أنت
إلا في مرعى.
وقبيح بمن كان بين الصفين أن يتشاغل بغير ما هو فيه.
قد قررت هذا المعنى في هذا الكتاب، وهو الأمر بحفظ السر، والحذر من
الانبساط فيما لا يصلح بين يدي الناس.
فرب منبسط - بين يدي من يظنه صديق - يقول في صديق أو في سلطان يحسب أنه لا
يهتم في ذلك، فيكون سبب هلاكه ذاك.
فأوصى السليم الصدر الذي يظن في الناس الخير أن يحترز من الناس، وأن لا
يقول في الخلق كلمة لا تصلح للخلق.
ولا يغتر بمن يظهر الصداقة أو التدين فقد عم الخبث.
تأملت على أكثر الناس عباداتهم فإذا هي عادات.
فأما أرباب اليقظة فعاداتهم عبادة حقيقية.
فإن الغافل يقول سبحان الله عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في
عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك فيقول: سبحان
الله.
ولو أن إنسان تفكر في رمانة، فنظر في تصفيف حبها وحفظه بالأغشية لئلا
يتضاءل، وإقامة الماء على عظم العجم، وجعل الغشاء عليه يحفظه، وتصوير
الفرخ في بطن البيضة، والآدمي في حشا الأم، إلى غير ذلك من المخلوقات،
أزعجه هذا الفكر إلى تعظيم الخالق، فقال: سبحان الله، وكان هذا التسبيح
ثمرة الفكر؛ فهذا تسبيح المتيقظين.
وما تزال أفكارهم تجول فتقع عباداتهم بالتسبيحات محققة، وكذلك يتفكرون في
قبائح ذنوب قد تقدمت فيوجب ذلك الفكر وقلق القلب وندم النفس، فيثمر ذلك أن
يقول قائلهم: أستغفر الله.
فهذا هو التسبيخ والاستغفار.
فأما الغافلون فيقولون ذلك عادة وشتان ما بين الفريقين.
فصل العزلة دواء
لا يصفو التعبد والتزهد والاشتغال بالآخرة إلا بالانقطاع الكلي عن الخلق،
بحيث لا يبصرهم ولا يسمع كلامهم إلا في وقت ضرورة كصلاة جمعة أو جماعة،
ويحترز في تلك الساعات منهم.
وإن كان عالماً يريد نفعهم وعدهم وقتاً معروفاً واحترز في الكلام معهم.
وأما من يمشي في الأسواق اليوم ويبيع ويشتري مع هذا العالم المظلم، ويرى
المنكرات والمستهجنات فما يعود إلى البيت إلا وقد أظلم القلب.
فلا ينبغي للمريد أن يكون خروجه إلا إلى الصحراء والمقابر.
وقد كان جماعة من السلف يبيعون ويشترون ويحترزون، ومع هذا ما صفا لصافيهم
وقت حتى قاطع الخلق.
قال أبو الدرداء: زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا فاخترت العبادة.
وقد جاء في الحديث: الأسواق تلهي وتلغي.
فمن قدر على الحمية النافعة واضطر إلى المخالطة والكسب للعائلة، فليحترز
احتراز الماشي في الشوك، وبعيد سلامته.
من رزق قلباً طيباً، ولذة مناجاة، فليراع حاله وليحترز من التغيير.
وإنما تدوم له حاله بدوام التقوى.
وكنت قد رزقت قلباً طيباً ومناجاة حلوة فأحضر بعض أرباب المناصب إلى
طعامه، فما أمكن خلافه. فتناولت وأكلت منه فلقيت الشدائد، ورأيت العقوبة
في الحال، واستمرت مدة، وغضبت على قلبي، وفقدت كل ما كنت أجده.
فقلت: واعجباً لقد كنت في هذا كالمكره، فتفكرت وإذا به قد يمكن مداراة
الأمر بلقيمات يسيرة، ولكن التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما
يدفع بالمداراة.
فقالت النفس: ومن أين لي أن عين هذا الطعام حرام ؟.
فقالت اليقظة: وأين الورع عن الشبهات ؟.
فلما تناولت بالتأويل لقمة واستحليتها بالطبع لقيت الأمرين بفقد القلب
فاعتبروا يا أولي الأبصار.
همة المؤمن متعلقة بالآخرة فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من
شغله شيء فهمته شغله.
ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيت البزاز ينظر إلى
الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبناء إلى الحيطان، والحائك إلى
النسيج المخيط.
والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع
صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور،
وإن رأى لذة ذكر الجنة، فهمته متعلقة بما ثم، وذلك يشغله عن كل ما تم.
وأعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة، وأن بقاءه لا ينقطع ولا
يزول، ولا يعتريه منغص، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلباً في تلك اللذات
الدائمة التي لا تفنى يطيش فرحاً ويسهل عليه ما في الطريق إليها من ألم
ومرض وابتلاء وفقد محبوب وهجوم الموت ومعالجة غصصه.
فإن المشتاق إلى الكعبة يهون عليه رمل زرود، والتائق إلى العافية لا يبالي
بمرارة الدواء.
ويعلم أن جودة الثمر ثم على مقدار جودة البذر ههنا فهو يتخير الأجود،
ويغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتور.
ثم يتخايل المؤمن دخول النار والعقوبة فيتنغص عيشه ويقوى قلقه، فعنده
بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء العشوق تارة وفي
صحراء الخوف أخرى، فما يرى البنيان.
فإذا نازله الموت قوي ظنه بالسلامة، ورجا لنفسه النجاة فيهون عليه.
فإذا نزل إلى القبر وجاءه من يسألونه، قال بعضهم لبعض: دعوه فما
استراح إلا الساعة. نسأل الله عز وجل يقظة تامة تحركنا إلى طلب الفضائل،
وتمنعنا من اختيار الرذائل، فإنه إن وفق، وإلا فلا نافع.
فصل مظاهر الاصطفاء
لقد اعتبرت على مولاي سبحانه وتعالى أمراً عجيباً وهو أنه تعالى لا يختار
لمحبته والقرب منه إلا الكامل صورة ومعنى.
ولست أعني حسن التخاطيط وإنما كمال الصورة اعتدالها، والمعتدلة ما تخلو من
حسن، فيتبعها حسن الصورة الباطنة، وهو كمال الأخلاق، وزوال الأكدار، ولا
يرى في باطنه خبثاً ولا كدراً، بل قد حسن باطنه كما حسن ظاهره.
وقد كان موسى عليه السلام كل من رآه يحبه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم
كالقمر ليلة البدر.
وقد يكون الولي أسود اللون، لكنه حسن الصورة لطيف المعاني.
فعلى قدر ما عند الإنسان من التمام في كمال الخلق والخلق، يكون عمله،
ويكون تقريبه إلى الحضرة بحسب ذلك.
فمنهم كالخادم على الباب، ومنهم حاجب، ومنهم مقرب، ويندر من يتم له
الكمال. ولعله لا يوجد في مائة سنة منهم غير واحد.
وهذه حكاية ما تحصل بالاجتهاد بل الاجتهاد يحصل منها. لأنه إذا وقع تماماً
حث على الجد على قدر نقصائه.
وهذا لا حيلة في أصله، إنما هو جبلة، وإذا أرادك لأمر هيأك له.
تأملت على قوم يدعون العقول ويعترضون على حكمة الخالق.
فينبغي أن يقال لهم: هذا الفهم الذي دلكم على رد حكمته أليس هو من منحه ؟.
أفأعطاكم الكمال ورضي لنفسه بالنقص ! هذا هو الكفر المحض الذي يزيد في
القبح على الجحد.
فأول القوم إبليس، فإنه رأى بعقله أن جوهر النار أشرف من جوهر الطين فرد
حكمة الخالق.
ومر على هذا خلق كثير من المعترضين، مثل ابن الراوندي والبقري وهذا المعري
اللعين يقول: كيف يعاب الحجاج بالسخف والدهر أقبح فعلاً منه.
أترى يعني به الزمان ! كلا. فإن ممر الأوقات لا يفعل شيئاً وإنما هو تعريض
بالله جل شأنه. وكان يستعجل الموت ظناً منه أنه يستريح.
وكان يوصي بترك النكاح والنسك، ولا يرى في الإيجاد حكمة إلا العناء والتعب
ومصير الأبدان إلى البلى.
وهذا لو كان ظن كان الإيجاد عبثاً، والحق منزه عن العبث.
قال تعالى: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً " .
فإذا كان ما خلق لنا لم يخلق عبثاً. أفنكون نحن ونحن مواطن معرفته ومجال
تكليفه قد وجدنا عبثاً ؟.
ومثل هذا الجهل إنما يصدر ممن ينظر في قضايا العقول التي يحكم بها على
الظواهر، مثل أن يرى مبنياً ينقض.
والعقل بمجرده لا يرى دلك حكمة ولو كشفت له حكمة ذلك العلم أنه صواب.
كما كشف لموسى مراد الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام.
ومعلوم أن ذبح الحيوان، وتقطيع الرغيف، ومضغ الطعام لا يظهر له فائدة على
الإطلاق.
فإذا علم أنه غذاء لبدن من هو أشرف بدناً من المذبوح حسن ذلك الفعل.
واعجباً أو ما تقضي العقول بوجوب طاعة الحكيم الذي تعجز عن معرفة حكمة
مخلوقاته.
فكيف تعارضه في أفعاله ؟ نعوذ بالله من الخذلان.
ينبغي لمن وعظ سلطاناً أن يبالغ في التلطف ولا يواجهه بما يقتضي أنه ظالم.
فإن السلاطين حظهم التفرد بالقهر والغلبة فإذا جرى نوع توبيخ لهم كان
إذلالاً وهم لا يحتملون ذلك.
وإنما ينبغي أن يمزج وعظه بذكر شرف الولاية، وحصول الثواب في رعاية
الرعايا، وذكر سير العادلين من أسلافهم.
ثم لينظر الواعظ في حال الموعوظ قبل وعظه.
فإن رأى سيرته حميدة كما كان منصور بن عمار وغيره يعظون الرشيد وهو يبكي.
وقصده الخير زاد في وعظه ووصيته.
وإن رآه ظالماً لا يلتفت إلى الخير، وقد غلب عليه الجهل، اجتهد في أن لا
يراه ولا يعظه.
لأنه إن وعظه خاطر بنفسه، وإن مدحه كان مداهناً.
فإن اضطر إلى موعظته كانت كالإشارة، وقد كان أقوام من السلاطين يلينون عند
الموعظة ويحتملون الواعظين.
حتى أنه قد كان المنصور يواجه بأنك ظالم فيصبر.
وقد تغير الزمان، وفسد أكثر الولاة وداهنهم العلماء، ومن لا يداهن لا يجد
قبولاً للصواب فيسكت.
وقد كانت الولايات لا يسألها إلا من أحكمته العلوم، وثقفته التجارب، فصار
أكثر الولاة يتساوون في الجهل فتأتي الولاية على من ليس من أهلها.
ومثل هؤلاء ينبغي الحذر منهم والبعد عنهم
فمن ابتلى بوعظهم فليكن على غاية التحرز فيما يقول ولا ينبغي أن
يغتر بقولهم عظنا فإنه لو قال كلمة لا توافق أغراضهم ثارت حراراتهم.
وليحذر مذكر السلطان أن يعرض له بأرباب الولايات فإنهم إذا سمعوا بذلك صار
الواعظ مقصوداً لهم بالإهلاك خوفاً من أن يعتبر السلطان أحوالهم فتفسد
أمورهم.
والبعد في هذا الزمان عنهم أصلح، والسكوت عن المواعظ لهم أسلم.
فمن اضطر تلطف غاية التلطف، وجعل وعظه للعوام وهم يسمعون ولا يعنيهم منه
بشيء والله الموفق.
فصل الأنبياء الكذبة، ورسالة الإسلام
الحق لا يشتبه بباطل إنما يموه الباطل عند من لا فهم له.
وهذا في حق من يدعي النبوات، وفي حق من يدعي الكرامات.
أما النبوات فإنه قد ادعاها خلق كثير ظهرت قبائحهم، وبانت فضائحهم، ومنها
ما أوجبته خسة الهمة والتهتك في الشهوات، والتهافت في الأقوال والأفعال،
حتى افتضحوا.
فمنهم الأسود العنسي، ادعى النبوة ولقب نفسه ذا الحمارة لأنه كان يقول
يأتيني ذو الحمار، وكان أول أمره كاهناً يشعوذ فيظهر الأعاجيب. فخرج في
أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فكاتبته مذ حج وواعدته نجران وأخرجوا
عمرو بن حزم وخالد بن سعيد صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفاً له
اليمن، وقاتل شهر بن باذان فقتله وتزوج ابنته فأعانت على قتله فهلك في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبان للعقلاء أنه كان يشعوذ.
ومنهم مسيلمة، ادعى النبوة وتسمى رحمان اليمامة لأنه كان يقول: الذي
يأتيني رحمان. فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وادعى أنه قد أشرك معه،
فالعجب أنه يؤمن برسول ويقول إنه كذاب، ثم جاء بقرآن يضحك الناس، مثل
قوله: يا ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين،
ومن العجائب شاة سوداء تحلب لبناً أبيض فانهتك ستره في الفصاحة.
ثم مسح بيده على رأس صبي فذهب شعره. وبصق في بئر فيبست.
وتزوج سجاح التي ادعت النبوة فقالوا: لا بد لها من مهر فقال: مهرها أني قد
أسقطت عنكم صلاة الفجر والعتمة.
وكانت سجاح هذه قد ادعت النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فاستجاب لها جماعة فقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم اعبروا على
الرباب، فليس دونهم حجاب، فقاتلوهم.
ثم قصدت اليمامة فهابها مسيلمة فراسلها وأهدى لها فحضرت عنده فقالت: اقرأ
علي ما يأتيك به جبريل.
فقال: إنكن معشر النساء خلقتن أفواجاً، وجعلتن لنا أزواجاً، نولجه فيكن
إيلاجاً فقالت: صدقت أنت نبي.
فقال لها: قومي إلى المخدع، فقد هيىء لك المضجع، فإن شئت مستلقاة وإن شئت
على أربع، وإن شئت بثلثيه وإن شئت به أجمع، فقالت: بل به اجمع فهو للشمل
أجمع.
فافتضحت عند العقلاء من أصحابها، فقال منهم عطارد بن حاجب:
أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
فعلنة اللّه رب الناس كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغوانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ومن رعيت حيثما كانا
ثم إنها رجعت عن غيها وأسلمت، وما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل.
ومنهم طليحة بن خويلد، خرج بعد دعوى مسيلمة النبوة وتبعه عوام ونزل
سميراً، فتسمى بذي النون، يقول: إن الذي يأتيه يقال له ذو النون.
وكان من كلامه: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم ولا قبح أدباركم شيئاً
فاذكروا الله أعفة قياماً..
ومن قرآنه: والحمام واليمام وللصرد الصوام ليبلغن ملكنا العراق والشام.
وتبعه عيينة بن حصين، فقاتله خالد بن الوليد فجاء عيينة إلى طليحة فقال:
ويحك أجاءك الملك. قال لا فارجع فقاتل فقاتل ثم عاد، فقال أجاءك فقال لا،
فعاد فقاتل ثم عاد فقال: أجاءك ؟ قال: نعم قال: ما قال لك ؟ قال: قال إن
لك جيشاً لا تنساه، فصاح عيينة: الرجل والله كذاب.
فانصرف الناس منهزمين وهرب طليحة إلى الشام، ثم أسلم وصح إسلامه وقتل
بنهاوند.
وذكر الواقدي: أن رجلاً من بني يربوع يقال له جندب بن كلثوم، كان يلقب
كرداناً ادعى النبوة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يزعم أن
دليله على نبوته أنه يسرج مسامير الحديد والطين. وهذا لأنه كان يطلي ذلك
بدهن البيلسان فتعمل فيه النار.
وقد تنبأ رجل يقال له كهمش الكلابي، وكان يزعم أن الله تعالى
أوحى إليه: يا أيها الجائع اشرب لبناً تشبع، ولا تضرب الذي لا ينفع، فإنه
ليس بمقنع.
وزعم أن دليله على نبوته أنه يطرح بين السباع الضارية فلا تأكله، وحيلته
في ذلك أنه يأخذ دهن الغار وحجر البرسان وقنفدا محرقاً وزبد البحر وصدفاً
محرقاً مسحوقاً وشيئاً من الصبر والحبط فيطلي به جسمه، فإذا قربت منه
السباع فشمت تلك الأرياح وزفورتها نفرت.
وتنبأ بالطائف رجل يقال له أبو جعوانة العامري، وزعم أن دليله أنه يطرح
النار في القطن فلا يحترق. وهذا لأنه يدهنه بدهن معروف.
ومنهم هذيل بن يعفور من بني سعد بن زهير، حكى عنه الأصمعي أنه عارض سورة
الإخلاص فقال: قل هو الله أحد إله كالأسد جالس على الرصد لا يفوته أحد.
ومنهم هذيل بن واسع كان يزعم أنه من ولد النابغة الذبياني، عارض سورة
الكوثر فقال له رجل ما قلت فقال: إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر،
فما يردنك إلا كل فاجر.
فظهر عليه السنوري فقتله وصلبه على العمود، فعبر عليه الرجل فقال: إنا
أعطيناك العمود، فصل لربك من قعود، بلا ركوع ولا سجو، فما أراك تعود.
وممن ظهر فادعى أنه يوحي إليه المختار بن أبي عبيد، وكان متخبطاً في
دعواه، وقتل خلقاً كثيراً وكان يزعم أنه ينصر الحسين رضوان الله عليه ثم
قتل.
ومنهم حنظلة بن يزيد الكوفي، كان يزعم أن دليله أنه يدخل البيضة في
القنينة ويخرجها منها صحيحة وذاك أنه كان ينقع البيضة في الخل الحامض
فيلين قشرها ثم يصب ماء في قنينة، ثم يدس البيضة فيها، فإذا لقيت الماء
صلبت.
وقد تنبأ أقوام قبل نبينا صلى الله عليه وسلم كزرادشت وماني. وافتضحوا.
وما من المدعين إلا من خذل.
وقد جاءت القرامطة بحيل عجيبة، وقد ذكرت جمهور هؤلاء وحيلهم في كتابي
التاريخ المسمى بالمنتظم، وما فيهم من يتم له أمر إلا ويفتضح.
ودليل صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أجلى من الشمس.
فإنه ظهر فقيراً والخلق أعداؤه فوعد بالملك فملك. وأخبر بما سيكون فكان
وصين من زمن النبوة عن الشره وخساسة الهمة والكذب والكبر.
وأيد بالثقة والأمانة والنزاهة والعفة، وظهرت معجزاته للبعيد والقريب.
وأنزل عليه الكتاب العزيز الذي حارت فيه عقول الفصحاء، ولم يقدروا على
الإتيان بآية تشبهه فضلاً عن سورة.
وقد قال قائلهم وافتضح، ثم أخبر أنه لا يعارض فيه كمال قال. وذلك قوله
تعالى: " فأتوا بسُورَةٍ " ثم قال: " فإِنْ لَمْ تَفْعَلوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا " . وكذلك قوله: " فَتَمَنَّوا المَوْتَ " ، " وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ.. " فما تمناه أحد.
إذ لو قال قائل قد تمنيته لبطلت دعواه.
وكان يقول ليلة غزاة بدر: غدا مصرع فلان ههنا فلا يتعداه.
وقال: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، لك
بعدهما من له كبير قدر، ولا من استتب له حال.
ومن أعظم دليل على صدقه أنه لم يرد الدنيا فكان يبيت جائعاً، ويؤثر إذا
وجد، ويلبس الصوف ويقوم الليل.
وإنما تطلب النواميس لاجتلاب الشهوات، فلما لم يردها دل على أنه يدل على
الآخرة التي هي حق.
ثم لم يزل دينه يعلو حتى عم الدنيا، وإن كان الكفر في زوايا الأرض، إلا
أنه مخذول.
وصار في تابعيه من أمته الفقهاء الذين لو سمع كلامهم الأنبياء القدماء
تحيروا في حسن استخراجهم، والزهاد الذين لو رآهم الرهبان تحيروا في صدق
زهدهم، والفطناء الذين لا نظير لهم في القدماء.
أوليس قوم موسى يعبدون بقرة، ويتوقفون في ذبح بقرة، ويعبرون البحر، ثم
يقولون: اجعل لنا إلهاً ؟.
وقوم عيسى يدخرون من المائدة وقد نهوا.
والمعتدون في السبت يعصون الله لأجل الحيتان.
وأمتنا بحمد الله تعالى سليمة من هذه الأشياء، وإنما في بعضها ميل إلى
الشهوات المنهي عنها؛ وذلك من الفروع لا من الأصول.
فإذا ذكروا وندموا على تفريطهم.
فنحمد الله على هذا الدين وعلى أننا من أمة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كان جماعة من المتصنعين بالزهد مالوا إلى طلب الدنيا والرياسة،
فاستغواهم الهوى فخرقوا بإظهار ما يشبه الكرامات كالحلاج وابن الشاش
وغيرهما ممن ذكرت حال تلبيسه في كتاب تلبيس إبليس.
وإنما فعلوا ذلك لاختلاف أغراضهم، ولم يزل الله ينشىء في هذا الدين من
الفقهاء من يظهر ما أخفاه القاصرون.
كما ينشىء من علماء الحديث من يهتك ما أشاعه الواضعون، حفظاًَ
لهذا الدين، ودفعاً للشبهات عنه.
فلا يزال الفقيه والمحدث يظهر أن عوار كل ملبس بوضع حديث أو بإظهار دعوى
تزهد وتنميس فلا يؤثر ما ادعياه إلا عند جاهل بعيد من العلم والعمل.
" لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الباطلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ " .
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل الوجود الحق خدمة الموجد
واعجباً من موجود لا يفهم معنى الوجود، فإن فهم لم يعمل بمقتضى فهمه.
يعلم أن العمر قصير، وهو يضيعه بالنوم والبطالة والحديث الفارغ وطلب
اللذات، وإنما أيامه أيام عمل لا زمان فراغ.
وقد كلف ببذل المال ومخالفة الطبع من الشرع فبخل به إلى أن يتضايق الخناق،
فيقول حينئذ: فرقوا عني بعد موتي وافعلوا كذا.
فأين يقع هذا لو فعل، وبعيد أن يفعل، وإنما يراد بإنفاقك في صحتك مخالفة
الطبع في تكلف مشاق الإخراج في زمن السلامة.
فافرق بين الحالتين إن كان لك فهم.
فالسعيد من انتبه لنفسه وعمل بمقتضى عقله، واغتنم زمناً نهايته الزمن
وانتهب عمراً يا قرب انقطاعه.
ويحك ما تصنع بادخال مال لا يؤثر حسنة في صحيفة ولا مكرمة في تاريخ.
أما سمعت بإنفاق أبي بكر وبخل ثعلبة ؟.
أما رأيت تأثير مدح حاتم وبخل الحباحب ؟.
ويحك لو ابتلاك في مالك لاستغثت أو في بدنك ليلة بمرض لشكوت.
فأنت تستوفي مطلوباتك منه، ولا تستوفي في حقه عليك " وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ " .
ولتعلم أن هذا القدر المفرط فيه يحل الخلود الدائم في ثواب العمل فيه.
فسبحان من من على أقوام فهموا المراد فأتعبوا الأجساد، وغطى على أقوام
فهموا المراد فأتعبوا الأجساد، وغطى على قلوب آخرين فوجودهم كالعدم.
وكيف لا يتعب العاقل بدنه إتعاب البدن والمقصود منى.
أترى ما بال الحق متجلياً في إيجادك أيها العبد ! بلى، والله إن وجودك
دليل وجوده.
وإن نعمه عليك دليل جوده.
فكما قدمك على سائر الحيوانات، فقدمه في قلبك على كل المطلوبات.
واخيبة من جهله، وافقر من أعرض منه، واذل من اعتز بغيره، واحسرة من اشتغل
بغير خدمته.
فصل الاستعداد للرحيل
إني أعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه كيف يطيب عيشه،
خصوصاً إذا علت سنه.
واعجبا لمن يرى الأفاعي تدب إليه وهو لا ينزعج. أما يرى الشيخ دبيب الموت
في أعضائه، قد أخرج سكين القوي. وأنزل متغشرم الضعف، وقلب السواد بياضاً،
ثم في كل يوم يزيد الناقص.
ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا وفراق
الإخوان، وإن كان ذلك مزعجاً.
ولكن شغل من احترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران.
وإنه لما يسلي عن الدنيا ويهون فراقها استبدال المعارف بمن تكره.
فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون، وفقراء كانوا يصبرون، ومحاسبين لأنفسهم،
يتورعون فاستبدل السفهاء عن العقلاء، والبخلاء عن الكرماء.
فيا سهولة الرحيل، لعل النفس تلقى من فقدت، فتلحق بمن أحبت.
فصل الإيمان والتعقل
نظرت في قول الله تعالى: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ
فِي السَّموات وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُوم
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ " ، ثم قال: " وَكثِيرٌ مِنَ
النَّاسٍ " فرأيت الجمادات كلها قد وصفت بالسجود، واستثنى من العقلاء،
فذكرت قول بعضهم:
ما جحد الصامت من أنشأه ... ومن ذوي النطق أتى الجحود
فقلت: إن هذه لقدرة عظيمة، يوهب عقل الشخص ثم يسلب فائدته، وأن هذا لأقوى
دليل على قادر قاهر.
وإلا فكيف يحسن من عاقل أن لا يعرف بوجوده وجود من أوجده ؟.
وكيف ينحت صنماً بيده ثم يعيده ؟.
غير أن الحق سبحانه وتعالى وهب لأقوام من العقل ما يثبت عليهم الحجة،
وأعمى قلوبهم كما شاء عن المحجة.
فصل مخالطة المحجوبين عن الله غشاوة
ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق.
فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منهم فتر عن عمله.
وإن رؤية الدنيا تحث على طلبها، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ستراً على بابه فهتكه وقال: ما لي وللدنيا، ولبس ثوباً له طراز فرماه
وقال: شغلتني أعلامه، ولبس خاتماً ثم رماه وقال: نظرت إليكم ونظرت إليه.
وكذلك رؤية أرباب الدنيا ودورهم وأحوالهم، خصوصاً لمن له نفس
تطلب الرفعة.
وكذا سماع الأغاني ومخالطة الصوفية الذين لا نظر لهم اليوم إلا في الرزق
الحاصل.
لو كان من أي مكان قبلوه، ولا يتورعون أن يأخذوا من ظالم، وليس عندهم خوف
كما كان أوائلهم.
فقد كان سري السقطي يبكي طول الليل، وكان يبالغ في الورع، وهم ليس لهم ورع
سري ولا لهم تعبد الجنيد.
وإنما ثم أكل ورقص وبطالة وسماع أغاني من المردان، حتى قال بعض من يعتبر
قوله: حضرت مع رجل كبير يومأ إليه من مشايخ الربط ومغنيهم أمرد، فقام
الشيخ ونقطه بدينار على خده.
وادعاؤهم أن سماع هذه الأشياء يدعو إلى الآخرة فوق الكذب.
وليس العجب منهم، إنما العجب من جهال ينفقون عليهم فينفقون عليهم.
ولقد كان جماعة من القدماء يرون أوائل الصوفية يتعبدون ويتورعون فيعجبهم
حالهم، وهم معذورون في إعجابهم بهم.
وإن كان أكثر القوم في تعبدهم على غير الجادة، كما ذكرت في كتابي المسمى
بتلبيس إبليس.
فأما اليوم فقد برح الخفاء، أحدهم يتردد إلى الظلمة ويأكل أموالهم،
ويصافحهم بقميص ليس فيه طراز، وهذا هو التصوف فحسب.
أو لا يستحي من الله من زهد في رفيع الأثواب لأجل الخلائق لا لأجل الحق.
ولا يزهد في مطعم ولا شبهة !.
فالبعد عن هؤلاء لازم.
وينبغي للمنفرد لطاعة الله تعالى عن الخلق أن لا يخرج إلى سوق جهده، فإن
خرج ضرورة غض بصره، وأن لا يزور صاحب منصب ولا يلقاه، فإن اضطر دارى الأمر.
ولا يخالط عامياً إلا لضرورة مع التحرز.
ولا يفتح على نفسه باب التزوج، بل يقنع بامرأة فيها دين، فقد قال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور وعاد بالضرر
فإن كان يغلب عليه العلم انفرد بدراسته، واحترز من الأتباع المعلمين، وإن
غلبت عليه العبادة، زاد في احترازه.
وليجعل خلوته أنيسه، والنظر في سير السلف جليسه.
وليكن له وظيفة من زيارة قبور الصالحين والخلوة بها.
ولا ينبغي أن يفوته ورد قيام الليل، وليكن بعد النصف الأول، فليطل مهما
قدر، فإنه زمان بعيد المثل.
وليمثل رحيله عن قرب ليقصر أمله، وليتزود في الطريق على قدر طول السفر،
نسأل الله عز وجل يقظة من فضله، وإقبالاً على خدمته، وأن لا يخذلنا
بالالتفات عنه، إنه قريب مجيب.
فصل أنعم الله التي لا تحصى
كلما نظرت في تواصل النعم علي تحيرت في شكرها، وأعلم أن الشكر من النعم
فكيف أشكر، لكني معترف بالتقصير، وأرجو أن يكون اعترافي قائماً ببعض
الحقوق.
وعندي خلة أرجو بها كل خير، وهي أن من يصوم أو يصلي يرى أنه تعبد ويخدم
كأنه يقضي حق المخدوم.
وأنا أرى أني إذا صليت ركعتين فإنما قمت أكدي فلنفسي أعمل، إذ المخدوم غني
عن طاعتي.
وكان بعض المشايخ يقول: جاء في الحديث: الدعاء عبادة، وأنا أقول: العبادة
دعاء.
فالعجب ممن يقف للخدمة يسأل حظ نفسه، كيف يرى أنه قد فعل شيئاً، إنما أنت
في حاجتك، ومنة من أيقظك لا تقاومها خدمتك، فأنا أقول كما قال الأول:
يا منتهى الآمال أن ... ت كفلتني وحفظتني
وعد الزمان علي كي ... يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً ... لما رآك نصرتني
وكسوتني ثوب الغنى ... ومن المغالب صنتني
فإذا سكت بدأتني ... وإذا سألت أجبتني
فإذا شكرتك زدتني ... فمنحتني وبهرتني
أو إن أجد بالمال فال ... أموال أنت أفدتني
فصل علماء القشور
رأيت أكثر العلماء يتشاغلون بصورة العلم، فهم الفقيه التدريس، وهم الواعظ
الوعظ.
فهذا يرعى درسه فيفرح بكثرة من يسمعه، ويقدح في كلام من يخالفه، ويمضي
زمانه في التفكر في المناقضات، ليقهر من يجادله، وعينه إلى التصدر
والارتفاع في المجالس. وربما كانت همته جمع الحطام، ومخالطة السلاطين.
والواعظ همته ما يرزق به كلامه ويكثر جمعه ويجلب به قلوب الناس إلى
تعظيمه، فإن كان له نظير في شغله أخذ يطعن فيه.
وهذه قلوب غافلة عن الله عز وجل، إذ لو كانت لها به معرفة
لاشتغلت به، وكان أنسها بمناجاته، وإيثارها لطاعاته، وإقبالها على الخلوة
به.
لكنها لما خلت من هذا تشاغلت بالدنيا وذاك دنيا مثلها.
فإذا خلت بخدمة الله تعالى لم تجد لها طعماً، وكان جمع الناس أحب إليها،
وزيارة الخلق لها آثر عندها، وهذه علامة الخذلان.
وعلى ضد هذا متى كان العالم مقبلاً على الله سبحانه مشغولاً بطاعته، كان
أصعب الأشياء عنده لقاء الخلق ومحادثتهم، وأحب الأشياء إليه الخلوة.
وكان عنده شغل عن القدح في النظراء أو عن طلب الرياسة.
فإن ما علق به همته من الآخرة أعلى من ذلك.
والنفس لا بد لها مما تشاغل به. فمن اشتغل لخدمة الخلق أعرض عن الحق،
فإنما يربي رياسته.
وذلك يوجب الإعراض عن الحق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
فصل صفاء البصيرة
قد جاء في الأثر: أرنا الأشياء كما هي، وهذا كلام حسن غاية الحسن.
وأكثر الناس ما يرون الأشياء بعينها، فإنهم يرون الفاني كأنه باق، ولا
يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه وإن علموا ذلك.
إلا أن أعين الحس مشغولة بالنظر إلى الحاضر.
ألا ترى زوال اللذة وبقاء إثمها، ولو رأى اللص قطع يده هان عنده المسروق.
فمن جمع الأموال ولم ينفقها فما رآها بعينها، إذ هي آلة لتحصيل الأغراض،
لا تراد لذاتها.
ومن رأى المعصية بعيني الشهوة فما رآها، إذ فيها من العيوب ما شئت ثم
ثمرتها عقوبة آجلة، وفضيحة عاجلة.
وانظر إلى أكبر شهوات الحس وهو الوطء فإن الماء لا يحصل إلا بعد مطعم
ومشرب، ومن تفكر في المطعم نظر إلى حرث الأرض وأنها تفتقر إلى بقر للحراثة
عليهن المحراث، وهو حديد ومعه خشب ويتعلق به حبال.
فمن تفكر في عمل الحبال في زرع القنب وتسريحه وفتله والحديد وجلبه وضربه،
والخشب ونباته ونجارته، ودوران الدولاب وعمله، ثم استحصاد الزرع وحصده
وتذريته وطحنه وعجنه وخبزه، ومن عمل التنور وجلب الشوك.
ومن هذا الجنس إذ نظر فيه كثر جداً حتى قالوا لا تنال لقمة إلا وقد عمل
فيها ثلاثمائة نفس أو نحوهم.
فإذا أكل تلك اللقمة فليفكر في خلق الأسنان لقطعها والأضراس لطحنها وعذوبة
ماء الفم لخلطها، واللسان ليقلبها، وعضلات الفم يصعد منها شيء ويبقى شيء
حتى يصلح البلع.
ثم يتناول المعي فيوصلها إلى الكبد فيقوم طابخاً لها، فإذا صارت دماً نفت
رسوبها إلى الطحال، ومائيتها إلى المثانة، واستخلصت من أخلص الدم وأصفاه
للكبد والدماغ والقلب.
وأخذت أجود ذلك فحدرته إلى الأنثيين معداً لخلق آدمي.
فإذا تحركت نيران الشهوة تدفقت تلك النطقة، وقد حكم الشرع بطهارتها؛ وحكم
لها بطهارة الرحم والمحل الذي يباشره الذكر، فيخلق منها الآدمي الموحد.
فما جاء هذا الشخص إلا بأغلى الغلاء وبعد عجائب أشرنا إليها، لا أنا
عددناها، أفمن فهم هذا يحسن منه أن يبدد تلك النطفة في حرام، أو أن يطأ في
محل نجس فتضيع ؟.
فكم يتعلق بالزنا من لا يفي معشار عشرها بلذة لحظة، منها هتك العرض بين
الناس. وكشف العورات المحرمة، وخيانة الأخ المسلم في زوجته إن كانت متزوجة
وفضيحة المزني بها وهي كأخت له أو بنت.
فإن علقت منه ولها زوج ألحقته بذلك الزوج، وكان هذا الزاني سبباً في ميراث
من لا يستحق، ومنع من يستحق.
ثم يتسلسل ذلك من ولد إلى ولد.
وأما سخط الحق سبحانه فمعلوم قال تعالى: " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة
وساء سبيلاً " .
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله تعالى من
نطفة وضعها رجل في رحم لا تحل له.
ومن له فهم يعلم أن المراد من النطفة إيجاد الموحدين.
ولولا تركيب الشهوة لم يقع الوطء، لأنه التقاء عضوين غير مستحسنين ولا
صورتهما حسنة ولا ريحهما طيب.
وإنما الشهوة تغطي عين الناظر ليحصل الولد أصلاً فهي عارض فمن طلب الشهوة
ونسي جنايته بالزنا فما رأى الأشياء على ما هي.
وقس على هذا المطعم والمشرب وجمع المال وغير ذلك.
فصل الحكمة في خلق ما يؤذي
إن قال قائل: أي فائدة في خلق ما يؤذي ؟ فالجواب أنه قد ثبتت حكمة الخالق
فإذا خفيت في بعض الأمور وجب التسليم.
ثم إن المستحسنات في الجملة أنموذج ما أعد من الثواب. والمؤذيات أنموذج ما
أعد من العقاب.
وما خلق شيء يضر إلا وفيه منفعة، قيل لبعض الأطباء: إن فلاناً
يقول أنا كالعقرب أضر ولا أنفع.
فقال: ما أقل علمه. إنها لتنفع إذا شق بطنها ثم شد على موضع اللسعة.
وقد تجعل في جوف فخار مسدود الرأس مطبق الجوانب، ثم يوضع الفخار في تنور
فإذا صارت رماداً سقي من ذلك الرماد مقدار نصف دانق أو أكثر من به الحصاة
فيفتها من غير أن يضر بشيء من سائر الأعضاء.
وقد تلسع العقرب من به حمى عتيقة فتزول.
ولسع رجلاً مفلوجاً فزال عنه الفالج.
وقد تلقى في الدهن حتى يجتذب قواها فيزيل ذلك الدهن الأورام الغليظة، ومثل
هذا كثير.
فالجاهل عدو لما جهله، وأكبر الحماقة رد الجاهل على العالم.
فصل جلال العبادة وجمال العابدين
كلما أوغلت الفهوم في معرفة الخالق فشاهدت عظمته ولطفه ورفعته، تاهت في
محبته فخرجت عن حد الثبوت.
وقد كان خلق من الناس غلبت عليهم محبته، فلم يقدروا على مخالطة الخلق.
ومنهم من لم يقدر على السكوت عن الذكر.
وفيهم من لم ينم إلا غلبة، وفيهم من هام في البراري، وفيهم من احترق في
بدنه.
فيا حسن مخمورهم ما ألذ سكره، ويا عيش قلقهم ما أحسن وجده... !!.
كان أبو عبيدة الخواص قد غلبه الوجد فكان يمشي في الأسواق يقول: واشوقاه
إلى من يراني ولا أراه.
وكان فتح بن سخرف يقول: قد طال شوقي إليك، فعجل قدومي عليك.
وكان قيس بن الربيع كأنه مخمور من غير شراب.
وكان ابن عقيل يقول: التبذل فيه سبحانه أحسن من التجمل في غيره.
هل رأيت قط عراة أحسن من المحرمين ؟.
هل رأيت للمتزينين برياش الدنيا سمتا كأثواب الصالحين ؟.
هل رأيت خماراً أحسن من نعاس المتهجدين ؟.
هل رأيت سكراً أحسن من صعق الواجدين ؟.
هل شاهدت ماء صافياً أصفى من دموع المتأسفين ؟.
هل رأيت رؤوساً مائلة كرؤوس المنكسرين ؟.
هل لصق بالأرض شيء أحسن من جباه المصلين ؟.
هل حرك نسيم الأسحار أوراق الأشجار فبلغ تحريكه أذيال المتهجدين ؟.
هل ارتفعت أكف وانبسطت أيد فضاهت أكف الراغبين !.
هل حرك القلوب صوت ترجيع لحن أو رنة وتركهما حرك حنين المشتاقين ؟.
وإنما يحسن التبذل في تحصيل أوفى الأغراض.
فلذلك حسن التبذل في خدمة المنعم.
فصل تدريب العقل
أكثرهم لا يعرف الدين، ولا يتأدب بآدابه. بمرة يتفق له قلة العقل من أصل
الوضع ثم ذلك القليل لا يعاون، بل يعان عليه، وذاك أن الجارحة إذا دام
تعطلها عن عملها الذي هيئت له تعطلت وخمدت ولهذا تنقص أنصار النساخ
والرفائين وتحتد أبصار أهل البوادي لأنه صاد لأبصارهم.
وشغل العقل التفكر، والنظر في عواقب الأحوال، والاستدلال بالشاهد على
الغائب، وهؤلاء يمتلؤون من الطعام دائماً وذلك يؤذي العقل.
ثم يطيلون النوم، فإذا انتبهوا شربوا المسكر فاتفق للعقل تعطيل وتغطية....
فساء التدبير.
واعجباً من موجود لا يفهم معنى الوجود، فإن فهم لم يعمل بمقتضى فهمه.
يعلم أن العمر قصير، وهو يضيعه بالنوم والبطالة والحديث الفارغ وطلب
اللذات، وإنما أيامه أيام عمل لا زمان فراغ.
وقد كلف ببذل المال ومخالفة الطبع من الشرع فبخل به إلى أن يتضايق الخناق،
فيقول حينئذ: فرقوا عني بعد موتي وافعلوا كذا.
فأين يقع هذا لو فعل، وبعيد أن يفعل، وإنما يراد بإنفاقك في صحتك مخالفة
الطبع في تكلف مشاق الإخراج في زمن السلامة.
فافرق بين الحالتين إن كان لك فهم.
فالسعيد من انتبه لنفسه وعمل بمقتضى عقله، واغتنم زمناً نهايته الزمن
وانتهب عمراً يا قرب انقطاعه.
ويحك ما تصنع بادخال مال لا يؤثر حسنة في صحيفة ولا مكرمة في تاريخ.
أما سمعت بإنفاق أبي بكر وبخل ثعلبة ؟.
أما رأيت تأثير مدح حاتم وبخل الحباحب ؟.
ويحك لو ابتلاك في مالك لاستغثت أو في بدنك ليلة بمرض لشكوت.
فأنت تستوفي مطلوباتك منه، ولا تستوفي في حقه عليك " وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ " .
ولتعلم أن هذا القدر المفرط فيه يحل الخلود الدائم في ثواب العمل فيه.
فسبحان من من على أقوام فهموا المراد فأتعبوا الأجساد، وغطى على أقوام
فهموا المراد فأتعبوا الأجساد، وغطى على قلوب آخرين فوجودهم كالعدم.
وكيف لا يتعب العاقل بدنه إتعاب البدن والمقصود منى.
أترى ما بال الحق متجلياً في إيجادك أيها العبد ! بلى، والله إن وجودك
دليل وجوده.
وإن نعمه عليك دليل جوده.
فكما قدمك على سائر الحيوانات، فقدمه في قلبك على كل المطلوبات.
واخيبة من جهله، وافقر من أعرض منه، واذل من اعتز بغيره، واحسرة من اشتغل
بغير خدمته.
إني أعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه كيف يطيب عيشه،
خصوصاً إذا علت سنه.
واعجبا لمن يرى الأفاعي تدب إليه وهو لا ينزعج. أما يرى الشيخ دبيب الموت
في أعضائه، قد أخرج سكين القوي. وأنزل متغشرم الضعف، وقلب السواد بياضاً،
ثم في كل يوم يزيد الناقص.
ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا وفراق
الإخوان، وإن كان ذلك مزعجاً.
ولكن شغل من احترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران.
وإنه لما يسلي عن الدنيا ويهون فراقها استبدال المعارف بمن تكره.
فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون، وفقراء كانوا يصبرون، ومحاسبين لأنفسهم،
يتورعون فاستبدل السفهاء عن العقلاء، والبخلاء عن الكرماء.
فيا سهولة الرحيل، لعل النفس تلقى من فقدت، فتلحق بمن أحبت.
نظرت في قول الله تعالى: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ
فِي السَّموات وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُوم
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ " ، ثم قال: " وَكثِيرٌ مِنَ
النَّاسٍ " فرأيت الجمادات كلها قد وصفت بالسجود، واستثنى من العقلاء،
فذكرت قول بعضهم:
ما جحد الصامت من أنشأه ... ومن ذوي النطق أتى الجحود
فقلت: إن هذه لقدرة عظيمة، يوهب عقل الشخص ثم يسلب فائدته، وأن هذا لأقوى
دليل على قادر قاهر.
وإلا فكيف يحسن من عاقل أن لا يعرف بوجوده وجود من أوجده ؟.
وكيف ينحت صنماً بيده ثم يعيده ؟.
غير أن الحق سبحانه وتعالى وهب لأقوام من العقل ما يثبت عليهم الحجة،
وأعمى قلوبهم كما شاء عن المحجة.
ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق.
فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منهم فتر عن عمله.
وإن رؤية الدنيا تحث على طلبها، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ستراً على بابه فهتكه وقال: ما لي وللدنيا، ولبس ثوباً له طراز فرماه
وقال: شغلتني أعلامه، ولبس خاتماً ثم رماه وقال: نظرت إليكم ونظرت إليه.
وكذلك رؤية أرباب الدنيا ودورهم وأحوالهم، خصوصاً لمن له نفس
تطلب الرفعة.
وكذا سماع الأغاني ومخالطة الصوفية الذين لا نظر لهم اليوم إلا في الرزق
الحاصل.
لو كان من أي مكان قبلوه، ولا يتورعون أن يأخذوا من ظالم، وليس عندهم خوف
كما كان أوائلهم.
فقد كان سري السقطي يبكي طول الليل، وكان يبالغ في الورع، وهم ليس لهم ورع
سري ولا لهم تعبد الجنيد.
وإنما ثم أكل ورقص وبطالة وسماع أغاني من المردان، حتى قال بعض من يعتبر
قوله: حضرت مع رجل كبير يومأ إليه من مشايخ الربط ومغنيهم أمرد، فقام
الشيخ ونقطه بدينار على خده.
وادعاؤهم أن سماع هذه الأشياء يدعو إلى الآخرة فوق الكذب.
وليس العجب منهم، إنما العجب من جهال ينفقون عليهم فينفقون عليهم.
ولقد كان جماعة من القدماء يرون أوائل الصوفية يتعبدون ويتورعون فيعجبهم
حالهم، وهم معذورون في إعجابهم بهم.
وإن كان أكثر القوم في تعبدهم على غير الجادة، كما ذكرت في كتابي المسمى
بتلبيس إبليس.
فأما اليوم فقد برح الخفاء، أحدهم يتردد إلى الظلمة ويأكل أموالهم،
ويصافحهم بقميص ليس فيه طراز، وهذا هو التصوف فحسب.
أو لا يستحي من الله من زهد في رفيع الأثواب لأجل الخلائق لا لأجل الحق.
ولا يزهد في مطعم ولا شبهة !.
فالبعد عن هؤلاء لازم.
وينبغي للمنفرد لطاعة الله تعالى عن الخلق أن لا يخرج إلى سوق جهده، فإن
خرج ضرورة غض بصره، وأن لا يزور صاحب منصب ولا يلقاه، فإن اضطر دارى الأمر.
ولا يخالط عامياً إلا لضرورة مع التحرز.
ولا يفتح على نفسه باب التزوج، بل يقنع بامرأة فيها دين، فقد قال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور وعاد بالضرر
فإن كان يغلب عليه العلم انفرد بدراسته، واحترز من الأتباع المعلمين، وإن
غلبت عليه العبادة، زاد في احترازه.
وليجعل خلوته أنيسه، والنظر في سير السلف جليسه.
وليكن له وظيفة من زيارة قبور الصالحين والخلوة بها.
ولا ينبغي أن يفوته ورد قيام الليل، وليكن بعد النصف الأول، فليطل مهما
قدر، فإنه زمان بعيد المثل.
وليمثل رحيله عن قرب ليقصر أمله، وليتزود في الطريق على قدر طول السفر،
نسأل الله عز وجل يقظة من فضله، وإقبالاً على خدمته، وأن لا يخذلنا
بالالتفات عنه، إنه قريب مجيب.
فصل أنعم الله التي لا تحصى
كلما نظرت في تواصل النعم علي تحيرت في شكرها، وأعلم أن الشكر من النعم
فكيف أشكر، لكني معترف بالتقصير، وأرجو أن يكون اعترافي قائماً ببعض
الحقوق.
وعندي خلة أرجو بها كل خير، وهي أن من يصوم أو يصلي يرى أنه تعبد ويخدم
كأنه يقضي حق المخدوم.
وأنا أرى أني إذا صليت ركعتين فإنما قمت أكدي فلنفسي أعمل، إذ المخدوم غني
عن طاعتي.
وكان بعض المشايخ يقول: جاء في الحديث: الدعاء عبادة، وأنا أقول: العبادة
دعاء.
فالعجب ممن يقف للخدمة يسأل حظ نفسه، كيف يرى أنه قد فعل شيئاً، إنما أنت
في حاجتك، ومنة من أيقظك لا تقاومها خدمتك، فأنا أقول كما قال الأول:
يا منتهى الآمال أن ... ت كفلتني وحفظتني
وعد الزمان علي كي ... يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً ... لما رآك نصرتني
وكسوتني ثوب الغنى ... ومن المغالب صنتني
فإذا سكت بدأتني ... وإذا سألت أجبتني
فإذا شكرتك زدتني ... فمنحتني وبهرتني
أو إن أجد بالمال فال ... أموال أنت أفدتني
رأيت أكثر العلماء يتشاغلون بصورة العلم، فهم الفقيه التدريس، وهم الواعظ
الوعظ.
فهذا يرعى درسه فيفرح بكثرة من يسمعه، ويقدح في كلام من يخالفه، ويمضي
زمانه في التفكر في المناقضات، ليقهر من يجادله، وعينه إلى التصدر
والارتفاع في المجالس. وربما كانت همته جمع الحطام، ومخالطة السلاطين.
والواعظ همته ما يرزق به كلامه ويكثر جمعه ويجلب به قلوب الناس إلى
تعظيمه، فإن كان له نظير في شغله أخذ يطعن فيه.
وهذه قلوب غافلة عن الله عز وجل، إذ لو كانت لها به معرفة
لاشتغلت به، وكان أنسها بمناجاته، وإيثارها لطاعاته، وإقبالها على الخلوة
به.
لكنها لما خلت من هذا تشاغلت بالدنيا وذاك دنيا مثلها.
فإذا خلت بخدمة الله تعالى لم تجد لها طعماً، وكان جمع الناس أحب إليها،
وزيارة الخلق لها آثر عندها، وهذه علامة الخذلان.
وعلى ضد هذا متى كان العالم مقبلاً على الله سبحانه مشغولاً بطاعته، كان
أصعب الأشياء عنده لقاء الخلق ومحادثتهم، وأحب الأشياء إليه الخلوة.
وكان عنده شغل عن القدح في النظراء أو عن طلب الرياسة.
فإن ما علق به همته من الآخرة أعلى من ذلك.
والنفس لا بد لها مما تشاغل به. فمن اشتغل لخدمة الخلق أعرض عن الحق،
فإنما يربي رياسته.
وذلك يوجب الإعراض عن الحق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
فصل صفاء البصيرة
قد جاء في الأثر: أرنا الأشياء كما هي، وهذا كلام حسن غاية الحسن.
وأكثر الناس ما يرون الأشياء بعينها، فإنهم يرون الفاني كأنه باق، ولا
يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه وإن علموا ذلك.
إلا أن أعين الحس مشغولة بالنظر إلى الحاضر.
ألا ترى زوال اللذة وبقاء إثمها، ولو رأى اللص قطع يده هان عنده المسروق.
فمن جمع الأموال ولم ينفقها فما رآها بعينها، إذ هي آلة لتحصيل الأغراض،
لا تراد لذاتها.
ومن رأى المعصية بعيني الشهوة فما رآها، إذ فيها من العيوب ما شئت ثم
ثمرتها عقوبة آجلة، وفضيحة عاجلة.
وانظر إلى أكبر شهوات الحس وهو الوطء فإن الماء لا يحصل إلا بعد مطعم
ومشرب، ومن تفكر في المطعم نظر إلى حرث الأرض وأنها تفتقر إلى بقر للحراثة
عليهن المحراث، وهو حديد ومعه خشب ويتعلق به حبال.
فمن تفكر في عمل الحبال في زرع القنب وتسريحه وفتله والحديد وجلبه وضربه،
والخشب ونباته ونجارته، ودوران الدولاب وعمله، ثم استحصاد الزرع وحصده
وتذريته وطحنه وعجنه وخبزه، ومن عمل التنور وجلب الشوك.
ومن هذا الجنس إذ نظر فيه كثر جداً حتى قالوا لا تنال لقمة إلا وقد عمل
فيها ثلاثمائة نفس أو نحوهم.
فإذا أكل تلك اللقمة فليفكر في خلق الأسنان لقطعها والأضراس لطحنها وعذوبة
ماء الفم لخلطها، واللسان ليقلبها، وعضلات الفم يصعد منها شيء ويبقى شيء
حتى يصلح البلع.
ثم يتناول المعي فيوصلها إلى الكبد فيقوم طابخاً لها، فإذا صارت دماً نفت
رسوبها إلى الطحال، ومائيتها إلى المثانة، واستخلصت من أخلص الدم وأصفاه
للكبد والدماغ والقلب.
وأخذت أجود ذلك فحدرته إلى الأنثيين معداً لخلق آدمي.
فإذا تحركت نيران الشهوة تدفقت تلك النطقة، وقد حكم الشرع بطهارتها؛ وحكم
لها بطهارة الرحم والمحل الذي يباشره الذكر، فيخلق منها الآدمي الموحد.
فما جاء هذا الشخص إلا بأغلى الغلاء وبعد عجائب أشرنا إليها، لا أنا
عددناها، أفمن فهم هذا يحسن منه أن يبدد تلك النطفة في حرام، أو أن يطأ في
محل نجس فتضيع ؟.
فكم يتعلق بالزنا من لا يفي معشار عشرها بلذة لحظة، منها هتك العرض بين
الناس. وكشف العورات المحرمة، وخيانة الأخ المسلم في زوجته إن كانت متزوجة
وفضيحة المزني بها وهي كأخت له أو بنت.
فإن علقت منه ولها زوج ألحقته بذلك الزوج، وكان هذا الزاني سبباً في ميراث
من لا يستحق، ومنع من يستحق.
ثم يتسلسل ذلك من ولد إلى ولد.
وأما سخط الحق سبحانه فمعلوم قال تعالى: " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة
وساء سبيلاً " .
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله تعالى من
نطفة وضعها رجل في رحم لا تحل له.
ومن له فهم يعلم أن المراد من النطفة إيجاد الموحدين.
ولولا تركيب الشهوة لم يقع الوطء، لأنه التقاء عضوين غير مستحسنين ولا
صورتهما حسنة ولا ريحهما طيب.
وإنما الشهوة تغطي عين الناظر ليحصل الولد أصلاً فهي عارض فمن طلب الشهوة
ونسي جنايته بالزنا فما رأى الأشياء على ما هي.
وقس على هذا المطعم والمشرب وجمع المال وغير ذلك.
إن قال قائل: أي فائدة في خلق ما يؤذي ؟ فالجواب أنه قد ثبتت حكمة الخالق
فإذا خفيت في بعض الأمور وجب التسليم.
ثم إن المستحسنات في الجملة أنموذج ما أعد من الثواب. والمؤذيات أنموذج ما
أعد من العقاب.
وما خلق شيء يضر إلا وفيه منفعة، قيل لبعض الأطباء: إن فلاناً
يقول أنا كالعقرب أضر ولا أنفع.
فقال: ما أقل علمه. إنها لتنفع إذا شق بطنها ثم شد على موضع اللسعة.
وقد تجعل في جوف فخار مسدود الرأس مطبق الجوانب، ثم يوضع الفخار في تنور
فإذا صارت رماداً سقي من ذلك الرماد مقدار نصف دانق أو أكثر من به الحصاة
فيفتها من غير أن يضر بشيء من سائر الأعضاء.
وقد تلسع العقرب من به حمى عتيقة فتزول.
ولسع رجلاً مفلوجاً فزال عنه الفالج.
وقد تلقى في الدهن حتى يجتذب قواها فيزيل ذلك الدهن الأورام الغليظة، ومثل
هذا كثير.
فالجاهل عدو لما جهله، وأكبر الحماقة رد الجاهل على العالم.
فصل جلال العبادة وجمال العابدين
كلما أوغلت الفهوم في معرفة الخالق فشاهدت عظمته ولطفه ورفعته، تاهت في
محبته فخرجت عن حد الثبوت.
وقد كان خلق من الناس غلبت عليهم محبته، فلم يقدروا على مخالطة الخلق.
ومنهم من لم يقدر على السكوت عن الذكر.
وفيهم من لم ينم إلا غلبة، وفيهم من هام في البراري، وفيهم من احترق في
بدنه.
فيا حسن مخمورهم ما ألذ سكره، ويا عيش قلقهم ما أحسن وجده... !!.
كان أبو عبيدة الخواص قد غلبه الوجد فكان يمشي في الأسواق يقول: واشوقاه
إلى من يراني ولا أراه.
وكان فتح بن سخرف يقول: قد طال شوقي إليك، فعجل قدومي عليك.
وكان قيس بن الربيع كأنه مخمور من غير شراب.
وكان ابن عقيل يقول: التبذل فيه سبحانه أحسن من التجمل في غيره.
هل رأيت قط عراة أحسن من المحرمين ؟.
هل رأيت للمتزينين برياش الدنيا سمتا كأثواب الصالحين ؟.
هل رأيت خماراً أحسن من نعاس المتهجدين ؟.
هل رأيت سكراً أحسن من صعق الواجدين ؟.
هل شاهدت ماء صافياً أصفى من دموع المتأسفين ؟.
هل رأيت رؤوساً مائلة كرؤوس المنكسرين ؟.
هل لصق بالأرض شيء أحسن من جباه المصلين ؟.
هل حرك نسيم الأسحار أوراق الأشجار فبلغ تحريكه أذيال المتهجدين ؟.
هل ارتفعت أكف وانبسطت أيد فضاهت أكف الراغبين !.
هل حرك القلوب صوت ترجيع لحن أو رنة وتركهما حرك حنين المشتاقين ؟.
وإنما يحسن التبذل في تحصيل أوفى الأغراض.
فلذلك حسن التبذل في خدمة المنعم.
أكثرهم لا يعرف الدين، ولا يتأدب بآدابه. بمرة يتفق له قلة العقل من أصل
الوضع ثم ذلك القليل لا يعاون، بل يعان عليه، وذاك أن الجارحة إذا دام
تعطلها عن عملها الذي هيئت له تعطلت وخمدت ولهذا تنقص أنصار النساخ
والرفائين وتحتد أبصار أهل البوادي لأنه صاد لأبصارهم.
وشغل العقل التفكر، والنظر في عواقب الأحوال، والاستدلال بالشاهد على
الغائب، وهؤلاء يمتلؤون من الطعام دائماً وذلك يؤذي العقل.
ثم يطيلون النوم، فإذا انتبهوا شربوا المسكر فاتفق للعقل تعطيل وتغطية....
فساء التدبير.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل اعتبار القدرات في التوجيه
من المخاطرات تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم، أو بما قد رسخ في نفوسهم
ضده.
مثاله أن قوماً قد رسخ في قلوبهم التشبيه، وأن ذات الخالق سبحانه ملاصقة
للعرش، وهي بقدر العرش، ويفضل من العرش قدر أربع أصابع.
وسمعوا مثل هذا من أشياخهم، وثبت عندهم أنه إذا نزل وانتقل إلى السماء
الدنيا خلت منه ست سموات.
فإذا دعى أحدهم إلى التنزيه وقيل له ليس كما خطر لك، إنما ينبغي أن تمر
الأحاديث كما جاءت من غير مساكنة ما توهمته، صعب هذا عليه لوجهين.
أحدهما: لغلبة الحس عليه والحس على العوام أغلب.
والثاني: لما قد سمعه من ذلك من الأشياخ الذين كانوا أجهل منه.
فالمخاطب لهذا مخاطر بنفسه، ولقد بلغني عن بعض من كان يتدين ممن قد رسخ في
قلبه التشبيه أنه سمع من بعض العلماء شيئاً من التنزيه، فقال: والله لو
قدرت عليه لقتلته.
فالله الله أن تحدث مخلوقاً من العوام بما لا يحتمله دون احتيال وتلطف،
فإنه لا يزول ما في نفسه، ويخاطر المحدث له بنفسه.
فكذلك كل ما يتعلق بالأصول.
فصل ميزان الرجولة
لا يغرك من الرجل طنطنته وما تراه يفعل من صلاة وصوم وعزلة عن الخلق.
إنما الرجل هو الذي يراعي شيئين: حفظ الحدود، وإخلاص العمل.
فكم قد رأينا متعبداً يخرق الحدود بالغيبة، وفعل ما لا يجوز مما يوافق
هواه ؟.
وكم قد اعتبرنا على صاحب دين أنه يقصد بفعله غير الله تعالى.
وهذه الآفة تزيد وتنقص في الخلق.
فالرجل كل الرجل هو الذي يراعي حدود الله، وهي ما فرض عليه وألزم به.
والذي يحسن القصد، فيكون عمله وقوله خالصاً لله تعالى، لا يريد به الخلق
ولا تعظيمهم له.
فرب خاشع ليقال ناسك، وصامت ليقال خائف، وتارك للدنيا ليقال زاهد.
وعلامة المخلص أن يكون في جلوته كخلوته، وربما تكلف بين الناس التبسم
والانبساط لينمحي عنه اسم زاهد.
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية.
واعلم أن المعمول معه لا يريد الشركاء، فالمخلص مفرد له بالقصد، والمرائي
قد أشرك ليحصل له مدح الناس.
وذلك ينقلب، لأن قلوبهم بيد من أشرك معه، فهو يقلبها عليه لا إليه.
فالموفق من كانت معاملته باطنة وأعماله خالصة.
وذاك الذي تحبه الناس وإن لم يبالهم، كما يمقتون المرائي وإن زاد تعبده.
ثم إن الرجل الموصوف بهذه الخصال لا يتناهى عن كمال العلوم ولا يقصر عن
طلب الفضائل.
فهو يملأ الزمان بأكثر ما يسعه من الخير، وقلبه لا يفتر عن العمل القلبي.
أبى أن يصير شغله بالحق سبحانه وتعالى.
فصل التطلع بلا عمل
رأيت خلقاً يفرطون في أديانهم ثم يقولون احملونا إذا متنا إلى مقبرة أحمد.
أتراهم ما سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من
عليه دين وعلى الغال، وقال: ما ينفعه صلاتي عليه.
ولقد رأيت أقواماً من العلماء حملهم حب الصيت على أن استخرجوا إذناً من
السلطان، فدفنوا في دكة أحمد بن حنبل وهم يعلمون أن هناك خلقاً رفات بعضهم
على بعض. وما فيهم إلا من يعلم أنه ما يستحق القرب من مثل ذلك.
فأين احتقار النفوس ؟ أما سمعوا أن عمر بن عبد العزيز، قيل له: تدفن في
الحجرة ؟ فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من أن أرى
نفسي أهلاً لذلك.
لكن، العادات وحب الرياسة غلبت على هؤلاء، فبقي العلم يجري على الألسن
عادة لا للعمل به.
ثم آل الأمر إلى جماعة خالطوا السلاطين وباشروا الظلم، يزاحمون على الدفن
بمقبرة أحمد ويوصون بذلك.
فليتهم أوصوا بالدفن في موضع فارغ، إنما يدفنون على موتى.
ويخرج عظام أولئك فيحشرون على ما ألقوا من الظلم حتى في موتهم، وينسون
أنهم كانوا من أعوان الظلمة.
أترى ما علموا أن مساعد الظالم ظالم، وفي الحديث: كفى بالمرء خيانة أن
يكون أميناً للخونة.
قال السجان لأحمد بن حنبل: هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال: لا، أنت من
الظلمة، إنما أعوان الظلمة من أعانك في أمر.
فصل حقيقة الحسد
رأيت الناس يذمون الحاسد ويبالغون ويقولون: لا يحسد إلا شرير يعادي نعمة
الله، ولا يرضى بقضائه، ويبخل على أخيه المسلم.
فرأيت في هذا فما رأيته كما يقولون، وذاك أن الإنسان لا يحب أن يرتفع عليه
أحد، فإذا رأى صديقه قد علا عليه تأثر هو ولم يحب أن يرتفع عليه، وود لو
لم ينل صديقه ما ينال، أو أن ينال هو ما نال ذاك لئلا يرتفع عليه وهذا
معجون في الطين، ولا لوم على ذلك.
إنما اللوم أن يعمل بمقتضاه من قول أو فعل، وكنت أظن أن هذا قد وقع لي عن
درسي وفحصي، فرأيت الحديث عن الحسن البصري قد سبقني إليه.
قال: أخبرنا عبد الخالق بن عبد الصمد قال: أخبرنا ابن النقود قال: أخبرنا
المخلص قال: حدثنا البغوي قال: حدثنا أبو روح قال: حدثنا مخلد بن الحسين
عن هشام عن الحسن قال: ليس من ولد آدم أحد إلا وقد خلق معه الحسد... !!.
فمن لم يجاوز ذلك بقول ولا بفعل لم يتبعه شيء !!.
فصل الإسراف الجنسي
من أعظم الضرر الداخل على الإنسان كثرة النساء.
إنه أولاً يتشتت همه في محبتهن، ومداراتهن وغيرتهن، والإنفاق عليهن، ولا
يأمن إحداهن أن تكرهه وتريد غيره فلا تتخلص إلا بقتله.
ولو سلم من جميع ذلك لم يسلم في الكسب لهن، فإن سلم لم ينج من السآمة لهن
أو لبعضهن.
ثم يطلب ما لا يقدر عليه من غيرهن، حتى أنه لو قدر على نساء بغداد كله
فقدمت امرأة مستترة من غير البلد ظن أنه يجد عندها ما ليس عندهن.
ولعمري إن في الجدة لذة، ولكن رب مستور إذا انكشف افتضح.
ولو أنه سلم من كل أذى يتعلق بهن أنهك بدنه في الجماع، فيكون طلبه
للالتذاذ مانعاً من دوام الالتذاذ.
ورب لقمة منعت لقمات، ورب لذة كانت سبباً في انقطاع لذات.
والعاقل من يقتصر على الواحدة إذا وافقت غرضه، ولا بد أن يكون
فيها شيء لا يوافق، إنما العمل على الغالب، فتوهب الخلة الردية للمجيدة.
وينبغي أن يكون النظر إلى باب الدين قبل النظر إلى الحسن.
فإنه إذا قل الدين لم ينتفع ذو مروءة بتلك المرأة، ومما يهلك الشيخ سريعاً
الجماع، فلا يغتر بما يرى من انبساط الآلة وحصول الشهوة.
وذلك مستخرج من قوته ما لا يعود مثله، فلا ينبغي أن يغتر بحركة وشهوة، ولا
يقرب من النساء إن كان له رأي في البقاء.
فصل أعيت الحماقة من يداويها
إذا رأيت قليل العقل في أصل الوضع فلا ترج خيره.
فأما إن كان وافر العقل لكنه يغلب عليه الهوى فارجه.
وعلامة ذلك أنه يدبر أمره في جهله، فيستتر من الناس إذا أتى فاحشة، ويراقب
في بعض الأحوال، ويبكي عند الموعظة، ويحترم أهل الدين، فهذا عاقل مغلوب
بالهوى.
فإذا انتبه بالندم انقبض شيطان الهوى وجاء ملك العقل.
فأما إذا كان قليل العقل في الوضع، وعلامته أن لا ينظر في عاقبة عاجلة ولا
آجلة ولا يستحي من الناس أن يروه على فاحشة، ولا يدبر أمر دنياه، فذاك
بعيد الرجاء.
وقد يندر من هؤلاء من يفلح، ويكون السبب فيه خميرة من العقل غطى عليها
الهوى ثم تكشف قليلاً ليعود، فمثلهم كمثل مصروع أفاق.
فصل الحيطة للمستقبل
ينبغي الاحتراز من كل ما يجوز أن يكون، ولا ينبغي أن يقال: الغالب السلامة.
وقد رأينا من نزل مع الخيل في سفينة فاضطربت، فغرق من في السفينة وإن كان
الغالب في هذه الحالة السلامة.
وكذا ينبغي أن يقدر الإنسان في نفقته وإن رأى الدنيا مقبلة، لجواز أن
تنقطع تلك الدنيا.
وحاجة النفس لا بد من قضائها، فإذا بذر وقت السعة فجاء وقت الضيق لم يأمن
أن يدخل في مداخل سوء، وأن يتعرض بالطلب من الناس.
وكذلك ينبغي للمعافى أن يعد للمرض، وللقوي أن يتهيأ للهرم.
وفي الجملة فالنظر في العواقب وفيما يجوز أن يقع شأن العقلاء.
فأما النظر في الحالة الراهنة فحسب فحالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه
معافى وينسى المرض، أو غنياً وينسى الفقر، أو يرى لذة عاجلة وينسى ما تجني
عواقبها.
وليس للعقل شغل إلا النظر في العواقب، وهو يشير بالصواب من أين يقبل ؟..
فصل القوة عند الابتلاء
يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء، فهو يبالغ في الدعاء ولا يرى أثراً
للإجابة، ولا يتغير أمله ورجاؤه ولو قويت أسباب اليأس، لعلمه أن الحق أعلم
بالمصالح.
أو لأن المراد منه الصبر أو الإيمان فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد
من القلب التسليم لينظر كيف صبره، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء.
فأما من يريد تعجيل الإجابة ويتذمر إن لم تتعجل، فذاك ضعيف الإيمان. يرى
أن له حقاً في الإجابة، وكأنه يتقاضى أجرة عمله.
أما سمعت قصة يعقوب عليه السلام: بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لا
يتغير، فلما ضم إلي فقد يوسف فقد بنيامين لم يتغير أمله وقال: " عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتيني بهمْ جَميعاً " .
وقد كشف هذا المعنى قوله تعالى: " أَمْ حِسِتْتُمْ أَنْ تَدْخُلوا
الْجَنّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوْ مِنْ قَبْلَكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللُّهِ أَلاَ إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب " .
ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسول والمؤمنين إلا بعد طول البلاء وقرب اليأس
من الفرج.
ومن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال العبد بخير ما لم
يستعجل، قيل له: وما يستعجل. قال: يقول: دعوت فلم يستجب لي.
فإياك أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء
متعبد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء.
فصل المتعة الزائفة
تذكرت في سبب دخول جهنم فإذا هو المعاصي.
فنظرت في المعاصي فإذا هي حاصلة من طلب اللذات.
فنظرت في اللذات فرأيتها خدعاً ليست بشيء، وفي ضمنها من الأكدار ما يصيرها
نغصاً فتخرج عن كونها لذات.
فكيف يتبع العاقل نفسه ويرضي بجهنم لأجل هذه الأكدار ؟.
فمن اللذات الزنا، فإن كان المراد إراقة الماء فقد يراق في حلال.
وإن كان في المعشوق فمراد النفس دوام البقاء مع المعشوق، فإذا هي ملكته
فالمملوك مملول.
وإن هو قاربه ساعة ثم فارقه فحسرة الفراق تربو على لذة القرب.
وإن كان ولد له من الزنا فالفضيحة الدائمة، والعقوبة التامة، وتنكيس الرأس
عند الخالق والمخلوق.
وأما الجاهل فيرى لذته في بلوغ ذلك الغرض، وينسى ما يجني مما يكدر عيش
الدنيا والآخرة.
ومن ذلك شرب الخمر، فإنه تنجيس للفم والثوب، وإبعاد للعقل، وتأثيراته
معلومة عند الخالق والمخلوق.
فالعجب ممن يؤثر لذة ساعة تجني عقاباً وذهاب جاه، وربما خرج بالعربدة إلى
القتل.
وعلى هذا فقس جميع المذوقات، فإن لذاتها إذا وزنت بميزان العقل لا تفي
بمعشار عشير عواقبها القباح في الدنيا والآخرة.
ثم هي نفسها ليست بكثير شيء فكيف تباع الآخرة بمثل هذا ؟.
سبحان من أنعم على أقوام، كلما لاحت لهم لذة نصبوا ميزان العقل ونظروا
فيما يجني وتلمحوا ما يؤثر تركها فرجحوا الأصلح.
وطمس على قلوب فهي ترى صورة الشيء وتنسى جناياته.
ثم العجب أنا نرى من يبعد عن زوجته وهو شاب ليعدو في الطريق فيقال ساعي.
فيغلب هواه لطلب ما هو أعلى وهو المدح. كيف لا يترك محرماً ليمدح في
الدنيا والأخرى ؟.
ثم قدر حصول ما طلبت من اللذات وذهابها وأحسب أنها قد كانت وقد هانت
وتخلصت من محنها أين أنت من غيرك ؟ أين تعب عالم قد درس العلم خمسين سنة
؟. ذهب التعب وحصل العلم، وأين لذة البطال ؟ ذهبت الراحة وأعقبت الندم.
فصل نتائج الشهوات
من وقف على موجب الحس هلك. ومن تبع العقل سلم، لأن مجرد الحس لا يرى إلا
الحاضر وهو الدنيا. وأما العقل فإنه ينظر إلى المخلوقات، فيعلم وجود
الخالق ويعلم أنه قد منح وأباح وأطلق وحظر، وأخبر أني سائلكم ومبتليكم
ليظهر دليل وجودي عندكم بترك ما تشتهون طاعة لي.
وإني قد بنيت لكم داراً غير هذه لإثابة من يطيع وعقوبة من يخالف.
ثم لو ترك الحس وما يشتهي مع أغراضه قرب الأمر إنما يزني فيجلد، ويشرب
الخمر فيعاقب، ويسرق فيقطع ويفعل ذلة فيفضح بين الخلق.
ويعرض عن العلم إلى البطالة فيقع الندم عند حصول الجهل.
ثم إنا نرى الكثير ممن عمل بمقتضى عقله قد سلمت دنياه وآخرته، وميز بين
الخلق بالتعظيم، وكان عيشه في لذاته غالباً خيراً من عيش موافق للهوى.
فليعتبر ذو الفهم بما قلت، وليعمل بمقتضى الدليل وقد سلم.
فصل الإسراف الجنسي
العجب لمؤثر شهوات الدنيا، ألا يتدبر أمرها بالعقل قبل أن يصير إلى
منقولات الشرع.
إن أعطم لذات الحس الوطء، فالمرأة المستحسنة إنما يكون حال كمالها من وقت
بلوغها إلى الثلاثين، فإذا بلغتها أثر فيها ما مضى من عمرها في الولادة
وغيرها.
وربما ابيضت شعرات من رأسها فينفر الإنسان منها. وقد يقع الملل قبل ذلك،
وطول الصحبة يكشف العيوب.
وما عيب نساء الدنيا بأبلغ من قوله: " لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ " .
فلو تفكر الإنسان في جسد مملوء بالنجاسة ما طالب له ضمه، غير أن الشهوة
تغطي عين الفكر.
فالعاقل من حفظ دينه ومروءته بترك الحرام، وحفظ قوته في الحلال فأنفقتها
في طلب الفضائل من علم أو عمل.
ولم يسع في إفناء عمره وتشتيت قلبه في شيء لا تحسن عاقبته:
ما في هوادجكم من مهجتي عوضٌ ... إن متّ شوقاً ولا فيها لها ثمن
وعموم من رأينا من الكبار غلبت عليهم شهوة الوطء فانهدمت أعمارهم، ورحلوا
سريعاً.
وقد رأينا من العقلاء من زجر نفسه عن هذه المحنة ولم يستعملها إلا وقت
الحاجة، فبقي لهم سواد شعورهم وقوتهم حتى تمتعوا بها في الحياة وحصلوا
المناقب، وعرفت منهم النفوس قوة العزيمة فلم تطالبهم بما يؤذي.
من المخاطرات تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم، أو بما قد رسخ في نفوسهم
ضده.
مثاله أن قوماً قد رسخ في قلوبهم التشبيه، وأن ذات الخالق سبحانه ملاصقة
للعرش، وهي بقدر العرش، ويفضل من العرش قدر أربع أصابع.
وسمعوا مثل هذا من أشياخهم، وثبت عندهم أنه إذا نزل وانتقل إلى السماء
الدنيا خلت منه ست سموات.
فإذا دعى أحدهم إلى التنزيه وقيل له ليس كما خطر لك، إنما ينبغي أن تمر
الأحاديث كما جاءت من غير مساكنة ما توهمته، صعب هذا عليه لوجهين.
أحدهما: لغلبة الحس عليه والحس على العوام أغلب.
والثاني: لما قد سمعه من ذلك من الأشياخ الذين كانوا أجهل منه.
فالمخاطب لهذا مخاطر بنفسه، ولقد بلغني عن بعض من كان يتدين ممن قد رسخ في
قلبه التشبيه أنه سمع من بعض العلماء شيئاً من التنزيه، فقال: والله لو
قدرت عليه لقتلته.
فالله الله أن تحدث مخلوقاً من العوام بما لا يحتمله دون احتيال وتلطف،
فإنه لا يزول ما في نفسه، ويخاطر المحدث له بنفسه.
فكذلك كل ما يتعلق بالأصول.
لا يغرك من الرجل طنطنته وما تراه يفعل من صلاة وصوم وعزلة عن الخلق.
إنما الرجل هو الذي يراعي شيئين: حفظ الحدود، وإخلاص العمل.
فكم قد رأينا متعبداً يخرق الحدود بالغيبة، وفعل ما لا يجوز مما يوافق
هواه ؟.
وكم قد اعتبرنا على صاحب دين أنه يقصد بفعله غير الله تعالى.
وهذه الآفة تزيد وتنقص في الخلق.
فالرجل كل الرجل هو الذي يراعي حدود الله، وهي ما فرض عليه وألزم به.
والذي يحسن القصد، فيكون عمله وقوله خالصاً لله تعالى، لا يريد به الخلق
ولا تعظيمهم له.
فرب خاشع ليقال ناسك، وصامت ليقال خائف، وتارك للدنيا ليقال زاهد.
وعلامة المخلص أن يكون في جلوته كخلوته، وربما تكلف بين الناس التبسم
والانبساط لينمحي عنه اسم زاهد.
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية.
واعلم أن المعمول معه لا يريد الشركاء، فالمخلص مفرد له بالقصد، والمرائي
قد أشرك ليحصل له مدح الناس.
وذلك ينقلب، لأن قلوبهم بيد من أشرك معه، فهو يقلبها عليه لا إليه.
فالموفق من كانت معاملته باطنة وأعماله خالصة.
وذاك الذي تحبه الناس وإن لم يبالهم، كما يمقتون المرائي وإن زاد تعبده.
ثم إن الرجل الموصوف بهذه الخصال لا يتناهى عن كمال العلوم ولا يقصر عن
طلب الفضائل.
فهو يملأ الزمان بأكثر ما يسعه من الخير، وقلبه لا يفتر عن العمل القلبي.
أبى أن يصير شغله بالحق سبحانه وتعالى.
فصل التطلع بلا عمل
رأيت خلقاً يفرطون في أديانهم ثم يقولون احملونا إذا متنا إلى مقبرة أحمد.
أتراهم ما سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من
عليه دين وعلى الغال، وقال: ما ينفعه صلاتي عليه.
ولقد رأيت أقواماً من العلماء حملهم حب الصيت على أن استخرجوا إذناً من
السلطان، فدفنوا في دكة أحمد بن حنبل وهم يعلمون أن هناك خلقاً رفات بعضهم
على بعض. وما فيهم إلا من يعلم أنه ما يستحق القرب من مثل ذلك.
فأين احتقار النفوس ؟ أما سمعوا أن عمر بن عبد العزيز، قيل له: تدفن في
الحجرة ؟ فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من أن أرى
نفسي أهلاً لذلك.
لكن، العادات وحب الرياسة غلبت على هؤلاء، فبقي العلم يجري على الألسن
عادة لا للعمل به.
ثم آل الأمر إلى جماعة خالطوا السلاطين وباشروا الظلم، يزاحمون على الدفن
بمقبرة أحمد ويوصون بذلك.
فليتهم أوصوا بالدفن في موضع فارغ، إنما يدفنون على موتى.
ويخرج عظام أولئك فيحشرون على ما ألقوا من الظلم حتى في موتهم، وينسون
أنهم كانوا من أعوان الظلمة.
أترى ما علموا أن مساعد الظالم ظالم، وفي الحديث: كفى بالمرء خيانة أن
يكون أميناً للخونة.
قال السجان لأحمد بن حنبل: هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال: لا، أنت من
الظلمة، إنما أعوان الظلمة من أعانك في أمر.
رأيت الناس يذمون الحاسد ويبالغون ويقولون: لا يحسد إلا شرير يعادي نعمة
الله، ولا يرضى بقضائه، ويبخل على أخيه المسلم.
فرأيت في هذا فما رأيته كما يقولون، وذاك أن الإنسان لا يحب أن يرتفع عليه
أحد، فإذا رأى صديقه قد علا عليه تأثر هو ولم يحب أن يرتفع عليه، وود لو
لم ينل صديقه ما ينال، أو أن ينال هو ما نال ذاك لئلا يرتفع عليه وهذا
معجون في الطين، ولا لوم على ذلك.
إنما اللوم أن يعمل بمقتضاه من قول أو فعل، وكنت أظن أن هذا قد وقع لي عن
درسي وفحصي، فرأيت الحديث عن الحسن البصري قد سبقني إليه.
قال: أخبرنا عبد الخالق بن عبد الصمد قال: أخبرنا ابن النقود قال: أخبرنا
المخلص قال: حدثنا البغوي قال: حدثنا أبو روح قال: حدثنا مخلد بن الحسين
عن هشام عن الحسن قال: ليس من ولد آدم أحد إلا وقد خلق معه الحسد... !!.
فمن لم يجاوز ذلك بقول ولا بفعل لم يتبعه شيء !!.
من أعظم الضرر الداخل على الإنسان كثرة النساء.
إنه أولاً يتشتت همه في محبتهن، ومداراتهن وغيرتهن، والإنفاق عليهن، ولا
يأمن إحداهن أن تكرهه وتريد غيره فلا تتخلص إلا بقتله.
ولو سلم من جميع ذلك لم يسلم في الكسب لهن، فإن سلم لم ينج من السآمة لهن
أو لبعضهن.
ثم يطلب ما لا يقدر عليه من غيرهن، حتى أنه لو قدر على نساء بغداد كله
فقدمت امرأة مستترة من غير البلد ظن أنه يجد عندها ما ليس عندهن.
ولعمري إن في الجدة لذة، ولكن رب مستور إذا انكشف افتضح.
ولو أنه سلم من كل أذى يتعلق بهن أنهك بدنه في الجماع، فيكون طلبه
للالتذاذ مانعاً من دوام الالتذاذ.
ورب لقمة منعت لقمات، ورب لذة كانت سبباً في انقطاع لذات.
والعاقل من يقتصر على الواحدة إذا وافقت غرضه، ولا بد أن يكون
فيها شيء لا يوافق، إنما العمل على الغالب، فتوهب الخلة الردية للمجيدة.
وينبغي أن يكون النظر إلى باب الدين قبل النظر إلى الحسن.
فإنه إذا قل الدين لم ينتفع ذو مروءة بتلك المرأة، ومما يهلك الشيخ سريعاً
الجماع، فلا يغتر بما يرى من انبساط الآلة وحصول الشهوة.
وذلك مستخرج من قوته ما لا يعود مثله، فلا ينبغي أن يغتر بحركة وشهوة، ولا
يقرب من النساء إن كان له رأي في البقاء.
فصل أعيت الحماقة من يداويها
إذا رأيت قليل العقل في أصل الوضع فلا ترج خيره.
فأما إن كان وافر العقل لكنه يغلب عليه الهوى فارجه.
وعلامة ذلك أنه يدبر أمره في جهله، فيستتر من الناس إذا أتى فاحشة، ويراقب
في بعض الأحوال، ويبكي عند الموعظة، ويحترم أهل الدين، فهذا عاقل مغلوب
بالهوى.
فإذا انتبه بالندم انقبض شيطان الهوى وجاء ملك العقل.
فأما إذا كان قليل العقل في الوضع، وعلامته أن لا ينظر في عاقبة عاجلة ولا
آجلة ولا يستحي من الناس أن يروه على فاحشة، ولا يدبر أمر دنياه، فذاك
بعيد الرجاء.
وقد يندر من هؤلاء من يفلح، ويكون السبب فيه خميرة من العقل غطى عليها
الهوى ثم تكشف قليلاً ليعود، فمثلهم كمثل مصروع أفاق.
ينبغي الاحتراز من كل ما يجوز أن يكون، ولا ينبغي أن يقال: الغالب السلامة.
وقد رأينا من نزل مع الخيل في سفينة فاضطربت، فغرق من في السفينة وإن كان
الغالب في هذه الحالة السلامة.
وكذا ينبغي أن يقدر الإنسان في نفقته وإن رأى الدنيا مقبلة، لجواز أن
تنقطع تلك الدنيا.
وحاجة النفس لا بد من قضائها، فإذا بذر وقت السعة فجاء وقت الضيق لم يأمن
أن يدخل في مداخل سوء، وأن يتعرض بالطلب من الناس.
وكذلك ينبغي للمعافى أن يعد للمرض، وللقوي أن يتهيأ للهرم.
وفي الجملة فالنظر في العواقب وفيما يجوز أن يقع شأن العقلاء.
فأما النظر في الحالة الراهنة فحسب فحالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه
معافى وينسى المرض، أو غنياً وينسى الفقر، أو يرى لذة عاجلة وينسى ما تجني
عواقبها.
وليس للعقل شغل إلا النظر في العواقب، وهو يشير بالصواب من أين يقبل ؟..
يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء، فهو يبالغ في الدعاء ولا يرى أثراً
للإجابة، ولا يتغير أمله ورجاؤه ولو قويت أسباب اليأس، لعلمه أن الحق أعلم
بالمصالح.
أو لأن المراد منه الصبر أو الإيمان فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد
من القلب التسليم لينظر كيف صبره، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء.
فأما من يريد تعجيل الإجابة ويتذمر إن لم تتعجل، فذاك ضعيف الإيمان. يرى
أن له حقاً في الإجابة، وكأنه يتقاضى أجرة عمله.
أما سمعت قصة يعقوب عليه السلام: بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لا
يتغير، فلما ضم إلي فقد يوسف فقد بنيامين لم يتغير أمله وقال: " عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتيني بهمْ جَميعاً " .
وقد كشف هذا المعنى قوله تعالى: " أَمْ حِسِتْتُمْ أَنْ تَدْخُلوا
الْجَنّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوْ مِنْ قَبْلَكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللُّهِ أَلاَ إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب " .
ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسول والمؤمنين إلا بعد طول البلاء وقرب اليأس
من الفرج.
ومن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال العبد بخير ما لم
يستعجل، قيل له: وما يستعجل. قال: يقول: دعوت فلم يستجب لي.
فإياك أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء
متعبد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء.
تذكرت في سبب دخول جهنم فإذا هو المعاصي.
فنظرت في المعاصي فإذا هي حاصلة من طلب اللذات.
فنظرت في اللذات فرأيتها خدعاً ليست بشيء، وفي ضمنها من الأكدار ما يصيرها
نغصاً فتخرج عن كونها لذات.
فكيف يتبع العاقل نفسه ويرضي بجهنم لأجل هذه الأكدار ؟.
فمن اللذات الزنا، فإن كان المراد إراقة الماء فقد يراق في حلال.
وإن كان في المعشوق فمراد النفس دوام البقاء مع المعشوق، فإذا هي ملكته
فالمملوك مملول.
وإن هو قاربه ساعة ثم فارقه فحسرة الفراق تربو على لذة القرب.
وإن كان ولد له من الزنا فالفضيحة الدائمة، والعقوبة التامة، وتنكيس الرأس
عند الخالق والمخلوق.
وأما الجاهل فيرى لذته في بلوغ ذلك الغرض، وينسى ما يجني مما يكدر عيش
الدنيا والآخرة.
ومن ذلك شرب الخمر، فإنه تنجيس للفم والثوب، وإبعاد للعقل، وتأثيراته
معلومة عند الخالق والمخلوق.
فالعجب ممن يؤثر لذة ساعة تجني عقاباً وذهاب جاه، وربما خرج بالعربدة إلى
القتل.
وعلى هذا فقس جميع المذوقات، فإن لذاتها إذا وزنت بميزان العقل لا تفي
بمعشار عشير عواقبها القباح في الدنيا والآخرة.
ثم هي نفسها ليست بكثير شيء فكيف تباع الآخرة بمثل هذا ؟.
سبحان من أنعم على أقوام، كلما لاحت لهم لذة نصبوا ميزان العقل ونظروا
فيما يجني وتلمحوا ما يؤثر تركها فرجحوا الأصلح.
وطمس على قلوب فهي ترى صورة الشيء وتنسى جناياته.
ثم العجب أنا نرى من يبعد عن زوجته وهو شاب ليعدو في الطريق فيقال ساعي.
فيغلب هواه لطلب ما هو أعلى وهو المدح. كيف لا يترك محرماً ليمدح في
الدنيا والأخرى ؟.
ثم قدر حصول ما طلبت من اللذات وذهابها وأحسب أنها قد كانت وقد هانت
وتخلصت من محنها أين أنت من غيرك ؟ أين تعب عالم قد درس العلم خمسين سنة
؟. ذهب التعب وحصل العلم، وأين لذة البطال ؟ ذهبت الراحة وأعقبت الندم.
فصل نتائج الشهوات
من وقف على موجب الحس هلك. ومن تبع العقل سلم، لأن مجرد الحس لا يرى إلا
الحاضر وهو الدنيا. وأما العقل فإنه ينظر إلى المخلوقات، فيعلم وجود
الخالق ويعلم أنه قد منح وأباح وأطلق وحظر، وأخبر أني سائلكم ومبتليكم
ليظهر دليل وجودي عندكم بترك ما تشتهون طاعة لي.
وإني قد بنيت لكم داراً غير هذه لإثابة من يطيع وعقوبة من يخالف.
ثم لو ترك الحس وما يشتهي مع أغراضه قرب الأمر إنما يزني فيجلد، ويشرب
الخمر فيعاقب، ويسرق فيقطع ويفعل ذلة فيفضح بين الخلق.
ويعرض عن العلم إلى البطالة فيقع الندم عند حصول الجهل.
ثم إنا نرى الكثير ممن عمل بمقتضى عقله قد سلمت دنياه وآخرته، وميز بين
الخلق بالتعظيم، وكان عيشه في لذاته غالباً خيراً من عيش موافق للهوى.
فليعتبر ذو الفهم بما قلت، وليعمل بمقتضى الدليل وقد سلم.
العجب لمؤثر شهوات الدنيا، ألا يتدبر أمرها بالعقل قبل أن يصير إلى
منقولات الشرع.
إن أعطم لذات الحس الوطء، فالمرأة المستحسنة إنما يكون حال كمالها من وقت
بلوغها إلى الثلاثين، فإذا بلغتها أثر فيها ما مضى من عمرها في الولادة
وغيرها.
وربما ابيضت شعرات من رأسها فينفر الإنسان منها. وقد يقع الملل قبل ذلك،
وطول الصحبة يكشف العيوب.
وما عيب نساء الدنيا بأبلغ من قوله: " لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ " .
فلو تفكر الإنسان في جسد مملوء بالنجاسة ما طالب له ضمه، غير أن الشهوة
تغطي عين الفكر.
فالعاقل من حفظ دينه ومروءته بترك الحرام، وحفظ قوته في الحلال فأنفقتها
في طلب الفضائل من علم أو عمل.
ولم يسع في إفناء عمره وتشتيت قلبه في شيء لا تحسن عاقبته:
ما في هوادجكم من مهجتي عوضٌ ... إن متّ شوقاً ولا فيها لها ثمن
وعموم من رأينا من الكبار غلبت عليهم شهوة الوطء فانهدمت أعمارهم، ورحلوا
سريعاً.
وقد رأينا من العقلاء من زجر نفسه عن هذه المحنة ولم يستعملها إلا وقت
الحاجة، فبقي لهم سواد شعورهم وقوتهم حتى تمتعوا بها في الحياة وحصلوا
المناقب، وعرفت منهم النفوس قوة العزيمة فلم تطالبهم بما يؤذي.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى