عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ملخص الخطبة
1- تطلّع النفوس لتحقيق السعادة. 2- لا سعادة إلا في ظل الإسلام. 3- الإيمان هو أساس السلامة والأمن في الدنيا والآخرة. 4- تحقيق التوحيد هو سبب حفظ الله تعالى. 5- مفاسد فقدان التوحيد. 6- من فضائل التوحيد. 7- أهمية الأمن. 8- تحريم العدوان والإفساد في الأرض. 9- مفهوم الأمن في الإسلام. 10- نظام الإسلام في التعامل مع غير المسلمين. 11- مسؤولية تحقيق الأمن.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ؛ فذلكم سببُ الأمن والاستقرار والسّعادة والرخاء.
معاشرَ المسلمين، تتطلَّع النفوس إلى ما تنشرح له وتطمئنّ به، وتتوق القلوبُ إلى ما ترتاح به وتأنَس إليه، وتتشوَّق الأبدان إلى ما تسعَد به وتهنأ في محيطه، وقد تكلِّم المفكِّرون قديمًا وحديثًا عن أسباب تحسين تلك المطالب وكيفيّة تحقيق تلك المقاصد، وإنّ الأمّة الإسلاميةَ اليوم على مستوى الأفراد والمجتمعات وهي تعيش حياةَ الاضطراب والقلَق وعدم الاطمئنان والاستقرار في ضرورةٍ إلى تحقيق ما تحصِّل به حياةً طيّبة وعيشة راضية وعاقبة حميدة، في حاجةٍ هي أشدُّ من كلّ حاجة إلى حياةٍ تنشرح فيها القلوب وتطمئنّ معها النفوس ويرتاح فيها البال وتأنَس معها الأبدان، بل البشريّة اليومَ في ضرورة إلى أن تعِي حكمةَ إيجادها وأن تعلمَ أنّه مهما أوتِيَت مِن أسباب التقدّم وعناصر الرّقيِّ فلن تجدَ للسعادة سُلَّمًا ولا للحياة الطيّبة سببًا إلا فيما ارتضاه للبشريّة خالقُها، وفيما جاءت به رسالة ربّها على خاتَم النبيّين وسيّد المرسلين نبيّنا محمّد .
معاشرَ المسلمين، إنّ الإيمان الكاملَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا ورسولاً هو الأساس لتحصيل ولاية الله التي هي سُلَّم السلامَة والأمن في الدنيا والآخرة كما قال ربّنا جلّ وعلا: إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، وكما قال سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63]. ولهذا فمَن حقَّق ذلك تولاَّه الله جلّ وعلا وأخرجَه من الظّلمات بصرفِه عنها أو صرفِها عنه كما قال سبحانه: ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ [البقرة: 257]. فالظلمات هي ظلمات الكفر وأسبابها، والنّور هو نورُ الإيمان وأسبابه ومقتضياته، كما حكى ذلك الرازيّ إجماعًا للمفسّرين.
معاشرَ المؤمنين، إنَّ تحقيقَ التوحيد وقصد الله جلّ وعلا بالعبادة والالتجاء إليه وحدَه وتعلّق القلوب به وحدَه وكمال التوكّل عليه وعدم الالتفات إلى غيره واليأس من جميع المخلوقين وقَطع الطّمع في حصول النفع أو دفع الضرّ منهم يتحقَّق به حفظُ الله بأنواعه الثلاثة: حفظه للعبد في مصالح دنياه مِن حِفظِ بدنه وولده وأهله وماله ومجتمعه ومقدَّراته، حفظه للعَبد في دينه وإيمانِه بحفظه من الشّبهات المضِلّة ومِن الشّهوات المحرَّمة وحفظ دينِه عند موتِه فيتوفّاه الله على الإيمان، وثالِث ذلك حفظُه لعبده بعد موتِه فيثبّته عند سؤال القبر ويقيه عذابَه ويؤمِّنُه عند الفَزَع الأكبر مِن أهوالِ يوم القيامة وكُرَبها ويُدخله الجنَّة وينجيه من النّار، كما قال في ذلك كلِّه: ((يا غلام، إنّي أعلِّمك كلمات: احفَظ الله يحفظْك، احفَظِ الله تجِده تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتَبه الله عليك، رُفعَت الأقلام وجفَّت الصّحف)) رواه الترمذي وهو حديث حسن[1].
أمّة الإسلام، إنّ فقدانَ التّوحيد وعدمَ تحصيل حقائق الإيمان يهوي بصاحبه في مقامات الظّلم والحَيرة والشّرور ويُبعده عن ولاية الله وعنايته ونصره، فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأوْثَـٰنِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 30، 31].
إخوةَ الإيمان، إنّ صاحبَ الإيمان الحقيقيّ والعقيدة الصحيحة والتوحيد السّالم من الشّرك والبِدع يجعل الله له مخرجًا أي: فرَجًا وخلاصًا ممّا وقع أو يَقع فيه من الشّدائد والمِحن والشرور والفِتن، فييسِّر الله له طريقًا للسلامة والنجاة، ويزرقه من حيث لا يحتسِب، ويقدّر له ما يحتاج إليه وما يصلح شأنَه من أوجه كثيرةٍ لا تخطر له على بال ولا تكون في حسبان، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].
بتحقيق التّوحيد وتحقيق مقتضياتِه تكمُل الأسباب التي ترتفِع بها عن الأمّة الشرور وتزول بها عنها الأضرارُ التي تأتي من شياطين الإنس والجنّ، فمن طبيعة الشرّ أنه جامح مسلَّح، يبطش ولا يتحرَّج، ويضرب ولا يتورّع، قد يملك من أسباب الفتنة ما يصدُّ به عن الحق، وقد يملك من القوّة الماديّة والمغريات ما قد يزلزل القلوبَ ويستهوي النفوسَ ويزيغ الفطر، ولهذا فأهل التّوحيد الخالص والإيمان الصّحيح والطاعة الحقَّة لله ولرسوله يفوزون بدفاع الله عنهم، إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38].
معاشرَ المسلمين، إنَّ القرآن يبيِّن الحقيقة الغائبةَ عن كثيرين بأنّه لا طريقَ لطمأنينة القلوب وسعادتها وأنسِها وبهجتها إلا بذكر الله جلّ وعلا لا بغيره، أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ [الرعد: 28].
نعم، تطمئنّ بإحساسها بالصّلة بالله والأنس بجواره والأمن في جنانه، وبإدارك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، تطمئنّ بذلك من حَيرة الطريق، وتطمئنّ بالشعور بالحماية من كلّ اعتداء ومن كلّ ضرّ وشرّ إلا بما شاء الله، مع الرضا بالابتلاء والصّبر على البلاء، يقول ابن القيم رحمه الله: "ففي القلب شَعَث لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوتِه، وفيه حُزن لا يذهِبه إلا السرور بمعرفته جلّ وعلا وصدق معاملته، وفيه قلَق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيرانُ حسرات لا يطفِئها إلا الرضا بأمره ونهيِه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديدٌ لا يقِف دون أن يكون وحدَه سبحانه مطلوبَه، وفيه فاقة لا يسدّها إلا محبّته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطِيَ الدنيا وما فيها لن تسدّ تلك الفاقة منه أبدًا" انتهى[2].
ولهذا ـ معاشر المسلمين ـ مَن أعرض عن التوحيد وحقائقِ الإيمان ومَن انصرفَ عن طاعة الرحمن والاستقامة على السنّة والقرآن فإنّ حياتَه ومعيشته لا تكون إلا مضيّقةً عليه منكّرةً معذّبًا فيها، فالغموم والهموم والأحزان والضّيق عقوباتٌ عاجلة ونار دنيويّة وجهنّم حاضرة لمن أساء مع ربّه، بخلاف من كان موحِّدًا طائعًا لله ولرسوله فهو في ثواب عاجلٍ من الفرح والسّرور واللذة وانشراح الصّدر وانفتاحه ولذّته بمعاملة ربّه وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبّته وذكره، وفرحُه بربّه أعظم ممّا يفرح القريب من السّلطان الكريم عليه بسلطانه، بل هو في عيش وحياةٍ طيّبة كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، قال جلّ وعلا: فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَاء كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125]، ويقول جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ [طه: 124].
معاشرَ المسلمين، إنّنا ونحن نتكلّم عن حقائق التّوحيد والإيمان، وأنّها هي الأسباب الحقيقيّة لتحقيق السّعادة والأمن، فلا شكّ أنّ الأمن أهمّ مطالب الحياة، وهو ضرورةٌ لكلّ جهد بشريّ لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمعات وأهدافها وتطلّعاتها، ولا تزدهر حياةٌ وتسعَد نفوس ويهنأ عيش إلا بالأمن والاستقرار، وهو بإذن الله جلّ وعلا متحقِّق لأهل التوحيد والإيمان والطاعة والاستقامة كما قال جلّ وعلا: ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
ومِن هذا جاءت تحذيراتُ الشريعة القاطعة [وأصولها] الجامعةُ بالنهي الأكيدِ والتحريم الشديد عن كلّ عدوان وإفسادٍ يخلّ بالأمن أو يؤثّر على الاستقرار، قال جلّ وعلا: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا [الأعراف: 65]، وقال جل وعلا: وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64].
ومِن قواعد الشريعة المحكَمة ومقاصدِه العامّة الحفاظُ على الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والعِرض والمال، لذا شرعت الشريعة الأحكامَ الوقائيّة والدفاعية للحفاظ على سلامة تلك المقاصد من جهة الوجود والعَدم بما لم يأتِ له مثيل ولم يسبق له نظير، بل بالغَت التوجيهات الشرعيّة في الأمر بالحفاظ على الأمن وعدمِ المساس به بتوجيهاتٍ عديدة وأوامر ملزِمة قال : ((لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا)) رواه أحمد وأبو داود[3]، ونهى أن يُشهَر السلاح في أرض المسلمين فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنّه لا يدري أحدكم لعلّ الشيطانَ ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) متفق عليه[4].
والأمنُ في الإسلام ينبثِق من المبادئ التي جاء الإسلام بتحقيقها للبشَر ككُلّ، فهو مفهوم إسلاميّ لا يقتصر على المسلمين فحسب، بل الدّين الإسلاميّ وهو دين كلّ المبادئ المثلى والمحاسن العظمى والأخلاق الفضلى، فهو دينٌ لا تقتصر توجيهاته اللازمةُ وتعليماته الجازمة على تحقيق الأمنِ في بلاد المسلمين فحسب أو على المسلمين فقط، بل لقد ألزَم الإسلام أتباعَه بتحقيق الأمن حتى لغير المسلمين من المعاهَدين والمستأمَنين، فمن عاش في بلاد المسلمين ومجتمعاتِ المؤمنين مِن معاهَد ومستأمَن فأحكام الإسلام ضامنة له أمنَه على نفسه وماله وعِرضه ومقدَّراته كما هو مقرَّر مبحوث بالتفصيل في أحكام الفقه الإسلاميّ، وهي أحكام يلتزم بها المسلمون لا مِن منطلق المصالِح المتبادلة أو المنافع المرجوَّة، بل هي من جوانب الشّريعة التي يجب على الدولة الإسلامية أفرادًا ومجتمعات رعايتُها حقَّ رعايتِها والالتزام بها؛ إذ هي واجبٌ دينيّ قبل أن تكونَ مصلحة سياسيّةً أو التزامًا دوليًّا.
الإسلام دين محمّد نبيّ الرحمة والإحسان، فهو يقيم مجتمعًا إنسانيًّا راقيًا، تحكمه شريعة إلهيّة على أسُس وطيدةٍ من العدل والبرّ والرحمة، لا تريد للبشرية فناء ودمارًا، بل تريد بها هداية وصلاحًا وخيرًا، لذا فالإسلام يحيط التعاملَ مع غير المسلمين بنظام أخلاقيّ يتميّز بالسماحة واليُسر وحفظ النفوس والحقوق وتجنُّب الظلم والعدوان. وحينئذ فالتشريع الإسلاميّ يضمَن العيشَ الآمن لغير المسلمين في الجتمعات الإسلاميّة، فيوجب على المجتمعات الإسلاميّة دفعَ الاعتداء عن المعاهَدين والمستأمَنين الذين يحضُرون إلى بلدان الإسلام للعمَل أو لشأنٍ من الشؤون المباحَة أو المصالح العامّة التي تعود للمسلمين بإذنٍ من وليّ الأمر، قال : ((من قتل معاهدًا لم يرَح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) رواه البخاري[5]، وعن رفاعة بن شدّاد رضي الله عنه قال: كنتُ أقوم على رأس المختار بن أبي عبيد الكذّاب مدَّعي النبوّة، فلمّا تبيّنت كذبَه هممت ـ والله ـ أن أسلّ سيفي فأضرب به عنقَه، حتّى ذكرتُ حديثًا حدّثنا به عمرو بن الحمِق قال: سمعت النبيّ يقول: ((من أمَّن رَجلاً على نفسه فقتله أُعطيَ لواءَ الغدر يوم القيامة)) رواه أحمد والنسائي والطحاوي بسند صحيح[6]، وفي لفظ عند أحمد والطحاوي بسند حسن: ((من ائتمَنه رجلٌ على دمِه فقتله فأنا منه بريء وإن كان المقتول كافرًا))[7]، وفي لفظ عند عبد الرزاق في المصنف: ((أيّما رجل أمّن رجلاً على دمه فقتله فقد برِئت من القاتل ذمّة الله وإن كان المقتول كافرًا))[8].
وإنّنا نطالب عقلاءَ العالم أن ينظروا إلى هذا الحديث بكلِّ عين باصرةٍ عادلة؛ لينظروا عدلَ الإسلام ورحمتَه وإحسانه.
يقول القرطبيّ في تفسيره عند قوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38] قال: "رُوي أنّها نزلت بسبب المؤمنين لمّا كثروا بمكّة وآذاهم الكفّار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، وأراد بعضُ مؤمنِي مكّة أن يقتلَ من أمكنَه مِن الكفّار ويغتال ويغدِر ويحتال، فنزلت هذه الآية، فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصحَ نهي عن الخيانة والغدر" انتهى[9].
فاتَّقوا الله عبادَ الله، وكونوا على حقيقةٍ صحيحة من أمر دينِكم، والحذر الحذر من التنفير عنه من حيثُ لا تشعرون، أو مِن الإساءة إليه من حيث لا تعلمون قال نبيّنا : ((بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا))[10].
بارك الله لنا في الوحيَين، ونفعنا بما فيهما من الهدي والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو عند أحمد أيضًا (1/293)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصحّ الطّرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصحّحه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، والألباني في صحيح السنن (2043).
[2] مدارج السالكين (3/164).
[3] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، والقضاعي في مسنده (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع فقال رسول الله وذكر الحديث، قال الشوكاني في النيل (6/63): "إسناده لا بأس به"، وصححه الألباني في صحيح السنن (4184). وفي الباب عن ابن عمر عند البزار، وعن النعمان بن بشير وعن سليمان بن صرد عند الطبراني، وعن أبي هريرة في مسند الشهاب، وعن غيرهم من الصحابة، انظر: الترغيب والترهيب (3/318-319)، ومجمع الزوائد (6/253-254).
[4] أخرجه البخاري في الفتن (7072)، ومسلم في البر (2617) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الجزية (3166) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[6] أخرجه أحمد (5/223، 224، 436)، والنسائي في الكبرى (5/225)، والطحاوي في شرح المشكل (1/77)، وهو أيضا عند ابن ماجه في الديات (2688)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2345)، والبزار (2306)، وقال البوصيري في الزوائد (3/136): "إسناده صحيح، رجاله ثقات"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (440).
[7] أخرجه أحمد (5/224، 437)، والبزار (2308)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/202)، والطبراني في الأوسط (4252، 6655، 7781)، وأبو نعيم في الحلية (9/24)، والقضاعي في مسنده (164)، قال العقيلي في الضعفاء (2/215): "أسانيده صالحة"، وقال الهيثمي في المجمع (6/285): "رواه الطبراني بأسانيد كثيرة، وأحدها رجاله ثقات"، وهو في صحيح الجامع (6103).
[8] مصنف عبد الرزاق (9679).
[9] الجامع لأحكام القرآن (12/67).
[10] أخرجه البخاري في المغازي (4345)، ومسلم في الجهاد (1732) واللفظ له من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوان، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله جلّ وعلا للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين، لن تطيبَ حياة المسلمين ما لم تستقِم على أمر الله جلّ وعلا، ولن يرتفعَ شقاء ويحلّ رخاءٌ إلا بالاستجابة لأمر الله جلّ وعلا ولأمر رسوله في كلّ شأن من شؤون الحياة على هدي ومنهَج سلف هذه الأمة، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
وإنّ ممّا دعا إليه الله ورسوله تحقيقَ الأمن في هذه الحياة، فتحقيقُه في المجتمع مسؤوليّة عظيمة وأمانة كبرى يتحمَّلها كلّ فرد يعيش على هذه الأرض، فمِن قواعد الإسلام الكبرى التي يجِب أن نفعِّلها في حياتنا قولُه جل وعلا: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
ثم إنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
1- تطلّع النفوس لتحقيق السعادة. 2- لا سعادة إلا في ظل الإسلام. 3- الإيمان هو أساس السلامة والأمن في الدنيا والآخرة. 4- تحقيق التوحيد هو سبب حفظ الله تعالى. 5- مفاسد فقدان التوحيد. 6- من فضائل التوحيد. 7- أهمية الأمن. 8- تحريم العدوان والإفساد في الأرض. 9- مفهوم الأمن في الإسلام. 10- نظام الإسلام في التعامل مع غير المسلمين. 11- مسؤولية تحقيق الأمن.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ؛ فذلكم سببُ الأمن والاستقرار والسّعادة والرخاء.
معاشرَ المسلمين، تتطلَّع النفوس إلى ما تنشرح له وتطمئنّ به، وتتوق القلوبُ إلى ما ترتاح به وتأنَس إليه، وتتشوَّق الأبدان إلى ما تسعَد به وتهنأ في محيطه، وقد تكلِّم المفكِّرون قديمًا وحديثًا عن أسباب تحسين تلك المطالب وكيفيّة تحقيق تلك المقاصد، وإنّ الأمّة الإسلاميةَ اليوم على مستوى الأفراد والمجتمعات وهي تعيش حياةَ الاضطراب والقلَق وعدم الاطمئنان والاستقرار في ضرورةٍ إلى تحقيق ما تحصِّل به حياةً طيّبة وعيشة راضية وعاقبة حميدة، في حاجةٍ هي أشدُّ من كلّ حاجة إلى حياةٍ تنشرح فيها القلوب وتطمئنّ معها النفوس ويرتاح فيها البال وتأنَس معها الأبدان، بل البشريّة اليومَ في ضرورة إلى أن تعِي حكمةَ إيجادها وأن تعلمَ أنّه مهما أوتِيَت مِن أسباب التقدّم وعناصر الرّقيِّ فلن تجدَ للسعادة سُلَّمًا ولا للحياة الطيّبة سببًا إلا فيما ارتضاه للبشريّة خالقُها، وفيما جاءت به رسالة ربّها على خاتَم النبيّين وسيّد المرسلين نبيّنا محمّد .
معاشرَ المسلمين، إنّ الإيمان الكاملَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا ورسولاً هو الأساس لتحصيل ولاية الله التي هي سُلَّم السلامَة والأمن في الدنيا والآخرة كما قال ربّنا جلّ وعلا: إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، وكما قال سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63]. ولهذا فمَن حقَّق ذلك تولاَّه الله جلّ وعلا وأخرجَه من الظّلمات بصرفِه عنها أو صرفِها عنه كما قال سبحانه: ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ [البقرة: 257]. فالظلمات هي ظلمات الكفر وأسبابها، والنّور هو نورُ الإيمان وأسبابه ومقتضياته، كما حكى ذلك الرازيّ إجماعًا للمفسّرين.
معاشرَ المؤمنين، إنَّ تحقيقَ التوحيد وقصد الله جلّ وعلا بالعبادة والالتجاء إليه وحدَه وتعلّق القلوب به وحدَه وكمال التوكّل عليه وعدم الالتفات إلى غيره واليأس من جميع المخلوقين وقَطع الطّمع في حصول النفع أو دفع الضرّ منهم يتحقَّق به حفظُ الله بأنواعه الثلاثة: حفظه للعبد في مصالح دنياه مِن حِفظِ بدنه وولده وأهله وماله ومجتمعه ومقدَّراته، حفظه للعَبد في دينه وإيمانِه بحفظه من الشّبهات المضِلّة ومِن الشّهوات المحرَّمة وحفظ دينِه عند موتِه فيتوفّاه الله على الإيمان، وثالِث ذلك حفظُه لعبده بعد موتِه فيثبّته عند سؤال القبر ويقيه عذابَه ويؤمِّنُه عند الفَزَع الأكبر مِن أهوالِ يوم القيامة وكُرَبها ويُدخله الجنَّة وينجيه من النّار، كما قال في ذلك كلِّه: ((يا غلام، إنّي أعلِّمك كلمات: احفَظ الله يحفظْك، احفَظِ الله تجِده تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتَبه الله عليك، رُفعَت الأقلام وجفَّت الصّحف)) رواه الترمذي وهو حديث حسن[1].
أمّة الإسلام، إنّ فقدانَ التّوحيد وعدمَ تحصيل حقائق الإيمان يهوي بصاحبه في مقامات الظّلم والحَيرة والشّرور ويُبعده عن ولاية الله وعنايته ونصره، فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأوْثَـٰنِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 30، 31].
إخوةَ الإيمان، إنّ صاحبَ الإيمان الحقيقيّ والعقيدة الصحيحة والتوحيد السّالم من الشّرك والبِدع يجعل الله له مخرجًا أي: فرَجًا وخلاصًا ممّا وقع أو يَقع فيه من الشّدائد والمِحن والشرور والفِتن، فييسِّر الله له طريقًا للسلامة والنجاة، ويزرقه من حيث لا يحتسِب، ويقدّر له ما يحتاج إليه وما يصلح شأنَه من أوجه كثيرةٍ لا تخطر له على بال ولا تكون في حسبان، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].
بتحقيق التّوحيد وتحقيق مقتضياتِه تكمُل الأسباب التي ترتفِع بها عن الأمّة الشرور وتزول بها عنها الأضرارُ التي تأتي من شياطين الإنس والجنّ، فمن طبيعة الشرّ أنه جامح مسلَّح، يبطش ولا يتحرَّج، ويضرب ولا يتورّع، قد يملك من أسباب الفتنة ما يصدُّ به عن الحق، وقد يملك من القوّة الماديّة والمغريات ما قد يزلزل القلوبَ ويستهوي النفوسَ ويزيغ الفطر، ولهذا فأهل التّوحيد الخالص والإيمان الصّحيح والطاعة الحقَّة لله ولرسوله يفوزون بدفاع الله عنهم، إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38].
معاشرَ المسلمين، إنَّ القرآن يبيِّن الحقيقة الغائبةَ عن كثيرين بأنّه لا طريقَ لطمأنينة القلوب وسعادتها وأنسِها وبهجتها إلا بذكر الله جلّ وعلا لا بغيره، أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ [الرعد: 28].
نعم، تطمئنّ بإحساسها بالصّلة بالله والأنس بجواره والأمن في جنانه، وبإدارك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، تطمئنّ بذلك من حَيرة الطريق، وتطمئنّ بالشعور بالحماية من كلّ اعتداء ومن كلّ ضرّ وشرّ إلا بما شاء الله، مع الرضا بالابتلاء والصّبر على البلاء، يقول ابن القيم رحمه الله: "ففي القلب شَعَث لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوتِه، وفيه حُزن لا يذهِبه إلا السرور بمعرفته جلّ وعلا وصدق معاملته، وفيه قلَق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيرانُ حسرات لا يطفِئها إلا الرضا بأمره ونهيِه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديدٌ لا يقِف دون أن يكون وحدَه سبحانه مطلوبَه، وفيه فاقة لا يسدّها إلا محبّته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطِيَ الدنيا وما فيها لن تسدّ تلك الفاقة منه أبدًا" انتهى[2].
ولهذا ـ معاشر المسلمين ـ مَن أعرض عن التوحيد وحقائقِ الإيمان ومَن انصرفَ عن طاعة الرحمن والاستقامة على السنّة والقرآن فإنّ حياتَه ومعيشته لا تكون إلا مضيّقةً عليه منكّرةً معذّبًا فيها، فالغموم والهموم والأحزان والضّيق عقوباتٌ عاجلة ونار دنيويّة وجهنّم حاضرة لمن أساء مع ربّه، بخلاف من كان موحِّدًا طائعًا لله ولرسوله فهو في ثواب عاجلٍ من الفرح والسّرور واللذة وانشراح الصّدر وانفتاحه ولذّته بمعاملة ربّه وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبّته وذكره، وفرحُه بربّه أعظم ممّا يفرح القريب من السّلطان الكريم عليه بسلطانه، بل هو في عيش وحياةٍ طيّبة كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، قال جلّ وعلا: فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَاء كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125]، ويقول جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ [طه: 124].
معاشرَ المسلمين، إنّنا ونحن نتكلّم عن حقائق التّوحيد والإيمان، وأنّها هي الأسباب الحقيقيّة لتحقيق السّعادة والأمن، فلا شكّ أنّ الأمن أهمّ مطالب الحياة، وهو ضرورةٌ لكلّ جهد بشريّ لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمعات وأهدافها وتطلّعاتها، ولا تزدهر حياةٌ وتسعَد نفوس ويهنأ عيش إلا بالأمن والاستقرار، وهو بإذن الله جلّ وعلا متحقِّق لأهل التوحيد والإيمان والطاعة والاستقامة كما قال جلّ وعلا: ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
ومِن هذا جاءت تحذيراتُ الشريعة القاطعة [وأصولها] الجامعةُ بالنهي الأكيدِ والتحريم الشديد عن كلّ عدوان وإفسادٍ يخلّ بالأمن أو يؤثّر على الاستقرار، قال جلّ وعلا: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا [الأعراف: 65]، وقال جل وعلا: وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64].
ومِن قواعد الشريعة المحكَمة ومقاصدِه العامّة الحفاظُ على الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والعِرض والمال، لذا شرعت الشريعة الأحكامَ الوقائيّة والدفاعية للحفاظ على سلامة تلك المقاصد من جهة الوجود والعَدم بما لم يأتِ له مثيل ولم يسبق له نظير، بل بالغَت التوجيهات الشرعيّة في الأمر بالحفاظ على الأمن وعدمِ المساس به بتوجيهاتٍ عديدة وأوامر ملزِمة قال : ((لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا)) رواه أحمد وأبو داود[3]، ونهى أن يُشهَر السلاح في أرض المسلمين فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنّه لا يدري أحدكم لعلّ الشيطانَ ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) متفق عليه[4].
والأمنُ في الإسلام ينبثِق من المبادئ التي جاء الإسلام بتحقيقها للبشَر ككُلّ، فهو مفهوم إسلاميّ لا يقتصر على المسلمين فحسب، بل الدّين الإسلاميّ وهو دين كلّ المبادئ المثلى والمحاسن العظمى والأخلاق الفضلى، فهو دينٌ لا تقتصر توجيهاته اللازمةُ وتعليماته الجازمة على تحقيق الأمنِ في بلاد المسلمين فحسب أو على المسلمين فقط، بل لقد ألزَم الإسلام أتباعَه بتحقيق الأمن حتى لغير المسلمين من المعاهَدين والمستأمَنين، فمن عاش في بلاد المسلمين ومجتمعاتِ المؤمنين مِن معاهَد ومستأمَن فأحكام الإسلام ضامنة له أمنَه على نفسه وماله وعِرضه ومقدَّراته كما هو مقرَّر مبحوث بالتفصيل في أحكام الفقه الإسلاميّ، وهي أحكام يلتزم بها المسلمون لا مِن منطلق المصالِح المتبادلة أو المنافع المرجوَّة، بل هي من جوانب الشّريعة التي يجب على الدولة الإسلامية أفرادًا ومجتمعات رعايتُها حقَّ رعايتِها والالتزام بها؛ إذ هي واجبٌ دينيّ قبل أن تكونَ مصلحة سياسيّةً أو التزامًا دوليًّا.
الإسلام دين محمّد نبيّ الرحمة والإحسان، فهو يقيم مجتمعًا إنسانيًّا راقيًا، تحكمه شريعة إلهيّة على أسُس وطيدةٍ من العدل والبرّ والرحمة، لا تريد للبشرية فناء ودمارًا، بل تريد بها هداية وصلاحًا وخيرًا، لذا فالإسلام يحيط التعاملَ مع غير المسلمين بنظام أخلاقيّ يتميّز بالسماحة واليُسر وحفظ النفوس والحقوق وتجنُّب الظلم والعدوان. وحينئذ فالتشريع الإسلاميّ يضمَن العيشَ الآمن لغير المسلمين في الجتمعات الإسلاميّة، فيوجب على المجتمعات الإسلاميّة دفعَ الاعتداء عن المعاهَدين والمستأمَنين الذين يحضُرون إلى بلدان الإسلام للعمَل أو لشأنٍ من الشؤون المباحَة أو المصالح العامّة التي تعود للمسلمين بإذنٍ من وليّ الأمر، قال : ((من قتل معاهدًا لم يرَح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) رواه البخاري[5]، وعن رفاعة بن شدّاد رضي الله عنه قال: كنتُ أقوم على رأس المختار بن أبي عبيد الكذّاب مدَّعي النبوّة، فلمّا تبيّنت كذبَه هممت ـ والله ـ أن أسلّ سيفي فأضرب به عنقَه، حتّى ذكرتُ حديثًا حدّثنا به عمرو بن الحمِق قال: سمعت النبيّ يقول: ((من أمَّن رَجلاً على نفسه فقتله أُعطيَ لواءَ الغدر يوم القيامة)) رواه أحمد والنسائي والطحاوي بسند صحيح[6]، وفي لفظ عند أحمد والطحاوي بسند حسن: ((من ائتمَنه رجلٌ على دمِه فقتله فأنا منه بريء وإن كان المقتول كافرًا))[7]، وفي لفظ عند عبد الرزاق في المصنف: ((أيّما رجل أمّن رجلاً على دمه فقتله فقد برِئت من القاتل ذمّة الله وإن كان المقتول كافرًا))[8].
وإنّنا نطالب عقلاءَ العالم أن ينظروا إلى هذا الحديث بكلِّ عين باصرةٍ عادلة؛ لينظروا عدلَ الإسلام ورحمتَه وإحسانه.
يقول القرطبيّ في تفسيره عند قوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38] قال: "رُوي أنّها نزلت بسبب المؤمنين لمّا كثروا بمكّة وآذاهم الكفّار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، وأراد بعضُ مؤمنِي مكّة أن يقتلَ من أمكنَه مِن الكفّار ويغتال ويغدِر ويحتال، فنزلت هذه الآية، فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصحَ نهي عن الخيانة والغدر" انتهى[9].
فاتَّقوا الله عبادَ الله، وكونوا على حقيقةٍ صحيحة من أمر دينِكم، والحذر الحذر من التنفير عنه من حيثُ لا تشعرون، أو مِن الإساءة إليه من حيث لا تعلمون قال نبيّنا : ((بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا))[10].
بارك الله لنا في الوحيَين، ونفعنا بما فيهما من الهدي والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو عند أحمد أيضًا (1/293)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصحّ الطّرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصحّحه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، والألباني في صحيح السنن (2043).
[2] مدارج السالكين (3/164).
[3] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، والقضاعي في مسنده (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع فقال رسول الله وذكر الحديث، قال الشوكاني في النيل (6/63): "إسناده لا بأس به"، وصححه الألباني في صحيح السنن (4184). وفي الباب عن ابن عمر عند البزار، وعن النعمان بن بشير وعن سليمان بن صرد عند الطبراني، وعن أبي هريرة في مسند الشهاب، وعن غيرهم من الصحابة، انظر: الترغيب والترهيب (3/318-319)، ومجمع الزوائد (6/253-254).
[4] أخرجه البخاري في الفتن (7072)، ومسلم في البر (2617) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الجزية (3166) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[6] أخرجه أحمد (5/223، 224، 436)، والنسائي في الكبرى (5/225)، والطحاوي في شرح المشكل (1/77)، وهو أيضا عند ابن ماجه في الديات (2688)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2345)، والبزار (2306)، وقال البوصيري في الزوائد (3/136): "إسناده صحيح، رجاله ثقات"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (440).
[7] أخرجه أحمد (5/224، 437)، والبزار (2308)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/202)، والطبراني في الأوسط (4252، 6655، 7781)، وأبو نعيم في الحلية (9/24)، والقضاعي في مسنده (164)، قال العقيلي في الضعفاء (2/215): "أسانيده صالحة"، وقال الهيثمي في المجمع (6/285): "رواه الطبراني بأسانيد كثيرة، وأحدها رجاله ثقات"، وهو في صحيح الجامع (6103).
[8] مصنف عبد الرزاق (9679).
[9] الجامع لأحكام القرآن (12/67).
[10] أخرجه البخاري في المغازي (4345)، ومسلم في الجهاد (1732) واللفظ له من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوان، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله جلّ وعلا للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين، لن تطيبَ حياة المسلمين ما لم تستقِم على أمر الله جلّ وعلا، ولن يرتفعَ شقاء ويحلّ رخاءٌ إلا بالاستجابة لأمر الله جلّ وعلا ولأمر رسوله في كلّ شأن من شؤون الحياة على هدي ومنهَج سلف هذه الأمة، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
وإنّ ممّا دعا إليه الله ورسوله تحقيقَ الأمن في هذه الحياة، فتحقيقُه في المجتمع مسؤوليّة عظيمة وأمانة كبرى يتحمَّلها كلّ فرد يعيش على هذه الأرض، فمِن قواعد الإسلام الكبرى التي يجِب أن نفعِّلها في حياتنا قولُه جل وعلا: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
ثم إنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى