رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وَأَمَّا
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ : فَهِيَ أَمَلٌ فَسِيحٌ يَبْعَثُ عَلَى
اقْتِنَاءِ مَا يَقْصُرُ الْعُمُرُ عَنْ اسْتِيعَابِهِ وَيَبْعَثُ عَلَى
اقْتِنَاءِ مَا لَيْسَ يُؤَمَّلُ فِي دَرَكِهِ بِحَيَاةِ أَرْبَابِهِ .
وَلَوْلَا
أَنَّ الثَّانِيَ يَرْتَفِقُ بِمَا أَنْشَأَهُ الْأَوَّلُ حَتَّى يَصِيرَ
بِهِ مُسْتَغْنِيًا ، لَافْتَقَرَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ إلَى إنْشَاءِ مَا
يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِ السُّكْنَى وَأَرَاضِي الْحَرْثِ ،
وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْإِعْوَازِ وَتَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ مَا لَا خَفَاءَ
بِهِ .
فَلِذَلِكَ مَا أَرْفَقَ اللَّهَ تَعَالَى خَلْقَهُ بِاتِّسَاعِ
الْآمَالِ إلَّا حَتَّى عَمَّرَ بِهِ الدُّنْيَا فَعَمَّ صَلَاحُهَا
وَصَارَتْ تَنْتَقِلُ بِعُمْرَانِهَا إلَى قَرْنٍ بَعْدَ قَرْنٍ ،
فَيُتِمُّ الثَّانِيَ مَا أَبْقَاهُ الْأَوَّلُ مِنْ عِمَارَتِهَا ،
وَيُرَمِّمُ الثَّالِثُ مَا أَحْدَثَهُ الثَّانِي مِنْ شَعَثِهَا
لِتَكُونَ أَحْوَالُهَا عَلَى الْأَعْصَارِ مُلْتَئِمَةً ، وَأُمُورُهَا
عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ مُنْتَظِمَةً .
وَلَوْ قَصُرْت الْآمَالُ مَا
تَجَاوَزَ الْوَاحِدُ حَاجَةَ يَوْمِهِ ، وَلَا تَعَدَّى ضَرُورَةَ
وَقْتِهِ ، وَلَكَانَتْ تَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَعْدَهُ خَرَابًا لَا
يَجِدُ فِيهَا بُلْغَةً ، وَلَا يُدْرِكُ مِنْهَا حَاجَةً .
ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَعْدُ بِأَسْوَأَ مِنْ ذَلِكَ حَالًا حَتَّى
لَا يُنْمَى بِهَا نَبْتٌ ، وَلَا يُمْكِنُ فِيهَا لُبْثٌ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: الْأَمَلُ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ لِأُمَّتِي ، وَلَوْلَاهُ لَمَا غَرَسَ
غَارِسٌ شَجَرًا وَلَا أَرْضَعَتْ أُمٌّ وَلَدًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ
: وَلِلنُّفُوسِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَجَلٍ مِنْ الْمَنِيَّةِ آمَالٌ
تُقَوِّيهَا فَالْمَرْءُ يَبْسُطُهَا وَالدَّهْرُ يَقْبِضُهَا وَالنَّفْسُ
تَنْشُرُهَا وَالْمَوْتُ يَطْوِيهَا وَأَمَّا حَالُ الْأَمَلِ فِي أَمْرِ
الْآخِرَةِ فَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي الْغَفْلَةِ عَنْهَا ،
وَقِلَّةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا .
وَقَدْ أَفْصَحَ لَبِيدٌ مَعَ
أَعْرَابِيَّةٍ بِمَا تَبَيَّنَ بِهِ حَالُ الْأَمَلِ فِي الْأَمْرَيْنِ ،
فَقَالَ : وَأَكْذِبُ النَّفْسَ إذَا حَدَّثْتُهَا إنَّ صِدْقَ النَّفْسِ
يُزْرِي
بِالْأَمَلْ غَيْرَ أَنْ لَا تَكْذِبَنَّهَا بِالتُّقَى وَاجْزِهَا
بِالْبِرِّ لِلَّهِ الْأَجَلْ وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الْآمَالِ
وَالْأَمَانِي .
أَنَّ الْآمَالَ مَا تَقَيَّدَتْ بِأَسْبَابٍ ، وَالْأَمَانِيَ مَا
تَجَرَّدَتْ عَنْهَا .
فَهَذِهِ
الْقَوَاعِدُ السِّتُّ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا أَحْوَالُ الدُّنْيَا ،
وَتَنْتَظِمُ أُمُورُ جُمْلَتِهَا ، فَإِنْ كَمُلَتْ فِيهَا كَمُلَ
صَلَاحُهَا .
وَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ الدُّنْيَا تَامًّا
كَامِلًا ، وَأَنْ يَكُونَ صَلَاحُهَا عَامًّا شَامِلًا ؛ لِأَنَّهَا
مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالْفَنَاءِ ، مُنْشَأَةٌ عَلَى
التَّصَرُّمِ وَالِانْقِضَاءِ .
وَسَمِعَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ رَجُلًا يَقُولُ : قَلَبَ اللَّهُ
الدُّنْيَا ، قَالَ : فَإِذَنْ تَسْتَوِي ؛ لِأَنَّهَا مَقْلُوبَةٌ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمِنْ عَادَةِ الْأَيَّامِ أَنَّ خُطُوبَهَا إذَا
سَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ سَاءَ جَانِبُ وَمَا أَعْرِفُ الْأَيَّامَ إلَّا
ذَمِيمَةً وَلَا الدَّهْرَ إلَّا وَهُوَ لِلثَّأْرِ طَالِبُ وَبِحَسَبِ
مَا اخْتَلَّ مِنْ قَوَاعِدِهَا يَكُونُ اخْتِلَالُهَا .
فَصْلٌ
: وَأَمَّا مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ الْإِنْسَانِ فِيهَا فَثَلَاثَةُ
أَشْيَاءَ ، هِيَ قَوَاعِدُ أَمْرِهِ وَنِظَامُ حَالِهِ ، وَهِيَ : نَفْسٌ
مُطِيعَةٌ إلَى رُشْدِهَا مُنْتَهِيَةٌ عَنْ غَيِّهَا ، وَأُلْفَةٌ
جَامِعَةٌ تَنْعَطِفُ الْقُلُوبُ عَلَيْهَا وَيَنْدَفِعُ الْمَكْرُوهُ
بِهَا ، وَمَادَّةٌ كَافِيَةٌ تَسْكُنُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ إلَيْهَا
وَيَسْتَقِيمُ أَوَدُهُ بِهَا .
فَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الْأُولَى
الَّتِي هِيَ نَفْسٌ مُطِيعَةٌ : فَلِأَنَّهَا إذَا أَطَاعَتْهُ مَلَكَهَا
، وَإِذَا عَصَتْهُ مَلَكَتْهُ وَلَمْ يَمْلِكْهَا .
وَمَنْ لَمْ
يَمْلِكْ نَفْسَهُ فَهُوَ بِأَنْ لَا يَمْلِكَ غَيْرَهَا أَحْرَى ، وَمَنْ
عَصَتْهُ نَفْسُهُ كَانَ بِمَعْصِيَةِ غَيْرِهَا أَوْلَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَطْلُبَ
طَاعَةَ غَيْرِهِ وَنَفْسُهُ مُمْتَنِعَةٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّاعِرُ : أَتَطْمَعُ أَنْ يُطِيعَك قَلْبُ سُعْدَى وَتَزْعُمُ
أَنَّ قَلْبَك قَدْ عَصَاك وَطَاعَةُ نَفْسِهِ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا نُصْحٌ ، وَالثَّانِي انْقِيَادٌ .
فَأَمَّا النُّصْحُ
فَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْأُمُورِ بِحَقَائِقِهَا فَيَرَى الرُّشْدَ
رُشْدًا وَيَسْتَحْسِنَهُ ، وَيَرَى الْغَيَّ غَيًّا وَيَسْتَقْبِحَهُ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ صِدْقِ النَّفْسِ إذَا سَلِمَتْ مِنْ دَوَاعِي
الْهَوَى .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ .
فَأَمَّا الِانْقِيَادُ فَهُوَ أَنْ تُسْرِعَ إلَى الرُّشْدِ إذَا
أَمَرَهَا ، وَتَنْتَهِيَ عَنْ الْغَيِّ إذَا زَجَرَهَا .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ قَبُولِ النَّفْسِ إذَا كُفِيَتْ مُنَازَعَةَ
الشَّهَوَاتِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } .
وَلِلنَّفْسِ آدَابٌ هِيَ تَمَامُ طَاعَتِهَا ، وَكَمَالُ مَصْلَحَتِهَا .
وَقَدْ
أَفْرَدْنَا لَهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بَابًا وَاقْتَصَرْنَا فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ عَلَى مَا قَدْ اقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ ، وَاسْتَدْعَاهُ
التَّقْرِيبُ .
وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ
الْأُلْفَةُ الْجَامِعَةُ : فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَقْصُودٌ
بِالْأَذِيَّةِ ، مَحْسُودٌ بِالنِّعْمَةِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
آلِفًا مَأْلُوفًا تَخَطَّفَتْهُ أَيْدِي حَاسِدِيهِ ، وَتَحَكَّمَتْ
فِيهِ أَهْوَاءُ أَعَادِيهِ ، فَلَمْ تَسْلَمْ لَهُ نِعْمَةٌ ، وَلَمْ
تَصْفُ لَهُ مُدَّةٌ .
فَإِذَا كَانَ آلِفًا مَأْلُوفًا انْتَصَرَ
بِالْأُلْفَةِ عَلَى أَعَادِيهِ ، وَامْتَنَعَ مِنْ حَاسِدِيهِ ،
فَسَلِمَتْ نِعْمَتُهُ مِنْهُمْ ، وَصَفَتْ مُدَّتُهُ عَنْهُمْ ، وَإِنْ
كَانَ صَفْوُ الزَّمَانِ عُسْرًا ، وَسِلْمُهُ خَطَرًا .
وَقَدْ رَوَى
ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ آلِفٌ مَأْلُوفٌ ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ
لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ
} .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا
وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا .
يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ جَمِيعًا وَلَا
تَتَفَرَّقُوا وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ ،
وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ
الْمَالِ } .
وَكُلُّ ذَلِكَ حَثٌّ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الْأُلْفَةِ .
وَالْعَرَبُ
تَقُولُ : مَنْ قَلَّ ذَلَّ وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ : إنَّ
الْقِدَاحَ إذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا بِالْكَسْرِ ذُو حَنَقٍ وَبَطْشٍ
أَيِّدِ عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ فَالْوَهْنُ
وَالتَّكْسِيرُ لِلْمُتَبَدِّدِ
وَإِذَا كَانَتْ الْأُلْفَةُ بِمَا أُثْبِتَ تَجْمَعُ
الشَّمْلَ وَتَمْنَعُ الذُّلَّ ، اقْتَضَتْ الْحَالُ ذِكْرَ أَسْبَابِهَا .
وَأَسْبَابُ الْأُلْفَةِ خَمْسَةٌ وَهِيَ : الدِّينُ وَالنَّسَبُ
وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمَوَدَّةُ وَالْبِرُّ .
فَأَمَّا
الدِّينُ : وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّهُ
يَبْعَثُ عَلَى التَّنَاصُرِ ، وَيَمْنَعُ مِنْ التَّقَاطُعِ
وَالتَّدَابُرِ .
وَبِمِثْلِ ذَلِكَ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ ، فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَقَاطَعُوا وَلَا
تَدَابَرُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا لَا
يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ } .
وَهَذَا
وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الدِّينِ يَقْتَضِيهِ فَهُوَ عَلَى
وَجْهِ التَّحْذِيرِ مِنْ تَذَكُّرِ تُرَاثِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِحَنِ
الضَّلَالَةِ .
فَقَدْ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْعَرَبُ أَشَدُّ تَقَاطُعًا وَتَعَادِيًا ، وَأَكْثَرُ
اخْتِلَافًا وَتَمَادِيًا ، حَتَّى إنَّ بَنِي الْأَبِ الْوَاحِدِ
يَتَفَرَّقُونَ أَحْزَابًا فَتُثِيرُ بَيْنَهُمْ بِالتَّحَزُّبِ
وَالِافْتِرَاقِ أَحْقَادُ الْأَعْدَاءِ ، وَإِحَنُ الْبُعَدَاءِ .
وَكَانَتْ
الْأَنْصَارُ أَشَدَّهُمْ تَقَاطُعًا وَتَعَادِيًا ، وَكَانَ بَيْنَ
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ أَكْثَرُ مِنْ
غَيْرِهِمْ إلَى أَنْ أَسْلَمُوا فَذَهَبَتْ إحَنُهُمْ وَانْقَطَعَتْ
عَدَاوَاتُهُمْ وَصَارُوا بِالْإِسْلَامِ إخْوَانًا مُتَوَاصِلِينَ ،
وَبِأُلْفَةِ الدِّينِ أَعْوَانًا مُتَنَاصِرِينَ .
قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إخْوَانًا } .
يَعْنِي أَعْدَاءً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
بِالْإِسْلَامِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا } .
يَعْنِي حُبًّا .
وَعَلَى حَسَبِ التَّآلُفِ عَلَى الدِّينِ تَكُونُ الْعَدَاوَةُ
فِيهِ إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ
قَدْ يَقْطَعُ فِي الدِّينِ مَنْ كَانَ بِهِ بَرًّا وَعَلَيْهِ مُشْفِقًا .
هَذَا
أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ
الْعَالِيَةُ فِي الْفَضْلِ وَالْأَثَرِ الْمَشْهُورِ فِي الْإِسْلَامِ ،
قَتَلَ أَبَاهُ يَوْم بَدْرٍ وَأَتَى بِرَأْسِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَلِرَسُولِهِ ، حِينَ بَقِيَ عَلَى ضَلَالِهِ وَانْهَمَكَ فِي
طُغْيَانِهِ .
فَلَمْ يُعْطِفْهُ عَلَيْهِ رَحْمَةٌ وَلَا كَفَّهُ
عَنْهُ شَفَقَةٌ ، وَهُوَ مِنْ أَبَرِّ الْأَبْنَاءِ ، تَغْلِيبًا
لِلدِّينِ عَلَى النَّسَبِ وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَاعَةِ
الْأَبِ .
وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } .
وَقَدْ يَخْتَلِفُ أَهْلُ
الدِّينِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى وَآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَحْدُثُ بَيْنَ
الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالتَّبَايُنِ مِثْلُ مَا
يَحْدُثُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَدْيَانِ .
وَعِلَّةُ ذَلِكَ
أَنَّ الدِّينَ وَالِاجْتِمَاعَ عَلَى الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فِيهِ لَمَّا
كَانَ أَقْوَى أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ ، كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ أَقْوَى
أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ .
وَإِذَا تَكَافَأَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ
الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْمُتَبَايِنَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ
الْفَرِيقَيْنِ أَعْلَى يَدًا ، وَأَكْثَرَ عَدَدًا ، كَانَتْ
الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ أَقْوَى وَالْإِحَنُ فِيهِمْ أَعْظَمَ ؛
لِأَنَّهُ يَنْضَمُّ إلَى عَدَاوَةِ الِاخْتِلَافِ تَحَاسُدُ الْأَكْفَاءِ
، وَتَنَافُسُ النُّظَرَاءِ .
وَأَمَّا النَّسَبُ : وَهُوَ
الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّ تَعَاطُفَ الْأَرْحَامِ
وَحَمِيَّةَ الْقَرَابَةِ يَبْعَثَانِ عَلَى التَّنَاصُرِ وَالْأُلْفَةِ ،
وَيَمْنَعَانِ مِنْ التَّخَاذُلِ وَالْفُرْقَةِ ، أَنَفَةً مِنْ
اسْتِعْلَاءِ الْأَبَاعِدِ عَلَى الْأَقَارِبِ ، وَتَوَقِّيًا مِنْ
تَسَلُّطِ الْغُرَبَاءِ الْأَجَانِبِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { إنَّ الرَّحِمَ إذَا تَمَاسَّتْ تَعَاطَفَتْ } .
وَلِذَلِكَ
حَفِظَتْ الْعَرَبُ أَنْسَابَهَا لَمَّا امْتَنَعَتْ عَنْ سُلْطَانٍ
يَقْهَرُهَا وَيَكُفُّ الْأَذَى عَنْهَا لِتَكُونَ بِهِ مُتَظَافِرَةً
عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا ، مُتَنَاصِرَةً عَلَى مَنْ شَاقَّهَا وَعَادَاهَا
، حَتَّى بَلَغَتْ بِأُلْفَةِ الْأَنْسَابِ تَنَاصُرَهَا عَلَى الْقَوِيِّ
الْأَيِّدِ وَتَحَكَّمَتْ بِهِ تَحَكُّمَ الْمُتَسَلِّطِ الْمُتَشَطِّطِ .
وَقَدْ
أَعْذَرَ نَبِيُّ اللَّهِ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ حِينَ
عَدِمَ عَشِيرَةً تَنْصُرُهُ ، فَقَالَ لِمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ : { لَوْ
أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } .
يَعْنِي عَشِيرَةً مَانِعَةً .
وَرَوَى
أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا ، لَقَدْ
كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } .
يَعْنِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا بَعَثَ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا إلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ
قَوْمِهِ } .
وَقَالَ وَهْبٌ : لَقَدْ وَرَدَتْ الرُّسُلُ عَلَى لُوطٍ وَقَالُوا : إنَّ
رُكْنَك لَشَدِيدٌ .
وَرُوِيَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، { أَنَّهُ
كَانَ لَا يَتْرُكُ الْمَرْءَ مُفْرَجًا حَتَّى يَضُمَّهُ إلَى قَبِيلَةٍ
يَكُونُ فِيهَا } .
قَالَ الرِّيَاشِيُّ : الْمُفْرَجُ الَّذِي لَا يَنْتَمِي إلَى قَبِيلَةٍ
يَكُونُ مِنْهَا .
وَكُلُّ ذَلِكَ حَثٌّ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الْأُلْفَةِ وَكَفٌّ عَنْ الْفُرْقَةِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَثَّرَ
سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } .
وَإِذَا كَانَ النَّسَبُ
بِهَذِهِ
الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْأُلْفَةِ فَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ عَوَارِضُ تَمْنَعُ
مِنْهَا ، وَتَبْعَثُ عَلَى الْفُرْقَةِ الْمُنَافِيَةِ لَهَا .
فَإِذَنْ قَدْ لَزِمَ أَنْ نَصِفَ حَالَ الْأَنْسَابِ ، وَمَا يَعْرِضُ
لَهَا مِنْ الْأَسْبَابِ .
فَجُمْلَةُ
الْأَنْسَابِ أَنَّهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ
وَالِدُونَ ، وَقِسْمٌ مَوْلُودُونَ ، وَقِسْمٌ مُنَاسِبُونَ .
وَلِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَةٌ مِنْ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ ،
وَعَارِضٌ يَطْرَأُ فَيَبْعَثُ عَلَى الْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ .
فَأَمَّا الْوَالِدُونَ فَهُمْ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْأَجْدَادُ
وَالْجَدَّاتُ .
وَهُمْ
مَوْسُومُونَ مَعَ سَلَامَةِ أَحْوَالِهِمْ بِخُلُقَيْنِ : أَحَدُهُمَا
لَازِمٌ بِالطَّبْعِ ، وَالثَّانِي حَادِثٌ بِاكْتِسَابٍ .
فَأَمَّا مَا كَانَ لَازِمًا بِالطَّبْعِ فَهُوَ الْحَذَرُ وَالْإِشْفَاقُ
.
وَذَلِكَ
لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْوَالِدِ بِحَالٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْوَلَدُ
مَبْخَلَةٌ مَجْهَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ } .
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَذَرَ عَلَيْهِ يُكْسِبُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ ،
وَيُحْدِثُ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ .
وَقَدْ
كَرِهَ قَوْمٌ طَلَبَ الْوَلَدِ كَرَاهَةً لِهَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي
لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، لِلُزُومِهَا طَبْعًا ،
وَحُدُوثِهَا حَتْمًا .
وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ : مَا بَالُك تَكْرَهُ الْوَلَدَ ؟ فَقَالَ : مَا لِي
وَلِلْوَلَدِ ، إنْ عَاشَ كَدَّنِي ، وَإِنْ مَاتَ هَدَّنِي .
وَقِيلَ
لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ : أَلَا تَتَزَوَّجُ ؟
فَقَالَ : إنَّمَا يُحَبُّ التَّكَاثُرُ فِي دَارِ الْبَقَاءِ .
وَأَمَّا
مَا كَانَ حَادِثًا بِالِاكْتِسَابِ فَهِيَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تُنَمَّى
مَعَ الْأَوْقَاتِ ، وَتَتَغَيَّرُ مَعَ تَغَيُّرِ الْحَالَاتِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { الْوَلَدُ أَنْوَطُ } .
يَعْنِي أَنَّ حُبَّهُ يَلْتَصِقُ بِنِيَاطِ الْقَلْبِ .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
لِكُلِّ شَيْءٍ ثَمَرَةٌ ، وَثَمَرَةُ الْقَلْبِ الْوَلَدُ } .
فَإِنْ
انْصَرَفَ الْوَالِدُ عَنْ حُبِّ الْوَلَدِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِبَعْضٍ
مِنْهُ ، وَلَكِنْ لِسَلْوَةٍ حَدَثَتْ مِنْ عُقُوقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ ،
مَعَ بَقَاءِ الْحَذَرِ وَالْإِشْفَاقِ الَّذِي لَا يَزُولُ عَنْهُ ،
وَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهُ .
فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ الْآبَاءَ لِلْأَبْنَاءِ
فَحَذَّرَهُمْ فِتْنَتَهُمْ وَلَمْ يُوصِهِمْ بِهِمْ ، وَلَمْ يَرْضَ
الْأَبْنَاءَ لِلْآبَاءِ فَأَوْصَاهُمْ بِهِمْ .
وَإِنَّ شَرَّ
الْأَبْنَاءِ مَنْ دَعَاهُ التَّقْصِيرُ إلَى الْعُقُوقِ ، وَشَرَّ
الْآبَاءِ مَنْ دَعَاهُ الْبِرُّ إلَى الْإِفْرَاطِ .
وَالْأُمَّهَاتُ
أَكْثَرُ إشْفَاقًا وَأَوْفَرُ حُبًّا لِمَا بَاشَرْنَ مِنْ الْوِلَادَةِ
وَعَانَيْنَ مِنْ التَّرْبِيَةِ فَإِنَّهُنَّ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ
نُفُوسًا .
وَبِحَسَبِ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّعَطُّفُ
عَلَيْهِنَّ أَوْفَرَ جَزَاءٍ لِفِعْلِهِنَّ ، وَكِفَاءً لِحَقِّهِنَّ ،
وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ
وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : {
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدِيهِ حُسْنًا } .
وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ { رَجُلًا أَتَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : إنَّ لِي أُمًّا أَنَا مُطِيعُهَا أُقْعِدُهَا عَلَى ظَهْرِي ،
وَلَا أَصْرِفُ عَنْهَا وَجْهِي ، وَأَرُدُّ إلَيْهَا كَسْبِي ، فَهَلْ
جَزَيْتهَا ؟ قَالَ لَا وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ .
قَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُك وَهِيَ تُحِبُّ
حَيَاتَك ، وَأَنْتَ تَخْدُمُهَا وَتُحِبُّ مَوْتَهَا } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : حَقُّ الْوَالِدِ أَعْظَمُ ، وَبِرُّ
الْوَالِدِ أَلْزَمُ .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
أَنْهَاكُمْ عَنْ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ ، وَمَنْعٍ
وَهَاتِ } .
وَرَوَى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ قَالَ :
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : {
إنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ
فَالْأَقْرَبِ } .
وَأَمَّا الْمَوْلُودُونَ فَهُمْ الْأَوْلَادُ وَأَوْلَادُ
الْأَوْلَادِ .
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَلَدَ الْوَلَدِ الصَّفْوَةَ .
وَهُمْ مُخْتَصُّونَ مَعَ سَلَامَةِ أَحْوَالِهِمْ بِخُلُقَيْنِ :
أَحَدُهُمَا لَازِمٌ ، وَالْآخَرُ مُنْتَقِلٌ .
فَأَمَّا اللَّازِمُ فَهُوَ الْأَنَفَةُ لِلْآبَاءِ مِنْ تَهَضُّمٍ أَوْ
خُمُولٍ .
وَالْأَنَفَةُ فِي الْأَبْنَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِشْفَاقِ فِي
الْآبَاءِ .
وَقَدْ
لَحَظَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَعْرِهِ فَقَالَ
: فَأَصْبَحْت يَلْقَانِي الزَّمَانُ لِأَجْلِهِ بِإِعْظَامِ مَوْلُودٍ
وَإِشْفَاقِ وَالِدِ فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ فَهُوَ الْإِدْلَالُ ، وَهُوَ
أَوَّلُ حَالِ الْوَلَدِ ، وَالْإِدْلَالُ فِي الْأَبْنَاءِ فِي
مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ فِي الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ
بِالْآبَاءِ أَخَصُّ ، وَالْإِدْلَالَ بِالْأَبْنَاءِ أَمَسُّ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
بَالُنَا نَرِقُّ عَلَى أَوْلَادِنَا وَلَا يَرِقُّونَ عَلَيْنَا ؟ قَالَ
: لِأَنَّا وَلَدْنَاهُمْ وَلَمْ يَلِدُونَا } .
ثُمَّ الْإِدْلَالُ
فِي الْأَبْنَاءِ قَدْ يَنْتَقِلُ مَعَ الْكِبَرِ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ
: إمَّا الْبِرُّ وَالْإِعْظَامُ ، وَإِمَّا إلَى الْجَفَاءِ وَالْعُقُوقِ
.
فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ رَشِيدًا أَوْ كَانَ الْأَبُ بَرًّا عَطُوفًا
صَارَ الْإِدْلَالُ بِرًّا وَإِعْظَامًا .
وَقَدْ
رَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ :
{ إنَّ حَقَّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَخْشَعَ لَهُ عِنْدَ
الْغَضَبِ ، وَيُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ النَّصَبِ وَالسَّغَبِ .
فَإِنَّ الْمُكَافِئَ لَيْسَ بِالْوَاصِلِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ مَنْ إذَا
قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا } .
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ غَاوِيًا أَوْ كَانَ الْوَالِدُ جَافِيًا صَارَ
الْإِدْلَالُ قَطِيعَةً وَعُقُوقًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ } .
وَبُشِّرَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَوْلُودٍ فَقَالَ :
رَيْحَانَةٌ أَشُمُّهَا ثُمَّ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ وَلَدٌ بَارٌّ أَوْ
عَدُوٌّ ضَارٌّ .
وَقَدْ قِيلَ فِي
مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْعُقُوقُ ثَكْلُ مَنْ لَمْ
يُثْكَلْ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : ابْنُك رَيْحَانُك سَبْعًا ، وَخَادِمُك سَبْعًا
وَوَزِيرُك سَبْعًا ، ثُمَّ هُوَ صِدِّيقٌ أَوْ عَدُوٌّ .
وَأَمَّا الْمُنَاسِبُونَ فَهُمْ مِنْ عَدَا الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ
مِمَّنْ يَرْجِعُ بِتَعْصِيبٍ أَوْ رَحِمٍ .
وَاَلَّذِي
يَخْتَصُّونَ بِهِ الْحَمِيَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى النُّصْرَةِ ، وَهِيَ
أَدْنَى رُتْبَةِ الْأَنَفَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَنَفَةَ تَمْنَعُ مِنْ
التَّهَضُّمِ وَالْخُمُولِ مَعًا ، وَالْحَمِيَّةُ تَمْنَعُ مِنْ
التَّهَضُّمِ وَلَيْسَ لَهَا فِي كَرَاهَةِ الْخُمُولِ نَصِيبٌ إلَّا أَنْ
يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَبْعَثُ عَلَى الْأُلْفَةِ .
وَحَمِيَّةُ
الْمُنَاسِبِينَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى النُّصْرَةِ عَلَى الْبُعَدَاءِ
وَالْأَجَانِبِ ، وَهِيَ مُعَرَّضَةٌ لِحَسَدِ الْأَدَانِي وَالْأَقَارِبِ
، مَوْكُولَةٌ إلَى مُنَافَسَةِ الصَّاحِبِ بِالصَّاحِبِ ، فَإِنْ
حُرِسَتْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّلَاطُفِ تَأَكَّدَتْ أَسْبَابُهَا
وَاقْتَرَنَ بِحَمِيَّةِ النَّسَبِ مُصَافَاةُ الْمَوَدَّةِ ، وَذَلِكَ
أَوْكَدُ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك أَخُوك أَوْ
صَدِيقُك ؟ قَالَ : أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقًا .
وَقَالَ
مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ : الْعَيْشُ فِي ثَلَاثٍ : سَعَةُ
الْمَنْزِلِ ، وَكَثْرَةُ الْخَدَمِ ، وَمُوَافَقَةُ الْأَهْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْبَعِيدُ قَرِيبٌ بِمَوَدَّتِهِ ،
وَالْقَرِيبُ بَعِيدٌ بِعَدَاوَتِهِ .
وَإِنْ
أُهْمِلَتْ الْحَالُ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبِينَ ثِقَةً بِلُحْمَةِ
النَّسَبِ ، وَاعْتِمَادًا عَلَى حَمِيَّةٍ الْقَرَابَةِ ، غَلَبَ
عَلَيْهَا مَقْتُ الْحَسَدِ وَمُنَازَعَةُ التَّنَافُسِ ، فَصَارَتْ
الْمُنَاسَبَةُ عَدَاوَةً وَالْقَرَابَةُ بُعْدًا .
وَقَالَ
الْكِنْدِيُّ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ : الْأَبُ رَبٌّ ، وَالْوَلَدُ
كَمَدٌ وَالْأَخُ فَخٌّ ، وَالْعَمُّ غَمٌّ وَالْخَالُ وَبَالٌ ،
وَالْأَقَارِبُ عَقَارِبُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ
: لُحُومُهُمْ لَحْمِي وَهُمْ يَأْكُلُونَهُ وَمَا دَاهِيَاتُ الْمَرْءِ
إلَّا أَقَارِبُهُ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِلَةِ
الْأَرْحَامِ ، وَأَثْنَى
عَلَى وَاصِلِهَا فَقَالَ تَعَالَى
: { وَاَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } .
قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ : هِيَ الرَّحِمُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهَا ،
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي قَطْعِهَا ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ
فِي الْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ
اشْتَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي اسْمًا فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ ،
وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صِلَةُ الرَّحِمِ مَنْمَاةٌ
لَلْعَدَدِ ، مَثْرَاةٌ لِلْمَالِ ، مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ ، مَنْسَأَةٌ
فِي الْأَجَلِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ بِالْحُقُوقِ ،
وَلَا تَجْفُوهَا بِالْعُقُوقِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صِلُوا أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّهَا لَا تُبْلَى
عَلَيْهَا أُصُولُكُمْ ، وَلَا تُهْضَمُ عَلَيْهَا فُرُوعُكُمْ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ لَمْ يَصْلُحْ لِأَهْلِهِ لَمْ يَصْلُحْ لَك ،
وَمَنْ لَمْ يَذُبَّ عَنْهُمْ لَمْ يَذُبَّ عَنْك .
وَقَالَ بَعْضُ
الْفُصَحَاءِ : مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ ،
وَمَنْ أَجَارَ جَارَهُ أَعَانَهُ اللَّهُ وَجَارَهُ .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ : وَحَسْبُك مِنْ ذُلٍّ
وَسُوءِ صَنِيعَةٍ مُنَاوَاةُ ذِي الْقُرْبَى وَإِنْ قِيلَ قَاطِعُ
وَلَكِنْ أُوَاسِيهِ وَأَنْسَى ذُنُوبَهُ لِتُرْجِعَهُ يَوْمًا إلَيَّ
الرَّوَاجِعُ وَلَا يَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ عَبْدَانِ : وَاصِلٌ وَعَبْدٌ
لِأَرْحَامِ الْقَرَابَةِ قَاطِعُ
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ : فَهِيَ أَمَلٌ فَسِيحٌ يَبْعَثُ عَلَى
اقْتِنَاءِ مَا يَقْصُرُ الْعُمُرُ عَنْ اسْتِيعَابِهِ وَيَبْعَثُ عَلَى
اقْتِنَاءِ مَا لَيْسَ يُؤَمَّلُ فِي دَرَكِهِ بِحَيَاةِ أَرْبَابِهِ .
وَلَوْلَا
أَنَّ الثَّانِيَ يَرْتَفِقُ بِمَا أَنْشَأَهُ الْأَوَّلُ حَتَّى يَصِيرَ
بِهِ مُسْتَغْنِيًا ، لَافْتَقَرَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ إلَى إنْشَاءِ مَا
يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِ السُّكْنَى وَأَرَاضِي الْحَرْثِ ،
وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْإِعْوَازِ وَتَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ مَا لَا خَفَاءَ
بِهِ .
فَلِذَلِكَ مَا أَرْفَقَ اللَّهَ تَعَالَى خَلْقَهُ بِاتِّسَاعِ
الْآمَالِ إلَّا حَتَّى عَمَّرَ بِهِ الدُّنْيَا فَعَمَّ صَلَاحُهَا
وَصَارَتْ تَنْتَقِلُ بِعُمْرَانِهَا إلَى قَرْنٍ بَعْدَ قَرْنٍ ،
فَيُتِمُّ الثَّانِيَ مَا أَبْقَاهُ الْأَوَّلُ مِنْ عِمَارَتِهَا ،
وَيُرَمِّمُ الثَّالِثُ مَا أَحْدَثَهُ الثَّانِي مِنْ شَعَثِهَا
لِتَكُونَ أَحْوَالُهَا عَلَى الْأَعْصَارِ مُلْتَئِمَةً ، وَأُمُورُهَا
عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ مُنْتَظِمَةً .
وَلَوْ قَصُرْت الْآمَالُ مَا
تَجَاوَزَ الْوَاحِدُ حَاجَةَ يَوْمِهِ ، وَلَا تَعَدَّى ضَرُورَةَ
وَقْتِهِ ، وَلَكَانَتْ تَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَعْدَهُ خَرَابًا لَا
يَجِدُ فِيهَا بُلْغَةً ، وَلَا يُدْرِكُ مِنْهَا حَاجَةً .
ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَعْدُ بِأَسْوَأَ مِنْ ذَلِكَ حَالًا حَتَّى
لَا يُنْمَى بِهَا نَبْتٌ ، وَلَا يُمْكِنُ فِيهَا لُبْثٌ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: الْأَمَلُ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ لِأُمَّتِي ، وَلَوْلَاهُ لَمَا غَرَسَ
غَارِسٌ شَجَرًا وَلَا أَرْضَعَتْ أُمٌّ وَلَدًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ
: وَلِلنُّفُوسِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَجَلٍ مِنْ الْمَنِيَّةِ آمَالٌ
تُقَوِّيهَا فَالْمَرْءُ يَبْسُطُهَا وَالدَّهْرُ يَقْبِضُهَا وَالنَّفْسُ
تَنْشُرُهَا وَالْمَوْتُ يَطْوِيهَا وَأَمَّا حَالُ الْأَمَلِ فِي أَمْرِ
الْآخِرَةِ فَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي الْغَفْلَةِ عَنْهَا ،
وَقِلَّةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا .
وَقَدْ أَفْصَحَ لَبِيدٌ مَعَ
أَعْرَابِيَّةٍ بِمَا تَبَيَّنَ بِهِ حَالُ الْأَمَلِ فِي الْأَمْرَيْنِ ،
فَقَالَ : وَأَكْذِبُ النَّفْسَ إذَا حَدَّثْتُهَا إنَّ صِدْقَ النَّفْسِ
يُزْرِي
بِالْأَمَلْ غَيْرَ أَنْ لَا تَكْذِبَنَّهَا بِالتُّقَى وَاجْزِهَا
بِالْبِرِّ لِلَّهِ الْأَجَلْ وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الْآمَالِ
وَالْأَمَانِي .
أَنَّ الْآمَالَ مَا تَقَيَّدَتْ بِأَسْبَابٍ ، وَالْأَمَانِيَ مَا
تَجَرَّدَتْ عَنْهَا .
فَهَذِهِ
الْقَوَاعِدُ السِّتُّ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا أَحْوَالُ الدُّنْيَا ،
وَتَنْتَظِمُ أُمُورُ جُمْلَتِهَا ، فَإِنْ كَمُلَتْ فِيهَا كَمُلَ
صَلَاحُهَا .
وَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ الدُّنْيَا تَامًّا
كَامِلًا ، وَأَنْ يَكُونَ صَلَاحُهَا عَامًّا شَامِلًا ؛ لِأَنَّهَا
مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالْفَنَاءِ ، مُنْشَأَةٌ عَلَى
التَّصَرُّمِ وَالِانْقِضَاءِ .
وَسَمِعَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ رَجُلًا يَقُولُ : قَلَبَ اللَّهُ
الدُّنْيَا ، قَالَ : فَإِذَنْ تَسْتَوِي ؛ لِأَنَّهَا مَقْلُوبَةٌ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمِنْ عَادَةِ الْأَيَّامِ أَنَّ خُطُوبَهَا إذَا
سَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ سَاءَ جَانِبُ وَمَا أَعْرِفُ الْأَيَّامَ إلَّا
ذَمِيمَةً وَلَا الدَّهْرَ إلَّا وَهُوَ لِلثَّأْرِ طَالِبُ وَبِحَسَبِ
مَا اخْتَلَّ مِنْ قَوَاعِدِهَا يَكُونُ اخْتِلَالُهَا .
فَصْلٌ
: وَأَمَّا مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ الْإِنْسَانِ فِيهَا فَثَلَاثَةُ
أَشْيَاءَ ، هِيَ قَوَاعِدُ أَمْرِهِ وَنِظَامُ حَالِهِ ، وَهِيَ : نَفْسٌ
مُطِيعَةٌ إلَى رُشْدِهَا مُنْتَهِيَةٌ عَنْ غَيِّهَا ، وَأُلْفَةٌ
جَامِعَةٌ تَنْعَطِفُ الْقُلُوبُ عَلَيْهَا وَيَنْدَفِعُ الْمَكْرُوهُ
بِهَا ، وَمَادَّةٌ كَافِيَةٌ تَسْكُنُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ إلَيْهَا
وَيَسْتَقِيمُ أَوَدُهُ بِهَا .
فَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الْأُولَى
الَّتِي هِيَ نَفْسٌ مُطِيعَةٌ : فَلِأَنَّهَا إذَا أَطَاعَتْهُ مَلَكَهَا
، وَإِذَا عَصَتْهُ مَلَكَتْهُ وَلَمْ يَمْلِكْهَا .
وَمَنْ لَمْ
يَمْلِكْ نَفْسَهُ فَهُوَ بِأَنْ لَا يَمْلِكَ غَيْرَهَا أَحْرَى ، وَمَنْ
عَصَتْهُ نَفْسُهُ كَانَ بِمَعْصِيَةِ غَيْرِهَا أَوْلَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَطْلُبَ
طَاعَةَ غَيْرِهِ وَنَفْسُهُ مُمْتَنِعَةٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّاعِرُ : أَتَطْمَعُ أَنْ يُطِيعَك قَلْبُ سُعْدَى وَتَزْعُمُ
أَنَّ قَلْبَك قَدْ عَصَاك وَطَاعَةُ نَفْسِهِ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا نُصْحٌ ، وَالثَّانِي انْقِيَادٌ .
فَأَمَّا النُّصْحُ
فَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْأُمُورِ بِحَقَائِقِهَا فَيَرَى الرُّشْدَ
رُشْدًا وَيَسْتَحْسِنَهُ ، وَيَرَى الْغَيَّ غَيًّا وَيَسْتَقْبِحَهُ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ صِدْقِ النَّفْسِ إذَا سَلِمَتْ مِنْ دَوَاعِي
الْهَوَى .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ .
فَأَمَّا الِانْقِيَادُ فَهُوَ أَنْ تُسْرِعَ إلَى الرُّشْدِ إذَا
أَمَرَهَا ، وَتَنْتَهِيَ عَنْ الْغَيِّ إذَا زَجَرَهَا .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ قَبُولِ النَّفْسِ إذَا كُفِيَتْ مُنَازَعَةَ
الشَّهَوَاتِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } .
وَلِلنَّفْسِ آدَابٌ هِيَ تَمَامُ طَاعَتِهَا ، وَكَمَالُ مَصْلَحَتِهَا .
وَقَدْ
أَفْرَدْنَا لَهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بَابًا وَاقْتَصَرْنَا فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ عَلَى مَا قَدْ اقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ ، وَاسْتَدْعَاهُ
التَّقْرِيبُ .
وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ
الْأُلْفَةُ الْجَامِعَةُ : فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَقْصُودٌ
بِالْأَذِيَّةِ ، مَحْسُودٌ بِالنِّعْمَةِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
آلِفًا مَأْلُوفًا تَخَطَّفَتْهُ أَيْدِي حَاسِدِيهِ ، وَتَحَكَّمَتْ
فِيهِ أَهْوَاءُ أَعَادِيهِ ، فَلَمْ تَسْلَمْ لَهُ نِعْمَةٌ ، وَلَمْ
تَصْفُ لَهُ مُدَّةٌ .
فَإِذَا كَانَ آلِفًا مَأْلُوفًا انْتَصَرَ
بِالْأُلْفَةِ عَلَى أَعَادِيهِ ، وَامْتَنَعَ مِنْ حَاسِدِيهِ ،
فَسَلِمَتْ نِعْمَتُهُ مِنْهُمْ ، وَصَفَتْ مُدَّتُهُ عَنْهُمْ ، وَإِنْ
كَانَ صَفْوُ الزَّمَانِ عُسْرًا ، وَسِلْمُهُ خَطَرًا .
وَقَدْ رَوَى
ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ آلِفٌ مَأْلُوفٌ ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ
لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ
} .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا
وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا .
يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ جَمِيعًا وَلَا
تَتَفَرَّقُوا وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ ،
وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ
الْمَالِ } .
وَكُلُّ ذَلِكَ حَثٌّ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الْأُلْفَةِ .
وَالْعَرَبُ
تَقُولُ : مَنْ قَلَّ ذَلَّ وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ : إنَّ
الْقِدَاحَ إذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا بِالْكَسْرِ ذُو حَنَقٍ وَبَطْشٍ
أَيِّدِ عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ فَالْوَهْنُ
وَالتَّكْسِيرُ لِلْمُتَبَدِّدِ
وَإِذَا كَانَتْ الْأُلْفَةُ بِمَا أُثْبِتَ تَجْمَعُ
الشَّمْلَ وَتَمْنَعُ الذُّلَّ ، اقْتَضَتْ الْحَالُ ذِكْرَ أَسْبَابِهَا .
وَأَسْبَابُ الْأُلْفَةِ خَمْسَةٌ وَهِيَ : الدِّينُ وَالنَّسَبُ
وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمَوَدَّةُ وَالْبِرُّ .
فَأَمَّا
الدِّينُ : وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّهُ
يَبْعَثُ عَلَى التَّنَاصُرِ ، وَيَمْنَعُ مِنْ التَّقَاطُعِ
وَالتَّدَابُرِ .
وَبِمِثْلِ ذَلِكَ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ ، فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَقَاطَعُوا وَلَا
تَدَابَرُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا لَا
يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ } .
وَهَذَا
وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الدِّينِ يَقْتَضِيهِ فَهُوَ عَلَى
وَجْهِ التَّحْذِيرِ مِنْ تَذَكُّرِ تُرَاثِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِحَنِ
الضَّلَالَةِ .
فَقَدْ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْعَرَبُ أَشَدُّ تَقَاطُعًا وَتَعَادِيًا ، وَأَكْثَرُ
اخْتِلَافًا وَتَمَادِيًا ، حَتَّى إنَّ بَنِي الْأَبِ الْوَاحِدِ
يَتَفَرَّقُونَ أَحْزَابًا فَتُثِيرُ بَيْنَهُمْ بِالتَّحَزُّبِ
وَالِافْتِرَاقِ أَحْقَادُ الْأَعْدَاءِ ، وَإِحَنُ الْبُعَدَاءِ .
وَكَانَتْ
الْأَنْصَارُ أَشَدَّهُمْ تَقَاطُعًا وَتَعَادِيًا ، وَكَانَ بَيْنَ
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ أَكْثَرُ مِنْ
غَيْرِهِمْ إلَى أَنْ أَسْلَمُوا فَذَهَبَتْ إحَنُهُمْ وَانْقَطَعَتْ
عَدَاوَاتُهُمْ وَصَارُوا بِالْإِسْلَامِ إخْوَانًا مُتَوَاصِلِينَ ،
وَبِأُلْفَةِ الدِّينِ أَعْوَانًا مُتَنَاصِرِينَ .
قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إخْوَانًا } .
يَعْنِي أَعْدَاءً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
بِالْإِسْلَامِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا } .
يَعْنِي حُبًّا .
وَعَلَى حَسَبِ التَّآلُفِ عَلَى الدِّينِ تَكُونُ الْعَدَاوَةُ
فِيهِ إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ
قَدْ يَقْطَعُ فِي الدِّينِ مَنْ كَانَ بِهِ بَرًّا وَعَلَيْهِ مُشْفِقًا .
هَذَا
أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ
الْعَالِيَةُ فِي الْفَضْلِ وَالْأَثَرِ الْمَشْهُورِ فِي الْإِسْلَامِ ،
قَتَلَ أَبَاهُ يَوْم بَدْرٍ وَأَتَى بِرَأْسِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَلِرَسُولِهِ ، حِينَ بَقِيَ عَلَى ضَلَالِهِ وَانْهَمَكَ فِي
طُغْيَانِهِ .
فَلَمْ يُعْطِفْهُ عَلَيْهِ رَحْمَةٌ وَلَا كَفَّهُ
عَنْهُ شَفَقَةٌ ، وَهُوَ مِنْ أَبَرِّ الْأَبْنَاءِ ، تَغْلِيبًا
لِلدِّينِ عَلَى النَّسَبِ وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَاعَةِ
الْأَبِ .
وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } .
وَقَدْ يَخْتَلِفُ أَهْلُ
الدِّينِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى وَآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَحْدُثُ بَيْنَ
الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالتَّبَايُنِ مِثْلُ مَا
يَحْدُثُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَدْيَانِ .
وَعِلَّةُ ذَلِكَ
أَنَّ الدِّينَ وَالِاجْتِمَاعَ عَلَى الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فِيهِ لَمَّا
كَانَ أَقْوَى أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ ، كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ أَقْوَى
أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ .
وَإِذَا تَكَافَأَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ
الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْمُتَبَايِنَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ
الْفَرِيقَيْنِ أَعْلَى يَدًا ، وَأَكْثَرَ عَدَدًا ، كَانَتْ
الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ أَقْوَى وَالْإِحَنُ فِيهِمْ أَعْظَمَ ؛
لِأَنَّهُ يَنْضَمُّ إلَى عَدَاوَةِ الِاخْتِلَافِ تَحَاسُدُ الْأَكْفَاءِ
، وَتَنَافُسُ النُّظَرَاءِ .
وَأَمَّا النَّسَبُ : وَهُوَ
الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّ تَعَاطُفَ الْأَرْحَامِ
وَحَمِيَّةَ الْقَرَابَةِ يَبْعَثَانِ عَلَى التَّنَاصُرِ وَالْأُلْفَةِ ،
وَيَمْنَعَانِ مِنْ التَّخَاذُلِ وَالْفُرْقَةِ ، أَنَفَةً مِنْ
اسْتِعْلَاءِ الْأَبَاعِدِ عَلَى الْأَقَارِبِ ، وَتَوَقِّيًا مِنْ
تَسَلُّطِ الْغُرَبَاءِ الْأَجَانِبِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { إنَّ الرَّحِمَ إذَا تَمَاسَّتْ تَعَاطَفَتْ } .
وَلِذَلِكَ
حَفِظَتْ الْعَرَبُ أَنْسَابَهَا لَمَّا امْتَنَعَتْ عَنْ سُلْطَانٍ
يَقْهَرُهَا وَيَكُفُّ الْأَذَى عَنْهَا لِتَكُونَ بِهِ مُتَظَافِرَةً
عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا ، مُتَنَاصِرَةً عَلَى مَنْ شَاقَّهَا وَعَادَاهَا
، حَتَّى بَلَغَتْ بِأُلْفَةِ الْأَنْسَابِ تَنَاصُرَهَا عَلَى الْقَوِيِّ
الْأَيِّدِ وَتَحَكَّمَتْ بِهِ تَحَكُّمَ الْمُتَسَلِّطِ الْمُتَشَطِّطِ .
وَقَدْ
أَعْذَرَ نَبِيُّ اللَّهِ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ حِينَ
عَدِمَ عَشِيرَةً تَنْصُرُهُ ، فَقَالَ لِمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ : { لَوْ
أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } .
يَعْنِي عَشِيرَةً مَانِعَةً .
وَرَوَى
أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا ، لَقَدْ
كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } .
يَعْنِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا بَعَثَ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا إلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ
قَوْمِهِ } .
وَقَالَ وَهْبٌ : لَقَدْ وَرَدَتْ الرُّسُلُ عَلَى لُوطٍ وَقَالُوا : إنَّ
رُكْنَك لَشَدِيدٌ .
وَرُوِيَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، { أَنَّهُ
كَانَ لَا يَتْرُكُ الْمَرْءَ مُفْرَجًا حَتَّى يَضُمَّهُ إلَى قَبِيلَةٍ
يَكُونُ فِيهَا } .
قَالَ الرِّيَاشِيُّ : الْمُفْرَجُ الَّذِي لَا يَنْتَمِي إلَى قَبِيلَةٍ
يَكُونُ مِنْهَا .
وَكُلُّ ذَلِكَ حَثٌّ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الْأُلْفَةِ وَكَفٌّ عَنْ الْفُرْقَةِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَثَّرَ
سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } .
وَإِذَا كَانَ النَّسَبُ
بِهَذِهِ
الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْأُلْفَةِ فَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ عَوَارِضُ تَمْنَعُ
مِنْهَا ، وَتَبْعَثُ عَلَى الْفُرْقَةِ الْمُنَافِيَةِ لَهَا .
فَإِذَنْ قَدْ لَزِمَ أَنْ نَصِفَ حَالَ الْأَنْسَابِ ، وَمَا يَعْرِضُ
لَهَا مِنْ الْأَسْبَابِ .
فَجُمْلَةُ
الْأَنْسَابِ أَنَّهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ
وَالِدُونَ ، وَقِسْمٌ مَوْلُودُونَ ، وَقِسْمٌ مُنَاسِبُونَ .
وَلِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَةٌ مِنْ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ ،
وَعَارِضٌ يَطْرَأُ فَيَبْعَثُ عَلَى الْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ .
فَأَمَّا الْوَالِدُونَ فَهُمْ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْأَجْدَادُ
وَالْجَدَّاتُ .
وَهُمْ
مَوْسُومُونَ مَعَ سَلَامَةِ أَحْوَالِهِمْ بِخُلُقَيْنِ : أَحَدُهُمَا
لَازِمٌ بِالطَّبْعِ ، وَالثَّانِي حَادِثٌ بِاكْتِسَابٍ .
فَأَمَّا مَا كَانَ لَازِمًا بِالطَّبْعِ فَهُوَ الْحَذَرُ وَالْإِشْفَاقُ
.
وَذَلِكَ
لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْوَالِدِ بِحَالٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْوَلَدُ
مَبْخَلَةٌ مَجْهَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ } .
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَذَرَ عَلَيْهِ يُكْسِبُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ ،
وَيُحْدِثُ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ .
وَقَدْ
كَرِهَ قَوْمٌ طَلَبَ الْوَلَدِ كَرَاهَةً لِهَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي
لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، لِلُزُومِهَا طَبْعًا ،
وَحُدُوثِهَا حَتْمًا .
وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ : مَا بَالُك تَكْرَهُ الْوَلَدَ ؟ فَقَالَ : مَا لِي
وَلِلْوَلَدِ ، إنْ عَاشَ كَدَّنِي ، وَإِنْ مَاتَ هَدَّنِي .
وَقِيلَ
لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ : أَلَا تَتَزَوَّجُ ؟
فَقَالَ : إنَّمَا يُحَبُّ التَّكَاثُرُ فِي دَارِ الْبَقَاءِ .
وَأَمَّا
مَا كَانَ حَادِثًا بِالِاكْتِسَابِ فَهِيَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تُنَمَّى
مَعَ الْأَوْقَاتِ ، وَتَتَغَيَّرُ مَعَ تَغَيُّرِ الْحَالَاتِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { الْوَلَدُ أَنْوَطُ } .
يَعْنِي أَنَّ حُبَّهُ يَلْتَصِقُ بِنِيَاطِ الْقَلْبِ .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
لِكُلِّ شَيْءٍ ثَمَرَةٌ ، وَثَمَرَةُ الْقَلْبِ الْوَلَدُ } .
فَإِنْ
انْصَرَفَ الْوَالِدُ عَنْ حُبِّ الْوَلَدِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِبَعْضٍ
مِنْهُ ، وَلَكِنْ لِسَلْوَةٍ حَدَثَتْ مِنْ عُقُوقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ ،
مَعَ بَقَاءِ الْحَذَرِ وَالْإِشْفَاقِ الَّذِي لَا يَزُولُ عَنْهُ ،
وَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهُ .
فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ الْآبَاءَ لِلْأَبْنَاءِ
فَحَذَّرَهُمْ فِتْنَتَهُمْ وَلَمْ يُوصِهِمْ بِهِمْ ، وَلَمْ يَرْضَ
الْأَبْنَاءَ لِلْآبَاءِ فَأَوْصَاهُمْ بِهِمْ .
وَإِنَّ شَرَّ
الْأَبْنَاءِ مَنْ دَعَاهُ التَّقْصِيرُ إلَى الْعُقُوقِ ، وَشَرَّ
الْآبَاءِ مَنْ دَعَاهُ الْبِرُّ إلَى الْإِفْرَاطِ .
وَالْأُمَّهَاتُ
أَكْثَرُ إشْفَاقًا وَأَوْفَرُ حُبًّا لِمَا بَاشَرْنَ مِنْ الْوِلَادَةِ
وَعَانَيْنَ مِنْ التَّرْبِيَةِ فَإِنَّهُنَّ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ
نُفُوسًا .
وَبِحَسَبِ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّعَطُّفُ
عَلَيْهِنَّ أَوْفَرَ جَزَاءٍ لِفِعْلِهِنَّ ، وَكِفَاءً لِحَقِّهِنَّ ،
وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ
وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : {
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدِيهِ حُسْنًا } .
وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ { رَجُلًا أَتَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : إنَّ لِي أُمًّا أَنَا مُطِيعُهَا أُقْعِدُهَا عَلَى ظَهْرِي ،
وَلَا أَصْرِفُ عَنْهَا وَجْهِي ، وَأَرُدُّ إلَيْهَا كَسْبِي ، فَهَلْ
جَزَيْتهَا ؟ قَالَ لَا وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ .
قَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُك وَهِيَ تُحِبُّ
حَيَاتَك ، وَأَنْتَ تَخْدُمُهَا وَتُحِبُّ مَوْتَهَا } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : حَقُّ الْوَالِدِ أَعْظَمُ ، وَبِرُّ
الْوَالِدِ أَلْزَمُ .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
أَنْهَاكُمْ عَنْ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ ، وَمَنْعٍ
وَهَاتِ } .
وَرَوَى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ قَالَ :
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : {
إنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ
فَالْأَقْرَبِ } .
وَأَمَّا الْمَوْلُودُونَ فَهُمْ الْأَوْلَادُ وَأَوْلَادُ
الْأَوْلَادِ .
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَلَدَ الْوَلَدِ الصَّفْوَةَ .
وَهُمْ مُخْتَصُّونَ مَعَ سَلَامَةِ أَحْوَالِهِمْ بِخُلُقَيْنِ :
أَحَدُهُمَا لَازِمٌ ، وَالْآخَرُ مُنْتَقِلٌ .
فَأَمَّا اللَّازِمُ فَهُوَ الْأَنَفَةُ لِلْآبَاءِ مِنْ تَهَضُّمٍ أَوْ
خُمُولٍ .
وَالْأَنَفَةُ فِي الْأَبْنَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِشْفَاقِ فِي
الْآبَاءِ .
وَقَدْ
لَحَظَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَعْرِهِ فَقَالَ
: فَأَصْبَحْت يَلْقَانِي الزَّمَانُ لِأَجْلِهِ بِإِعْظَامِ مَوْلُودٍ
وَإِشْفَاقِ وَالِدِ فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ فَهُوَ الْإِدْلَالُ ، وَهُوَ
أَوَّلُ حَالِ الْوَلَدِ ، وَالْإِدْلَالُ فِي الْأَبْنَاءِ فِي
مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ فِي الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ
بِالْآبَاءِ أَخَصُّ ، وَالْإِدْلَالَ بِالْأَبْنَاءِ أَمَسُّ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
بَالُنَا نَرِقُّ عَلَى أَوْلَادِنَا وَلَا يَرِقُّونَ عَلَيْنَا ؟ قَالَ
: لِأَنَّا وَلَدْنَاهُمْ وَلَمْ يَلِدُونَا } .
ثُمَّ الْإِدْلَالُ
فِي الْأَبْنَاءِ قَدْ يَنْتَقِلُ مَعَ الْكِبَرِ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ
: إمَّا الْبِرُّ وَالْإِعْظَامُ ، وَإِمَّا إلَى الْجَفَاءِ وَالْعُقُوقِ
.
فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ رَشِيدًا أَوْ كَانَ الْأَبُ بَرًّا عَطُوفًا
صَارَ الْإِدْلَالُ بِرًّا وَإِعْظَامًا .
وَقَدْ
رَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ :
{ إنَّ حَقَّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَخْشَعَ لَهُ عِنْدَ
الْغَضَبِ ، وَيُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ النَّصَبِ وَالسَّغَبِ .
فَإِنَّ الْمُكَافِئَ لَيْسَ بِالْوَاصِلِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ مَنْ إذَا
قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا } .
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ غَاوِيًا أَوْ كَانَ الْوَالِدُ جَافِيًا صَارَ
الْإِدْلَالُ قَطِيعَةً وَعُقُوقًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ } .
وَبُشِّرَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَوْلُودٍ فَقَالَ :
رَيْحَانَةٌ أَشُمُّهَا ثُمَّ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ وَلَدٌ بَارٌّ أَوْ
عَدُوٌّ ضَارٌّ .
وَقَدْ قِيلَ فِي
مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْعُقُوقُ ثَكْلُ مَنْ لَمْ
يُثْكَلْ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : ابْنُك رَيْحَانُك سَبْعًا ، وَخَادِمُك سَبْعًا
وَوَزِيرُك سَبْعًا ، ثُمَّ هُوَ صِدِّيقٌ أَوْ عَدُوٌّ .
وَأَمَّا الْمُنَاسِبُونَ فَهُمْ مِنْ عَدَا الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ
مِمَّنْ يَرْجِعُ بِتَعْصِيبٍ أَوْ رَحِمٍ .
وَاَلَّذِي
يَخْتَصُّونَ بِهِ الْحَمِيَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى النُّصْرَةِ ، وَهِيَ
أَدْنَى رُتْبَةِ الْأَنَفَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَنَفَةَ تَمْنَعُ مِنْ
التَّهَضُّمِ وَالْخُمُولِ مَعًا ، وَالْحَمِيَّةُ تَمْنَعُ مِنْ
التَّهَضُّمِ وَلَيْسَ لَهَا فِي كَرَاهَةِ الْخُمُولِ نَصِيبٌ إلَّا أَنْ
يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَبْعَثُ عَلَى الْأُلْفَةِ .
وَحَمِيَّةُ
الْمُنَاسِبِينَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى النُّصْرَةِ عَلَى الْبُعَدَاءِ
وَالْأَجَانِبِ ، وَهِيَ مُعَرَّضَةٌ لِحَسَدِ الْأَدَانِي وَالْأَقَارِبِ
، مَوْكُولَةٌ إلَى مُنَافَسَةِ الصَّاحِبِ بِالصَّاحِبِ ، فَإِنْ
حُرِسَتْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّلَاطُفِ تَأَكَّدَتْ أَسْبَابُهَا
وَاقْتَرَنَ بِحَمِيَّةِ النَّسَبِ مُصَافَاةُ الْمَوَدَّةِ ، وَذَلِكَ
أَوْكَدُ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك أَخُوك أَوْ
صَدِيقُك ؟ قَالَ : أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقًا .
وَقَالَ
مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ : الْعَيْشُ فِي ثَلَاثٍ : سَعَةُ
الْمَنْزِلِ ، وَكَثْرَةُ الْخَدَمِ ، وَمُوَافَقَةُ الْأَهْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْبَعِيدُ قَرِيبٌ بِمَوَدَّتِهِ ،
وَالْقَرِيبُ بَعِيدٌ بِعَدَاوَتِهِ .
وَإِنْ
أُهْمِلَتْ الْحَالُ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبِينَ ثِقَةً بِلُحْمَةِ
النَّسَبِ ، وَاعْتِمَادًا عَلَى حَمِيَّةٍ الْقَرَابَةِ ، غَلَبَ
عَلَيْهَا مَقْتُ الْحَسَدِ وَمُنَازَعَةُ التَّنَافُسِ ، فَصَارَتْ
الْمُنَاسَبَةُ عَدَاوَةً وَالْقَرَابَةُ بُعْدًا .
وَقَالَ
الْكِنْدِيُّ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ : الْأَبُ رَبٌّ ، وَالْوَلَدُ
كَمَدٌ وَالْأَخُ فَخٌّ ، وَالْعَمُّ غَمٌّ وَالْخَالُ وَبَالٌ ،
وَالْأَقَارِبُ عَقَارِبُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ
: لُحُومُهُمْ لَحْمِي وَهُمْ يَأْكُلُونَهُ وَمَا دَاهِيَاتُ الْمَرْءِ
إلَّا أَقَارِبُهُ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِلَةِ
الْأَرْحَامِ ، وَأَثْنَى
عَلَى وَاصِلِهَا فَقَالَ تَعَالَى
: { وَاَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } .
قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ : هِيَ الرَّحِمُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهَا ،
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي قَطْعِهَا ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ
فِي الْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ
اشْتَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي اسْمًا فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ ،
وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صِلَةُ الرَّحِمِ مَنْمَاةٌ
لَلْعَدَدِ ، مَثْرَاةٌ لِلْمَالِ ، مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ ، مَنْسَأَةٌ
فِي الْأَجَلِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ بِالْحُقُوقِ ،
وَلَا تَجْفُوهَا بِالْعُقُوقِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صِلُوا أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّهَا لَا تُبْلَى
عَلَيْهَا أُصُولُكُمْ ، وَلَا تُهْضَمُ عَلَيْهَا فُرُوعُكُمْ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ لَمْ يَصْلُحْ لِأَهْلِهِ لَمْ يَصْلُحْ لَك ،
وَمَنْ لَمْ يَذُبَّ عَنْهُمْ لَمْ يَذُبَّ عَنْك .
وَقَالَ بَعْضُ
الْفُصَحَاءِ : مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ ،
وَمَنْ أَجَارَ جَارَهُ أَعَانَهُ اللَّهُ وَجَارَهُ .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ : وَحَسْبُك مِنْ ذُلٍّ
وَسُوءِ صَنِيعَةٍ مُنَاوَاةُ ذِي الْقُرْبَى وَإِنْ قِيلَ قَاطِعُ
وَلَكِنْ أُوَاسِيهِ وَأَنْسَى ذُنُوبَهُ لِتُرْجِعَهُ يَوْمًا إلَيَّ
الرَّوَاجِعُ وَلَا يَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ عَبْدَانِ : وَاصِلٌ وَعَبْدٌ
لِأَرْحَامِ الْقَرَابَةِ قَاطِعُ
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وَأَمَّا الْمُصَاهَرَةُ :
وَهِيَ الثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّهَا اسْتِحْدَاثُ
مُوَاصَلَةٍ ، وَتَمَازُجُ مُنَاسَبَةٍ ، صَدَرَا عَنْ رَغْبَةٍ
وَاخْتِيَارٍ ، انْعَقَدَا عَلَى خَيْرٍ وَإِيثَارٍ ، فَاجْتَمَعَ فِيهَا
أَسْبَابُ الْأُلْفَةِ وَمَوَادُّ الْمُظَاهَرَةِ .
قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً } يَعْنِي بِالْمَوَدَّةِ الْمَحَبَّةَ ، وَبِالرَّحْمَةِ
الْحُنُوَّ وَالشَّفَقَةَ ، وَهُمَا مِنْ أَوْكَدِ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ .
وَفِيهَا
تَأْوِيلٌ آخَرُ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ
الْمَوَدَّةَ النِّكَاحُ ، وَالرَّحْمَةَ الْوَلَدُ .
وَقَالَ تَعَالَى
: { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } .
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْحَفَدَةِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ : هُمْ أَخْتَانُ الرَّجُلِ عَلَى بَنَاتِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : هُمْ
وَلَدُ الرَّجُلِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ .
وَرُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُمْ بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَسُمُّوا
حَفَدَةً لِتَحَفُّدِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ وَسُرْعَتِهِمْ فِي الْعَمَلِ ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْقُنُوتِ ، وَإِلَيْك نَسْعَى ، وَنَحْفِدُ
أَيْ نُسْرِعُ إلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِك .
وَلَمْ تَزَلْ الْعَرَبُ
تَجْتَذِبُ الْبُعَدَاءَ ، وَتَتَأَلَّفُ الْأَعْدَاءَ بِالْمُصَاهَرَةِ
حَتَّى يَرْجِعَ الْمُنَافِرُ مُؤَانِسًا ، وَيَصِيرَ الْعَدُوُّ
مُوَالِيًا ، وَقَدْ يَصِيرُ لِلصِّهْرِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ أُلْفَةٌ
بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ وَمُوَالَاةٌ بَيْنَ الْعَشِيرَتَيْنِ .
حُكِيَ
عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ
أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيَّ آلَ الزُّبَيْرِ حَتَّى
تَزَوَّجْت مِنْهُمْ أَرْمَلَةً فَصَارُوا أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ إلَيَّ .
وَفِيهَا يَقُولُ : أُحِبُّ بَنِي الْعَوَّامِ طُرًّا
لِأَجْلِهَا وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْت أَخْوَالَهَا كَلْبَا فَإِنْ
تُسْلِمِي نُسْلِمْ وَإِنْ تَتَنَصَّرِي
يَحُطُّ رِجَالٌ
بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ صُلْبَا وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْمَرْءُ عَلَى دَيْنِ
زَوْجَتِهِ ، لِمَا يَسْتَنْزِلُهُ الْمَيْلُ إلَيْهَا مِنْ
الْمُتَابَعَةِ ، وَيَجْتَذِبُهُ الْحُبُّ لَهَا مِنْ الْمُوَافَقَةِ ،
فَلَا يَجِدُ إلَى الْمُخَالَفَةِ سَبِيلًا ، وَلَا إلَى الْمُبَايَنَةِ
وَالْمُشَاقَّةِ طَرِيقًا .
وَإِذَا كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ
لِلنِّكَاحِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْأُلْفَةِ فَقَدْ يَنْبَغِي
لِعَقْدِهَا أَحَدُ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ : الْمَالُ وَالْجَمَالُ
وَالدِّينُ وَالْأُلْفَةُ وَالتَّعَفُّفُ .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ
أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ :
لِمَالِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِدِينِهَا ، فَعَلَيْك
بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } .
فَإِنْ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ
لِأَجْلِ الْمَالِ وَكَانَ أَقْوَى الدَّوَاعِي إلَيْهِ ، فَالْمَالُ إذًا
هُوَ الْمَنْكُوحُ فَإِنْ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ
الْبَاعِثَةِ عَلَى الِائْتِلَافِ جَازَ أَنْ يَلْبَثَ الْعَقْدُ
وَتَدُومَ الْأُلْفَةُ فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ
وَعَرِيَ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ الْمَوَادِّ فَأَخْلِقْ بِالْعَقْدِ أَنْ
يَنْحَلَّ وَبِالْأُلْفَةِ أَنْ تَزُولَ ، لَا سِيَّمَا إذَا غَلَبَ
الطَّمَعُ وَقَلَّ الْوَفَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنْ وُصِلَ إلَيْهِ
فَقَدْ يَنْقَضِي سَبَبُ الْأُلْفَةِ بِهِ .
فَقَدْ قِيلَ : مَنْ وَدَكَّ لِشَيْءٍ تَوَلَّى مَعَ انْقِضَائِهِ .
وَإِنْ
أَعْوَزَ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَتَعَذَّرَتْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ أَعْقَبَ
ذَلِكَ اسْتِهَانَةَ الْآيِسِ بَعْدَ شِدَّةِ الْأَمَلِ فَحَدَثَتْ مِنْهُ
عَدَاوَةُ الْخَائِبِ بَعْدَ اسْتِحْكَامِ الطَّمَعِ ، فَصَارَتْ
الْوَصْلَةُ فُرْقَةً وَالْأُلْفَةُ عَدَاوَةً .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ وَدَكَّ طَمَعًا فِيك أَبْغَضَك إذَا أَيِسَ مِنْك .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : مَنْ عَظَّمَك لِإِكْثَارِك اسْتَقَلَّك
عِنْدَ إقْلَالِك .
فَإِنْ
كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الْجَمَالِ ، فَذَلِكَ أَدْوَمُ
لِلْأُلْفَةِ مِنْ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ ،
وَالْمَالَ صِفَةٌ زَائِلَةٌ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ :
حُسْنُ الصُّورَةِ أَوَّلُ السَّعَادَةِ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَحْسَنُهُنَّ وَجْهًا وَأَقَلُّهُنَّ
مَهْرًا } .
فَإِنْ سَلِمَتْ الْحَالُ مِنْ الْإِدْلَالِ الْمُفْضِي إلَى الْمَلَالِ
اسْتَدَامَتْ الْأُلْفَةُ وَاسْتَحْكَمَتْ الْوَصْلَةُ .
وَقَدْ
كَانُوا يَكْرَهُونَ الْجَمَالَ الْبَارِعَ إمَّا لِمَا يَحْدُثُ عَنْهُ
مِنْ شِدَّةِ الْإِدْلَالِ وَقَدْ قِيلَ : مَنْ بَسَطَهُ الْإِدْلَالُ
قَبَضَهُ الْإِذْلَالُ وَإِمَّا لِمَا يُخَافُ مِنْ مِحْنَةِ الرَّغْبَةِ
، وَبَلْوَى الْمُنَازَعَةِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا شَاوَرَ
حَكِيمًا فِي التَّزَوُّجِ فَقَالَ لَهُ : افْعَلْ وَإِيَّاكَ
وَالْجَمَالَ الْبَارِعَ ، فَإِنَّهُ مَرْعًى أَنِيقٌ .
فَقَالَ
الرَّجُلُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ : وَلَنْ
تُصَادِفَ مَرْعًى مُمْرَعًا أَبَدًا إلَّا وَجَدْت بِهِ آثَارَ
مُنْتَجِعِ وَإِمَّا لِمَا يَخَافُهُ اللَّبِيبُ مِنْ شِدَّةِ الصَّبْوَةِ
، وَيَتَوَقَّاهُ الْحَازِمُ مِنْ سُوءِ عَوَاقِبِ الْفِتْنَةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكَ وَمُخَالَطَةَ النِّسَاءِ
فَإِنَّ لَحْظَ الْمَرْأَةِ سَهْمٌ ، وَلَفْظَهَا سُمٌّ .
وَرَأَى بَعْضُ الْحُكَمَاءِ صَيَّادًا يُكَلِّمُ امْرَأَةً فَقَالَ : يَا
صَيَّادُ ، احْذَرْ أَنْ تُصَادَ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، لِابْنِهِ :
امْشِ وَرَاءَ الْأَسَدِ وَلَا تَمْشِ وَرَاءَ الْمَرْأَةِ .
وَسَمِعَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْرَأَةً تَقُولُ هَذَا
الْبَيْتَ : إنَّ النِّسَاءَ رَيَاحِينُ خُلِقْنَ لَكُمْ وَكُلُّكُمْ
يَشْتَهِي شَمَّ الرَّيَاحِينِ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ
النِّسَاءَ شَيَاطِينُ خُلِقْنَ لَنَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ
الشَّيَاطِينِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الدِّينِ فَهُوَ
أَوْثَقُ الْعُقُودِ حَالًا وَأَدْوَمُهَا أُلْفَةً وَأَحْمَدُهَا بَدْءًا
وَعَاقِبَةً ؛ لِأَنَّ طَالِبَ الدِّينِ مُتَّبِعٌ لَهُ وَمَنْ اتَّبَعَ
الدِّينَ انْقَادَ لَهُ ، فَاسْتَقَامَتْ لَهُ حَالُهُ ، وَأَمِنَ
زَلَلَهُ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
فَاظْفَرْ
بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } وَفِيهِ
تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَرِبَتْ يَدَاك إنْ لَمْ تَظْفَرْ بِذَاتِ
الدِّينِ .
وَالثَّانِي
: أَنَّهَا كَلِمَةٌ تُذْكَرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا يُرَادُ بِهَا سُوءٌ
، كَقَوْلِهِمْ : مَا أَشْجَعَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ .
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الْأُلْفَةِ فَهَذَا يَكُونُ عَلَى
أَحَدِ وَجْهَيْنِ .
إمَّا
أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْمُكَاثَرَةُ بِاجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ ،
وَالْمُظَافَرَةُ بِتَنَاصُرِ الْفِئَتَيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ
بِهِ تَأَلُّفُ أَعْدَاءٍ مُتَسَلِّطِينَ اسْتِكْفَاءً لِعَادِيَتِهِمْ ،
وَتَسْكِينًا لِصَوْلَتِهِمْ .
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ قَدْ يَكُونَانِ فِي الْأَمَاثِلِ وَأَهْلِ
الْمَنَازِلِ .
وَدَاعِي
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ الرَّغْبَةُ ، وَدَاعِي الْوَجْهِ الثَّانِي
هُوَ الرَّهْبَةُ ، وَهُمَا سَبَبَانِ فِي غَيْرِ الْمُتَنَاكِحَيْنِ ،
فَإِنْ اسْتَدَامَ السَّبَبُ دَامَتْ الْأُلْفَةُ ، وَإِنْ زَالَ
السَّبَبُ بِزَوَالِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ ، خِيفَ زَوَالُ
الْأُلْفَةِ .
إلَّا أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْبَاعِثَةِ
عَلَيْهَا ، وَالْمُقَرَّبَةِ لَهَا .
وَإِنْ
كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي التَّعَفُّفِ فَهُوَ الْوَجْهُ
الْحَقِيقِيُّ الْمُبْتَغَى بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ
فَأَسْبَابٌ مُعَلَّقَةٌ عَلَيْهِ وَمُضَافَةٌ إلَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ
لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا
رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
خُلِقَ الرَّجُلُ مِنْ التُّرَابِ فَهَمُّهُ فِي التُّرَابِ ، وَخُلِقَتْ
الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ فَهَمُّهَا فِي الرَّجُلِ } .
وَرَوَى
عَطِيَّةُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عَكَّافِ بْنِ رِفَاعَةَ الْهِلَالِيِّ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : { يَا
عَكَّافُ أَلَكَ زَوْجَةٌ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَأَنْتَ إذًا مِنْ
إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ ، إنْ كُنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى
فَالْحَقْ بِهِمْ ، وَإِنْ كُنْت مِنَّا فَمِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحُ } .
فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ حَثًّا عَلَى تَرْكِ الْفَسَادِ
وَبَاعِثًا عَلَى التَّكَاثُرِ بِالْأَوْلَادِ .
وَلِهَذَا
الْمَعْنَى كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
لِلْقَفَّالِ مِنْ غَزْوِهِمْ : { إذَا أَفْضَيْتُمْ إلَى نِسَائِكُمْ
فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ } .
يَعْنِي فِي طَلَبِ الْوَلَدِ .
فَلَزِمَ حِينَئِذٍ فِي عَقْدِ التَّعَفُّفِ تَحَكُّمُ الِاخْتِيَارِ
فِيهِ وَالْتِمَاسُ الْأَدْوَمِ مِنْ دَوَاعِيهِ .
وَهِيَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُمْكِنُ حَصْرُ شُرُوطِهِ ، وَنَوْعٌ لَا
يُمْكِنُ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ وَتَغَايُرِ شُرُوطِهِ .
فَأَمَّا
الشُّرُوطُ الْمَحْصُورَةُ فِيهِ فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا :
الدِّينُ الْمُفْضِي إلَى السِّتْرِ وَالْعَفَافِ ، وَالْمُؤَدِّي إلَى
الْقَنَاعَةِ وَالْكَفَافِ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : لَا يَعْذِلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا
رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا .
وَخَطَبَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتِيمَةً كَانَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ :
لَا أَرْضَاهَا لَك .
قَالَ : وَلِمَ وَفِي دَارِك نَشَأَتْ ؟ قَالَ : إنَّهَا تَتَشَرَّفُ .
قَالَ : لَا أُبَالِي .
فَقَالَ : الْآنَ لَا أَرْضَاك لَهَا .
وَفِي
مَعْنَى هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ : مَنْ رَضِيَ بِصُحْبَةِ مَنْ
لَا خَيْرَ فِيهِ لَمْ يَرْضَ بِصُحْبَتِهِ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي : الْعَقْلُ الْبَاعِثُ عَلَى حُسْنِ التَّقْدِيرِ
، الْآمِرُ بِصَوَابِ التَّدْبِيرِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { الْعَقْلُ حَيْثُ كَانَ أَلُوفٌ وَمَأْلُوفٌ } .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
عَلَيْكُمْ بِالْوَدُودِ الْوَلُودِ وَلَا تَنْكِحُوا الْحَمْقَاءَ
فَإِنَّ صُحْبَتَهَا بَلَاءٌ وَوَلَدَهَا ضِيَاعٌ } .
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْأَكْفَاءُ الَّذِينَ يَنْتَفِي بِهِمْ
الْعَارُ وَيَحْصُلُ بِهِمْ الِاسْتِكْثَارُ .
فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { تَخَيَّرُوا لَنُطَفِكُمْ وَلَا تَضَعُوهَا إلَّا فِي الْأَكْفَاءِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ قَالَ لِوَلَدِهِ : يَا بُنَيَّ
لَا يَحْمِلَنَّكُمْ جَمَالُ
النِّسَاءِ عَنْ صَرَاحَةِ النَّسَبِ ، فَإِنَّ
الْمَنَاكِحَ الْكَرِيمَةَ مَدْرَجَةٌ لِلشَّرَفِ .
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِبَنِيهِ : قَدْ أَحْسَنْت
إلَيْكُمْ صِغَارًا وَكِبَارًا وَقَبْلَ أَنْ تُولَدُوا .
قَالُوا
: وَكَيْفَ أَحْسَنْتَ إلَيْنَا قَبْلَ أَنْ نُولَدَ ؟ قَالَ : اخْتَرْتُ
لَكُمْ مِنْ الْأُمَّهَاتِ مَنْ لَا تُسَبُّونَ بِهَا .
وَأَنْشَدَ
الرِّيَاشِيُّ : فَأَوَّلُ إحْسَانِي إلَيْكُمْ تَخَيُّرِي لِمَاجِدَةِ
الْأَعْرَاقِ بَادٍ عَفَافُهَا وَقَدْ تَنْضَمُّ إلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ
مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَأَحْوَالِ النَّفْسِ مَا يَلْزَمُ التَّحَرُّزُ
مِنْهُ لِبُعْدِ الْخَيْرِ عَنْهُ ، وَقِلَّةِ الرُّشْدِ فِيهِ ، فَإِنَّ
كَوَامِنَ الْأَخْلَاقِ بَادِيَةٌ فِي الصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ ،
كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ { قَالَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ : أَتَزَوَّجَتْ يَا زَيْدُ ؟
قَالَ : لَا .
قَالَ : تَزَوَّجْ تَسْتَعْفِفْ مَعَ عِفَّتِك ، وَلَا تَتَزَوَّجْ مِنْ
النِّسَاءِ خَمْسًا .
قَالَ : وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : لَا تَتَزَوَّجْ شَهْبَرَةَ وَلَا لَهْبَرَةً وَلَا نَهْبَرَةً
وَلَا هَبْذَرَةَ وَلَا لَفُوتًا .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَعْرِفُ مِمَّا قُلْت شَيْئًا .
قَالَ
: أَمَّا الشَّهْبَرَةُ فَالزَّرْقَاءُ الْبَذِيَّةُ ، وَأَمَّا
اللَّهْبَرَةُ فَالطَّوِيلَةُ الْمَهْزُولَةُ ، وَأَمَّا النَّهْبَرَةُ
فَالْعَجُوزُ الْمُدْبِرَةُ ، وَأَمَّا الْهَبْذَرَةُ فَالْقَصِيرَةُ
الدَّمِيمَةُ ، وَأَمَّا اللَّفُوتُ فَذَاتُ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِك } .
وَقَالَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إيَّاكَ
وَالرَّقُوبَ الْغَضُوبَ الْقَطُوبَ .
الرَّقُوبُ الَّتِي تُرَاقِبُهُ أَنْ يَمُوتَ فَتَأْخُذَ مَالَهُ .
وَأَوْصَى بَعْضُ الْأَعْرَابِ ابْنَهُ فِي التَّزَوُّجِ فَقَالَ :
إيَّاكَ وَالْحَنَّانَةَ وَالْمَنَّانَةَ وَالْأَنَّانَةَ .
فَالْحَنَّانَةُ
الَّتِي تَحِنُّ لِزَوْجٍ كَانَ لَهَا ، وَالْمَنَّانَةُ الَّتِي تَمُنُّ
عَلَى زَوْجِهَا بِمَالِهَا ، وَالْأَنَّانَةُ الَّتِي تَئِنُّ كَسَلًا
وَتَمَارُضًا .
وَقَالَ أَوْفَى بْنُ دَلْهَمٍ : النِّسَاءُ أَرْبَعٌ : فَمِنْهُنَّ
مَقْمَعٌ لَهَا سِنُّهَا
أَجْمَعُ
، وَمِنْهُنَّ مَمْنَعٌ تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَمِنْهُنَّ مِصْدَعٌ
تُفَرِّقُ وَلَا تَجْمَعُ ، وَمِنْهُنَّ غَيْثٌ وَقَعَ بِبَلَدٍ
فَأَمْرَعَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَرَى صَاحِبَ النِّسْوَانِ
يَحْسَبُ أَنَّهَا سُوءٌ وَبَوْنٌ بَيْنَهُنَّ بَعِيدُ فَمِنْهُنَّ
جَنَّاتٌ يَفِيءُ ظِلَالُهَا وَمِنْهُنَّ نِيرَانٌ لَهُنَّ وَقُودُ
وَأَنْشَدَ أَبُو الْعَيْنَاءِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ : إنَّ النِّسَاءَ
كَأَشْجَارٍ نَبَتْنَ مَعًا مِنْهُنَّ مُرٌّ وَبَعْضُ الْمَرِّ مَأْكُولُ
إنَّ النِّسَاءَ وَلَوْ صُوِّرْنَ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِنَّ مِنْ هَفَوَاتِ
الْجَهْلِ تَخْيِيلُ إنَّ النِّسَاءَ مَتَى يُنْهَيْنَ عَنْ خُلُقٍ
فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَا بُدَّ مَفْعُولُ وَمَا وَعَدْنَك مِنْ شَرٍّ
وَفَيْنَ بِهِ وَمَا وَعَدْنَك مِنْ خَيْرٍ فَمَمْطُولُ فَأَمَّا
النَّوْعُ الْآخَرُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَصْرُ شُرُوطِهِ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، وَيَنْتَقِلُ بِتَنَقُّلِ
الْإِنْسَانِ وَالْأَزْمَانِ ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ
مُوَافَقَةِ النَّفْسِ وَمُتَابَعَةِ الشَّهْوَةِ ؛ لِيَكُونَ أَدْوَمَ
لِحَالِ الْأُلْفَةِ وَأَمَدَّ لِأَسْبَابِ الْوَصْلَةِ .
فَإِنَّ الرَّأْيَ الْمَعْلُولَ لَا يَبْقَى عَلَى حَالِهِ ، وَالْمَيْلَ
الْمَدْخُولَ لَا يَدُومُ عَلَى دَخَلِهِ .
فَلَا
بُدَّ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى إحْدَى حَالَتَيْنِ : إمَّا إلَى الزِّيَادَةِ
وَالْكَمَالِ ، وَإِمَّا إلَى النُّقْصَانِ وَالزَّوَالِ .
حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : إنِّي
أُحِبُّك وَأُحِبُّ مُعَاوِيَةَ .
فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا الْآنَ فَأَنْتَ أَعْوَرُ ،
فَإِمَّا أَنْ تَبْرَأَ وَإِمَّا أَنْ تَعْمَى .
فَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَشْفِ السَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَى
هَذَا النَّوْعِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِطَلَبِ الْوَلَدِ .
وَالْأَحْمَدُ فِيهِ الْتِمَاسُ الْحَدَاثَةِ وَالْبَكَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا
أَخَصُّ بِالْوِلَادَةِ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا
وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ .
} وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْتَقُ أَرْحَامًا أَيْ
أَكْثَرُ أَوْلَادًا .
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَلَيْكُمْ
بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَكْثَرُ حُبًّا وَأَقَلُّ خَنًا .
وَهَذَا الْحَالُ هِيَ أَوْلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ
النِّكَاحَ مَوْضُوعٌ لَهَا ، وَالشَّرْعُ وَارِدٌ بِهَا .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { سَوْدَاءُ وَلُودٌ خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ عَاقِرٍ } .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : مَنْ لَا يَلِدُ لَا وُلِدَ .
وَقَدْ
كَانُوا يَخْتَارُونَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إنْكَاحَ الْبُعَدَاءِ
الْأَجَانِبِ ، وَيَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ أَنْجَبُ لِلْوَلَدِ وَأَبْهَى
لِلْخِلْقَةِ ، وَيَجْتَنِبُونَ إنْكَاحَ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ ،
وَيَرَوْنَهُ مُضِرًّا بِخَلْقِ الْوَلَدِ بَعِيدًا مِنْ نَجَابَتِهِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { اغْتَرِبُوا وَلَا تُضْوُوا } .
وَرُوِيَ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا
بَنِي السَّائِبِ قَدْ ضُوِيتُمْ فَانْكِحُوا فِي الْغَرَائِبِ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : تَجَاوَزْتُ بِنْتَ الْعَمِّ وَهِيَ حَبِيبَةٌ مَخَافَةَ
أَنْ يُضْوَى عَلَيَّ سَلِيلِي وَكَانَتْ حُكَمَاءُ الْمُتَقَدِّمِينَ
يَرَوْنَ أَنَّ أَنْجَبَ الْأَوْلَادِ خَلْقًا وَخُلُقًا مَنْ كَانَتْ
سِنُّ أُمِّهِ بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ وَسِنُّ أَبِيهِ مَا
بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْخَمْسِينَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ : إنَّ وَلَدَ
الْغَيْرَى لَا يُنْجِبُ ، وَإِنَّ أَنْجَبَ النِّسَاءِ الْفَرُوكُ ؛
لِأَنَّ الرَّجُلَ يَغْلِبُهَا عَلَى الشَّبَقِ لِزُهْدِهَا فِي
الرِّجَالِ .
وَقَالُوا : إنَّ الرَّجُلَ إذَا أَكْرَهَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ مَذْعُورَةٌ
ثُمَّ أَذُكِرَتْ أَنْجَبَتْ .
وَالْحَالَةُ
الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْقِيَامَ بِمَا
يَتَوَلَّاهُ النِّسَاءُ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَنَازِلِ .
فَهَذَا وَإِنْ
كَانَ مُخْتَصًّا بِمُعَانَاةِ النِّسَاءِ فَلَيْسَ بِأَلْزَمَ حَالَتَيْ
الزَّوْجَاتِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعَانِيَهُ غَيْرُهُنَّ مِنْ
النِّسَاءِ .
وَلِذَلِكَ ، قِيلَ : الْمَرْأَةُ رَيْحَانَةٌ وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ
.
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَصْدِ تَأْثِيرٌ فِي دِينٍ
وَلَا قَدَحٌ فِي مُرُوءَةٍ .
وَالْأَحْمَدُ
فِي مِثْلِ هَذَا الْتِمَاسُ ذَوَاتِ الْأَسْنَانِ وَالْحُنْكَةِ مِمَّنْ
قَدْ خَبَرْنَ تَدْبِيرَ الْمَنَازِلِ وَعَرَفْنَ عَادَاتِ الرِّجَالِ ،
فَإِنَّهُنَّ أَقُومُ بِهَذَا الْحَالِ .
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ :
أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ وَهِيَ أَذَمُّ
الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ وَأَوْهَنُهَا لِلْمُرُوءَةِ ؛ لِأَنَّهُ
يَنْقَادُ فِيهِ لِأَخْلَاقِهِ الْبَهِيمِيَّةِ ، وَيُتَابِعُ شَهْوَتَهُ
الذَّمِيمَةَ .
وَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ النَّضْرِ الْأَزْدِيُّ :
شَرُّ النِّكَاحِ نِكَاحُ الْغُلْمَةِ إلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ
لِكَسْرِ الشَّهْوَةِ وَقَهْرِهَا بِالْإِضْعَافِ لَهَا عِنْدَ
الْغَلَبَةِ ، أَوْ تَسْكِينِ النَّفْسِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ ، حَتَّى
لَا تَطْمَحَ لَهُ عَيْنٌ لِرِيبَةٍ وَلَا تُنَازِعَهُ نَفْسٌ إلَى
فُجُورٍ ، وَلَا يَلْحَقَهُ فِي ذَلِكَ ذَمٌّ ، وَلَا يَنَالَهُ وَصْمٌ ،
وَهُوَ بِالْحَمْدِ أَجْدَرُ وَبِالثَّنَاءِ أَحَقُّ .
وَلَوْ
تَنَزَّهَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ عَنْ اسْتِبْذَالِ الْحَرَائِرِ
إلَى الْإِمَاءِ كَانَ أَكْمَلَ لِمُرُوءَتِهِ ، وَأَبْلَغَ فِي
صِيَانَتِهِ .
وَهَذِهِ الْحَالُ تَقِفُ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ
لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ فِيهَا أَوْلَى الْأُمُورِ وَهِيَ أَخْطَرُ
الْأَحْوَالِ بِالْمَنْكُوحَةِ ؛ لِأَنَّ لِلشَّهَوَاتِ غَايَاتٍ
مُتَنَاهِيَةٍ يَزُولُ بِزَوَالِهَا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهَا ،
فَتَصِيرُ الشَّهْوَةُ فِي الِابْتِدَاءِ ، كَرَاهِيَةً فِي الِانْتِهَاءِ
.
وَلِذَلِكَ كَرِهَتْ الْعَرَبُ الْبَنَاتِ وَوَأَدَتْهُنَّ إشْفَاقًا
عَلَيْهِنَّ وَحَمِيَّةً لَهُنَّ مِنْ أَنْ يَتَبَذَّلَهُنَّ اللِّئَامُ
بِهَذِهِ الْحَالِ .
وَكَانَ مَنْ تَحَوَّبَ مِنْ قَتْلِ الْبَنَاتِ لِرِقَّةٍ وَمَحَبَّةٍ
كَانَ مَوْتُهُنَّ أَحَبَّ إلَيْهِ وَآثَرَ عِنْدَهُ .
وَلَمَّا
خُطِبَ إلَى عَقِيلِ بْنِ عَلْقَمَةَ ابْنَتُهُ الْحِرْبَاءُ قَالَ :
إنِّي وَإِنْ سَبَقَ إلَيَّ الْمَهْرُ ، أَلْفٌ وَعَبْدَانِ وَذُوَدٌ
عَشْرٌ ، أَحَبُّ أَصْهَارِي إلَيَّ الْقَبْرُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ : لِكُلِّ أَبِي بِنْتٍ يُرَاعِي
شُئُونَهَا ثَلَاثَةُ أَصْهَارٍ إذَا
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
حُمِدَ الصِّهْرُ فَبَعْلٌ يُرَاعِيهَا وَخِدْرٌ
يُكِنُّهَا وَقَبْرٌ يُوَارِيهَا وَأَفْضَلُهَا الْقَبْرُ
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْمُؤَاخَاةُ بِالْمَوَدَّةِ ، وَهِيَ الرَّابِعُ مِنْ
أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُكْسِبُ بِصَادِقِ الْمَيْلِ
إخْلَاصًا وَمُصَافَاةً ، وَيَحْدُثُ بِخُلُوصِ الْمُصَافَاةِ وَفَاءٌ
وَمُحَامَاةٌ .
وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ الْأُلْفَةِ ، وَلِذَلِكَ
آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
أَصْحَابِهِ ؛ لِتَزِيدَ أُلْفَتُهُمْ ، وَيَقْوَى تَظَافُرُهُمْ .
وَتَنَاصُرُهُمْ .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
عَلَيْكُمْ بِإِخْوَانِ الصَّفَاءِ فَإِنَّهُمْ زِينَةٌ فِي الرَّخَاءِ
وَعِصْمَةٌ فِي الْبَلَاءِ } ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { الْمَرْءُ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا
يَرَى لَك مِنْ الْحَقِّ مِثْلَ مَا تَرَى لَهُ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لِقَاءُ
الْإِخْوَانِ جَلَاءُ الْأَحْزَانِ .
وَقَالَ
خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : إنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ قَصَّرَ فِي طَلَبِ
الْإِخْوَانِ ، وَأَعْجَزَ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ
.
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِابْنِهِ الْحَسَنِ : يَا
بُنَيَّ الْغَرِيبُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَبِيبٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ : مَنْ اتَّخَذَ إخْوَانًا كَانُوا لَهُ
أَعْوَانًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : أَفْضَلُ الذَّخَائِرِ أَخٌ وَفِيٌّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صَدِيقٌ مُسَاعِدٌ عَضُدٌ وَسَاعِدٌ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : هُمُومُ رِجَالٍ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَهَمِّي
مِنْ الدُّنْيَا صَدِيقٌ مُسَاعِدُ نَكُونُ كَرُوحٍ بَيْنَ جِسْمَيْنِ
قُسِّمَتْ فَجِسْمَاهُمَا جِسْمَانِ وَالرُّوحُ وَاحِدُ وَقِيلَ : إنَّمَا
سُمِّيَ الصَّدِيقُ صَدِيقًا لِصِدْقِهِ ، وَالْعَدُوُّ عَدُوًّا
لِعَدْوِهِ عَلَيْك .
وَقَالَ ثَعْلَبٌ : إنَّمَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ
خَلِيلًا ؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ
خَلَلًا إلَّا مَلَأَتْهُ .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ قَوْلَ بَشَّارٍ : قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ
الرُّوحِ مِنِّي وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا .
وَالْمُؤَاخَاةُ
فِي النَّاسِ قَدْ تَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أُخُوَّةٌ
مُكْتَسَبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ الْجَارِي مَجْرَى الِاضْطِرَارِ .
وَالثَّانِيَةُ : مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ .
فَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ بِالِاتِّفَاقِ فَهِيَ أَوْكَدُ حَالًا ؛
لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَنْ أَسْبَابٍ تَعُودُ إلَيْهَا .
وَالْمُكْتَسَبَةُ بِالْقَصْدِ تُعْقَدُ لَهَا أَسْبَابٌ تَنْقَادُ
إلَيْهَا .
وَمَا كَانَ جَارِيًا بِالطَّبْعِ فَهُوَ أَلْزَمُ مِمَّا هُوَ حَادِثٌ
بِالْقَصْدِ .
وَنَحْنُ
نَبْدَأُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُكْتَسَبِ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ
نُعْقِبُهُ بِالْوَجْهِ الثَّانِي الْمُكْتَسَبُ بِالْقَصْدِ .
أَمَّا
الْمُكْتَسَبُ بِالِاتِّفَاقِ فَلَهُ أَسْبَابٌ نَبْتَدِئُ بِهَا ثُمَّ
نَنْتَقِلُ فِي غَايَةِ أَحْوَالِهِ الْمَحْدُودَةِ إلَى سَبْعِ مَرَاتِبَ
رُبَّمَا اسْتَكْمَلْتُهُنَّ وَرُبَّمَا وَقَفْتُ عَلَى بَعْضِهِنَّ
وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ خَاصٌّ وَسَبَبٌ مُوجِبٌ .
قَالَ
الشَّاعِرُ : مَا هَوَى إلَّا لَهُ سَبَبُ يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ
فَأَوَّلُ أَسْبَابِ الْإِخَاءِ : التَّجَانُسُ فِي حَالٍ يَجْتَمِعَانِ
فِيهَا وَيَأْتَلِفَانِ بِهَا ، فَإِنْ قَوِيَ التَّجَانُسُ قَوِيَ
الِائْتِلَافُ بِهِ وَإِنْ ضَعُفَ كَانَ ضَعِيفًا مَا لَمْ تَحْدُثْ
عِلَّةٌ أُخْرَى يَقْوَى بِهَا الِائْتِلَافُ .
وَإِنَّمَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِائْتِلَافَ بِالتَّشَاكُلِ ، وَالتَّشَاكُلُ
بِالتَّجَانُسِ ، فَإِذَا عُدِمَ التَّجَانُسُ مِنْ وَجْهٍ انْتَفَى
التَّشَاكُلُ مِنْ وَجْهٍ ، وَمَعَ انْتِفَاءِ التَّشَاكُلِ يُعْدَمُ
الِائْتِلَافُ .
فَثَبَتَ أَنَّ التَّجَانُسَ ، وَإِنْ تَنَوَّعَ ، أَصْلُ الْإِخَاءِ
وَقَاعِدَةُ الِائْتِلَافِ .
وَقَدْ
رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ عُمَرَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ
مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ } .
وَهَذَا وَاضِحٌ وَهِيَ بِالتَّجَانُسِ مُتَعَارِفَةٌ ، وَبِفَقْدِهِ
مُتَنَاكِرَةٌ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْأَضْدَادُ لَا تَتَّفِقُ ،
وَالْأَشْكَالُ لَا تَفْتَرِقُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِحُسْنِ تُشَاكِلْ
الْأَخَوَانِ يَلْبَثُ التَّوَاصُلُ .
وَلِبَعْضِهِمْ
: فَلَا تَحْتَقِرْ نَفْسِي وَأَنْتَ خَلِيلُهَا فَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو
إلَى مَنْ يُشَاكِلُ وَقَالَ آخَرُ : فَقُلْتُ : أَخِي قَالُوا : أَخٌ
مِنْ قَرَابَةٍ فَقُلْتُ لَهُمْ : إنَّ الشُّكُولَ أَقَارِبُ نَسِيبِي فِي
رَأْيِي وَعَزْمِي وَهِمَّتِي وَإِنْ فَرَّقَتْنَا فِي الْأُصُولِ
الْمُنَاسِبُ ثُمَّ يَحْدُثُ بِالتَّجَانُسِ الْمُوَاصَلَةُ بَيْنَ
الْمُتَجَانِسَيْنِ ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ
الْإِخَاءِ .
وَسَبَبُ الْمُوَاصَلَةِ بَيْنَهُمَا وُجُودُ
الِاتِّفَاقِ مِنْهُمَا فَصَارَتْ الْمُوَاصَلَةُ نَتِيجَةَ التَّجَانُسِ
، وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُودُ الِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاتِّفَاقِ
مُنَفِّرٍ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : النَّاسُ إنْ وَافَقْتهمْ
عَذُبُوا أَوْ لَا فَإِنَّ جَنَاهُمْ مُرُّ كَمْ مِنْ رِيَاضٍ لَا أَنِيسَ
بِهَا تُرِكَتْ لِأَنَّ طَرِيقَهَا وَعْرُ ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ
الْمُوَاصَلَةِ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ ، وَسَبَبُهَا الِانْبِسَاطُ .
ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمُؤَانَسَةِ رُتْبَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ
الْمُصَافَاةُ ، وَسَبَبُهَا خُلُوصُ النِّيَّةِ .
وَرُتْبَةٌ خَامِسَةٌ وَهِيَ الْمَوَدَّةُ ، وَسَبَبُهَا الثِّقَةُ .
وَهَذِهِ
الرُّتْبَةُ هِيَ أَدْنَى الْكَمَالِ فِي أَحْوَالِ الْإِخَاءِ وَمَا
قَبْلَهَا أَسْبَابٌ تَعُودُ إلَيْهَا فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهَا
الْمُعَاضَدَةُ فَهِيَ الصَّدَاقَةُ .
ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمَوَدَّةِ رُتْبَةٌ سَادِسَةٌ ، وَهِيَ
الْمَحَبَّةُ ، وَسَبَبُهَا الِاسْتِحْسَانُ .
فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ لِفَضَائِلِ النَّفْسِ حَدَثَتْ رُتْبَةٌ
سَابِعَةٌ ، وَهِيَ الْإِعْظَامُ .
وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ لِلصُّورَةِ وَالْحَرَكَاتِ حَدَثَتْ
رُتْبَةٌ ثَامِنَةٌ ، وَهِيَ الْعِشْقُ وَسَبَبُهُ الطَّمَعُ .
وَقَدْ
قَالَ الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَوَّلُ الْعِشْقِ
مِزَاحٌ وَوَلَعْ ثُمَّ يَزْدَادُ إذَا زَادَ الطَّمَعْ كُلُّ مَنْ
يَهْوَى وَإِنْ غَالَتْ بِهِ رُتْبَةُ الْمِلْكِ لِمَنْ يَهْوَى تَبَعْ
وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ آخِرُ الرُّتَبِ الْمَحْدُودَةِ ، وَلَيْسَ لِمَا
جَاوَزَهَا رُتْبَةٌ مُقَدَّرَةٌ ، وَلَا حَالَةٌ مَحْدُودَةٌ ؛
لِأَنَّهَا
قَدْ تُؤَدِّي إلَى مُمَازَجَةِ النُّفُوسِ وَإِنْ تَمَيَّزَتْ ذَوَاتُهَا
، وَتُفْضِي إلَى مُخَالَطَةِ الْأَرْوَاحِ وَإِنْ تَفَارَقَتْ
أَجْسَادُهَا .
وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُ غَايَتِهَا ، وَلَا الْوُقُوفُ
عِنْدَ نِهَايَتِهَا .
وَقَدْ قَالَ الْكِنْدِيُّ : الصَّدِيقُ إنْسَانٌ هُوَ أَنْتَ إلَّا
أَنَّهُ غَيْرُك .
وَمِثْلُ
هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَقْطَعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْضًا
وَكَتَبَ لَهُ بِهَا كِتَابًا ، وَأَشْهَدَ فِيهِ نَاسًا مِنْهُمْ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَى طَلْحَةُ بِكِتَابِهِ
إلَى عُمَرَ لِيَخْتِمَهُ ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ ، فَرَجَعَ طَلْحَةُ
مُغْضَبًا إلَى أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ :
وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ عُمَرُ ؟ فَقَالَ : بَلْ
عُمَرُ ، لَكِنَّهُ أَنَا .
وَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ بِالْقَصْدِ
فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إلَيْهَا ، وَبَاعِثٍ يَبْعَثُ
عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : رَغْبَةٌ وَفَاقَةٌ .
فَأَمَّا
الرَّغْبَةُ فَهِيَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْإِنْسَانِ فَضَائِلُ تَبْعَثُ
عَلَى إخَائِهِ ، وَيَتَوَسَّمُ بِجَمِيلٍ يَدْعُو إلَى اصْطِفَائِهِ .
وَهَذِهِ
الْحَالَةُ أَقْوَى مِنْ الَّتِي بَعْدَهَا لِظُهُورِ الصِّفَاتِ
الْمَطْلُوبَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِطَلَبِهَا ، وَإِنَّمَا يُخَافُ
عَلَيْهَا مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالتَّصَنُّعِ لَهَا .
فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَا
كُلُّ مَنْ تَخَلَّقَ بِالْحُسْنَى كَانَتْ مِنْ طَبْعِهِ .
وَالْمُتَكَلِّفُ
لِلشَّيْءِ مُنَافٍ لَهُ إلَّا أَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ مُسْتَحْسِنًا لَهُ
فِي الْعَقْلِ ، أَوْ مُتَدَيَّنًا بِهِ فِي الشَّرْعِ ، فَيَصِيرَ
مُتَطَبِّعًا بِهِ لَا مَطْبُوعًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ
مِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ فِي الطَّبْعِ أَنْ يَكُونَ مَا
لَيْسَ فِي التَّطَبُّعِ .
ثُمَّ نَقُولُ مِنْ الْمُتَعَذَّرِ أَنْ
تَكُونَ أَخْلَاقُ الْفَاضِلِ كَامِلَةً بِالطَّبْعِ ، وَإِنَّمَا
الْأَغْلَبُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ فَضَائِلِهِ بِالطَّبْعِ ، وَبَعْضُهَا
بِالتَّطَبُّعِ الْجَارِي
بِالْعَادَةِ مَجْرَى الطَّبْعِ ،
حَتَّى يَصِيرَ مَا تَطَبَّعَ بِهِ فِي الْعَادَةِ أَغْلَبُ عَلَيْهِ
مِمَّا كَانَ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ إذْ خَالَفَ الْعَادَةَ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْعَادَةُ طَبْعٌ ثَانٍ .
وَقَالَ
ابْنُ الرُّومِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاعْلَمْ بِأَنَّ النَّاسَ مِنْ
طِينَةٍ يَصْدُقُ فِي الثَّلْبِ لَهَا الثَّالِبُ لَوْلَا عِلَاجُ
النَّاسِ أَخْلَاقَهُمْ إذَنْ لَفَاحَ الْحَمَأُ اللَّازِبُ وَأَمَّا
الْفَاقَةُ فَهِيَ أَنْ يَفْتَقِرَ الْإِنْسَانُ ؛ لِوَحْشَةِ
انْفِرَادِهِ وَمَهَانَةِ وَحْدَتِهِ ، إلَى اصْطِفَاءِ مَنْ يَأْنِسُ
بِمُوَاخَاتِهِ وَيَثِقُ بِنُصْرَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ .
وَقَدْ قَالَتْ
الْحُكَمَاءُ : مَنْ لَمْ يَرْغَبْ بِثَلَاثٍ بُلِيَ بِسِتٍّ : مَنْ لَمْ
يَرْغَبْ فِي الْإِخْوَانِ بُلِيَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْخِذْلَانِ ، وَمَنْ
لَمْ يَرْغَبْ فِي السَّلَامَةِ بُلِيَ بِالشَّدَائِدِ وَالِامْتِهَانِ ،
وَمِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْمَعْرُوفِ بُلِيَ بِالنَّدَامَةِ
وَالْخُسْرَانِ .
وَلَعَمْرِي إنَّ إخْوَانَ الصِّدْقِ مِنْ أَنْفَسِ
الذَّخَائِرِ وَأَفْضَلِ الْعُدَدِ ؛ لِأَنَّهُمْ سَهْمَاءُ النُّفُوسِ
وَأَوْلِيَاءُ النَّوَائِبِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ رُبَّ صِدِّيقٍ أَوَدُّ مِنْ شَقِيقٍ .
وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : صَدِيقٌ
يُحَبِّبُنِي إلَى النَّاسِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ : الْقَرِيبُ بِعَدَاوَتِهِ بَعِيدٌ ،
وَالْبَعِيدُ بِمَوَدَّتِهِ قَرِيبٌ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : لَمَوَدَّةٌ مِمَّنْ يُحِبُّك مُخْلِصًا خَيْرٌ مِنْ
الرَّحِمِ الْقَرِيبِ الْكَاشِحِ وَقَالَ آخَرُ : يَخُونُك ذُو الْقُرْبَى
مِرَارًا وَرُبَّمَا وَفَّى لَك عِنْدَ الْعَهْدِ مَنْ لَا تُنَاسِبُهْ
فَإِذَا عَزَمَ عَلَى اصْطِفَاءِ الْإِخْوَانِ سَبَرَ أَحْوَالَهُمْ
قَبْلَ إخَائِهِمْ ، وَكَشَفَ عَنْ أَخْلَاقِهِمْ قَبْلَ اصْطِفَائِهِمْ ؛
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ : أَسْبِرْ تُخْبَرْ .
وَلَا تَبْعَثُهُ الْوَحْدَةُ عَلَى الْإِقْدَامِ قَبْلَ الْخِبْرَةِ ،
وَلَا حُسْنُ الظَّنِّ عَلَى الِاغْتِرَارِ بِالتَّصَنُّعِ .
فَإِنَّ الْمَلَقَ مَصَائِدُ الْعُقُولِ ، وَالنِّفَاقَ تَدْلِيسُ
الْفِطَنِ ، وَهُمَا سَجِيَّةُ الْمُتَصَنِّعِ .
وَلَيْسَ فِيمَنْ يَكُونُ النِّفَاقُ
وَالْمَلْقُ بَعْضَ سَجَايَاهُ خَيْرٌ يُرْجَى ، وَلَا
صَلَاحُ يُؤَمَّلُ .
وَلِأَجْلِ
ذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : اعْرِفْ الرَّجُلَ مِنْ فِعْلِهِ لَا مِنْ
كَلَامِهِ ، وَاعْرِفْ مَحَبَّتَهُ مِنْ عَيْنِهِ لَا مِنْ لِسَانِهِ .
وَقَالَ
خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : إنَّمَا أَنْفَقْت عَلَى إخْوَانِي ؛ لِأَنِّي
لَمْ أَسْتَعْمِلْ مَعَهُمْ النِّفَاقَ وَلَا قَصَّرْت بِهِمْ عَنْ
الِاسْتِحْقَاقِ .
وَقَالَ حَمَّادُ عَجْرَدُ : كَمْ مِنْ أَخٍ لَك
لَيْسَ تُنْكِرُهُ مَا دُمْت فِي دُنْيَاك فِي يَسْرِ مُتَصَنِّعٌ لَك فِي
مَوَدَّتِهِ يَلْقَاك بِالتَّرْحِيبِ وَالْبِشْرِ فَإِذَا عَدَا
وَالدَّهْرُ ذُو غِيَرٍ دَهْرٌ عَلَيْك عَدَا مَعَ الدَّهْرِ فَارْفُضْ
بِإِجْمَالٍ مَوَدَّةَ مَنْ يَقْلِي الْمُقِلَّ وَيَعْشَقُ الْمُثْرِي
وَعَلَيْك مَنْ حَالَاهُ وَاحِدَةٌ فِي الْعُسْرِ إمَّا كُنْت وَالْيُسْرِ
عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْسُومٌ بِسِيمَاءِ مَنْ قَارَبَ ،
وَمَنْسُوبٌ إلَيْهِ أَفَاعِيلُ مَنْ صَاحَبَ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَرْءُ
مَعَ مَنْ أَحَبَّ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الصَّاحِبُ
مُنَاسِبٌ .
وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا مِنْ شَيْءٍ
أَدَلُّ عَلَى شَيْءٍ وَلَا الدُّخَانِ عَلَى النَّارِ مِنْ الصَّاحِبِ
عَلَى الصَّاحِبِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اعْرِفْ أَخَاك بِأَخِيهِ قَبْلَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : يُظَنُّ بِالْمَرْءِ مَا يُظَنُّ
بِقَرِينِهِ .
وَقَالَ
عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ : عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي إذَا كُنْت فِي قَوْمٍ
فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ وَلَا تَصْحَبْ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
فَلَزِمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ دُخَلَاءِ
السُّوءِ ، وَيُجَانِبَ أَهْلَ الرِّيَبِ ، لِيَكُونَ مَوْفُورَ الْعَرْضِ
سَلِيمَ الْعَيْبِ ، فَلَا يُلَامُ بِمَلَامَةِ غَيْرِهِ .
وَلِهَذَا قِيلَ : التَّثَبُّتُ وَالِارْتِيَاءُ ، وَمُدَاوَمَةُ
الِاخْتِيَارِ وَالِابْتِلَاءُ ، مُتَعَذِّرٌ بَلْ مَفْقُودٌ .
وَقَدْ ضَرَبَ ذُو الرُّمَّةِ مَثَلًا بِالْمَاءِ فِيمَنْ حَسُنَ
ظَاهِرُهُ ، وَخَبُثَ بَاطِنُهُ
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فَقَالَ
: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَاءَ يَخْبُثُ طَعْمُهُ وَإِنْ كَانَ لَوْنُ
الْمَاءِ أَبْيَضَ صَافِيَا وَنَظَرَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إلَى رَجُلِ
سُوءٍ حَسَنِ الْوَجْهِ فَقَالَ : أَمَّا الْبَيْتُ فَحَسَنٌ ، وَأَمَّا
السَّاكِنُ فَرَدِيءٌ .
فَأَخَذَ جَحْظَةُ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ :
رَبِّ مَا أَبْيَنَ التَّبَايُنَ فِيهِ مَنْزِلٌ عَامِرٌ وَعَقْلٌ خَرَابُ
وَأَنْشَدَ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا تَرْكَنَنَّ إلَى ذِي
مَنْظَرٍ حَسَنٍ فَرُبَّ رَائِقَةٍ قَدْ سَاءَ مَخْبَرُهَا مَا كُلُّ
أَصْفَرَ دِينَارٌ لِصُفْرَتِهِ صُفْرُ الْعَقَارِبِ أَرْدَاهَا
وَأَنْكَرَهَا ثُمَّ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ
يُقَدِّمْ الِامْتِحَانَ قَبْلَ الثِّقَةِ ، وَالثِّقَةَ قَبْلَ أُنْسٍ ،
أَثْمَرَتْ مَوَدَّتُهُ نَدَمًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مُصَارَمَةٌ قَبْلَ اخْتِبَارٍ ، أَفْضَلُ
مِنْ مُؤَاخَاةٍ عَلَى اغْتِرَارٍ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَا تَثِقْ بِالصِّدِّيقِ قَبْلَ الْخِبْرَةِ ،
وَلَا نَفْعَ بِالْعَدْوِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ ، وَقَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ : لَا تَحْمَدَنَّ امْرَأً حَتَّى تُجَرِّبَهُ وَلَا
تَذُمَّنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَجْرِيبِ فَحَمْدُك الْمَرْءَ مَا لَمْ
تُبْلِهِ خَطَأٌ وَذَمُّهُ بَعْدَ حَمْدٍ شَرُّ تَكْذِيبِ
وَإِذًا
قَدْ لَزِمَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ سَبْرُ الْإِخْوَانِ قَبْلَ
إخَائِهِمْ ، وَخِبْرَةُ أَخْلَاقِهِمْ قَبْلَ اصْطِفَائِهِمْ .
فَالْخِصَالُ
الْمُعْتَبَرَةُ فِي إخَائِهِمْ بَعْدَ الْمُجَانَسَةِ الَّتِي هِيَ
أَصْلُ الِاتِّفَاقِ أَرْبَعُ خِصَالٍ : فَالْخَصْلَةُ الْأُولَى : عَقْلٌ
مَوْفُورٌ يَهْدِي إلَى مَرَاشِدِ الْأُمُورِ .
فَإِنَّ الْحُمْقَ لَا تَثْبُتُ مَعَهُ مَوَدَّةٌ ، وَلَا تَدُومُ
لِصَاحِبِهِ اسْتِقَامَةٌ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { الْبَذَاءُ لُؤْمٌ ، وَصُحْبَةُ الْأَحْمَقِ شُؤْمٌ } .
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَدَاوَةُ الْعَاقِلِ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنْ
مَوَدَّةِ الْأَحْمَقِ ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَقَ رُبَّمَا ضَرَّ وَهُوَ
يَقْدِرُ أَنْ يَنْفَعَ ، وَالْعَاقِلُ لَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي
مَضَرَّتِهِ ، فَمَضَرَّتُهُ لَهَا حَدٌّ يَقِفُ عَلَيْهِ الْعَقْلُ ،
وَمَضَرَّةُ الْجَاهِلِ لَيْسَتْ بِذَاتِ حَدٍّ .
وَالْمَحْدُودُ أَقَلُّ ضَرَرًا مِمَّا هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ .
وَقَالَ الْمَنْصُورُ لِلْمُسَيِّبِ بْنِ زُهَيْرٍ : مَا مَادَّةُ
الْعَقْلِ ؟ فَقَالَ : مُجَالَسَةُ الْعُقَلَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ الْجَهْلِ صُحْبَةُ ذَوِي الْجَهْلِ ،
وَمِنْ الْمُحَالِ مُجَادَلَةُ ذَوِي الْمُحَالِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَشَارَ عَلَيْك بِاصْطِنَاعِ جَاهِلٍ أَوْ
عَاجِزٍ ، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ صَدِيقًا جَاهِلًا أَوْ عَدُوًّا
عَاقِلًا ؛ لِأَنَّهُ يُشِيرُ بِمَا يَضُرُّك وَيَحْتَالُ فِيمَا يَضَعُ
مِنْك .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا مَا كُنْت مُتَّخِذًا
خَلِيلًا فَلَا تَثِقَنَّ بِكُلِّ أَخِي إخَاءِ فَإِنْ خُيِّرْت
بَيْنَهُمْ فَأَلْصِقْ بِأَهْلِ الْعَقْلِ مِنْهُمْ وَالْحَيَاءِ فَإِنَّ
الْعَقْلَ لَيْسَ لَهُ إذَا مَا تَفَاضَلَتْ الْفَضَائِلُ مِنْ كِفَاءِ
وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ : الدِّينُ الْوَاقِفُ بِصَاحِبِهِ عَلَى
الْخَيْرَاتِ ، فَإِنَّ تَارِكَ الدِّينِ عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ ، فَكَيْفَ
يُرْجَى مِنْهُ مَوَدَّةُ غَيْرِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ :
اصْطَفِ مِنْ الْإِخْوَانِ ذَا الدِّينِ وَالْحَسَبِ وَالرَّأْيِ
وَالْأَدَبِ ، فَإِنَّهُ رِدْءٌ لَك عِنْدَ حَاجَتِك ، وَيَدٌ عِنْدَ
نَائِبَتِك ، وَأُنْسٌ عِنْدَ وَحْشَتِك ، وَزَيْنٌ
عِنْدَ عَافِيَتك .
وَقَالَ
حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَخِلَّاءُ الرَّخَاءِ
هُمْ كَثِيرٌ وَلَكِنْ فِي الْبَلَاءِ هُمْ قَلِيلُ فَلَا يَغْرُرْك
خِلَّةُ مَنْ تُؤَاخِي فَمَا لَك عِنْدَ نَائِبَةٍ خَلِيلُ وَكُلُّ أَخٍ
يَقُولُ أَنَا وَفِيٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ يَفْعَلُ مَا يَقُولُ سِوَى خِلٌّ
لَهُ حَسَبٌ وَدِينٌ فَذَاكَ لِمَا يَقُولُ هُوَ الْفَعُولُ وَقَالَ آخَرُ
: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّهِ خِلَّتُهُ فَخَلِيلُهُ مِنْهُ عَلَى
خَطَرِ .
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مَحْمُودَ
الْأَخْلَاقِ مَرَضِيَّ الْأَفْعَالِ ، مُؤْثِرًا لِلْخَيْرِ آمِرًا بِهِ
، كَارِهًا لِلشَّرِّ نَاهِيًا عَنْهُ ، فَإِنَّ مَوَدَّةَ الشِّرِّيرِ
تُكْسِبُ الْأَعْدَاءَ وَتُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ .
وَلَا خَيْرَ فِي مَوَدَّةٍ تَجْلِبُ عَدَاوَةً وَتُورِثُ مَذَمَّةً ،
فَإِنَّ الْمَتْبُوعَ تَابِعُ صَاحِبِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : إخْوَانُ الشَّرِّ كَشَجَرِ
النَّارِنْجِ يُحْرِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا .
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مُخَالَطَةُ الْأَشْرَارِ عَلَى خَطَرٍ ،
وَالصَّبْرُ عَلَى صُحْبَتِهِمْ كَرُكُوبِ الْبَحْرِ ، الَّذِي مَنْ
سَلِمَ مِنْهُ بِبَدَنِهِ مِنْ التَّلَفِ فِيهِ ، لَمْ يَسْلَمْ
بِقَلْبِهِ مِنْ الْحَذَرِ مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ سُوءَ
الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ خَيْرِ الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ ،
وَمِنْ شَرِّ الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ .
وَقَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ : مُجَالَسَةُ السَّفِيهِ سَفَاهُ رَأْيٍ وَمِنْ عَقْلٍ
مُجَالَسَةُ الْحَكِيمِ فَإِنَّك وَالْقَرِينُ مَعًا سَوَاءٌ كَمَا قُدَّ
الْأَدِيمُ مِنْ الْأَدِيمِ وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ
مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَيْلٌ إلَى صَاحِبِهِ ، وَرَغْبَةٌ فِي
مُؤَاخَاتِهِ .
فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْكَدُ لِحَالِ الْمُؤَاخَاةِ
وَأَمَدُّ لِأَسْبَابِ الْمُصَافَاةِ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَطْلُوبٍ
إلَيْهِ طَالِبًا وَلَا كُلُّ مَرْغُوبٍ إلَيْهِ رَاغِبًا .
وَمَنْ طَلَبَ مَوَدَّةَ مُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ ، وَرَغِبَ إلَى زَاهِدٍ
فِيهِ ، كَانَ مُعَنًّى خَائِبًا ، كَمَا
قَالَ
الْبُحْتُرِيُّ : وَطَلَبْت مِنْك مَوَدَّةً لَمْ أُعْطَهَا إنَّ
الْمُعَنَّى طَالِبٌ لَا يَظْفَرُ وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ :
فَإِنْ كَانَ لَا يُدْنِيك إلَّا شَفَاعَةٌ فَلَا خَيْرَ فِي وُدٍّ
يَكُونُ بِشَافِعِ وَأُقْسِمُ مَا تَرْكِي عِتَابَك عَنْ قِلًى وَلَكِنْ
لِعِلْمِي أَنَّهُ غَيْرُ نَافِعِ وَإِنِّي إذَا لَمْ أَلْزَمِ الصَّبْرَ
طَائِعًا فَلَا بُدَّ مِنْهُ مُكْرَهًا غَيْرَ طَائِعِ فَإِذَا
اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ فِي إنْسَانٍ وَجَبَ إخَاؤُهُ ،
وَتَعَيَّنَ اصْطِفَاؤُهُ .
وَبِحَسَبِ وُفُورِهَا فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَيْلُ إلَيْهِ
وَالثِّقَةُ بِهِ .
وَبِحَسَبِ مَا يُرَى مِنْ غَلَبَةِ إحْدَاهَا عَلَيْهِ يُجْعَلُ
مُسْتَعْمَلًا فِي الْخُلُقِ الْغَالِبِ عَلَيْهِ .
فَإِنَّ
الْإِخْوَانَ عَلَى طَبَقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَنْحَاءٍ مُتَشَعِّبَةٍ ،
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَالٌ يَخْتَصُّ بِهَا فِي الْمُشَارَكَةِ ،
وَثُلْمَةٌ يَسُدُّهَا فِي الْمُؤَازَرَةِ وَالْمُظَافَرَةِ ، وَلَيْسَ
تَتَّفِقُ أَحْوَالُ جَمِيعِهِمْ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ
التَّبَايُنَ فِي النَّاسِ غَالِبٌ ، وَاخْتِلَافَهُمْ فِي الشِّيَمِ
ظَاهِرٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الرِّجَالُ كَالشَّجَرِ شَرَابُهُ وَاحِدٌ
وَثَمَرُهُ مُخْتَلِفٌ .
فَأَخَذَ
هَذَا الْمَعْنَى مَنْصُورُ بْنُ إسْمَاعِيلَ فَقَالَ : بَنُو آدَمَ
كَالنَّبْتِ وَنَبْتُ الْأَرْضِ أَلْوَانُ فَمِنْهُمْ شَجَرُ الصَّنْدَلِ
وَالْكَافُورُ وَالْبَانُ وَمِنْهُمْ شَجَرٌ أَفْضَلُ مَا يَحْمِلُ
قَطْرَانُ وَمَنْ رَامَ إخْوَانًا تَتَّفِقُ أَحْوَالُ جَمِيعِهِمْ رَامَ
مُتَعَذَّرًا ، بَلْ لَوْ اتَّفَقُوا لَكَانَ رُبَّمَا وَقَعَ بِهِ خَلَلٌ
فِي نِظَامِهِ ، إذْ لَيْسَ الْوَاحِدُ مِنْ الْإِخْوَانِ يُمْكِنُ
الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَلَا الْمَجْبُولُونَ عَلَى
الْخُلُقِ الْوَاحِدِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي جَمِيعِ
الْأَعْمَالِ وَإِنَّمَا بِالِاخْتِلَافِ يَكُونُ الِائْتِلَافُ .
وَقَدْ
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ بِلَبِيبٍ مَنْ لَمْ يُعَاشِرْ
بِالْمَعْرُوفِ مَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ بُدًّا .
وَقَالَ الْمَأْمُونُ : الْإِخْوَانُ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ : طَبَقَةٌ
كَالْغِذَاءِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ ،
وَطَبَقَةٌ كَالدَّوَاءِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ أَحْيَانًا
، وَطَبَقَةٌ كَالدَّاءِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ أَبَدًا .
وَلَعَمْرِي إنَّ النَّاسَ عَلَى مَا وَصَفَهُمْ ، لَا الْإِخْوَانُ
مِنْهُمْ .
وَلَيْسَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَالدَّاءِ ، مِنْ الْإِخْوَانِ
الْمَعْدُودِينَ ، بَلْ هُمْ مِنْ الْأَعْدَاءِ الْمَحْذُورِينَ .
وَإِنَّمَا
يُدَاجُّونَ الْمَوَدَّةَ اسْتِكْفَافًا لِشَرِّهِمْ ، وَتَحَرُّزًا مِنْ
مُكَاشَفَتِهِمْ ، فَدَخَلُوا فِي عِدَادِ الْإِخْوَانِ بِالْمُظَاهَرَةِ
وَالْمُسَاتَرَةِ ، وَفِي الْأَعْدَاءِ عِنْدَ الْمُكَاشَفَةِ
وَالْمُجَاهَرَةِ .
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَثَلُ الْعَدُوِّ
الضَّاحِكِ إلَيْك كَالْحَنْظَلَةِ الْخَضْرَاءِ أَوْرَاقُهَا ،
الْقَاتِلِ مَذَاقُهَا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا
تَغْتَرَّنَّ بِمُقَارَبَةِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ كَالْمَاءِ وَإِنْ
أُطِيلَ إسْخَانُهُ بِالنَّارِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إطْفَائِهَا .
وَقَالَ
يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ : تُكَاشِرُنِي ضَحِكًا كَأَنَّك
نَاصِحٌ وَعَيْنُك تُبْدِي أَنَّ صَدْرَك لِي دَوِي لِسَانُك مَعْسُولٌ
وَنَفْسُك عَلْقَمٌ وَشَرُّك مَبْسُوطٌ وَخَيْرُك مُلْتَوِي فَلَيْتَ
كَفَافًا كَانَ خَيْرُك كُلُّهُ وَشَرُّك عَنِّي مَا ارْتَوَى الْمَاءَ
مُرْتَوِي فَإِذَا خَرَجَ مَنْ كَانَ كَالدَّاءِ مِنْ عِدَادِ
الْإِخْوَانِ ، فَالْإِخْوَانُ هُمْ الصِّنْفَانِ الْآخَرَانِ اللَّذَانِ
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَالْغِذَاءِ وَكَالدَّوَاءِ ؛ لِأَنَّ الْغِذَاءَ
أَقْوَمُ لِلنَّفْسِ وَحَيَاتِهَا ، وَالدَّوَاءَ عِلَاجُهَا وَصَلَاحُهَا
.
وَأَفْضَلُهُمَا مَنْ كَانَ كَالْغِذَاءِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ
أَعَمُّ .
وَإِذَا
تَمَيَّزَ الْإِخْوَانُ وَجَبَ أَنْ يَنْزِلَ كُلٌّ مِنْهُمْ حَيْثُ
نَزَلَتْ بِهِ أَحْوَالُهُ إلَيْهِ وَاسْتَقَرَّتْ خِصَالُهُ وَخِلَالُهُ
عَلَيْهِ .
فَمَنْ قَوِيَتْ أَسْبَابُهُ قَوِيَتْ الثِّقَةُ بِهِ ،
وَبِحَسَبِ الثِّقَةِ بِهِ يَكُونُ الرُّكُونُ إلَيْهِ ، وَالتَّعْوِيلُ
عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : مَا أَنْتَ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ
وَإِنَّمَا نُجْحُ الْأُمُورِ بِقُوَّةِ الْأَسْبَابِ فَالْيَوْمُ
حَاجَتُنَا إلَيْك وَإِنَّمَا يُدْعَى الطَّبِيبُ لِشِدَّةِ الْأَوْصَابِ
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي اتِّخَاذِ
الْإِخْوَانِ .
فَمِنْهُمْ
مَنْ يَرَى أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْهُمْ أَوْلَى ؛ لِيَكُونُوا أَقْوَى
مَنَعَةً وَيَدًا ، وَأَوْفَرَ تَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا ، وَأَكْثَرَ
تَعَاوُنًا وَتَفَقُّدًا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَا الْعَيْشُ ؟ قَالَ : إقْبَالُ
الزَّمَانِ ، وَعِزُّ السُّلْطَانِ ، وَكَثْرَةُ الْإِخْوَانِ .
وَقِيلَ : حِلْيَةُ الْمَرْءِ كَثْرَةُ إخْوَانِهِ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَرَى أَنَّ الْإِقْلَالَ مِنْهُمْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ
إثْقَالًا وَكُلَفًا ، وَأَقَلُّ تَنَازُعًا وَخُلْفًا .
وَقَالَ
الْإِسْكَنْدَرُ : الْمُسْتَكْثِرُ مِنْ الْإِخْوَانِ مِنْ غَيْرِ
اخْتِيَارٍ كَالْمُسْتَوْفِرِ مِنْ الْحِجَارَةِ ، وَالْمُقِلُّ مِنْ
الْإِخْوَانِ الْمُتَخَيِّرُ لَهُمْ كَاَلَّذِي يَتَخَيَّرُ الْجَوْهَرَ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : مَنْ كَثُرَ أَخِوَانُهُ كَثُرَ
غُرَمَاؤُهُ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ : مَثَلُ الْإِخْوَانِ كَالنَّارِ
قَلِيلُهَا مَتَاعٌ وَكَثِيرُهَا بَوَارٌ .
وَلَقَدْ
أَحْسَنَ ابْنُ الرُّومِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَنَبَّهَ عَلَى
الْعِلَّةِ ، حَيْثُ يَقُولُ : عَدُوُّك مِنْ صِدِّيقِك مُسْتَفَادُ فَلَا
تَسْتَكْثِرَنَّ مِنْ الصِّحَابِ فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرَ مَا تَرَاهُ
يَكُونُ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ وَدَعْ عَنْك الْكَثِيرَ فَكَمْ
كَثِيرٌ يُعَافَ وَكَمْ قَلِيلٌ مُسْتَطَابُ فَمَا اللُّجَجُ الْمِلَاحُ
بِمُرْوِيَاتٍ وَتَلْقَى الرِّيَّ فِي النُّطَفِ الْعِذَابِ وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لِيَكُنْ غَرَضُك فِي اتِّخَاذِ الْإِخْوَانِ
وَاصْطِنَاعِ النُّصَحَاءِ تَكْثِيرَ الْعُدَّةِ لَا تَكْثِيرَ الْعِدَّةِ
، وَتَحْصِيلَ النَّفْعِ لَا تَحْصِيلَ الْجَمْعِ ، فَوَاحِدٌ يَحْصُلُ
بِهِ الْمُرَادُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ تُكَثِّرُ الْأَعْدَادَ .
وَإِذَا
كَانَ التَّجَانُسُ وَالتَّشَاكُلُ مِنْ قَوَاعِدِ الْأُخُوَّةِ
وَأَسْبَابِ الْمَوَدَّةِ ، كَانَ وُفُورُ الْعَقْلِ وَظُهُورُ الْفَضْلِ
يَقْتَضِي مِنْ حَالِ صَاحِبِهِ قِلَّةَ إخْوَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَرُومُ
مِثْلَهُ ، وَيَطْلُبُ شَكْلَهُ وَأَمْثَالُهُ مِنْ ذَوِي الْعَقْلِ
وَالْفَضْلِ أَقَلُّ مِنْ أَضْدَادِهِ مِنْ ذَوِي الْحُمْقِ وَالنَّقْصِ ؛
لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْأَقَلُّ ،
فَلِذَلِكَ قَلَّ وُفُورُ الْعَقْلِ وَالْفَضْلِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَك مِنْ
وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } .
فَقَلَّ
بِهَذَا التَّعْلِيلِ إخْوَانُ أَهْلِ الْفَضْلِ لِقِلَّتِهِمْ ، وَكَثُرَ
إخْوَانُ ذَوِي النَّقْصِ وَالْجَهْلِ ؛ لِكَثْرَتِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ
فِي ذَلِكَ الشَّاعِرُ : لِكُلِّ امْرِئٍ شَكْلٌ مِنْ النَّاسِ مِثْلُهُ
فَأَكْثَرُهُمْ شَكْلًا أَقَلُّهُمْ عَقْلَا وَكُلُّ أُنَاسٍ آلِفُونَ
لِشَكْلِهِمْ فَأَكْثَرُهُمْ عَقْلًا أَقَلُّهُمْ شَكْلَا لِأَنَّ كَثِيرَ
الْعَقْلِ لَسْت بِوَاجِدٍ لَهُ فِي طَرِيقٍ حِينَ يَسْلُكُهُ مِثْلَا
وَكُلُّ سَفِيهٍ طَائِشٍ إنْ فَقَدْته وَجَدْت لَهُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ
عِدْلَا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَقَدْ تَنْقَسِمُ
أَحْوَالُ مَنْ دَخَلَ فِي عَدَدِ الْإِخْوَانِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ :
مِنْهُمْ مَنْ يُعِينُ وَيَسْتَعِينُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُعِينُ وَلَا
يَسْتَعِينُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِينُ وَلَا يُعِينُ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ .
فَأَمَّا الْمُعِينُ وَالْمُسْتَعِينُ فَهُوَ مُعَاوِضٌ مُنْصِفٌ يُؤَدِّي
مَا عَلَيْهِ ، وَيَسْتَوْفِي مَا لَهُ .
فَهُوَ
الْقُرُوضُ يُسْعِفُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَسْتَرِدُّ عِنْدَ
الِاسْتِغْنَاءِ ، وَهُوَ مَشْكُورٌ فِي مَعُونَتِهِ ، وَمَعْذُورٌ فِي
اسْتِعَانَتِهِ .
فَهَذَا أَعْدَلُ الْإِخْوَانِ .
وَأَمَّا مَنْ لَا يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ فَهُوَ مُنَازِلٌ قَدْ
مَنَعَ خَيْرَهُ ، وَقَمَعَ شَرَّهُ .
فَهُوَ لَا صَدِيقٌ يُرْجَى ، وَلَا عَدُوٌّ يُخْشَى .
وَقَدْ قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
التَّارِكُ لِلْإِخْوَانِ مَتْرُوكٌ .
وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ فَهُوَ كَالصُّورَةِ الْمُمَثَّلَةِ يَرُوقُك حُسْنُهَا ،
وَيَخُونُك نَفْعُهَا ، فَلَا هُوَ مَذْمُومٌ لِقَمْعِ شَرِّهِ ، وَلَا
هُوَ مَشْكُورٌ لِمَنْعِ خَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِاللَّوْمِ أَجْدَرَ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّاعِرُ : وَأَسْوَأُ أَيَّامِ الْفَتَى يَوْمُ لَا يُرَى لَهُ
أَحَدٌ يُزْرِي عَلَيْهِ وَيُنْكِرُ غَيْرَ أَنَّ فَسَادَ الْوَقْتِ
وَتَغَيُّرَ أَهْلِهِ يُوجِبُ شُكْرَ مَنْ كَانَ
شَرُّهُ
مَقْطُوعًا ، وَإِنْ كَانَ خَيْرُهُ مَمْنُوعًا ، كَمَا قَالَ
الْمُتَنَبِّي : إنَّا لَفِي زَمَنٍ تَرْكُ الْقَبِيحِ بِهِ مِنْ أَكْثَرِ
النَّاسِ إحْسَانٌ وَإِجْمَالُ وَأَمَّا مَنْ يَسْتَعِينُ وَلَا يُعِينُ
فَهُوَ لَئِيمٌ كَلٌّ ، وَمَهِينٌ مُسْتَذَلٌّ ، قَدْ قَطَعَ عَنْهُ
الرَّغْبَةَ ، وَبَسَطَ فِيهِ الرَّهْبَةَ ، فَلَا خَيْرُهُ يُرْجَى ،
وَلَا شَرُّهُ يُؤْمَنُ .
وَحَسْبُك مَهَانَةً مِنْ رَجُلٍ
مُسْتَثْقِلٍ عِنْدَ إقْلَالِهِ ، وَيَسْتَقِلُّ عِنْدَ اسْتِقْلَالِهِ ،
فَلَيْسَ لِمِثْلِهِ فِي الْإِخَاءِ حَظٌّ وَلَا فِي الْوِدَادِ نَصِيبٌ .
وَهُوَ مِمَّنْ جَعَلَهُ الْمَأْمُونُ مِنْ دَاءِ الْإِخْوَانِ لَا مِنْ
دَوَائِهِمْ ، وَمِنْ سُمِّهِمْ لَا مِنْ غِذَائِهِمْ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : شَرُّ مَا فِي الْكَرِيمِ أَنْ يَمْنَعَك خَيْرَهُ
، وَخَيْرُ مَا فِي اللَّئِيمِ أَنْ يَكُفَّ عَنْك شَرَّهُ .
وَقَالَ
ابْنُ الرُّومِيِّ : عَذَرْنَا النَّخْلَ فِي إبْدَاءِ شَوْكٍ يَرُدُّ
بِهِ الْأَنَامِلَ عَنْ جَنَاهُ فَمَا لِلْعَوْسَجِ الْمَلْعُونِ أَبْدَى
لَنَا شَوْكًا بِلَا ثَمَرٍ نَرَاهُ وَأَمَّا مَنْ يُعِينُ وَلَا
يَسْتَعِينُ فَهُوَ كَرِيمُ الطَّبْعِ ، مَشْكُورُ الصُّنْعِ .
وَقَدْ
حَازَ فَضِيلَتَيْ الِابْتِدَاءِ وَالِاكْتِفَاءِ ، فَلَا يُرَى ثَقِيلًا
فِي نَائِبَةٍ ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ نَهْضَةٍ فِي مَعُونَةٍ .
فَهَذَا أَشْرَفُ الْإِخْوَانِ نَفْسًا وَأَكْرَمُهُمْ طَبْعًا .
فَيَنْبَغِي
لِمَنْ أَوْجَدَهُ الزَّمَانُ مِثْلَهُ - وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
مِثْلٌ ؛ لِأَنَّهُ الْبَرُّ الْكَرِيمُ وَالدُّرُّ الْيَتِيمُ - أَنْ
يَثْنِيَ عَلَيْهِ خِنْصَرَهُ ، وَيَعَضَّ عَلَيْهِ نَاجِذَهُ ، وَيَكُونَ
بِهِ أَشَدَّ ضَنًّا مِنْهُ بِنَفَائِسِ أَمْوَالِهِ ، وَسَنِيِّ
ذَخَائِرِهِ ؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْإِخْوَانِ عَامٌّ وَنَفْعَ الْمَالِ
خَاصٌّ ، وَمَنْ كَانَ أَعَمَّ نَفْعًا فَهُوَ بِالْإِدْخَارِ أَحَقُّ .
وَقَالَ
الْفَرَزْدَقُ : يَمْضِي أَخُوك فَلَا تَلْقَى لَهُ خَلَفًا وَالْمَالُ
بَعْدَ ذَهَابِ الْمَالِ مُكْتَسَبُ وَقَالَ آخَرُ : لِكُلِّ شَيْءٍ
عَدِمْته عِوَضٌ وَمَا لِفَقْدِ الصَّدِيقِ مِنْ عِوَضِ ثُمَّ لَا
يَنْبَغِي أَنْ يَزْهَدَ فِيهِ لِخُلُقٍ أَوْ خُلُقَيْنِ يُنْكِرُهُمَا
مِنْهُ إذَا رَضِيَ
سَائِرَ أَخْلَاقِهِ ، وَحَمِدَ أَكْثَرَ شِيَمِهِ ؛
لِأَنَّ الْيَسِيرَ مَغْفُورٌ وَالْكَمَالَ مَعُوزٌ .
وَقَدْ
قَالَ الْكِنْدِيُّ : كَيْفَ تُرِيدُ مِنْ صَدِيقِك خُلُقًا وَاحِدًا
وَهُوَ ذُو طَبَائِعَ أَرْبَعٍ ؟ مَعَ أَنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ الَّتِي
هِيَ أَخَصُّ النُّفُوسِ بِهِ وَمُدَبَّرَةٌ بِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ
، لَا تُعْطِيهِ قِيَادَهَا فِي كُلِّ مَا يُرِيدُ ، وَلَا تُجِيبُهُ إلَى
طَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا يُحِبُّ ، فَكَيْفَ بِنَفْسِ غَيْرِهِ ،
وَحَسْبُك أَنْ يَكُونَ لَك مِنْ أَخِيك أَكْثَرُهُ .
وَقَدْ قَالَ
أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مُعَاتَبَةُ الْأَخِ خَيْرٌ
مِنْ فَقْدِهِ ، وَمَنْ لَك بِأَخِيك كُلِّهِ ؟ فَأَخَذَ الشُّعَرَاءُ
هَذَا الْمَعْنَى ، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : أَأُخَيَّ مَنْ لَك
مِنْ بَنِي الدُّنْيَا بِكُلِّ أَخِيك مَنْ لَكْ فَاسْتَبْقِ بَعْضَك لَا
يَمْلِكُ كُلُّ مَنْ أَعْطَيْت كُلَّكْ وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ
الطَّائِيُّ : مَا غَبَنَ الْمَغْبُونَ مِثْلُ عَقْلِهْ مَنْ لَك يَوْمًا
بِأَخِيك كُلِّهْ ؟ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : طَلَبُ الْإِنْصَافِ
مِنْ قِلَّةِ الْإِنْصَافِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا
يُزْهِدَنَّكَ فِي رَجُلٍ حُمِدَتْ سِيرَتَهُ ، وَارْتَضَيْتَ وَتِيرَتَهُ
، وَعَرَفْتَ فَضْلَهُ ، وَبَطَنْتَ عَقْلَهُ عَيْبٌ تُحِيطُ بِهِ
كَثْرَةُ فَضَائِلِهِ ، أَوْ ذَنْبٌ صَغِيرٌ تَسْتَغْفِرُ لَهُ قُوَّةُ
وَسَائِلِهِ .
فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ ، مَا بَقِيت ، مُهَذَّبًا لَا يَكُونُ فِيهِ عَيْبٌ
، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ ذَنْبٌ .
فَاعْتَبِرْ
نَفْسَك ، بَعْدَ ، أَنْ لَا تَرَاهَا بِعَيْنِ الرِّضَى ، وَلَا تَجْرِي
فِيهَا عَلَى حُكْمِ الْهَوَى ، فَإِنَّ فِي اعْتِبَارِك وَاخْتِيَارِك
لَهَا مَا يُؤَيِّسُك مِمَّا تَطْلُبُ ، وَيُعَطِّفُك عَلَى مَنْ يُذْنِبُ
.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ
كُلُّهَا كَفَى الْمَرْءُ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ وَقَالَ
النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ : وَلَسْت بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لَا تَلُمْهُ
عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذَّبُ وَلَيْسَ يَنْقُضُ هَذَا
الْقَوْلَ مَا وَصَفْنَا مِنْ اخْتِيَارِهِ وَاخْتِيَارِ الْخِصَالِ
الْأَرْبَعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَعْوَزَ فِيهِ
مَعْفُوٌّ عَنْهُ .
وَهَذَا
لَا يَنْبَغِي أَنْ تُوحِشَك فَتْرَةٌ تَجِدُهَا مِنْهُ ، وَلَا أَنْ
تُسِيءَ الظَّنَّ فِي كَبْوَةٍ تَكُونُ مِنْهُ ، مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ
تَغَيُّرَهُ وَتَتَيَقَّنْ تَنَكُّرَهُ .
وَلْيُصْرَفْ ذَلِكَ إلَى
فَتَرَاتِ النُّفُوسِ وَاسْتِرَاحَاتِ الْخَوَاطِرِ ، فَإِنَّ
الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَغَيَّرُ عَنْ مُرَاعَاةِ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ
أَخَصُّ النُّفُوسِ بِهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ عَدَاوَةٍ لَهَا
وَلَا مَلَلٍ مِنْهَا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا يُفْسِدَنَّكَ الظَّنُّ عَلَى
صَدِيقٍ قَدْ أَصْلَحَك الْيَقِينُ لَهُ .
وَقَالَ
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ مَنْ غَضِبَ مِنْ
إخْوَانِك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَقُلْ فِيك سُوءًا فَاِتَّخِذْهُ
لِنَفْسِك خِلًّا .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ وَهْبٍ : مِنْ حُقُوقِ الْمَوَدَّةِ أَخْذُ عَفْوِ
الْإِخْوَانِ ، وَالْإِغْضَاءُ عَنْ تَقْصِيرٍ إنْ كَانَ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى : {
فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } قَالَ : الرِّضَى بِغَيْرِ عِتَابٍ .
وَقَالَ
ابْنُ الرُّومِيِّ : هُمْ النَّاسُ وَالدُّنْيَا وَلَا بُدَّ مِنْ قَذًى
يُلِمُّ بِعَيْنٍ أَوْ يُكَدِّرُ مَشْرَبَا وَمِنْ قِلَّةِ الْإِنْصَافِ
أَنَّك تَبْتَغِي الْمُهَذَّبَ فِي الدُّنْيَا وَلَسْت الْمُهَذَّبَا
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : تَوَاصُلُنَا عَلَى الْأَيَّامِ بَاقٍ
وَلَكِنْ هَجْرُنَا مَطَرُ الرَّبِيعِ يَرُوعُك صَوْبُهُ لَكِنْ تَرَاهُ
عَلَى عِلَّاتِهِ دَانِي النُّزُوعِ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَلْقَى
غِضَابًا سِوَى ذُلِّ الْمُطَاعِ عَلَى الْمُطِيعِ وَأَنْشَدَنِي
الْأَزْدِيُّ : لَا يُؤْيِسَنَّكَ مِنْ صَدِيقٍ نَبْوَةٌ يَنْبُو الْفَتَى
وَهُوَ الْجَوَادُ الْخِضْرِمُ فَإِذَا نَبَا فَاسْتَبْقِهِ وَتَأَنَّهُ
حَتَّى تَفِيءَ بِهِ وَطَبْعُك أَكْرَمُ وَأَمَّا الْمَلُولُ وَهُوَ
السَّرِيعُ التَّغَيُّرِ ، الْوَشِيكُ التَّنَكُّرِ ، فَوِدَادُهُ خَطَرٌ
وَإِخَاؤُهُ غَرَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى حَالَةٍ ، وَلَا
يَخْلُو مِنْ اسْتِحَالَةٍ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : إذَا
أَنْتَ عَاتَبْت الْمَلُولَ فَإِنَّمَا تَخُطُّ عَلَى صُحُفٍ مِنْ
الْمَاءِ أَحَرُفَا وَهَبْهُ ارْعَوى بَعْدَ الْعِتَابِ
أَلَمْ
تَكُنْ مَوَدَّتُهُ طَبْعًا فَصَارَتْ تَكَلُّفَا وَهُمْ نَوْعَانِ :
مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَلَلُهُ اسْتِرَاحَةً ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى
الْمَعْهُودِ مِنْ إخَائِهِ ، فَهَذَا أَسْلَمُ الْمَلَلَيْنِ وَأَقْرَبُ
الرَّجُلَيْنِ يُسَامِحُ فِي وَقْتِ اسْتَرَاحَتْهُ وَحِينَ فَتْرَتِهِ ،
لِيَرْجِعَ إلَى الْحُسْنَى وَيَئُوبَ إلَى الْإِخَاءِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ
الْمَثَلُ بِمَا نَظَمَهُ الشَّاعِرُ حَيْثُ قَالَ : وَقَالُوا يَعُودُ
الْمَاءُ فِي النَّهْرِ بَعْدَ مَا عَفَتْ مِنْهُ آثَارٌ وَجَفَّتْ
مَشَارِعُهْ فَقُلْت إلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمَاءُ عَائِدًا وَيُعْشِبَ
شَطَّاهُ تَمُوتُ ضَفَادِعُهْ لَكِنْ لَا يَطْرَحُ حَقَّهُ بِالتَّوَهُّمِ
، وَلَا يُسْقِطُ حُرْمَتَهُ بِالظُّنُونِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا
مَا حَالَ عَهْدُ أَخِيك يَوْمًا وَحَادَ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ
فَلَا تَعْجَلْ بِلَوْمِك وَاسْتَدِمْهُ فَإِنَّ أَخَا الْحِفَاظِ
الْمُسْتَدِيمُ فَإِنْ تَكُ زَلَّةٌ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَا تَبْعُدْ عَنْ
الْخُلُقِ الْكَرِيمِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَلَلُهُ تَرْكًا
وَإِطْرَاحًا ، وَلَا يُرَاجِعُ أَخًا وَلَا وُدًّا ، وَلَا يَتَذَكَّرُ
حِفَاظًا وَلَا عَهْدًا ، كَمَا قَالَ أَشْجَعُ بْنُ عُمَرَ السُّلَمِيُّ
: إنِّي رَأَيْت لَهَا مُوَاصَلَةً كَالسُّمِّ تُفْرِغُهُ عَلَى الشَّهْدِ
فَإِذَا أَخَذْت بِعَهْدِ ذِمَّتِهَا لَعِبَ الصُّدُودُ بِذَلِكَ
الْعَهْدِ وَهَذَا أَذَمُّ الرَّجُلَيْنِ حَالًا ؛ لِأَنَّ مَوَدَّتَهُ
مِنْ وَسَاوِسِ الْخَطَرَاتِ ، وَعَوَارِضِ الشَّهَوَاتِ .
وَلَيْسَ
إلَّا اسْتِدْرَاكُ الْحَالِ مَعَهُ بِالْإِقْلَاعِ قَبْلَ الْمُخَالَطَةِ
، وَحُسْنِ الْمُتَارَكَةِ بَعْدَ الْوَرْطَةِ ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ
بْنُ الْأَحْنَفِ : تَدَارَكْت نَفْسِي فَعَرَّيْتهَا وَبَغَّضْتهَا فِيك
آمَالَهَا وَمَا طَابَتْ النَّفْسُ عَنْ سَلْوَةٍ وَلَكِنْ حَمَلْت
عَلَيْهَا لَهَا وَمَا مَثَلُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ إلَّا كَمَا قَدْ قَالَ
إبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ : فَإِنَّك وَاطِّرَاحَك وَصْلَ سَلْمَى
لَأَحْرَى فِي مَوَدَّتِهَا نَكُوبُ كَثَاقِبَةٍ لِحَلْيٍ مُسْتَعَارٍ
لِأُذْنَيْهَا فَشَانَهُمَا الثُّقُوبُ فَأَدَّتْ حَلْيَ جَارَتِهَا
إلَيْهَا وَقَدْ بَقِيَتْ بِأُذْنَيْهَا نُدُوبُ وَإِذَا صَفَتْ لَهُ
أَخْلَاقُ
مَنْ سَبَرَهُ ، وَتَمَهَّدَتْ لَدَيْهِ أَحْوَالُ مَنْ خَبَرَهُ ،
وَأَقْدَمَ عَلَى اصْطِفَائِهِ أَخًا ، وَعَلَى اتِّخَاذِهِ خِدْنًا ،
لَزِمَتْهُ حِينَئِذٍ حُقُوقُهُ ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ حُرُمَاتُهُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ مَسْعَدَةَ : الْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةُ
الْإِخَاءِ لَا عُبُودِيَّةُ الرِّقِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ جَادَ لَك بِمَوَدَّتِهِ ، فَقَدْ
جَعَلَك عَدِيلَ نَفْسِهِ .
فَأَوَّلُ
حُقُوقِهِ اعْتِقَادُ مَوَدَّتِهِ ثُمَّ إينَاسُهُ بِالِانْبِسَاطِ
إلَيْهِ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ ، ثُمَّ نُصْحُهُ فِي السِّرِّ
وَالْعَلَانِيَةِ ، ثُمَّ تَخْفِيفُ الْأَثْقَالِ عَنْهُ ، ثُمَّ
مُعَاوَنَتُهُ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ حَادِثَةٍ ، أَوْ يَنَالُهُ مِنْ
نَكْبَةٍ .
فَإِنَّ مُرَاقَبَتَهُ فِي الظَّاهِرِ نِفَاقٌ ، وَتَرْكَهُ فِي
الشِّدَّةِ لُؤْمٌ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { خَيْرُ أَصْحَابِك الْمُعِينُ لَك عَلَى دَهْرِك ، وَشَرُّهُمْ مَنْ
سَعَى لَك بِسُوقِ يَوْمٍ } .
وَقِيلَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ
الْأَصْحَابِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : الَّذِي إذَا ذَكَرْت أَعَانَك وَوَاسَاك ،
وَخَيْرٌ مِنْهُ مَنْ إذَا نَسِيت ذَكَّرَك } .
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي
أَعُوذُ بِك مِمَّنْ لَا يَلْتَمِسُ خَالِصَ مَوَدَّتِي إلَّا
بِمُوَافَقَةِ شَهْوَتِي ، وَمِمَّنْ سَاعَدَنِي عَلَى سُرُورِ سَاعَتِي ،
وَلَا يُفَكِّرُ فِي حَوَادِثِ غَدِيَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : عُقُودُ الْغَادِرِ مَحْلُولَةٌ ،
وَعُهُودُهُ مَدْخُولَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَا وَدَّكَ مَنْ أَهْمَلَ وُدَّك ، وَلَا
أَحَبَّك مَنْ أَبْغَضَ حُبَّك .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَكُلُّ أَخٍ عِنْدَ الْهُوَيْنَا مُلَاطِفٌ
وَلَكِنَّمَا الْإِخْوَانُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَقَالَ صَالِحُ بْنُ
عَبْدِ الْقُدُّوسِ : شَرُّ الْإِخْوَانِ مَنْ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ مَعَ
الزَّمَانِ إذَا أَقْبَلَ ، فَإِذَا أَدْبَرَ الزَّمَانُ أَدْبَرَ عَنْك .
فَأَخَذَ
هَذَا الْمَعْنَى الشَّاعِرُ فَقَالَ : شَرُّ الْأَخِلَّاءِ مَنْ كَانَتْ
مَوَدَّتُهُ مَعَ الزَّمَانِ إذَا مَا خَافَ أَوْ رَغِبَا إذَا وَتَرْت
امْرَأً فَاحْذَرْ
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى