رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي
الطَّوْلِ
وَالْآلَاءِ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ
الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْأَتْقِيَاءِ
.
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ شَرَفَ الْمَطْلُوبِ بِشَرَفِ نَتَائِجِهِ ،
وَعِظَمِ خَطَرِهِ بِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ ، وَبِحَسَبِ مَنَافِعِهِ
تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهِ ، وَعَلَى قَدْرِ الْعِنَايَةِ بِهِ يَكُونُ
اجْتِنَاءُ ثَمَرَتِهِ ، وَأَعْظَمُ الْأُمُورِ خَطَرًا وَقَدْرًا
وَأَعُمُّهَا نَفْعًا وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ
وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلَاحُ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ؛ لِأَنَّ
بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ ، وَبِصَلَاحِ الدُّنْيَا
تَتِمُّ السَّعَادَةُ .
وَقَدْ تَوَخَّيْت بِهَذَا الْكِتَابِ
الْإِشَارَةَ إلَى آدَابِهِمَا ، وَتَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ مِنْ
أَحْوَالِهِمَا ، عَلَى أَعْدَلِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ إيجَازٍ وَبَسْطٍ
أَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ تَحْقِيقِ الْفُقَهَاءِ ، وَتَرْقِيقِ الْأُدَبَاءِ
، فَلَا يَنْبُو عَنْ فَهْمٍ ، وَلَا يَدِقُّ فِي وَهْمٍ ، مُسْتَشْهِدًا
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ اسْمُهُ - بِمَا يَقْتَضِيهِ ، وَمِنْ
سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - بِمَا يُضَاهِيهِ
، ثُمَّ مُتْبِعًا ذَلِكَ بِأَمْثَالِ الْحُكَمَاءِ ، وَآدَابِ
الْبُلَغَاءِ ، وَأَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَرْتَاحُ
إلَى الْفُنُونِ الْمُخْتَلِفَةِ وَتَسْأَمُ مِنْ الْفَنِّ الْوَاحِدِ .
وَقَدْ
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ
الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَاهْدُوا إلَيْهَا
طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ .
فَكَأَنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ ، يُحِبُّ
التَّنَقُّلَ فِي الْمَطْلُوبِ ، مِنْ مَكَان إلَى مَكَان وَكَانَ
الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، يَتَنَقَّلُ كَثِيرًا فِي
دَارِهِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان وَيُنْشِدُ قَوْلَ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ
: لَا يُصْلِحُ النَّفْسَ إذْ كَانَتْ مُدَبِّرَةً إلَّا التَّنَقُّلُ
مِنْ حَالٍ إلَى حَالِ وَجَعَلْت مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْكِتَابُ
خَمْسَةَ أَبْوَابٍ : الْبَابِ الْأَوَّلِ : فِي فَضْلِ الْعَقْلِ وَذَمِّ
الْهَوَى .
الْبَابِ الثَّانِي : فِي أَدَبِ الْعِلْمِ .
الْبَابِ
الثَّالِثِ : فِي أَدَبِ الدَّيْنِ .
الْبَابِ الرَّابِعِ : فِي أَدَبِ الدُّنْيَا .
الْبَابِ الْخَامِسِ : فِي أَدَبِ النَّفْسِ .
وَإِنَّمَا
أَسْتَمِدُّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حُسْنَ مَعُونَتِهِ ، وَأَسْتَوْدِعُهُ
حِفَاظَ مَوْهِبَتِهِ ، بِحَوْلِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَهُوَ حَسْبِي مِنْ
مُعِينٍ وَحَفِيظٍ .
الْبَابُ الْأَوَّلُ فَضْلُ الْعَقْلِ
وَذَمُّ الْهَوَى اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ فَضِيلَةٍ أُسًّا وَلِكُلِّ
أَدَبٍ يَنْبُوعًا ، وَأُسُّ الْفَضَائِلِ وَيَنْبُوعُ الْآدَابِ هُوَ
الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدِّينِ أَصْلًا
وَلِلدُّنْيَا عِمَادًا ، فَأَوْجَبَ الدِّينَ بِكَمَالِهِ وَجَعَلَ
الدُّنْيَا مُدَبَّرَةً بِأَحْكَامِهِ ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ
مَعَ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَمَآرِبِهِمْ ، وَتَبَايُنِ أَغْرَاضِهِمْ
وَمَقَاصِدِهِمْ ، وَجَعَلَ مَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ قِسْمَيْنِ : قِسْمًا
وَجَبَ بِالْعَقْلِ فَوَكَّدَهُ الشَّرْعُ ، وَقِسْمًا جَازَ فِي
الْعَقْلِ فَأَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فَكَانَ الْعَقْلُ لَهُمَا عِمَادًا .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا
اكْتَسَبَ الْمَرْءُ مِثْلَ عَقْلٍ يَهْدِي صَاحِبَهُ إلَى هُدًى ، أَوْ
يَرُدُّهُ عَنْ رَدًى } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ شَيْءٍ عُمِلَ دِعَامَةٌ
وَدِعَامَةُ عَمَلِ الْمَرْءِ عَقْلُهُ فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ
عِبَادَتُهُ لِرَبِّهِ أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْفُجَّارِ { لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } } .
وَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَصْلُ الرَّجُلِ
عَقْلُهُ ، وَحَسَبُهُ دِينُهُ ، وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ أَحَدًا
عَقْلًا إلَّا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْمًا مَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ أَفْضَلُ مَرْجُوٍّ ،
وَالْجَهْلُ أَنْكَى عَدُوٍّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : صَدِيقُ كُلِّ امْرِئٍ عَقْلُهُ
وَعَدُوُّهُ جَهْلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ الْمَوَاهِبِ الْعَقْلُ ، وَشَرُّ
الْمَصَائِبِ الْجَهْلُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ، وَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَسَّانَ : يَزِينُ
الْفَتَى فِي النَّاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ
مَكَاسِبُهْ يَشِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ قِلَّةُ عَقْلِهِ وَإِنْ
كَرُمَتْ أَعْرَاقُهُ وَمَنَاسِبُهْ 18 يَعِيشُ الْفَتَى بِالْعَقْلِ فِي
النَّاسِ إنَّهُ عَلَى الْعَقْلِ يَجْرِي عِلْمُهُ وَتَجَارِبُهْ
وَأَفْضَلُ
قَسْمِ اللَّهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ فَلَيْسَ
مِنْ الْأَشْيَاءِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ إذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ
لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ وَمَآرِبُهْ وَاعْلَمْ
أَنَّ بِالْعَقْلِ تُعْرَفُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَيُفْصَلُ بَيْنَ
الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ .
وَقَدْ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : غَرِيزِيٍّ وَمُكْتَسَبٍ .
فَالْغَرِيزِيُّ هُوَ الْعَقْلُ الْحَقِيقِيُّ .
وَلَهُ حَدٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ لَا يُجَاوِزُهُ إلَى
زِيَادَةٍ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ إلَى نُقْصَانٍ .
وَبِهِ
يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ ، فَإِذَا تَمَّ فِي
الْإِنْسَانِ سُمِّيَ عَاقِلًا وَخَرَجَ بِهِ إلَى حَدِّ الْكَمَالِ كَمَا
قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : إذَا تَمَّ عَقْلُ الْمَرْءِ
تَمَّتْ أُمُورُهُ وَتَمَّتْ أَمَانِيهِ وَتَمَّ بِنَاؤُهُ وَرَوَى
الضَّحَّاكُ فِي قَوْله تَعَالَى : { لِيُنْذَرَ مَنْ كَانَ حَيًّا } أَيْ
مَنْ كَانَ عَاقِلًا وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَفِي صِفَتِهِ عَلَى
مَذَاهِبَ شَتَّى .
فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ حَقَائِقِ
الْمَعْلُومَاتِ .
وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّهِ .
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ ؛ لِأَنَّ الدِّمَاغَ
مَحَلُّ الْحِسِّ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ ؛ لِأَنَّ
الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْحَيَاةِ وَمَادَّةُ الْحَوَاسِّ .
وَهَذَا
الْقَوْلُ فِي الْعَقْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ فَاسِدٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : إنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَا
يَصِحُّ أَنْ يُوجِبَ بَعْضُهَا مَا لَا يُوجِبُ سَائِرُهَا .
وَلَوْ أَوْجَبَ سَائِرُهَا مَا يُوجِبُ بَعْضُهَا لَاسْتَغْنَى
الْعَاقِلُ بِوُجُودِ نَفْسِهِ عَنْ وُجُودِ عَقْلِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَوْهَرَ يَصِحُّ قِيَامُهُ بِذَاتِهِ .
فَلَوْ
كَانَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَقْلٌ بِغَيْرِ عَاقِلٍ
كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ جِسْمٌ بِغَيْرِ عَقْلٍ فَامْتَنَعَ بِهَذَيْنِ
أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا .
وَقَالَ آخَرُونَ : الْعَقْلُ هُوَ الْمُدْرِكُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى مَا
هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَقَائِقِ الْمَعْنَى .
وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ
أَقْرَبَ
مِمَّا قَبْلَهُ فَبَعِيدٌ مِنْ الصَّوَابِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ
أَنَّ الْإِدْرَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ ، وَالْعَقْلُ عَرَضٌ
يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَلَذِّذًا
أَوْ آلِمًا أَوْ مُشْتَهِيًا .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ
الْمُتَكَلِّمِينَ الْعَقْلُ هُوَ جُمْلَةُ عُلُومٍ ضَرُورِيَّةٍ وَهَذَا
الْحَدُّ غَيْرُ مَحْصُورٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْإِجْمَالِ ،
وَيَتَأَوَّلُهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ .
وَالْحَدُّ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْمَحْدُودِ بِمَا يَنْفِي عَنْهُ
الْإِجْمَالَ وَالِاحْتِمَالَ .
وَقَالَ آخَرُونَ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ : إنَّ الْعَقْلَ هُوَ
الْعِلْمُ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ .
وَذَلِكَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا وَقَعَ عَنْ دَرَكِ الْحَوَاسِّ .
وَالثَّانِي : مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ .
فَأَمَّا
مَا كَانَ وَاقِعًا عَنْ دَرَكِ الْحَوَاسِّ فَمِثْلُ الْمَرْئِيَّاتِ
الْمُدْرَكَةِ بِالنَّظَرِ ، وَالْأَصْوَاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالسَّمْعِ ،
وَالطُّعُومِ الْمُدْرَكَةِ بِالذَّوْقِ ، وَالرَّوَائِحِ الْمُدْرَكَةِ
بِالشَّمِّ ، وَالْأَجْسَامِ الْمُدْرَكَةِ بِاللَّمْسِ ، فَإِذَا كَانَ
الْإِنْسَانُ مِمَّنْ لَوْ أَدْرَكَ بِحَوَاسِّهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ
ثَبَتَ لَهُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ فِي
حَالِ تَغْمِيضِ عَيْنَيْهِ مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بِهِمَا وَيَعْلَمَ لَا
يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ مِنْ
حَالِهِ أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ لَعَلِمَ .
وَأَمَّا مَا كَانَ
مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَخْلُو
مِنْ وُجُودٍ أَوْ عَدَمٍ ، وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَخْلُو مِنْ
حُدُوثٍ أَوْ قِدَمٍ ، وَأَنَّ مِنْ الْمُحَالِ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ ،
وَأَنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ .
وَهَذَا النَّوْعُ
مِنْ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ الْعَاقِلِ مَعَ
سَلَامَةِ حَالِهِ ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ ، فَإِذَا صَارَ عَالِمًا
بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَهُوَ
كَامِلُ الْعَقْلِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِعَقْلِ النَّاقَةِ ؛
لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى
شَهَوَاتِهِ إذَا قَبُحَتْ ، كَمَا يَمْنَعُ الْعَقْلُ
النَّاقَةَ مِنْ الشُّرُودِ إذَا نَفَرَتْ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ : إذَا عَقْلُك عَقَلَك عَمَّا لَا
يَنْبَغِي فَأَنْتَ عَاقِلٌ .
وَقَدْ
جَاءَتْ السُّنَّةُ بِمَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْعَقْلِ وَهُوَ
مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ { الْعَقْلُ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ
وَالْبَاطِلِ } .
وَكُلُّ مَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا
أَثْبَتَ مَحَلَّهُ فِي الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْعُلُومِ
كُلِّهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } .
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّ
الْعَقْلَ عِلْمٌ ، وَالثَّانِي : أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ .
وَفِي
قَوْله تَعَالَى : { يَعْقِلُونَ بِهَا } ، تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا :
يَعْلَمُونَ بِهَا ، وَالثَّانِي يَعْتَبِرُونَ بِهَا .
فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ .
وَأَمَّا
الْعَقْلُ الْمُكْتَسَبُ فَهُوَ نَتِيجَةُ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ وَهُوَ
نِهَايَةُ الْمَعْرِفَةِ ، وَصِحَّةُ السِّيَاسَةِ ، وَإِصَابَةُ
الْفِكْرَةِ .
وَلَيْسَ لِهَذَا حَدٌّ ؛ لِأَنَّهُ يَنْمُو إنْ اُسْتُعْمِلَ وَيَنْقُصُ
إنْ أُهْمِلَ .
وَنَمَاؤُهُ
يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا
لَمْ يُعَارِضْهُ مَانِعٌ مِنْ هَوًى وَلَا صَادٌّ مِنْ شَهْوَةٍ ،
كَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِذَوِي الْأَسْنَانِ مِنْ الْحُنْكَةِ وَصِحَّةِ
الرَّوِيَّةِ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ وَمُمَارَسَةِ الْأُمُورِ .
وَلِذَلِكَ
حَمِدَتْ الْعَرَبُ آرَاءَ الشُّيُوخِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ :
الْمَشَايِخُ أَشْجَارُ الْوَقَارِ ، وَمَنَاجِعُ الْأَخْبَارِ ، لَا
يَطِيشُ لَهُمْ سَهْمٌ ، وَلَا يَسْقُطُ لَهُمْ وَهْمٌ ، إنْ رَأَوْك فِي
قَبِيحٍ صَدُّوك ، وَإِنْ أَبْصَرُوك عَلَى جَمِيلٍ أَمَدُّوك .
وَقِيلَ
: عَلَيْكُمْ بِآرَاءِ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُمْ إنْ فَقَدُوا ذَكَاءَ
الطَّبْعِ فَقَدْ مَرَّتْ عَلَى عُيُونِهِمْ وُجُوهُ الْعِبْرِ ،
وَتَصَدَّتْ لِأَسْمَاعِهِمْ آثَارُ الْغَيْرِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ نَقَصَتْ قُوَّةُ
بَدَنِهِ وَزَادَتْ قُوَّةُ عَقْلِهِ .
وَقِيلَ فِيهِ : لَا تَدَعُ الْأَيَّامُ جَاهِلًا إلَّا أَدَّبَتْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَفَى بِالتَّجَارِبِ تَأَدُّبًا
وَبِتَقَلُّبِ الْأَيَّامِ عِظَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : التَّجْرِبَةُ مِرْآةُ الْعَقْلِ ،
وَالْغِرَّةُ ثَمَرَةُ الْجَهْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : كَفَى مُخَبِّرًا عَمَّا بَقِيَ مَا مَضَى
وَكَفَى عِبَرًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا جَرَّبُوا .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَقْلَ زَيْنٌ لِأَهْلِهِ
وَلَكِنْ تَمَامُ الْعَقْلِ طُولُ التَّجَارِبِ وَقَالَ آخَرُ : إذَا
طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ آفَةٍ أَفَادَتْ لَهُ الْأَيَّامُ فِي
كَرِّهَا عَقْلَا وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ يَكُونُ بِفَرْطِ
الذَّكَاءِ وَحُسْنِ الْفِطْنَةِ .
وَذَلِكَ جَوْدَةٌ الْحَدْسِ فِي
زَمَانٍ غَيْرِ مُهْمِلٍ لِلْحَدْسِ ، فَإِذَا امْتَزَجَ بِالْعَقْلِ
الْغَرِيزِيِّ صَارَتْ نَتِيجَتُهُمَا نُمُوَّ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ
كَاَلَّذِي يَكُونُ فِي الْأَحْدَاثِ
مِنْ وُفُورِ الْعَقْلِ
وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ ، حَتَّى قَالَ هَرِمُ بْنُ قُطْبَةَ حِينَ
تَنَافَرَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ
: عَلَيْكُمْ بِالْحَدِيثِ السِّنِّ ، الْحَدِيدِ الذِّهْنِ .
وَلَعَلَّ هَرِمًا أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ فَاعْتَذَرَ
بِمَا قَالَ .
لَكِنْ
لَمْ يُنْكِرَا قَوْلَهُ إذْعَانًا لِلْحَقِّ فَصَارَا إلَى أَبِي جَهْلٍ
لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ ، وَحِدَّةِ ذِهْنِهِ ، فَأَبَى أَنْ يَحْكُمَ
بَيْنَهُمَا فَرَجَعَا إلَى هَرِمٍ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا .
وَفِيهِ
قَالَ لَبِيدٌ : يَا هَرِمُ ابْنَ الْأَكْرَمِينَ مَنْصِبًا إنَّك قَدْ
أُوتِيتَ حُكْمًا مُعْجِبَا وَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ عَلَيْكُمْ
بِمُشَاوَرَةِ الشَّبَابِ فَإِنَّهُمْ يُنْتِجُونَ رَأْيًا لَمْ يَنَلْهُ
طُولُ الْقِدَمِ ، وَلَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ رُطُوبَةُ الْهَرِمِ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْت الْعَقْلَ لَمْ يَكُنِ انْتِهَابَا وَلَمْ
يُقْسَمْ عَلَى عَدَدِ السِّنِينَا وَلَوْ أَنَّ السِّنِينَ تَقَاسَمَتْهُ
حَوَى الْآبَاءُ أَنْصِبَةَ الْبَنِينَا وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَالَ : قُلْت لِغُلَامٍ حَدَثٍ مِنْ أَوْلَادِ الْعَرَبِ كَانَ
يُحَادِثُنِي فَأَمْتَعَنِي بِفَصَاحَةٍ وَمَلَاحَةٍ : أَيَسُرُّكَ أَنْ
يَكُونَ لَك مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَأَنْتَ أَحْمَقُ ؟ قَالَ : لَا
وَاَللَّهِ .
قَالَ : فَقُلْت : وَلِمَ ؟ قَالَ : أَخَافُ أَنْ يَجْنِيَ عَلَيَّ
حُمْقِي جِنَايَةً تَذْهَبُ بِمَالِي وَيَبْقَى عَلَيَّ حُمْقِي .
فَانْظُرْ
إلَى هَذَا الصَّبِيِّ كَيْفَ اسْتَخْرَجَ بِفَرْطِ ذَكَائِهِ ،
وَاسْتَنْبَطَ بِجَوْدَةِ قَرِيحَتِهِ مَا لَعَلَّهُ يَدِقُّ عَلَى مَنْ
هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا ، وَأَكْثَرُ تَجْرِبَةً .
وَأَحْسَنُ
مِنْ هَذَا الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ مَا حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِصِبْيَانٍ
يَلْعَبُونَ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَهَرَبُوا مِنْهُ
إلَّا عَبْدَ اللَّهِ .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
مَا لَك ؟ لِمَ لَا تَهْرَبُ مَعَ أَصْحَابِك ؟ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لَمْ أَكُنْ عَلَى رِيبَةٍ فَأَخَافُك ، وَلَمْ يَكُنْ
الطَّرِيقُ ضَيِّقًا فَأُوَسِّعُ
لَك .
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فَانْظُرْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ الْفِطْنَةِ وَقُوَّةِ
الْمِنَّةِ وَحُسْنِ الْبَدِيهَةِ .
كَيْفَ
نَفَى عَنْهُ اللَّوْمَ ، وَأَثْبَتَ لَهُ الْحُجَّةَ فَلَيْسَ
لِلذَّكَاءِ غَايَةٌ ، وَلَا لِجُودَةِ الْقَرِيحَةِ نِهَايَةٌ .
وَحُكِيَ
أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ الْفَرَزْدَقَ بِضَرْبِ
أَعْنَاقِ أُسَارَى مِنْ الرُّومِ فَاسْتَعْفَاهُ الْفَرَزْدَقُ فَلَمْ
يَفْعَلْ ، وَأَعْطَاهُ سَيْفًا لَا يَقْطَعُ شَيْئًا فَقَالَ
الْفَرَزْدَقُ بَلْ أَضْرَبُهُمْ بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ مُجَاشِعِ ،
يَعْنِي سَيْفَ نَفْسِهِ ، فَقَامَ فَضَرَبَ بِهِ عُنُقَ رُومِيٍّ
مِنْهُمْ فَنَبَا السَّيْفُ عَنْهُ ، فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَمَنْ
حَوْلَهُ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ : أَيَعْجَبُ النَّاسُ أَنْ أَضْحَكْت
سَيِّدَهُمْ خَلِيفَةَ اللَّهِ يُسْتَسْقَى بِهِ الْمَطَرُ لَمْ يَنْبُ
سَيْفِي مِنْ رُعْبٍ وَلَا دَهَشٍ عَنْ الْأَسِيرِ وَلَكِنْ أَخَّرَ
الْقَدَرُ وَلَنْ يُقَدِّمَ نَفْسًا قَبْلَ مِيتَتِهَا جَمْعُ الْيَدَيْنِ
وَلَا الصَّمْصَامَةُ الذَّكَرُ ثُمَّ غَمَدَ سَيْفَهُ وَهُوَ يَقُولُ :
مَا إنْ يُعَابُ سَيِّدٌ إذَا صَبَا وَلَا يُعَابُ صَارِمٌ إذَا نَبَا
وَلَا يُعَابُ شَاعِرٌ إذَا كَبَا ثُمَّ جَلَسَ وَهُوَ يَقُولُ : كَأَنَّ
بِابْنِ الْمَرَاغَةِ قَدْ هَجَانِي فَقَالَ : بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ
سَيْفِ مُجَاشِعٍ ضَرَبْت وَلَمْ تَضْرِبْ بِسَيْفِ ابْنِ ظَالِمِ ثُمَّ
قَامَ فَانْصَرَفَ وَحَضَرَ جَرِيرٌ وَخُبِّرَ بِالْخَبَرِ وَلَمْ
يُنْشَدْ لَهُ الشِّعْرُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ : بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ
سَيْفِ مُجَاشِعٍ ضَرَبْت وَلَمْ تَضْرِبْ بِسَيْفِ ابْنِ ظَالِمِ ثُمَّ
قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّ بِابْنِ الْقَيْنِ وَقَدْ
أَجَابَنِي فَقَالَ : وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ
إذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حَمْلُ الْمَغَارِمِ فَاسْتَحْسَنَ
سُلَيْمَانُ حَدْسَ الْفَرَزْدَقِ عَلَى جَرِيرٍ ثُمَّ أَخْبَرَ
الْفَرَزْدَقَ بِشِعْرِ جَرِيرٍ وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِحَدْسِهِ فَقَالَ
الْفَرَزْدَقُ : كَذَاك سُيُوفُ الْهِنْدِ تَنْبُو ظُبَاتُهَا وَتَقْطَعُ
أَحْيَانًا مَنَاطَ التَّمَائِمِ وَلَنْ نَقْتُلَ الْأَسْرَى وَلَكِنْ
نَفُكُّهُمْ إذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حَمْلُ
الْمِنَّةِ وَحُسْنِ الْبَدِيهَةِ .
كَيْفَ
نَفَى عَنْهُ اللَّوْمَ ، وَأَثْبَتَ لَهُ الْحُجَّةَ فَلَيْسَ
لِلذَّكَاءِ غَايَةٌ ، وَلَا لِجُودَةِ الْقَرِيحَةِ نِهَايَةٌ .
وَحُكِيَ
أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ الْفَرَزْدَقَ بِضَرْبِ
أَعْنَاقِ أُسَارَى مِنْ الرُّومِ فَاسْتَعْفَاهُ الْفَرَزْدَقُ فَلَمْ
يَفْعَلْ ، وَأَعْطَاهُ سَيْفًا لَا يَقْطَعُ شَيْئًا فَقَالَ
الْفَرَزْدَقُ بَلْ أَضْرَبُهُمْ بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ مُجَاشِعِ ،
يَعْنِي سَيْفَ نَفْسِهِ ، فَقَامَ فَضَرَبَ بِهِ عُنُقَ رُومِيٍّ
مِنْهُمْ فَنَبَا السَّيْفُ عَنْهُ ، فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَمَنْ
حَوْلَهُ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ : أَيَعْجَبُ النَّاسُ أَنْ أَضْحَكْت
سَيِّدَهُمْ خَلِيفَةَ اللَّهِ يُسْتَسْقَى بِهِ الْمَطَرُ لَمْ يَنْبُ
سَيْفِي مِنْ رُعْبٍ وَلَا دَهَشٍ عَنْ الْأَسِيرِ وَلَكِنْ أَخَّرَ
الْقَدَرُ وَلَنْ يُقَدِّمَ نَفْسًا قَبْلَ مِيتَتِهَا جَمْعُ الْيَدَيْنِ
وَلَا الصَّمْصَامَةُ الذَّكَرُ ثُمَّ غَمَدَ سَيْفَهُ وَهُوَ يَقُولُ :
مَا إنْ يُعَابُ سَيِّدٌ إذَا صَبَا وَلَا يُعَابُ صَارِمٌ إذَا نَبَا
وَلَا يُعَابُ شَاعِرٌ إذَا كَبَا ثُمَّ جَلَسَ وَهُوَ يَقُولُ : كَأَنَّ
بِابْنِ الْمَرَاغَةِ قَدْ هَجَانِي فَقَالَ : بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ
سَيْفِ مُجَاشِعٍ ضَرَبْت وَلَمْ تَضْرِبْ بِسَيْفِ ابْنِ ظَالِمِ ثُمَّ
قَامَ فَانْصَرَفَ وَحَضَرَ جَرِيرٌ وَخُبِّرَ بِالْخَبَرِ وَلَمْ
يُنْشَدْ لَهُ الشِّعْرُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ : بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ
سَيْفِ مُجَاشِعٍ ضَرَبْت وَلَمْ تَضْرِبْ بِسَيْفِ ابْنِ ظَالِمِ ثُمَّ
قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّ بِابْنِ الْقَيْنِ وَقَدْ
أَجَابَنِي فَقَالَ : وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ
إذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حَمْلُ الْمَغَارِمِ فَاسْتَحْسَنَ
سُلَيْمَانُ حَدْسَ الْفَرَزْدَقِ عَلَى جَرِيرٍ ثُمَّ أَخْبَرَ
الْفَرَزْدَقَ بِشِعْرِ جَرِيرٍ وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِحَدْسِهِ فَقَالَ
الْفَرَزْدَقُ : كَذَاك سُيُوفُ الْهِنْدِ تَنْبُو ظُبَاتُهَا وَتَقْطَعُ
أَحْيَانًا مَنَاطَ التَّمَائِمِ وَلَنْ نَقْتُلَ الْأَسْرَى وَلَكِنْ
نَفُكُّهُمْ إذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حَمْلُ
الْمَغَارِمِ
وَهَلْ ضَرْبَةُ الرُّومِيِّ جَاعِلَةٌ لَكُمْ أَبًا عَنْ كُلَيْبٍ أَوْ
أَخًا مِثْلَ دَارِمِ فَشَاعَ حَدِيثُ الْفَرَزْدَقِ بِهَذَا حَتَّى
حُكِيَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ أَتَى بِأَسْرَى مِنْ الرُّومِ فَأَمَرَ
بِقَتْلِهِمْ وَكَانَ عِنْدَهُ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ فَقَالَ لَهُ :
اضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْعِلْجِ .
فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْت مَا اُبْتُلِيَ بِهِ
الْفَرَزْدَقُ فَعُيِّرَ بِهِ قَوْمٌ إلَى الْيَوْمِ .
فَقَالَ : إنَّمَا أَرَدْت تَشْرِيفَك وَقَدْ أَعْفَيْتُك .
وَكَانَ
أَبُو الْهَوْلِ الشَّاعِرُ حَاضِرًا فَقَالَ : جَزِعْت مِنْ الرُّومِيِّ
وَهُوَ مُقَيَّدٌ فَكَيْفَ وَلَوْ لَاقَيْتَهُ وَهُوَ مُطْلَقُ دَعَاك
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِقَتْلِهِ فَكَادَ شَبِيبٌ عِنْدَ ذَلِكَ
يَفْرَقُ تَنَحَّ شَبِيبًا عَنْ قِرَاعِ كَتِيبَةٍ وَادْنُ شَبِيبًا مِنْ
كَلَامٍ يُلَفَّقُ وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْ كَلَامِ الْفَرَزْدَقِ إنْ
صَحَّ مِنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَتَيْنِ وَلَكِنْ مِنْ اتِّفَاقِ
الْخَاطِرَيْنِ .
وَلِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : آيَةُ
الْعَقْلِ سُرْعَةُ الْفَهْمِ ، وَغَايَتُهُ إصَابَةُ الْوَهْمِ ،
وَلَيْسَ لِمَنْ مُنِحَ جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ وَسُرْعَةُ الْخَاطِرِ
عَجْزٌ عَنْ جَوَابٍ وَإِنْ أُعْضِلَ ، كَمَا قِيلَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى كَثْرَةِ
عَدَدِهِمْ ؟ قَالَ : كَمَا يَرْزُقُهُمْ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ .
وَقِيلَ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَيْنَ تَذْهَبُ الْأَرْوَاحُ إذَا
فَارَقَتْ الْأَجْسَادَ ؟ قَالَ : أَيْنَ تَذْهَبُ نَارُ الْمَصَابِيحِ
عِنْدَ فَنَاءِ الْأَدْهَانِ ؟ وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ جَوَابَا إسْكَاتٍ
تَضَمَّنَا دَلِيلَيْ إذْعَانٍ وَحُجَّتَيْ قَهْرٍ .
وَمِنْ غَيْرِ
هَذَا الْفَنِّ وَإِنْ كَانَ مُسْكِتًا مَا حُكِيَ عَنْ إبْلِيسَ -
لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ حِينَ ظَهَرَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : أَلَسْت تَقُولُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَك
إلَّا مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَارْمِ نَفْسَك مِنْ ذُرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ فَإِنَّهُ إنْ
يُقَدِّرْ لَك السَّلَامَةَ تَسْلَمْ .
فَقَالَ لَهُ : يَا مَلْعُونُ إنَّ لِلَّهِ أَنْ
يَخْتَبِرَ عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ
يَخْتَبِرَ رَبَّهُ .
وَمِثْلُ
هَذَا الْجَوَابِ لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
الَّذِينَ أَمَدَّهُمْ بِوَحْيِهِ ، وَأَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ ،
وَإِنَّمَا يُسْتَغْرَبُ مِمَّنْ يَلْجَأُ إلَى خَاطِرِهِ وَيُعَوِّلُ
عَلَى بَدِيهَتِهِ .
وَرَوَى قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ : قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ؟ قَالَ : دَعْوَةٌ
مُسْتَجَابَةٌ .
قِيلَ : فَكَمْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ؟ قَالَ : مَسِيرَةُ
يَوْمٍ لِلشَّمْسِ .
فَكَانَ
هَذَا السُّؤَالُ مِنْ سَائِلِهِ إمَّا اخْتِبَارًا ، وَإِمَّا
اسْتِبْصَارًا فَصَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْجَوَابِ مَا أَسْكَتَ .
فَأَمَّا
إذَا اجْتَمَعَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ وَهُوَ
مَا يُنَمِّيهِ فَرْطُ الذَّكَاءِ بِجَوْدَةِ الْحَدْسِ وَصِحَّةِ
الْقَرِيحَةِ بِحُسْنِ الْبَدِيهَةِ ، مَعَ مَا يُنَمِّيه الِاسْتِعْمَالُ
بِطُولِ التَّجَارِبِ وَمُرُورِ الزَّمَانِ بِكَثْرَةِ الِاخْتِبَارِ ،
فَهُوَ الْعَقْلُ الْكَامِلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الرَّجُلِ الْفَاضِلِ
الِاسْتِحْقَاقِ .
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ { : أُثْنِيَ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ عَقْلُهُ ؟ قَالُوا : يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ عِبَادَتِهِ ، إنَّ مِنْ خُلُقِهِ ، إنَّ مِنْ
فَضْلِهِ ، إنَّ مِنْ أَدَبِهِ .
فَقَالَ : كَيْفَ عَقْلُهُ ؟ قَالُوا
: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُثْنِي عَلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ ، وَأَصْنَافِ
الْخَيْرِ وَتَسْأَلُنَا عَنْ عَقْلِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ الْأَحْمَقَ الْعَابِدَ يُصِيبُ
بِجَهْلِهِ أَعْظَمَ مِنْ فُجُورِ الْفَاجِرِ وَإِنَّمَا يَقْرَبُ
النَّاسُ مِنْ رَبِّهِمْ بِالزُّلَفِ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ } .
وَاخْتَلَفَ
النَّاسُ فِي الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ إذَا تَنَاهَى وَزَادَ هَلْ يَكُونُ
فَضِيلَةً أَمْ لَا فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَكُونُ فَضِيلَةً ؛ لِأَنَّ
الْفَضَائِلَ هَيْئَاتٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ فَضِيلَتَيْنِ نَاقِصَتَيْنِ
، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ تَوَسُّطٌ
بَيْنَ رَذِيلَتَيْنِ فَمَا جَاوَزَ التَّوَسُّطَ
خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَضِيلَةِ .
وَقَدْ
قَالَتْ الْحُكَمَاءُ لِلْإِسْكَنْدَرِ : أَيُّهَا الْمَلِكُ عَلَيْك
بِالِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَيْبٌ
وَالنُّقْصَانَ عَجْزٌ .
هَذَا مَعَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَيْرُ الْأُمُورِ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ
، إلَيْهِ يَرْجِعُ الْعَالِي ، وَمِنْهُ يَلْحَقُ التَّالِي .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : لَا تَذْهَبَنَّ فِي الْأُمُورِ فَرَطَا لَا تَسْأَلَنَّ إنْ
سَأَلْت شَطَطَا وَكُنْ مِنْ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطَا قَالُوا : لِأَنَّ
زِيَادَةَ الْعَقْلِ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إلَى الدَّهَاءِ وَالْمَكْرِ
وَذَلِكَ مَذْمُومٌ وَصَاحِبُهُ مَلُومٌ .
وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَنْ
يَعْزِلَ زِيَادًا عَنْ وِلَايَتِهِ فَقَالَ زِيَادٌ : يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَعَنْ مُوجِدَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا عَنْ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَلَكِنْ خِفْت أَنْ أَحْمِلَ عَلَى النَّاسِ
فَضْلَ عَقْلِك .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَحْكِيِّ عَنْ عُمَرَ مَا قِيلَ قَدِيمًا : إفْرَاطُ
الْعَقْلِ مُضِرٌّ بِالْجَسَدِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَفَاك مِنْ عَقْلِك مَا دَلَّك عَلَى
سَبِيلِ رُشْدِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : قَلِيلٌ يَكْفِي خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ
يُطْغِي .
وَقَالَ
آخَرُونَ ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ : زِيَادَةُ الْعَقْلِ فَضِيلَةٌ
؛ لِأَنَّ الْمُكْتَسَبَ غَيْرُ مَحْدُودٍ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ زِيَادَةُ
الْفَضَائِلِ الْمَحْمُودَةِ نَقْصًا مَذْمُومًا ؛ لِأَنَّ مَا جَاوَزَ
الْحَدَّ لَا يُسَمَّى فَضِيلَةً كَالشُّجَاعِ إذَا زَادَ عَلَى حَدِّ
الشَّجَاعَةِ نُسِبَ إلَى التَّهَوُّرِ ، وَالسَّخِيُّ إذَا زَادَ عَلَى
حَدِّ السَّخَاءِ نُسِبَ إلَى التَّبْذِيرِ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ
الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ
بِالْأُمُورِ وَحُسْنُ إصَابَةٍ بِالظُّنُونِ وَمَعْرِفَةُ مَا لَمْ
يَكُنْ إلَى مَا يَكُونُ ، وَذَلِكَ فَضِيلَةٌ
لَا نَقْصٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { أَفْضَلُ النَّاسِ أَعْقَلُ النَّاسِ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الْعَقْلُ حَيْثُ كَانَ مَأْلُوفٌ } .
وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلَى شَاكِلَتِهِ } أَيْ بِحَسَبِ عَقْلِهِ .
وَقَالَ
الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ : مَنْ لَمْ يَكُنْ
عَقْلُهُ أَغْلَبَ خِصَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهِ ، كَانَ حَتْفُهُ فِي
أَغْلَبِ خِصَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كُلُّ شَيْءٍ إذَا كَثُرَ رَخُصَ إلَّا
الْعَقْلَ فَإِنَّهُ إذَا كَثُرَ غَلَا .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الْعَاقِلَ مَنْ عَقْلُهُ فِي إرْشَادٍ ،
وَمَنْ رَأْيُهُ فِي إمْدَادٍ ، فَقَوْلُهُ سَدِيدٌ ، وَفِعْلُهُ حَمِيدٌ
، وَالْجَاهِلُ مَنْ جَهْلُهُ فِي إغْوَاءٍ ، وَمَنْ هَوَاهُ فِي إغْرَاءٍ
، فَقَوْلُهُ سَقِيمٌ ، وَفِعْلُهُ ذَمِيمٌ ، وَأَنْشَدَنِي ابْنُ
لَنْكَكَ لِأَبِيهِ .
مَنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ عَقْلَهُ أَهْلَكَهُ
أَكْثَرُ مَا فِيهِ فَأَمَّا الدَّهَاءُ وَالْمَكْرُ فَهُوَ مَذْمُومٌ ؛
لِأَنَّ صَاحِبَهُ صَرَفَ فَضْلَ عَقْلِهِ إلَى الشَّرِّ وَلَوْ صَرَفَهُ
إلَى الْخَيْرِ لَكَانَ مَحْمُودًا .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ : كَانَ وَاَللَّهِ أَفْضَلَ
مِنْ أَنْ يُخْدَعَ ، وَأَعْقَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ .
وَقَالَ عُمَرُ : لَسْتُ بِالْخِبِّ وَلَا يَخْدَعُنِي الْخِبُّ .
وَاخْتَلَفَ
النَّاسُ فِيمَنْ صَرَفَ فَضْلَ عَقْلِهِ إلَى الشَّرِّ كَزِيَادٍ ،
وَأَشْبَاهِهِ مِنْ الدُّهَاةِ ، هَلْ يُسَمَّى الدَّاهِيَةُ مِنْهُمْ
عَاقِلًا أَمْ لَا .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُسَمِّيهِ عَاقِلًا ؛ لِوُجُودِ الْعَقْلِ مِنْهُ .
وَقَالَ
آخَرُونَ : لَا أُسَمِّيهِ عَاقِلًا حَتَّى يَكُونَ خَيِّرًا دَيِّنًا ؛
لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالدِّينَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْلِ .
فَأَمَّا الشِّرِّيرُ فَلَا أُسَمِّيهِ عَاقِلًا وَإِنَّمَا أُسَمِّيهِ
صَاحِبَ رَوِيَّةٍ وَفِكْرٍ .
وَقَدْ
قِيلَ : الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ حَتَّى
قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ أَوْصَى
بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ أَنَّهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا فِي
الزُّهَّادِ ؛ لِأَنَّهُمْ انْقَادُوا لِلْعَقْلِ وَلَمْ يَغْتَرُّوا
بِالْأَمَلِ .
وَرَوَى لُقْمَانُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ عَنْ
أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { يَا عُوَيْمِرُ ازْدَدْ عَقْلًا تَزْدَدْ مِنْ رَبِّك
قُرْبًا .
قُلْت : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، وَمَنْ لِي بِالْعَقْلِ ؟
قَالَ : اجْتَنِبْ مَحَارِمَ اللَّهِ ، وَأَدِّ فَرَائِضَ اللَّهِ تَكُنْ
عَاقِلًا ثُمَّ تَنَفَّلَ بِصَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ تَزْدَدْ فِي
الدُّنْيَا عَقْلًا وَتَزْدَدْ مِنْ رَبِّك قُرْبًا وَبِهِ عِزًّا } .
وَأَنْشَدَنِي
بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ ، وَذَكَرَ أَنَّهَا
لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ الْمَكَارِمَ
أَخْلَاقٌ مُطَهَّرَةٌ فَالْعَقْلُ أَوَّلُهَا وَالدِّينُ ثَانِيهَا
وَالْعِلْمُ ثَالِثُهَا وَالْحِلْمُ رَابِعُهَا وَالْجُودُ خَامِسُهَا
وَالْعُرْفُ سَادِيهَا وَالْبِرُّ سَابِعُهَا وَالصَّبْرُ ثَامِنُهَا
وَالشُّكْرُ تَاسِعُهَا وَاللِّينُ عَاشِيهَا وَالنَّفْسُ تَعْلَمُ أَنِّي
لَا أُصَدِّقُهَا وَلَسْت أَرْشُدُ إلَّا حِينَ أَعْصِيهَا وَالْعَيْنُ
تَعْلَمُ فِي عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا مَنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ
أَعَادِيهَا عَيْنَاك قَدْ دَلَّتَا عَيْنَيَّ مِنْك عَلَى أَشْيَاءَ
لَوْلَاهُمَا مَا كُنْت تُبْدِيهَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ
الْمُكْتَسَبَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ ؛ لِأَنَّهُ
نَتِيجَةٌ مِنْهُ .
وَقَدْ يَنْفَكُّ الْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ عَنْ
الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ فَيَكُونَ صَاحِبُهُ مَسْلُوبَ الْفَضَائِلِ ،
مَوْفُورَ الرَّذَائِلِ ، كَالْأَنْوَكِ الَّذِي لَا يَجِدُ لَهُ
فَضِيلَةً ، وَالْأَحْمَقُ الَّذِي قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْ رَذِيلَةٍ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { الْأَحْمَقُ كَالْفَخَّارِ لَا يُرَقَّعُ وَلَا يُشَعَّبُ } .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الْأَحْمَقُ أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ ، إذْ حَرَمَهُ أَعَزَّ
الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْحَاجَةُ
إلَى الْعَقْلِ أَقْبَحُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْمَالِ ، وَقَالَ بَعْضُ
الْبُلَغَاءِ : دَوْلَةُ الْجَاهِلِ عِبْرَةُ الْعَاقِلِ ، وَقَالَ
أَنُوشِرْوَانَ لِبَزَرْجَمْهَرَ :
أَيُّ الْأَشْيَاءِ خَيْرٌ لِلْمَرْءِ ؟ قَالَ : عَقْلٌ
يَعِيشُ بِهِ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَإِخْوَانٌ يَسْتُرُونَ عَيْبَهُ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَمَالٌ يَتَحَبَّبُ بِهِ إلَى
النَّاسِ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَعِيٌّ صَامِتٌ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَمَوْتٌ جَارِفٌ .
وَقَالَ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ : الْعَقْلُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا
مَطْبُوعٌ ، وَالْآخَرُ مَسْمُوعٌ .
وَلَا
يَصْلُحُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ ، فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : رَأَيْتُ الْعَقْلَ نَوْعَيْنِ فَمَسْمُوعٌ
وَمَطْبُوعُ وَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ إذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ كَمَا لَا
تَنْفَعُ الشَّمْسُ وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوعُ وَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ
الْأُدَبَاءِ الْعَاقِلَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ ، وَالْأَحْمَقَ
بِمَا فِيهِ مِنْ الرَّذَائِلِ ، فَقَالَ : الْعَاقِلُ إذَا وَالَى بَذَلَ
فِي الْمَوَدَّةِ نَصْرَهُ ، وَإِذَا عَادَى رَفَعَ عَنْ الظُّلْمِ
قَدْرَهُ ، فَيُسْعِدُ مَوَالِيَهُ بِعَقْلِهِ ، وَيَعْتَصِمُ مُعَادِيهِ
بِعَدْلِهِ .
إنْ أَحْسَنَ إلَى أَحَدٍ تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ
بِالشُّكْرِ ، وَإِنْ أَسَاءَ إلَيْهِ مُسِيءٌ سَبَّبَ لَهُ أَسْبَابَ
الْعُذْرِ ، أَوْ مَنَحَهُ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ .
وَالْأَحْمَقُ
ضَالٌّ مُضِلٌّ إنْ أُونِسَ تَكَبَّرَ ، وَإِنْ أُوحِشَ تَكْدَرَ ، وَإِنْ
اُسْتُنْطِقَ تَخَلَّفَ ، وَإِنْ تُرِكَ تَكَلَّفَ .
مُجَالَسَتُهُ
مِهْنَةٌ ، وَمُعَاتَبَتُهُ مِحْنَةٌ ، وَمُحَاوَرَتُهُ تَعَرٍّ ،
وَمُوَالَاتُهُ تَضُرُّ ، وَمُقَارَبَتُهُ عَمَى ، وَمُقَارَنَتُهُ شَقَا .
وَكَانَتْ مُلُوكُ الْفُرْسِ إذَا غَضِبَتْ عَلَى عَاقِلٍ حَبَسَتْهُ مَعَ
جَاهِلٍ .
وَالْأَحْمَقُ
يُسِيءُ إلَى غَيْرِهِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ
فَيُطَالِبُهُ بِالشُّكْرِ ، وَيُحْسِنُ إلَيْهِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ
أَسَاءَ فَيُطَالِبُهُ بِالْوَتَرِ .
فَمَسَاوِئُ الْأَحْمَقِ لَا
تَنْقَضِي وَعُيُوبُهُ لَا تَتَنَاهَى وَلَا يَقِفُ النَّظَرُ مِنْهَا
إلَى غَايَةٍ إلَّا لَوَّحَتْ مَا وَرَاءَهَا مِمَّا هُوَ أَدْنَى مِنْهَا
، وَأَرْدَى ، وَأَمَرُّ ، وَأَدْهَى .
فَمَا أَكْثَرَ الْعِبْرَ لِمَنْ نَظَرَ ، وَأَنْفَعَهَا لِمَنْ
اعْتَبَرَ .
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُحْفَظُ
الْأَحْمَقُ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الدُّنْيَا رُبَّمَا أَقْبَلَتْ عَلَى
الْجَاهِلِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَدْبَرَتْ عَنْ الْعَاقِلِ
بِالِاسْتِحْقَاقِ .
فَإِنْ أَتَتْك مِنْهَا سُهْمَةٌ مَعَ جَهْلٍ ،
أَوْ فَاتَتْك مِنْهَا بُغْيَةٌ مَعَ عَقْلٍ ، فَلَا يَحْمِلَنَّكَ ذَلِكَ
عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْجَهْلِ ، وَالزُّهْدِ فِي الْعَقْلِ .
فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ مِنْ
الْوَاجِبَاتِ .
وَلَيْسَ مَنْ أَمْكَنَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ ، كَمَنْ اسْتَوْجَبَهُ
بِآلَتِهِ ، وَأَدَوَاتِهِ .
وَبَعْدُ
فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ كَالْغَرِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى النُّقْلَةِ ،
وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ كَالنَّسِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى الْوَصْلَةِ .
فَلَا يَفْرَحُ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ جَلِيلَةٍ نَالَهَا بِغَيْرِ عَقْلٍ ،
وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ حَلَّهَا بِغَيْرِ فَضْلٍ .
فَإِنَّ
الْجَهْلَ يُنْزِلُهُ مِنْهَا ، وَيُزِيلُهُ عَنْهَا ، وَيَحُطُّهُ إلَى
رُتْبَتِهِ ، وَيَرُدُّهُ إلَى قِيمَتِهِ ، بَعْدَ أَنْ تَظْهَرَ
عُيُوبُهُ ، وَتَكْثُرَ ذُنُوبُهُ ، وَيَصِيرَ مَادِحُهُ هَاجِيًا ،
وَوَلِيُّهُ مُعَادِيًا .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُنْشَرُ
مِنْ فَضَائِلِ الْعَاقِلِ ، كَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ رَذَائِلِ الْجَاهِلِ
، حَتَّى يَصِيرَ مَثَلًا فِي الْغَابِرِينَ ، وَحَدِيثًا فِي
الْأَخِرِينَ ، مَعَ هَتْكِهِ فِي عَصْرِهِ ، وَقُبْحِ ذِكْرِهِ فِي
دَهْرِهِ ، كَاَلَّذِي رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ فِي
بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ لَهُ حِمَارٌ .
فَقَالَ : يَا رَبِّ لَوْ كَانَ لَك حِمَارٌ لَعَلَفْته مَعَ حِمَارِي .
فَهَمَّ
بِهِ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ :
إنَّمَا أُثِيبُ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ .
وَاسْتَعْمَلَ
مُعَاوِيَةُ رَجُلًا مِنْ كَلْبٍ فَذُكِرَ الْمَجُوسُ يَوْمًا عِنْدَهُ
فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ أُمَّهَاتِهِمْ ،
وَاَللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَا نَكَحْت أُمِّي .
فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ : - قَبَّحَهُ اللَّهُ -
أَتَرَوْنَهُ لَوْ زَادُوهُ فَعَلَ ؟ وَعَزَلَهُ
الْأَحْمَقُ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الدُّنْيَا رُبَّمَا أَقْبَلَتْ عَلَى
الْجَاهِلِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَدْبَرَتْ عَنْ الْعَاقِلِ
بِالِاسْتِحْقَاقِ .
فَإِنْ أَتَتْك مِنْهَا سُهْمَةٌ مَعَ جَهْلٍ ،
أَوْ فَاتَتْك مِنْهَا بُغْيَةٌ مَعَ عَقْلٍ ، فَلَا يَحْمِلَنَّكَ ذَلِكَ
عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْجَهْلِ ، وَالزُّهْدِ فِي الْعَقْلِ .
فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ مِنْ
الْوَاجِبَاتِ .
وَلَيْسَ مَنْ أَمْكَنَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ ، كَمَنْ اسْتَوْجَبَهُ
بِآلَتِهِ ، وَأَدَوَاتِهِ .
وَبَعْدُ
فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ كَالْغَرِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى النُّقْلَةِ ،
وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ كَالنَّسِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى الْوَصْلَةِ .
فَلَا يَفْرَحُ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ جَلِيلَةٍ نَالَهَا بِغَيْرِ عَقْلٍ ،
وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ حَلَّهَا بِغَيْرِ فَضْلٍ .
فَإِنَّ
الْجَهْلَ يُنْزِلُهُ مِنْهَا ، وَيُزِيلُهُ عَنْهَا ، وَيَحُطُّهُ إلَى
رُتْبَتِهِ ، وَيَرُدُّهُ إلَى قِيمَتِهِ ، بَعْدَ أَنْ تَظْهَرَ
عُيُوبُهُ ، وَتَكْثُرَ ذُنُوبُهُ ، وَيَصِيرَ مَادِحُهُ هَاجِيًا ،
وَوَلِيُّهُ مُعَادِيًا .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُنْشَرُ
مِنْ فَضَائِلِ الْعَاقِلِ ، كَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ رَذَائِلِ الْجَاهِلِ
، حَتَّى يَصِيرَ مَثَلًا فِي الْغَابِرِينَ ، وَحَدِيثًا فِي
الْأَخِرِينَ ، مَعَ هَتْكِهِ فِي عَصْرِهِ ، وَقُبْحِ ذِكْرِهِ فِي
دَهْرِهِ ، كَاَلَّذِي رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ فِي
بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ لَهُ حِمَارٌ .
فَقَالَ : يَا رَبِّ لَوْ كَانَ لَك حِمَارٌ لَعَلَفْته مَعَ حِمَارِي .
فَهَمَّ
بِهِ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ :
إنَّمَا أُثِيبُ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ .
وَاسْتَعْمَلَ
مُعَاوِيَةُ رَجُلًا مِنْ كَلْبٍ فَذُكِرَ الْمَجُوسُ يَوْمًا عِنْدَهُ
فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ أُمَّهَاتِهِمْ ،
وَاَللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَا نَكَحْت أُمِّي .
فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ : - قَبَّحَهُ اللَّهُ -
أَتَرَوْنَهُ لَوْ زَادُوهُ فَعَلَ ؟ وَعَزَلَهُ
وَوَلَّى
الرَّبِيعَ الْعَامِرِيَّ - وَكَانَ مِنْ النَّوْكَى - عَلَى سَائِرِ
الْيَمَامَةِ فَأَقَادَ كَلْبًا بِكَلْبٍ فَقَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ :
شَهِدْت بِأَنَّ اللَّهَ حَقًّا لِقَاؤُهُ وَأَنَّ الرَّبِيعَ
الْعَامِرِيَّ رَقِيعُ أَقَادَ لَنَا كَلْبًا بِكَلْبٍ وَلَمْ يَدَعْ
دِمَاءَ كِلَابِ الْمُسْلِمِينَ تَضِيعُ وَلَيْسَ لِمَعَارِّ الْجَهْلِ
غَايَةٌ ، وَلَا لِمَضَارِّ الْحُمْقِ نِهَايَةٌ .
قَالَ الشَّاعِرُ : لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ بِهِ إلَّا
الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا
الْهَوَى
: فَصْلٌ : وَأَمَّا الْهَوَى فَهُوَ عَنْ الْخَيْرِ صَادٌّ ،
وَلِلْعَقْلِ مُضَادٌّ ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ مِنْ الْأَخْلَاقِ
قَبَائِحَهَا ، وَيُظْهِرُ مِنْ الْأَفْعَالِ فَضَائِحَهَا ، وَيَجْعَلُ
سِتْرَ الْمُرُوءَةِ مَهْتُوكًا ، وَمَدْخَلَ الشَّرِّ مَسْلُوكًا .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْهَوَى
إلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
ثُمَّ
تَلَا : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } وَقَالَ
عِكْرِمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ } يَعْنِي بِالشَّهَوَاتِ { وَتَرَبَّصْتُمْ } يَعْنِي
بِالتَّوْبَةِ { وَارْتَبْتُمْ } يَعْنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ {
وَغَرَّتْكُمْ الْأَمَانِيُّ } يَعْنِي بِالتَّسْوِيفِ { حَتَّى جَاءَ
أَمْرُ اللَّهِ } يَعْنِي الْمَوْتَ { وَغَرَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ
} يَعْنِي الشَّيْطَانَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { طَاعَةُ الشَّهْوَةِ دَاءٌ ،
وَعِصْيَانُهَا دَوَاءٌ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : اقْدَعُوا هَذِهِ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا
فَإِنَّهَا طَلَّاعَةٌ تَنْزِعُ إلَى شَرِّ غَايَةٍ .
إنَّ هَذَا
الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ ، وَإِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيٌّ ،
وَتَرْكُ الْخَطِيئَةِ خَيْرٌ مِنْ مُعَالَجَةِ التَّوْبَةِ وَرُبَّ
نَظْرَةٍ زَرَعَتْ شَهْوَةً ، وَشَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْنًا
طَوِيلًا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَخَافُ
عَلَيْكُمْ اثْنَيْنِ : اتِّبَاعَ الْهَوَى وَطُولَ الْأَمَلِ .
فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ وَطُولَ الْأَمَلِ
يُنْسِي الْآخِرَةَ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : إنَّمَا سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى ؛ لِأَنَّهُ
يَهْوِي بِصَاحِبِهِ .
وَقَالَ
أَعْرَابِيٌّ : الْهَوَى هَوَانٌ وَلَكِنْ غَلِطَ بِاسْمِهِ ، فَأَخَذَهُ
الشَّاعِرُ وَقَالَ : إنَّ الْهَوَانَ هُوَ الْهَوَى قُلِبَ اسْمُهُ
فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيت هَوَانَا وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ
: مَنْ أَطَاعَ هَوَاهُ ، أَعْطَى عَدُوَّهُ مُنَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ صَدِيقٌ مَقْطُوعٌ ، وَالْهَوَى
عَدُوٌّ مَتْبُوعٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أَفْضَلُ
النَّاسِ مَنْ عَصَى هَوَاهُ ، وَأَفْضَلُ مِنْهُ مَنْ
رَفَضَ دُنْيَاهُ .
وَقَالَ
هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ
الْهَوَى قَادَك الْهَوَى إلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ قَالَ
ابْنُ الْمُعْتَزِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يَقُلْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا مَا
رَأَيْت الْمَرْءَ يَعْتَادُهُ الْهَوَى فَقَدْ ثَكِلَتْهُ عِنْدَ ذَاكَ
ثَوَاكِلُهْ وَقَدْ أَشْمَتَ الْأَعْدَاءَ جَهْلًا بِنَفْسِهِ وَقَدْ
وَجَدَتْ فِيهِ مَقَالًا عَوَاذِلُهْ وَمَا يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ
عَنْ الْهَوَى مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ الرَّأْيِ كَامِلُهْ فَلَمَّا
كَانَ الْهَوَى غَالِبًا وَإِلَى سَبِيلِ الْمَهَالِكِ مَوْرِدًا جَعَلَ
الْعَقْلَ عَلَيْهِ رَقِيبًا مُجَاهِدًا يُلَاحِظُ عَثْرَةَ غَفْلَتِهِ ،
وَيَدْفَعُ بَادِرَةَ سَطْوَتِهِ ، وَيَدْفَعُ خِدَاعَ حِيلَتِهِ ؛
لِأَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى قَوِيٌّ ، وَمَدْخَلٌ مَكْرِهِ خَفِيٌّ .
وَمِنْ
هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُؤْتَى الْعَاقِلُ حَتَّى تَنْفُذَ أَحْكَامُ
الْهَوَى عَلَيْهِ أَعْنِي بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : قُوَّةَ سُلْطَانِهِ
وَبِالْآخَرِ خَفَاءَ مَكْرِهِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ
أَنْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْهَوَى بِكَثْرَةِ دَوَاعِيهِ حَتَّى
يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ مُغَالَبَةُ الشَّهَوَاتِ فَيَكِلُّ الْعَقْلُ عَنْ
دَفْعِهَا ، وَيَضْعُفُ عَنْ مَنْعِهَا ، مَعَ وُضُوحِ قُبْحِهَا فِي
الْعَقْلِ الْمَقْهُورِ بِهَا ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَحْدَاثِ
أَكْثَرَ وَعَلَى الشَّبَابِ أَغْلَبَ ؛ لِقُوَّةِ شَهَوَاتِهِمْ ؛
وَكَثْرَةِ دَوَاعِي الْهَوَى الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ وَإِنَّهُمْ
رُبَّمَا جَعَلُوا الشَّبَابَ عُذْرًا لَهُمْ ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ بَشِيرٍ : كُلٌّ يَرَى أَنَّ الشَّبَابَ لَهُ فِي كُلِّ مَبْلَغِ
لَذَّةٍ عُذْرَا وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْهَوَى مَلِكٌ
غَشُومٌ ، وَمُتَسَلِّطٌ ظَلُومٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْهَوَى عَسُوفٌ ، وَالْعَدْلُ مَأْلُوفٌ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : يَا عَاقِلًا أَرْدَى الْهَوَى عَقْلَهُ مَالَك
قَدْ سُدَّتْ عَلَيْك الْأُمُورُ أَتَجْعَلُ الْعَقْلَ أَسِيرَ الْهَوَى
إنَّمَا الْعَقْلُ
عَلَيْهِ أَمِيرُ وَحَسْمُ ذَلِكَ أَنْ
يَسْتَعِينَ بِالْعَقْلِ عَلَى النَّفْسِ النُّفُورَةِ فَيُشْعِرُهَا مَا
فِي عَوَاقِبِ الْهَوَى مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ ، وَقُبْحِ الْأَثَرِ ،
وَكَثْرَةِ الْإِجْرَامِ ، وَتَرَاكُمِ الْآثَامِ .
فَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ
بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } .
أَخْبَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى الْجَنَّةِ احْتِمَالُ الْمَكَارِهِ ،
وَالطَّرِيقَ إلَى النَّارِ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ .
قَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكُمْ
وَتَحْكِيمَ الشَّهَوَاتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّ عَاجِلَهَا ذَمِيمٌ
، وَآجِلَهَا وَخِيمٌ ، فَإِنْ لَمْ تَرَهَا تَنْقَادُ بِالتَّحْذِيرِ
وَالْإِرْهَابِ ، فَسَوِّفْهَا بِالتَّأْمِيلِ وَالْإِرْغَابِ ، فَإِنَّ
الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى النَّفْسِ ذَلَّتْ
لَهُمَا وَانْقَادَتْ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : كُنْ
لِهَوَاك مُسَوِّفًا ، وَلِعَقْلِك مُسْعِفًا ، وَانْظُرْ إلَى مَا
تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ فَوَطِّنْ نَفْسَك عَلَى مُجَانَبَتِهِ فَإِنَّ
تَرْكَ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى دَاؤُهَا ، وَتَرْكَ مَا تَهْوَى
دَوَاؤُهَا ، فَاصْبِرْ عَلَى الدَّوَاءِ ، كَمَا تَخَافُ مِنْ الدَّاءِ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : صَبَرْتُ عَلَى الْأَيَّامِ حَتَّى تَوَلَّتْ وَأَلْزَمْتُ
نَفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتْ وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ
يَجْعَلُهَا الْفَتَى فَإِنْ طَمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ فَإِذَا
انْقَادَتْ النَّفْسُ لِلْعَقْلِ بِمَا قَدْ أُشْعِرَتْ مِنْ عَوَاقِبِ
الْهَوَى لَمْ يَلْبَثْ الْهَوَى أَنْ يَصِيرَ بِالْعَقْلِ مَدْحُورًا ،
وَبِالنَّفْسِ مَقْهُورًا ، ثُمَّ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَى فِي ثَوَابِ
الْخَالِقِ وَثَنَاءِ الْمَخْلُوقِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ :
أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَعَزُّ الْعِزِّ الِامْتِنَاعُ مِنْ
مِلْكِ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ النَّاسِ مَنْ أَخْرَجَ الشَّهْوَةَ
مِنْ قَلْبِهِ ، وَعَصَى
هَوَاهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَمَاتَ شَهْوَتَهُ ، فَقَدْ أَحْيَا
مُرُوءَتَهُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : رَكَّبَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عَقْلٍ بِلَا
شَهْوَةٍ ، وَرَكَّبَ الْبَهَائِمَ مِنْ شَهْوَةٍ بِلَا عَقْلٍ ،
وَرَكَّبَ ابْنَ آدَمَ مِنْ كِلَيْهِمَا ؛ فَمَنْ غَلَّبَ عَقْلَهُ عَلَى
شَهْوَتِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَمَنْ غَلَبَتْ
شَهْوَتُهُ عَلَى عَقْلِهِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ .
وَقِيلَ
لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ ، وَأَحْرَاهُمْ
بِالظَّفَرِ فِي مُجَاهَدَتِهِ ؟ قَالَ : مَنْ جَاهَدَ الْهَوَى طَاعَةً
لِرَبِّهِ ، وَاحْتَرَسَ فِي مُجَاهَدَتِهِ مِنْ وُرُودِ خَوَاطِرِ
الْهَوَى عَلَى قَلْبِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : قَدْ
يُدْرِكُ الْحَازِمُ ذُو الرَّأْيِ الْمُنَى بِطَاعَةِ الْحَزْمِ
وَعِصْيَانِ الْهَوَى وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ
يُخْفِيَ الْهَوَى بِكُرْهٍ حَتَّى تَتَمَوَّهَ أَفْعَالُهُ عَلَى
الْعَقْلِ فَيَتَصَوَّرُ الْقَبِيحَ حَسَنًا وَالضَّرَرَ نَفْعًا .
وَهَذَا
يَدْعُو إلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ
مَيْلٌ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَخْفَى عَنْهَا الْقَبِيحُ لِحُسْنِ
ظَنِّهَا وَتَتَصَوَّرُهُ حَسَنًا لِشِدَّةِ مَيْلِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ {
حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
أَيْ يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُصِمُّ عَنْ الْمَوْعِظَةِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْهَوَى عَمًى .
قَالَ
الشَّاعِرُ : حَسَنٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ مَنْ تَوَدُّ وَقَالَ عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَسْت بِرَاءٍ عَيْبَ ذِي الْوُدِّ
كُلِّهِ وَلَا بَعْضَ مَا فِيهِ إذَا كُنْت رَاضِيَا فَعَيْنُ الرِّضَى
عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي
الْمَسَاوِيَا وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي : فَهُوَ اشْتِغَالُ
الْفِكْرِ فِي تَمْيِيزِ مَا اشْتَبَهَ فَيَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي
اتِّبَاعِ مَا اسْتَسْهَلَ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ أَوْفَقُ
أَمْرَيْهِ ، وَأَحْمَدُ حَالَيْهِ ، اغْتِرَارًا بِأَنَّ الْأَسْهَلَ
مَحْمُودٌ
وَالْأَعْسَرَ مَذْمُومٌ فَلَنْ يَعْدَمَ أَنْ يَتَوَرَّطَ بِخِدَعِ
الْهَوَى وَرِيبَةِ الْمَكْرِ فِي كُلِّ مَخُوفٍ حَذِرٍ ، وَمَكْرُوهٍ
عَسِرٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ : الْهَوَى يَقْظَانُ
وَالْعَقْلُ رَاقِدٌ فَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ : الْهَوَى أَمْنَعُ ، وَالرَّأْيُ
أَنْفَعُ .
وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ : الْعَقْلُ وَزِيرٌ نَاصِحٌ ، وَالْهَوَى وَكِيلٌ
فَاضِحٌ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ وَلَمْ
يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ إلَيْهِ الْإِثْمَ
وَالْعَارَ بِاَلَّذِي دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ وَحَسْمُ
السَّبَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ فِكْرَ قَلْبِهِ حَكَمًا عَلَى نَظَرِ
عَيْنِهِ .
فَإِنَّ الْعَيْنَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ ، وَالشَّهْوَةَ
مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى ، وَالْقَلْبَ رَائِدُ الْحَقِّ وَالْحَقَّ مِنْ
دَوَاعِي الْعَقْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نَظَرُ الْجَاهِلِ بِعَيْنِهِ وَنَاظِرِهِ
، وَنَظَرُ الْعَاقِلِ بِقَلْبِهِ وَخَاطِرِهِ .
ثُمَّ
يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي صَوَابِ مَا أَحَبَّتْ وَتَحْسِينِ مَا اشْتَهَتْ
؛ لِيَصِحَّ لَهُ الصَّوَابُ وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ ، فَإِنَّ
الْحَقَّ أَثْقَلُ مَحْمَلًا ، وَأَصْعُبُ مَرْكَبًا فَإِنْ أَشْكَلَ
عَلَيْهِ أَمْرَانِ اجْتَنِبْ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ ، وَتَرَكَ
أَسْهَلَهُمَا عَلَيْهِ .
فَإِنَّ النَّفْسَ عَنْ الْحَقِّ أَنْفَرُ ، وَلِلْهَوَى آثَرُ .
وَقَدْ
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك
أَمْرَانِ فَدَعْ أَحَبَّهُمَا إلَيْك ، وَخُذْ أَثْقَلَهُمَا عَلَيْك .
وَعِلَّةُ
هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الثَّقِيلَ يُبْطِئُ النَّفْسَ عَنْ
التَّسَرُّعِ إلَيْهِ فَيَتَّضِحُ مَعَ الْإِبْطَاءِ وَتَطَاوُلِ
الزَّمَانِ صَوَابُ مَا اسْتَعْجَمَ ، وَظُهُورُ مَا اسْتَبْهَمَ .
وَقَدْ
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ
وَالْمَحْبُوبُ أَسْهَلُ شَيْءٍ تُسْرِعُ النَّفْسُ إلَيْهِ ، وَتُعَجِّلُ
بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، فَيَقْصُرُ الزَّمَانُ عَنْ تَصَفُّحِهِ
وَيَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ لِتَقْصِيرِ فِعْلِهِ فَلَا يَنْفَعُ
التَّصَفُّحُ بَعْدَ الْعَمَلِ وَلَا الِاسْتِبَانَةُ
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بَعْدَ الْفَوْتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا كَانَ عَنْك مُعْرِضًا ، فَلَا تَكُنْ
بِهِ مُتَعَرِّضًا .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : أَلَيْسَ طِلَابُ مَا قَدْ فَاتَ جَهْلًا وَذِكْرُ الْمَرْءِ
مَا لَا يَسْتَطِيعُ وَلَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ حَالَ الْهَوَى
وَمَا يُقَارِنُهُ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا فَقَالَ : الْهَوَى مَطِيَّةُ
الْفِتْنَةِ ، وَالدُّنْيَا دَارُ الْمِحْنَةِ ، فَانْزِلْ عَنْ الْهَوَى
تَسْلَمْ ، وَاعْرِضْ عَنْ الدُّنْيَا تَغْنَمْ ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ
هَوَاك بِطَيِّبِ الْمَلَاهِي وَلَا تَفْتِنُك دُنْيَاك بِحُسْنِ
الْعَوَارِيّ .
فَمُدَّةُ اللَّهْوِ تَنْقَطِعُ وَعَارِيَّةُ الدَّهْرِ
تُرْتَجَعُ ، وَيَبْقَى عَلَيْك مَا تَرْتَكِبُهُ مِنْ الْمَحَارِمِ ،
وَتَكْتَسِبُهُ مِنْ الْمَآثِمِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْجَعْفَرِيُّ : سَمِعَتْنِي امْرَأَةٌ بِالطَّوَافِ ، وَأَنَا أُنْشِدُ
: أَهْوَى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُنِي فَكَيْفَ لِي بِهَوَى
اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ فَقَالَتْ : هُمَا ضَرَّتَانِ فَذَرْ أَيَّهُمَا
شِئْت وَخُذْ الْأُخْرَى .
فَأَمَّا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى
وَالشَّهْوَةِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ ،
وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ وَالْمَدْلُولِ ، فَهُوَ أَنَّ
الْهَوَى مُخْتَصٌّ بِالْآرَاءِ وَالِاعْتِقَادَاتِ ، وَالشَّهْوَةَ
مُخْتَصَّةٌ بِنَيْلِ اللَّذَّةِ .
فَصَارَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ نَتَائِجِ الْهَوَى وَهِيَ أَخَصُّ ،
وَالْهَوَى أَصْلٌ هُوَ أَعَمُّ .
وَنَحْنُ
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا دَوَاعِيَ الْهَوَى ،
وَيَصْرِفَ عَنَّا سُبُلَ الرَّدَى ، وَيَجْعَلَ التَّوْفِيقَ لَنَا
قَائِدًا ، وَالْعَقْلَ لَنَا مُرْشِدًا .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَوْحَى إلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : عِظْ نَفْسَك فَإِنْ
اتَّعَظَتْ فَعِظْ النَّاسَ وَإِلَّا فَاسْتَحْيِ مِنِّي .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ : مَا مَنْ رَوَى أَدَبًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ
وَيَكُفَّ عَنْ زَيْغِ الْهَوَى بِأَدِيبِ حَتَّى يَكُونَ بِمَا تَعَلَّمَ
عَامِلًا مِنْ صَالِحٍ فَيَكُونَ غَيْرَ مَعِيبِ وَلَقَلَّمَا تُغْنِي
إصَابَةُ قَائِلٍ أَفْعَالُهُ أَفْعَالُ غَيْرِ مُصِيبِ وَقَالَ آخَرُ :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ
الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ هَلَّا
لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ
وَذِي الضَّنَى كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ ابْدَأْ بِنَفْسِك
فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْك
وَيُقْبَلُ التَّعْلِيمُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ حَكَى أَبُو فَرْوَةَ أَنَّ طَارِقًا
صَاحِبَ شُرْطَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ مَرَّ بِابْنِ شُبْرُمَةَ
وَطَارِقٍ فِي مَوْكِبِهِ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : أَرَاهَا وَإِنْ
كَانَتْ تَخُبُّ كَأَنَّهَا سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيبٍ تَقَشَّعُ
اللَّهُمَّ لِي دِينِي وَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ .
فَاسْتُعْمِلَ ابْنُ
شُبْرُمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو
بَكْرٍ : أَتَذْكُرُ قَوْلَك يَوْمَ كَذَا إذْ مَرَّ بِك طَارِقٌ فِي
مَوْكِبِهِ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إنَّهُمْ يَجِدُونَ مِثْلَ أَبِيك
وَلَا يَجِدُ أَبُوك مِثْلَهُمْ .
إنَّ أَبَاك أَكَلَ مِنْ حَلَاوَتِهِمْ ، فَحَطَّ فِي أَهْوَائِهِمْ .
أَمَا
تَرَى هَذَا الدَّيِّنَ الْفَاضِلَ كَيْفَ عُوجِلَ بِالتَّقْرِيعِ
وَقُوبِلَ بِالتَّوْبِيخِ مِنْ أَخَصِّ ذَوِيهِ ، وَلَعَلَّهُ مِنْ
أَبَرِّ بَنِيهِ .
فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ أَطْلَقُ مِنْهُ عَنَانًا ، وَأَقْلَقُ مِنْهُ
جَنَانًا .
إذَا رَمَقَتْنَا أَعْيُنُ الْمُتَتَبِّعِينَ ، وَتَنَاوَلَتْنَا أَلْسُنُ
الْمُتَعَتِّبِينَ .
هَلْ نَجِدُ غَيْرَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مَلَاذًا ، وَسِوَى
عِصْمَتِهِ مَعَاذًا ؟
الْبَابُ
الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْمِ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا رَغَّبَ
فِيهِ الرَّاغِبُ ، وَأَفْضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ فِيهِ الطَّالِبُ ،
وَأَنْفَعُ مَا كَسَبَهُ وَاقْتَنَاهُ الْكَاسِبُ ؛ لِأَنَّ شَرَفَهُ
يُثْمِرُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَفَضْلَهُ يُنْمِي عَلَى طَالِبِهِ .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } فَمَنَعَ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَالِمِ
وَالْجَاهِلِ لِمَا قَدْ خُصَّ بِهِ الْعَالِمُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ
تَعَالَى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ } فَنَفَى أَنْ
يَكُونَ غَيْرُ الْعَالِمِ يَعْقِلُ عَنْهُ أَمْرًا ، أَوْ يَفْهَمُ
مِنْهُ زَجْرًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أُوحِيَ إلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنِّي عَلِيمٌ أُحِبُّ كُلَّ عَلِيمٍ } .
وَرَوَى أَبُو
أُمَامَةَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَالِمٌ وَالْآخَرُ عَابِدٌ
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى
الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ رَجُلًا } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : النَّاسُ
أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ .
وَقَالَ
مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ : تَعَلَّمْ الْعِلْمَ فَإِنْ يَكُنْ لَك مَالٌ
كَانَ لَك جَمَالًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَك مَالٌ كَانَ لَك مَالًا .
وَقَالَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِبَنِيهِ : يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا
الْعِلْمَ فَإِنْ كُنْتُمْ سَادَةً فُقْتُمْ ، وَإِنْ كُنْتُمْ وَسَطًا
سُدْتُمْ ، وَإِنْ كُنْتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعِلْمُ شَرَفٌ لَا قَدْرَ لَهُ ،
وَالْأَدَبُ مَالٌ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ خَلَفٍ ، وَالْعَمَلُ
بِهِ أَكْمَلُ شَرَفٍ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : تَعَلَّمْ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ يُقَوِّمُك
وَيُسَدِّدُك صَغِيرًا ، وَيُقَدِّمُك وَيُسَوِّدُك كَبِيرًا ، وَيُصْلِحُ
زَيْفَك وَفَاسِدَك ، وَيُرْغِمُ عَدُوَّك وَحَاسِدَك ، وَيُقَوِّمُ
عِوَجَك وَمَيْلَك ، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَك ، وَأَمَلَك .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا
يُحْسِنُ .
فَأَخَذَهُ
الْخَلِيلُ فَنَظَّمَهُ شَعْرًا فَقَالَ : لَا يَكُونُ الْعَلِيُّ مِثْلَ
الدَّنِيِّ لَا وَلَا ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْغَبِيِّ قِيمَةُ الْمَرْءِ
قَدْرُ مَا يُحْسِنُ الْمَرْءُ قَضَاءٌ مِنْ الْإِمَامِ عَلِيِّ وَلَيْسَ
يَجْهَلُ فَضْلَ الْعِلْمِ إلَّا أَهْلُ الْجَهْلِ ؛ لِأَنَّ فَضْلَ
الْعِلْمِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْعِلْمِ .
وَهَذَا أَبْلَغُ فِي فَضْلِهِ ؛ لِأَنَّ فَضْلَهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا
بِهِ .
فَلَمَّا
عَدِمَ الْجُهَّالُ الْعِلْمَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُونَ إلَى فَضْلِ
الْعِلْمِ جَهِلُوا فَضْلَهُ ، وَاسْتَرْذَلُوا أَهْلَهُ ، وَتَوَهَّمُوا
أَنَّ مَا تَمِيلُ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُقْتَنَاةِ
، وَالطُّرَفِ الْمُشْتَهَاةِ ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ إقْبَالُهُمْ
عَلَيْهَا ، وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِهَا .
وَقَدْ
قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْعَالِمُ يَعْرِفُ
الْجَاهِلَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا ، وَالْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ
الْعَالِمَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا .
وَهَذَا صَحِيحٌ ،
وَلِأَجْلِهِ انْصَرَفُوا عَنْ الْعِلْمِ ، وَأَهْلِهِ انْصِرَافَ
الزَّاهِدِينَ ، وَانْحَرَفُوا عَنْهُ وَعَنْهُمْ انْحِرَافَ
الْمُعَانِدِينَ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ .
وَأَنْشَدَنِي
ابْنُ لَنْكَكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ : جَهِلْت فَعَادَيْت
الْعُلُومَ وَأَهْلَهَا كَذَاك يُعَادِي الْعِلْمَ مَنْ هُوَ جَاهِلُهْ
وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا وَيَكْرَهُ لَا أَدْرِي
أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهْ وَقِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ
أَمْ الْمَالُ ؟ فَقَالَ : بَلْ الْعِلْمُ .
قِيلَ : فَمَا بَالُنَا
نَرَى الْعُلَمَاءَ عَلَى أَبْوَابِ الْأَغْنِيَاءِ وَلَا نَكَادُ نَرَى
الْأَغْنِيَاءَ عَلَى أَبْوَابِ الْعُلَمَاءِ ؟ فَقَالَ : ذَلِكَ
لِمَعْرِفَةِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ وَجَهْلِ الْأَغْنِيَاءِ
لِفَضْلِ الْعِلْمِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : لِمَ لَا يَجْتَمِعُ الْعِلْمُ
وَالْمَالُ ؟ فَقَالَ : لِعِزِّ الْكَمَالِ .
فَأَنْشَدْت لِبَعْضِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ : وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ
الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ فَأَجْسَامُهُمْ
قَبْلَ
الْقُبُورِ قُبُورُ وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ
فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ وَوَقَفَ بَعْضُ
الْمُتَعَلِّمِينَ بِبَابِ عَالِمٍ ثُمَّ نَادَى : تَصَدَّقُوا عَلَيْنَا
بِمَا لَا يُتْعِبُ ضِرْسًا ، وَلَا يُسْقِمُ نَفْسًا .
فَأَخْرَجَ لَهُ طَعَامًا وَنَفَقَةً .
فَقَالَ : فَاقَتِي إلَى كَلَامِكُمْ ، أَشَدُّ مِنْ فَاقَتِي إلَى
طَعَامِكُمْ ، إنِّي طَالِبُ هُدًى لَا سَائِلُ نَدًى .
فَأَذِنَ
لَهُ الْعَالِمُ ، وَأَفَادَهُ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلَ عَنْهُ فَخَرَجَ
جَذِلًا فَرِحًا ، وَهُوَ يَقُولُ : عِلْمٌ أَوْضَحَ لَبْسًا ، خَيْرٌ
مِنْ مَالٍ أَغْنَى نَفْسًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ الْعُلُومِ شَرِيفَةٌ ، وَلِكُلِّ عِلْمٍ مِنْهَا
فَضِيلَةٌ ، وَالْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِهَا مُحَالٌ .
قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ
: كُلُّ النَّاسِ .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ
ظَنَّ أَنَّ لِلْعِلْمِ غَايَةً فَقَدْ بَخَسَهُ حَقَّهُ ، وَوَضَعَهُ فِي
غَيْرِ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا حَيْثُ يَقُولُ : {
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } .
وَقَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ : لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِنَبْلُغَ غَايَتَهُ
كُنَّا قَدْ بَدَأْنَا الْعِلْمَ بِالنَّقِيصَةِ ، وَلَكِنَّا نَطْلُبُهُ
لِنَنْقُصَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ فِي كُلِّ يَوْمٍ
مِنْ الْعِلْمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُتَعَمِّقُ فِي
الْعِلْمِ كَالسَّابِحِ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ يَرَى أَرْضًا ، وَلَا
يَعْرِف طُولًا وَلَا عَرْضًا .
وَقِيلَ لِحَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ :
أَمَا تَشْبَعُ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ : اسْتَفْرَغْنَا فِيهَا
الْمَجْهُودَ ، فَلَمْ نَبْلُغْ مِنْهَا الْمَحْدُودَ ، فَنَحْنُ كَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا قَطَعْنَا عِلْمًا بَدَا عِلْمُ وَأَنْشَدَ
الرَّشِيدُ عَنْ الْمَهْدِيِّ بَيْتَيْنِ وَقَالَ أَظُنُّهُمَا لَهُ : يَا
نَفْسُ خُوضِي بِحَارَ الْعِلْمِ أَوْ غُوصِي فَالنَّاسُ مَا بَيْنَ
مَعْمُومٍ وَمَخْصُوصِ لَا شَيْءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نُحِيطُ بِهِ
إلَّا إحَاطَةَ مَنْقُوصٍ بِمَنْقُوصِ
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْعُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ الِاهْتِمَامِ
إلَى مَعْرِفَةِ أَهَمِّهَا وَالْعِنَايَةِ بِأَوْلَاهَا ، وَأَفْضَلِهَا .
وَأَوْلَى الْعُلُومِ ، وَأَفْضَلُهَا عِلْمُ الدِّينِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ
بِمَعْرِفَتِهِ يَرْشُدُونَ ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلُّونَ .
إذْ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ عِبَادَةٍ جَهِلَ فَاعِلُهَا صِفَاتِ أَدَائِهَا
، وَلَمْ يَعْلَمْ شُرُوطَ إجْزَائِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ {
فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ } .
وَإِنَّمَا
كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَبْعَثُ عَلَى فَضْلِ الْعِبَادَةِ
وَالْعِبَادَةُ مَعَ خُلُوِّ فَاعِلِهَا مِنْ الْعِلْمِ بِهَا قَدْ لَا
تَكُونُ عِبَادَةً ، فَلَزِمَ عِلْمُ الدِّينِ كُلَّ مُكَلَّفٍ .
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ .
} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : عِلْمُ مَا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ
مِنْ الْعِبَادَاتِ .
وَالثَّانِي : جُمْلَةُ الْعِلْمِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِهِ مَنْ فِيهِ
كِفَايَةٌ .
وَإِذَا
كَانَ عِلْمُ الدِّينِ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ بَعْضِهِ
عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَفَرْضَ جَمِيعِهِ عَلَى الْكَافَّةِ كَانَ أَوْلَى
مِمَّا لَمْ يَجِبْ فَرْضُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَلَا عَلَى الْكَافَّةِ .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا
رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمَجْلِسَيْنِ ، أَحَدُهُمَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَالْآخَرُ يَتَفَقَّهُونَ .
فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كِلَا
الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ ، وَأَحَدُهُمَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
صَاحِبِهِ .
أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَذْكُرُونَهُ فَإِنْ
شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ .
وَأَمَّا الْمَجْلِسُ الْآخَرُ فَيَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَ
الْجَاهِلَ .
وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا وَجَلَسَ إلَى أَهْلِ
الْفِقْهِ } .
وَرَوَى
مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْخَيْرُ
عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا
يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خِيَارُ أُمَّتِي عُلَمَاؤُهَا
وَخِيَارُ عُلَمَائِهَا فُقَهَاؤُهَا } .
وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ
رِفَاعَةَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِيَحْمِل
هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ
الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ }
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { عَلَيَّ بِخُلَفَائِي .
قَالُوا : وَمَنْ خُلَفَاؤُك ؟ قَالَ : الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي
وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ } .
وَرَوَى
حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَلَا
فَتَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا وَتَفَقَّهُوا وَلَا تَمُوتُوا جُهَّالًا } .
وَرَوَى
سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ
أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى
الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ وَعِمَادُ
الدِّينِ الْفِقْهُ } .
وَرُبَّمَا مَالَ بَعْضُ الْمُتَهَاوِنِينَ
بِالدِّينِ إلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَرَأَى أَنَّهَا أَحَقُّ
بِالْفَضِيلَةِ ، وَأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ اسْتِثْقَالًا لِمَا
تَضَمَّنَهُ الدِّينُ مِنْ التَّكْلِيفِ ، وَاسْتِرْذَالًا لِمَا جَاءَ
بِهِ الشَّرْعُ مِنْ التَّعَبُّدِ وَالتَّوْقِيفِ .
وَالْكَلَامُ مَعَ مِثْلِ هَذَا فِي أَصْلٍ ، لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا
الْفَصْلُ .
وَلَنْ
تَرَى ذَلِكَ فِيمَنْ سَلِمَتْ فِطْنَتُهُ ، وَصَحَّتْ رَوِيَّتُهُ
لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ
هَمَلًا أَوْ سُدًى .
يَعْتَمِدُونَ
عَلَى آرَائِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ وَيَنْقَادُونَ لِأَهْوَائِهِمْ
الْمُتَشَعِّبَةِ لِمَا تُؤَوَّلُ إلَيْهِ أُمُورُهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ
وَالتَّنَازُعِ ، وَيُفْضِي إلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ مِنْ التَّبَايُنِ
وَالتَّقَاطُعِ .
فَلَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْ دِينٍ يَتَأَلَّفُونَ بِهِ وَيَتَّفِقُونَ
عَلَيْهِ .
ثُمَّ
الْعَقْلُ مُوجِبٌ لَهُ أَوْ مَانِعٌ وَلَوْ تَصَوَّرَ هَذَا الْمُخْتَلُّ
التَّصَوُّرَ أَنَّ الدِّينَ ضَرُورَةٌ فِي الْعَقْلِ ، وَأَنَّ الْعَقْلَ
فِي الدِّينِ أَصْلٌ ، لَقَصَّرَ عَنْ التَّقْصِيرِ ، وَأَذْعَنَ
لِلْحَقِّ وَلَكِنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ فَضَلَّ وَأَضَلَّ .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى