صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
وأما التفصيل فهو أن لفظ اليد وإن أطلق على ما ذكروه من الاحتمالات إلا أنه حقيقة في جملة العضو إلى المنكب ومجاز فيما عداه.
ودليله
أنه يصح أن يقال إذا أبينت اليد من المرفق أو من الكوع هذا بعض اليد لا
كلها وذلك يدل على أنه ليس حقيقة من وجهين: الأول: أن مسمى اليد حقيقة لا
يصدق عليه أنه بعض اليد والثاني صحة القول بأنه ليس كل اليد ولو كان مسمى
اليد حقيقة لما صح نفيه.
وأما لفظ القطع فحقيقة في إبانة الشيء عما كان
متصلاً به فإذا أضيف القطع إلى اليد وكان مسمى اليد حقيقةً في جملتها إلى
الكوع وجب حمله على إبانة مسمى اليد وهو جملتها وحيث أطلق قطع اليد عن
إبانة بعض أجزائها عن بعض لا يكون حقيقة بل تجوزاً.
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه لما وجب الاقتصار في قطع يد السارق على قطعه من الكوع لما فيه من مخالفة الظاهر.
قلنا: وإن لزم منه مخالفة الظاهر إلا إنه أولى من القول بالإجمال في كلام الشارع فكان إدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب.
الثاني:
أن القول بالإجمال مما يفضي إلى تعطيل اللفظ عن الأعمال في الحال إلى حين
قيام الدليل المرجح ولا كذلك في الحمل على المجاز: فإنه إن لم يظهر دليل
التجوز عمل باللفظ في حقيقته وإن ظهر عمل به في مجازه من غير تعطيل اللفظ
في الحال ولا في ثاني الحال.
المسألة السادسة اللفظ الوارد إذا أمكن
حمله على ما يفيد معنى واحدا وعلى ما يفيد معنيين قال الغزالي وجماعة من
الأصوليين: هو مجمل لتردده بين هذين الاحتمالين من غير ترجيح.
والذي عليه الأكثر أنه ليس بمجمل بل هو ظاهر فيما يفيد معنيين وهذا هو المختار.
وقبل
الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول: اللفظ الوارد إما أن
يظهر كونه حقيقةً فيما قيل من المحملين مع اختلافهما أو كونه حقيقةً في
أحدهما مجازاً في الآخر أو لم يظهر أحد الأمرين: فإن كان من القسم الأول أو
الثاني فلا معنى للخلاف فيه أما الأول فلتحقق إجماله وأما الثاني فلتحقق
الظهور في أحد المحملين: وإنما النزاع في القسم الثالث: ويجب اعتقاد نفي
الإجمال فيه للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما تقدم في المسألة المتقدمة.
وأما
التفصيل فهو أن الكلام إنما وضع للإفادة ولا سيما كلام الشارع ولا يخفى أن
ما يفيد معنيين أكثر في الفائدة فيجب اعتقاد كون اللفظ ظاهراً فيه.
فإن
قيل: هذا الترجيح معارض بترجيح آخر وهو إن الغالب من الألفاظ الواردة هي
المفيدة لمعنى واحد بخلاف المفيد لمعنيين وعند ذلك فاعتقاد أدراج ما نحن
فيه تحت الأعم الأغلب أغلب.
قلنا: يجب اعتقاد الترجيح فيما ذكرناه وذلك لأنه لا يخلو إما أن يقال بالتساوي بين الاحتمالين أو التفاوت.
القول بالتساوي يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ وامتناع العمل به مطلقا إلى حين قيام الدليل وذلك على خلاف الأصل.
وإن
قبل بالتفاوت والترجيح فإما أن يكون فيما يفيد معنىً واحداً أو فيما يفيد
معنيين: لا سبيل إلى الأول إذ القائل قائلان: قائل يقول بالإجمال ففيه نفي
الترجيح عن المعنيين وقائل يقول بأنه ظاهر راجح فيما يفيد معنيين دون ما
يفيد معنى واحداً فقد وقع الاتفاق على نفي الترجيح فيما يفيد معنى واحداً
فتعين الترجيح لما يفيد معنيين.
المسألة السابعة اختلفوا في اللفظ إذا
أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وعلى الموضوع اللغوي هل هو مجمل أم لا ؟ اللفظ
الوارد من جهة الشارع إذا أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وأمكن حمله على
الموضوع اللغوي: اختلفوا فيه.
فذهب الغزالي إلى أنه مجمل لتردده بين الاحتمالين من غير مزية وذهب غيره إلى أنه ظاهر في الحكم الشرعي وهو المختار.
وذلك
مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " الطواف بالبيت صلاة " فإنه يحتمل أنه أراد
به أنه كالصلاة حكماً في الافتقار إلى الطهارة ويحتمل أنه أراد به أنه
مشتمل على الدعاء الذي هو صلاة لغةً وكقوله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما
فوقهما جماعة فإنه يحتمل أنه أراد به أنهما جماعة حقيقةً ويحتمل أنه أراد
به انعقاد الجماعة بهما وحصول فضيلتها وإنما قلنا بكونه ظاهراً في الحكم
الشرعي للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما ذكرناه فيما تقدم.
وأما
التفصيل فهو أنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث لتعريف الأحكام الشرعية التي
لا تعرف إلا من جهته لا لتعريف ما هو معروف لأهل اللغة فوجب حمل اللفظ عليه
لما فيه من موافقة مقصود البعثة.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الترجيح مقابل
بمثله وبيانه أن حمل اللفظ على الحكم الشرعي المجدد مخالف للنفي الأصلي
بخلاف الحمل على الموضوع الأصلي.
قلنا: إلا أنا لو حملناه على تعريف
الموضوع اللغوي كانت فائدة لفظ الشارع التأكيد بتعريف ما هو معروف لنا ولو
حملناه على تعريف الحكم الشرعي.
كانت فائدته التأسيس وتعريف ما ليس معروفاً لنا وفائدة التأسيس أصل وفائدة التأكيد تبع فكان حمله على التأسيس أولى.
المسألة
الثامنة إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي فهو مجمل عند القاضي
أبي بكر إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي عند المعترف
بالأسماء الشرعية قال القاضي أبو بكر: تفريعاً على القول بالأسماء الشرعية
إنه مجمل.
وقال بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة إنه محمول على المسمى
الشرعي وفصل الغزالي وقال: ما ورد في الإثبات فهو للحكم الشرعي وما ورد في
النهي فهو مجمل ومثال ذلك في طرف الإثبات قوله صلى الله عليه وسلم حين دخل
على عائشة فقال لها: " أعندك شيء ؟فقالت: لا قال إني إذا أصوم " فهو إن حمل
على الصوم الشرعي دل على صحة الصوم بنية من النهار بخلاف حمله على الصوم
اللغوي ومثاله في طرف النهي نهيه عليه السلام عن صوم يوم النحر فإنه إن حمل
على الصوم الشرعي دل على تصور وقوعه لاستحالة النهي عما لا تصور لوقوعه
بخلاف ما إذا حمل على الصوم اللغوي.
والمختار ظهوره في المسمى الشرعي في
طرف الإثبات وظهوره في المسمى اللغوي في طرف الترك: أما الأول: فبيانه بما
تقدم في المسألة التي قبلها ويزيد ها هنا وجه آخر في الترجيح وهو أن
الشارع مهما ثبت له عرف وإن كانت مناطقته لنا بالأمور اللغوية غالبا غير أن
مناطقته لنا بعرفه في موضع له فيه عرف أغلب.
وأما إذا ورد في طرف الترك
كقوله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك " وكنهيه عن بيع الحر
والخمر وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين فإنه لو كان اللفظ ظاهراً في
الصلاة الشرعية والبيع الشرعي لزم أن يكون ذلك متصوراً لاستحالة النهي عما
لا تصور له وهو خلاف الإجماع وأن يكون الشارع قد نهى عن التصرف الشرعي وذلك
ممتنع لما فيه من إهمال المصلحة المعتبرة المرعية في التصرف الشرعي أو أن
يقال مع ظهوره في المسمى الشرعي بتأويله وصرفه إلى المسمى اللغوي وهو على
خلاف الأصل.
ولا يلزم من اطراده عرف الشرع في هذه المسميات في طرف
الإثبات مثله في طرف النهي أو النفي وعلى ما حققناه من تقديم عرف الشرع في
خطابه على وضع اللغة.
فيقدم ما اشتهر من المجاز الذي صار لا يفهم من
اللفظ غيره على الوضع الأصلي الحقيقي وسواء كان ذلك التجوز بطريق نقل
الكلام من محل الحقيقة إلى ما هو خارج عنه كلفظ الغائط أو بطريق تخصيصه
ببعض مسمياته في الحقيقة كلفظ الدابة لأن العرف الطارىء غالب للوضع الأصلي
ولا إجمال فيه.
الصنف الثامن في البيان والمبين ويشتمل على مقدمة ومسائل
أما المقدمة ففي تحقيق معنى البيان والمبين واختلاف الناس في العبارات
الدالة عليهما وما هو المختار في ذلك.
أما البيان فاعلم أنه لما كان
متعلقاً بالتعريف والإعلام بما ليس بمعروف ولا معلوم وكان ذلك مما يتوقف
على الدليل والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل
لم يخرج البيان عن التعريف والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل لعدم معنى
رابع يفسر به البيان فلا جرم اختلف الناس.
فقال أبو بكر الصيرفي من
أصحاب الشافعي وغيره إن البيان هو التعريف وعبر عنه بأنه إخراج الشيء عن
حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي.
وذهب أبو عبد الله البصري وغيره إلى أن البيان هو العلم الحاصل من الدليل.
وذهب
القاضي أبو بكر والغزالي وأكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم
وأبي الحسين البصري وغيرهم إلى أن البيان هو الدليل وهو المختار.
ويدل
على صحة تفسيره بذلك أن من ذكر دليلاً لغيره وأوضحه غاية الإيضاح يصح لغةً
وعرفاً أن يقال تم بيانه وهو بيان حسن إشارة إلى الدليل المذكور.
وإن
لم يحصل منه المعرفة بالمطلوب للسامع ولا حصل به تعريفه ولا إخراج المطلوب
من حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي والأصل في الإطلاق الحقيقة والذي
يخص كل واحد من التعريفين الآخرين.
أما الأول: فلأنه غير جامع لأن ما
يدل على الحكم بدياً من غير سابقة إجمال بيان وهو غير داخل في الحد وشرط
الحد أن يكون جامعاً مانعاً كيف وفيه تجوز وزيادة أما التجوز ففي لفظ الحيز
فإنه حقيقة في الجوهر دون غيره.
وأما الزيادة فما فيه من الجمع بين الوضوح والتجلي وأحدهما كاف عن الآخر والحد مما يجب صيانته عن التجوز والزيادة.
وأما
التعريف الثاني فلأن حصول العلم عن الدليل يسمى تبيناً والأصل في الإطلاق
الحقيقة فلو كان هو البيان أيضاً حقيقة لزم منه الترادف والأصل عند تعدده
الأسماء تعدد المسميات تكثيراً للفائدة ولأن الحاصل عن الدليل قد يكون
علماً وقد يكون ظناً.
وعند ذلك فتخصيص اسم البيان بالعلم دون الظن لا
معنى له مع أن اسم البيان يعم الحالتين وإذا كان النزاع إنما هو في إطلاق
أمر لفظي فأولى ما اتبع ما كان موافقاً للإطلاق اللغوي وأبعد عن الاضطراب
ومخالفة الأصول.
وإذا عرف أن البيان هو الدليل المذكور فحد البيان ما هو
حد الدليل على ما سبق في تحريره ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيداً
للقطع أو الظن وسواء كان عقلياً أو حسياً أو شرعياً أو عرفياً أو قولاً أو
سكوتاً أو فعلاً أو ترك فعل إلى غير ذلك.
وأما المبين فقد يطلق ويراد به
ما كان من الخطاب المبتدإ المستغنى بنفسه عن بيان وقد يراد به ما كان
محتاجاً إلى البيان وقد ورد عليه بيانه وذلك كاللفظ المجمل إذا بين المراد
منه والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترن به ما يدل
على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك.
وأما المسائل فثمان: المسألة
الأولى مذهب الأكثرين أن الفعل يكون بياناً خلافاً لطائفة شاذة ويدل على
ذلك النقل والعقل: أما النقل فما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه عرف
الصلاة والحج بفعله حيث قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم "
.
وأما العقل فهو أن الإجماع منعقد على كون القول بياناً والإتيان
بأفعال الصلاة والحج لكونها مشاهدةً أدل على معرفة تفصيلها من الإخبار عنها
بالقول فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا كانت مشاهدة زيد في الدار أدل على
معرفة كونه فيها من الإخبار عنه بذلك وإذا كان القول بياناً مع قصوره في
الدلالة عن الفعل المشاهد فكون الفعل بياناً أولى.
فإن قيل: أما النقل
فالبيان فيه إنما وقع بالقول لا بالفعل وهو قوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي
وخذوا عني مناسككم " وأما المعقول فهو أن الفعل وإن كان مشاهداً غير أن
زمان البيان به مما يطول ويلزم من ذلك تأخير البيان مع إمكانه بما هو أفضى
إليه وهو القول وذلك ممتنع.
قلنا: أما القول بأن البيان إنما حصل بالقول
ليس كذلك فإنه لم يتضمن تعريف شيء من أفعال الصلاة والحج بل غايته تعريف
أن الفعل هو البيان لذلك.
وأما القول بأن البيان بالفعل مما يفضي إلى
تأخير البيان مع إمكان تقدمه بالقول فهو غير مسلم بل التعريف بالقول وذكر
كل فعل بصفته وهيئته وما يتعلق به أبعد عن التشبث بالذهن من الفعل المشاهد
وربما احتيج في ذلك إلى تكرير في أزمنة تزيد على زمان وقوع الفعل بأزمنة
كثيرة على ما يشهد به العرف والعادة.
وإن سلمنا أن زمان التعريف بالفعل
يكون أطول فليس في ذلك ما يدل على كونه غير صالح للبيان والتعريف والخلاف
إنما هو في ذلك وقد بينا أنه مع صلاحيته للتعريف أدل من القول.
قولهم
إنه يفضي إلى تأخير البيان مع إمكان تقديمه بالقول قلنا: لا يخلو إما أن لا
تكون الحاجة قد دعت إلى البيان في الحال أودعت إليه: فإن كان الأول فلا
محذور في التأخير مع حصول البيان بما هو أدل من القول وإن كان الثاني فلا
نسلم امتناع التأخير على قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما قررناه.
وبتقدير
امتناعه فإنما نسلم ذلك فيما إذا كان التأخير لا لفائدة وأما إذا كان
لفائدة فلا وقد بينا الفائدة في البيان بالفعل من جهة كونه أدل على
المقصود.
المسألة الثانية إذا ورد بعد اللفظ المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح للبيان فالبيان بماذا منهما ؟
والحق
في ذلك أنه لا يخلو إما أن يتوافقا في البيان أو يختلفا: فإن توافقا فإن
علم تقدم أحدهما فهو البيان لحصول المقصود به والثاني يكون تأكيداً إلا إذا
كان دون الأول في الدلالة لاستحالة تأكيد الشيء بما هو دونه في الدلالة.
وإن
جهل ذلك فلا يخلو إما أن يكونا متساويين في الدلالة أو أحدهما أرجح من
الآخر على حسب اختلاف الوقائع والأقوال والأفعال: فإن كان الأول فأحدهما هو
البيان والآخر مؤكد من غير تعيين وإن كان الثاني فالأشبه أن المرجوح هو
المتقدم لأنا فرضنا تأخر المرجوح امتنع أن يكون مؤكداً للراجح إذ الشيء لا
يؤكد بما هو دونه في الدلالة والبيان حاصل دونه فكان الإتيان به غير مفيد
ومنصب الشارع منزه عن الإتيان بما لا يفيد.
ولا كذلك فيما إذا جعلنا المرجوح مقدما فإن الإتيان بالراجح بعده يكون مفيداً للتأكيد ولا يكون معطلاً.
وأما
إن لم يتوافقا في البيان كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعد آية الحج
قال: " من قرن حجاً إلى عمرة فليطف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً "
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه " قرن فطاف طوافين وسعى سعيين " فلا يخلو
إما أن يعرف تقدم أحدهما أو يجهل.
فإن علم التقدم قال أبو الحسين
البصري: المتقدم هو البيان فإن تقدم الفعل كان الطواف الثاني واجباً وإن
تقدم القول كان الطواف الثاني غير واجب وليس بحق بل الحق أن يقال: إن كان
القول متقدماً فالطواف الثاني غير واجب وفعل النبي صلى الله عليه وسلم له
يجب أن يحمل على كونه مندوباً وإلا فلو كان فعله له دليل الوجوب كان ناسخاً
لما دل عليه القول.
ولا يخفى أن الجمع أولى من التعطيل وفعله للطواف
الأول يكون تأكيداً للقول وإن كان الفعل متقدماً فهو وإن دل على وجوب
الطواف الثاني إلا أن القول بعده يدل على عدم وجوبه والقول بإهمال دلالة
القول ممتنع فلم يبق إلا أن يكون ناسخاً لوجوب الطواف الثاني.
الذي دل
عليه الفعل أو أن يحمل فعله على بيان وجوب الطواف الثاني في حقه دون أمته
وأن يحمل قوله على بيان وجوب الأول دون الثاني في حق أمته دونه والأشبه
إنما هو الاحتمال الثاني دون الأول لما فيه من الجمع بين البيانين من غير
نسخ ولا تعطيل.
وأما إن جهل المتقدم منهما فالأولى إنما هو تقدير تقدم
القول وجعله بياناً لوجهين: الأول: أنه مستقل بنفسه في الدلالة بخلاف الفعل
فإنه لا يتم كونه بياناً دون اقتران العلم الضروري بقصد النبي صلى الله
عليه وسلم البيان به أو قول منه يدل على ذلك وذلك مما لا ضرورة تدعو إليه.
الثاني:
أنا إذا قدرنا تقدم القول أمكن حمل الفعل بعده على ندبية الطواف الثاني
كما تقدم تعريفه ولو قدرنا تقدم الفعل يلزم منه إما إهمال دلالة القول أو
كونه ناسخاً لحكم الفعل أو أن يكون الفعل بياناً لوجوب الطواف الثاني في حق
النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته والقول دليل عدم وجوبه في حق أمته دونه
والإهمال والنسخ على خلاف الأصل والافتراق بين النبي صلى الله عليه وسلم
والأمة في وجوب الطواف الثاني مرجوح بالنظر إلى ما ذكرناه من التشريك لكون
التشريك هو الغالب دون الافتراق.
المسألة الثالثة هل يجب أن يكون البيان
مساوياً للمبين في القوة أو يجوز أن يكون أدنى منه قال الكرخي: لا بد من
المساواة وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يكون أدنى منه.
وهل يجب أن يكون مساويا للمبين في الحكم؟ فمنهم من قال به ومنهم من نفاه.
والمختار
في ذلك أن يقال: أما المساواة في القوة فالواجب أن يقال: إن كان المبين
مجملاً كفى في تعيين أحده احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاماً أو
مطلقاً فلا بد وأن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على
صورة التخصيص.
ودلالة المطلق على صورة التقييد وإلا فلو كان مساوياً لزم الوقف ولو كان مرجوحا لزم منه إلغاء الراجح بالمرجوح وهو ممتنع.
وأما
المساواة بينهما في الحكم فغير واجب وذلك لأنه لو كان ما دل عليه البيان
من الحكم هو ما دل عليه المبين لم يكن أحدهما بياناً للآخر.
وإنما يكون أحد الأمرين بياناً للآخر إذا كان دالاً على صفة مدلول الآخر لا على مدلوله ومع ذلك فلا اتحاد في الحكم.
فإن قيل: المراد من الاتحاد في الحكم أنه إن كان حكم المبين واجباً كان بيانه واجباً وإن لم يكن واجباً لم يكن البيان واجباً.
قلنا:
لا يخلو إما أن لا تكون الحاجة داعيةً إلى البيان في الحال أو هي داعية:
فإن كان الأول فالبيان غير واجب على ما سيأتي وسواء كان حكم المبين واجباً
أو لم يكن وإن كان الثاني فعلى قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما
تقرر فالبيان أيضاً لا يكون واجباً وإن كان الحكم المبين واجباً.
وأما
إذا قلنا بامتناع التكليف بما لا يطاق فالحق ما قالوه وذلك لأنه إذا كان
المبين واجباً فلو لم يكن البيان واجباً لجاز تركه ويلزم من ذلك التكليف
بما لا يطاق وهو خلاف الفرض.
وإذا كان المبين غير واجب فالقول بعدم
إيجاب البيان لا يفضي إلى التكليف بما لا يطاق إذ لا تكليف فيما ليس بواجب
لأن ما لا يكون واجب الفعل ولا واجب الترك فهو إما مندوب أو مباح أو مكروه
وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة لا تكليف فيه على ما تقدم.
ولا يلزم من
القول بالوجوب حذراً من تكليف ما لا يطاق الوجوب مع عدم التكليف أصلاً
اللهم إلا أن ينظر إلى التكليف بوجوب اعتقاده على ما هو عليه من إباحة أو
ندب أو كراهة فيكون من القسم الأول.
المسألة الرابعة في جواز تأخير
البيان أما عن وقت الحاجة فقد اتفق الكل على امتناعه سوى القائلين بجواز
التكليف بما لا يطاق ومدار الكلام من الجانبين فقد عرف فيما تقدم.
وأما
تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ففيه مذاهب: فذهب أكثر أصحابنا وجماعة
من أصحاب أبي حنيفة إلى جوازه وذهب بعض أصحابنا كأبي إسحاق المروزي وأبي
بكر الصيرفي وبعض أصحاب أبي حنيفة والظاهرية إلى امتناعه وذهب الكرخي
وجماعة من الفقهاء إلى جواز تأخير بيان المجمل دون غيره.
وذهب بعضهم إلى
جواز تأخير بيان الأمر دون الخبر وذهب الجبائي وابنه والقاضي عبد الجبار
إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره وذهب أبو الحسين البصري إلى جواز تأخير
بيان ما ليس له ظاهر كالمجمل وأما ما له ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره
كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه فقال يجوز تأخير بيانه التفصيلي ولا يجوز
تأخير بيانه الإجمالي وهو أن يقول وقت الخطاب: هذا العموم مخصوص وهذا
المطلق مقيد وهذا الحكم سينسخ.
وإذا عرف تفصيل المذاهب فقد احتج أصحابنا القائلون بجواز التأخير مطلقاً بحجج نقلية وعقلية.
إما
النقلية فالحجة الأولى منها قوله تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه فإذا
قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه " القيامة 18 ووجه الاحتجاج به أنه
قال: " فإذا قرأناه " معناه أنزلناه ويدل على ذلك قوله تعالى: " فاتبع
قرآنه " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع بفاء التعقيب لقوله " فإذا
قرأناه " ولا يتصور ذلك قبل الإنزال لعدم معرفته به وإنما يكون بعد
الإنزال.
وإذا كان المراد بقوله: " قرأناه " الإنزال فقوله " ثم إن
علينا بيانه " يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال لأن ثم للمهلة والتراخي
على ما سبق تقريره.
ولقائل أن يقول: وإن كان المراد من قوله تعالى: "
فإذا قرأناه " الإنزال ولكن لا نسلم أن المراد من قوله: " ثم إن علينا
بيانه " القيامة 19بيان مجمله وخصوصه وتقييده ومنسوخه بل المراد منه إظهاره
وإشهاره وهو على وفق الظاهر لأن البيان هو الإظهار في اللغة ومنه يقال:
بان لنا الكوكب الفلاني وبان لنا سور المدينة إذا ظهر ويقال بين فلان الأمر
الفلاني إذا أظهره وعند ذلك فليس حمله على ما ذكر من بيان المراد من
المجمل والعام والمطلق أولى مما ذكرناه.
كيف وإن الترجيح لهذا المعنى من
جهة أن المراد من قوله تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه " إنما هو جميع
القرآن فإنه ليس اختصاص بعضه بذلك أولى من بعض وأيضا فإنه أمر النبي صلى
الله عليه وسلم بالاتباع بقوله: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة 18
والأمر بذلك غير خاص ببعض القرآن دون البعض إجماعاً ولأنه لا أولوية للبعض
دون البعض ولأنه لو حمل ذلك على البعض دون البعض مع كونه غير معين في اللفظ
كان مجملاً وتكليفاً له بما ليس بمعلوم له وهو خلاف الأصل.
وإذا ثبت
أن المراد من قوله من أول الآية إنما هو جميع القرآن فالظاهر أن يكون
الضمير في قوله تعالى: " ثم إن علينا بيانه " القيامة 19 عائد إلى جميع
المذكور السابق وهو جملة القرآن لا إلى بعضه لعدم الأولوية.
وإنما يمكن
ذلك بحمل البيان على ما ذكرناه لا على ما ذكروه لاستحالة افتقار كل القرآن
إلى البيان بالمعنى الذي ذكروه فإنه ليس كل القرآن مجملاً ولا ظاهراً في
معنى وقد استعمل في غيره فكان ما ذكرناه أولى.
وهذا إشكال مشكل وفي تحريره وتقريره على هذا الوجه يتبين للناظر المتبحر فيه إبطال كل ما يخبط به بعض المخبطين.
وإن
سلمنا أن المراد به إنما هو بيان المراد من الظاهر الذي استعمل في غير ما
هو الظاهر منه لكن ما المانع أن يكون المراد به البيان التفصيلي كما قاله
أبو الحسين البصري؟ فإن قيل: لا يمكن ذلك لأن لفظ البيان مطلق فحمله على
البيان التفصيلي يكون تقييداً له وتقييد المطلق من غير دليل ممتنع.
قلنا:
وإذا كان مطلقاً فالمطلق لا يمكن حمله على جميع صوره وإلا كان عاماً لا
مطلقاً بل غايته أنه إذا عمل به في صورة فقد وفى بالعمل بدلالته.
وعند
ذلك فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيلي يكون
تقييدا للمطلق وهو ممتنع من غير دليل وإن لم يقل بتنزيله عليه فلا حجة فيه.
وإن
سلمنا أن المراد به البيان الإجمالي والتفصيلي غير أنه قد تعذر العمل
بظاهر ثم من حيث إنها تدل على وجوب تأخير بيان كل القرآن ضرورة عود الضمير
إلى الكل على ما سبق وذلك خلاف الإجماع.
وإذا تعذر العمل بظاهرها وجب
العمل بها في مجازها وهو حملها على معنى الواو كما في قوله تعالى: " فإلينا
مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون " يونس 46 فإن ثم هاهنا بمعنى الواو
ولاستحالة كون الرب شاهداً بعد أن لم يكن شاهداً.
الحجة الثانية قوله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " هود 1 و ثم للتأخير.
ولقائل
أن يقول: لا نسلم أن المراد من التفصيل بيان المراد من المجمل والظاهر
والمستعمل في غير ما هو ظاهر فيه بل المراد من قوله: أحكمت أي في اللوح
المحفوظ وفصلت في الإنزال.
الحجة الثالثة قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " طه 114 وأراد به بيانه للناس.
ولقائل
أن يقول: ظاهر ذلك للمنع من تعجيل نفس القرآن لا بيان ما هو المراد منه
لما فيه من الإضمار المخالف للأصل وإنما منعه من تعجيل القرآن أي من تعجيل
أدائه عقيب سماعه حتى لا يختلط عليه السماع بالأداء وإلا فلو أراد به
البيان لما منعه عنه بالنهي للاتفاق على أن تعجيل البيان بعد الأداء غير
منهي عنه.
الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة معينة
غير منكرة بقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " البقرة 67 ولم
يعينها إلا بعد سؤالهم.
ودليل كون المأمور به معيناً أمران الأول أنهم
سألوا تعيينها بقولهم له: " ادع لنا ربك يبين لنا ما هي " البقرة 68 وما
لونها ولو كانت منكرة لما احتيج إلى ذلك للخروج عن العهدة بأي بقرة كانت.
الثاني
أن قوله تعالى: " إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر " البقرة 68 و إنها
بقرة صفراء و إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث " والضمير في
هذه الكنايات يجب صرفه إلى ما أمروا به أولا.
وبيانه من وجهين: الأول
أنه لو لم يكن كذلك لكان تكليفاً بأمور مجددة غير ما أمروا به أولاً ولو
كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا وهو
خلاف الإجماع على أن المأمور به كان متصفاً بجميع الصفات المذكورة الثاني
أنه لو لم يكن كذلك للزم منه أن لا يكون الجواب مطابقاً للسؤال وهو خلاف
الأصل.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن البقرة المأمور بها كانت معينةً في
نفس الأمر بل منكرة مطلقاً فلا تكون محتاجة إلى البيان لإمكان الخروج عن
العهدة بذبح أي بقرة اتفقت ولا يكون ذلك من صور النزاع.
قولهم إنهم
سألوا عن تعيينها ولو أمروا بمنكر لما سألوا عن تعيينه قلنا ظاهر الأمر يدل
على التنكير حيث قال: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " .
والقول
بالتعيين مخالف للتنكير المفهوم من اللفظ وليس الحمل على التعيين ضرورة
تصحيح سؤالهم ومخالفة ظاهر النص أولى من العكس بل موافقة ظاهر لنص أولى.
قولكم في الوجه الثاني: إن الضمير في جميع الكنايات عائد إلى المأمور به أولاً لا نسلم ذلك.
قولهم
لو لم يكن كذلك لكان ذلك تكليفاً بأمور مجددة مسلم وما المانع منه؟ قولكم:
لو كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا لا
نسلم ذلك وما المانع أن يكون قد أوجب عليهم بعد السؤال الأول ذبح بقرة
متصفة بالصفات المذكورة أولاً ثم أوجب بعد ذلك اعتبار الصفات المذكورة
ثانياً ولا منافاة بين الحالتين.
قولكم: لو كان كذلك لما كان الجواب
مطابقاً للسؤال وهو خلاف الأصل فهو معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه قال: لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأتهم لكنهم شددوا على أنفسهم
فشدد الله عليهم.
وهذا يدل على أن ذلك كان ابتداء إيجاب لا بياناً لأن
البيان ليس بتشديد بل تعيين ما هو الواجب ولا يخفى أن موافقة ظاهر النص
الدال على تنكير البقرة وظاهر قول ابن عباس أولى من موافقة ما ذكروه من
لزوم مطابقة الجواب للسؤال لما فيه من موافقة أصلين ومخالفة أصل واحد وما
ذكروه بالعكس.
ثم وإن سلمنا أن المأمور به كان بقرة معينة في نفس الأمر غير أنهم سألوا البيان الإجمالي أو التفصيلي؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
ولا
يلزم من جواز تأخير البيان التفصيلي تأخير البيان الإجمالي كما هو مذهب
أبي الحسين البصري وليس تقييد سؤالهم بطلب البيان مع إطلاقه بالإجمالي أولى
من التفصيلي ولا محيص عنه.
وربما أورد على هذا الاحتجاج ما لا اتجاه له
كقولهم: ما المانع أن يكون البيان مقارناً للمبين غير أنهم لم يتبينوا أن
الأمر بالذبح كان ناجزاً وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع أما أولا فلأنه
لو كان البيان حاصلاً لفهموه ظاهراً ولما سألوا عنه.
وأما ثانياً فلأن
الأمر بالذبح كان مطلقاً والأمر المطلق على التراخي عند صاحب هذه الحجة على
ما سبق تقريره ولو كان على الفور فتأخير بيانه عنه أيضاً غير ممتنع على
أصله لكونه قائلاً بجواز التكليف بما لا يطلق كما سبق تحقيقه.
الحجة
الخامسة: أنه لما نزل قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
أنتم لها واردون " الأنبياء 98 قال عبد الله بن الزبعري: فقد عبدت الملائكة
والمسيح أفتراهم يعذبون والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه بل سكت
إلى حين ما نزل بيان ذلك بعد حين وهو قوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
أولئك عنها مبعدون " الأنبياء 101 وذلك يدل على جواز التأخير.
ولقائل أن
يقول: لا نسلم أن الآية لم تكن بينة حتى أنها تحتاج إلى بيان فإن الملائكة
والمسيح إنما يمكن القول بدخولهم في عموم الآية إذ لو كانت ما تتناول من
يعلم ويعقل وهو غير مسلم وإذا لم تكن متناولة لهم فلا حاجة إلى إخراج ما لا
دخول له في الآية عنها.
فإن قيل: دليل تناول ما لمن يعلم ويعقل النص والإطلاق والمعنى.
أما
النص فقوله تعالى: " وما خلق الذكر والأنثى " الليل 3 وقوله تعالى: "
والسماء وما بناها " الشمس 5 وقوله تعالى: " ولا أنتم عابدون ما أعبد "
الكافرون 3 وأما الإطلاق فمن وجهين: الأول أن ما قد تطلق بمعنى الذي باتفاق
أهل اللغة و الذي يصح إطلاقها على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيد فما
كذلك الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار.
وأما المعنى
فمن وجهين: الأول هو أن ابن الزبعرى كان من فصحاء العرب وقد فهم تناول ما
لمن يعقل والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك.
الثاني أن ما لو
كانت مختصة بمن لا يعلم لما احتيج إلى قوله: " من دون الله " وحيث كانت
بعمومها متناولة لله تعالى احتاج إلى التقييد بقوله: من دون الله.
قلنا:
أما ما ذكروه من النصوص والإطلاقات فغايتها جواز إطلاق ما على من يعقل
ويعلم ولا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه بل هي ظاهرة فيمن لا يعقل.
ودليل
ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن الزبعري لما ذكر ما ذكر راداً عليه
بقوله: ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل و من لمن يعقل.
ولا
يخفى أن الجمع بين الأمرين والتوفيق بين الأدلة أولى من تعطيل قول النبي
صلى الله عليه وسلم والعمل بما ذكروه وإذا كانت ما ظاهرةً في من لا يعقل
دون من يعقل وجب تنزيلها على ما هي ظاهرة فيه.
وأما التفصيل فهو أن لفظ اليد وإن أطلق على ما ذكروه من الاحتمالات إلا أنه حقيقة في جملة العضو إلى المنكب ومجاز فيما عداه.
ودليله
أنه يصح أن يقال إذا أبينت اليد من المرفق أو من الكوع هذا بعض اليد لا
كلها وذلك يدل على أنه ليس حقيقة من وجهين: الأول: أن مسمى اليد حقيقة لا
يصدق عليه أنه بعض اليد والثاني صحة القول بأنه ليس كل اليد ولو كان مسمى
اليد حقيقة لما صح نفيه.
وأما لفظ القطع فحقيقة في إبانة الشيء عما كان
متصلاً به فإذا أضيف القطع إلى اليد وكان مسمى اليد حقيقةً في جملتها إلى
الكوع وجب حمله على إبانة مسمى اليد وهو جملتها وحيث أطلق قطع اليد عن
إبانة بعض أجزائها عن بعض لا يكون حقيقة بل تجوزاً.
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه لما وجب الاقتصار في قطع يد السارق على قطعه من الكوع لما فيه من مخالفة الظاهر.
قلنا: وإن لزم منه مخالفة الظاهر إلا إنه أولى من القول بالإجمال في كلام الشارع فكان إدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب.
الثاني:
أن القول بالإجمال مما يفضي إلى تعطيل اللفظ عن الأعمال في الحال إلى حين
قيام الدليل المرجح ولا كذلك في الحمل على المجاز: فإنه إن لم يظهر دليل
التجوز عمل باللفظ في حقيقته وإن ظهر عمل به في مجازه من غير تعطيل اللفظ
في الحال ولا في ثاني الحال.
المسألة السادسة اللفظ الوارد إذا أمكن
حمله على ما يفيد معنى واحدا وعلى ما يفيد معنيين قال الغزالي وجماعة من
الأصوليين: هو مجمل لتردده بين هذين الاحتمالين من غير ترجيح.
والذي عليه الأكثر أنه ليس بمجمل بل هو ظاهر فيما يفيد معنيين وهذا هو المختار.
وقبل
الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول: اللفظ الوارد إما أن
يظهر كونه حقيقةً فيما قيل من المحملين مع اختلافهما أو كونه حقيقةً في
أحدهما مجازاً في الآخر أو لم يظهر أحد الأمرين: فإن كان من القسم الأول أو
الثاني فلا معنى للخلاف فيه أما الأول فلتحقق إجماله وأما الثاني فلتحقق
الظهور في أحد المحملين: وإنما النزاع في القسم الثالث: ويجب اعتقاد نفي
الإجمال فيه للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما تقدم في المسألة المتقدمة.
وأما
التفصيل فهو أن الكلام إنما وضع للإفادة ولا سيما كلام الشارع ولا يخفى أن
ما يفيد معنيين أكثر في الفائدة فيجب اعتقاد كون اللفظ ظاهراً فيه.
فإن
قيل: هذا الترجيح معارض بترجيح آخر وهو إن الغالب من الألفاظ الواردة هي
المفيدة لمعنى واحد بخلاف المفيد لمعنيين وعند ذلك فاعتقاد أدراج ما نحن
فيه تحت الأعم الأغلب أغلب.
قلنا: يجب اعتقاد الترجيح فيما ذكرناه وذلك لأنه لا يخلو إما أن يقال بالتساوي بين الاحتمالين أو التفاوت.
القول بالتساوي يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ وامتناع العمل به مطلقا إلى حين قيام الدليل وذلك على خلاف الأصل.
وإن
قبل بالتفاوت والترجيح فإما أن يكون فيما يفيد معنىً واحداً أو فيما يفيد
معنيين: لا سبيل إلى الأول إذ القائل قائلان: قائل يقول بالإجمال ففيه نفي
الترجيح عن المعنيين وقائل يقول بأنه ظاهر راجح فيما يفيد معنيين دون ما
يفيد معنى واحداً فقد وقع الاتفاق على نفي الترجيح فيما يفيد معنى واحداً
فتعين الترجيح لما يفيد معنيين.
المسألة السابعة اختلفوا في اللفظ إذا
أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وعلى الموضوع اللغوي هل هو مجمل أم لا ؟ اللفظ
الوارد من جهة الشارع إذا أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وأمكن حمله على
الموضوع اللغوي: اختلفوا فيه.
فذهب الغزالي إلى أنه مجمل لتردده بين الاحتمالين من غير مزية وذهب غيره إلى أنه ظاهر في الحكم الشرعي وهو المختار.
وذلك
مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " الطواف بالبيت صلاة " فإنه يحتمل أنه أراد
به أنه كالصلاة حكماً في الافتقار إلى الطهارة ويحتمل أنه أراد به أنه
مشتمل على الدعاء الذي هو صلاة لغةً وكقوله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما
فوقهما جماعة فإنه يحتمل أنه أراد به أنهما جماعة حقيقةً ويحتمل أنه أراد
به انعقاد الجماعة بهما وحصول فضيلتها وإنما قلنا بكونه ظاهراً في الحكم
الشرعي للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما ذكرناه فيما تقدم.
وأما
التفصيل فهو أنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث لتعريف الأحكام الشرعية التي
لا تعرف إلا من جهته لا لتعريف ما هو معروف لأهل اللغة فوجب حمل اللفظ عليه
لما فيه من موافقة مقصود البعثة.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الترجيح مقابل
بمثله وبيانه أن حمل اللفظ على الحكم الشرعي المجدد مخالف للنفي الأصلي
بخلاف الحمل على الموضوع الأصلي.
قلنا: إلا أنا لو حملناه على تعريف
الموضوع اللغوي كانت فائدة لفظ الشارع التأكيد بتعريف ما هو معروف لنا ولو
حملناه على تعريف الحكم الشرعي.
كانت فائدته التأسيس وتعريف ما ليس معروفاً لنا وفائدة التأسيس أصل وفائدة التأكيد تبع فكان حمله على التأسيس أولى.
المسألة
الثامنة إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي فهو مجمل عند القاضي
أبي بكر إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي عند المعترف
بالأسماء الشرعية قال القاضي أبو بكر: تفريعاً على القول بالأسماء الشرعية
إنه مجمل.
وقال بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة إنه محمول على المسمى
الشرعي وفصل الغزالي وقال: ما ورد في الإثبات فهو للحكم الشرعي وما ورد في
النهي فهو مجمل ومثال ذلك في طرف الإثبات قوله صلى الله عليه وسلم حين دخل
على عائشة فقال لها: " أعندك شيء ؟فقالت: لا قال إني إذا أصوم " فهو إن حمل
على الصوم الشرعي دل على صحة الصوم بنية من النهار بخلاف حمله على الصوم
اللغوي ومثاله في طرف النهي نهيه عليه السلام عن صوم يوم النحر فإنه إن حمل
على الصوم الشرعي دل على تصور وقوعه لاستحالة النهي عما لا تصور لوقوعه
بخلاف ما إذا حمل على الصوم اللغوي.
والمختار ظهوره في المسمى الشرعي في
طرف الإثبات وظهوره في المسمى اللغوي في طرف الترك: أما الأول: فبيانه بما
تقدم في المسألة التي قبلها ويزيد ها هنا وجه آخر في الترجيح وهو أن
الشارع مهما ثبت له عرف وإن كانت مناطقته لنا بالأمور اللغوية غالبا غير أن
مناطقته لنا بعرفه في موضع له فيه عرف أغلب.
وأما إذا ورد في طرف الترك
كقوله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك " وكنهيه عن بيع الحر
والخمر وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين فإنه لو كان اللفظ ظاهراً في
الصلاة الشرعية والبيع الشرعي لزم أن يكون ذلك متصوراً لاستحالة النهي عما
لا تصور له وهو خلاف الإجماع وأن يكون الشارع قد نهى عن التصرف الشرعي وذلك
ممتنع لما فيه من إهمال المصلحة المعتبرة المرعية في التصرف الشرعي أو أن
يقال مع ظهوره في المسمى الشرعي بتأويله وصرفه إلى المسمى اللغوي وهو على
خلاف الأصل.
ولا يلزم من اطراده عرف الشرع في هذه المسميات في طرف
الإثبات مثله في طرف النهي أو النفي وعلى ما حققناه من تقديم عرف الشرع في
خطابه على وضع اللغة.
فيقدم ما اشتهر من المجاز الذي صار لا يفهم من
اللفظ غيره على الوضع الأصلي الحقيقي وسواء كان ذلك التجوز بطريق نقل
الكلام من محل الحقيقة إلى ما هو خارج عنه كلفظ الغائط أو بطريق تخصيصه
ببعض مسمياته في الحقيقة كلفظ الدابة لأن العرف الطارىء غالب للوضع الأصلي
ولا إجمال فيه.
الصنف الثامن في البيان والمبين ويشتمل على مقدمة ومسائل
أما المقدمة ففي تحقيق معنى البيان والمبين واختلاف الناس في العبارات
الدالة عليهما وما هو المختار في ذلك.
أما البيان فاعلم أنه لما كان
متعلقاً بالتعريف والإعلام بما ليس بمعروف ولا معلوم وكان ذلك مما يتوقف
على الدليل والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل
لم يخرج البيان عن التعريف والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل لعدم معنى
رابع يفسر به البيان فلا جرم اختلف الناس.
فقال أبو بكر الصيرفي من
أصحاب الشافعي وغيره إن البيان هو التعريف وعبر عنه بأنه إخراج الشيء عن
حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي.
وذهب أبو عبد الله البصري وغيره إلى أن البيان هو العلم الحاصل من الدليل.
وذهب
القاضي أبو بكر والغزالي وأكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم
وأبي الحسين البصري وغيرهم إلى أن البيان هو الدليل وهو المختار.
ويدل
على صحة تفسيره بذلك أن من ذكر دليلاً لغيره وأوضحه غاية الإيضاح يصح لغةً
وعرفاً أن يقال تم بيانه وهو بيان حسن إشارة إلى الدليل المذكور.
وإن
لم يحصل منه المعرفة بالمطلوب للسامع ولا حصل به تعريفه ولا إخراج المطلوب
من حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي والأصل في الإطلاق الحقيقة والذي
يخص كل واحد من التعريفين الآخرين.
أما الأول: فلأنه غير جامع لأن ما
يدل على الحكم بدياً من غير سابقة إجمال بيان وهو غير داخل في الحد وشرط
الحد أن يكون جامعاً مانعاً كيف وفيه تجوز وزيادة أما التجوز ففي لفظ الحيز
فإنه حقيقة في الجوهر دون غيره.
وأما الزيادة فما فيه من الجمع بين الوضوح والتجلي وأحدهما كاف عن الآخر والحد مما يجب صيانته عن التجوز والزيادة.
وأما
التعريف الثاني فلأن حصول العلم عن الدليل يسمى تبيناً والأصل في الإطلاق
الحقيقة فلو كان هو البيان أيضاً حقيقة لزم منه الترادف والأصل عند تعدده
الأسماء تعدد المسميات تكثيراً للفائدة ولأن الحاصل عن الدليل قد يكون
علماً وقد يكون ظناً.
وعند ذلك فتخصيص اسم البيان بالعلم دون الظن لا
معنى له مع أن اسم البيان يعم الحالتين وإذا كان النزاع إنما هو في إطلاق
أمر لفظي فأولى ما اتبع ما كان موافقاً للإطلاق اللغوي وأبعد عن الاضطراب
ومخالفة الأصول.
وإذا عرف أن البيان هو الدليل المذكور فحد البيان ما هو
حد الدليل على ما سبق في تحريره ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيداً
للقطع أو الظن وسواء كان عقلياً أو حسياً أو شرعياً أو عرفياً أو قولاً أو
سكوتاً أو فعلاً أو ترك فعل إلى غير ذلك.
وأما المبين فقد يطلق ويراد به
ما كان من الخطاب المبتدإ المستغنى بنفسه عن بيان وقد يراد به ما كان
محتاجاً إلى البيان وقد ورد عليه بيانه وذلك كاللفظ المجمل إذا بين المراد
منه والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترن به ما يدل
على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك.
وأما المسائل فثمان: المسألة
الأولى مذهب الأكثرين أن الفعل يكون بياناً خلافاً لطائفة شاذة ويدل على
ذلك النقل والعقل: أما النقل فما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه عرف
الصلاة والحج بفعله حيث قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم "
.
وأما العقل فهو أن الإجماع منعقد على كون القول بياناً والإتيان
بأفعال الصلاة والحج لكونها مشاهدةً أدل على معرفة تفصيلها من الإخبار عنها
بالقول فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا كانت مشاهدة زيد في الدار أدل على
معرفة كونه فيها من الإخبار عنه بذلك وإذا كان القول بياناً مع قصوره في
الدلالة عن الفعل المشاهد فكون الفعل بياناً أولى.
فإن قيل: أما النقل
فالبيان فيه إنما وقع بالقول لا بالفعل وهو قوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي
وخذوا عني مناسككم " وأما المعقول فهو أن الفعل وإن كان مشاهداً غير أن
زمان البيان به مما يطول ويلزم من ذلك تأخير البيان مع إمكانه بما هو أفضى
إليه وهو القول وذلك ممتنع.
قلنا: أما القول بأن البيان إنما حصل بالقول
ليس كذلك فإنه لم يتضمن تعريف شيء من أفعال الصلاة والحج بل غايته تعريف
أن الفعل هو البيان لذلك.
وأما القول بأن البيان بالفعل مما يفضي إلى
تأخير البيان مع إمكان تقدمه بالقول فهو غير مسلم بل التعريف بالقول وذكر
كل فعل بصفته وهيئته وما يتعلق به أبعد عن التشبث بالذهن من الفعل المشاهد
وربما احتيج في ذلك إلى تكرير في أزمنة تزيد على زمان وقوع الفعل بأزمنة
كثيرة على ما يشهد به العرف والعادة.
وإن سلمنا أن زمان التعريف بالفعل
يكون أطول فليس في ذلك ما يدل على كونه غير صالح للبيان والتعريف والخلاف
إنما هو في ذلك وقد بينا أنه مع صلاحيته للتعريف أدل من القول.
قولهم
إنه يفضي إلى تأخير البيان مع إمكان تقديمه بالقول قلنا: لا يخلو إما أن لا
تكون الحاجة قد دعت إلى البيان في الحال أودعت إليه: فإن كان الأول فلا
محذور في التأخير مع حصول البيان بما هو أدل من القول وإن كان الثاني فلا
نسلم امتناع التأخير على قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما قررناه.
وبتقدير
امتناعه فإنما نسلم ذلك فيما إذا كان التأخير لا لفائدة وأما إذا كان
لفائدة فلا وقد بينا الفائدة في البيان بالفعل من جهة كونه أدل على
المقصود.
المسألة الثانية إذا ورد بعد اللفظ المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح للبيان فالبيان بماذا منهما ؟
والحق
في ذلك أنه لا يخلو إما أن يتوافقا في البيان أو يختلفا: فإن توافقا فإن
علم تقدم أحدهما فهو البيان لحصول المقصود به والثاني يكون تأكيداً إلا إذا
كان دون الأول في الدلالة لاستحالة تأكيد الشيء بما هو دونه في الدلالة.
وإن
جهل ذلك فلا يخلو إما أن يكونا متساويين في الدلالة أو أحدهما أرجح من
الآخر على حسب اختلاف الوقائع والأقوال والأفعال: فإن كان الأول فأحدهما هو
البيان والآخر مؤكد من غير تعيين وإن كان الثاني فالأشبه أن المرجوح هو
المتقدم لأنا فرضنا تأخر المرجوح امتنع أن يكون مؤكداً للراجح إذ الشيء لا
يؤكد بما هو دونه في الدلالة والبيان حاصل دونه فكان الإتيان به غير مفيد
ومنصب الشارع منزه عن الإتيان بما لا يفيد.
ولا كذلك فيما إذا جعلنا المرجوح مقدما فإن الإتيان بالراجح بعده يكون مفيداً للتأكيد ولا يكون معطلاً.
وأما
إن لم يتوافقا في البيان كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعد آية الحج
قال: " من قرن حجاً إلى عمرة فليطف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً "
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه " قرن فطاف طوافين وسعى سعيين " فلا يخلو
إما أن يعرف تقدم أحدهما أو يجهل.
فإن علم التقدم قال أبو الحسين
البصري: المتقدم هو البيان فإن تقدم الفعل كان الطواف الثاني واجباً وإن
تقدم القول كان الطواف الثاني غير واجب وليس بحق بل الحق أن يقال: إن كان
القول متقدماً فالطواف الثاني غير واجب وفعل النبي صلى الله عليه وسلم له
يجب أن يحمل على كونه مندوباً وإلا فلو كان فعله له دليل الوجوب كان ناسخاً
لما دل عليه القول.
ولا يخفى أن الجمع أولى من التعطيل وفعله للطواف
الأول يكون تأكيداً للقول وإن كان الفعل متقدماً فهو وإن دل على وجوب
الطواف الثاني إلا أن القول بعده يدل على عدم وجوبه والقول بإهمال دلالة
القول ممتنع فلم يبق إلا أن يكون ناسخاً لوجوب الطواف الثاني.
الذي دل
عليه الفعل أو أن يحمل فعله على بيان وجوب الطواف الثاني في حقه دون أمته
وأن يحمل قوله على بيان وجوب الأول دون الثاني في حق أمته دونه والأشبه
إنما هو الاحتمال الثاني دون الأول لما فيه من الجمع بين البيانين من غير
نسخ ولا تعطيل.
وأما إن جهل المتقدم منهما فالأولى إنما هو تقدير تقدم
القول وجعله بياناً لوجهين: الأول: أنه مستقل بنفسه في الدلالة بخلاف الفعل
فإنه لا يتم كونه بياناً دون اقتران العلم الضروري بقصد النبي صلى الله
عليه وسلم البيان به أو قول منه يدل على ذلك وذلك مما لا ضرورة تدعو إليه.
الثاني:
أنا إذا قدرنا تقدم القول أمكن حمل الفعل بعده على ندبية الطواف الثاني
كما تقدم تعريفه ولو قدرنا تقدم الفعل يلزم منه إما إهمال دلالة القول أو
كونه ناسخاً لحكم الفعل أو أن يكون الفعل بياناً لوجوب الطواف الثاني في حق
النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته والقول دليل عدم وجوبه في حق أمته دونه
والإهمال والنسخ على خلاف الأصل والافتراق بين النبي صلى الله عليه وسلم
والأمة في وجوب الطواف الثاني مرجوح بالنظر إلى ما ذكرناه من التشريك لكون
التشريك هو الغالب دون الافتراق.
المسألة الثالثة هل يجب أن يكون البيان
مساوياً للمبين في القوة أو يجوز أن يكون أدنى منه قال الكرخي: لا بد من
المساواة وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يكون أدنى منه.
وهل يجب أن يكون مساويا للمبين في الحكم؟ فمنهم من قال به ومنهم من نفاه.
والمختار
في ذلك أن يقال: أما المساواة في القوة فالواجب أن يقال: إن كان المبين
مجملاً كفى في تعيين أحده احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاماً أو
مطلقاً فلا بد وأن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على
صورة التخصيص.
ودلالة المطلق على صورة التقييد وإلا فلو كان مساوياً لزم الوقف ولو كان مرجوحا لزم منه إلغاء الراجح بالمرجوح وهو ممتنع.
وأما
المساواة بينهما في الحكم فغير واجب وذلك لأنه لو كان ما دل عليه البيان
من الحكم هو ما دل عليه المبين لم يكن أحدهما بياناً للآخر.
وإنما يكون أحد الأمرين بياناً للآخر إذا كان دالاً على صفة مدلول الآخر لا على مدلوله ومع ذلك فلا اتحاد في الحكم.
فإن قيل: المراد من الاتحاد في الحكم أنه إن كان حكم المبين واجباً كان بيانه واجباً وإن لم يكن واجباً لم يكن البيان واجباً.
قلنا:
لا يخلو إما أن لا تكون الحاجة داعيةً إلى البيان في الحال أو هي داعية:
فإن كان الأول فالبيان غير واجب على ما سيأتي وسواء كان حكم المبين واجباً
أو لم يكن وإن كان الثاني فعلى قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما
تقرر فالبيان أيضاً لا يكون واجباً وإن كان الحكم المبين واجباً.
وأما
إذا قلنا بامتناع التكليف بما لا يطاق فالحق ما قالوه وذلك لأنه إذا كان
المبين واجباً فلو لم يكن البيان واجباً لجاز تركه ويلزم من ذلك التكليف
بما لا يطاق وهو خلاف الفرض.
وإذا كان المبين غير واجب فالقول بعدم
إيجاب البيان لا يفضي إلى التكليف بما لا يطاق إذ لا تكليف فيما ليس بواجب
لأن ما لا يكون واجب الفعل ولا واجب الترك فهو إما مندوب أو مباح أو مكروه
وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة لا تكليف فيه على ما تقدم.
ولا يلزم من
القول بالوجوب حذراً من تكليف ما لا يطاق الوجوب مع عدم التكليف أصلاً
اللهم إلا أن ينظر إلى التكليف بوجوب اعتقاده على ما هو عليه من إباحة أو
ندب أو كراهة فيكون من القسم الأول.
المسألة الرابعة في جواز تأخير
البيان أما عن وقت الحاجة فقد اتفق الكل على امتناعه سوى القائلين بجواز
التكليف بما لا يطاق ومدار الكلام من الجانبين فقد عرف فيما تقدم.
وأما
تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ففيه مذاهب: فذهب أكثر أصحابنا وجماعة
من أصحاب أبي حنيفة إلى جوازه وذهب بعض أصحابنا كأبي إسحاق المروزي وأبي
بكر الصيرفي وبعض أصحاب أبي حنيفة والظاهرية إلى امتناعه وذهب الكرخي
وجماعة من الفقهاء إلى جواز تأخير بيان المجمل دون غيره.
وذهب بعضهم إلى
جواز تأخير بيان الأمر دون الخبر وذهب الجبائي وابنه والقاضي عبد الجبار
إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره وذهب أبو الحسين البصري إلى جواز تأخير
بيان ما ليس له ظاهر كالمجمل وأما ما له ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره
كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه فقال يجوز تأخير بيانه التفصيلي ولا يجوز
تأخير بيانه الإجمالي وهو أن يقول وقت الخطاب: هذا العموم مخصوص وهذا
المطلق مقيد وهذا الحكم سينسخ.
وإذا عرف تفصيل المذاهب فقد احتج أصحابنا القائلون بجواز التأخير مطلقاً بحجج نقلية وعقلية.
إما
النقلية فالحجة الأولى منها قوله تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه فإذا
قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه " القيامة 18 ووجه الاحتجاج به أنه
قال: " فإذا قرأناه " معناه أنزلناه ويدل على ذلك قوله تعالى: " فاتبع
قرآنه " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع بفاء التعقيب لقوله " فإذا
قرأناه " ولا يتصور ذلك قبل الإنزال لعدم معرفته به وإنما يكون بعد
الإنزال.
وإذا كان المراد بقوله: " قرأناه " الإنزال فقوله " ثم إن
علينا بيانه " يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال لأن ثم للمهلة والتراخي
على ما سبق تقريره.
ولقائل أن يقول: وإن كان المراد من قوله تعالى: "
فإذا قرأناه " الإنزال ولكن لا نسلم أن المراد من قوله: " ثم إن علينا
بيانه " القيامة 19بيان مجمله وخصوصه وتقييده ومنسوخه بل المراد منه إظهاره
وإشهاره وهو على وفق الظاهر لأن البيان هو الإظهار في اللغة ومنه يقال:
بان لنا الكوكب الفلاني وبان لنا سور المدينة إذا ظهر ويقال بين فلان الأمر
الفلاني إذا أظهره وعند ذلك فليس حمله على ما ذكر من بيان المراد من
المجمل والعام والمطلق أولى مما ذكرناه.
كيف وإن الترجيح لهذا المعنى من
جهة أن المراد من قوله تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه " إنما هو جميع
القرآن فإنه ليس اختصاص بعضه بذلك أولى من بعض وأيضا فإنه أمر النبي صلى
الله عليه وسلم بالاتباع بقوله: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة 18
والأمر بذلك غير خاص ببعض القرآن دون البعض إجماعاً ولأنه لا أولوية للبعض
دون البعض ولأنه لو حمل ذلك على البعض دون البعض مع كونه غير معين في اللفظ
كان مجملاً وتكليفاً له بما ليس بمعلوم له وهو خلاف الأصل.
وإذا ثبت
أن المراد من قوله من أول الآية إنما هو جميع القرآن فالظاهر أن يكون
الضمير في قوله تعالى: " ثم إن علينا بيانه " القيامة 19 عائد إلى جميع
المذكور السابق وهو جملة القرآن لا إلى بعضه لعدم الأولوية.
وإنما يمكن
ذلك بحمل البيان على ما ذكرناه لا على ما ذكروه لاستحالة افتقار كل القرآن
إلى البيان بالمعنى الذي ذكروه فإنه ليس كل القرآن مجملاً ولا ظاهراً في
معنى وقد استعمل في غيره فكان ما ذكرناه أولى.
وهذا إشكال مشكل وفي تحريره وتقريره على هذا الوجه يتبين للناظر المتبحر فيه إبطال كل ما يخبط به بعض المخبطين.
وإن
سلمنا أن المراد به إنما هو بيان المراد من الظاهر الذي استعمل في غير ما
هو الظاهر منه لكن ما المانع أن يكون المراد به البيان التفصيلي كما قاله
أبو الحسين البصري؟ فإن قيل: لا يمكن ذلك لأن لفظ البيان مطلق فحمله على
البيان التفصيلي يكون تقييداً له وتقييد المطلق من غير دليل ممتنع.
قلنا:
وإذا كان مطلقاً فالمطلق لا يمكن حمله على جميع صوره وإلا كان عاماً لا
مطلقاً بل غايته أنه إذا عمل به في صورة فقد وفى بالعمل بدلالته.
وعند
ذلك فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيلي يكون
تقييدا للمطلق وهو ممتنع من غير دليل وإن لم يقل بتنزيله عليه فلا حجة فيه.
وإن
سلمنا أن المراد به البيان الإجمالي والتفصيلي غير أنه قد تعذر العمل
بظاهر ثم من حيث إنها تدل على وجوب تأخير بيان كل القرآن ضرورة عود الضمير
إلى الكل على ما سبق وذلك خلاف الإجماع.
وإذا تعذر العمل بظاهرها وجب
العمل بها في مجازها وهو حملها على معنى الواو كما في قوله تعالى: " فإلينا
مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون " يونس 46 فإن ثم هاهنا بمعنى الواو
ولاستحالة كون الرب شاهداً بعد أن لم يكن شاهداً.
الحجة الثانية قوله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " هود 1 و ثم للتأخير.
ولقائل
أن يقول: لا نسلم أن المراد من التفصيل بيان المراد من المجمل والظاهر
والمستعمل في غير ما هو ظاهر فيه بل المراد من قوله: أحكمت أي في اللوح
المحفوظ وفصلت في الإنزال.
الحجة الثالثة قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " طه 114 وأراد به بيانه للناس.
ولقائل
أن يقول: ظاهر ذلك للمنع من تعجيل نفس القرآن لا بيان ما هو المراد منه
لما فيه من الإضمار المخالف للأصل وإنما منعه من تعجيل القرآن أي من تعجيل
أدائه عقيب سماعه حتى لا يختلط عليه السماع بالأداء وإلا فلو أراد به
البيان لما منعه عنه بالنهي للاتفاق على أن تعجيل البيان بعد الأداء غير
منهي عنه.
الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة معينة
غير منكرة بقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " البقرة 67 ولم
يعينها إلا بعد سؤالهم.
ودليل كون المأمور به معيناً أمران الأول أنهم
سألوا تعيينها بقولهم له: " ادع لنا ربك يبين لنا ما هي " البقرة 68 وما
لونها ولو كانت منكرة لما احتيج إلى ذلك للخروج عن العهدة بأي بقرة كانت.
الثاني
أن قوله تعالى: " إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر " البقرة 68 و إنها
بقرة صفراء و إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث " والضمير في
هذه الكنايات يجب صرفه إلى ما أمروا به أولا.
وبيانه من وجهين: الأول
أنه لو لم يكن كذلك لكان تكليفاً بأمور مجددة غير ما أمروا به أولاً ولو
كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا وهو
خلاف الإجماع على أن المأمور به كان متصفاً بجميع الصفات المذكورة الثاني
أنه لو لم يكن كذلك للزم منه أن لا يكون الجواب مطابقاً للسؤال وهو خلاف
الأصل.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن البقرة المأمور بها كانت معينةً في
نفس الأمر بل منكرة مطلقاً فلا تكون محتاجة إلى البيان لإمكان الخروج عن
العهدة بذبح أي بقرة اتفقت ولا يكون ذلك من صور النزاع.
قولهم إنهم
سألوا عن تعيينها ولو أمروا بمنكر لما سألوا عن تعيينه قلنا ظاهر الأمر يدل
على التنكير حيث قال: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " .
والقول
بالتعيين مخالف للتنكير المفهوم من اللفظ وليس الحمل على التعيين ضرورة
تصحيح سؤالهم ومخالفة ظاهر النص أولى من العكس بل موافقة ظاهر لنص أولى.
قولكم في الوجه الثاني: إن الضمير في جميع الكنايات عائد إلى المأمور به أولاً لا نسلم ذلك.
قولهم
لو لم يكن كذلك لكان ذلك تكليفاً بأمور مجددة مسلم وما المانع منه؟ قولكم:
لو كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا لا
نسلم ذلك وما المانع أن يكون قد أوجب عليهم بعد السؤال الأول ذبح بقرة
متصفة بالصفات المذكورة أولاً ثم أوجب بعد ذلك اعتبار الصفات المذكورة
ثانياً ولا منافاة بين الحالتين.
قولكم: لو كان كذلك لما كان الجواب
مطابقاً للسؤال وهو خلاف الأصل فهو معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه قال: لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأتهم لكنهم شددوا على أنفسهم
فشدد الله عليهم.
وهذا يدل على أن ذلك كان ابتداء إيجاب لا بياناً لأن
البيان ليس بتشديد بل تعيين ما هو الواجب ولا يخفى أن موافقة ظاهر النص
الدال على تنكير البقرة وظاهر قول ابن عباس أولى من موافقة ما ذكروه من
لزوم مطابقة الجواب للسؤال لما فيه من موافقة أصلين ومخالفة أصل واحد وما
ذكروه بالعكس.
ثم وإن سلمنا أن المأمور به كان بقرة معينة في نفس الأمر غير أنهم سألوا البيان الإجمالي أو التفصيلي؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
ولا
يلزم من جواز تأخير البيان التفصيلي تأخير البيان الإجمالي كما هو مذهب
أبي الحسين البصري وليس تقييد سؤالهم بطلب البيان مع إطلاقه بالإجمالي أولى
من التفصيلي ولا محيص عنه.
وربما أورد على هذا الاحتجاج ما لا اتجاه له
كقولهم: ما المانع أن يكون البيان مقارناً للمبين غير أنهم لم يتبينوا أن
الأمر بالذبح كان ناجزاً وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع أما أولا فلأنه
لو كان البيان حاصلاً لفهموه ظاهراً ولما سألوا عنه.
وأما ثانياً فلأن
الأمر بالذبح كان مطلقاً والأمر المطلق على التراخي عند صاحب هذه الحجة على
ما سبق تقريره ولو كان على الفور فتأخير بيانه عنه أيضاً غير ممتنع على
أصله لكونه قائلاً بجواز التكليف بما لا يطلق كما سبق تحقيقه.
الحجة
الخامسة: أنه لما نزل قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
أنتم لها واردون " الأنبياء 98 قال عبد الله بن الزبعري: فقد عبدت الملائكة
والمسيح أفتراهم يعذبون والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه بل سكت
إلى حين ما نزل بيان ذلك بعد حين وهو قوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
أولئك عنها مبعدون " الأنبياء 101 وذلك يدل على جواز التأخير.
ولقائل أن
يقول: لا نسلم أن الآية لم تكن بينة حتى أنها تحتاج إلى بيان فإن الملائكة
والمسيح إنما يمكن القول بدخولهم في عموم الآية إذ لو كانت ما تتناول من
يعلم ويعقل وهو غير مسلم وإذا لم تكن متناولة لهم فلا حاجة إلى إخراج ما لا
دخول له في الآية عنها.
فإن قيل: دليل تناول ما لمن يعلم ويعقل النص والإطلاق والمعنى.
أما
النص فقوله تعالى: " وما خلق الذكر والأنثى " الليل 3 وقوله تعالى: "
والسماء وما بناها " الشمس 5 وقوله تعالى: " ولا أنتم عابدون ما أعبد "
الكافرون 3 وأما الإطلاق فمن وجهين: الأول أن ما قد تطلق بمعنى الذي باتفاق
أهل اللغة و الذي يصح إطلاقها على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيد فما
كذلك الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار.
وأما المعنى
فمن وجهين: الأول هو أن ابن الزبعرى كان من فصحاء العرب وقد فهم تناول ما
لمن يعقل والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك.
الثاني أن ما لو
كانت مختصة بمن لا يعلم لما احتيج إلى قوله: " من دون الله " وحيث كانت
بعمومها متناولة لله تعالى احتاج إلى التقييد بقوله: من دون الله.
قلنا:
أما ما ذكروه من النصوص والإطلاقات فغايتها جواز إطلاق ما على من يعقل
ويعلم ولا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه بل هي ظاهرة فيمن لا يعقل.
ودليل
ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن الزبعري لما ذكر ما ذكر راداً عليه
بقوله: ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل و من لمن يعقل.
ولا
يخفى أن الجمع بين الأمرين والتوفيق بين الأدلة أولى من تعطيل قول النبي
صلى الله عليه وسلم والعمل بما ذكروه وإذا كانت ما ظاهرةً في من لا يعقل
دون من يعقل وجب تنزيلها على ما هي ظاهرة فيه.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
والوجه في الجواب أن نقول: دلالة الخطاب على التأبيد لا يلزمها التأبيد
مع القول بجواز النسخ فإذا اعتقد المكلف التأبيد فالجهل إنما جاءه من قبل
نفسه لا من قبل ما اقتضاه الخطاب بل الواجب أن يعتقد التأبيد بشرط عدم
الناسخ ثم وان أفضى ذلك إلى الجهل في حق العبد فالقول بقبح ذلك من الله
تعالى مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه فيما تقدم.
ثم متى يكون ذلك قبيحاً إذا استلزم مصلحة تربو على مفسدة جهله أو إذا لم يكن كذلك؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وبيان
لزوم المصلحة الزائدة هنا ما فيه من زيادة الثواب باعتقاده دوام ما أمر به
والعزم على فعله والانقياد لقضاء الله وحكمه في الأمر والنهي كيف وإن ما
ذكروه منتقض بما يحدثه الله تعالى للعبد من الغنى والصحة فإن ذلك مما يوجب
اعتقاد دوامه له مع جواز إزالته بالفقر والمرض.
قولهم في الوجه الثاني إنه يفضي إلى تعجيز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد ليس كذلك لجواز أن يخلق لنا العلم الضروري بذلك.
وما
ذكروه في الوجه الثالث فمندفع فإنه إن كان اللفظ الوارد في الخطاب مما لا
يحتمل التأويل فالوثوق به حاصل لا محالة وإن كان مما يحتمل التأويل فيجب أن
يكون الوثوق به على حسب ما اقتضاه الظاهر لا قطعاً وذلك غير مستحيل.
وما
ذكروه في الوجه الرابع فغير صحيح فإنا لا نمنع من جواز نسخ شرعنا عقلاً
وإنما نمنع منه شرعاً لورود خبر الصادق بذلك عندنا وهو قوله تعالى: " وخاتم
النبيين " الأحزاب 40 وقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا إنه لا نبي بعدي "
والخلاف في خبر الصادق محال ومع ذلك فإنا لا نحيل عقلاً أن يكون ذلك الخبر
مشروطاً بقيد.
قولهم: لو جاز رفع الحكم إما أن يكون قبل وقوعه فمندفع
فإنا وإن أطلقنا لفظة الرفع في النسخ إنما نريد به امتناع استمرار المنسوخ
وأنه لولا الخطاب الدال على الانقطاع لاستمر وذلك لا يلزم عليه شيء مما
قيل.
قولهم: الفعل المأمور به إما أن يكون حسناً أو قبيحاً فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه.
قولهم:
إما أن يكون طاعةً أو معصيةً قلنا هو طاعة حالة كونه مأموراً ومعصية حالة
كونه منهياً فالطاعة والمعصية ليست من صفات الأفعال بل تابعة للأمر والنهي.
قولهم:
إما أن يكون مراداً أو مكروهاً لا نسلم الحصر لجواز أن لا يكون مراداً ولا
مكروهاً إذ الإرادة والكراهة عندنا غير لازمة للأمر والنهي وبتقدير أن
يكون ما أمر به مراداً جاز أن يكون مراداً حالة الأمر دون حالة النهي.
قولهم:
المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ ليس كذلك فإنه قال تعالى: "
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة 106 والقرآن خير
كله من غير تفاوت فيه فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح
المحفوظ وكتابة أخرى بدلها لما تحقق هذا الوصف وإنما يتحقق الخيرية بالنسبة
إلينا فيما يرجع إلى أحكام الآيات المرفوعة عنا والموضوعة علينا من حيث إن
البعض قد يكون أخف من البعض فيما يرجع إلى تحمل المشقة أو أن ثواب البعض
أجزل من ثواب البعض على اختلاف المذاهب فوجب حمل النسخ على نسخ أحكام
الآيات لا على ما ذكروه.
وأما منع كون شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لشرع من تقدم فمخالف لإجماع السلف قاطبةً.
والكلام
في هذا المقام إنما هو مع منكر النسخ من الإسلاميين وما يذكرونه في تقدير
ذلك فسيأتي الجواب عنه أيضاً وأما ما ذكروه على باقي صور النسخ فهو أيضاً
خلاف إجماع السلف كيف وإن ما ذكروه من التخريج لا وجه له.
قولهم إن
التوجه إلى بيت المقدس لم يزل بالكلية قلنا: لا خلاف أنه كان يجب التوجه
إليه حالة عدم الإشكال والعذر وقد زال ذلك بالكلية فكان نسخاً.
قولهم إن
وجوب تقديم الصدقة إنما زال لزوال سببه قلنا: الأصل بقاء السبب وما ذكروه
من السبب يلزم منه أن كل من لم يتصدق من الصحابة أن يكون منافقاً ولم يتصدق
أحد منهم سوى علي عليه السلام على ما نقله الرواة وذلك ممتنع.
قولهم إن
وجوب التربص لم يزل بالكلية قلنا: لا خلاف بين أهل الملة في أنه كان
التربص حولاً كاملاً واجباً سواء كانت مدة الحمل سنةً أو لم تكن وذلك مما
رفع بالكلية.
وما ذكروه من امتناع نسخ القرآن بقوله: " لا يأتيه
الباطل " فصلت 42 الآية فليس فيه ما يدل على امتناع النسخ إلا أن يكون
النسخ إبطالاً له وليس كذلك.
وبيانه أن النسخ لا معنى له سوى قطع الحكم
الذي دل عليه اللفظ مع كون المخاطب مريداً لقطعة على ما سبق وذلك لا يكون
إبطالاً له بل تحقيقاً لمقصوده.
وما ذكروه من قول موسى فمختلق لم تثبت
صحته عن موسى عليه السلام وقد قيل إن أول من وضع ذلك لهم ابن الراوندي
ليعارض به دعوى الرسالة من محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر من تسمحه في
الدين.
ويدل على ذلك أن أحبارهم ككعب الأحبار وابن سلام ووهب ابن منبه
وغيرهم كانوا أعرف من غيرهم بما في التورية وقد أسلموا ولم يذكروا شيئاً من
ذلك: ولو كان ذلك صحيحاً لكان من أقوى ما يتمسك به اليهود في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم في معارضته.
ولم ينقل عنهم شيء من ذلك ثم أنهم
مختلفون في نفس متن الحديث فإن منهم من قال الحديث إن أطعتموني لما أمرتكم
به ونهيتكم عنه ثبت ملككم كما ثبتت السموات والأرض وليس في ذلك ما يدل على
إحالة النسخ.
وإن سلمنا صحة ما نقلوه فيحتمل أنه أراد بالشريعة التوحيد
ويحتمل أنه أراد بقوله: مؤبدة ما لم تنسخ بشريعة نبي آخر ومع احتمال هذه
التأويلات فلا يعارض قوله ما ظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم من
المعجزات القاطعة الدالة على صدقه في دعواه الرسالة ونسخ شريعة من تقدم كيف
وإن لفظ التأبيد قد ورد في التورية ولم يرد به الدوام كقوله: إن العبد
يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم
أبداً وكقوله في البقرة التي أمروا بذبحها هذه سنة لكم أبداً وكقوله قربوا
كل يوم خروفين قرباناً دائماً.
وأما العيسوية فيمتنع عليهم بعد التسليم
بصحة رسالته وصدقه في دعواه بما اقترن بها من المعجزة القاطعة تكذيبه فيما
ورد به التواتر القاطع عنه بدعوى البعثة إلى الأمم كافةً ونزول القرآن بذلك
وهو قوله تعالى: " يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً " الأعراف
158 وقوله تعالى: " وما أرسلناك إلا كافةً للناس " سبأ 28 وقال في وصف ما
أنزل عليه هذا هدىً للناس ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت إلى
الأحمر والأسود " وقوله: " بعثت إلى الناس كافةً " وقوله: " لو كان أخي
موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي " ويدل على ذلك ما اشتهر عنه وتواتر من
دعائه لطوائف الجبابرة والأكاسرة.
وتنفيذه إلى أقاصي البلاد وطلب الدخول في ملته والقتال لمن جاحده من العرب وغيرهم في نبوته والله أعلم.
المسألة
الثانية اتفق القائلون بجواز النسخ على جواز نسخ حكم الفعل بعد خروج وقته
واختلفوا في جواز ذلك قبل دخول الوقت وذلك كما لو قال الشارع في رمضان حجوا
في هذه السنة ثم قال قبل يوم عرفة لا تحجوا.
فذهبت الأشاعرة وأكثر
أصحاب الشافعي وأكثر الفقهاء إلى جوازه ومنع من ذلك جماهير المعتزلة وأبو
بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل والمختار
جوازه وقد احتج الأصحاب بحجج ضعيفة.
الحجة الأولى قوله تعالى: " يمحو
الله ما يشاء ويثبت " الرعد 39 دل على أنه يمحو كل ما يشاء محوه على كل وجه
فيدخل فيه محو العبادة قبل دخول وقتها ولا دلالة فيه لأن الآية إنما تدل
على محو كل ما يشاء محوه وليس فيها ما يدل على أنه يشاء محو العبادة قبل
دخول وقتها مع كون ذلك ممتنعاً عند الخصم وإن بين إمكان مشيئة ذلك بغير
الآية ففيه ترك الاستدلال بالآية كيف وإنه قد أمكن حمل المحو على ما هو
حقيقة فيه وهو محو الكتابة مما يكتبه الملكان من المباحات وتبقيه المعاصي
والطاعات.
ومنهم من احتج بقصة إبراهيم عليه السلام وأمر الله له بذبح
ولده ونسخه عنه بذبح الفداء ودليل أمره بذلك انه قد روي انه تعالى قال
لإبراهيم: اذبح ولدك وروي واحدك والقرآن دل عليه بقوله: " يا بني إني أرى
في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر " الصافات 102
وانه نسخ بذبح الفدا بقوله: " وفديناه بذبح عظيم " الصافات 107 وهذا أيضاً
مما يضعف الاحتجاج به جداً غير أنه قد وجه الخصوم على هذه الحجة اعتراضات
واهية لا بد من ذكرها والإشارة إلى الانفصال عنها تكثيراً للفائدة ثم نذكر
بعد ذلك وجه الضعيف في الآية المذكورة.
أما الأسئلة فأولها أنهم
قالوا إن ذلك إنما كان مناماً لا أصل له فلا يثبت به الأمر ولهذا قال: إني
أرى في المنام سلمنا أن منامه أصل يعتمد عليه ولكن لا نسلم أنه كان قد أمر.
وقول
ولده: افعل ما تؤمر ليس فيه دلالة على أنه كان قد أمر ولهذا علقه على
المستقبل ومعناه: افعل ما يتحقق من الأمر في المستقبل سلمنا أنه كان
مأموراً.
لكن لا نسلم أنه كان مأموراً بالذبح حقيقةً بل بالعزم على
الذبح امتحاناً له بالصبر على العزم وذلك بلاء عظيم والفداء إنما كان عما
يتوقعه من الأمر بالذبح لا عن نفس وقوع الأمر بالذبح أو بمقدمات الذبح من
إخراجه إلى الصحراء وأخذ المدية والحبل وتله للجبين فاستشعر إبراهيم أنه
مأمور بالذبح ولذلك قال تعالى: " قد صدقت الرؤيا " الصافات 105 سلمنا أنه
كان مأموراً بالذبح حقيقةً إلا أنه قد وجد منه فإن قد روي أنه كان كلما قطع
جزءاً عاد ملتحماً إلى آخر الذبح ولهذا قال الله تعالى: " قد صدقت الرؤيا "
الصافات 105 وإذا كان ما أمر به من الذبح قد وقع فالفداء لا يكون نسخاً.
سلمنا
أن الذبح حقيقةً لم يوجد لكن قد روي أن الله تعالى منعه من الذبح بأن جعل
على عنق ولده صفيحةً من نحاس أو حديد مانعةً من الذبح لا أن ذلك كان بطريق
النسخ.
والجواب عن الأول أن منام الأنبياء فيما يتعلق بالأوامر والنواهي
وحي معمول به وأكثر وحي الأنبياء كان بطريق المنام وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أن وحيه كان ستة أشهر بالمنام ولهذا قال عليه السلام: "
الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة " فكانت نسبة الستة أشهر
من ثلاثة وعشرين سنةً من نبوته كذلك ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم
ما احتلم نبي قط يعني ما تشكل له الشيطان في المنام على الوجه الذي يتشكل
لأهل الاحتلام كيف وإنه لو كان ذلك خيالاً لا وحياً لما جاز لأبراهيم العزم
على الذبح المحرم بمنام لا أصل له ولما سماه بلاء مبيناً ولما احتاج إلى
الفداء.
وعن الثاني أن قوله: افعل ما تؤمر " وإن لم يكن ظاهراً في الماضي لكنه قد يرد ويراد به الماضي.
ولهذا
فإنه لو قال القائل: قد أمرني السلطان بكذا فإنه يصح أن يقال له: افعل ما
تؤمر أي ما أمرت به وأنت مأمور ويجب الحمل عليه ضرورة حمل الولد على إخراجه
إلى الصحراء وأخذ آلات الذبح وترويع الولد فإن ذلك كله مما يحرم من غير
أمر ولا إذن في ذلك.
وعن الثالث أن حمل الأمر على العزم أو على مقدمات
الذبح على خلاف قوله: " إني أرى في المنام أني أذبحك " الصافات 102 ثم لو
كان مأموراً بالعزم على الذبح ومقدمات الذبح لا غير لما سماه بلاء مبيناً
ولما احتاج إلى الفداء لكون المأمور به مما وقع ولما قال الذبيح: " ستجدني
إن شاء الله من الصابرين " الصافات 102 فإن ذلك مما لا ضرر عليه فيه.
وقوله:
" قد صدقت الرؤيا " معناه أنك عملت في المقدمات عمل مصدق للرؤيا بقلبه لكن
لقائل أن يقول: إذا كان قد أمر بإخراج الولد إلى الصحراء وأخذ المدية
والحبل وتله للجبين مع إبهام عاقبة الأمر عليه وعلى ولده فإنه يظهر من ذلك
لهما أن عاقبة الأمر إنما هي الذبح وذلك عين البلاء به يتحقق قول الذبيح: "
ستجدني إن شاء الله من الصابرين " الصافات 102 وأما تسمية الكبش فداء
فإنما كان عن الأمر المتوقع لا عن الأمر الواقع غير أن هذا مما لا يستقيم
على أصل أبي الحسين البصري لما فيه من توريط المكلف في الجهل حيث أوجب عليه
ما يظهر منه الأمر بالذبح ولا أمر.
وعن الرابع أنه لو كان قد أتى بما
أمر به من الذبح لما احتاج إلى الفداء ولا اشتهر ذلك وظهر لأنه من أكبر
الآيات الباهرات وحيث لم ينقله سوى بعض الخصوم دل على ضعفه.
وعن الخامس
أن ذلك من المعتزلة لا يصح لأنهم لا يرون التكليف بما لا يطاق وهذا تكليف
بما لا يطاق كيف وإنه لو كان كما ذكروه لنقل أيضاً واشتهر لكونه من
المعجزات العظيمة هذا ما في هذه الأسئلة والأجوبة.
وأما وجه الضعف في
الاحتجاج بقصة إبراهيم فمن جهة أن لقائل أن يقول: وإن سلمنا أنه نسخ عنه
الأمر بالذبح لكن لا نسلم أنه نسخ قبل التمكن من الامتثال بل إنما كان ذلك
بعد التمكن من الامتثال والخلاف إنما هو فيما قبل التمكن لا بعده.
ولا سبيل إلى بيان أنه نسخ قبل التمكن من
الامتثال
إلا بعد بيان أن مطلق الأمر يقتضي الوجوب على الفور أو أن وقت الأمر كان
مضيقاً لا يجوز التأخير عنه للنبي عليه السلام وأن النبي عليه السلام لا
يجوز عليه صغائر المعاصي والكل ممنوع على ما عرف.
الحجة الثانية أن الله
تعالى نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل
فعلها وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً يوم الحديبية على
رد من هاجر إليه ثم نسخ ذلك قبل الرد بقوله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات
فلا ترجعوهن إلى الكفار " الممتحنة 10 وأيضاً فإن الإجماع من الخصوم واقع
على أن الله تعالى لو أمرنا بالمواصلة في الصوم سنة جاز أن ينسخه عنا بعد
شهر منها وذلك نسخ للصوم فيما بقي من السنة قبل حضور وقته وأيضاً فإن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " أحلت لي مكة ساعةً من نهار " ومع ذلك منع من
القتال فيها وهو نسخ قبل وقت الفعل.
وهذه الحجج أيضاً ضعيفة.
أما
الأولى فلأن لقائل أن يقول: لا نسلم أن نسخ تقديم الصدقة كان قبل التمكن من
الوقت ويدل عليه أمران: الأول عتاب الله لهم بقوله: " أأشفقتم أن تقدموا
بين يدي نجواكم صدقة فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم " المجادلة 13 الآية
ولو لم يكن وقت الفعل قد حضر لما حسن ذلك الثاني أن علياً رضي الله عنه
ناجى بعد تقديم الصدقة وذلك يدل على حضور وقت الفعل.
وأما الثانية فلأنه
لا يمتنع أن يكون ذلك بعد مضي وقت تمكن المهاجرة فيه إليه مع ردهن ولا
دليل على وقوع نسخ ذلك قبل دخول وقت الفعل فلا يكون حجةً.
وأما الثالثة
فلأن النسخ ورد على بعض ما تناوله اللفظ فكان بياناً أن مراده من اللفظ
إنما هو بعض السنة ويكون النهي متناولاً لغير ما تناوله الأمر وذلك غير
ممتنع وهذا بخلاف ما إذا نسخ قبل دخول شيء من الوقت لأن النهي يكون
متناولاً لغير ما تناوله الأمر ولا يلزم من جواز ذلك ثم جوازه هاهنا.
وأما
الرابعة فلأن إباحة القتال في تلك الساعة لا يقتضي وقوع القتال ولا بد
وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون النهي عن القتال بعد مضي تلك الساعة ولا دليل
يدل على وقوع النسخ قبل دخول الوقت كيف وأنه لا دلالة في قوله: أحلت لي مكة
ساعةً على إباحة القتال بل لعله أراد بذلك إباحة قتل أناس معينين كابن خطل
وغيره فالنهي عن القتال لا يكون نسخاً لإباحة القتال.
والأقرب في ذلك
حجتان: الحجة الأولى التمسك بقصة الإسراء وهو ما صح بالرواية أن الله تعالى
فرض ليلة الإسراء على نبيه وعلى أمته خمسين صلاةً فأشار عليه موسى بالرجوع
وقال له: أمتك ضعفاء لا يطيقون ذلك فاستنقص الله ينقصك وأنه قبل ما أشار
عليه وسأل الله في ذلك فنسخ الخمسين إلى أن بقي خمس صلوات وذلك نسخ لحكم
الفعل قبل دخول وقته.
الحجة الثانية أنه يجوز أن يأمر الله تعالى زيداً
بفعل في الغد ويمنعه منه بمانع عائق له عنه قبل الغد فيكون مأموراً بالفعل
في الغد بشرط انتفاء المانع.
وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء المانع مع
تعقيبه بالمنع جاز الأمر بالفعل بشرط انتفاء الناسخ مع تعقيبه بالنسخ إذ
الفعل لا يفرق بين الحالتين وهو إلزام ملزم.
فإن قيل أما قصة الإسراء
فهي خبر واحد فلا يمكن إثبات مثل هذه المسألة به وإن كان حجةً إلا أنه
يقتضي نسخ حكم الفعل قبل التمكن وقبل تمكن المكلف من العلم به لنسخه قبل
الإنزال وذلك مما لا يحصل معه الثواب بالعزم على الادواء والاعتقاد لوجوبه
ولم يقولوا به.
وأما الحجة الثانية فلا نسلم أنه يجوز أن يأمر زيداً في
الغد ويمنعه منه قبل الغد لأنه لا يخلو إما أن يأمره مطلقاً ويريد منه
الفعل أو بشرط زوال المنع فإن كان الأول فمنعه منه بعد ذلك يكون تكليفاً
بما لا يطاق وهو محال.
وإن كان الثاني فالأمر بالشرط مما لا يجوز وقوعه
من العالم بعواقب الأمور على ما سبق تقريره في الأوامر وهذا بخلاف ما إذا
أمر جماعة بفعل في الغد فإنه يجوز أن يمنع بعضهم من الفعل لأن ذلك يدل على
أنه لم يرد بخطابه من علم منعه وإذا لم يجز في المنع فكذلك في النسخ.
ثم
ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من وجوه: الوجه الأول: أنه إذا
نهى المكلف عن الفعل الذي أمر به قبل دخول وقته فالأمر والنهي قد تواردا
على شيء واحد من جهة واحدة في وقت واحد وهو محال وذلك لأن الفعل في نفسه في
ذلك الوقت إما أن يكون حسناً أو قبيحاً.
وعند ذلك فلا يخلو الباري
تعالى عند الأمر بالفعل إما أن يكون عالماً بما هو عليه الفعل من الحسن
والقبح وكذلك في حالة النهي أو لا يكون عالماً به أصلاً أو هو عالم به في
حالة النهي دون حالة الأمر أو في حالة الأمر دون حالة النهي: فإن كان الأول
فإن كان الفعل حسناً فقد نهى عن الحسن مع علمه به وإن كان قبيحاً فقد أمر
بالقبيح مع علمه به وهو قبيح وإن كان الثاني فهو محال لما يلزمه من الجهل
في حق الله تعالى وكذلك إن كان الثالث أو الرابع.
كيف وإنه إذا ظهر له في حالة النهي ما لم يكن قد ظهر له في حالة الأمر فهو عين البدآء والبدآء على الله محال.
الوجه
الثاني: أنه إذا أمر بالفعل في وقت معين ثم نهى عنه فقد بان أنه لم يرد
إيقاعه ويكون قد أمر بما لم يرده ولو جاز ذلك لما بقي لنا وثوق بقول من
أقوال الشارع لجواز أن يكون المراد بذلك القول ضد ما هو دال على إرادته
وذلك محال.
الوجه الثالث أن ذلك مما يفضي إلى أن يكون الفعل الواحد
مأموراً منهياً والأمر والنهي عندكم كلام الله وكلامه صفة واحدة فيكون
الكلام الواحد أمراً نهياً بشيء واحد في وقت واحد وذلك محال.
والجواب قولهم في قصة الإسراء إنها خبر واحد قلنا والمسألة عندنا من مسائل الاجتهاد ولذلك لا يكفر المخالف فيها ولا يبدع.
قولهم
إنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به قلنا: فقد نسخ عن النبي صلى الله عليه
وسلم بعد علمه وإن سلمنا أنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به ولكن لم قالوا
بامتناعه.
قولهم إنه لا يتعلق به فائدة الثواب باعتقاد الوجوب والعزم
على الفعل فهو مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو ممنوع على ما
عرف من أصلنا.
قولهم على الحجة الثانية إنا لا نسلم الأمر مع المنع قلنا: قد سبق تقريره في الأوامر.
قولهم: إن أراد منه الفعل فهو تكليف بما لا يطاق قلنا: وإن كان كذلك فهو جائز عندنا على ما تقرر قبل.
قولهم:
وإن لم يكن مريدا له فهو أمر بشرط عدم المنع من العالم بعواقب الأمور وذلك
محال لما سبق قلنا: وقد سبق أيضا في الأوامر جواز ذلك وإبطال كل ما تخيلوه
مانعاً.
قولهم في المعارضة الأولى إنه يلزم من ذلك أن يكون الرب تعالى آمراً وناهياً عن فعل واحد في وقت واحد وهو محال لا نسلم إحالته.
قولهم:
إما أن يكون حسناً أو قبيحاً فهو مبني على الحسن والقبح العقلي وهو باطل
لما سبق فلئن قالوا وإن لم يكن حسناً ولا قبيحاً فلا يخلو إما أن يكون
مشتملاً على مصلحة أو مفسدة.
فإن كان الأول فقد نهى عما فيه مصلحة وإن
كان الثاني فقد أمر بما فيه مفسدة قلنا: وهذا أيضاً مبني على رعاية الحكمة
في أفعال الله تعالى وهو باطل لما عرف من أصلنا بل جاز أن يكون الأمر
والنهي لا لمصلحة ولا لمفسدة.
وإن سلم عدم خلوه عن المصلحة والمفسدة
ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الأمر بالمفسدة والنهي عن المصلحة بل جاز أن
يقال إنه مشتمل على المصلحة حالة الأمر ومشتمل على المفسدة حالة النهي ولا
مفسدة حالة الأمر ولا مصلحة حالة النهي على ما تقرر قبل ولا يلزم من ذلك
الجهل في حق الله تعالى ولا البدآء لعلمه حالة الأمر بما الفعل مشتمل عليه
من المصلحة وانه سينسخه في ثاني الحال لما يلازمه من المفسدة المقتضية
للنسخ حالة النسخ كما علم.
قولهم في المعارضة الثانية: إذا أمر بالفعل
ثم نهى عنه فتبين أنه أمر بما لم يرد مسلم وعندنا ليس من شرط الأمر إرادة
المأمور به كما سبق تعريفه.
قولهم يلزم من ذلك عدم الوثوق بجميع أقوال
الشارع إن أرادوا بذلك أنه إذا خاطب بما يحتمل التأويل أنا لا نقطع بإرادته
لما هو الظاهر من كلامه فمسلم ولكن لا نسلم امتناع ذلك وهذا هو أول
المسألة وإن أرادوا به أنه لا يمكن الاعتماد على ظاهره مع احتمال إرادة
غيره من الاحتمالات البعيدة فغير مسلم وإن أرادوا غير ذلك فلا نسلم تصوره.
قولهم
في المعارضة الثالثة إنه يلزم منه أن يكون الفعل الواحد في وقت واحد
مأموراً منهياً قلنا: مأمور منهي معاً أو لا معاً؟ الأول ممنوع والثاني
مسلم.
قولهم إن كلام الله عندكم صفة واحدة لا نسلم ذلك إن سلكنا مذهب
عبد الله بن سعد من أصحابنا وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي الحسن فلم قالوا
بالإحالة.
قولهم يلزم منه أن تكون الصفة الواحدة أمراً نهياً قلنا:
إنما تسمى الصفة الواحدة بهذه الأسماء بسبب اختلاف تعلقاتها ومتعلقاتها فإن
تعلقت بالفعل سميت أمراً وإن تعلقت بالترك سميت نهياً وذلك إنما يمتنع أن
لو اتحد زمان التعلق بالفعل والترك.
وأما إذا كان زمان التعلق مختلفاً
فلا والمأمور والمنهي وإن كان زمانه متحداً لكن زمان تعلق الأمر به غير
زمان تعلق النهي به ومع التغاير فلا امتناع.
المسألة الثالثة اتفق
الجمهور على جواز نسخ حكم الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد كقوله: صوموا أبداً
خلافاً لشذوذ من الأصوليين ودليل جوازه أن الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد
غايته أن يكون دالاً على ثبوت الحكم في جميع الأزمان بعمومه ولا يمتنع مع
ذلك أن يكون المخاطب مريداً لثبوت الحكم في بعض الأزمان دون البعض كما في
الألفاظ العامة لجميع الأشخاص.
وإذا لم يكن ذلك ممتنعاً فلا يمتنع ورود الناسخ المعرف لإرادة المخاطب لذلك ولو فرضنا ذلك لما لزم عنه المحال وكان جائزاً.
فإن
قيل: لفظ التأبيد جار مجرى التنصيص على كل وقت من أوقات الزمان بخصوصه
والتنصيص على وجوب الفعل في الوقت المعين بخصوص لا يجوز نسخه فكذلك هذا.
وأيضاً فإنا لو أمرنا بالعبادة بلفظ يقتضي الاستمرار جاز النسخ فلو جاز ذلك مع التقييد بلفظ التأبيد لم يكن للتقييد معنىً.
وأيضاً فإنه لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لما بقي لنا طريق إلى العلم بدوام العبادة في زمان إرادة التكليف.
وأيضاً فإن المخاطب إذا أخبر بلفظ التأبيد لم يجز نسخه فكذلك في غير الخبر.
والجواب
عن الأول: لا نسلم أن لفظ التأبيد ينزل منزلة التنصيص على كل وقت بعينه بل
هو في العرف قد يطلق للمبالغة كما في قول القائل: لازم فلاناً أبداً وفلان
أبدا يكرم الضيف وأدام الله ملك الأمير أبداً.
وإن سلمنا أنه ينزل
منزلة التنصيص على الأوقات المعينة فعندنا لا يمتنع نسخ حكم الخطاب إذا كان
مقيداً بوقت معين كما إذا قال: صل وقت زوال الشمس ركعتين فإنه يجوز نسخه
بعد دخول الوقت وقبله على ما عرف من أصلنا.
وعن الثاني أن فائدة التأبيد تأكيد الاستمرار فإذا ورد النسخ كانت فائدته تأكيد المبالغة في الاستمرار لا نفس الاستمرار.
ثم
يلزمهم على ما ذكروه ما إذا أتى بلفظ عام كما لو قال كل من دخل داري
فأكرمه فإنه يجوز تخصيصه مع تأكيده بكل وجميع فما هو جوابهم في التخصيص فهو
جواب لنا في النسخ.
عن الثالث أن ما ذكروه إنما يصح إن لو كان لفظ
التأبيد يفيد العلم ولا طريق يفيده سواه والأمران ممنوعان: أما الأول فلما
سبق وأما الثاني فلجواز أن يخلق الله تعالى العلم الضرروي بذلك أو بما
يقترن باللفظ من القرائن المفيدة لليقين كما في القرائن المقترنة بخبر
التواتر ثم ما ذكروه لازم عليهم في تخصيص العام المؤكد فإنه جائز مع توجه
ما ذكروه في النسخ بعينه عليه والجواب أن ذلك يكون متحداً.
وعن الرابع بمنع ذلك في الخبر أيضاً.
المسألة
الرابعة مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل خلافاً لبعض الشذوذ
ودليله أمران الأول ما يدل على الجواز العقلي وهو أنا لو فرضنا وقوع ذلك لم
يلزم عنه لذاته محال في العقل ولا معنى للجائز عقلاً سوى هذا ولأنه لا
يخلو إما أن لا يقال برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى أو يقال بذلك: فإن
كان الأول فرفع حكم الخطاب بعد ثبوته لا يكون ممتنعاً لأن الله تعالى له أن
يفعل ما يشاء وإن كان الثاني فلا يمتنع في العقل أن تكون المصلحة في نسخ
الحكم دون بدله.
الثاني ما يدل على الجواز الشرعي وهو أن ذلك مما وقع في
الشرع كنسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ونسخ
الاعتداد بحول كامل في حق المتوفى عنها زوجها ونسخ وجوب ثبات الرجل لعشرة
ونسخ وجوب الإمساك بعد الفطر في الليل ونسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحي وكل
ذلك من غير بدل إلى غير ذلك من الأحكام التي نسخت لا إلى بدل والوقوع في
الشرع أدل الدلائل على الجواز الشرعي.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما
يدل على نقيضه وهو قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو
مثلها " أخبر أنه لا ينسخ إلا ببدل والخلف في خبر الصادق محال.
قلنا:
ما ذكروه إنما هو دليل لزوم البدل في نسخ لفظ الآية وليس فيه دلالة على
نسخ حكمها وذلك هو موضع الخلاف سلمنا دلالة ما ذكروه على نسخ الحكم لكن لا
نسلم العموم في كل حكم وإن سلمنا ولكنه مخصص بما ذكرناه من الصور سلمنا أنه
غير مخصص لكن ما المانع أن يكون رفع الحكم بدل إثباته وهو خير منه في
الوقت الذي نسخ فيه لكون المصلحة في الرفع دون الإثبات وإن سلم امتناع وقوع
ذلك شرعاً لكنه لا يدل على عدم الجواز العقلي.
المسألة الخامسة وكما
يجوز نسخ حكم الخطاب من غير بدل كما بيناه يجوز نسخه إلى بدل أخف منه كنسخ
تحريم الأكل بعد النوم في ليل رمضان إلى حله وإلى بدل مماثل كنسخ وجوب
التوجه إلى القدس بالتوجه إلى الكعبة وهذان مما لا خلاف فيهما عند القائلين
بالنسخ وإنما الخلاف في نسخ الحكم إلى بدل أثقل منه.
ومذهب أكثر
أصحابنا وجمهور المتكلمين والفقهاء جوازه خلافاً لبعض أصحاب الشافعي وبعض
أهل الظاهر ومنهم من أجازه عقلاً ومنع منه سمعاً.
ودليل جوازه عقلاً ما
سبق في المسألة المتقدمة ودليل الجواز الشرعي وقوع ذلك في الشرع فمن ذلك أن
الله تعالى أوجب صيام رمضان في ابتداء الإسلام مخيراً بينه وبين الفداء
بالمال ونسخه بتحتم الصوم وهو أثقل من الأول.
ومن ذلك أن الله تعالى
أوجب في ابتداء الإسلام الحبس في البيوت والتعنيف حداً على الزنى ونسخه
بالضرب بالسياط والتغريب عن الوطن في حق البكر وبالرجم بالحجارة في حق
الثيب ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكل ذلك أثقل من الأول.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة العقل والسمع.
أما
من جهة العقل فهو أن النسخ إما أن يكون لا لمصلحة أو لمصلحة: فإن كان
الأول فهو عبث وقبيح فلا يكون جائزاً على الشارع وإن كان لمصلحة فإما أن
تكون أدنى من مصلحة المنسوخ أو مساويةً لها أو راجحةً عليها: فإن كان الأول
فهو أيضاً ممتنع لما فيه من إهمال أرجح المصلحتين واعتبار أدناهما وإن كان
الثاني فليس الناسخ أولى من المنسوخ فلم يبق غير الثالث.
وإذا كان
النسخ إنما يكون للأصلح والأنفع والأقرب إلى حصول الطاعة وذلك إنما يكون
بنقل المكلفين من الأشد إلى الأخف ومن الأصعب إلى الأسهل لكونه أقرب إلى
حصول الطاعة وأسهل في الانقياد وإذا كان بالعكس كان إضراراً بالمكلفين
لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة وإن تركوا استضروا بالعقوبة
والمؤاخذة وذلك غير لائق بحكمة الشارع.
وأما من جهة السمع فنصوص: أولها قوله تعالى: " يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً " ولا تخفيف في نسخ الأخف إلى الأثقل.
وثانيها
قوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185 وفي
نسخ الأخف إلى الأثقل إرادة العسر وفيه تكذيب خبر الصادق.
وثالثها قوله
تعالى: " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " الأعراف 157 والأصر
هو الثقل أخبر أنه يضع عنهم الثقل الذي حمله للأمم قبلهم فلو نسخ ذلك بما
هو أثقل منه كان تكذيباً لخبره تعالى وهو محال.
ورابعها قوله تعالى: "
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة 106 وليس المراد
منه أنه يأتي بخير من الآية في نفسها إذ القرآن كله خير لا تفاضل فيه وإنما
المراد به ما هو خير بالنسبة إلينا وذلك هو الأخف والأسهل في الأحكام.
والجواب
عن المعقول أن ما ذكروه لازم عليهم في ابتداء التكليف ونقل الخلق من
الإباحة والإطلاق إلى مشقة التكليف وكذلك في نقلهم من الصحة إلى السقم ومن
الشبيبة إلى الهرم ومن الجدة إلى العدم وإعدام القوي والحواس بعد وجودها
فإن ما نقلهم إليه أشق عليهم مما نقلهم عنه وكل ما ذكروه فهو بعينه لازم
هاهنا وما هو الجواب في صورة الإلزام فهو جوابنا في محل النزاع.
وعن
الآية الأولى أنه لا عموم فيها حتى يلزم من ذلك إرادة التخفيف في كل شيء
وبتقدير العموم فليس فيه ما يدل على إرادة التخفيف على الفور بل جاز أن
يكون المراد من ذلك التخفيف في المآل برفع أثقال الآخرة والعقاب على
المعاصي بما يحصل لنا من الثواب الجزيل على الأعمال الشاقة علينا في الدنيا
وعلى طباعنا تسميةً للشيء بعاقبته.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ومنه قوله تعالى: " فما أصبرهم على النار " البقرة 175 وقوله تعالى: "
إنما يأكلون في بطونهم نارا " النساء 10 ومنه يقال لدوا للموت وابنوا
للخراب وبتقدير إرادة الفور فلا يمتنع التخصيص كما خص بأثقال تكاليفه
المبتدأة وابتلائه في الأبدان والأموال كما سبق تقريره وما ذكرناه من
الأدلة الدالة على وقوع ذلك صالح لتخصيص هذه الآية.
وعن الآية الثانية:
أنه يجب حملها على ما فيه اليسر والعسر بالنظر إلى المآل حتى لا يلزم منه
كثرة التخصيص بابتداء التكاليف وما وقع به الابتلاء في الدنيا في الأبدان
والأموال ولا يخفى أن التكليف بما هو أشق في الدنيا إذا كان ثوابه المآلي
أكثر وأدفع للعقاب المجتلب بالمعاصي أنه يسر لا عسر.
وإن سلمنا أن المراد به إرادة اليسر وعدم إرادة العسر العاجل لكنه يجب تخصيصه بما ذكرناه جمعاً بين الأدلة.
وعن الآية الثالثة: أنه لا يلزم من وضع الأصر والثقل الذي كان على من قبلنا عنا امتناع ورود نسخ الأخف بالأثقل في شرعنا.
وعن
الآية الرابعة: أنه لو كان ذلك عائداً إلى نسخ التلاوة فلا حجة فيه إذ
النزاع إنما هو في نسخ الحكم الأخف بالأثقل وإن كان عائداً إلى نسخ حكم
الآية فالخير في الأمور الدينية يرجع إلى ما هو أكثر في الثواب.
ومنه
يقال الفرض خير من النفل بمعنى أنه أكثر في الثواب وإن كان أشق من النفل
على النفس وفي الأمور الدنيوية يرجع إلى ما هو خير في العاجل وأصلح ولا
يختص ذلك بالأسهل.
ولهذا يحسن أن يقول الطبيب للمريض الجوع والعطش أصلح
لك وخير من الشبع والري وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون التكليف بالأشق أكثر
ثواباً وأصلح في المآل على ما قال تعالى: " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا
نصب ولا مخمصة في سبيل الله " التوبة 120 إلى قوله: " إلا كتب لهم به عمل
صالح " التوبة 120 وقال تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل
مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7 - 8 وقال تعالى: " جزاء بما كانوا يعملون "
الواقعة 24 وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله " عنها ثوابك على قدر
نصبك " فكان التكليف بالأشق خيراً من الأخف.
المسألة السادسة اتفق
العلماء على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس ونسخهما معاً خلافاً
لطائفة شاذة من المعتزلة ويدل على ذلك العقل والنقل: أما العقل فهو أن جواز
تلاوة الآية حكم ولهذا يثاب عليها بالإجماع وقد قال صلى الله عليه وسلم: "
من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات " وما يترتب عليها من
الوجوب والتحريم وغير ذلك حكم وإذا كانا حكمين جاز أن يكون إثباتهما مصلحة
في وقت ومفسدة في وقت وأن لايكون إثبات أحدهما مصلحةً مطلقاً وإثبات أحدهما
مصلحة في وقت دون وقت وإذا كان كذلك جاز رفعهما معاً ورفع أحدهما دون
الآخر كما سبق تقريره.
وأما النقل أما نسخ التلاوة والحكم فيدل عليه ما
روت عائشة أنها قالت فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخت بخمس وليس في المصحف
عشر رضعات محرمات ولا حكمها فهما منسوخان.
وأما نسخ الحكم دون التلاوة فكنسخ حكم آية الاعتداد بالحول ونسخ حكم آية الوصية للوالدين.
وأما
نسخ التلاوة دون الحكم فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كان
فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله ورسوله
فإنه منسوخ التلاوة دون الحكم.
وهل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية أن يمسها المحدث ويتلوها الجنب فذلك مما تردد الأصوليون فيه والأشبه المنع من ذلك.
فإن
قيل: الحكم مع التلاوة ينزل منزلة العلم مع العالمية والحركة مع المتحركية
والمنطوق مع المفهوم وكما لا يمكن الانفكاك بين العلم والعالمية والمنطوق
مع المفهوم فكذلك التلاوة مع حكمها.
وأما ما يخص نسخ الحكم دون التلاوة
فهو أن الحكم إذا نسخ وبقيت التلاوة كانت موهمةً بقاء الحكم وذلك مما يعرض
المكلف إلى اعتقاد الجهل والحكيم يقبح منه ذلك وأيضاً إذا بقيت التلاوة دون
حكمها تبقى عرية عن الفائدة ويمتنع خلو القرآن عن الفائدة.
وأما ما يخص
نسخ التلاوة دون الحكم فوجهان: الأول: أن الآية ذريعة إلى معرفة الحكم
فإذا نسخت الآية دون الحكم أشعر ذلك بارتفاع الحكم وفيه تعريض المكلف
لاعتقاد الجهل وهو قبيح من الشارع.
الثاني: أن نسخ التلاوة دون حكمها
يكون عرياً عن الفائدة حيث إنه لم يلزم من ذلك إثبات حكم ولا رفعه وما عرى
من التصرفات عن الفائدة كان عبثاً والعبث على الله محال.
والجواب عن
الأول: لا نسلم أولا أن العالمية مغايرة لقيام العلم بالذات ولا المتحركية
مغايرة لقيام الحركة بالذات ولا الملازمة بين المنطوق والمفهوم ليصح
التمثيل.
وإن سلمنا جميع ذلك ولكن لا نسلم أن التلاوة مع الحكم نازلة
منزلة ما ذكروه بل هي نازلة منزلة الأمارة والعلامة على الحكم في ابتداء
ثبوته دون حالة دوامه.
وعلى هذا فلا يلزم من انتفاء الأمارة في طرف
الدوام انتفاء ما دلت عليه وكذلك لا يلزم من انتفاء الحكم لدليل انتفاء
الأمارة الدالة عليه.
وعن قولهم إن التلاوة إذا ثبتت بعد نسخ الحكم عرضت
المكلف لاعتقاد الجهل متى إذا نصب الله تعالى دليلاً على نسخ الحكم أو إذا
لم ينصب؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وذلك لأن الناظر إذا كان مجتهداً
عرف دليل النسخ وإن كان مقلداً فغرضه تقليد المجتهد العارف بدليل النسخ ثم
وإن كان كما ذكروه فلا نسلم أن ذلك ممتنع في حق الله تعالى إلا على فاسد
أصل من يقول بالتحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه.
وعن قولهم إنه ليس
في بقاء التلاوة فائدة بعد نسخ الحكم أن ذلك مبني على رعاية الحكمة في
أفعال الله تعالى وهو غير مسلم وإن سلما ذلك فلا يمتنع أن يكون الباري
تعالى قد علم في ذلك حكمةً استأثر بها ونحن لا نشعر بذلك.
وعن قولهم إن
الآية إذا نسخت عرضت المكلف لاعتقاد الجهل إنما يلزم ذلك ان لو كان يلزم من
انتفاء الدلالة على الحكم في الدوام انتفاء الحكم وهو غير مسلم ولا يلزم
من الدليل الدال على نسخ التلاوة أن يكون دالاً على نسخ الحكم.
وعن قولهم إنه لا فائدة في نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ما سبق في قولهم إن بقاء التلاوة غير مفيد مع نسخ الحكم.
المسألة السابعة فيما يتعلق بنسخ الأخبار.
والنسخ
إما أن يكون لنسخ الخبر أو لمدلوله وثمرته: فإن كان الأول فإما أن تنسخ
تلاوته أو تكليفنا به بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف
بذلك الأخبار وكل واحد من الأمرين جائز من غير خلاف بين القائلين بجواز
النسخ وسواء كان ما نسخت تلاوته ماضياً أو مستقبلاً وسواء كان ما نسخ تكليف
الإخبار به مما لا يتغير مدلوله كالإخبار بوجود الله تعالى وحدوث العالم
أو يتغير كالإخبار بكفر زيد وإيمانه لأن كل ذلك حكم من الأحكام الشرعية
فجاز أن يكون مصلحةً في وقت ومفسدةً في وقت آخر لكن هل يجوز أن ينسخ تكلفنا
بالإخبار عما لا يتغير بتكليفنا بالإخبار بنقيضه ؟.
قالت المعتزلة: لا
يجوز لأنه كذب والتكليف بالكذب قبيح وهو غير متصور من الشارع وهو مبني على
أصولهم في التحسين والتقبيح العقلي ووجوب رعاية المصلحة في أفعال الله
تعالى وقد أبطلناه وعلى هذا فلا مانع من نسخ التكليف بالخبر بنقيض الخبر.
وأما
إن كان النسخ لمدلول الخبر وفائدته فذلك المدلول إما أن يكون مما لا يتغير
كمدلول الخبر بوجود الإله سبحانه وحدوث العالم أو مما يتغير: فإن كان
الأول فنسخه محال بالإجماع وأما إن كان مدلوله مما يتغير وسواء كان ماضياً
كالإخبار بما وجد من إيمان زيد وكفره أو مستقبلاً وسواء كان وعداً أو
وعيداً أو حكماً شرعياً.
فقد اختلف في رفعه ونسخه فذهب القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم وجماعة من المتكلمين والفقهاء إلى امتناع رفعه.
وذهب
أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إلى جوازه
ومنهم من فصل بين الخبر الماضي والمستقبل فمنعه في الماضي وجوزه في
المستقبل.
والمختار جوازه ماضياً كان أو مستقبلاً وذلك لأنه إذا ما دل
عليه كان الإخبار متكرراً والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبيناً
لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وإن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر
والنواهي.
فإن قيل: الفرق بين الخبر وبين الأمر والنهي أن نسخ الخبر
يؤذن بكونه كذباً ولهذا فإنه لو قال: أهلك الله زيداً ثم قال: ما أهلك الله
زيداً كان كذباً بخلاف الأمر والنهي وإن سلمنا إمكان نسخ مدلول الخبر لكن
إذا كان مدلوله حكماً شرعياً تكليفاً.
أما إذا لم يكن كذلك فلا وذلك
لأنه إذا كان حكمه تكليفاً كان الخبر في معنى الأمر والنهي والأمر يجوز نسخ
حكمه كما لو قال: أمرتكم ونهيتكم وأوجبت عليكم بخلاف ما إذا لم يكن كذلك.
والجواب
عن الأول أن ذلك إنما يفضي إلى الكذب إن لو لم يمكن حمل الناسخ على غير ما
أريد من الخبر وليس الأمر كذلك على ما حققناه وأما إذا قال: أهلك الله
زيداً فإهلاكه إنما لم يدخله النسخ لأنه لا يتكرر حتى يمكن رفع بعضه وتبقية
البعض بل إنما يقع دفعة واحدة فلو أخبر عن عدمه مع اتحاده كان كذباً
لاتحاد المثبت والمنفي.
وعن الثاني أنهم إن أرادوا بقولهم إن الخبر
بالحكم الشرعي في معنى الأمر أن صيغته كصغيته فهو خلاف الحسن وإن أرادوا به
أنه يفيد إيجاب الفعل كما في الأمر فمسلم ولكن لا يلزم أن يكون هو هو فإنه
لا يلزم من اشتراك شيئين مختلفين في لازم واحد عام لهما اتحادهما وغايته
تسليم نسخ مدلول بعض الأخبار وليس فيه ما يدل على امتناع نسخ غيره مما قد
بينا.
المسألة الثامنة اتفق القائلون بالنسخ على جواز نسخ القرآن
بالقرآن لتساويه في العلم به ووجوب العمل وذلك كما بيناه من نسخ الاعتداد
بالحول بأربعة أشهر وعشر ونسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول بقوله: "
أأشفقتم " المجادلة 13 ونسخ وجوب ثبوت الواحد للعشرة بقوله تعالى: " الآن
خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً " الأنفال 66 واتفقوا أيضاً على جواز نسخ
السنة المتواترة بالمتواترة منها ونسخ الآحاد منها بالمتواتر ونسخ الآحاد
بالآحاد كما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم زيارة القبور بنهيه عنها ثم
نسخ ذلك بقوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " وكما روي عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في شارب الخمر فإن شربها الرابعة فاقتلوه "
فنسخ ذلك بما روي عنه أنه حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله.
وأما نسخ المتواتر منها بالآحاد فقد اتفقوا على جوازه عقلاً واختلفوا في وقوعه سمعاً فأثبته داود وأهل الظاهر ونفاه الباقون.
وقد
احتج النافون لذلك بالإجماع والمعنى: أما الإجماع فما روي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا
ندري أصدقت أم كذبت وأيضاً ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا ندع
كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوال على عقبيه ووجه الاحتجاج به أنهما
لم يعملا بخبر الواحد ولم يحكما به على القرآن وما ثبت من السنة تواتراً
وكان ذلك مشتهراً فيما بين الصحابة ولم ينكر عليهما منكر فكان ذلك إجماعاً.
وأما المعنى فهو أن الآحاد ضعيف والمتواتر أقوى منه فلا يقع الأضعف في مقابلة الأقوى.
ولقائل
أن يقول: عدم قبول خبر الواحد فيما ذكر لا يمنع من قبول خبر الواحد مطلقاً
وذلك لأنه لا مانع أن يكون امتناع قبوله لعدم حصول الظن بصدقه ولهذا قال
عمر: لا ندري أصدقت أم كذبت وقال علي في الأعرابي ما قال.
وإلا فكيف
يمكن القول بعدم قبول خبر الواحد معما بينا من كون خبر الواحد حجة ومعما
بيناه من جواز تخصيص التواتر بالآحاد وما ذكروه من المعنى فهو باطل
بالتخصيص على ما سبق كيف وإنه وإن كان أضعف من المتواتر من جهة كونه آحاداً
إلا أنه أقوى من المتواتر من جهة كونه خاصاً والمتواتر عاماً.
والظن
الحاصل من الخاص إذا كان آحاداً أقوى من الظن الحاصل من العام المتواتر لأن
تطرق الضعف إلى الواحد من جهة كذبه واحتمال غلطه وتطرق الضعف إلى العام من
جهة تخصيصه واحتمال إرادة بعض ما دل عليه دون البعض واحتمال تطرق التخصيص
إلى العام أكثر من تطرق الخطإ والكذب إلى العدل فكان الظن المستفاد من خبر
الواحد أقوى.
وأما المثبتون فقد احتجوا بالنقل والمعنى.
أما النقل
فمن وجهين: الأول أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة
المتواترة لأنه لم يوجد في الكتاب ما يدل عليه وإن أهل قبا كانوا يصلون إلى
بيت المقدس بناء على السنة المتواترة فلما نسخ جاءهم منادي رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال لهم: " إن القبلة قد حولت " فاستداروا بخبره والنبي
صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم فدل على الجواز.
الثاني أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان ينفذ الآحاد إلى أطراف البلاد لتبليغ الناسخ والمنسوخ
ولولا قبول خبر الواحد في ذلك لما كان قبوله واجباً.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول أن النسخ أحد البيانين فكان جائزاً بخبر الواحد كالتخصيص.
الثاني أن نسخ القرآن بخبر الواحد جائز على ما سيأتي بيانه فنسخ السنة المتواترة به أولى.
ولقائل
أن يقول: أما قصة أهل قبا فمن أخبار الآحاد ولا نسلم ثبوت مثل هذه القاعدة
به كيف وإنه يحتمل أن يكون قد اقترن بقوله قرائن أوجبت العلم بصدقه من
قربهم من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم لضجة الخلق في ذلك
نازلاً منزلة الخبر المتواتر.
وأما تنفيذ الآحاد للتبليغ فإنما يجوز فيما يجوز فيه خبر الواحد وما لا فلا.
وما
ذكروه من المعنى الأول فحاصله يرجع إلى قياس النسخ على التخصيص وهو إنما
يفيد في الأمور الظنية فلم قالوا إنما نحن فيه من هذا القبيل كيف والفرق
حاصل وذلك أن النسخ رفع لما ثبت بخلاف التخصيص على ما سبق معرفته فلم قالوا
بأنه إذا قبل خبر الواحد فيما لا يقتضي الرفع لما ثبت يقبل في رفع ما ثبت.
وأما المعنى الثاني فلا نسلم صحة نسخ القرآن بخبر الواحد على ما يأتي.
المسألة التاسعة المنقول عن الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه إنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن.
ومذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء جوازه عقلاً ووقوعه شرعاً.
احتج المثبتون على الجواز العقلي والوقوع الشرعي.
أما
الجواز العقلي فهو أن الكتاب والسنة وحي من الله تعالى على ما قال تعالى: "
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 غير أن الكتاب متلو
والسنة غير متلوة ونسخ حكم أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلاً.
ولهذا فإنا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخاً للسنة لما لزم عنه لذاته محال عقلاً.
وأما
الوقوع الشرعي فيدل عليه أمور: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح
أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلماً رده حتى إنه رد أبا جندل
وجماعةً من الرجال فجاءت امرأة فأنزل الله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات
فلا ترجعوهن إلى الكفار " الممتحنة وهذا قرآن نسخ ما صالح عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو من السنة.
الثاني أن التوجه إلى بيت المقدس لم
يعرف إلا من السنة وقد نسخ بقوله تعالى: " فول وجهك شطر المسجد الحرام "
البقرة 144 ولا يمكن أن يقال بأن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوماً
بالقرآن وهو قوله: " فثم وجه الله " البقرة 115 لأن قوله فثم وجه الله
تخيير بين القدس وغيره من الجهات والمنسوخ إنما هو وجوب التوجه إليه عيناً
وذلك غير معلوم من القرآن.
الثالث أن المباشرة في الليل كانت محرمة على الصائم بالسنة وقد نسخ ذلك بقوله تعالى: " فالآن باشروهن " البقرة 187.
الرابع أن صوم عاشوراء كان واجباً بالسنة ونسخ بصوم رمضان في قوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " البقرة 185.
الخامس
أن تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال كان جائزاً بالسنة ولهذا قال يوم
الخندق وقد أخر الصلاة حشا الله قبورهم ناراً لحبسهم له عن الصلاة وقد نسخ
ذلك الجواز بصلاة الخوف الواردة في القرآن.
فإن قيل ما ذكرتموه من صور
نسخ السنة بالقرآن ما المانع أن يكون الحكم في جميع ما ذكرتموه ثابتا بقرآن
نسخ رسمه وبقي حكمه؟ وإن سلمنا أنه ثابت بالسنة ولكن ما المانع أن يكون
النسخ وقع بالسنة ودلالة ما ذكرتموه من الآيات على أحكامها ليس فيه ما يدل
على عدم ارتفاع الأحكام السابقة بالسنة ويدل على أن الأمر على ما ذكرناه أن
الشافعي كان من أعلم الناس بالناسخ والمنسوخ وأحكام التنزيل وقد أنكر نسخ
السنة بالقرآن ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لما كان إنكاره صحيحاً.
ثم
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على نسخ السنة بالقرآن غير أنه معارض بالنص
والمعقول: أما النص فقوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل 44
جعل السنة بياناً فلو نسخت لخرجت عن كونها بياناً وذلك غير جائز.
وأما
المعقول فمن وجهين: الأول أنه لو نسخت السنة بالقرآن لزم تنفير الناس عن
النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعته لإيهامهم أن الله تعالى لم يرض ما سنه
الرسول وذلك مناقض لمقصود البعثة ولقوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا
ليطاع بإذن الله " النساء 64.
الثاني أن السنة ليست من جنس القرآن
لأن القرآن معجزة ومتلو ومحرم تلاوته على الجنب ولا كذلك السنة وإذا لم يكن
القرآن من جنس السنة امتنع نسخه لها كما يمتنع نسخ القرآن بحكم دليل العقل
وبالعكس.
والجواب عن السؤال الأول أن إسناد إثبات ما ذكرناه من الأحكام
المنسوخة إلى ما وجد من السنة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله
وتقريراته صالح لإثباتها وقد اقترن بها الإثبات فكان الإثبات مستنداً إليها
وكذلك الكلام في إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة للنسخ من ترتب
النسخ عليها فبتقدير وجود خطاب آخر يكون إسناد الأحكام المذكورة إليه
بتقدير نسخه وكذلك تقدير وجود سنة ناسخة لها مع عدم الاطلاع عليها وإمكان
إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة لنسخها من غير ضرورة يكون
ممتنعاً.
ولو فتح هذا الباب لما استقر لأحد قدم في إثبات ناسخ ولا منسوخ
لأن ما من ناسخ يقدر إلا ويحتمل أن يكون الناسخ غيره وما من منسوخ حكمه
يقدر إلا ويحتمل أن يكون إسناد ذلك الحكم إلى غيره وهو خلاف إجماع الأمة في
الاكتفاء بالحكم على كون ما وجد من الخطاب الصالح لنسخ الحكم هو الناسخ
وأن ما وجد من الدليل الصالح لإثبات الحكم هو المثبت وإن احتمل إضافة الحكم
والنسخ إلى غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه.
وعن
المعارضة بالنص من وجهين: الأول أن المراد بقوله: " لتبين للناس " النحل 44
إنما هو التبليغ وذلك يعم تبليغ الناس من القرآن وغيره وليس فيه ما يدل
على امتناع كون القرآن ناسخاً للسنة.
الثاني وإن سلمنا أن المراد بقوله:
لتبين للناس إنما هو بيان المجمل والعام والمطلق والمنسوخ لكن لا نسلم
دلالة ذلك على انحصار ما ينطق به في البيان بل جاز مع كونه مبيناً أن ينطق
بغير البيان ويكون محتاجاً إلى بيان.
وعن المعارضة الأولى من جهة
المعقول من ثلاثة أوجه: الأول: أن ذلك إنما يصح أن لو كانت السنة من عند
الرسول من تلقاء نفسه وليس كذلك بل إنما هي من الوحي على ما قال تعالى: "
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 الثاني: أنه لو امتنع نسخ
السنة بالقرآن لدلالته على أن ما شرعه أولا غير مرضي لامتنع نسخ القرآن
بالقرآن والسنة بالسنة وهو خلاف إجماع القائلين بالنسخ.
الثالث: أن ما
ذكروه إنما يدل على أن المشروع أولاً غير مرضي أن لو كان النسخ رفع ما ثبت
أولاً وليس كذلك بل هو عبارة عن دلالة الخطاب على أن الشارع لم يرد بخطابه
الأول ثبوت الحكم في وقت النسخ دون ما قبله.
وعن المعارضة الثانية أنه
لا يلزم من اختلاف جنس السنة والقرآن بعد اشتراكهما في الوحي بما اختص بكل
واحد منهما امتناع نسخ أحدهما بالآخر.
وعلى هذا فنقول القرآن يكون رافعاً لحكم الدليل العقلي وإن لم يسم ناسخاً.
المسألة
العاشرة قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب
بالسنة المتواترة وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وأجاز ذلك
جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن الفقهاء مالك وأصحاب أبي حنيفة
وابن سريج واختلف هؤلاء في الوقوع.
والمختار جوازه عقلاً لما ذكرناه في
المسألة المتقدمة وأما الوقوع فقد احتج القائلون به بأن الوصية للوالدين
والأقربين نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا وصية لوارث " قالوا:
ولا يمكن أن يقال بأن الناسخ للوصية آية الميراث لأن الجمع ممكن من حيث إن
الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب وهو ضعيف لما فيه من نسخ حكم القرآن
المتواتر بخبر الآحاد وهو ممتنع على ما يأتي ولأنه لا يلزم من كون الميراث
مانعاً من الوصية للوارث أن يكون مانعاً من الوصية لغير الوارث.
واحتجوا
أيضاً بأن جلد الزاني الثابت بقوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل
واحد منهما مائة جلدة " النور 2 نسخ بالرجم الثابت بالسنة وهو ضعيف لما فيه
من نسخ القرآن بآحاد السنة وهو ممتنع على ما يأتي وفي حق الشيخ والشيخة من
جهة أنه أمكن أن يقال إن نسخ الجلد بالرجم إنما كان بقرآن نسخ رسمه وهو ما
روي عن عمر أنه قال: كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
البتة نكالاً من الله ورسوله.
ولا يمكن أن يقال إن ذلك لم يكن قرآنا
بما روي عن عمر أنه قال: لولا أنني أخشى أن يقال: زاد عمر في القرآن ما ليس
منه لكتبت: الشيخ والشيخة إذا زنيا على حاشية المصحف وذلك يدل على أنه لم
يكن قرآناً.
لأنا نقول: غاية قول عمر الدلالة على إخراج ذلك عن المصحف والقرآن لنسخ تلاوته وليس فيه دلالة على أنه لم يكن قرآناً.
فإن قيل: الشيخ والشيخة لم يثبت بالتواتر بل بقول عمر ونسخ المتواتر بالآحاد ممتنع على ما يأتي وسواء كان ذلك قرآناً أو سنة.
قلنا:
والسنة وهو رجم النبي صلى الله عليه وسلم للزاني لم يثبت بالتواتر بل
بطريق الآحاد وغايته أن الأمة مجمعة على الرجم والإجماع ليس بناسخ بل هو
دليل وجود الناسخ المتواتر وليس إحالته على سنة متواترة لم تظهر لنا أولى
من إحالته على قرآن متواتر لم يظهر لنا تواتره بسبب نسخ تلاوته.
وأما
النافون لذلك فقد احتجوا بحجج نقلية وعقلية: أما النقلية فمن خمسة أوجه:
الأول: قوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل 44 وصف نبيه بكونه
مبيناً والناسخ رافع والرفع غير البيان.
الثاني: قوله تعالى: " وإذا
بدلنا آية مكان آية " النحل 101 أخبر أنه إنما يبدل الآية بالآية لا بالسنة
الثالث: أن المشركين عند تبديل الآية مكان آية قالوا: إنما أنت مفتر فأزال
الله تعالى وهمهم بقوله: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " النحل 102
وذلك يدل على أن التبديل لا يكون إلا بما نزله روح القدس.
الرابع: قوله
تعالى: " قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون
لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يونس 15 وهو دليل على
أن القرآن لا ينسخ بغير القرآن.
الخامس: قوله تعالى: " ما ننسخ من آية
أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير "
البقرة 106 وذلك يدل على أن الآية لا تنسخ إلا بآية.
وبيانه من وجوه: الأول: أنه قال: " نأت بخير منها أو مثلها " والسنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.
الثاني: أن الله تعالى وصف نفسه بأنه الذي يأتي بخير منها وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة.
الثالث: وصف البدل بأنه خير أو مثل وكل واحد من الوصفين يدل على أن البدل من جنس المبدل أما المثل فظاهر وأما ما هو خير.
فلأنه لو قال القائل لغيره لا آخذ منك درهما إلا وآتيك بخير منه فإنه يفيد أنه يأتيه بدرهم خير من الأول.
الرابع قوله: " ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " دل على أن الذي يأتي به هو المختص بالقدرة عليه وذلك هو القرآن دون غيره.
وأما
من جهة المعقول فمن وجهين: الأول: أن السنة إنما وجب اتباعها بالقرآن في
قوله تعالى: " وما أتاكم به الرسول فخذوه " الحشر 7 وقوله: فاتبعوه وذلك
يدل على أن السنة فرع القرآن والفرع لا يرجع على أصله بالإبطال والإسقاط
كما لا ينسخ القرآن والسنة بالفرع المستنبط منهما وهو القياس.
الثاني: أن القرآن أقوى من السنة ودليله من ثلاثة أوجه.
الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بم تحكم؟ قال بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قدمه في العمل به على السنة والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك وذلك دليل قوته.
الثاني: أنه أقوى من جهة لفظه لأنه معجز والسنة ليست معجزة.
الثالث: أنه أقوى من جهة حكمه حيث اعتبرت الطهارة في تلاوته عن الجنابة والحيض وفى مس مسطوره مطلقاً والأقوى لا يجوز رفعه بالأضعف.
والجواب
عن الآية الأولى من ثلاثة أوجه: الأول: أنه يجب حمل قوله لتبين للناس على
معنى لتظهر للناس لكونه أعم من بيان المجمل والعموم لأنه يتناول إظهار كل
شيء حتى المنسوخ وإظهار المنسوخ أعم من إظهاره بالقرآن.
الثاني: أن نسخ
حكم الآية بيان لها فيدخل في قوله لتبين للناس وتبين القرآن أعم من تبيينه
بالقرآن الثالث: أنه وإن لم يكن النسخ بياناً غير أن وصف النبي صلى الله
عليه وسلم بكونه مبيناً لا يخرجه عن اتصافه بكونه ناسخاً.
وعن الآية
الثانية من وجهين: الأول: أنها ظاهرة في تبديل رسم آية بآية النزاع إنما هو
في تبديل حكم الآية وليس فيه ما يدل على تبديل حكمها بآية أخرى.
الثاني: أن الله تعالى أخبر أنه إذا بدل آية مكان آية قالوا إنما أنت مفتر وليس في ذلك ما يدل على أن تبديل الآية لا يكون إلا بآية.
وذلك كما لو قال القائل لغيره إذا أكلت في السوق سقطت عدالتك فإن ذلك لا يدل على أنه لا يأكل إلا في السوق.
وعن
قوله: " قل نزله روح القدس " النحل 102 أن ذلك لا يدل عل امتناع نسخ
القرآن بالسنة إلا أن تكون السنة لم ينزل بها روح القدس وليس كذلك إذ السنة
من الوحي وإن كانت لا تتلى ما سبق تقريره.
وعن الآية الرابعة من وجهين:
الأول: أن قوله: " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " أي في تبديل آية مكان آية
وليس فيه ما يدل على امتناع تبديل حكم الآية بغير الآية.
الثاني: أن النسخ وإن كان بالسنة فهي من الوحي على ما تقدم فلم يكن متبعاً إلا ما يوحى إليه به.
وعن
الآية الأخيرة من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم دلالتها على امتناع نسخ حكم
الآية بغير الآية قولهم في الوجه الأول إن السنة ليست خيراً من القرآن ولا
مثله.
قلنا: قوله: " ما ننسخ من آية " البقرة 106 إما أن يراد به نسخ
رسمها أو نسخ حكمها فإن كان الأول فهو ممتنع فإنه وصف البدل بكونه خيراً
منها والقرآن خير كله ولا يفضل بعضه على بعض.
وإن كان الثاني فذلك يدل
على أن الحكم الناسخ يكون خيراً من الحكم المنسوخ أو مثله ونحن نقول إنه لا
يمتنع أن يكون الحكم الناسخ أصلح في التكليف وأنفع للمكلف.
وأما الوجه
الثاني فلا دلالة فيه لأن السنة إذا كانت ناسخةً فالآتي بما هو خير إنما هو
الله تعالى والرسول مبلغ ولا يدل ذلك على أن الناسخ لا يكون إلا قرآناً بل
الإتيان بما هو خير أعم من ذلك.
وأما الوجه الثالث فلا دلالة فيه على
لزوم المجانسة بين الآية المنسوخ حكمها وبين ناسخه لأنه وصفه بكونه خيراً
والقرآن لا تفاوت فيه على ما سبق فعلم أن المفاضلة والمماثلة إنما هي راجعة
إلى الحكم المنسوخ والحكم الناسخ على ما سبق.
وعلى هذا فلا نسلم أنه
إذا قال له ما آخذ منك درهماً إلا وآتيك بخير منه أنه يدل على المجانسة فإن
ما هو خير أعم من الجنس فكأنه قال: آتيك بشيء هو خير مما أخذت منك
والمذكور أولاً.
وإن كان هو الآية والضمير في قوله بخير منها وإن كان عائداً إليها فلا يلزم منه المجانسة بين المضمر والمظهر.
وأما الوجه الرابع فنحن قائلون بموجبه فإن المتمكن من إزالة الحكم بما هو خير منه إنما هو الله عز وجل.
الوجه
الثاني أن الآية تدل على أنه لا بد في نسخ كل آية من الإتيان بآية هي خير
منها أو مثلها ضرورة الإخبار ولكن ليس في ذلك دلالة على أن الآية المأتي
بها هي الناسخة لإمكان أن يكون بدلاً عن الآية الأولى وإن كان الناسخ
غيرها.
الثالث أن ظاهر الآية يتناول نسخ رسم الآية والأصل تنزيل اللفظ
على حقيقته وفي حمله على نسخ الحكم صرفه إلى جهة المجاز وهو خلاف الأصل
والنزاع إنما وقع في نسخ الحكم لا في نسخ الرسم.
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه.
الأول
أن ذلك إنما يمتنع إن لو كانت السنة رافعةً لما هي فرع عليه من القرآن
وليس كذلك بل ما هي فرع عليه غير مرفوع بها وما هو مرفوع بها ليست فرعاً
عليه.
الثاني أن ما ذكروه حجة عليهم فإن القرآن قد دل على وجوب الأخذ
بما يأتي به الرسول ووجوب اتباعه فإذا أتى بنسخ حكم الآية ولم يتبع كان على
خلاف ما ذكروه.
الثالث أن السنة ليست رافعةً للقرآن وإنما هي رافعة لحكمه وحكمه ليس أصلاً لها فإذا المرتفع ليس هو الأصل وما هو الأصل غير مرتفع.
وعن
المعارضة الثانية أن القرآن وإن كان معجزاً في نظمه وبلاغته ومتلواً
ومحترماً فليس فيه ما يدل على أن دلالة كل آية منه أقوى من دلالة غيره من
الأدلة ولهذا فإنه لو تعارض عام من الكتاب وخاص من السنة المتواترة كانت
السنة مقدمةً عليه وكذلك أيضاً لو تعارضت آية ودليل عقلي فإن الدليل العقلي
يكون حاكما عليها.
وكذلك الإجماع وكثير من الأدلة على ما يأتي في
الترجيحات وعلى هذا فلا يمتنع رفع حكم الآية بدليل السنة كيف وإن السنة
الناسخة ليست معارضة ولا نافية لمقتضى الآية بل مبينة ومخصصة على ما سبق.
المسألة الحادية عشرة اختلفوا في جواز نسخ الحكم الثابت بالإجماع فنفاه الأكثرون وأثبته الأقلون.
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى