رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
خطبة الجمعة في الجامع الكبير بسبت تنومة
يوم الجمعة ( 4 شوال 1429هـ ) ( ماذا بعد شهر رمضـان ؟ )
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
( الخطبة الأولى )
=-=-=-=
الحمد لله الذي شرح صدور المؤمنين بنور الإيمان وحببه إليهم ، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، أحمده جل جلاله على ما أكرمنا به من الفضل والإحسان ، وما تفضل به علينا من الأمن والإيمان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير .
وأشهد أن نبينا ورسولنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، الذي آخى بين المؤمنين ، واجتهد في التأليف بين قلوب المسلمين ، فوحد الله به الصفوف ، وجمع به الكلمة ، وأعزَّ به الدين ، وعلى آله الأخيار ، وصحابته الأطهار ، أما بعد :
فيا عباد الله ، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ، فإن الله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ( آل عمران : 102 ) .
وهو القائل جل في عُلاه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ( الحشر : 18 ) .
واعلموا - بارك الله فيكم - أننا قد ودَّعنا قبل أيامٍ قليلةٍ شهرًا كريمًا ، وموسمًا عظيمًا من مواسم الخير والبركة ، أكرمنا الله تعالى فيه بصيام أيامه ، وقيام ما تيسّر من لياليه ، وشرّفنا فيه بالكثير من أنواع الطاعات والعبادات القولية والفعلية ؛ فهناك من أقبل على تلاوة القرآن الكريم صباح مساء ، وهناك من أكثر من الذكر والدعاء ، وهناك من بذل الصدقات بجودٍ وسخاء .
إخوة الإيمان : إن شهر رمضان المبارك قد انقضى ، وانتهت أيامه ، وتصرمت لياليه ، وقد ارتحل عنا ، وطويت صحائفه مُحملةً بأعمال العباد ، فمنهم الرابح ومنهم غير ذلك ، ومنهم من اغتنم أيامه ولياليه في التقرب إلى الله تعالى بما يستطيع ، ومنهم من كان مُقصرًا ومُسرفًا على نفسه ، ومنهم من جمع بين الصالح وغير الصالح من القول والعمل والنية ، وهكذا تتفاوت المستويات بين الناس فيما حصلوه من الأجر والثواب ، وما غنموه من هذا الموسم الرباني العظيم الذي تُفتح فيه أبواب الجنات ، وتنزل الرحمات ، وتُضاعف الحسنات ، وتُرفع الدرجات ، وتُجاب الدعوات ، وتُقال العثرات ، وتُمحى الخطايا والسيئات ؛ فاللهم اكتبنا فيه من الفائزين ، واجعلنا من المقبولين ، و اعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأُمهاتنا من النار يا رب العالمين .
عباد الله ، إن شهر الصيام قد انقضى ؛ إلا أن زمن العمل الصالح والنية الصالحة لا ينتهي ، وهذا يعني أن على الإنسان المسلم ذكرًا كان أو أُنثى ، صغيرًا كان أو كبيرًا ، عالمًا أو مُتعلمًا ، أن يجتهد بعد شهر رمضان في طاعة الله تعالى ، والتقرب إليه سبحانه في كل شأنٍ من شؤون حياته ، وكل جزئيةٍ من جزئياتها كما كان يجتهد لذلك في شهر رمضان ، لأن رب الشهور واحد سبحانه ، ولأنه ( جل في عُلاه ) هو الذي فرض الطاعات وشرعها للعباد ، وهو الذي حث على الإتيان بها والمحافظة عليها في شهر رمضان وفي غيره من الشهور ، وهو الذي مع ذلك كله لا يُضيع أجر المُحسنين .
أيها المسلمون : ولئن كان فضل رمضان قد ولى وفاز به من فاز من العباد؛ فإن فضل الله تعالى وكرمه لا يزال باقيًا ومُستمرًا إلى قيام الساعة ، وهو سبحانه يؤتيه من يشاء من عباده ، ويوفق إليه من يُحب ويختار ، وخير دليلٍ على ذلك أنه سبحانه وتعالى قد شرع لنا من الطاعات ما يُقربنا إليه ويُكسبنا ثوابه ويُبلغُنا الدرجات العلا من الجنة ؛ فقد شُرع لنا صيام التطوع في غير شهر رمضان ، لما صحَّ عند الإمام مُسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر " .
وجاء الحث على صوم ثلاثة أيامٍ من كل شهر ، وصيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع ، وصيام عشر ذي الحجة ، ومنها صيام يوم عرفة ، والصيام في شهر الله المُحرم كيوم عاشوراء ويومٍ قبله أو بعده ، وغير ذلك من الأيام على مدار العام .
كما أن تعاليم ديننا الحنيف جاءت مُرغبةً في المحافظة على قيام الليل بالصلاة وبيان فضل ذلك عند الله تعالى ، فعند النسائي أن حميد بن عبد الرحمن قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل " .
وجاء في مسند الإمام أحمد أن أُم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) قالت لسائلٍ سألها :
" لا تدع قيام الليل ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدًا " .
وهناك عبادة أُخرى تتمثل في الإكثار من الصدقات ولو بالقليل ، وتفقد أحوال الفقراء من الناس ، والإحسان إلى المحتاجين منهم ولو بالشيء اليسير ، وهي من أفضل الطاعات والقُربات إلى الله تعالى الذي قال في كتابه العظيم : { إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }( يوسف : من الآية 88 ) . والتي صحّ عن سعيد بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في فضلها :
" من تصدق بصدقةٍ من كسبٍ طيبٍ ، ولا يقبل الله إلا طيبًا ، كان إنما يضعها في كف الرحمن ، يُربيها كما يُربِّي أحدكم فلُوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل " . ( رواه مالك في الموطأ ) .
كما أن ذكر الله تعالى ( تسبيحًا ، وتهليلاً ، وتكبيرًا ، واستغفارًا ، وحمدًا ، وشُكرًا ، إلى غير ذلك ) ، يُعد من الطاعات التي لا ينبغي للمُسلم أن يغفل عنها في أي وقتٍ من الليل أو النهار ، وأن يحرص على إشغال نفسه بها في السر والعلن ، وأن يجتهد في المحافظة عليها في كل شأنٍ من شؤون حياته ، وتعويد اللسان على الإتيان بها دائمًا لما في ذلك من تعظيم شأن الله تعالى ، وإشغال الجوارح بما فيه الفلاح والصلاح والنجاح ، ولذلك قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ( الأحزاب : 42 ) .
كما أنه جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " .
وليس هذا فحسب ، فكل عملٍ أو قولٍ أو نيةٍ صالحة ؛ إنما هي من أعمال البر والإحسان والطاعات والقُربات التي يتقبلها الله تعالى من العباد ، ويُكافئ عليها بعظيم الأجر وجزيل الثواب متى توافر فيها شرطان أساسيان هما :
( أولاً ) أن تكون خالصةً لله سبحانه ، ولا يبتغى بها صاحبها إلا وجهه الكريم جل في عُلاه .
( ثانيًا ) أن تكون موافقةً لما جاء به منهج الدين الإسلامي الحنيف ، وهدي الرسول الكريم محمدٍ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وغير مخالفةً له أو مُتعارضةً مع سنته المُطهرة .
فيا عباد الله تذّكروا ( بارك الله فيكم ) أن طُرق الخير كثيرة ، وأن سُبل الفلاح مُيسرّة ، وأن أبواب الجنة ثـمانية ، وأن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء ، وأنه - جل جلاله - يقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ربه سبحانه أنه قال :
" يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " ( رواه مسلم في صحيحه ) .
= فيا من عرفت في شهر رمضان أن لك ربًا لطيفًا بعباده ، كيف نسيت ذلك بعد رمضان ؟
= ويا من حافظت على أداء الصلوات جماعةً في المساجد ، كيف تجاهلت ذلك بعد رحيل رمضان ؟
= ويا من تركت المعاصي وهجرت الخطايا في شهر رمضان ، كيف تعود إليها بعد رمضان ؟
= ويا من تصدقت وبذلت ، وأطعمت وأسقيت في شهر رمضان ، كيف تغفل عن ذلك بعد نهاية رمضان ؟
= ويا من حافظت على تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان ، كيف تركت ذلك الخير عندما انتهى رمضان ؟
= ويا من وفقت إلى الصيام والقيام والدعاء والذكر في شهر رمضان ، كيف تُضيِّع ذلك كله وتتناساه بعد رمضان ؟
عباد الله : إن من الخُسران المبين أن يودع بعض الناس تلك الأعمال الصالحة بعد نهاية شهر رمضان ، وإن من الفهم الخاطئ لشعائر الإسلام أن يكون العمل بالطاعات في مواسم معينة ، وأن يكون الإقبال على العبادات محصورًا في أوقاتٍ مُحددة ، وهذا أمرٌ مخالف لتعاليم الدين ، ولا يتفق مع هدي سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل والنية ، وأقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمُسلمات من كل ذنبٍ وخطيئة ؛ فاستغفروه وتوبوا إليه ، إنه هو الغفور الرحيم .
=-=-=
الخُطبة الثانية
=-=-=
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } . وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الذي أرسله بالهُدى ودين الحق صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله الأخيار وصحابته الأطهار ، وبعد ؛
فنحن في هذه الأيام نستعد لتوديعٍ واستقبال ، فأما التوديع فهو للإجازةٍ الصيفية التي تمتع بها كثيرٌ من الناس ، وأما الاستقبال فلعامٍ دراسيٍ جديدٍ نسأل الله أن يكتب لنا جميعًا فيه التوفيق والسدّاد و الهداية والرشاد .
معاشر المسلمين ، إن من الواجب على كل فردٍ منا في هذه الأيام أن يُراجع نفسه ، وأن يُخضعها للمحاسبة الذاتية ؛ كأن يتساءل كيف انقضت هذه الإجازة ؟
وما حاله وحال أهله خلال هذه الإجازة ؟
وكيف مرت به أيامها ولياليها ؟
وفي أي شيءٍ صرف أوقاتها ؟
وما هي ثـمراتها له ولأهله ؟
وما أبرز نتائجها ؟
وهل كانت في مرضاة الله تعالى أم في غير ذلك ؟
إلى غير ذلك من الأسئلة التي يمكن له من خلالها معرفةً حقيقة الإجازة وطبيعة حياته فيها .
وفي الوقت نفسه يجب أن يقف الإنسان مع نفسه وقفةً صادقة يتساءل خلالها عن مدى استعداده للفترة القادمة من حياته ، كأن يعرف ماذا أعد لها ؟
وكيف سيكون استعداده لخوض غمارها ؟
وهل لديه النية والعزيمة على أن يكون حاله وحال أهله خلالها أحسن مما كان عليه قبلها ؟
إن من راجع نفسه وأخضعها للمحاسبة ، ومن حرص على تصحيح المسيرة وتقويم الخطأ هو الإنسان المُسلم الذي يعلم أن الله تعالى لم يخلقه عبثًا ، وأنه مسؤولٌ عن نفسه وعن أهله وعن حياته بما فيها ومن فيها .
و اعلموا بارك الله فيكم أننا جميعًا مقصرون وخطاؤون ، وأن خير الخطائين التوابون . ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من أفضل أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، كثرة صلاتكم وسلامكم على خير الورى ، النبي المصطفى ، والحبيب المُجتبى محمد بن عبد الله الذي أمرنا ربنا جل في علاه بالصلاة والسلام عليه فقال عزّ من قائل :
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْه وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ( سورة الأحزاب : الآية 56 ) .
اللهم إني أسألُك وأتوجه إليك أن تنصر الإسلام وأن تعز المسلمين ، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين .
اللهم أعنا على ذكرك وشُكرك وحسن عبادتك .
اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وفرج كروبنا ، وفك أسرنا ، وأرحم الله ضعفنا ، وأرفع مقتك وغضبك عنا .
اللهم اشف مرضى المُسلمين ، وعاف مبتلاهم ، وارحم موتاهم ، وأرجع غائبهم ، وأهد ضالهم ، وأطعم جائعهم ، وأمِّن خائفهم ، وأصلح اللهم أحوالهم ، وردهم إليك ردًا جميلاً .
اللهم من أراد بالعباد والبلاد خيرًا فسدده وأعنه ، ومن أراد غير لك فاكفناه بما شئت ، اللهم كن لنا ولا تكن علينا ، وزدنا ولا تُنقصنا ، وارفعنا ولا تضعنا ، وبلغنا مما يُرضيك آمالنا واحشُرنا في زُمرة نبينا ، وتحت لواء حبيبنا .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالدي والدينا ، ومن له حقٌ علينا ، وأحسن اللهم ختامنا ومآلنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعد علينا شهر رمضان أعوامًا عديدة , وأزمنةً مديدة ، اللهم أعده علينا بصحة وعافية ، اللهم أعده على أمة الإسلام في كل مكان بالعز والنصر والتمكين والتأييد إنك سميع قريب مجيب الدعاء .
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء ، فلا تحرمنا رحمتك وكرمك بما تراه وتعلمه من ذنوبنا تقصيرنا ، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أنزل علينا من خزائن السماء ، وأنبت لنا من بركات الأرض ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا ، فأرسل السماء علينا مدرارا ، وأمددنا بأموالٍ وبنين ، واجعل لنا جناتٍ ، واجعل لنا أنهارا .
عباد الله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، فاذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، واستغفروه يغفر لكم ، وأقم الصلاة ....
يوم الجمعة ( 4 شوال 1429هـ ) ( ماذا بعد شهر رمضـان ؟ )
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
( الخطبة الأولى )
=-=-=-=
الحمد لله الذي شرح صدور المؤمنين بنور الإيمان وحببه إليهم ، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، أحمده جل جلاله على ما أكرمنا به من الفضل والإحسان ، وما تفضل به علينا من الأمن والإيمان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير .
وأشهد أن نبينا ورسولنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، الذي آخى بين المؤمنين ، واجتهد في التأليف بين قلوب المسلمين ، فوحد الله به الصفوف ، وجمع به الكلمة ، وأعزَّ به الدين ، وعلى آله الأخيار ، وصحابته الأطهار ، أما بعد :
فيا عباد الله ، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ، فإن الله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ( آل عمران : 102 ) .
وهو القائل جل في عُلاه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ( الحشر : 18 ) .
واعلموا - بارك الله فيكم - أننا قد ودَّعنا قبل أيامٍ قليلةٍ شهرًا كريمًا ، وموسمًا عظيمًا من مواسم الخير والبركة ، أكرمنا الله تعالى فيه بصيام أيامه ، وقيام ما تيسّر من لياليه ، وشرّفنا فيه بالكثير من أنواع الطاعات والعبادات القولية والفعلية ؛ فهناك من أقبل على تلاوة القرآن الكريم صباح مساء ، وهناك من أكثر من الذكر والدعاء ، وهناك من بذل الصدقات بجودٍ وسخاء .
إخوة الإيمان : إن شهر رمضان المبارك قد انقضى ، وانتهت أيامه ، وتصرمت لياليه ، وقد ارتحل عنا ، وطويت صحائفه مُحملةً بأعمال العباد ، فمنهم الرابح ومنهم غير ذلك ، ومنهم من اغتنم أيامه ولياليه في التقرب إلى الله تعالى بما يستطيع ، ومنهم من كان مُقصرًا ومُسرفًا على نفسه ، ومنهم من جمع بين الصالح وغير الصالح من القول والعمل والنية ، وهكذا تتفاوت المستويات بين الناس فيما حصلوه من الأجر والثواب ، وما غنموه من هذا الموسم الرباني العظيم الذي تُفتح فيه أبواب الجنات ، وتنزل الرحمات ، وتُضاعف الحسنات ، وتُرفع الدرجات ، وتُجاب الدعوات ، وتُقال العثرات ، وتُمحى الخطايا والسيئات ؛ فاللهم اكتبنا فيه من الفائزين ، واجعلنا من المقبولين ، و اعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأُمهاتنا من النار يا رب العالمين .
عباد الله ، إن شهر الصيام قد انقضى ؛ إلا أن زمن العمل الصالح والنية الصالحة لا ينتهي ، وهذا يعني أن على الإنسان المسلم ذكرًا كان أو أُنثى ، صغيرًا كان أو كبيرًا ، عالمًا أو مُتعلمًا ، أن يجتهد بعد شهر رمضان في طاعة الله تعالى ، والتقرب إليه سبحانه في كل شأنٍ من شؤون حياته ، وكل جزئيةٍ من جزئياتها كما كان يجتهد لذلك في شهر رمضان ، لأن رب الشهور واحد سبحانه ، ولأنه ( جل في عُلاه ) هو الذي فرض الطاعات وشرعها للعباد ، وهو الذي حث على الإتيان بها والمحافظة عليها في شهر رمضان وفي غيره من الشهور ، وهو الذي مع ذلك كله لا يُضيع أجر المُحسنين .
أيها المسلمون : ولئن كان فضل رمضان قد ولى وفاز به من فاز من العباد؛ فإن فضل الله تعالى وكرمه لا يزال باقيًا ومُستمرًا إلى قيام الساعة ، وهو سبحانه يؤتيه من يشاء من عباده ، ويوفق إليه من يُحب ويختار ، وخير دليلٍ على ذلك أنه سبحانه وتعالى قد شرع لنا من الطاعات ما يُقربنا إليه ويُكسبنا ثوابه ويُبلغُنا الدرجات العلا من الجنة ؛ فقد شُرع لنا صيام التطوع في غير شهر رمضان ، لما صحَّ عند الإمام مُسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر " .
وجاء الحث على صوم ثلاثة أيامٍ من كل شهر ، وصيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع ، وصيام عشر ذي الحجة ، ومنها صيام يوم عرفة ، والصيام في شهر الله المُحرم كيوم عاشوراء ويومٍ قبله أو بعده ، وغير ذلك من الأيام على مدار العام .
كما أن تعاليم ديننا الحنيف جاءت مُرغبةً في المحافظة على قيام الليل بالصلاة وبيان فضل ذلك عند الله تعالى ، فعند النسائي أن حميد بن عبد الرحمن قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل " .
وجاء في مسند الإمام أحمد أن أُم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) قالت لسائلٍ سألها :
" لا تدع قيام الليل ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدًا " .
وهناك عبادة أُخرى تتمثل في الإكثار من الصدقات ولو بالقليل ، وتفقد أحوال الفقراء من الناس ، والإحسان إلى المحتاجين منهم ولو بالشيء اليسير ، وهي من أفضل الطاعات والقُربات إلى الله تعالى الذي قال في كتابه العظيم : { إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }( يوسف : من الآية 88 ) . والتي صحّ عن سعيد بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في فضلها :
" من تصدق بصدقةٍ من كسبٍ طيبٍ ، ولا يقبل الله إلا طيبًا ، كان إنما يضعها في كف الرحمن ، يُربيها كما يُربِّي أحدكم فلُوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل " . ( رواه مالك في الموطأ ) .
كما أن ذكر الله تعالى ( تسبيحًا ، وتهليلاً ، وتكبيرًا ، واستغفارًا ، وحمدًا ، وشُكرًا ، إلى غير ذلك ) ، يُعد من الطاعات التي لا ينبغي للمُسلم أن يغفل عنها في أي وقتٍ من الليل أو النهار ، وأن يحرص على إشغال نفسه بها في السر والعلن ، وأن يجتهد في المحافظة عليها في كل شأنٍ من شؤون حياته ، وتعويد اللسان على الإتيان بها دائمًا لما في ذلك من تعظيم شأن الله تعالى ، وإشغال الجوارح بما فيه الفلاح والصلاح والنجاح ، ولذلك قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ( الأحزاب : 42 ) .
كما أنه جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " .
وليس هذا فحسب ، فكل عملٍ أو قولٍ أو نيةٍ صالحة ؛ إنما هي من أعمال البر والإحسان والطاعات والقُربات التي يتقبلها الله تعالى من العباد ، ويُكافئ عليها بعظيم الأجر وجزيل الثواب متى توافر فيها شرطان أساسيان هما :
( أولاً ) أن تكون خالصةً لله سبحانه ، ولا يبتغى بها صاحبها إلا وجهه الكريم جل في عُلاه .
( ثانيًا ) أن تكون موافقةً لما جاء به منهج الدين الإسلامي الحنيف ، وهدي الرسول الكريم محمدٍ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وغير مخالفةً له أو مُتعارضةً مع سنته المُطهرة .
فيا عباد الله تذّكروا ( بارك الله فيكم ) أن طُرق الخير كثيرة ، وأن سُبل الفلاح مُيسرّة ، وأن أبواب الجنة ثـمانية ، وأن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء ، وأنه - جل جلاله - يقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ربه سبحانه أنه قال :
" يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " ( رواه مسلم في صحيحه ) .
= فيا من عرفت في شهر رمضان أن لك ربًا لطيفًا بعباده ، كيف نسيت ذلك بعد رمضان ؟
= ويا من حافظت على أداء الصلوات جماعةً في المساجد ، كيف تجاهلت ذلك بعد رحيل رمضان ؟
= ويا من تركت المعاصي وهجرت الخطايا في شهر رمضان ، كيف تعود إليها بعد رمضان ؟
= ويا من تصدقت وبذلت ، وأطعمت وأسقيت في شهر رمضان ، كيف تغفل عن ذلك بعد نهاية رمضان ؟
= ويا من حافظت على تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان ، كيف تركت ذلك الخير عندما انتهى رمضان ؟
= ويا من وفقت إلى الصيام والقيام والدعاء والذكر في شهر رمضان ، كيف تُضيِّع ذلك كله وتتناساه بعد رمضان ؟
عباد الله : إن من الخُسران المبين أن يودع بعض الناس تلك الأعمال الصالحة بعد نهاية شهر رمضان ، وإن من الفهم الخاطئ لشعائر الإسلام أن يكون العمل بالطاعات في مواسم معينة ، وأن يكون الإقبال على العبادات محصورًا في أوقاتٍ مُحددة ، وهذا أمرٌ مخالف لتعاليم الدين ، ولا يتفق مع هدي سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل والنية ، وأقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمُسلمات من كل ذنبٍ وخطيئة ؛ فاستغفروه وتوبوا إليه ، إنه هو الغفور الرحيم .
=-=-=
الخُطبة الثانية
=-=-=
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } . وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الذي أرسله بالهُدى ودين الحق صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله الأخيار وصحابته الأطهار ، وبعد ؛
فنحن في هذه الأيام نستعد لتوديعٍ واستقبال ، فأما التوديع فهو للإجازةٍ الصيفية التي تمتع بها كثيرٌ من الناس ، وأما الاستقبال فلعامٍ دراسيٍ جديدٍ نسأل الله أن يكتب لنا جميعًا فيه التوفيق والسدّاد و الهداية والرشاد .
معاشر المسلمين ، إن من الواجب على كل فردٍ منا في هذه الأيام أن يُراجع نفسه ، وأن يُخضعها للمحاسبة الذاتية ؛ كأن يتساءل كيف انقضت هذه الإجازة ؟
وما حاله وحال أهله خلال هذه الإجازة ؟
وكيف مرت به أيامها ولياليها ؟
وفي أي شيءٍ صرف أوقاتها ؟
وما هي ثـمراتها له ولأهله ؟
وما أبرز نتائجها ؟
وهل كانت في مرضاة الله تعالى أم في غير ذلك ؟
إلى غير ذلك من الأسئلة التي يمكن له من خلالها معرفةً حقيقة الإجازة وطبيعة حياته فيها .
وفي الوقت نفسه يجب أن يقف الإنسان مع نفسه وقفةً صادقة يتساءل خلالها عن مدى استعداده للفترة القادمة من حياته ، كأن يعرف ماذا أعد لها ؟
وكيف سيكون استعداده لخوض غمارها ؟
وهل لديه النية والعزيمة على أن يكون حاله وحال أهله خلالها أحسن مما كان عليه قبلها ؟
إن من راجع نفسه وأخضعها للمحاسبة ، ومن حرص على تصحيح المسيرة وتقويم الخطأ هو الإنسان المُسلم الذي يعلم أن الله تعالى لم يخلقه عبثًا ، وأنه مسؤولٌ عن نفسه وعن أهله وعن حياته بما فيها ومن فيها .
و اعلموا بارك الله فيكم أننا جميعًا مقصرون وخطاؤون ، وأن خير الخطائين التوابون . ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من أفضل أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، كثرة صلاتكم وسلامكم على خير الورى ، النبي المصطفى ، والحبيب المُجتبى محمد بن عبد الله الذي أمرنا ربنا جل في علاه بالصلاة والسلام عليه فقال عزّ من قائل :
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْه وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ( سورة الأحزاب : الآية 56 ) .
اللهم إني أسألُك وأتوجه إليك أن تنصر الإسلام وأن تعز المسلمين ، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين .
اللهم أعنا على ذكرك وشُكرك وحسن عبادتك .
اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وفرج كروبنا ، وفك أسرنا ، وأرحم الله ضعفنا ، وأرفع مقتك وغضبك عنا .
اللهم اشف مرضى المُسلمين ، وعاف مبتلاهم ، وارحم موتاهم ، وأرجع غائبهم ، وأهد ضالهم ، وأطعم جائعهم ، وأمِّن خائفهم ، وأصلح اللهم أحوالهم ، وردهم إليك ردًا جميلاً .
اللهم من أراد بالعباد والبلاد خيرًا فسدده وأعنه ، ومن أراد غير لك فاكفناه بما شئت ، اللهم كن لنا ولا تكن علينا ، وزدنا ولا تُنقصنا ، وارفعنا ولا تضعنا ، وبلغنا مما يُرضيك آمالنا واحشُرنا في زُمرة نبينا ، وتحت لواء حبيبنا .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالدي والدينا ، ومن له حقٌ علينا ، وأحسن اللهم ختامنا ومآلنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعد علينا شهر رمضان أعوامًا عديدة , وأزمنةً مديدة ، اللهم أعده علينا بصحة وعافية ، اللهم أعده على أمة الإسلام في كل مكان بالعز والنصر والتمكين والتأييد إنك سميع قريب مجيب الدعاء .
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء ، فلا تحرمنا رحمتك وكرمك بما تراه وتعلمه من ذنوبنا تقصيرنا ، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أنزل علينا من خزائن السماء ، وأنبت لنا من بركات الأرض ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا ، فأرسل السماء علينا مدرارا ، وأمددنا بأموالٍ وبنين ، واجعل لنا جناتٍ ، واجعل لنا أنهارا .
عباد الله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، فاذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، واستغفروه يغفر لكم ، وأقم الصلاة ....
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى