عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ملخص الخطبة
1- عظم فتن هذا الزمان. 2- تحذير النبي من فتن الدين والدنيا. 3- عموم ضرر الفتن. 4- بيان الشرع للأسباب الحافظة من الفتن. 5- الأصل الأول: الابتعاد عن الفتن. 6- الأصل الثاني: الاعتصام بالكتاب والسنة. 7- الأصل الثالث: لزوم جماعة المسلمين. 8- الأصل الرابع: التحلي بالصبر. 9- الأصل الخامس: الاتصاف بالحلم والأناة. 10- الأصل السادس: الرفق في الأمور واللطف في التعامل. 11- الأصل السابع: الإدراك الصحيح للواقع. 12- الأصل الثامن: رعاية حق العلماء. 13- الأصل التاسع: الحذر من القنوط واليأس. 14- ضرورة الرجوع إلى الله والالتجاء إليه والاستعاذة به.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فبها يحصُل الخير والفلاح والفوزُ والنجاح.
معاشرَ المسلمين، تمرُّ الأمّة الإسلاميّةُ على مستوَى أفرادِها ومجتمعاتِها بفتنٍ عظيمَة تنوَّعت أسبابُها واختلفت موضوعاتُها وتعدّدت مصادِرها. فتنٌ في الدّين والعقيدَة، في السّياسة والإدارَة، في الاقتصاد والاجتمَاع، في العقولِ والنفوس، في الأولاد والأعرَاض. فتنٌ يعيشها المسلمون تتضمّن في طيّاتِها تحسينَ القبيح وتقبيحَ الحسَن، تحمِل الهجمةَ على الدّين وأهلِه، تزخرِف الباطلَ وتروِّج له، وتحاوِل مَحوَ الحقّ وإبعادَ الناسِ عنه، ديدنُها الهدْم والتخريبُ والتحريش والتشويش. فتنٌ قوليّة وأخرى فعليّة، تُنشَر بأسبابٍ متطوِّرة ووسائلَ سريعةٍ في وقتها وتأثيرها. فتنٌ تعاظمَ اليومَ خطَرها وتطايَر شرُّها وتزايَد ضررُها. فتنٌ نالت من جزئيّات الدين وفرعيَّاته إلى أصولِه وأركانِه، وتطوَّرت من دخولِها على الأفرادِ إلى دخولِها على المجتمَعات. فتنٌ يوشِك أن تنالَ كثرةً كاثرةً من أبناءِ المسلمين، تؤثِّر عليهم في دينِهم ودنيَاهم، لا سيّما من لا يُميِّز بين نافعٍ وضار، ولا بين حسَن وقبيحٍ، ومن لا يبلغ سَبرَ الأمور، ولا يدرك الحقائقَ على صورتِها الصحيحة. فتنٌ تسبِّب الشكَّ من بعضِ المسلمين في ثوابتِ دينهم ومقرَّرَات شريعتِهم، وتُسبِّب الحيرةَ لكثيرين والانحرافَ لآخرين.
عبادَ الله، لقد أخبرَ النبيّ بظهورِ الفتنِ في الدّين والدّنيا؛ فتنُ الدّين بما يصدّ عن الإيمان بالله جلّ وعلا والقيام بأمره واتّباع هديِ نبيّه ، وفتنُ الدّنيا بما يحصُل من القتلِ والخوف والسّلب والنّهب ونحوِها، ثبَت في الصحيح عن النبيّ أنه قال: ((يتقارَب الزّمَان، ويقِلّ العمَل، ويُلقَى الشّحّ، وتظهَر الفتن))[1].
معاشرَ المسلمين، إنَّ الفتنَ يصيبُ ضررُها الجميعَ، ويكون معَها الشرّ والفسادُ للبلادِ والعباد، إذَا لم تعالَج بميزان الشّرع، ولم يحكُمِ الناس أنفسَهم بتعاليمه ويوقفوها عند حدودِه، ولم يراعوا الأمورَ حقَّ رعايتِها وينظروا للنَّوازل والمدلهمّات بما يعالِج أضرارَها ويرفَع آثارَها، لذا جاءَت تحذيراتُ الشّرع من الفتنِ ومن غوائلِها وشرورِها، يقول جلّ وعلا: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، قال ابن كثير في تفسيره: "هذهِ الآية وإن كان المخاطَب بها هم صحابة رسولِ الله لكنَّها عامّة لكلِّ مسلم؛ لأنّ النبيَّ كان يحذِّر من الفتَن"[2].
معاشرَ المسلمين، إنَّ الشريعةَ الإسلاميّة ـ وهي الصالحةُ لكلّ زمانٍ ومكان ـ قد تضمَّنت من الضماناتِ والأسُس ومن المبادئ والأصول ما يَكفل للأمّة جميعِها توقّي أخطارِ الفتن، وما يضمَن الحصانةَ الوقائيّة لدفعها قبل وقوعِها، ولرفع أضرارِها وآثارِها بعدَ حُلولِها. توجيهاتٌ سامِيَة تضبِط زمامَ الأمُور أن ينحرِف، وتعليماتٌ كريمَة تصون العقولَ أن يضلّ أو تتخبّط، وتدابيرُ شرعيَّة تقي الخطواتِ أن تتَعثّر أو تزلَّ عن الصواب. توجيهاتٌ ترسم للأمة المسارَ الصحيحَ عندَ الفتنِ حالَ ظهورِها، والمنهجَ الأرشَد لمعالجةِ الأحوال والأوضَاع عندَ تغيُّرها. توجيهاتٌ وإرشاداتٌ بفهمِها يُعصَم المرءُ من الخلل والزَّلل، وتُصان الأمّة من الفسَاد والدّمار والهلاك والخراب، بإدراكِها حقَّ الإدراك ورعايتِها حقَّ الرعاية والنظرِ إليها وتفعيلها في الواقع يتحقَّق الصّلاح بكلّ معانيه، ويندفِع الشرُّ والفساد بكلّ صوَره وأشكاله وأسبابِه ودوافعِه. وهذه التوجيهاتُ وتلكَ الإرشادات تعودُ إلى أصول، منها:
الأصل الأوّل: محاولةُ الابتعاد عن مواطِن الفتَن، ومجانبة أسبابها، والفِرار عن مواقعِها، خاصّة عامّة المسلمين ودهمَاءهم، فالله جلّ وعلا يقول: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، ونبيّنا يقول: ((يوشِك أن يكونَ خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يتبعُ بها شعَف الجبال ومواقِعَ القطر؛ يفِرّ بدينه من الفتن)) رواه البخاري[3]، ويبيِّن عظيمَ خطَر الفتَن، ويَحثّ على اجتنَابها والهرَب منها، ويبيِّن أنّ شرَّها وضررَها يكون على حسَب التعلّق منها، فيقول : ((ستَكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائم خيرٌ من المَاشي، والمَاشي فيهَا خير من السَّاعي، من تَشرَّف إليها تستَشرِفه، ومن وجَد فيها ملجأً أو معاذًا فليعُذ به)) رواه مسلم[4].
الأصلُ الثاني: الاعتصامُ بالكتاب والسنّة، فالاعتصام بهما يحقِّق للأمّة النجاةَ من كلّ شرٍّ وانحرَاف، يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، قال ابن كثير: "قال مجَاهد وغيرُ واحد من السلف: أن يُردَّ التنازُع في ذلك إلى الكتاب والسنّة"[5]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطَب النبيّ في حجّة الودَاع فقال: ((يا أيّها النّاس، إنّي تركتُ فيكم ما إن اعتصَمتُم به فلن تضلّوا أبداً: كتابَ الله وسنّتي)) حديث إسناده صحيح[6]، وفي حديث العرباضِ بن سارية رضي الله عنه قال: قام فينَا رسول الله ذاتَ يوم فقال: ((عليكم بتقوى الله والسمعِ والطاعَة وإن تأمَّر عَليكم عبدٌ حبشيّ، وستَرَون بعدي اختلافًا شديداً، فعلَيكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم والأمورَ المحدثاتِ، فإنَّ كلّ بدعةٍ ضلالة)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"[7]. قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإنسانُ في نظَره مع نفسِه ومناظرتِه لغيره إذا اعتصَم بالكتابِ والسنّة هداه الله إلى الصّراط المستقيم، فإنَّ الشريعة مثلُ سفينةِ نوح، من ركبَها نجَا، ومن تخلّف عنها غرِق" انتهى[8]. كلُّ ذلك في محيطِ التزامٍ بمذهبِ سلفِ هذه الأمة الذي يحقِّق السلامةَ من الانحرافِ وعلاجَ ما وقعَ منها.
عبادَ الله، ومِن تَمَام هذا الاعتصَام ولوازمِه تحقيقُ تقوَى الله جلّ وعلا والإنابة إليه والثبَات على دينه والاستقامَة على شرعِه، فالتقوَى سبيلٌ للمخارج من الأزماتِ والمحَن ومن القلاقل والفتن، وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]، ونبيّنا يقول: ((بادِروا بالأعمالِ فتنًا كقِطَع الليل المظلم، يصبِح الرجل مؤمناً ويمسِي كافراً، ويمسِي مؤمناً ويصبِح كافراً، يبيع دينَه بعرضٍ من الدنيا)) رواه مسلم[9].
والفتنُ إنّما يقوَى تأثيرُها وتظهَر آثارُها على ضِعاف الإيمان ومتَّبعي الشهوات، فلا تجِد الفتَن حينئذ مقاوِماً ولا مدافعاً، فتفتِك بالعبدِ فتكاً، وتمزّقه كما يمزّق السهمُ الرميّة، أخرَج ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله عنه أنّه قال: (لا تضرّك الفتنةُ ما عرفتَ دينَك، إنّمَا الفتنة إذا اشتبَه عليك الحقّ بالباطل)[10]، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنَّ النبيّ قال: ((إنَّ أمّتكم هذه جُعل عافيتها في أوّلها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمورٌ تنكِرونَها، وتجيء فتنٌ يرقّق بعضُها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكَتي، ثم تَنكشِف، ثم تجيء الفتنة فيقول: هذِه هذه، فمَن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل الجنّة فلتأتِه منيّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليَأتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه)) رواه مسلم[11].
وإنَّ الواجبَ اليومَ على حكّامِ المسلمين ومحكُوميهم في شتّى بلدَان المسلمين وهُم يعيشون الفتنَ من كلّ جانِب أن يعلَموا أنَّ ما أصاب المسلمين من فتنٍ وشرور كلُّ ذلك بسبَب ما كسبَته أيديهم، أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
وإنَّ تطبيقَ شَريعَة الإسلام اليومَ بِكافَّة جوانِبها في جمِيع نواحِي الحياةِ مطلبٌ ضروريّ من مطالب الأمّة كلّها، والتمَسّكُ بشريعة الله هو الكفيلُ الأوحَد بعِزّ الدين وسعادةِ الآخرة، وهو الضمَان الآمن للخلاصِ من الفتَن والمصائب، ولا سبيلَ لإنقاذ مجتمعاتِ الإسلام من هذه الفتن والمفاسِد إلا بالاعتصَام بشريعة الإسلام ووضعِها موضعَ التنفيذِ بكلّ أجزائِها، وحتّى تتَّجه الأمّة الإسلاميّة في جمِيع بلدانِها إلى إقامة نظامٍ إسلاميٍّ سياسيّ وإداريّ واقتصادي، يطبِّق الشريعةَ ويلتزِم بها في كلّ شؤون الحياة.
فالواجبُ على الأمّة الإسلاميّة العودةُ بالتشريعَات والأنظمة كلّها على وفقِ ما جاء به محمّد في الجوانِب كلّها والمناحِي جميعها، وإلا فربّنا جلّ وعلا يقول: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَـٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
الأصل الثالث: أن يلزَم المسلمُ حالَ الفتنِ جماعةَ المسلمين وإمامَهم، فربّنا جلَّ وعلا يقول: وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران:103]، وحبلُ الله عندَ أهلِ السنّة والجماعة يشمل كتابَ الله كما يشمَل لزومَ الجماعة وأمامَهم، أخرجَ مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((إنَّ الله يرضَى لكم ثلاثاً، ويكرَه لكم ثلاثاً. فيرضَى لكم أن تعبدُوه ولا تشرِكوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرَّقوا. ويكرَه لكم قيلَ وقال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال))[12]، وفي المسند: ((ثلاثُ خصالٍ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلمٍ أبداً: إخلاصُ العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإنَّ دعوتَهم تحيط بهم من ورائِهم))[13]، وهو حديثٌ جامع لما يقوم به دين الناس ودنياهم، فهذهِ الثلاث ـ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تجمَع أصولَ الدين وقواعدَه، إلى أن قال: "ومصلحةُ دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامِهم بحبلِ الله جميعاً"[14]، ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بعدَ أن ذكر هذه الخصالَ الثلاث: "لم يقَع خللٌ في دين الناس ودنيَاهم إلا بسببِ الإخلال في هذه الثلاث". وفي الحديثِ عن رسولِ الله أنّه قال: ((من رأى من أميرِه شيئاً يكرَهه فليصبِر، فإنَّ من فارَق الجماعةَ شبراً فماتَ إلا ماتَ ميتةَ جاهليّة)) متفق عليه[15]، وفي حديثِ حذيفة المخرّج في الصحيحين أنّه قال: كانَ النّاس يسألونَ رسولَ الله عن الخيرِ، وكنتُ أسأله عن الشرّ مخافةَ أن يدركَني، فقلت: يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاء الله بهذا الخَير، فهل بَعد هذا الخيرِ من شرّ؟ قال: ((نعم))، فقلت: فهل بعدَ هذا الشرّ من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخنٌ))، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قومٌ يستنّون بغير سنّتي، ويهتَدون بغير هديي، تعرِف منهم وتُنكر))، فقلت: فهل بعد هذا الخَير من شرّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنّم، من أجابهم إليها قذَفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، فقال: ((هُم قومٌ من جلدتِنا، ويتكلّمون بألسنَتنا))، فقلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدرَكَني ذلك؟ قال: ((تلزَم جماعةَ المسلمين وإمامَهم)) الحديث[16].
الأصل الرابع: تحلّي المسلمِ بالصّبر حالَ الفتَن، فالصّبر سمَةٌ تمنَع الشخصَ عنِ القيام بأعمالٍ لا تُحمَد عقباها، والتمثّل بِه فيه السلامةُ بِإذن الله من غوائِل الانحرافاتِ وشرور الفتَن والمدلهِمَّات، بل الصبرُ يطفِئ كثيراً من الفتن، وانعدامُه يشعِل أوارَها، فتتقابَل الأحقَاد، وتَثور الفتنَة، وتُسَلُّ السيوف، وتُسفَك الدّمَاء، والله جلَّ وعلا يقول في الاستعانة على كلّ ما يقع: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [البقرة:153]، قال شيخ الإسلام: "ولا تقَع فتنةٌ إلا مِن تَرك ما أمَر الله، فإنّه سبحَانه أمر بالحَقّ، وأمر بالصّبر، فالفتنَة إمّا من ترك الحقّ، وإمّا مِن ترك الصبر"[17]، روى البخاري في صحيحه عن الزبير بن عديّ قال: أتَينا أنسَ بن مالك فشكونا إليه ما نلقَى من الحجّاج فقال: اصبروا، ((فإنّه لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه حتّى تلقوا ربَّكم)) سمعتُه من نبيّكم [18]، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في خِضَمّ فتنة خلقِ القرآن: "عليكم بالإنكارِ بقلوبكم، ولا تخلَعوا يداً من طاعة، ولا تشقّوا عصَا المسلمين، وتسفِكوا دماءَكم ودماءَ المسلمين مَعكم، انظُروا في عاقبةِ أمركم، واصبِروا حتّى يستريح بَرّ ويُستراح من فاجر"[19].
الأصل الخامس: معالجةُ الأمورِ والتّعامل معهَا وفقَ قاعدةِ الحِلم والتأنّي وعدمِ التسرّع والتعجّل، فالله جل وعلا يخبرنا عن منهج الأنبياء أنَّه الحلم والرّشد: إِنَّ إِبْرٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [هود:75]، ونبيّنا يقول لأشجّ عبد القيس: ((إنّ فيكَ خصلتين يحبّهما الله ورسولُه: الحلم والأناة))[20]، إذ بالحلم والتأنّي تُرى الأمورُ على حقيقَتها، وتوزَن بميزانِها الصّحيح، ويتبصّر الإنسانُ واقعَ الدّاء ويستكشفُه، ويستجلي الدواءَ والشفاء ويُصيبه، فمتَى ظهرتِ الفتنُ وادلهمَّت الخطوب ونزلتِ النوازل فإنَّ الناسَ أحوجُ ما يكونون إلى الاتّصاف بالحلم والتأنّي وعدمِ العجَلة والتسرّع، فذلكم سببٌ من أسبَاب البقاءِ بإذن الله، وأساسٌ من أساسِ الصلاح والخير، وسبيلٌ لدرءِ الشرّ والفساد، ولهذَا يعلّل عمرو بن العاص بقاءَ بعضِ الأمم وكثرتِها بصفاتٍ منهم أنّهم أحلمُ النّاس عند فتنة. رواه مسلم[21].
الأصل السادس: توخّي الرفق في الأمور والاتّصافُ باللّطف في التعامل، فضرورة التعامُل مع النّاس بالرفق عند روَجان الفتنةِ عاملٌ مهمّ لتحقيق الخيرِ والصلاح، بل القاعدةُ الشرعيّة في الإسلام لزومُ الرفق في الأمور كلّها واللطف في التعاملات جميعها، فرسولنا يقول: ((ما كانَ الرّفق في شيءٍ إلا وزانَه، ولا نُزِع من شيءٍ إلا وشانَه))[22]، ويقول : ((إنَّ اللهَ يحبّ الرفقَ في الأمرِ كلّه)) متفق عليه[23].
الأصل السابع: التعاملُ مع الفتَن بعُمقِِ التصوُّر للأمور والتبحّر في فهمِ الحقائِق والإدراك الصحيح للواقع، فإذا ظهرت الفتن وراجتِ الأمور واضطربَت الأحوال فالواجبُ على المسلم أن لا يغترّ بالظواهر المجرّدَة والصّوَر الظاهرة، بل الواجبُ على المسلمين جميعاً مهمَا اختلفَت مسؤوليّاتُهم وتنوَّعت ثقافتُهم التعمّقُ في فهمِ الأمور والتّدقيقُ في وقائعِها، وأن لا يتسرّعوا في حكمٍ أو علاج أو تعَامل لواقعٍ إلا بعدَ التبَصّر الدقيق والتمحِيص البالغ لكُنْه الحقائق، فمِن الأصول الجامَعة المانعَة في الإسلام أنَّ العبرةَ للمقاصد والمعاني لا للألفاظِ والمباني، وقاعدةُ العقلاءِ المعتبَرَة في شريعةِ الإسلام: "الحكمُ على الشيءِ فرعٌ عن تصوّره"، وربّنا جلّ وعلا يقول: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36].
الأصل الثامن: الواجبُ على عامّة المسلمين رعايةُ حقِّ العلمَاء، ومعرفةُ حقوقهم، وسؤالهُم عندَ وقوع الإشكال، فاهتداءُ المرءِ موكولٌ باعتصَامه بالوحيَين، واعتصامُه بهما موكولٌ باقتدائه بأهلِ العلمِ بهما، قال تعالى: فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فالواجب رجوعُ الناسِ إلى علمائِهم الربانيّين المعروفين بالاعتقادِ الصحيح والمسلَك القويم، والواجبُ على الجميع ـ خاصّةً شباب المسلمين ـ ملازمةُ العلماءِ أهلِ النّصح والدراية، والأخذ عنهم، وتحرّي أقوالهم، والوقوف عندَ آرائهم، فالله جل وعلا يقول: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلأمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83]، قال بعض المفسّرين: هذا تأديبٌ من الله لعبادِه عن فعلِهم هذا غيرِ اللائق، وأنَّه ينبَغي لهم إذا جاءَهم أمرٌ من الأمور المهمّة والمصَالح العامّة ما يتعلّق بالأمنِ وسُرور المؤمِن أو بالخوف الذي فيه مصيبةٌ عليهم أن يتثبَّتوا، ولا يتعجَّلوا بإشاعة ذلك [الخبر]، بل يردّونَه إلى الرّسولِ وإلى أولي الأمرِ منهم أهلِ الرأيِ والعِلم والنّصح والعقلِ والدراية، يعرفون الأمورَ والمصالح وضدّها، فإذا رَأوا في إذاعتِه مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً وتحرُّزًا من أعدائِهم فعَلوا ذلك، وإن رَأوا أنّه ليسَ فيه مصلحةٌ أو فيه مصلحة ولكن مضرتُه تزيدُ على مصلحتِه لم يذيعوه. انتهى.
فحالُ الفتنةِ ليست كغيرِها، فعندَ عموم الفتنِ وظهورِها وكثرتِها ومروجها فالواجبُ على المسلم أياً كانَت مسؤوليته ومهما كانَ وضعه أن يعلمَ أنّه ليسَ كلّ ما يقال أو يُفعل في الأحوالِ العاديّة خاصّةً في الأمور العامّة المتعلقة بمصالح المجتَمع يكون سائغاً وقتَ الفتنةِ وظهورها، بل لا بدّ مِن مراعاة العواقِب من كلّ ما يُقال أو يُفعَل حالَ الفتَن، ففي البخاري قولُ النبي : ((لولا أنَّ قومَك حديثو عهدٍ بكُفر لهدمتُ الكعبة، ولبنيتها على قواعدِ إبراهيم))[24].
الأصل الأخير: الحذَرُ من الوقوع في اليَأس، وهو قطعُ الأمَل والرجَاء في تحقيقِ المطلوب وذهابِ المرهوب، فليحذَر المسلمون من أن يقطَعوا أمَلَهم في ارتفاع ما يصيبهم من فتنٍ أو مصائبَ مزلزلة، فالله جلّ وعلا يقول: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ ٱلأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ [آل عمران:139-141].
فلا يأسَ ولا قنوطَ عندَ مَن صَدَق مَع الله جلّ وعلا، وحقَّق الإيمانَ به وبرسولِه مع الأخذِ بالأسباب المَأمور بها، فالله جلّ وعلا يقول: وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ [آل عمران:146]. فمن علمَ حقَّ العلم بربِّه وكمالِ قدرتِه فلا سبيل في قلبه إلى القنوط واليَأس مهما اشتدَّت المحنُ والأرزاء.
فاللهَ اللهَ أيها المؤمنون، كونوا وقتَ الفتن ـ بل كلَّ حينٍ ـ صادقين في الإيمان، أقوياءَ في الإسلام، مرضين للرحمن، متَّبعين لسيِّد الأنبياء والمرسلين، فربُّنا جلّ وعلا يقول: الـم أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
فالفتن تُظهِر مقدارَ الإيمان في القلبِ وصلابةَ العقيدة في النفس، فاللهَ اللهَ أمّةَ محمّد، عودوا لحقائق الإيمان بالله، اصدُقوا مع الله، أروا اللهَ من أنفسِكم خيرًا، بدِّلوا وغيِّروا، اخضَعوا له والتَجئوا، وعليه توكّلوا، وبه ثِقوا.
أقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الفتن (7061)، ومسلم في العلم (157) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] تفسير القرآن العظيم (2/300) بمعناه.
[3] أخرجه البخاري في الإيمان (19) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الفتن (2886) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند البخاري في الفتن (7081، 7082).
[5] تفسير القرآن العظيم (1/519).
[6] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع، باب: النهي عن القول بالقدر (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
[7] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[8] درء التعارض (1/234).
[9] أخرجه مسلم في الإيمان (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] مصنف ابن أبي شيبة (7/468).
[11] أخرجه مسلم في الإمارة (1844).
[12] أخرجه مسلم في الأقضية (1715).
[13] أخرجه أحمد (5/183)، والدارمي في المقدمة (229)، وابن ماجه في المقدمة (230) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (67، 680)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (404). وجاء أيضا من طريق أنس وابن مسعود وجابر وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبي قرصافة ومعاذ بن جبل وبشير وابنه النعمان رضي الله عنهم.
[14] مجموع الفتاوى (1/18-19).
[15] أخرجه البخاري في الفتن (7054)، ومسلم في الإمارة (1849) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[16] أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847).
[17] الاستقامة (1/39).
[18] أخرجه البخاري في الفتن (7068).
[19] أخرجه أبو بكر الخلال في السنة (90).
[20] أخرجه مسلم في الإيمان (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[21] أخرجه مسلم في الفتن (2898).
[22] أخرجه مسلم في الأدب (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[23] أخرجه البخاري في الأدب (6024)، ومسلم في السلام (2165) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[24] أخرجه البخاري في الحج (1583) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه، وهو أيضا عند مسلم في الحج (1333).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنِه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، تمسَّكوا بوصيّة الله للأوّلين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ [النساء:131].
عبادَ الله، أمَّةَ محمَّد ، الواجبُ على المسلمين عندَ الفتنِ الرجوعُ إلى اللهِ جلَّ وعلا بحقٍ وصِدق، والالتجاءُ إليه سبحانه بالدعاء الصادق أن يجنّبَ المسلمين أفراداً ومجتمعاتٍ مِن شرور الفتن وأخطارِها.
فمِن الأدعية التي أمَر بها النبيّ في كلّ صلاةٍ بعدَ التشهّدِ التعوّذُ بالله من فتنة المحيا والممات[1]، فاجتهدوا ـ رحمكم الله ـ بالدعاءِ الصادق لأنفسكم وللمسلمينَ في كلّ مكانٍ أن يجنّبهم شرورَ الفتن، وأن يقيَهم الأخطارَ بكلّ أنواعِها، وأن يصلحَ أوضاعَهم وأحوالَهم، إنّه على كل شيء قدير.
ثمَّ اعلموا أنَّ الله أمرَنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارِك وأنعِم على عبدِك ورسولِك محمَّد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أمره بالتعوذ بالله من فتنة المحيا والممات عند التشهد أخرجه مسلم في المساجد (588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
1- عظم فتن هذا الزمان. 2- تحذير النبي من فتن الدين والدنيا. 3- عموم ضرر الفتن. 4- بيان الشرع للأسباب الحافظة من الفتن. 5- الأصل الأول: الابتعاد عن الفتن. 6- الأصل الثاني: الاعتصام بالكتاب والسنة. 7- الأصل الثالث: لزوم جماعة المسلمين. 8- الأصل الرابع: التحلي بالصبر. 9- الأصل الخامس: الاتصاف بالحلم والأناة. 10- الأصل السادس: الرفق في الأمور واللطف في التعامل. 11- الأصل السابع: الإدراك الصحيح للواقع. 12- الأصل الثامن: رعاية حق العلماء. 13- الأصل التاسع: الحذر من القنوط واليأس. 14- ضرورة الرجوع إلى الله والالتجاء إليه والاستعاذة به.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فبها يحصُل الخير والفلاح والفوزُ والنجاح.
معاشرَ المسلمين، تمرُّ الأمّة الإسلاميّةُ على مستوَى أفرادِها ومجتمعاتِها بفتنٍ عظيمَة تنوَّعت أسبابُها واختلفت موضوعاتُها وتعدّدت مصادِرها. فتنٌ في الدّين والعقيدَة، في السّياسة والإدارَة، في الاقتصاد والاجتمَاع، في العقولِ والنفوس، في الأولاد والأعرَاض. فتنٌ يعيشها المسلمون تتضمّن في طيّاتِها تحسينَ القبيح وتقبيحَ الحسَن، تحمِل الهجمةَ على الدّين وأهلِه، تزخرِف الباطلَ وتروِّج له، وتحاوِل مَحوَ الحقّ وإبعادَ الناسِ عنه، ديدنُها الهدْم والتخريبُ والتحريش والتشويش. فتنٌ قوليّة وأخرى فعليّة، تُنشَر بأسبابٍ متطوِّرة ووسائلَ سريعةٍ في وقتها وتأثيرها. فتنٌ تعاظمَ اليومَ خطَرها وتطايَر شرُّها وتزايَد ضررُها. فتنٌ نالت من جزئيّات الدين وفرعيَّاته إلى أصولِه وأركانِه، وتطوَّرت من دخولِها على الأفرادِ إلى دخولِها على المجتمَعات. فتنٌ يوشِك أن تنالَ كثرةً كاثرةً من أبناءِ المسلمين، تؤثِّر عليهم في دينِهم ودنيَاهم، لا سيّما من لا يُميِّز بين نافعٍ وضار، ولا بين حسَن وقبيحٍ، ومن لا يبلغ سَبرَ الأمور، ولا يدرك الحقائقَ على صورتِها الصحيحة. فتنٌ تسبِّب الشكَّ من بعضِ المسلمين في ثوابتِ دينهم ومقرَّرَات شريعتِهم، وتُسبِّب الحيرةَ لكثيرين والانحرافَ لآخرين.
عبادَ الله، لقد أخبرَ النبيّ بظهورِ الفتنِ في الدّين والدّنيا؛ فتنُ الدّين بما يصدّ عن الإيمان بالله جلّ وعلا والقيام بأمره واتّباع هديِ نبيّه ، وفتنُ الدّنيا بما يحصُل من القتلِ والخوف والسّلب والنّهب ونحوِها، ثبَت في الصحيح عن النبيّ أنه قال: ((يتقارَب الزّمَان، ويقِلّ العمَل، ويُلقَى الشّحّ، وتظهَر الفتن))[1].
معاشرَ المسلمين، إنَّ الفتنَ يصيبُ ضررُها الجميعَ، ويكون معَها الشرّ والفسادُ للبلادِ والعباد، إذَا لم تعالَج بميزان الشّرع، ولم يحكُمِ الناس أنفسَهم بتعاليمه ويوقفوها عند حدودِه، ولم يراعوا الأمورَ حقَّ رعايتِها وينظروا للنَّوازل والمدلهمّات بما يعالِج أضرارَها ويرفَع آثارَها، لذا جاءَت تحذيراتُ الشّرع من الفتنِ ومن غوائلِها وشرورِها، يقول جلّ وعلا: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، قال ابن كثير في تفسيره: "هذهِ الآية وإن كان المخاطَب بها هم صحابة رسولِ الله لكنَّها عامّة لكلِّ مسلم؛ لأنّ النبيَّ كان يحذِّر من الفتَن"[2].
معاشرَ المسلمين، إنَّ الشريعةَ الإسلاميّة ـ وهي الصالحةُ لكلّ زمانٍ ومكان ـ قد تضمَّنت من الضماناتِ والأسُس ومن المبادئ والأصول ما يَكفل للأمّة جميعِها توقّي أخطارِ الفتن، وما يضمَن الحصانةَ الوقائيّة لدفعها قبل وقوعِها، ولرفع أضرارِها وآثارِها بعدَ حُلولِها. توجيهاتٌ سامِيَة تضبِط زمامَ الأمُور أن ينحرِف، وتعليماتٌ كريمَة تصون العقولَ أن يضلّ أو تتخبّط، وتدابيرُ شرعيَّة تقي الخطواتِ أن تتَعثّر أو تزلَّ عن الصواب. توجيهاتٌ ترسم للأمة المسارَ الصحيحَ عندَ الفتنِ حالَ ظهورِها، والمنهجَ الأرشَد لمعالجةِ الأحوال والأوضَاع عندَ تغيُّرها. توجيهاتٌ وإرشاداتٌ بفهمِها يُعصَم المرءُ من الخلل والزَّلل، وتُصان الأمّة من الفسَاد والدّمار والهلاك والخراب، بإدراكِها حقَّ الإدراك ورعايتِها حقَّ الرعاية والنظرِ إليها وتفعيلها في الواقع يتحقَّق الصّلاح بكلّ معانيه، ويندفِع الشرُّ والفساد بكلّ صوَره وأشكاله وأسبابِه ودوافعِه. وهذه التوجيهاتُ وتلكَ الإرشادات تعودُ إلى أصول، منها:
الأصل الأوّل: محاولةُ الابتعاد عن مواطِن الفتَن، ومجانبة أسبابها، والفِرار عن مواقعِها، خاصّة عامّة المسلمين ودهمَاءهم، فالله جلّ وعلا يقول: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، ونبيّنا يقول: ((يوشِك أن يكونَ خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يتبعُ بها شعَف الجبال ومواقِعَ القطر؛ يفِرّ بدينه من الفتن)) رواه البخاري[3]، ويبيِّن عظيمَ خطَر الفتَن، ويَحثّ على اجتنَابها والهرَب منها، ويبيِّن أنّ شرَّها وضررَها يكون على حسَب التعلّق منها، فيقول : ((ستَكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائم خيرٌ من المَاشي، والمَاشي فيهَا خير من السَّاعي، من تَشرَّف إليها تستَشرِفه، ومن وجَد فيها ملجأً أو معاذًا فليعُذ به)) رواه مسلم[4].
الأصلُ الثاني: الاعتصامُ بالكتاب والسنّة، فالاعتصام بهما يحقِّق للأمّة النجاةَ من كلّ شرٍّ وانحرَاف، يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، قال ابن كثير: "قال مجَاهد وغيرُ واحد من السلف: أن يُردَّ التنازُع في ذلك إلى الكتاب والسنّة"[5]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطَب النبيّ في حجّة الودَاع فقال: ((يا أيّها النّاس، إنّي تركتُ فيكم ما إن اعتصَمتُم به فلن تضلّوا أبداً: كتابَ الله وسنّتي)) حديث إسناده صحيح[6]، وفي حديث العرباضِ بن سارية رضي الله عنه قال: قام فينَا رسول الله ذاتَ يوم فقال: ((عليكم بتقوى الله والسمعِ والطاعَة وإن تأمَّر عَليكم عبدٌ حبشيّ، وستَرَون بعدي اختلافًا شديداً، فعلَيكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم والأمورَ المحدثاتِ، فإنَّ كلّ بدعةٍ ضلالة)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"[7]. قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإنسانُ في نظَره مع نفسِه ومناظرتِه لغيره إذا اعتصَم بالكتابِ والسنّة هداه الله إلى الصّراط المستقيم، فإنَّ الشريعة مثلُ سفينةِ نوح، من ركبَها نجَا، ومن تخلّف عنها غرِق" انتهى[8]. كلُّ ذلك في محيطِ التزامٍ بمذهبِ سلفِ هذه الأمة الذي يحقِّق السلامةَ من الانحرافِ وعلاجَ ما وقعَ منها.
عبادَ الله، ومِن تَمَام هذا الاعتصَام ولوازمِه تحقيقُ تقوَى الله جلّ وعلا والإنابة إليه والثبَات على دينه والاستقامَة على شرعِه، فالتقوَى سبيلٌ للمخارج من الأزماتِ والمحَن ومن القلاقل والفتن، وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]، ونبيّنا يقول: ((بادِروا بالأعمالِ فتنًا كقِطَع الليل المظلم، يصبِح الرجل مؤمناً ويمسِي كافراً، ويمسِي مؤمناً ويصبِح كافراً، يبيع دينَه بعرضٍ من الدنيا)) رواه مسلم[9].
والفتنُ إنّما يقوَى تأثيرُها وتظهَر آثارُها على ضِعاف الإيمان ومتَّبعي الشهوات، فلا تجِد الفتَن حينئذ مقاوِماً ولا مدافعاً، فتفتِك بالعبدِ فتكاً، وتمزّقه كما يمزّق السهمُ الرميّة، أخرَج ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله عنه أنّه قال: (لا تضرّك الفتنةُ ما عرفتَ دينَك، إنّمَا الفتنة إذا اشتبَه عليك الحقّ بالباطل)[10]، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنَّ النبيّ قال: ((إنَّ أمّتكم هذه جُعل عافيتها في أوّلها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمورٌ تنكِرونَها، وتجيء فتنٌ يرقّق بعضُها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكَتي، ثم تَنكشِف، ثم تجيء الفتنة فيقول: هذِه هذه، فمَن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل الجنّة فلتأتِه منيّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليَأتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه)) رواه مسلم[11].
وإنَّ الواجبَ اليومَ على حكّامِ المسلمين ومحكُوميهم في شتّى بلدَان المسلمين وهُم يعيشون الفتنَ من كلّ جانِب أن يعلَموا أنَّ ما أصاب المسلمين من فتنٍ وشرور كلُّ ذلك بسبَب ما كسبَته أيديهم، أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
وإنَّ تطبيقَ شَريعَة الإسلام اليومَ بِكافَّة جوانِبها في جمِيع نواحِي الحياةِ مطلبٌ ضروريّ من مطالب الأمّة كلّها، والتمَسّكُ بشريعة الله هو الكفيلُ الأوحَد بعِزّ الدين وسعادةِ الآخرة، وهو الضمَان الآمن للخلاصِ من الفتَن والمصائب، ولا سبيلَ لإنقاذ مجتمعاتِ الإسلام من هذه الفتن والمفاسِد إلا بالاعتصَام بشريعة الإسلام ووضعِها موضعَ التنفيذِ بكلّ أجزائِها، وحتّى تتَّجه الأمّة الإسلاميّة في جمِيع بلدانِها إلى إقامة نظامٍ إسلاميٍّ سياسيّ وإداريّ واقتصادي، يطبِّق الشريعةَ ويلتزِم بها في كلّ شؤون الحياة.
فالواجبُ على الأمّة الإسلاميّة العودةُ بالتشريعَات والأنظمة كلّها على وفقِ ما جاء به محمّد في الجوانِب كلّها والمناحِي جميعها، وإلا فربّنا جلّ وعلا يقول: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَـٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
الأصل الثالث: أن يلزَم المسلمُ حالَ الفتنِ جماعةَ المسلمين وإمامَهم، فربّنا جلَّ وعلا يقول: وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران:103]، وحبلُ الله عندَ أهلِ السنّة والجماعة يشمل كتابَ الله كما يشمَل لزومَ الجماعة وأمامَهم، أخرجَ مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((إنَّ الله يرضَى لكم ثلاثاً، ويكرَه لكم ثلاثاً. فيرضَى لكم أن تعبدُوه ولا تشرِكوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرَّقوا. ويكرَه لكم قيلَ وقال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال))[12]، وفي المسند: ((ثلاثُ خصالٍ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلمٍ أبداً: إخلاصُ العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإنَّ دعوتَهم تحيط بهم من ورائِهم))[13]، وهو حديثٌ جامع لما يقوم به دين الناس ودنياهم، فهذهِ الثلاث ـ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تجمَع أصولَ الدين وقواعدَه، إلى أن قال: "ومصلحةُ دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامِهم بحبلِ الله جميعاً"[14]، ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بعدَ أن ذكر هذه الخصالَ الثلاث: "لم يقَع خللٌ في دين الناس ودنيَاهم إلا بسببِ الإخلال في هذه الثلاث". وفي الحديثِ عن رسولِ الله أنّه قال: ((من رأى من أميرِه شيئاً يكرَهه فليصبِر، فإنَّ من فارَق الجماعةَ شبراً فماتَ إلا ماتَ ميتةَ جاهليّة)) متفق عليه[15]، وفي حديثِ حذيفة المخرّج في الصحيحين أنّه قال: كانَ النّاس يسألونَ رسولَ الله عن الخيرِ، وكنتُ أسأله عن الشرّ مخافةَ أن يدركَني، فقلت: يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاء الله بهذا الخَير، فهل بَعد هذا الخيرِ من شرّ؟ قال: ((نعم))، فقلت: فهل بعدَ هذا الشرّ من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخنٌ))، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قومٌ يستنّون بغير سنّتي، ويهتَدون بغير هديي، تعرِف منهم وتُنكر))، فقلت: فهل بعد هذا الخَير من شرّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنّم، من أجابهم إليها قذَفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، فقال: ((هُم قومٌ من جلدتِنا، ويتكلّمون بألسنَتنا))، فقلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدرَكَني ذلك؟ قال: ((تلزَم جماعةَ المسلمين وإمامَهم)) الحديث[16].
الأصل الرابع: تحلّي المسلمِ بالصّبر حالَ الفتَن، فالصّبر سمَةٌ تمنَع الشخصَ عنِ القيام بأعمالٍ لا تُحمَد عقباها، والتمثّل بِه فيه السلامةُ بِإذن الله من غوائِل الانحرافاتِ وشرور الفتَن والمدلهِمَّات، بل الصبرُ يطفِئ كثيراً من الفتن، وانعدامُه يشعِل أوارَها، فتتقابَل الأحقَاد، وتَثور الفتنَة، وتُسَلُّ السيوف، وتُسفَك الدّمَاء، والله جلَّ وعلا يقول في الاستعانة على كلّ ما يقع: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [البقرة:153]، قال شيخ الإسلام: "ولا تقَع فتنةٌ إلا مِن تَرك ما أمَر الله، فإنّه سبحَانه أمر بالحَقّ، وأمر بالصّبر، فالفتنَة إمّا من ترك الحقّ، وإمّا مِن ترك الصبر"[17]، روى البخاري في صحيحه عن الزبير بن عديّ قال: أتَينا أنسَ بن مالك فشكونا إليه ما نلقَى من الحجّاج فقال: اصبروا، ((فإنّه لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه حتّى تلقوا ربَّكم)) سمعتُه من نبيّكم [18]، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في خِضَمّ فتنة خلقِ القرآن: "عليكم بالإنكارِ بقلوبكم، ولا تخلَعوا يداً من طاعة، ولا تشقّوا عصَا المسلمين، وتسفِكوا دماءَكم ودماءَ المسلمين مَعكم، انظُروا في عاقبةِ أمركم، واصبِروا حتّى يستريح بَرّ ويُستراح من فاجر"[19].
الأصل الخامس: معالجةُ الأمورِ والتّعامل معهَا وفقَ قاعدةِ الحِلم والتأنّي وعدمِ التسرّع والتعجّل، فالله جل وعلا يخبرنا عن منهج الأنبياء أنَّه الحلم والرّشد: إِنَّ إِبْرٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [هود:75]، ونبيّنا يقول لأشجّ عبد القيس: ((إنّ فيكَ خصلتين يحبّهما الله ورسولُه: الحلم والأناة))[20]، إذ بالحلم والتأنّي تُرى الأمورُ على حقيقَتها، وتوزَن بميزانِها الصّحيح، ويتبصّر الإنسانُ واقعَ الدّاء ويستكشفُه، ويستجلي الدواءَ والشفاء ويُصيبه، فمتَى ظهرتِ الفتنُ وادلهمَّت الخطوب ونزلتِ النوازل فإنَّ الناسَ أحوجُ ما يكونون إلى الاتّصاف بالحلم والتأنّي وعدمِ العجَلة والتسرّع، فذلكم سببٌ من أسبَاب البقاءِ بإذن الله، وأساسٌ من أساسِ الصلاح والخير، وسبيلٌ لدرءِ الشرّ والفساد، ولهذَا يعلّل عمرو بن العاص بقاءَ بعضِ الأمم وكثرتِها بصفاتٍ منهم أنّهم أحلمُ النّاس عند فتنة. رواه مسلم[21].
الأصل السادس: توخّي الرفق في الأمور والاتّصافُ باللّطف في التعامل، فضرورة التعامُل مع النّاس بالرفق عند روَجان الفتنةِ عاملٌ مهمّ لتحقيق الخيرِ والصلاح، بل القاعدةُ الشرعيّة في الإسلام لزومُ الرفق في الأمور كلّها واللطف في التعاملات جميعها، فرسولنا يقول: ((ما كانَ الرّفق في شيءٍ إلا وزانَه، ولا نُزِع من شيءٍ إلا وشانَه))[22]، ويقول : ((إنَّ اللهَ يحبّ الرفقَ في الأمرِ كلّه)) متفق عليه[23].
الأصل السابع: التعاملُ مع الفتَن بعُمقِِ التصوُّر للأمور والتبحّر في فهمِ الحقائِق والإدراك الصحيح للواقع، فإذا ظهرت الفتن وراجتِ الأمور واضطربَت الأحوال فالواجبُ على المسلم أن لا يغترّ بالظواهر المجرّدَة والصّوَر الظاهرة، بل الواجبُ على المسلمين جميعاً مهمَا اختلفَت مسؤوليّاتُهم وتنوَّعت ثقافتُهم التعمّقُ في فهمِ الأمور والتّدقيقُ في وقائعِها، وأن لا يتسرّعوا في حكمٍ أو علاج أو تعَامل لواقعٍ إلا بعدَ التبَصّر الدقيق والتمحِيص البالغ لكُنْه الحقائق، فمِن الأصول الجامَعة المانعَة في الإسلام أنَّ العبرةَ للمقاصد والمعاني لا للألفاظِ والمباني، وقاعدةُ العقلاءِ المعتبَرَة في شريعةِ الإسلام: "الحكمُ على الشيءِ فرعٌ عن تصوّره"، وربّنا جلّ وعلا يقول: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36].
الأصل الثامن: الواجبُ على عامّة المسلمين رعايةُ حقِّ العلمَاء، ومعرفةُ حقوقهم، وسؤالهُم عندَ وقوع الإشكال، فاهتداءُ المرءِ موكولٌ باعتصَامه بالوحيَين، واعتصامُه بهما موكولٌ باقتدائه بأهلِ العلمِ بهما، قال تعالى: فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فالواجب رجوعُ الناسِ إلى علمائِهم الربانيّين المعروفين بالاعتقادِ الصحيح والمسلَك القويم، والواجبُ على الجميع ـ خاصّةً شباب المسلمين ـ ملازمةُ العلماءِ أهلِ النّصح والدراية، والأخذ عنهم، وتحرّي أقوالهم، والوقوف عندَ آرائهم، فالله جل وعلا يقول: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلأمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83]، قال بعض المفسّرين: هذا تأديبٌ من الله لعبادِه عن فعلِهم هذا غيرِ اللائق، وأنَّه ينبَغي لهم إذا جاءَهم أمرٌ من الأمور المهمّة والمصَالح العامّة ما يتعلّق بالأمنِ وسُرور المؤمِن أو بالخوف الذي فيه مصيبةٌ عليهم أن يتثبَّتوا، ولا يتعجَّلوا بإشاعة ذلك [الخبر]، بل يردّونَه إلى الرّسولِ وإلى أولي الأمرِ منهم أهلِ الرأيِ والعِلم والنّصح والعقلِ والدراية، يعرفون الأمورَ والمصالح وضدّها، فإذا رَأوا في إذاعتِه مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً وتحرُّزًا من أعدائِهم فعَلوا ذلك، وإن رَأوا أنّه ليسَ فيه مصلحةٌ أو فيه مصلحة ولكن مضرتُه تزيدُ على مصلحتِه لم يذيعوه. انتهى.
فحالُ الفتنةِ ليست كغيرِها، فعندَ عموم الفتنِ وظهورِها وكثرتِها ومروجها فالواجبُ على المسلم أياً كانَت مسؤوليته ومهما كانَ وضعه أن يعلمَ أنّه ليسَ كلّ ما يقال أو يُفعل في الأحوالِ العاديّة خاصّةً في الأمور العامّة المتعلقة بمصالح المجتَمع يكون سائغاً وقتَ الفتنةِ وظهورها، بل لا بدّ مِن مراعاة العواقِب من كلّ ما يُقال أو يُفعَل حالَ الفتَن، ففي البخاري قولُ النبي : ((لولا أنَّ قومَك حديثو عهدٍ بكُفر لهدمتُ الكعبة، ولبنيتها على قواعدِ إبراهيم))[24].
الأصل الأخير: الحذَرُ من الوقوع في اليَأس، وهو قطعُ الأمَل والرجَاء في تحقيقِ المطلوب وذهابِ المرهوب، فليحذَر المسلمون من أن يقطَعوا أمَلَهم في ارتفاع ما يصيبهم من فتنٍ أو مصائبَ مزلزلة، فالله جلّ وعلا يقول: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ ٱلأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ [آل عمران:139-141].
فلا يأسَ ولا قنوطَ عندَ مَن صَدَق مَع الله جلّ وعلا، وحقَّق الإيمانَ به وبرسولِه مع الأخذِ بالأسباب المَأمور بها، فالله جلّ وعلا يقول: وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ [آل عمران:146]. فمن علمَ حقَّ العلم بربِّه وكمالِ قدرتِه فلا سبيل في قلبه إلى القنوط واليَأس مهما اشتدَّت المحنُ والأرزاء.
فاللهَ اللهَ أيها المؤمنون، كونوا وقتَ الفتن ـ بل كلَّ حينٍ ـ صادقين في الإيمان، أقوياءَ في الإسلام، مرضين للرحمن، متَّبعين لسيِّد الأنبياء والمرسلين، فربُّنا جلّ وعلا يقول: الـم أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
فالفتن تُظهِر مقدارَ الإيمان في القلبِ وصلابةَ العقيدة في النفس، فاللهَ اللهَ أمّةَ محمّد، عودوا لحقائق الإيمان بالله، اصدُقوا مع الله، أروا اللهَ من أنفسِكم خيرًا، بدِّلوا وغيِّروا، اخضَعوا له والتَجئوا، وعليه توكّلوا، وبه ثِقوا.
أقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الفتن (7061)، ومسلم في العلم (157) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] تفسير القرآن العظيم (2/300) بمعناه.
[3] أخرجه البخاري في الإيمان (19) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الفتن (2886) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند البخاري في الفتن (7081، 7082).
[5] تفسير القرآن العظيم (1/519).
[6] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع، باب: النهي عن القول بالقدر (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
[7] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[8] درء التعارض (1/234).
[9] أخرجه مسلم في الإيمان (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] مصنف ابن أبي شيبة (7/468).
[11] أخرجه مسلم في الإمارة (1844).
[12] أخرجه مسلم في الأقضية (1715).
[13] أخرجه أحمد (5/183)، والدارمي في المقدمة (229)، وابن ماجه في المقدمة (230) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (67، 680)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (404). وجاء أيضا من طريق أنس وابن مسعود وجابر وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبي قرصافة ومعاذ بن جبل وبشير وابنه النعمان رضي الله عنهم.
[14] مجموع الفتاوى (1/18-19).
[15] أخرجه البخاري في الفتن (7054)، ومسلم في الإمارة (1849) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[16] أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847).
[17] الاستقامة (1/39).
[18] أخرجه البخاري في الفتن (7068).
[19] أخرجه أبو بكر الخلال في السنة (90).
[20] أخرجه مسلم في الإيمان (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[21] أخرجه مسلم في الفتن (2898).
[22] أخرجه مسلم في الأدب (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[23] أخرجه البخاري في الأدب (6024)، ومسلم في السلام (2165) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[24] أخرجه البخاري في الحج (1583) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه، وهو أيضا عند مسلم في الحج (1333).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنِه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، تمسَّكوا بوصيّة الله للأوّلين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ [النساء:131].
عبادَ الله، أمَّةَ محمَّد ، الواجبُ على المسلمين عندَ الفتنِ الرجوعُ إلى اللهِ جلَّ وعلا بحقٍ وصِدق، والالتجاءُ إليه سبحانه بالدعاء الصادق أن يجنّبَ المسلمين أفراداً ومجتمعاتٍ مِن شرور الفتن وأخطارِها.
فمِن الأدعية التي أمَر بها النبيّ في كلّ صلاةٍ بعدَ التشهّدِ التعوّذُ بالله من فتنة المحيا والممات[1]، فاجتهدوا ـ رحمكم الله ـ بالدعاءِ الصادق لأنفسكم وللمسلمينَ في كلّ مكانٍ أن يجنّبهم شرورَ الفتن، وأن يقيَهم الأخطارَ بكلّ أنواعِها، وأن يصلحَ أوضاعَهم وأحوالَهم، إنّه على كل شيء قدير.
ثمَّ اعلموا أنَّ الله أمرَنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارِك وأنعِم على عبدِك ورسولِك محمَّد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أمره بالتعوذ بالله من فتنة المحيا والممات عند التشهد أخرجه مسلم في المساجد (588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى