لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى Empty كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى {الجمعة 3 يونيو - 22:38}


وَقَدْ
يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ عُلُومٌ قَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ فَضِيلَةَ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَقَالَ : مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ
قِيمَتُهُ ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْفِقْهَ نَبُلَ مِقْدَارُهُ ، وَمَنْ
كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْحِسَابَ
جَزَلَ رَأْيُهُ ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ رَقَّ طَبْعُهُ ،
وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ .
وَلَعَمْرِي
إنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ أَصْلُ الْفَضَائِلِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَهْمَلَ
صِيَانَةَ نَفْسِهِ ثِقَةً بِمَا مَنَحَهُ الْعِلْمُ مِنْ فَضِيلَتِهِ ،
وَتَوَكُّلًا عَلَى مَا يَلْزَمُ النَّاسَ مِنْ صِيَانَتِهِ ، سَلَوْهُ
فَضِيلَةَ عِلْمِهِ وَوَسَمُوهُ بِقَبِيحِ تَبَذُّلِهِ ، فَلَمْ يَفِ مَا
أَعْطَاهُ الْعِلْمُ بِمَا سَلَبَهُ التَّبَذُّلُ ؛ لِأَنَّ الْقَبِيحَ
أَنَمُّ مِنْ الْجَمِيلِ وَالرَّذِيلَةُ أَشْهَرُ مِنْ الْفَضِيلَةِ ؛
لِأَنَّ النَّاسَ لِمَا فِي طَبَائِعِهِمْ مِنْ الْبِغْضَةِ وَالْحَسَدِ
وَنِزَاعِ الْمُنَافَسَةِ تَنْصَرِفُ عُيُونُهُمْ عَنْ الْمَحَاسِنِ إلَى
الْمَسَاوِئِ ، فَلَا يُنْصِفُونَ مُحْسِنًا وَلَا يُحَابُونَ مُسِيئًا
لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ بِالْعِلْمِ مَوْسُومًا وَإِلَيْهِ مَنْسُوبًا ،
فَإِنَّ زَلَّتَهُ لَا تُقَالُ وَهَفْوَتَهُ لَا تُعْذَرُ إمَّا لِقُبْحِ
أَثَرِهَا وَاغْتِرَارِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِهَا .
وَقَدْ قِيلَ
فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : إنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ كَالسَّفِينَةِ
تَغْرَقُ وَيَغْرَقُ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَقِيلَ لِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً ؟ قَالَ :
زَلَّةُ الْعَالِمِ إذَا زَلَّ زَلَّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ .
فَهَذَا وَجْهٌ .
وَإِمَّا
لِأَنَّ الْجُهَّالَ بِذَمِّهِ أَغْرَى ، وَعَلَى تَنَقُّصِهِ أَحْرَى ؛
لِيَسْلُبُوهُ فَضِيلَةَ التَّقَدُّمِ وَيَمْنَعُوهُ مُبَايِنَةَ
التَّخْصِيصِ عِنَادًا لِمَا جَهِلُوهُ وَمَقْتًا لِمَا بَايَنُوهُ ؛
لِأَنَّ الْجَاهِلَ يَرَى الْعِلْمَ تَكَلُّفًا وَلَوْمًا ، كَمَا أَنَّ
الْعَالِمَ يَرَى الْجَهْلَ تَخَلُّفًا وَذَمًّا .
وَأَنْشَدْت عَنْ
الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنْزِلَةُ
السَّفِيهِ مِنْ الْفَقِيهِ كَمَنْزِلَةِ الْفَقِيهِ مِنْ



السَّفِيهِ
فَهَذَا زَاهِدٌ فِي قُرْبِ هَذَا وَهَذَا فِيهِ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ
إذَا غَلَبَ الشَّقَاءُ عَلَى سَفِيهٍ تَقَطَّعَ فِي مُخَالَفَةِ
الْفَقِيهِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لِابْنِهِ : عَلَيْك بِكُلِّ
نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ فَخُذْ مِنْهُ ، فَإِنَّ الْمَرْءَ عَدُوُّ مَا
جَهِلَ ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ عَدُوَّ شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ ،
وَأَنْشَدَ : تَفَنَّنْ وَخُذْ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ فَإِنَّمَا يَفُوقُ
امْرُؤٌ فِي كُلِّ فَنٍّ لَهُ عِلْمُ فَأَنْتَ عَدُوٌّ لِلَّذِي أَنْتَ
جَاهِلٌ بِهِ وَلِعِلْمٍ أَنْتَ تُتْقِنُهُ سِلْمُ وَإِذَا صَانَ ذُو
الْعِلْمِ نَفْسَهُ حَقَّ صِيَانَتِهَا ، وَلَازَمَ فِعْلَ مَا
يَلْزَمُهَا أَمِنَ تَعْيِيرَ الْمَوَالِي وَتَنْقِيصَ الْمُعَادِي ،
وَجَمَعَ إلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ جَمِيلَ الصِّيَانَةِ وَعِزَّ
النَّزَاهَةِ فَصَارَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا
بِفَضَائِلِهِ .
وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ
الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا
دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ } .
وَرَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَضْلُ دَرَجَتَيْنِ وَلِلْعُلَمَاءِ
عَلَى الشُّهَدَاءِ فَضْلُ دَرَجَةٍ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ :
إنَّ مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنْ تُجِلَّ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ ، وَمِنْ
الصَّنِيعَةِ أَنْ تَرُبَّ حُسْنَ الصَّنِيعَةِ .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ
اسْتَدَلَّ بِفِطْرَتِهِ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْفَضَائِلِ ،
وَاسْتِقْبَاحِ الرَّذَائِلِ ، أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ رَذَائِلَ
الْجَهْلِ بِفَضَائِلِ الْعِلْمِ وَغَفْلَةَ الْإِهْمَالِ بِاسْتِيقَاظِ
الْمُعَانَاةِ ، وَيَرْغَبَ فِي الْعِلْمِ رَغْبَةَ مُتَحَقِّقٍ
لِفَضَائِلِهِ وَاثِقٍ بِمَنَافِعِهِ ، وَلَا يُلْهِيهِ عَنْ طَلَبِهِ
كَثْرَةُ مَالٍ وَجَدَهُ وَلَا نُفُوذُ أَمْرٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ .
فَإِنَّ مَنْ نَفَذَ أَمْرُهُ فَهُوَ إلَى الْعِلْمِ أَحْوَجُ ، وَمَنْ
عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ فَهُوَ بِالْعِلْمِ أَحَقُّ .
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ



أَنَّهُ
قَالَ : { إنَّ الْحِكْمَةَ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا ، وَتَرْفَعُ
الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ } .
وَقَدْ
قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : كُلُّ عِزٍّ لَا يُوَطِّدُهُ عِلْمٌ
مَذَلَّةٌ ، وَكُلُّ عِلْمٍ لَا يُؤَيِّدُهُ عَقْلٌ مَضَلَّةٌ .
وَقَالَ
بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ : إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالنَّاسِ خَيْرًا
جَعَلَ الْعِلْمَ فِي مُلُوكِهِمْ ، وَالْمُلْكَ فِي عُلَمَائِهِمْ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْعِلْمُ عِصْمَةُ الْمُلُوكِ ؛ لِأَنَّهُ
يَمْنَعُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ ، وَيَرُدُّهُمْ إلَى الْحِلْمِ ،
وَيَصُدُّهُمْ عَنْ الْأَذِيَّةِ ، وَيُعَطِّفُهُمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ .
فَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَعْرِفُوا حَقَّهُ ، وَيَسْتَبْطِنُوا أَهْلَهُ .
فَأَمَّا
الْمَالُ فَظِلٌّ زَائِلٌ وَعَارِيَّةٌ مُسْتَرْجَعَةٌ وَلَيْسَ فِي
كَثْرَتِهِ فَضِيلَةٌ ، وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ فَضِيلَةٌ لَخَصَّ اللَّهُ
بِهِ مَنْ اصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ ، وَاجْتَبَاهُ لِنُبُوَّتِهِ .
وَقَدْ
كَانَ أَكْثَرُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا خَصَّهُمْ اللَّهُ
بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ ، فُقَرَاءَ
لَا يَجِدُونَ بُلْغَةً وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى صَارُوا
فِي الْفَقْرِ مَثَلًا ، فَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : فَقْرٌ كَفَقْرِ
الْأَنْبِيَاءِ وَغُرْبَةٌ وَصَبَابَةٌ لَيْسَ الْبَلَاءُ بِوَاحِدِ
وَلِعَدَمِ الْفَضِيلَةِ فِي الْمَالِ مَنَحَهُ اللَّهُ الْكَافِرَ
وَحَرَمَهُ الْمُؤْمِنَ .
قَالَ الشَّاعِرُ : كَمْ كَافِرٍ بِاَللَّهِ
أَمْوَالُهُ تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ
دِرْهَمٌ يَزْدَادُ إيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ يَا لَائِمَ الدَّهْرِ
وَأَفْعَالِهِ مُشْتَغِلًا يَزْرِي عَلَى دَهْرِهِ الدَّهْرُ مَأْمُورٌ
لَهُ آمِرٌ يَنْصَرِفُ الدَّهْرُ عَلَى أَمْرِهِ وَقَدْ بَيَّنَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضْلَ مَا بَيْنَ الْعِلْمِ
وَالْمَالِ فَقَالَ : الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ .
الْعِلْمُ يَحْرُسُك ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالِ .
الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ .
مَاتَ خَزَّانُ الْأَمْوَالِ وَبَقِيَ خَزَّانُ الْعِلْمِ أَعْيَانُهُمْ
مَفْقُودَةٌ ، وَأَشْخَاصُهُمْ فِي الْقُلُوبِ



مَوْجُودَةٌ .
وَسُئِلَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَيُّمَا أَفْضَلُ الْمَالُ أَمْ الْعِلْمُ ؟
فَقَالَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَيُّمَا أَفْضَلُ الْمَالُ أَمْ
الْعَقْلُ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : لَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ
خَيْرُ ثَنَائِهِ فِي النَّاسِ قَوْلَهُمْ غَنِيٌّ وَاجِدُ



وَرُبَّمَا
امْتَنَعَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِكِبَرِ سِنِّهِ
وَاسْتِحْيَائِهِ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي صِغَرِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ فِي
كِبْرِهِ ، فَرَضِيَ بِالْجَهْلِ أَنْ يَكُونَ مَوْسُومًا بِهِ وَآثَرَهُ
عَلَى الْعِلْمِ أَنْ يَصِيرَ مُبْتَدِئًا بِهِ .
وَهَذَا مِنْ خِدَعِ
الْجَهْلِ وَغُرُورِ الْكَسَلِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا كَانَ فَضِيلَةً
فَرَغْبَةُ ذَوِي الْأَسْنَانِ فِيهِ أَوْلَى .
وَالِابْتِدَاءُ بِالْفَضِيلَةِ فَضِيلَةٌ .
وَلَأَنْ يَكُونَ شَيْخًا مُتَعَلِّمًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ شَيْخًا
جَاهِلًا .
حُكِيَ
أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى شَيْخًا كَبِيرًا يُحِبُّ النَّظَرَ فِي
الْعِلْمِ وَيَسْتَحِي فَقَالَ لَهُ : يَا هَذَا أَتَسْتَحِي أَنْ تَكُونَ
فِي آخِرِ عُمُرِك أَفْضَلَ مِمَّا كُنْتَ فِي أَوَّلِهِ ، وَذُكِرَ أَنَّ
إبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ وَعِنْدَهُ
جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْفِقْهِ فَقَالَ : يَا عَمِّ مَا عِنْدَك
فِيمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ : فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
شَغَلُونَا فِي الصِّغَرِ وَاشْتَغَلْنَا فِي الْكِبَرِ .
فَقَالَ : لِمَ لَا نَتَعَلَّمُهُ الْيَوْمَ ؟ قَالَ : أَوْ يَحْسُنُ
بِمِثْلِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَاَللَّهِ لَأَنْ تَمُوتَ طَالِبًا لِلْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَعِيشَ
قَانِعًا بِالْجَهْلِ .
قَالَ
: وَإِلَى مَتَى يَحْسُنُ بِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ : مَا حَسُنَتْ
بِك الْحَيَاةُ ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ أَعَذْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
الْجَهْلِ عُذْرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَطُلْ بِهِ مُدَّةُ التَّفْرِيطِ
وَلَا اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ الْإِهْمَالِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي
مَنْثُورِ الْحِكَمِ : جَهْلُ الصَّغِيرِ مَعْذُورٌ ، وَعِلْمُهُ
مَحْقُورٌ ، فَأَمَّا الْكَبِيرُ فَالْجَهْلُ بِهِ أَقْبَحُ ، وَنَقْصُهُ
عَلَيْهِ أَفْضَحُ ؛ لِأَنَّ عُلُوَّ السِّنِّ إذَا لَمْ يُكْسِبْهُ
فَضْلًا وَلَمْ يُفِدْهُ عِلْمًا وَكَانَتْ أَيَّامُهُ فِي الْجَهْلِ
مَاضِيَةً ، وَمِنْ الْفَضْلِ خَالِيَةً ، كَانَ الصَّغِيرُ أَفْضَلَ
مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ لَهُ أَكْثَرُ ، وَالْأَمَلَ فِيهِ أَظْهَرُ
، وَحَسْبُك نَقْصًا فِي رَجُلٍ يَكُونُ الصَّغِيرُ الْمُسَاوِي لَهُ فِي
الْجَهْلِ أَفْضَلَ مِنْهُ .



وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ أَهْلِ
الْأَدَبِ : إذَا لَمْ يَكُنْ مَرُّ السِّنِينَ مُتَرْجِمًا عَنْ
الْفَضْلِ فِي الْإِنْسَانِ سَمَّيْته طِفْلَا وَمَا تَنْفَعُ الْأَيَّامُ
حِينَ يَعُدُّهَا وَلَمْ يَسْتَفِدْ فِيهِنَّ عِلْمًا وَلَا فَضْلَا أَرَى
الدَّهْرَ مِنْ سُوءِ التَّصَرُّفِ مَائِلًا إلَى كُلِّ ذِي جَهْلٍ
كَأَنَّ بِهِ جَهْلَا



وَرُبَّمَا امْتَنَعَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ
لِتَعَذُّرِ الْمَادَّةِ وَشَغَلَهُ اكْتِسَابُهَا عَنْ الْتِمَاسِ
الْعِلْمِ .
وَهَذَا
، وَإِنْ كَانَ أَعْذَرَ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ قَلَّ مَا يَكُونُ
ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ ذِي شَرَهٍ وَعَيْبٍ وَشَهْوَةٍ مُسْتَعْبِدَةٍ ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إلَى الْعِلْمِ حَظًّا مِنْ زَمَانِهِ .
فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ زَمَانَ اكْتِسَابٍ .
وَلَا بُدَّ لِلْمُكْتَسِبِ مِنْ أَوْقَاتِ اسْتِرَاحَةٍ ، وَأَيَّامِ
عُطْلَةٍ .
وَمَنْ
صَرَفَ كُلَّ نَفْسِهِ إلَى الْكَسْبِ حَتَّى لَمْ يَتْرُكْ لَهَا
فَرَاغًا إلَى غَيْرِهِ ، فَهُوَ مِنْ عَبِيدِ الدُّنْيَا ، وَأُسَرَاءِ
الْحِرْصِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ شَيْءٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ
فَتْرَتُهُ إلَى الْعِلْمِ فَقَدْ نَجَا } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُونُوا عُلَمَاءَ
صَالِحِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا عُلَمَاءَ صَالِحِينَ فَجَالِسُوا
الْعُلَمَاءَ وَاسْمَعُوا عِلْمًا يَدُلُّكُمْ عَلَى الْهُدَى ،
وَيَرُدُّكُمْ عَنْ الرَّدَى } .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ أَحَبَّ الْعِلْمَ أَحَاطَتْ بِهِ
فَضَائِلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ صَاحَبَ الْعُلَمَاءِ وُقِّرَ ،
وَمَنْ جَالَسَ السُّفَهَاءَ حُقِّرَ .



وَرُبَّمَا
مَنَعَهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مَا يَظُنُّهُ مِنْ صُعُوبَتِهِ ،
وَبُعْدِ غَايَتِهِ ، وَيَخْشَى مِنْ قِلَّةِ ذِهْنِهِ وَبُعْدِ
فِطْنَتِهِ .
وَهَذَا الظَّنُّ اعْتِذَارُ ذَوِي النَّقْصِ وَخِيفَةُ
أَهْلِ الْعَجْزِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ جَهْلٌ ،
وَالْخَشْيَةَ قَبْلَ الِابْتِلَاءِ عَجْزٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ
: لَا تَكُونَنَّ لِلْأُمُورِ هَيُوبًا فَإِلَى خَيْبَةٍ يَصِيرُ
الْهَيُوبُ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ ، وَأَخَافُ أَنْ أُضَيِّعَهُ .
فَقَالَ : كَفَى بِتَرْكِ الْعِلْمِ إضَاعَةٌ .
وَلَيْسَ
، وَإِنْ تَفَاضَلَتْ الْأَذْهَانُ وَتَفَاوَتَتْ الْفَطِنُ ، يَنْبَغِي
لِمَنْ قَلَّ مِنْهَا حَظُّهُ أَنْ يَيْأَسَ مِنْ نَيْلِ الْقَلِيلِ
وَإِدْرَاكِ الْيَسِيرِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ حَدِّ الْجَهَالَةِ
إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّخْصِيصِ .
فَإِنَّ الْمَاءَ مَعَ لِينِهِ
يُؤَثِّرُ فِي صَمِّ الصُّخُورِ فَكَيْفَ لَا يُؤَثِّرُ الْعِلْمُ
الزَّكِيُّ فِي نَفْسِ رَاغِبٍ شَهِيٍّ ، وَطَالِبٍ خَلِيٍّ ، لَا
سِيَّمَا وَطَالِبُ الْعِلْمِ مُعَانٌ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ
أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ .
}
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى Empty رد: كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى {الجمعة 3 يونيو - 22:39}


وَرُبَّمَا
مَنَعَ ذَا السَّفَاهَةِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَنْ يُصَوِّرَ فِي
نَفْسِهِ حِرْفَةَ أَهْلِهِ وَتَضَايُقَ الْأُمُورِ مَعَ الِاشْتِغَالِ
بِهِ حَتَّى يَسِمَهُمْ بِالْإِدْبَارِ وَيَتَوَسَّمَهُمْ بِالْحِرْمَانِ
، فَإِنْ رَأَى مَحْبَرَةً تَطَيَّرَ مِنْهَا وَإِنْ رَأَى كِتَابًا
أَعْرَضَ عَنْهُ ، وَإِنْ رَأَى مُتَحَلِّيًا بِالْعِلْمِ هَرَبَ مِنْهُ
كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَالِمًا مُقْبِلًا وَجَاهِلًا مُدْبِرًا .
وَلَقَدْ
رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ جَمَاعَةً ذَوِي مَنَازِلِ ، وَأَحْوَالٍ
كُنْت أُخْفِي عَنْهُمْ مَا يَصْحَبُنِي مِنْ مَحْبَرَةٍ وَكِتَابٍ
لِئَلَّا أَكُونَ عِنْدَهُمْ مُسْتَثْقَلًا ، وَإِنْ كَانَ الْبُعْدُ
عَنْهُمْ مُؤْنِسًا وَمُصْلِحًا ، وَالْقُرْبُ مِنْهُمْ مُوحِشًا
وَمُفْسِدًا .
فَقَدْ قَالَ بَزَرْجَمْهَرَ : الْجَهْلُ فِي الْقَلْبِ كَالنَّزِّ فِي
الْأَرْضِ ، يُفْسِدُ مَا حَوْلَهُ .
لَكِنْ
اتَّبَعْتُ فِيهِمْ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ
أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَالِطُوا النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ
وَخَالِفُوهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ } .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : رُبَّ جَهْلٍ وُقِيَتْ بِهِ
عُلَمَاءُ ، وَسَفَهٍ حُمِيَتْ بِهِ حُلَمَاءُ .
وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِمَّنْ لَا يُرْجَى لَهَا صَلَاحٌ ، وَلَا يُؤْمَلُ
لَهَا فَلَاحٌ .
لِأَنَّ
مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعِلْمَ شَيْنٌ ، وَأَنَّ تَرْكَهُ زَيْنٌ ،
وَأَنَّ لِلْجَهْلِ إقْبَالًا مُجْدِيًا ، وَلِلْعِلْمِ إدْبَارًا
مُكْدِيًا ، كَانَ ضَلَالُهُ مُسْتَحْكِمًا وَرَشَادُهُ مُسْتَعْبَدَا ،
وَكَانَ هُوَ الْخَامِسُ الْهَالِكُ الَّذِي قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { اُغْدُ عَالِمًا أَوْ
مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا وَلَا تَكُنْ الْخَامِسَ
فَتَهْلِكَ } .
وَقَدْ رَوَاهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُسْنَدًا وَلَيْسَ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ : فِي الْعَذْلِ
نَفْعٌ وَلَا فِي الْإِصْلَاحِ مَطْمَعٌ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : مَا لَكُمْ لَا تُعَاتِبُونَ الْجُهَّالَ
؟ فَقَالَ : إنَّا لَا



نُكَلِّفُ الْعُمْيَ أَنْ يُبْصِرُوا ، وَلَا الصُّمَّ
أَنْ يَسْمَعُوا .
وَهَذِهِ
الطَّائِفَةُ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْ الْعِلْمِ هَذَا النُّفُورَ ،
وَتُعَانِدُ أَهْلَهُ هَذَا الْعِنَادَ ، تَرَى الْعَقْلَ بِهَذِهِ
الْمَثَابَةِ وَتَنْفِرُ مِنْ الْعُقَلَاءِ هَذَا النُّفُورَ ،
وَتَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَاقِلَ مُحَارَفٌ ، وَأَنَّ الْأَحْمَقَ مَحْظُوظٌ
.
وَنَاهِيكَ بِضَلَالِ مَنْ هَذَا اعْتِقَادُهُ فِي الْعَقْلِ
وَالْعِلْمِ هَلْ يَكُونُ لِخَيْرٍ أَهْلًا ، أَوْ لِفَضِيلَةٍ مَوْضِعًا .
وَقَدْ
قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَخْبَثُ النَّاسِ الْمُسَاوِي بَيْنَ
الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ ؛ وَعِلَّةُ هَذَا أَنَّهُمْ رُبَّمَا
رَأَوْا عَاقِلًا غَيْرَ مَحْظُوظٍ ، وَعَالِمًا غَيْرَ مَرْزُوقٍ ،
فَظَنُّوا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ هُمَا السَّبَبُ فِي قِلَّةِ
حَظِّهِ وَرِزْقِهِ .
وَقَدْ انْصَرَفَتْ عُيُونُهُمْ عَنْ حِرْمَانِ
أَكْثَرِ النَّوْكَى وَإِدْبَارِ أَكْثَرِ الْجُهَّالِ ؛ لِأَنَّ فِي
الْعُقَلَاءِ وَالْعُلَمَاءِ قِلَّةً وَعَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِمْ سِمَةٌ
.
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْعُلَمَاءُ غُرَبَاءُ لِكَثْرَةِ الْجُهَّالِ .
فَإِذَا
ظَهَرَتْ سِمَةُ فَضْلِهِمْ وَصَادَفَ ذَلِكَ قِلَّةَ حَظِّ بَعْضِهِمْ
تَنَوَّهُوا بِالتَّمْيِيزِ وَاشْتُهِرُوا بِالتَّعْيِينِ ، فَصَارُوا
مَقْصُودِينَ بِإِشَارَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ ، مَلْحُوظِينَ بِإِيمَاءِ
الشَّامِتِينَ .
وَالْجُهَّالُ وَالْحَمْقَى لَمَّا كَثُرُوا وَلَمْ
يَتَخَصَّصُوا انْصَرَفَتْ عَنْهُمْ النُّفُوسُ فَلَمْ يَلْحَظْ
الْمَحْرُومُ مِنْهُمْ بِطَرَفِ شَامِتٍ ، وَلَا قَصَدَ الْمَجْدُودُ
مِنْهُمْ بِإِشَارَةِ عَائِبٍ .
فَلِذَلِكَ ظَنَّ الْجَاهِلُ
الْمَرْزُوقُ أَنَّ الْفَقْرَ وَالضِّيقَ مُخْتَصٌّ بِالْعِلْمِ ،
وَالْعَقْلَ دُونَ الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ وَلَوْ فَتَّشَتْ أَحْوَالَ
الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ ، مَعَ قِلَّتِهِمْ ، لَوَجَدْت الْإِقْبَالَ
فِي أَكْثَرِهِمْ .
وَلَوْ اخْتَبَرْت أُمُورَ الْجُهَّالِ وَالْحَمْقَى ، مَعَ كَثْرَتِهِمْ
، لَوَجَدَتْ الْحِرْمَانَ فِي أَكْثَرِهِمْ .
وَإِنَّمَا
يَصِيرُ ذُو الْحَالِ الْوَاسِعَةِ مِنْهُمْ مَلْحُوظًا مُشْتَهِرًا ؛
لِأَنَّ حَظَّهُ عَجِيبٌ وَإِقْبَالَهُ مُسْتَغْرَبٌ .
كَمَا أَنَّ حِرْمَانَ الْعَاقِلِ



الْعَالِمِ غَرِيبٌ وَإِقْلَالَهُ عَجِيبٌ .
وَلَمْ
تَزَلْ النَّاسُ عَلَى سَالِفِ الدُّهُورِ مِنْ ذَلِكَ مُتَعَجِّبِينَ
وَبِهِ مُعْتَبِرِينَ حَتَّى قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : مَا أَعْجَبُ
الْأَشْيَاءِ ؟ فَقَالَ : نُجْحُ الْجَاهِلِ وَإِكْدَاءُ الْعَاقِلِ .
لَكِنَّ
الرِّزْقَ بِالْحَظِّ وَالْجَدِّ ، لَا بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ ،
حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى يَدُلُّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِجْرَاءِ
الْأُمُورِ عَلَى مَشِيئَتِهِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : لَوْ جَرَتْ الْأَقْسَامُ عَلَى قَدْرِ
الْعُقُولِ لَمْ تَعِشْ الْبَهَائِمُ .
فَنَظَمَهُ
أَبُو تَمَّامٍ فَقَالَ : يَنَالُ الْفَتَى مِنْ عَيْشِهِ وَهُوَ جَاهِلُ
وَيُكْدِي الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهُوَ عَالِمُ وَلَوْ كَانَتْ
الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا هَلَكْنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهِنَّ
الْبَهَائِمُ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنُ أَبِي سُلْمَى : لَوْ
كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءِ لَأَعْجَبَنِي سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ
مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا
وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ
وَالْعَقْلَ سَعَادَةٌ وَإِقْبَالٌ ، وَإِنْ قَلَّ مَعَهُمَا الْمَالُ ،
وَضَاقَتْ مَعَهُمَا الْحَالُ .
وَالْجَهْلَ وَالْحُمْقَ حِرْمَانٌ
وَإِدْبَارٌ وَإِنْ كَثُرَ مَعَهُمَا الْمَالُ ، وَاتَّسَعَتْ فِيهِمَا
الْحَالُ ؛ لِأَنَّ السَّعَادَةَ لَيْسَتْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ فَكَمْ
مِنْ مُكْثِرٍ شَقِيٌّ وَمُقِلٍّ سَعِيدٌ .
وَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاهِلُ الْغَنِيُّ سَعِيدًا وَالْجَهْلُ يَضَعُهُ .
أَمْ
كَيْفَ يَكُونُ الْعَالِمُ الْفَقِيرُ شَقِيًّا وَالْعِلْمُ يَرْفَعُهُ ؟
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كَمْ مِنْ ذَلِيلٍ أَعَزَّهُ
عِلْمُهُ ، وَمِنْ عَزِيزٍ أَذَلَّهُ جَهْلُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : الْجَاهِلُ كَرَوْضَةٍ عَلَى
مَزْبَلَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كُلَّمَا حَسُنَتْ نِعْمَةُ الْجَاهِلِ
ازْدَادَ قُبْحًا .
وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِبَنِيهِ : يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ
فَإِنْ لَمْ تَنَالُوا بِهِ مِنْ الدُّنْيَا حَظًّا فَلَأَنْ يُذَمَّ
الزَّمَانُ لَكُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُذَمَّ الزَّمَانُ بِكُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ :



مَنْ
لَمْ يَفِدْ بِالْعِلْمِ مَالًا كَسَبَ بِهِ جَمَالًا ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ
أَهْلِ الْأَدَبِ لِابْنِ طَبَاطَبَا : حَسُودٌ مَرِيضُ الْقَلْبِ يُخْفِي
أَنِينَهُ وَيَضْحَى كَئِيبَ الْبَالِ عِنْدِي حَزِينَهُ يَلُومُ عَلَيَّ
أَنْ رُحْت لِلْعِلْمِ طَالِبًا أَجْمَعُ مِنْ عِنْدِ الرُّوَاةِ
فَنُونَهُ فَأَعْرِفُ أَبْكَارَ الْكَلَامِ وَعَوْنَهُ وَأَحْفَظُ مِمَّا
أَسْتَفِيدُ عُيُونَهُ وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُكْسِبُ الْغِنَى
وَيُحْسِنُ بِالْجَهْلِ الذَّمِيمِ ظُنُونَهُ فَيَا لَائِمِي دَعْنِي
أُغَالِي بِقِيمَتِي فَقِيمَةُ كُلِّ النَّاسِ مَا يُحْسِنُونَهُ وَأَنَا
أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ الْمُذِلَّةِ ، وَبَوَادِرِ
الْحُمْقِ الْمُضِلَّةِ .
وَأَسْأَلُهُ السَّعَادَةَ بِعَقْلٍ رَادِعٍ يَسْتَقِيمُ بِهِ مَنْ زَلَّ
، وَعِلْمٍ نَافِعٍ يَسْتَهْدِي بِهِ مَنْ ضَلَّ .
فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: إذَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ .



فَيَنْبَغِي
لِمَنْ زَهِدَ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَاغِبًا وَلِمَنْ رَغِبَ
فِيهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ طَالِبًا ، وَلِمَنْ طَلَبَهُ أَنْ يَكُونَ
مِنْهُ مُسْتَكْثَرًا ، وَلِمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بِهِ
عَامِلًا ، وَلَا يَطْلُبُ لِتَرْكِهِ احْتِجَاجًا وَلَا لِلتَّقْصِيرِ
فِيهِ عُذْرًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَلَا تَعْذِرَانِي فِي
الْإِسَاءَةِ إنَّهُ شِرَارُ الرِّجَالِ مَنْ يُسِيءُ فَيُعْذَرُ وَلَا
يُسَوِّفُ نَفْسَهُ بِالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ وَيُمَنِّيهَا
بِانْقِطَاعِ الْأَشْغَالِ الْمُتَّصِلَةِ ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ
شُغْلًا وَلِكُلِّ زَمَانٍ عُذْرًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : نَرُوحُ
وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لَا تَنْقَضِي تَمُوتُ مَعَ
الْمَرْءِ حَاجَاتُهُ وَتَبْقَى لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِيَ وَيَقْصِدُ
طَلَبَ الْعِلْمِ وَاثِقًا بِتَيْسِيرِ اللَّهِ قَاصِدًا وَجْهَ اللَّهِ
تَعَالَى بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ وَعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ .
فَقَدْ رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَأَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَرَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ
، وَرَفْعُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ .
فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ مَتَى
يَحْتَاجُ إلَى مَا عِنْدَهُ } .



وَلْيَحْذَرْ
أَنْ يَطْلُبَهُ لِمِرَاءٍ أَوْ رِيَاءٍ فَإِنَّ الْمُمَارِيَ بِهِ
مَهْجُورٌ لَا يَنْتَفِعُ ، وَالْمُرَائِيَ بِهِ مَحْقُورٌ لَا يَرْتَفِعُ
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ ،
وَلَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُجَادِلُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ، فَمَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَالنَّارُ مَثْوَاهُ } .
وَلَيْسَ الْمُمَارِي
بِهِ هُوَ الْمُنَاظِرُ فِيهِ طَلَبًا لِلصَّوَابِ مِنْهُ ، وَلَكِنَّهُ
الْقَاصِدُ لِدَفْعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ فَاسِدٍ أَوْ صَحِيحٍ .
وَفِيهِمْ
جَاءَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُجَادِلُ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ
مُرْتَابٌ } .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا
أَعْطَاهُمْ الْجَدَلَ ، وَمَنَعَهُمْ الْعَمَلَ .
وَأَنْشَدَ
الرِّيَاشِيُّ لِمُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أُجَادِلُ كُلَّ
مُعْتَرِضٍ ظَنِينِ وَأَجْعَلُ دِينَهُ غَرَضًا لِدِينِي وَأَتْرُكُ مَا
عَمِلْتُ لِرَأْيِ غَيْرِي وَلَيْسَ الرَّأْيُ كَالْعِلْمِ الْيَقِينِ
وَمَا أَنَا وَالْخُصُومَةُ وَهِيَ شَيْءٌ يُصْرَفُ فِي الشِّمَالِ وَفِي
الْيَمِينِ فَأَمَّا مَا عَلِمْت فَقَدْ كَفَانِي وَأَمَّا مَا جَهِلْت
فَجَنِّبُونِي وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ
لِصَاحِبِهِ : لَا يَمْنَعَنَّكَ حَذَرُ الْمِرَاءِ مِنْ حُسْنِ
الْمُنَاظَرَةِ ، فَإِنَّ الْمُمَارِيَ هُوَ الَّذِي لَا يُرِيدُ أَنْ
يَتَعَلَّمَ مِنْهُ أَحَدٌ وَلَا يَرْجُو أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ أَحَدٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ بَاعِثًا .
وَالْبَاعِثُ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْئَانِ : رَغْبَةٌ أَوْ رَهْبَةٌ ،
فَلْيَكُنْ طَالِبُ الْعِلْمِ رَاغِبًا رَاهِبًا .
أَمَّا الرَّغْبَةُ فَفِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِطَالِبِي
مَرْضَاتِهِ ، وَحَافِظِي مُفْتَرَضَاتِهِ .
وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَمِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَارِكِي
أَوَامِرِهِ ، وَمُهْمَلِي زَوَاجِرِهِ .
فَإِذَا
اجْتَمَعَتْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ أَدَّيَا إلَى كُنْهِ الْعِلْمِ
وَحَقِيقَةِ الزُّهْدِ ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ أَقْوَى الْبَاعِثَيْنِ
عَلَى الْعِلْمِ ، وَالرَّهْبَةَ أَقْوَى



السَّبَبَيْنِ فِي الزُّهْدِ .
وَقَدْ
قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : أَصْلُ الْعِلْمِ الرَّغْبَةُ وَثَمَرَتُهُ
السَّعَادَةُ ، وَأَصْلُ الزُّهْدِ الرَّهْبَةُ وَثَمَرَتُهُ الْعِبَادَةُ
فَإِذَا اقْتَرَنَ الزُّهْدُ وَالْعِلْمُ فَقَدْ تَمَّتْ السَّعَادَةُ
وَعَمَّتْ الْفَضِيلَةُ ، وَإِنْ افْتَرَقَا فَيَا وَيْحَ مُفْتَرَقَيْنِ
مَا أَضَرَّ افْتِرَاقَهُمَا ، وَأَقْبَحَ انْفِرَادَهُمَا .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { مَنْ ازْدَادَ فِي الْعِلْمِ رُشْدًا ، فَلَمْ يَزْدَدْ فِي
الدُّنْيَا زُهْدًا ، لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا } .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنْ الْعِلْمِ مَا
يَقْمَعُهُ ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ لَا يَنْفَعُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْفَقِيهُ بِغَيْرِ وَرَعٍ كَالسِّرَاجِ
يُضِيءُ الْبَيْتَ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ .



التَّعَلُّمُ
: فَصْلٌ : وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلُومِ أَوَائِلَ تُؤَدِّي إلَى
أَوَاخِرِهَا ، وَمَدَاخِلَ تُفْضِي إلَى حَقَائِقِهَا .
فَلْيَبْتَدِئْ طَالِبُ الْعِلْمِ بِأَوَائِلِهَا لِيَنْتَهِيَ إلَى
أَوَاخِرِهَا ، وَبِمَدَاخِلِهَا لِتُفْضِيَ إلَى حَقَائِقِهَا .
وَلَا يَطْلُبُ الْآخِرَ قَبْلَ الْأَوَّلِ ، وَلَا الْحَقِيقَةَ قَبْلَ
الْمَدْخَلِ .
فَلَا
يُدْرِكُ الْآخِرَ وَلَا يَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ
عَلَى غَيْرِ أُسٍّ لَا يُبْنَى ، وَالثَّمَرُ مِنْ غَيْرِ غَرْسٍ لَا
يُجْنَى .
وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ فَاسِدَةٌ وَدَوَاعٍ وَاهِيَةٌ .
فَمِنْهَا
: أَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ أَغْرَاضٌ تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ
الْعِلْمِ فَيَدْعُو الْغَرَضُ إلَى قَصْدِ ذَلِكَ النَّوْعِ وَيَعْدِلُ
عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ ، كَرَجُلٍ يُؤْثِرُ الْقَضَاءَ وَيَتَصَدَّى
لِلْحُكْمِ فَيَقْصِدُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ أَدَبَ الْقَاضِي وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ ، أَوْ يُحِبُّ
الِاتِّسَامَ بِالشَّهَادَةِ فَيَتَعَلَّمُ كِتَابَ الشَّهَادَاتِ
فَيَصِيرُ مَوْسُومًا بِجَهْلِ مَا يُعَانِي .
فَإِذَا أَدْرَكَ ذَلِكَ
ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ حَازَ مِنْ الْعِلْمِ جُمْهُورَهُ ، وَأَدْرَكَ مِنْهُ
مَشْهُورَهُ ، وَلَمْ يَرَ مَا بَقِيَ مِنْهُ إلَّا غَامِضًا طَلَبُهُ
عَنَاءٌ ، وَغَوِيصًا اسْتِخْرَاجُهُ فَنَاءٌ ؛ لِقُصُورِ هِمَّتِهِ عَلَى
مَا أَدْرَكَ ، وَانْصِرَافِهَا عَمَّا تَرَكَ .
وَلَوْ نَصَحَ
نَفْسَهُ لَعَلِمَ أَنَّ مَا تَرَكَ أَهَمُّ مِمَّا أَدْرَكَ ؛ لِأَنَّ
بَعْضَ الْعِلْمِ مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ ، وَلِكُلِّ بَابٍ مِنْهُ تَعَلُّقٌ
بِمَا قَبْلَهُ فَلَا تَقُومُ الْأَوَاخِرُ إلَّا بِأَوَائِلِهَا .
وَقَدْ
يَصِحُّ قِيَامُ الْأَوَائِلِ بِأَنْفُسِهَا فَيَصِيرُ طَلَبُ
الْأَوَاخِرِ بِتَرْكِ الْأَوَائِلِ تَرْكًا لِلْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ
فَإِذَنْ لَيْسَ يُعَرَّى مِنْ لَوْمٍ وَإِنْ كَانَ تَارِكُ الْآخَرِ
أَلْوَمَ .



وَمِنْهَا : أَنْ يُحِبَّ الِاشْتِهَارَ
بِالْعِلْمِ إمَّا لِتَكَسُّبٍ أَوْ لِتَجَمُّلٍ فَيَقْصِدُ مِنْ
الْعِلْمِ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَدَلِ وَطَرِيقِ النَّظَرِ .
وَيَتَعَاطَى
عِلْمَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ دُونَ مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ ؛ لِيُنَاظِرَ
عَلَى الْخِلَافِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْوِفَاقَ ، وَيُجَادِلَ
الْخُصُومَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَذْهَبًا مَخْصُوصًا .
وَلَقَدْ
رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ عَدَدًا قَدْ تَحَقَّقُوا بِالْعِلْمِ
تَحَقُّقَ الْمُتَكَلِّفِينَ ، وَاشْتُهِرُوا بِهِ اشْتِهَارَ
الْمُتَبَحِّرِينَ .
إذَا أَخَذُوا فِي مُنَاظَرَةِ الْخُصُومِ ظَهَرَ
كَلَامُهُمْ ، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ وَاضِحِ مَذْهَبِهِمْ ضَلَّتْ
أَفْهَامُهُمْ ، حَتَّى إنَّهُمْ لَيَخْبِطُونَ فِي الْجَوَابِ خَبْطَ
عَشْوَاءِ فَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ صَوَابٌ ، وَلَا يَتَقَرَّرُ لَهُمْ
جَوَابٌ .
وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ نَقْصًا إذَا نَمَّقُوا فِي
الْمَجَالِسِ كَلَامًا مَوْصُوفًا ، وَلَفَّقُوا عَلَى الْمُخَالِفِ
حِجَابًا مَأْلُوفًا .
وَقَدْ جَهِلُوا مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا يَعْلَمُ الْمُبْتَدِئُ
وَيَتَدَاوَلُهُ النَّاشِئُ .
فَهُمْ
دَائِمًا فِي لَغَطٍ مُضِلٍّ ، أَوْ غَلَطٍ مُذِلٍّ وَرَأَيْت قَوْمًا
مِنْهُمْ يَرَوْنَ الِاشْتِغَالَ بِالْمَذَاهِبِ تَكَلُّفًا ،
وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهُ تَخَلُّفًا .
وَحَاجَّنِي بَعْضُهُمْ
عَلَيْهِ فَقَالَ : لِأَنَّ عِلْمَ حَافِظِ الْمَذَاهِبِ مَسْتُورٌ ،
وَعِلْمُ الْمَنَاظِرِ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ .
فَقُلْت : فَكَيْفَ
يَكُونُ عِلْمُ حَافِظِ الْمَذْهَبِ مَسْتُورًا وَهُوَ سَرِيعٌ عَلَيْهِ
الْجَوَابُ ، كَثِيرُ الصَّوَابِ ؟ فَقَالَ : لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسْأَلْ
سَكَتَ فَلَمْ يُعْرَفْ ، وَالْمَنَاظِرُ إنْ لَمْ يَسْأَلْ سَائِلٌ
يُعْرَفُ .
فَقُلْت : أَلَيْسَ إذَا سُئِلَ الْحَافِظُ فَأَصَابَ بَانَ فَضْلُهُ ؟
قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت
: أَفَلَيْسَ إذَا سُئِلَ الْمَنَاظِرُ فَأَخْطَأَ بَانَ نَقْصُهُ ،
وَقَدْ قِيلَ : عِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ ؟
فَأَمْسَكَ عَنْ جَوَابِي ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ كَابَرَ الْمَعْقُولَ
، وَلَوْ اعْتَرَفَ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ .
وَالْإِمْسَاكُ إذْعَانٌ وَالسُّكُوتُ رِضًى ، وَأَنْ يَنْقَادَ إلَى
الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ أَنْ



يَسْتَفِزَّهُ الْبَاطِلُ .
وَهَذِهِ
طَرِيقَةُ مَنْ يَقُولُ اعْرَفُونِي وَهُوَ غَيْرُ عَرُوفٍ وَلَا
مَعْرُوفٍ وَبَعِيدٌ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ أَنْ يَعْرِفَهُ .
وَقَدْ قَالَ زُهَيْرٌ : وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ
وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمْ .
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى Empty رد: كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى {الجمعة 3 يونيو - 22:40}


وَمِنْ
أَسْبَابِ التَّقْصِيرِ أَيْضًا أَنْ يَغْفُلَ عَنْ التَّعَلُّمِ فِي
الصِّغَرِ ، ثُمَّ يَشْتَغِلَ بِهِ فِي الْكِبَرِ فَيَسْتَحِي أَنْ
يَبْتَدِئَ بِمَا يَبْتَدِئُ الصَّغِيرُ ، وَيَسْتَنْكِفُ أَنْ
يُسَاوِيَهُ الْحَدَثُ الْغَرِيرُ ، فَيَبْدَأُ بِأَوَاخِرِ الْعُلُومِ ،
وَأَطْرَافِهَا ، وَيَهْتَمُّ بِحَوَاشِيهَا ، وَأَكْنَافِهَا ؛
لِيَتَقَدَّمَ عَلَى الصَّغِيرِ الْمُبْتَدِي ، وَيُسَاوِيَ الْكَبِيرَ
الْمُنْتَهِي .
وَهَذَا مِمَّنْ رَضِيَ بِخِدَاعِ نَفْسِهِ ، وَقَنَعَ
بِمُدَاهَنَةِ حِسِّهِ ؛ لِأَنَّ مَعْقُولَهُ إنْ أَحَسَّ وَمَعْقُولَ
كُلِّ ذِي حِسٍّ يَشْهَدُ بِفَسَادِ هَذَا التَّصَوُّرِ ، وَيَنْطِقُ
بِاخْتِلَالِ هَذَا التَّخَيُّلِ ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ فِي
وَهْمٍ .
وَجَهْلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ أَقْبَحُ مِنْ جَهْلِ مَا
يَنْتَهِي إلَيْهِ الْعَالِمُ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّاعِرُ : تَرَقَّ إلَى صَغِيرِ الْأَمْرِ حَتَّى يُرَقِّيَك
الصَّغِيرُ إلَى الْكَبِيرِ فَتَعْرِفَ بِالتَّفَكُّرِ فِي صَغِيرٍ
كَبِيرًا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الصَّغِيرِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى ،
وَأَشْبَاهِهِ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ فِي الصِّغَرِ أَحْمَدَ .
رَوَى
مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ { مِثْلُ
الَّذِي يَتَعَلَّمُ فِي صِغَرِهِ كَالنَّقْشِ عَلَى الصَّخْرِ وَاَلَّذِي
يَتَعَلَّمُ فِي كِبَرِهِ كَاَلَّذِي يَكْتُبُ عَلَى الْمَاءِ .
} .
وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : قَلْبُ الْحَدَثِ
كَالْأَرَاضِيِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ أَفْرَغُ قَلْبًا ،
وَأَقَلُّ شُغْلًا ، وَأَيْسَرُ تَبَذُّلًا ، وَأَكْثَرُ تَوَاضُعًا .
وَقَدْ
قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمُتَوَاضِعُ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ
أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا ، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ الْمُنْخَفِضَ أَكْثَرُ
الْبِقَاعِ مَاءً .
فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الصَّغِيرُ أَضْبَطَ مِنْ
الْكَبِيرِ إذَا عَرِيَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَانِعِ ، وَأَوْعَى مِنْهُ إذَا
خَلَا مِنْ هَذِهِ الْقَوَاطِعِ فَلَا .
حُكِيَ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ :



التَّعْلِيمُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ عَلَى
الْحَجَرِ .
فَقَالَ الْأَحْنَفُ : الْكَبِيرُ أَكْثَرُ عَقْلًا وَلَكِنَّهُ أَشْغَلُ
قَلْبًا .
وَلَعَمْرِي
لَقَدْ فَحَصَ الْأَحْنَفُ عَنْ الْمَعْنَى وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ ؛
لِأَنَّ قَوَاطِعَ الْكَبِيرِ كَثِيرَةٌ : فَمِنْهَا : مَا ذَكَرْنَا مِنْ
الِاسْتِحْيَاءِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ
عِلْمُهُ .
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : يَرْتَعُ الْجَهْلُ بَيْنَ الْحَيَاءِ
وَالْكِبَرِ فِي الْعِلْمِ .
وَمِنْهَا : وُفُورُ شَهَوَاتِهِ وَتَقَسُّمُ أَفْكَارِهِ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : صَرْفُ الْهَوَى عَنْ ذِي الْهَوَى عَزِيزُ إنَّ الْهَوَى
لَيْسَ لَهُ تَمْيِيزُ وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الْقَلْبَ إذَا
عَلِقَ كَالرَّهْنِ إذَا غُلِقَ .
وَمِنْهَا : الطَّوَارِقُ الْمُزْعِجَةُ وَالْهُمُومُ الْمُذْهِلَةُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْهَمُّ قَيْدُ الْحَوَاسِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ لَاقِي مِنْ
الْعِلْمِ أَشُدَّهُ .
وَمِنْهَا : كَثْرَةُ اشْتِغَالِهِ وَتَرَادُفُ حَالَاتِهِ حَتَّى
أَنَّهَا تَسْتَوْعِبُ زَمَانَهُ وَتَسْتَنْفِدُ أَيَّامَهُ .
فَإِذَا كَانَ ذَا رِئَاسَةٍ أَلْهَتْهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَعِيشَةٍ
قَطَعَتْهُ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَر : الشَّغْلُ مَجْهَدَةٌ وَالْفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ .
فَيَنْبَغِي
لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَنِيَ فِي طَلَبِهِ وَيَنْتَهِزَ
الْفُرْصَةَ بِهِ ، فَرُبَّمَا شَحَّ الزَّمَانُ بِمَا سَمَحَ وَضَنَّ
بِمَا مَنَحَ .
وَيَبْتَدِئُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَوَّلِهِ وَيَأْتِيهِ
مِنْ مُدْخَلِهِ وَلَا يَتَشَاغَلُ بِطَلَبِ مَا لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ
فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ إدْرَاكِ مَا لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ .
فَإِنَّ
لِكُلِّ عِلْمٍ فُصُولًا مُذْهِلَةً وَشُذُورًا مُشْغِلَةً ، إنْ صَرَفَ
إلَيْهَا نَفْسَهُ قَطَعَتْهُ عَمَّا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْعِلْمُ أَكْثَرُ
مِنْ أَنْ يُحْصَى فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَهُ .
وَقَالَ الْمَأْمُونُ : مَا لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ بَارِعًا فَبُطُونُ
الصُّحُفِ أَوْلَى بِهِ مِنْ قُلُوبِ الرِّجَالِ



.

وَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى تَرْكِ مَا اُسْتُصْعِبَ عَلَيْهِ
إشْعَارًا لِنَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فُضُولِ عِلْمِهِ وَإِعْذَارًا
لَهَا فِي تَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَطِيَّةُ
النَّوْكَى وَعُذْرُ الْمُقَصِّرِينَ .
وَمَنْ أَخَذَ مِنْ الْعِلْمِ
مَا تَسَهَّلَ وَتَرَكَ مِنْهُ مَا تَعَذَّرَ كَانَ كَالْقَنَّاصِ إذَا
امْتَنَعَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ تَرَكَهُ فَلَا يَرْجِعُ إلَّا خَائِبًا إذْ
لَيْسَ يَرَى الصَّيْدَ إلَّا مُمْتَنِعًا .
كَذَلِكَ الْعِلْمُ
كُلُّهُ صَعْبٌ عَلَى مَنْ جَهِلَهُ ، سَهْلٌ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ ؛
لِأَنَّ مَعَانِيَهُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا مُسْتَوْدَعَةٌ فِي
كَلَامٍ مُتَرْجَمٍ عَنْهَا .
وَكُلُّ كَلَامٍ مُسْتَعْمَلٍ فَهُوَ
يَجْمَعُ لَفْظًا مَسْمُوعًا وَمَعْنًى مَفْهُومًا ، فَاللَّفْظُ كَلَامٌ
يُعْقَلُ بِالسَّمْعِ وَالْمَعْنَى تَحْتَ اللَّفْظِ يُفْهَمُ بِالْقَلْبِ
.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعُلُومُ مَطَالِعُهَا مِنْ
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : قَلْبٌ مُفَكِّرُ ، وَلِسَانٌ مُعَبِّرٌ ، وَبَيَانٌ
مُصَوِّرٌ .
فَإِذَا عَقَلَ الْكَلَامَ بِسَمْعِهِ فَهِمَ مَعَانِيَهُ بِقَلْبِهِ .
وَإِذَا
فَهِمَ الْمَعَانِيَ سَقَطَ عَنْهُ كُلْفَةُ اسْتِخْرَاجِهَا وَبَقِيَ
عَلَيْهِ مُعَانَاةُ حِفْظِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ
شَوَارِدُ تَضِلُّ بِالْإِغْفَالِ ، وَالْعُلُومُ وَحْشِيَّةٌ تَنْفِرُ
بِالْإِرْسَالِ .
فَإِذَا حَفِظَهَا بَعْدَ الْفَهْمِ أَنِسَتْ ، وَإِذَا ذَكَرَهَا بَعْدَ
الْأُنْسِ رَسَتْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ أَكْثَرَ الْمُذَاكَرَةَ بِالْعِلْمِ
لَمْ يَنْسَ مَا عَلِمَ وَاسْتَفَادَ مَا لَمْ يَعْلَمْ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : إذَا لَمْ يُذَاكِرْ ذُو الْعُلُومِ بِعِلْمِهِ وَلَمْ
يَسْتَفِدْ عِلْمًا نَسِيَ مَا تَعَلَّمَا فَكَمْ جَامِعٍ لِلْكُتُبِ فِي
كُلِّ مَذْهَبٍ يَزِيدُ مَعَ الْأَيَّامِ فِي جَمْعِهِ عَمَى

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِيك تُدْرِكُ مَا
يُغْنِيك .


وَإِنْ
لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَ مَا سَمِعَ كَشَفَ عَنْ السَّبَبِ الْمَانِعِ
مِنْهَا لِيَعْلَمَ الْعِلَّةَ فِي تَعَذُّرِ فَهْمِهَا فَإِنَّهُ
بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِ الْأَشْيَاءِ وَعِلَلِهَا يَصِلُ إلَى تَلَافِي
مَا شَذَّ وَصَلَاحِ مَا فَسَدَ .
وَلَيْسَ يَخْلُو السَّبَبُ
الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ
لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهَا .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَوْدَعِ فِيهَا .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي السَّامِعِ الْمُسْتَخْرِجِ .
فَإِنْ
كَانَ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهَا لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ
الْمُتَرْجَمِ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِتَقْصِيرِ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى
فَيَصِيرُ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى سَبَبًا مَانِعًا
مِنْ فَهْمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ
وَجْهَيْنِ : إمَّا مِنْ حَصْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَعِيِّهِ ، وَإِمَّا مِنْ
بَلَادَتِهِ وَقِلَّةِ فَهْمِهِ .
الْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ
لِزِيَادَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ عِلَّةً
مَانِعَةً مِنْ فَهْمِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ .
وَهَذَا قَدْ يَكُونُ
مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا مِنْ هَذْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِكْثَارِهِ
، وَإِمَّا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِفَهْمِ سَامِعِهِ .
وَالْحَالُ
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لِمُوَاضَعَةٍ يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ
بِكَلَامِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهَا السَّامِعُ لَمْ يَفْهَمْ
مَعَانِيَهَا .
وَأَمَّا تَقْصِيرُ اللَّفْظِ وَزِيَادَتُهُ فَمِنْ
الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّك لَسْت تَجِدُ
ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ الْكَلَامِ ، وَإِنَّمَا تَجِدُهُ فِي بَعْضِهِ .
فَإِنْ
عَدَلْت عَنْ الْكَلَامِ الْمُقَصِّرِ إلَى الْكَلَامِ الْمُسْتَوْفِي ،
وَعَنْ الزَّائِدِ إلَى الْكَافِي أَرَحْت نَفْسَك مِنْ تَكَلُّفِ مَا
يَكِدُّ خَاطِرَك .
وَإِنْ أَقَمْت عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ إمَّا
لِضَرُورَةٍ دَعَتْك إلَيْهِ عِنْدَ إعْوَازِ غَيْرِهِ ، أَوْ لِحَمِيَّةٍ
دَاخَلَتْك عِنْدَ تَعَذُّرِ فَهْمِهِ ، فَانْظُرْ فِي سَبَبِ
الزِّيَادَةِ وَالتَّقْصِيرِ .
فَإِنْ كَانَ التَّقْصِيرُ



لِحَصْرٍ
وَالزِّيَادَةُ لِهَذْرٍ سَهُلَ عَلَيْك اسْتِخْرَاجُ الْمَعْنَى مِنْهُ ؛
لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْكَلَامِ مَحْصُولٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْمُخْتَلُّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ الصَّحِيحِ وَفِي الْأَكْثَرِ عَلَى
الْأَقَلِّ دَلِيلٌ .
وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ اللَّفْظِ عَلَى
الْمَعْنَى دَلِيلًا لِسُوءِ ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ بِفَهْمِ السَّامِعِ
كَانَ اسْتِخْرَاجُهُ أَسْهَلَ .
وَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ
عَنْ الْمَعْنَى لِسُوءِ فَهْمِ الْمُتَكَلِّمِ فَهُوَ أَصْعَبُ
الْأُمُورِ حَالًا ، وَأَبْعَدُهَا اسْتِخْرَاجًا ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ
يَفْهَمْهُ مُكَلِّمُك فَأَنْتَ مِنْ فَهْمِهِ أَبْعَدُ إلَّا أَنْ
يَكُونَ بِفَرْطِ ذَكَائِك وَجَوْدَةِ خَاطِرِك تَتَنَبَّهُ بِإِشَارَتِهِ
عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَاسْتِخْرَاجِ مَا قَصَّرَ فِيهِ
فَتَكُونُ فَضِيلَةُ الِاسْتِيفَاءِ لَك وَحَقُّ التَّقَدُّمِ لَهُ .
وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ فَضَرْبَانِ : عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ .
أَمَّا
الْعَامَّةُ فَهِيَ مُوَاضَعَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا جَعَلُوهُ أَلْقَابًا
لِمَعَانٍ لَا يَسْتَغْنِي الْمُتَعَلِّمُ عَنْهَا وَلَا يَقِفُ عَلَى
مَعْنَى كَلَامِهِمْ إلَّا بِهَا ، كَمَا جَعَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ
الْجَوَاهِرَ ، وَالْأَعْرَاضَ وَالْأَجْسَامَ أَلْقَابًا تَوَاضَعُوهَا
لِمَعَانٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهَا .
وَلَسْت تَجِدُ مِنْ الْعُلُومِ عِلْمًا يَخْلُو مِنْ هَذَا .
وَهَذِهِ الْمُوَاضَعَةُ الْعَامَّةُ تُسَمَّى عُرْفًا .
وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَمُوَاضَعَةُ الْوَاحِدِ يَقْصِدُ بِبَاطِنِ
كَلَامِهِ غَيْرَ ظَاهِرِهِ .
فَإِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ كَانَتْ رَمْزًا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي
الشِّعْرِ كَانَتْ لُغْزًا .
فَأَمَّا
الرَّمْزُ فَلَسْت تَجِدُهُ فِي عِلْمٍ مَعْنَوِيٍّ ، وَلَا فِي كَلَامٍ
لُغَوِيٍّ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ غَالِبًا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إمَّا
بِمَذْهَبٍ شَنِيعٍ يُخْفِيهِ مُعْتَقِدُهُ وَيَجْعَلُ الرَّمْزَ سَبَبًا
لِتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إلَيْهِ وَاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهِ سَبَبًا
لِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ .
وَإِمَّا لِمَا يَدَّعِي أَرْبَابُهُ
أَنَّهُ عِلْمٌ مُعْوِزٌ ، وَأَنَّ إدْرَاكَهُ بَدِيعٌ مُعْجِزٌ ،
كَالصَّنْعَةِ الَّتِي وَضَعَهَا أَرْبَابُهَا اسْمًا لِعِلْمِ
الْكِيمْيَاءِ



فَرَمَزُوا بِأَوْصَافِهِ ، وَأَخْفَوْا
مَعَانِيَهُ ؛ لِيُوهِمُوا الشُّحَّ بِهِ وَالْأَسَفَ عَلَيْهِ خَدِيعَةً
لِلْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ .
وَقَدْ قَالَ
الشَّاعِرُ : مُنِعْتُ شَيْئًا فَأَكْثَرْت الْوَلُوعَ بِهِ أَحَبُّ
شَيْءٍ إلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا ثُمَّ لِيَكُونُوا بُرَاءً مِنْ
عُهْدَةِ مَا قَالُوهُ إذَا جُرِّبَ .
وَلَوْ كَانَ مَا تَضَمَّنَ
هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ، وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ الرُّمُوزِ مَعْنًى
صَحِيحًا وَعِلْمًا مُسْتَفَادًا لَخَرَجَ مِنْ الرَّمْزِ الْخَفِيِّ إلَى
الْعِلْمِ الْجَلِيِّ ، فَإِنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ
أَهْوَائِهِمْ لَا تَتَّفِقُ عَلَى سَتْرِ سَلِيمٍ وَإِخْفَاءِ مُفِيدٍ .
وَقَدْ
قَالَ زُهَيْرٌ : السَّتْرُ دُونَ الْفَاحِشَاتِ وَلَا يَلْقَاك دُونَ
الْخَيْرِ مِنْ سَتْرِ وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَ الرَّمْزُ مِنْ الْكَلَامِ
فِيمَا يُرَادُ تَفْخِيمُهُ مِنْ الْمَعَانِي ، وَتَعْظِيمُهُ مِنْ
الْأَلْفَاظِ ؛ لِيَكُونَ أَحْلَى فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعًا ، وَأَجَلَّ
فِي النُّفُوسِ مَوْضِعًا ، فَيَصِيرُ بِالرَّمْزِ سَائِرًا وَفِي
الصُّحُفِ مُخَلَّدًا .
كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ فِيثَاغُورْسَ فِي
وَصَايَاهُ الْمَرْمُوزَةِ أَنَّهُ قَالَ : احْفَظْ مِيزَانَك مِنْ
الْبَذِيءِ ، وَأَوْزَانَك مِنْ الصَّدِيءِ .
يُرِيدُ بِحِفْظِ
الْمِيزَانِ مِنْ الْبَذِيءِ حِفْظَ اللِّسَانِ مِنْ الْخَنَا ، وَحِفْظِ
الْأَوْزَانِ مِنْ الصَّدَى حِفْظَ الْعَقْلِ مِنْ الْهَوَى .
فَصَارَ
بِهَذَا الرَّمْزِ مُسْتَحْسَنًا وَمُدَوَّنًا وَلَوْ قَالَهُ بِاللَّفْظِ
الصَّرِيحِ وَالْمَعْنَى الصَّحِيحِ ، لَمَا سَارَ عَنْهُ ، وَلَا
اُسْتُحْسِنَ مِنْهُ .
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَحْجُوبَ عَنْ
الْأَفْهَامِ كَالْمَحْجُوبِ عَنْ الْأَبْصَارِ فِيمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي
النُّفُوسِ مِنْ التَّعْظِيمِ ، وَفِي الْقُلُوبِ مِنْ التَّفْخِيمِ .
وَمَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجِبْ هَانَ وَاسْتُرْذِلَ ، وَهَذَا إنَّمَا
يَصِحُّ اسْتِحْلَاؤُهُ فِيمَا قَلَّ وَهُوَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ
مُسْتَقَلٌّ .
فَأَمَّا الْعُلُومُ الْمُنْتَشِرَةُ الَّتِي
تَتَطَلَّعُ النُّفُوسُ إلَيْهَا فَقَدْ اسْتَغْنَتْ بِقُوَّةِ الْبَاعِثِ
عَلَيْهَا وَشِدَّةِ الدَّاعِي إلَيْهَا عَنْ الِاسْتِدْعَاءِ
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى Empty رد: كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى {الجمعة 3 يونيو - 22:41}


إلَيْهَا بِرَمْزٍ مُسْتَحْلٍ وَلَفْظٍ مُسْتَغْرَبٍ .
بَلْ
ذَلِكَ مُنَفِّرٌ عَنْهَا ؛ لِمَا فِي التَّشَاغُلِ بِاسْتِخْرَاجِ
رُمُوزِهَا مِنْ الْإِبْطَاءِ عَنْ إدْرَاكِهَا ، فَهَذَا حَالُ الرَّمْزِ
.
وَأَمَّا اللُّغْزُ فَهُوَ تَحَرِّي أَهْلِ الْفَرَاغِ وَشُغْلُ
ذَوِي الْبَطَالَةِ ؛ لِيَتَنَافَسُوا فِي تَبَايُنِ قَرَائِحِهِمْ ،
وَيَتَفَاخَرُوا فِي سُرْعَةِ خَوَاطِرِهِمْ ، فَيَسْتَكِدُّوا خَوَاطِرَ
قَدْ مُنِحُوا صِحَّتَهَا فِيمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا وَلَا يُفِيدُ
عِلْمًا ، كَأَهْلِ الصِّرَاعِ الَّذِينَ قَدْ صَرَفُوا مَا مُنِحُوهُ
مِنْ صِحَّةِ أَجْسَامِهِمْ إلَى صِرَاعٍ كَدُودٍ يَصْرَعُ عُقُولَهُمْ
وَيَهِدُّ أَجْسَامَهُمْ وَلَا يُكْسِبُهُمْ حَمْدًا وَلَا يُجْدِي
عَلَيْهِمْ نَفْعًا .
اُنْظُرْ إلَى قَوْلِ الشَّاعِر : رَجُلٌ مَاتَ
وَخَلَّفَ رَجُلًا ابْنَ أُمِّ ابْنَ أَبِي أُخْتِ أَبِيهِ مَعَهُ أُمُّ
بَنِي أَوْلَادِهِ وَأَبَا أُخْتِ بَنِي عَمِّ أَخِيهِ أَخْبَرَنِي عَنْ
هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَقَدْ رَوَّعَك صُعُوبَةُ مَا تَضَمَّنَهُمَا
مِنْ السُّؤَالِ .
إذَا اسْتَكْدَيْتَ الْفِكْرَ فِي اسْتِخْرَاجِهِ
فَعَلِمْت أَنَّهُ أَرَادَ مَيْتًا خَلَّفَ أَبًا وَزَوْجَةً وَعَمًّا ،
مَا الَّذِي أَفَادَك مِنْ الْعِلْمِ وَنَفَى عَنْك مِنْ الْجَهْلِ ؟
أَلَسْت بَعْدَ عِلْمِهِ تَجْهَلُ مَا كُنْت جَاهِلًا مِنْ قَبْلِهِ ؟
وَلَوْ أَنَّ السَّائِلَ قَلَبَ لَك السُّؤَالَ فَأَخَّرَ مَا قُدِّمَ
وَقَدَّمَ مَا أُخِّرَ لَكُنْت فِي الْجَهْلِ بِهِ قَبْلَ اسْتِدْرَاجِهِ
كَمَا كُنْت فِي الْجَهْلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ كَدَدْت نَفْسَك ،
وَأَتْعَبْت خَاطِرَك ثُمَّ لَا تَعْدَمُ أَنْ يَرِدَ عَلَيْك مِثْلُ
هَذَا مِمَّا تَجْهَلُهُ فَتَكُونُ فِيهِ كَمَا كُنْت قَبْلَهُ .
فَاصْرِفْ نَفْسَك - تَوَلَّى اللَّهُ رُشْدَك - عَنْ عُلُومِ النَّوْكَى
وَتَكَلُّفِ الْبَطَّالِينَ .
فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ } .
ثُمَّ
اجْعَلْ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْك مِنْ صِحَّةِ الْقَرِيحَةِ
وَسُرْعَةِ الْخَاطِرِ مَصْرُوفًا إلَى عِلْمِ مَا يَكُونُ إنْفَاقُ
خَاطِرِك فِيهِ مَذْخُورًا ، وَكَدُّ فِكْرِك فِيهِ مَشْكُورًا .
وَقَدْ رَوَى



سَعِيدُ
بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :
قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ
وَالْفَرَاغُ } .
وَنَحْنُ نَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ نُغْبَنَ بِفَضْلِ نِعْمَتِهِ
عَلَيْنَا ، وَنَجْهَلَ نَفْعَ إحْسَانِهِ إلَيْنَا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مِنْ الْفَرَاغِ تَكُونُ
الصَّبْوَةُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَمْضَى يَوْمَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ قَضَاهُ ،
أَوْ فَرْضٍ أَدَّاهُ ، أَوْ مَجْدٍ أَثَّلَهُ أَوْ حَمْدٍ حَصَّلَهُ ،
أَوْ خَيْرٍ أَسَّسَهُ أَوْ عِلْمٍ اقْتَبَسَهُ ، فَقَدْ عَقَّ يَوْمَهُ
وَظَلَمَ نَفْسَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَقَدْ أَهَاجَ
الْفَرَاغُ عَلَيْك شُغْلًا وَأَسْبَابُ الْبَلَاءِ مِنْ الْفَرَاغِ
فَهَذَا تَعْلِيلُ مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ
مِنْ فَهْمِ مَعَانِيهِ حَتَّى خَرَجَ بِنَا الِاسْتِيفَاءُ وَالْكَشْفُ
إلَى الْإِغْمَاضِ .



وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ
أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ فَهْمِ السَّامِعِ لِعِلَّةٍ فِي
الْمَعْنَى الْمُسْتَوْدَعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَعْنَى مِنْ
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ، أَوْ
يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِغَيْرِهِ ، أَوْ يَكُونَ نَتِيجَةً مِنْ غَيْرِهِ .
فَأَمَّا الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَضَرْبَانِ : جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ .
فَأَمَّا
الْجَلِيُّ فَهُوَ يَسْبِقُ إلَى فَهْمِ مُتَصَوِّرِهِ مِنْ أَوَّلِ
وَهْلَةٍ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُشْكِلُ عَلَى مَنْ
تَصَوَّرَهُ .
وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَيَحْتَاجُ فِي إدْرَاكِهِ إلَى
زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ وَفَضْلِ مُعَانَاةٍ لِيَنْجَلِيَ عَمَّا أَخْفَى
وَيَنْكَشِفَ عَمَّا أُغْمِضَ ، وَبِاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِيهِ يَكُونُ
الِارْتِيَاضُ بِهِ وَبِالِارْتِيَاضِ بِهِ يَسْهُلُ مِنْهُ مَا
اُسْتُصْعِبَ وَيَقْرَبُ مِنْهُ مَا بَعُدَ ، فَإِنَّ لِلرِّيَاضَةِ
جَرَاءَةً وَلِلدِّرَايَةِ تَأْثِيرًا ، وَأَمَّا مَا كَانَ مُقَدِّمَةً
لِغَيْرِهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَقُومَ الْمُقَدِّمَةُ
بِنَفْسِهَا وَإِنْ تَعَدَّتْ إلَى غَيْرِهَا ، فَتَكُونُ
كَالْمُسْتَقِلِّ بِنَفْسِهِ فِي تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ مُسْتَدْعِيًا
لِنَتِيجَتِهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى
نَتِيجَتِهِ فَيَتَعَذَّرُ فَهْمُ الْمُقَدِّمَةِ إلَّا بِمَا يَتْبَعُهَا
مِنْ النَّتِيجَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ بَعْضًا وَتَبْعِيضُ الْمَعْنَى
أَشْكَلُ لَهُ وَبَعْضُهُ لَا يُغْنِي عَنْ كُلِّهِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ
نَتِيجَةً لِغَيْرِهِ فَهُوَ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِأَوَّلِهِ وَلَا
يُتَصَوَّرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إلَّا بِمُقَدِّمَتِهِ وَالِاشْتِغَالُ
بِهِ قَبْلَ الْمُقَدِّمَةِ عَنَاءٌ ، وَإِتْعَابُ الْفِكْرِ فِي
اسْتِنْبَاطِهِ قَبْلَ قَاعِدَتِهِ إيذَاءٌ .
فَهَذَا يُوَضِّحُ تَعْلِيلَ مَا فِي الْمَعَانِي مِنْ الْأَسْبَابِ
الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِهَا .



وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
السَّبَبُ الْمَانِعُ لِعِلَّةٍ فِي الْمُسْتَمِعِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ .
أَحَدُهُمَا : مِنْ ذَاتِهِ .
وَالثَّانِي : مِنْ طَارِئٍ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا
مَا كَانَ مِنْ ذَاتِهِ فَيَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : أَحَدَهُمَا : مَا
كَانَ مَانِعًا مِنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى ، وَالثَّانِيَ : مَا كَانَ
مَانِعًا مِنْ حِفْظِهِ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ .
فَأَمَّا مَا
كَانَ مَانِعًا مِنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى وَفَهْمِهِ فَهُوَ الْبَلَادَةُ
وَقِلَّةُ الْفِطْنَةِ وَهُوَ الدَّاءُ الْعَيَاءُ .
وَقَدْ قَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا فَقَدَ الْعَالِمُ الذِّهْنَ قَلَّ عَلَى
الْأَضْدَادِ احْتِجَاجُهُ ، وَكَثُرَ إلَى الْكُتُبِ احْتِيَاجُهُ .
وَلَيْسَ
لِمَنْ بُلِيَ بِهِ إلَّا الصَّبْرُ وَالْإِقْلَالُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى
الْقَلِيلِ أَقْدَرُ ، وَبِالصَّبْرِ أَحْرَى أَنْ يَنَالَ وَيَظْفَرَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : قَدِّمْ لِحَاجَتِك بَعْضَ لَجَاجَتِك
.
وَلَيْسَ
يَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ مَنْ هَذَا حَالُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَالِبَ
الشَّهْوَةِ ، بَعِيدَ الْهِمَّةِ ، فَيُشْعِرُ قَلْبَهُ الصَّبْرَ ؛
لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ ، وَجَسَدَهُ احْتِمَالَ التَّعَبِ ؛ لِبُعْدِ
هِمَّتِهِ .
فَإِذَا تَلَوَّحَ لَهُ الْمَعْنَى بِمُسَاعَدَةِ
الشَّهْوَةِ أَعْقَبَهُ ذَلِكَ إلْحَاحُ الْآمِلِينَ وَنَشَاطُ
الْمُدْرِكِينَ فَقَلَّ عِنْدَهُ كُلُّ كَثِيرٍ ، وَسَهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ
عَسِيرٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنَالُونَ مَا تُحِبُّونَ إلَّا
بِالصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ ، وَلَا تَبْلُغُونَ مَا تَهْوُونَ
إلَّا بِتَرْكِ مَا تَشْتَهُونَ } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : أَتْعِبْ قَدَمَك ، فَإِنْ تَعِبَ
قَدَّمَك .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إذَا اشْتَدَّ الْكَلَفُ ، هَانَتْ الْكُلَفُ ،
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ
اللَّهُ وَجْهَهُ - : لَا تَعْجِزَنَّ وَلَا يَدْخُلْك مُضْجِرَةٌ
فَالنُّجْحُ يَهْلِكُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالضَّجَرِ



وَأَمَّا
الْمَانِعُ مِنْ حِفْظِهِ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ فَهُوَ
النِّسْيَانُ الْحَادِثُ عَنْ غَفْلَةِ التَّقْصِيرِ وَإِهْمَالِ
التَّوَانِي .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ بُلِيَ بِهِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ تَقْصِيرَهُ بِكَثْرَةِ
الدَّرْسِ وَيُوقِظَ غَفْلَتَهُ بِإِدَامَةِ النَّظَرِ .
فَقَدْ قِيلَ لَا يُدْرِكُ الْعِلْمَ مَنْ لَا يُطِيلُ دَرْسَهُ ،
وَيَكُدُّ نَفْسَهُ .
وَكَثْرَةُ الدَّرْسِ كَدُودٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ يَرَى
الْعِلْمَ مَغْنَمًا ، وَالْجَهَالَةَ مَغْرَمًا .
فَيَحْتَمِلُ تَعَبَ الدَّرْسِ لِيُدْرِكَ رَاحَةَ الْعِلْمِ وَيَنْفِي
عَنْهُ مَعَرَّةَ الْجَهْلِ .
فَإِنَّ
نَيْلَ الْعَظِيمِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَعَلَى قَدْرِ الرَّغْبَةِ تَكُونُ
الْمَطَالِبُ ، وَبِحَسَبِ الرَّاحَةِ يَكُونُ التَّعَبُ .
وَقَدْ قِيلَ : طَلَبُ الرَّاحَةِ قِلَّةُ الِاسْتِرَاحَةِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَكْمَلُ الرَّاحَةِ مَا كَانَتْ عَنْ كَدِّ
التَّعَبِ ، وَأَعَزُّ الْعِلْمِ مَا كَانَ عَنْ ذُلِّ الطَّلَبِ .
وَرُبَّمَا
اسْتَثْقَلَ الْمُتَعَلِّمُ الدَّرْسَ وَالْحِفْظَ وَاتَّكَلَ بَعْدَ
فَهْمِ الْمَعَانِي عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْكُتُبِ وَالْمُطَالَعَةِ
فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَكُونُ إلَّا كَمَنْ أَطْلَقَ مَا
صَادَهُ ثِقَةً بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ فَلَا
تُعْقِبُهُ الثِّقَةُ إلَّا خَجَلًا وَالتَّفْرِيطُ إلَّا نَدَمًا .
وَهَذِهِ
حَالٌ قَدْ يَدْعُو إلَيْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءِ : إمَّا
الضَّجَرُ مِنْ مُعَانَاةِ الْحِفْظِ وَمُرَاعَاتِهِ وَطُولِ الْأَمَلِ
فِي التَّوَفُّرِ عَلَيْهِ عِنْدَ نَشَاطِهِ وَفَسَادِ الرَّأْيِ فِي
عَزِيمَتِهِ .
وَلَيْسَ يَعْلَمُ أَنَّ الضَّجُورَ خَائِبٌ ، وَأَنَّ الطَّوِيلَ
الْأَمَلِ مَغْرُورٌ ، وَأَنَّ الْفَاسِدَ الرَّأْيِ مُصَابٌ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا : حَرْفٌ فِي قَلْبِك ، خَيْرٌ مِنْ
أَلْفٍ فِي كُتُبِك .
وَقَالُوا
: لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَعْبُرُ مَعَك الْوَادِيَ ، وَلَا يُعَمِّرُ
بِك النَّادِيَ ، وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : عِلْمِي مَعِي حَيْثُ مَا يَمَّمْتُ يَنْفَعُنِي قَلْبِي
وِعَاءٌ لَهُ لَا بَطْنُ صُنْدُوقِي إنْ كُنْت فِي الْبَيْتِ كَانَ
الْعِلْمُ فِيهِ



مَعِي أَوْ كُنْت فِي السُّوقِ كَانَ
الْعِلْمُ فِي السُّوقِ وَرُبَّمَا اعْتَنَى الْمُتَعَلِّمُ بِالْحِفْظِ
مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ وَلَا فَهْمٍ حَتَّى يَصِيرَ حَافِظًا لِأَلْفَاظِ
الْمَعَانِي قَيِّمًا بِتِلَاوَتِهَا .
وَهُوَ لَا يَتَصَوَّرُهَا وَلَا يَفْهَمُ مَا تَضَمَّنَهَا يَرْوِي
بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ ، وَيُخْبِرُ عَنْ غَيْرِ خِبْرَةٍ .
فَهُوَ كَالْكِتَابِ الَّذِي لَا يَدْفَعُ شُبْهَةً ، وَلَا يُؤَيِّدُ
حُجَّةً .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { هِمَّةُ السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ وَهِمَّةُ الْعُلَمَاءِ
الرِّعَايَةُ } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً ، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً ، فَقَدْ
يَرْعَوِي مَنْ لَا يَرْوِي ، وَيَرْوِي مَنْ لَا يَرْعَوِي .
وَحَدَّثَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِحَدِيثٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا
سَعِيدٍ ، عَمَّنْ ؟ قَالَ : مَا تَصْنَعُ بِعَمَّنْ ، أَمَّا أَنْتَ
فَقَدْ نَالَتْك عِظَتُهُ ، وَقَامَتْ عَلَيْك حُجَّتُهُ .
وَرُبَّمَا
اعْتَمَدَ عَلَى حِفْظِهِ وَتَصَوُّرِهِ ، وَأَغْفَلَ تَقْيِيدَ الْعِلْمِ
فِي كُتُبِهِ ثِقَةً بِمَا اسْتَقَرَّ فِي ذِهْنِهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ
؛ لِأَنَّ الشَّكْلَ مُعْتَرِضٌ وَالنِّسْيَانَ طَارِقٌ .
وَقَدْ رَوَى
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ } .
وَرُوِيَ
أَنَّ { رَجُلًا شَكَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النِّسْيَانَ فَقَالَ لَهُ : اسْتَعْمِلْ يَدَك ، أَيْ اُكْتُبْ حَتَّى
تَرْجِعَ إذَا نَسِيتَ إلَى مَا كَتَبْتَ } .
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : اجْعَلْ مَا فِي الْكُتُبِ رَأْسَ
الْمَالِ ، وَمَا فِي الْقَلْبِ النَّفَقَةَ .
وَقَالَ مَهْبُودٌ .
لَوْلَا مَا عَقَدَتْهُ الْكُتُبُ مِنْ تَجَارِبِ الْأَوَّلِينَ ،
لَانْحَلَّ مَعَ النِّسْيَانِ عُقُودُ الْآخِرِينَ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ هَذِهِ الْآدَابَ نَوَافِرُ تَنِدُّ عَنْ
عَقْلِ الْأَذْهَانِ فَاجْعَلُوا الْكُتُبَ عَنْهَا حُمَاةً ،
وَالْأَقْلَامَ لَهَا رُعَاةً .
وَأَمَّا الطَّوَارِئُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : شُبْهَةٌ تَعْتَرِضُ
الْمَعْنَى فَتَمْنَعُ عَنْ



نَفَسِ
تَصَوُّرِهِ وَتَدْفَعُ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ
يُزِيلَ تِلْكَ الشُّبْهَةَ عَنْ نَفْسِهِ بِالسُّؤَالِ وَالنَّظَرِ ؛
لِيَصِلَ إلَى تَصَوُّرِ الْمَعْنَى وَإِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ .
وَلِذَلِكَ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا تُخْلِ قَلْبَك مِنْ الْمُذَاكَرَةِ
فَتَعُدْ عَقِيمًا ، وَلَا تُعْفِ طَبْعَك مِنْ الْمُنَاظَرَةِ فَيَعُدْ
سَقِيمًا .
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ : شِفَاءُ الْعَمَى طُولُ
السُّؤَالِ وَإِنَّمَا دَوَامُ الْعَمَى طُولُ السُّكُوتِ عَلَى الْجَهْلِ
فَكُنْ سَائِلًا عَمَّا عَنَاك فَإِنَّمَا دُعِيتَ أَخَا عَقْلٍ
لِتَبْحَثَ بِالْعَقْلِ وَالثَّانِي : أَفْكَارٌ تُعَارِضُ الْخَاطِرِ
فَيَذْهَلُ عَنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى .
وَهَذَا سَبَبٌ قَلَّمَا يَعْرَى مِنْهُ أَحَدٌ لَا سِيَّمَا فِيمَنْ
انْبَسَطَتْ آمَالُهُ وَاتَّسَعَتْ أَمَانِيهِ .
وَقَدْ
يَقِلُّ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي غَيْرِ الْعِلْمِ أَرَبٌ ، وَلَا
فِيمَا سِوَاهُ هِمَّةٌ ، فَإِنْ طَرَأَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى مُكَابَرَةِ نَفْسِهِ عَلَى الْفَهْمِ وَغَلَبَةِ قَلْبِهِ
عَلَى التَّصَوُّرِ ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَشَدُّ
نُفُورًا ، وَأَبْعَدُ قَبُولًا .
وَقَدْ جَاءَ الْأَثَرُ بِأَنَّ
الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ عَمِيَ ، وَلَكِنْ يَعْمَلُ فِي دَفْعِ مَا
طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ هَمٍّ مُذْهِلٍ أَوْ فِكْرٍ قَاطِعٍ لِيَسْتَجِيبَ
لَهُ الْقَلْبُ مُطِيعًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَلَيْسَ
بِمُغْنٍ فِي الْمَوَدَّةِ شَافِعٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الضُّلُوعِ
شَفِيعُ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ
تَنَافُرَ كَتَنَافُرِ الْوَحْشِ فَتَأَلَّفُوهَا بِالِاقْتِصَادِ فِي
التَّعْلِيمِ ، وَالتَّوَسُّطِ فِي التَّقْدِيمِ ؛ لِتَحْسُنَ طَاعَتُهَا
، وَيَدُومَ نَشَاطُهَا .
فَهَذَا تَعْلِيلُ مَا فِي الْمُسْتَمِعِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ
مِنْ فَهْمِ الْمَعَانِي .



وَهَا هُنَا قِسْمٌ رَابِعٌ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ
الْكَلَامِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ .
وَلَكِنَّهُ
قَدْ يُعَرَّى مِنْ بَعْضِ الْكَلَامِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي
جُمْلَةِ أَقْسَامِهِ ، وَلَمْ نَسْتَجِزْ الْإِخْلَالَ بِذِكْرِهِ ؛
لِأَنَّ مِنْ الْكَلَامِ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ
إلَى تَأَمُّلِ الْخَطِّ بِهِ .
وَالْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهِ هُوَ عَلَى
مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِهِ وَمِنْهُ مَا كَانَ مُسْتَوْدَعًا
بِالْخَطِّ ، مَحْفُوظًا بِالْكِتَابَةِ ، مَأْخُوذًا بِالِاسْتِخْرَاجِ ،
فَكَانَ الْخَطُّ حَافِظًا لَهُ وَمُعَبِّرًا عَنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى : {
أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } قَالَ : يَعْنِي الْخَطَّ .
وَرُوِيَ
عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ
} يَعْنِي الْخَطَّ { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا
كَثِيرًا } يَعْنِي الْخَطَّ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : الْخَطُّ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ ، وَحُسْنُهُ
أَحَدُ الْفَصَاحَتَيْنِ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى : الْخَطُّ سَمْطُ الْحِكْمَةِ بِهِ
يُفْصَلُ شُذُورُهَا ، وَيُنَظَّمُ مَنْثُورُهَا .
وَقَالَ
ابْنُ الْمُقَفَّعِ : اللِّسَانُ مَقْصُورٌ عَلَى الْقَرِيبِ الْحَاضِرِ
وَالْقَلَمُ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَهُوَ لِلْغَابِرِ الْكَائِنِ
مِثْلُهُ لِلْقَائِمِ الدَّائِمِ .
وَقَالَ حَكِيمُ الرُّومِ : الْخَطُّ هَنْدَسَةٌ رُوحَانِيَّةٌ ، وَإِنْ
ظَهَرَتْ بِآلَةٍ جُسْمَانِيَّةٍ .
وَقَالَ حَكِيمُ الْعَرَبِ : الْخَطُّ أَصْلٌ فِي الرُّوحِ وَإِنْ ظَهَرَ
بِحَوَاسِّ الْجَسَدِ .
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى Empty رد: كتاب ادب الدنيا والدين الجزء الثانى {الجمعة 3 يونيو - 22:42}


وَاخْتُلِفَ
فِي أَوَّلِ مَنْ كَتَبَ الْخَطَّ فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّ
أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ سَائِرَ الْكُتُبِ
قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فِي طِينٍ ثُمَّ طَبَخَهُ
فَلَمَّا غَرِقَتْ الْأَرْضُ فِي أَيَّامِ نُوحٍ - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ فَأَصَابَ كُلُّ قَوْمٍ
كِتَابَهُمْ .
وَبَقِيَ الْكِتَابُ الْعَرَبِيُّ إلَى أَنْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ
إسْمَاعِيلَ فَأَصَابَهُ وَتَعَلَّمَهَا .
وَحَكَى
ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ إدْرِيسُ - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَتْ الْعَرَبُ تُعَظِّمُ قَدْرَ الْخَطِّ
وَتَعُدُّهُ مِنْ أَجَلِّ نَافِعٍ حَتَّى قَالَ عِكْرِمَةُ : بَلَغَ
فِدَاءُ أَهْلِ بَدْرٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ
لِيُفَادَى عَلَى أَنَّهُ يُعَلِّمُ الْخَطَّ ، لِمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ
فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ عِظَمِ خَطَرِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَظُهُورِ
نَفْعِهِ وَأَثَرِهِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اقْرَأْ وَرَبُّك الْأَكْرَمُ
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } .
فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ ،
وَأَعَدَّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الْعِظَامِ ، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجِسَامِ
، حَتَّى أَقْسَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : {
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } .
فَأَقْسَمَ بِالْقَلَمِ وَمَا يُخَطُّ بِالْقَلَمِ .



وَاخْتُلِفَ
فِي أَوَّلِ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ
أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِهِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ وَجَدَهَا
بَعْدَ الطُّوفَانِ إسْمَاعِيلُ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ
- وَحَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ
كَتَبَ بِهَا وَوَضَعَهَا إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى لَفْظِهِ
وَمَنْطِقِهِ .
وَحَكَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ الْأَوَائِلِ
أَسْمَاؤُهُمْ أَبْجَدُ ، وَهَوَّزُ ، وَحُطِّي ، وَكَلَمُنْ ، وَسَعْفَص
، وَقَرْشَت ، وَكَانُوا مُلُوكَ مَدْيَنَ .
وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ
فِي الْمَعَارِفِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيِّ مُرَامِرُ
بْنُ مُرَّةَ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ وَمِنْ الْأَنْبَارِ انْتَشَرَتْ .
وَحَكَى
الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِهَا مُرَامِرُ بْنُ مُرَّةَ
، وَأَسْلَمُ بْنُ سَدْرَةَ وَعَامِرُ بْنُ حَدْرَةَ .
فَمُرَامِرُ وَضَعَ الصُّوَرَ ، ، وَأَسْلَمُ فَصَّلَ وَوَصَلَ ،
وَعَامِرٌ وَضَعَ الْإِعْجَامَ .



وَلَمَّا
كَانَ الْخَطُّ بِهَذَا الْحَالِ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَ
الْعِلْمِ أَنْ يَعْبَأَ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدِهِمَا : تَقْوِيمُ
الْحُرُوفِ عَلَى أَشْكَالِهَا الْمَوْضُوعَةِ لَهَا .
وَالثَّانِي : ضَبْطُ مَا اشْتَبَهَ مِنْهَا بِالنُّقَطِ وَالْأَشْكَالِ
الْمُمَيَّزَةِ لَهَا .
ثُمَّ
مَا زَادَ عَلَى هَذَيْنِ مِنْ تَحْسِينِ الْخَطِّ وَمَلَاحَةِ نَظْمِهِ
فَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ حَذِقٍ بِصَنْعَتِهِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي
صِحَّتِهِ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدَةَ : حُسْنُ الْخَطِّ لِسَانُ الْيَدِ
وَبَهْجَةُ الضَّمِيرِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ : رَدَاءَةُ الْخَطِّ زَمَانَةُ
الْأَدَبِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : الْبَيَانُ فِي اللِّسَانِ وَالْخَطُّ فِي
الْبَنَانِ .
وَأَنْشَدَنِي
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَحَدِ شُعَرَاءِ الْبَصْرَةِ : اُعْذُرْ
أَخَاك عَلَى نَذَالَةِ خَطِّهِ وَاغْفِرْ نَذَالَتَهُ لِجَوْدَةِ
ضَبْطِهِ فَإِذَا أَبَانَ عَنْ الْمَعَانِي لَمْ يَكُنْ تَحْسِينُهُ إلَّا
زِيَادَةَ شَرْطِهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْخَطَّ لَيْسَ يُرَادُ مِنْ
تَرْكِيبِهِ إلَّا تَبَيُّنُ سِمْطِهِ وَمَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى الْخَطِّ
الْمَفْهُومِ مِنْ تَصْحِيحِ الْحُرُوفِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ مَحَلُّ مَا
زَادَ عَلَى الْكَلَامِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَصَاحَةِ الْأَلْفَاظِ
وَصِحَّةِ الْإِعْرَابِ .
وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْعَرَبُ : حُسْنُ الْخَطِّ أَحَدُ الْفَصَاحَتَيْنِ .
وَكَمَا
أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ مَنْ أَرَادَ التَّقَدُّمَ فِي الْكَلَامِ أَنْ
يَطْرَحَ الْفَصَاحَةَ وَالْإِعْرَابَ وَإِنْ فَهِمَ ، وَأَفْهَمَ .
كَذَلِكَ
لَا يُعْذَرُ مَنْ أَرَادَ التَّقَدُّمَ فِي الْخَطِّ أَنْ يَطْرَحَ
تَصْحِيحَ الْحُرُوفِ وَتَحْسِينَ الصُّورَةِ ، وَإِنْ فَهِمَ ،
وَأَفْهَمَ .
وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ بِالْخَطِّ مَنْ كَانَ الْخَطُّ
مِنْ جُلِّ فَضَائِلِهِ ، وَأَشْرَفِ خَصَائِلِهِ ، حَتَّى صَارَ عَالِمًا
مَشْهُورًا ، وَسَيِّدًا مَذْكُورًا .
غَيْرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ
أَطْرَحُوا صَرْفَ الْهِمَّةِ إلَى تَحْسِينِ الْخَطِّ ؛ لِأَنَّهُ
يَشْغَلُهُمْ عَنْ الْعِلْمِ وَيَقْطَعُهُمْ عَنْ التَّوَفُّرِ عَلَيْهِ .
وَلِذَلِكَ تَجِدُ خُطُوطَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَغْلَبِ رَدِيئَةً لَا
يَخُطُّ إلَّا مَنْ أَسْعَدَهُ



الْقَضَاءُ .
وَقَدْ
قَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ : مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ
رَدِيءَ الْخَطِّ ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي يُفْنِيهِ بِالْكِتَابَةِ
يَشْغَلُهُ بِالْحِفْظِ وَالنَّظَرِ .
وَلَيْسَتْ رَدَاءَةُ الْخَطِّ هِيَ السَّعَادَةَ ، وَإِنَّمَا
السَّعَادَةُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ صَارِفٌ عَنْ الْعِلْمِ .
وَعَادَةُ
ذِي الْخَطِّ الْحَسَنِ أَنْ يَتَشَاغَلَ بِتَحْسِينِ خَطِّهِ عَنْ
الْعِلْمِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ بِرَدَاءَةِ خَطِّهِ سَعِيدًا ،
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَدَاءَةُ الْخَطِّ سَعَادَةً .



وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَعْرِضُ لِلْخَطِّ أَسْبَابٌ تَمْنَعُ مِنْ
قِرَاءَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ كَمَا يَعْرِضُ لِلْكَلَامِ أَسْبَابٌ
تَمْنَعُ مِنْ فَهْمِهِ وَصِحَّتِهِ .
وَالْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ
مِنْ قِرَاءَةِ الْخَطِّ وَفَهْمِ مَا تَضَمَّنَهُ قَدْ تَكُونُ مِنْ
ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : إسْقَاطُهُ أَلْفَاظٍ مِنْ أَثْنَاءِ
الْكَلَامِ يَصِيرُ الْبَاقِي بِهَا مَبْتُورًا لَا يُعْرَفُ
اسْتِخْرَاجُهُ ، وَلَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ .
وَهَذَا يَكُونُ إمَّا مِنْ سَهْوِ الْكَاتِبِ أَوْ مِنْ فَسَادِ نَقْلِهِ
.
وَهَذَا
يَسْهُلُ اسْتِنْبَاطُهُ عَلَى مَنْ كَانَ مُرْتَاضًا بِذَلِكَ النَّوْعِ
فَيَسْتَدِلُّ بِحَوَاشِي الْكَلَامِ وَمَا سَلِمَ مِنْهُ عَلَى مَا
سَقَطَ أَوْ فَسَدَ ، لَا سِيَّمَا إذَا قَلَّ ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ
تَسْتَدْعِي مَا يَلِيهَا وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى تُوَضِّحُ عَنْ
الْكَلَامِ الْمُتَرْجِمِ عَنْهُ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ قَلِيلَ
الِارْتِيَاضِ بِذَلِكَ النَّوْعِ فَإِنَّهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ
اسْتِنْبَاطُ الْمَعْنَى مِنْهُ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ كَثِيرًا ؛
لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي إلَى الْفِكْرَةِ
وَالرَّوِيَّةِ فِيمَا قَدْ اسْتَخْرَجَهُ بِالْكِتَابَةِ .
فَإِذَا
هُوَ لَمْ يَعْرِفْ تَمَامَ الْكَلَامِ الْمُتَرْجِمِ عَنْ الْمَعْنَى
قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ إدْرَاكِهِ وَضَلَّ فِكْرُهُ عَنْ اسْتِنْبَاطِهِ .
وَالْوَجْهُ
الثَّانِي : زِيَادَةُ أَلْفَاظٍ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ يَشْكُلُ بِهَا
مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ غَيْرِ الزَّائِدِ مِنْ مَعْرِفَةِ السَّقِيمِ
الزَّائِدِ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مُشْكَلًا .
وَهَذَا لَا يَكَادُ
يُوجَدُ كَثِيرًا إلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْكَاتِبُ تَعْمِيَةَ كَلَامِهِ
فَيُدْخِلُ فِي أَثْنَائِهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ فَهْمِهِ ، فَيَصِيرُ
ذَلِكَ رَمْزًا يُعْرَفُ بِالْمُوَاضَعَةِ .
فَأَمَّا وُقُوعُهُ
سَهْوًا فَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَتَيْنِ وَذَلِكَ لَا
يَمْنَعُ مِنْ فَهْمِهِ عَلَى الْمُرْتَاضِ وَغَيْرِهِ .
وَالْوَجْهُ
الثَّالِثُ : إسْقَاطُ حُرُوفٍ مِنْ أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ يَمْنَعُ مِنْ
اسْتِخْرَاجِهَا عَلَى الصِّحَّةِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا تَارَةً مِنْ
السَّهْوِ فَيَقِلُّ ، وَتَارَةً مِنْ ضَعْفِ الْهِجَاءِ



فَيَكْثُرُ .
وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : زِيَادَةُ حُرُوفٍ فِي أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ
يَشْكُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْ حُرُوفِهَا .
وَهَذَا
يَكُونُ تَارَةً مِنْ سَهْوِ الْكَاتِبِ فَيَقِلُّ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ
اسْتِخْرَاجِ الصَّحِيحِ ، وَيَكُونُ تَارَةً لِتَعْمِيَةٍ وَمُوَاضَعَةٍ
يَقْصِدُ بِهَا الْكَاتِبُ إخْفَاءَ غَرَضِهِ فَيَكْثُرُ كَالتَّرَاجِمِ .
وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي .
وَالْوَجْهُ
الْخَامِسُ : وَصْلُ الْحُرُوفِ الْمَفْصُولَةِ وَفَصْلُ الْحُرُوفِ
الْمَوْصُولَةِ ، فَيَدْعُو ذَلِكَ إلَى الْإِشْكَالِ ؛ لِأَنَّ
الْكَلِمَةَ يُنَبِّهُ عَلَيْهَا وَصْلُ حُرُوفِهَا وَيَمْنَعُ فَصْلُهَا
مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا .
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ سَهْوٍ قَلَّ
فَسَهُلَ اسْتِخْرَاجُهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَةٍ
بِالْخَطِّ أَوْ مَشْقًا تَشْبَقُ بِهِ الْيَدُ كَثِيرًا فَصَعُبَ
اسْتِخْرَاجُهُ إلَّا عَلَى الْمُرْتَاضِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : شَرُّ الْكِتَابَةِ الشَّبَقُ
كَمَا أَنَّ شَرَّ الْقِرَاءَةِ الْهَذْرَمَةُ .
وَإِنْ كَانَ لِلتَّعْمِيَةِ وَالرَّمْزِ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا
بِالْمُوَاضَعَةِ .
وَالْوَجْهُ
السَّادِسُ : تَغْيِيرُ الْحُرُوفِ عَنْ أَشْكَالِهَا وَإِبْدَالِهَا
بِأَغْيَارِهَا حَتَّى يَكْتُبَ الْحَاءَ عَلَى شَكْلِ الْبَاءِ ،
وَالصَّادَ عَلَى شَكْلِ الرَّاءِ .
وَهَذَا يَكُونُ فِي رُمُوزِ
التَّرَاجِمِ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْمُوَاضَعَةِ إلَّا لِمَنْ
قَدْ زَادَ فِيهِ الذَّكَاءُ فَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَعْنَى .
وَالْوَجْهُ
السَّابِعُ : ضَعْفُ الْخَطِّ عَنْ تَقْوِيمِ الْحُرُوفِ عَلَى
الْأَشْكَالِ الصَّحِيحَةِ وَإِثْبَاتِهَا عَلَى الْأَوْصَافِ
الْحَقِيقِيَّةِ حَتَّى لَا تَكَادَ الْحُرُوفُ تَمْتَازُ عَنْ
أَغْيَارِهَا حَتَّى تَصِيرَ الْعَيْنُ الْمَوْصُولَةُ كَالْفَاءِ
وَالْمَفْصُولَةُ كَالْحَاءِ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ رَدَاءَةِ
الْخَطِّ وَضَعْفِ الْيَدِ ، وَاسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ مُمْكِنٌ بِفَضْلِ
الْمُعَانَاةِ وَشِدَّةِ التَّأَمُّلِ ، وَرُبَّمَا أَضْجَرَ قَارِئَهُ ،
وَأَوْهَى مَعَانِيَهُ ، وَلِذَلِكَ



قِيلَ : إنَّ الْخَطَّ الْحَسَنَ لَيَزِيدُ الْحَقَّ
وُضُوحًا .
وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ : إغْفَالُ النُّقَطِ وَالْأَشْكَالِ الَّتِي
تَتَمَيَّزُ بِهَا الْحُرُوفُ الْمُشْتَبِهَةُ .
وَهَذَا
أَيْسَرُ أَمْرًا ، وَأَخَفُّ حَالًا ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُمَيَّزًا
بِصِحَّةِ الِاسْتِخْرَاجِ وَمَعْرِفَةِ الْخَطِّ لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ
مَعْرِفَةُ الْخَطِّ وَفَهْمُ مَا تَضَمَّنَهُ مَعَ إغْفَالِ النُّقَطِ
وَالْأَشْكَالِ ، بَلْ اسْتَقْبَحَ الْكُتَّابُ ذَلِكَ فِي
الْمُكَاتَبَاتِ وَرَأَوْهُ مِنْ تَقْصِيرِ الْكَاتِبِ أَوْ سُوءِ ظَنِّهِ
بِفَهْمِ الْمُكَاتَبِ ، وَإِنْ كَانَ اسْتِقْبَاحُهُمْ لَهُ فِي
مُكَاتَبَةِ الرُّؤَسَاءِ أَكْثَرَ .
حَكَى قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرٍ
أَنَّ بَعْضَ كُتَّابِ الدَّوَاوِينِ حَاسَبَ عَامِلًا فَشَكَا الْعَامِلُ
مِنْهُ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَكَتَبَ رُقْعَةً
يَذْكُرُ فِيهَا احْتِجَاجًا لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ ، وَوُضُوحِ شَكْوَاهُ .
فَوَقَعَ
فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ هَذَا ، هَذَا ، فَأَخَذَهَا
الْعَامِلُ وَقَرَأَهَا فَظَنَّ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ أَرَادَ بِهَذَا
هَذَا إثْبَاتًا لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ وَصِدْقِ قَوْلِهِ ، كَمَا يُقَالُ
فِي إثْبَاتِ الشَّيْءِ هُوَ هُوَ ، فَحَمَلَ الرُّقْعَةَ إلَى كَاتِبِ
الدِّيوَانِ ، وَأَرَاهُ خَطَّ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ : إنَّ
عُبَيْدَ اللَّهِ قَدْ صَدَّقَ قَوْلِي ، وَصَحَّحَ مَا ذَكَرْتُ .
فَخَفِيَ عَلَى الْكَاتِبِ ذَلِكَ ، وَأُطِيفَ بِهِ عَلَى كُتَّابِ
الدَّوَاوِينِ فَلَمْ يَقِفُوا عَلَى مُرَادِ عُبَيْدِ اللَّهِ .
وَرُدَّ
إلَيْهِ لِيُسْأَلَ عَنْ مُرَادِهِ بِهِ فَشَدَّدَ عُبَيْدُ اللَّهِ
الْكَلِمَةَ الثَّانِيَةَ وَكَتَبَ تَحْتَهَا وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
اسْتِعْظَامًا مِنْهُ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي اسْتِخْرَاجِ مُرَادِهِ حَتَّى
احْتَاجَ إلَى إبَانَتِهِ بِالشَّكْلِ .
فَهَذِهِ حَالُ الْكُتَّابِ فِي اسْتِقْبَاحِهِمْ إعْجَامِ
الْمُكَاتَبَاتِ بِالنُّقَطِ وَالْأَشْكَالِ .
فَأَمَّا
غَيْرُ الْمُكَاتَبَاتِ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ فَلَمْ يَرَوْهُ قَبِيحًا
بَلْ اسْتَحْسَنُوهُ لَا سِيَّمَا فِي كُتُبِ الْأَدَبِ الَّتِي يُقْصَدُ
بِهَا مَعْرِفَةُ صِيغَةِ الْأَلْفَاظِ وَكَيْفِيَّةِ مَخَارِجِهَا مِثْلِ
كُتُبِ



النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ الْغَرِيبِ
فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى ضَبْطِهَا بِالشَّكْلِ وَالْإِعْجَامِ أَكْثَرُ ،
وَهِيَ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْعُلُومِ أَيْسَرُ .
وَقَدْ قَالَ النُّورِيُّ : الْخُطُوطُ الْمُعْجَمَةُ كَالْبُرُودِ
الْمُعَلَّمَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إعْجَامُ الْخَطِّ يَمْنَعُ مِنْ
اسْتِعْجَامِهِ ، وَشَكْلُهُ يُؤَمِّنُ مِنْ إشْكَالِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : رُبَّ عِلْمٍ لَمْ تُعْجَمْ فُصُولُهُ
فَاسْتُعْجِمَ مَحْصُولُهُ .
وَكَمَا
اسْتَقْبَحَ الْكُتَّابُ الشَّكْلَ وَالْإِعْجَامَ فِي الْمُكَاتَبَاتِ ،
وَإِنْ كَانَ فِي كُتُبِ الْعُلُومِ مُسْتَحْسَنًا ، فَكَذَلِكَ
اسْتَحْسَنُوا مَشْقَ الْخَطِّ فِي الْمُكَاتَبَاتِ وَإِنْ كَانَ فِي
كُتُبِ الْعُلُومِ مُسْتَقْبَحًا .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لِفَرْطِ
إدْلَالِهِمْ فِي الصَّنْعَةِ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْكِتَابَةِ
يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى التَّلْوِيحِ ،
وَيَرَوْنَ الْحَاجَةَ إلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الْإِبَانَةِ تَقْصِيرًا
وَلِفَصْلِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ التَّقَدُّمِ بِهَذَا الْحَالِ
رَأَوْا مَا نُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ سَوَادِ الْمِدَادِ أَثَرًا جَمِيلًا ،
وَعَلَى الْفَضْلِ وَالتَّخْصِيصِ دَلِيلًا .
حُكِيَ أَنَّ عُبَيْدَ
اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ رَأَى عَلَى بَعْضِ ثِيَابِهِ أَثَرَ صُفْرَةٍ
فَأَخَذَ مِنْ مِدَادِ الدَّوَاةِ فَطَلَاهُ بِهِ ثُمَّ قَالَ :
الْمِدَادُ بِنَا أَحْسَنُ مِنْ الزَّعْفَرَانِ ، وَأَنْشَدَ : إنَّمَا
الزَّعْفَرَانُ عِطْرُ الْعَذَارَى وَمِدَادُ الدُّوِيِّ عِطْرُ
الرِّجَالِ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ فِي الْإِبَانَةِ عَلَى
الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِ الْكَلَامِ وَمَعْرِفَةِ
مَعَانِيهِ لَفْظًا كَانَ أَوْ خَطًّا ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ .



فَيَنْبَغِي
لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ عَنْ
فَهْمِ الْمَعْنَى لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ ، ثُمَّ
يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَائِسًا لِنَفْسِهِ مُدَبِّرًا لَهَا فِي
حَالِ تَعَلُّمِهِ .
فَإِنَّ لِلنَّفْسِ نُفُورًا يُفْضِي إلَى
تَقْصِيرٍ وَوُفُورًا يَئُولُ إلَى سَرَفٍ وَقِيَادُهَا عَسِرٌ وَلَهَا
أَحْوَالٌ ثَلَاثٌ : فَحَالُ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ ، وَحَالُ غُلُوٍّ
وَإِسْرَافٍ ، وَحَالُ تَقْصِيرٍ وَإِجْحَافٍ .
فَأَمَّا حَالُ
الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فَهِيَ أَنْ تَخْتَلِفَ قُوَى النَّفْسِ مِنْ
جِهَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ : طَاعَةٌ مُسْعِدَةٌ وَشَفَقَةٌ كَافَّةٌ .
فَطَاعَتُهَا تَمْنَعُ التَّقْصِيرَ ، وَشَفَقَتُهَا تَرُدُّ عَنْ
السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ .
وَهَذِهِ أَحْمَدُ الْأَحْوَالِ ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ التَّقْصِيرِ
نَمَا ، وَمَا صُدَّ عَنْ السَّرَفِ مُسْتَدِيمٌ .
وَالنُّمُوُّ إذَا اسْتَدَامَ فَأَخْلِقْ بِهِ أَنْ يُسْتَكْمَلَ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكَ وَمُفَارَقَةَ الِاعْتِدَالِ ، فَإِنَّ
الْمُسْرِفَ مِثْلُ الْمُقَصِّرِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْحَدِّ .
وَأَمَّا
حَالُ الْغُلُوِّ وَالْإِسْرَافِ فَهِيَ أَنْ تَخْتَصَّ النَّفْسُ بِقُوَى
الطَّاعَةِ وَتُقَدِّمَ قَوَّى الشَّفَقَةِ فَيَبْعَثَهَا اخْتِصَاصُ
الطَّاعَةِ عَلَى إفْرَاغِ الْجُهْدِ ، وَيُفْضِي إفْرَاغُ الْجُهْدِ إلَى
عَجْزِ الْكَلَالِ ، فَيُؤَدِّي عَجْزُ الْكَلَالِ إلَى التَّرْكِ
وَالْإِهْمَالِ ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ نُقْصَانًا ، وَالرِّبْحُ
خُسْرَانًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : طَالِبُ الْعِلْمِ
وَعَامِلُ الْبِرِّ كَآكِلِ الطَّعَامِ إنْ أَخَذَ مِنْهُ قُوتًا عَصَمَهُ
، وَإِنْ أَسْرَفَ فِيهِ أَبْشَمَهُ .
وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ
مَنِيَّتُهُ كَأَخْذِ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي فِيهَا شِفَاءٌ وَمُجَاوَزَةُ
الْقَصْدِ فِيهَا السُّمُّ الْمُمِيتُ ، وَأَمَّا حَالُ التَّقْصِيرِ
وَالْإِجْحَافِ فَهِيَ أَنْ تَخْتَصَّ النَّفْسُ بِقُوَى الشَّفَقَةِ
وَتَعْدَمَ قُوَى الطَّاعَةِ فَيَدْعُوهَا الْإِشْفَاقُ إلَى
الْمَعْصِيَةِ ، وَتَمْنَعُهَا الْمَعْصِيَةُ مِنْ الْإِجَابَةِ فَلَا
تَطْلُبُ شَارِدًا ، وَلَا تَقْبَلُ عَائِدًا ، وَلَا تَحْفَظُ
مُسْتَوْدَعًا .
وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ



الشَّارِدَ ، وَيَقْبَلْ الْعَائِدَ ، وَيَحْفَظْ
الْمُسْتَوْدَعَ فَقَدَ الْمَوْجُودَ ، وَلَمْ يَجِدْ الْمَفْقُودَ .
وَمَنْ فَقَدَ مَا وَجَدَ فَهُوَ مُصَابٌ مَحْزُونٌ ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ
مَا فَقَدَ فَهُوَ خَائِبٌ مَغْبُونٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَجْزُ مَعَ الْوَانِي ،
وَالْفَوْتُ مَعَ التَّوَانِي .
وَقَدْ
يَكُونُ لِلنَّفْسِ مَعَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ حَالَتَانِ
مُشْتَرَكَتَانِ بِغَلَبَةِ إحْدَى الْقُوَّتَيْنِ ، فَيَكُونُ لِلنَّفْسِ
طَاعَةٌ وَإِشْفَاقٌ ، وَأَحَدُهُمَا أَغْلَبُ مِنْ الْآخَرِ .
فَإِنْ
كَانَتْ الطَّاعَةُ أَغْلَبَ كَانَتْ إلَى الْوُفُورِ أَمْيَلَ ، وَإِنْ
كَانَ الْإِشْفَاقُ أَغْلَبَ كَانَتْ إلَى التَّقْصِيرِ أَقْرَبَ .
فَإِذَا
عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ قَدْرَ طَاعَتِهَا ، وَخَبَرَ مِنْهَا كُنْهَ
إشْفَاقِهَا رَاضَ نَفْسَهُ لِتَثْبُتَ عَلَى أَحَدِ حَالَاتِهَا .
وَقَدْ
أَشَارَ إلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ النَّفْسِ الْفَرَزْدَقُ فِي
قَوْلِهِ : لِكُلِّ امْرِئٍ نَفْسَانِ نَفْسٌ كَرِيمَةٌ وَأُخْرَى
يُعَاصِيهَا الْفَتَى وَيُطِيعُهَا وَنَفْسُك مِنْ نَفْسَيْك تَشْفَعُ
لِلنَّدَى إذَا قَلَّ مِنْ إحْرَازِهِنَّ شَفِيعُهَا وَإِنْ أَهْمَلَ
سِيَاسَتَهَا ، فَأَغْفَلَ رِيَاضَتَهَا ، وَرَامَ أَنْ يَأْخُذَهَا
بِالْعُنْفِ ، وَيَقْهَرَهَا بِالْعَسْفِ ، اسْتَشَاطَتْ نَافِرَةً
وَلَحَّتْ مُعَانِدَةً فَلَمْ تَنْقَدْ إلَى طَاعَةٍ وَلَمْ تَنْكَفَّ
عَنْ مَعْصِيَةٍ وَقَالَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ : إذَا زَجَرْت لَجُوجًا
زِدْته عَلَقًا وَلَجَّتْ النَّفْسُ مِنْهُ فِي تَمَادِيهَا فَعُدْ
عَلَيْهِ إذَا مَا نَفْسُهُ جَنَحَتْ بِاللِّينِ مِنْك فَإِنَّ اللِّينَ
يُثْنِيهَا فَإِذَا اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ قِيَادُ نَفْسِهِ وَدَامَ مِنْهُ
نُفُورُ قَلْبِهِ مَعَ سِيَاسَتِهَا ، وَمُعَانَاةِ رِيَاضَتِهَا ،
تَرَكَهَا تَرْكَ رَاحَةٍ ، ثُمَّ عَاوَدَهَا بَعْدَ الِاسْتِرَاحَةِ ،
فَإِنَّ إجَابَتَهَا تُسْرِعُ ، وَطَاعَتُهَا تَرْجِعُ .
وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
إنَّ الْقَلْبَ يَمُوتُ وَيَحْيَى وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لِلْقُلُوبِ شَهْوَةٌ وَإِقْبَالٌ وَفَتْرَةٌ
وَإِدْبَارٌ فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَلَا
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى