رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
عَدَاوَتَهُ مَنْ يَزْرَعْ الشَّوْكَ لَا
يَحْصُدْ بِهِ عِنَبًا إنَّ الْعَدُوَّ وَإِنْ أَبْدَى مُسَالَمَةً إذَا
رَأَى مِنْك يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّى
الْإِفْرَاطَ فِي مَحَبَّتِهِ ، فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ دَاعٍ إلَى
التَّقْصِيرِ .
وَلَئِنْ تَكُونَ الْحَالُ بَيْنَهُمَا نَامِيَةً أَوْلَى مِنْ أَنْ
تَكُونَ مُتَنَاهِيَةً .
وَقَدْ
رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَحْبِبْ حَبِيبَك هَوْنًا مَا ،
عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَك يَوْمًا مَا ، وَأَبْغِضْ بَغِيضَك هَوْنًا
مَا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَك يَوْمًا مَا } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَكُنْ
حُبُّك كَلَفًا ، وَلَا بُغْضُك تَلَفًا .
وَقَالَ
أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ : وَكُنْ مَعْدِنًا لِلْخَيْرِ وَاصْفَحْ
عَنْ الْأَذَى فَإِنَّك رَاءٍ مَا عَلِمْت وَسَامِعُ وَأَحْبِبْ إذَا
أَحْبَبْت حُبًّا مُقَارِبًا فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ نَازِعُ
وَأَبْغِضْ إذَا أَبْغَضْت غَيْرَ مُبَايِنٍ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَتَى
أَنْتَ رَاجِعُ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ : لَا تَأْمَنَنَّ مِنْ
مُبْغِضٍ قُرْبَ دَارِهِ وَلَا مِنْ مُحِبٍّ أَنْ يَمَلَّ فَيَبْعُدَا
وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ حَقِّ الْإِخَاءِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي
النُّصْحِ ، وَالتَّنَاهِي فِي رِعَايَةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْحَقِّ ،
فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إفْرَاطٌ وَإِنْ تَنَاهَى ، وَلَا مُجَاوَزَةُ حَدٍّ
وَإِنْ كَثُرَ وَأَوْفَى ، فَتَسْتَوِي حَالَتَاهُمَا فِي الْمَغِيبِ
وَالْمَشْهَدِ وَلَا يَكُونُ مَغِيبُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ مَشْهَدِهِمَا
وَأَوْلَى ، فَإِنَّ فَضْلَ الْمَشْهَدِ عَلَى الْمَغِيبِ لُؤْمٌ ،
وَفَضْلَ الْمَغِيبِ عَلَى الْمَشْهَدِ كَرْمٌ ، وَاسْتِوَاؤُهُمَا
حِفَاظٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : عَلَيَّ لِإِخْوَانِي رَقِيبٌ
مِنْ الصَّفَا تَبِيدُ اللَّيَالِي وَهُوَ لَيْسَ يَبِيدُ
يُذَكِّرُنِيهِمْ فِي مَغِيبِي وَمَشْهَدِي فَسِيَّانِ مِنْهُمْ غَائِبٌ
وَشَهِيدُ وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَخِي أَنْ أَبِرَّهُ قَرِيبًا وَأَنْ
أَجْفُوَهُ وَهُوَ بَعِيدُ وَهَكَذَا يَقْصِدُ التَّوَسُّطَ فِي
زِيَارَتِهِ وَغَشَيَانِهِ ، غَيْرَ مُقَلِّلٍ وَلَا
مُكْثِرٍ .
فَإِنَّ تَقْلِيلَ الزِّيَارَةِ دَاعِيَةُ الْهِجْرَانِ ، وَكَثْرَتَهَا
سَبَبُ الْمَلَالِ .
وَقَدْ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { يَا أَبَا هُرَيْرَةَ زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ
حُبًّا } .
وَقَالَ لَبِيدٌ : تَوَقَّفْ عَنْ زِيَارَةِ كُلِّ يَوْمٍ
إذَا أَكْثَرْت مَلَّكَ مَنْ تَزُورُ وَقَالَ آخَرُ : أَقْلِلْ زِيَارَتَك
الصَّدِيقَ وَلَا تُطِلْ هِجْرَانَهُ فَيَلِجَّ فِي هِجْرَانِهِ إنَّ
الصَّدِيقَ يَلِجُّ فِي غَشَيَانِهِ لِصَدِيقِهِ فَيَمَلُّ مِنْ
غَشَيَانِهِ حَتَّى يَرَاهُ بَعْدَ طُولِ سُرُورِهِ بِمَكَانِهِ
مُتَثَاقِلًا بِمَكَانِهِ وَإِذَا تَوَانَى عَنْ صِيَانَةِ نَفْسِهِ
رَجُلٌ تُنُقِّصَ وَاسْتُخِفَّ بِشَانِهِ وَبِحَسَبِ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ
فِي عِتَابِهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْعِتَابِ سَبَبٌ لِلْقَطِيعَةِ
وَإِطْرَاحَ جَمِيعِهِ دَلِيلٌ عَلَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِأَمْرِ
الصَّدِيقِ .
وَقَدْ قِيلَ : عِلَّةُ الْمُعَادَاةِ قِلَّةُ الْمُبَالَاةِ .
بَلْ
تُتَوَسَّطُ حَالَتَا تَرْكِهِ وَعِتَابِهِ فَيُسَامِحُ بِالْمُتَارَكَةِ
وَيُسْتَصْلَحُ بِالْمُعَاتَبَةِ ، فَإِنَّ الْمُسَامَحَةَ
وَالِاسْتِصْلَاحَ إذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَلْبَثْ مَعَهُمَا نُفُورٌ ،
وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمَا وَجْدٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا تُكْثِرَنَّ مُعَاتَبَةَ
إخْوَانِك ، فَيَهُونَ عَلَيْهِمْ سَخَطُك .
وَقَالَ
مَنْصُورٌ النَّمَرِيُّ : أَقْلِلْ عِتَابَ مَنْ اسْتَرَبْت بِوُدِّهِ
لَيْسَتْ تُنَالُ مَوَدَّةٌ بِعِتَابِ وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ :
إذَا كُنْت فِي كُلِّ الْأُمُورِ مُعَاتِبًا صَدِيقَك لَمْ تَلْقَ الَّذِي
لَا تُعَاتِبُهْ وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَارًا عَلَى الْقَذَى
ظَمِئْتَ وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُهْ فَعِشْ وَاحِدًا أَوْ صِلْ
أَخَاك فَإِنَّهُ مُقَارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً وَمُجَانِبُهْ ثُمَّ إنَّ مِنْ
حَقِّ الْإِخْوَانِ أَنْ تَغْفِرَ هَفْوَتَهُمْ ، وَتَسْتُرَ زَلَّتَهُمْ
؛ لِأَنَّ مَنْ رَامَ بَرِيئًا مِنْ الْهَفَوَاتِ ، سَلِيمًا مِنْ
الزَّلَّاتِ ، رَامَ أَمْرًا مُعْوِزًا ، وَاقْتَرَحَ وَصْفًا مُعْجِزًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : أَيُّ عَالِمٍ لَا يَهْفُو ، وَأَيُّ
صَارِمٍ لَا يَنْبُو ، وَأَيُّ جَوَادٍ لَا
يَكْبُو .
وَقَالُوا
: مَنْ حَاوَلَ صَدِيقًا يَأْمَنُ زَلَّتَهُ وَيَدُومُ اغْتِبَاطُهُ بِهِ
، كَانَ كَضَالِّ الطَّرِيقِ الَّذِي لَا يَزْدَادُ لِنَفْسِهِ إتْعَابًا
إلَّا ازْدَادَ مِنْ غَايَتِهِ بُعْدًا .
وَقِيلَ لِخَالِدِ بْنِ
صَفْوَانَ : أَيُّ إخْوَانِك أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : مَنْ غَفَرَ
زَلَلِي ، وَقَطَعَ عِلَلِي ، وَبَلَّغَنِي أَمَلِي .
وَقَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ : مَا كِدْتُ أَفْحَصُ عَنْ أَخِي ثِقَةٍ إلَّا نَدِمْتُ
عَوَاقِبَ الْفَحْصِ وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : أُحِبُّ مِنْ الْإِخْوَانِ كُلَّ مَوَاتِي وَكُلَّ
غَضِيضِ الطَّرْفِ عَنْ عَثَرَاتِي يُوَافِقُنِي فِي كُلِّ أَمْرٍ
أُرِيدُهُ وَيَحْفَظُنِي حَيًّا وَبَعْدَ وَفَاتِي فَمَنْ لِي بِهَذَا
لَيْتَ أَنِّي أَصَبْته فَقَاسَمْته مَا لِي مِنْ الْحَسَنَاتِ تَصَفَّحْت
إخْوَانِي وَكَانَ أَقَلُّهُمْ عَلَى كَثْرَةِ الْإِخْوَانِ أَهْلَ
ثِقَاتِي وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَسْتَقْلِلْ الْأَمْرَ
لَمْ تَجِدْ بِكَفَّيْك فِي إدْبَارِهِ مُتَعَلِّقَا إذَا أَنْتَ لَمْ
تَتْرُكْ أَخَاك وَزَلَّةً إذَا زَلَّهَا أَوْشَكْتُمَا أَنْ تَفَرَّقَا
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ أَنَّهُ قَالَ : تَنَاسَ
مَسَاوِئَ الْإِخْوَانِ يَدُمْ لَك وُدُّهُمْ .
وَوَصَّى بَعْضُ
الْأُدَبَاءِ أَخًا لَهُ فَقَالَ : كُنْ لِلْوُدِّ حَافِظًا وَإِنْ لَمْ
تَجِدْ مُحَافِظًا ، وَلِلْخَلِّ وَاصِلًا وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مُوَاصِلًا .
وَقَالَ
رَجُلٌ مِنْ إيَادٍ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ : إذَا لَمْ تَجَاوَزْ
عَنْ أَخٍ عِنْدَ زَلَّةٍ فَلَسْت غَدًا عَنْ عَثْرَتِي مُتَجَاوِزَا
وَكَيْفَ يُرَجِّيكَ الْبَعِيدُ لِنَفْعِهِ إذَا كَانَ عَنْ مَوْلَاك
خَيْرُك عَاجِزَا ظَلَمْت أَخًا كَلَّفْته فَوْقَ وُسْعِهِ وَهَلْ كَانَتْ
الْأَخْلَاقُ إلَّا غَرَائِزَا وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ ، كَاتِب
الرَّضِيِّ : كُنَّا فِي مَجْلِسِ الرَّضِيِّ فَشَكَا رَجُلٌ مِنْ أَخِيهِ
، فَأَنْشَدَ الرَّضِيُّ : اُعْذُرْ أَخَاك عَلَى ذُنُوبِهِ وَاسْتُرْ
وَغَطِّ عَلَى عُيُوبِهِ وَاصْبِرْ عَلَى بَهْتِ السَّفِيهِ وَلِلزَّمَانِ
عَلَى خُطُوبِهِ وَدَعْ الْجَوَابَ تَفَضُّلًا وَكِلِ الظَّلُومَ إلَى
حَسِيبِهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْحِلْمَ عِنْدَ الْغَيْظِ
أَحْسَنُ
مِنْ رُكُوبِهِ وَحُكِيَ عَنْ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ
أَنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ الزُّهْرِيَّ ، وَكَانَ أَجْوَدَ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ : مَا
رَأَيْت قَوْمًا أَلْأَمَ مِنْ إخْوَانِك ، قَالَ مَهْ وَلِمَ ذَلِكَ ؟
قَالَتْ : أَرَاهُمْ إذَا أَيْسَرْت لَزِمُوك ، وَإِذَا أَعْسَرْت
تَرَكُوك .
قَالَ : هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ كَرَمِهِمْ ، يَأْتُونَنَا
فِي حَالِ الْقُوَّةِ بِنَا عَلَيْهِمْ ، وَيَتْرُكُونَنَا فِي حَالِ
الضَّعْفِ بِنَا عَنْهُمْ .
فَانْظُرْ كَيْفَ تَأَوَّلَ بِكَرْمِهِ
هَذَا التَّأْوِيلَ حَتَّى جَعَلَ قَبِيحَ فِعْلِهِمْ حَسَنًا ، وَظَاهِرَ
غَدْرِهِمْ وَفَاءً .
وَهَذَا مَحْضُ الْكَرَمِ وَلُبَابُ الْفَضْلِ ،
وَبِمِثْلِ هَذَا يَلْزَمُ ذَوِي الْفَضْلِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا
الْهَفَوَاتِ مِنْ إخْوَانِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
إذَا مَا بَدَتْ مِنْ صَاحِبٍ لَك زَلَّةٌ فَكُنْ أَنْتَ مُحْتَالًا
لِزَلَّتِهِ عُذْرَا أُحِبُّ الْفَتَى يَنْفِي الْفَوَاحِشَ سَمْعُهُ
كَأَنَّ بِهِ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَقْرَا سَلِيمُ دَوَاعِي الصَّبْرِ
لَا بَاسِطٌ أَذًى وَلَا مَانِعٌ خَيْرًا وَلَا قَائِلٌ هَجْرَا
وَالدَّاعِي إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ شَيْئَانِ : التَّغَافُلُ الْحَادِثُ
عَنْ الْفَطِنَةِ ، وَالتَّأَلُّفُ الصَّادِرُ عَنْ الْوَفَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : وَجَدْت أَكْثَرَ أُمُورِ الدُّنْيَا لَا
تَجُوزُ إلَّا بِالتَّغَافُلِ .
وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : مَنْ شَدَّدَ نَفَّرَ ، وَمَنْ
تَرَاخَى تَأَلَّفَ ، وَالشَّرَفُ فِي التَّغَافُلِ .
وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ الْأَدِيبُ : الْعَاقِلُ هُوَ الْفَطِنُ
الْمُتَغَافِلُ .
وَقَالَ
الطَّائِيُّ : لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ لَكِنَّ سَيِّدَ
قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : إنَّ فِي صِحَّةِ
الْإِخَاءِ مِنْ النَّاسِ وَفِي خُلَّةِ الْوَفَاءِ لَقِلَّهْ فَالْبَسْ
النَّاسَ مَا اسْتَطَعْت عَلَى النَّقْصِ وَإِلَّا لَمْ تَسْتَقِمْ لَك
خُلَّهْ عِشْ وَحِيدًا إنْ كُنْت لَا تَقْبَلُ الْعُذْرَ وَإِنْ كُنْت لَا
تَجَاوَزُ زَلَّهْ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ خُلِقْنَا غَيْرَ أَنَّا فِي
الْمَالِ أَوْلَادُ عِلَّهْ وَمِمَّا يَتْبَعُ هَذَا
الْفَصْلَ تَأَلُّفُ الْأَعْدَاءِ بِمَا يُنْئِيهِمْ
عَنْ الْبَغْضَاءِ وَيَعْطِفُهُمْ عَلَى الْمَحَبَّةِ .
وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِصُنُوفٍ مِنْ الْبِرِّ وَيَخْتَلِفُ بِسَبَبِ
اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ .
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سِمَاتِ الْفَضْلِ وَشُرُوطِ السُّؤْدُدِ ، فَإِنَّهُ
مَا أَحَدٌ يَعْدَمُ عَدُوًّا وَلَا يَفْقِدُ حَاسِدًا .
وَبِحَسَبِ
قَدْرِ النِّعْمَةِ تَكْثُرُ الْأَعْدَاءُ وَالْحَسَدَةُ ، كَمَا قَالَ
الْبُحْتُرِيُّ : وَلَنْ تَسْتَبِينَ الدَّهْرَ مَوْقِعَ نِعْمَةٍ إذَا
أَنْتَ لَمْ تَدْلُلْ عَلَيْهَا بِحَاسِدِ فَإِنْ أَغْفَلَ تَأَلُّفَ
الْأَعْدَاءِ مَعَ وُفُورِ النِّعْمَةِ وَظُهُورِ الْحَسَدَةِ ، تَوَالَى
عَلَيْهِ مِنْ مَكْرِ حَلِيمِهِمْ ، وَبَادِرَةِ سَفِيهِهِمْ ، مَا
تَصِيرُ بِهِ النِّعْمَةُ غَرَامًا وَالزَّعَامَةُ مَلَامًا .
وَرَوَى
ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رَأْسُ
الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوَدُّدُ إلَى
النَّاسِ } .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
، لِابْنِهِ : لَا تَسْتَكْثِرْ أَنْ يَكُونَ لَك أَلْفُ صَدِيقٍ ،
فَالْأَلْفُ قَلِيلٌ .
وَلَا تَسْتَقِلَّ أَنْ يَكُونَ لَك عَدُوٌّ وَاحِدٌ ، فَالْوَاحِدُ
كَثِيرٌ .
فَنَظَّمَ
ابْنُ الرُّومِيِّ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : فَكَثِّرْ مِنْ
الْإِخْوَانِ مَا اسْتَطَعْت إنَّهُمْ بُطُونٌ إذَا اسْتَنْجَدْتَهُمْ
وَظُهُورُ وَلَيْسَ كَثِيرًا أَلْفُ خِلٍّ وَصَاحِبٍ وَإِنَّ عَدُوًّا
وَاحِدًا لَكَثِيرُ وَقِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : مَا
أَفَدْت فِي مِلْكِك هَذَا ؟ قَالَ : مَوَدَّةَ الرِّجَالِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مِنْ عَلَامَةِ الْإِقْبَالِ اصْطِنَاعُ
الرِّجَالِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ اسْتَصْلَحَ عَدُوَّهُ زَادَ فِي عَدَدِهِ ،
وَمَنْ اسْتَفْسَدَ صَدِيقَهُ نَقَصَ مِنْ عَدَدِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ
الْأُدَبَاءِ : الْعَجَبُ مِمَّنْ يَطْرَحُ عَاقِلًا كَافِيًا لِمَا
يُضْمِرُهُ مِنْ عَدَاوَتِهِ ، وَيَصْطَنِعُ عَاجِزًا جَاهِلًا لِمَا
يُظْهِرُهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اسْتِصْلَاحِ مَنْ
يُعَادِيهِ بِحُسْنِ صَنَائِعِهِ وَأَيَادِيهِ .
وَأَنْشَدَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ جَامِعَةً لِكُلِّ
مَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ ، وَهِيَ لِلْأَفْوَهِ وَاسْمُهُ صَلَاءَةُ بْنُ
عَمْرٍو حَيْثُ يَقُولُ : بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ فَلَمْ
أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالِي وَذُقْتُ مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ جَمْعًا
فَمَا طَعْمٌ أَمَرُّ مِنْ السُّؤَالِ وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ
هَوْلًا وَأَصْعَبَ مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ وَقَالَ الْقَاضِي
التَّنُوخِيُّ : إلْقَ الْعَدُوَّ بِوَجْهٍ لَا قُطُوبَ بِهِ يَكَادُ
يَقْطُرُ مِنْ مَاءِ الْبَشَاشَاتِ فَأَحْزَمُ النَّاسِ مَنْ يَلْقَى
أَعَادِيهِ فِي جِسْمِ حِقْدٍ وَثَوْبٍ مِنْ مَوَدَّاتِ الرِّفْقُ يُمْنٌ
وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ وَكَثْرَةُ الْمَزْحِ مِفْتَاحُ
الْعَدَاوَاتِ وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ ، لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ أَرَحْتُ
نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ
رُؤْيَتِهِ لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ وَأُظْهِرُ
الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ كَأَنَّمَا قَدْ حَشَى قَلْبِي
مَحَبَّاتِ النَّاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ وَفِي
اعْتِزَالِهِمْ قَطْعُ الْمَوَدَّاتِ وَلَيْسَ - وَإِنْ كَانَ بِتَأَلُّفِ
الْأَعْدَاءِ مَأْمُورًا ، وَإِلَى مُقَارِبَتِهِمْ مَنْدُوبًا -
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رَاكِنًا ، وَبِهِمْ وَاثِقًا ، بَلْ
يَكُونَ مِنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ ، وَمِنْ مَكْرِهِمْ عَلَى تَحَرُّزٍ ،
فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ إذَا اسْتَحْكَمَتْ فِي الطِّبَاعِ صَارَتْ طَبْعًا
لَا يَسْتَحِيلُ ، وَجِبِلَّةً لَا تَزُولُ .
وَإِنَّمَا يُسْتَكْفَى
بِالتَّأَلُّفِ إظْهَارُهَا ، وَيُسْتَدْفَعُ بِهِ أَضْرَارُهَا ،
كَالنَّارِ يُسْتَدْفَعُ بِالْمَاءِ إحْرَاقُهَا ، وَيُسْتَفَادُ بِهِ
إنْضَاجُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْرِقَةً بِطَبْعٍ لَا يَزُولُ وَجَوْهَرٍ
لَا يَتَغَيَّرُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَإِذَا عَجَزْت عَنْ
الْعَدُوِّ فَدَارِهِ وَامْزَحْ لَهُ إنَّ الْمِزَاحَ وِفَاقُ فَالنَّارُ
بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهَا تُعْطِي النِّضَاجَ وَطَبْعُهَا
الْإِحْرَاقُ
الْبِرُّ فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبِرُّ ، وَهُوَ
الْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّهُ يُوصِلُ إلَى
الْقُلُوبِ أَلْطَافًا ، وَيُثْنِيهَا مَحَبَّةً وَانْعِطَافًا .
وَلِذَلِكَ
نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى التَّعَاوُنِ بِهِ وَقَرَنَهُ بِالتَّقْوَى
لَهُ فَقَالَ : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } لِأَنَّ
فِي التَّقْوَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي الْبِرِّ رِضَى النَّاسِ .
وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَى النَّاسِ فَقَدْ
تَمَّتْ سَعَادَتُهُ وَعَمَّتْ نِعْمَتُهُ .
وَرَوَى
الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { جُبِلَتْ
الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا ، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ
إلَيْهَا } .
وَحُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى دَاوُد -
عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : ذَكِّرْ عِبَادِي إحْسَانِي
إلَيْهِمْ لِيُحِبُّونِي فَإِنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ إلَّا مَنْ أَحْسَنَ
إلَيْهِمْ .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ : النَّاسُ
كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ تَحْتَ ظِلَالِهِ فَأَحَبُّهُمْ طُرًّا إلَيْهِ
أَبَرُّهُمْ لِعِيَالِهِ وَالْبِرُّ نَوْعَانِ : صِلَةٌ وَمَعْرُوفٌ .
فَأَمَّا الصِّلَةُ : فَهِيَ التَّبَرُّعُ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي
الْجِهَاتِ الْمَحْمُودَةِ لِغَيْرِ عِوَضٍ مَطْلُوبٍ .
وَهَذَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ سَمَاحَةُ النَّفْسِ وَسَخَاؤُهَا ، وَيَمْنَعُ
مِنْهُ شُحُّهَا وَإِبَاؤُهَا .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ
الْمُفْلِحُونَ } وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ ، عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ ، قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ ، قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ ، بَعِيدٌ
مِنْ النَّارِ ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ،
بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ ، بَعِيدٌ مِنْ النَّاسِ ، قَرِيبٌ مِنْ النَّارِ
} .
{ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ
حَاتِمٍ : رَفَعَ اللَّهُ عَنْ أَبِيك الْعَذَابَ الشَّدِيدَ لِسَخَائِهِ
} .
{ وَبَلَغَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الزُّبَيْرِ إمْسَاكٌ فَجَذَبَ عِمَامَتَهُ إلَيْهِ وَقَالَ : يَا
زُبَيْرُ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إلَيْك وَإِلَى غَيْرِك يَقُولُ أَنْفِقْ
أُنْفِقْ عَلَيْك وَلَا تُوكِ فَأُوكِ عَلَيْك } .
وَرَوَى أَبُو
الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إلَّا وَمَلَكَانِ
يُنَادِيَانِ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا وَمُمْسِكًا تَلَفًا
} .
وَأَنْزَلَ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى
وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا
مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَعْنِي مَنْ أَعْطَى فِيمَا أُمِرَ وَاتَّقَى فِيمَا حُظِرَ وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنَى يَعْنِي بِالْخَلَفِ مِنْ عَطَائِهِ .
فَعِنْدَ هَذَا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لَسَادَاتُ النَّاسِ :
فِي الدُّنْيَا الْأَسْخِيَاءُ وَفِي الْآخِرَةِ الْأَتْقِيَاءُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْجُودُ عَنْ مَوْجُودٍ .
وَقِيلَ فِي الْمَثْلِ : سُؤْدُدٌ بِلَا جُودٍ ، كَمَلِكٍ بِلَا جُنُودٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْجُودُ حَارِسُ الْأَعْرَاضِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ جَادَ سَادَ ، وَمَنْ أَضْعَفَ
ازْدَادَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : جُودُ الرَّجُلِ يُحَبِّبُهُ إلَى
أَضْدَادِهِ ، وَبُخْلُهُ يُبَغِّضُهُ إلَى أَوْلَادِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : خَيْرُ الْأَمْوَالِ مَا اسْتَرَقَّ حُرًّا
، وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا اسْتَحَقَّ شُكْرًا .
وَقَالَ
صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرْءِ فِي
النَّاسِ بُخْلُهُ وَيَسْتُرهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤُهُ تَغَطَّ
بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي أَرَى كُلَّ عَيْبٍ فَالسَّخَاءُ
غِطَاؤُهُ وَحَدُّ السَّخَاءِ بَذْلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ
الْحَاجَةِ ، وَأَنْ يُوصَلَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ
وَتَدْبِيرُ ذَلِكَ مُسْتَصْعَبٌ ، وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُحِبُّ أَنْ
يُنْسَبَ إلَى الْكَرَمِ يُنْكِرُ حَدَّ السَّخَاءِ ، وَيَجْعَلُ
تَقْدِيرَ الْعَطِيَّةِ فِيهِ نَوْعًا مِنْ الْبُخْلِ
، وَأَنَّ الْجُودَ بَذْلُ الْمَوْجُودِ ، وَهَذَا
تَكَلُّفٌ يُفْضِي إلَى الْجَهْلِ بِحُدُودِ الْفَضَائِلِ .
وَلَوْ كَانَ الْجُودُ بَذْلُ الْمَوْجُودِ لَمَا كَانَ لِلسَّرَفِ
مَوْضِعٌ وَلَا لِلتَّبْذِيرِ مَوْقِعٌ .
وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ بِذَمِّهِمَا وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالنَّهْيِ
عَنْهُمَا .
وَإِذَا
كَانَ السَّخَاءُ مَحْدُودًا فَمَنْ وَقَفَ عَلَى حَدِّهِ سُمِّيَ
كَرِيمًا وَكَانَ لِلْحَمْدِ مُسْتَحِقًّا ، وَمَنْ قَصُرَ عَنْهُ
بَخِيلًا وَكَانَ لِلذَّمِّ مُسْتَوْجِبًا .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَرُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَقْسَمَ
اللَّهُ بِعِزَّتِهِ لَا يُجَاوِرُهُ بَخِيلٌ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
طَعَامُ الْجَوَادِ دَوَاءٌ ، وَطَعَامُ الْبَخِيلِ دَاءٌ } .
{
وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا
يَقُولُ : الشَّحِيحُ أَعْذَرُ مِنْ الظَّالِمِ ، فَقَالَ : لَعَنَ
اللَّهُ الشَّحِيحَ وَلَعَنَ الظَّالِمَ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْبَخِيلُ لَيْسَ لَهُ خَلِيلٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْبَخِيلُ حَارِسُ نِعْمَتِهِ ، وَخَازِنُ
وَرَثَتِهِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا كُنْت جَمَّاعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا فَأَنْتَ
عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إلَى غَيْرِ حَامِدٍ
فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ وَتَظَاهَرَ بَعْضُ ذَوِي
النَّبَاهَةِ بِحُبِّ الثَّنَاءِ مَعَ إمْسَاكٍ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ : أَرَاك تُؤَمِّلُ حُسْنَ الثَّنَا وَلَمْ يَرْزُقْ اللَّهُ
ذَاكَ الْبَخِيلَا وَكَيْفَ يَسُودُ أَخُو بِطْنَةٍ يَمُنُّ كَثِيرًا
وَيُعْطِي قَلِيلًا وَقَدْ بَيَّنَّا حُبَّ الثَّنَاءِ وَحُبَّ الْمَالِ ،
لِأَنَّ الثَّنَاءَ يَبْعَثُ عَلَى الْبَذْلِ وَحُبَّ الْمَالِ يَمْنَعُ
مِنْهُ ، فَإِنْ ظَهَرَا كَانَ حُبُّ الثَّنَاءِ كَاذِبًا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : جَمَعْت
أَمْرَيْنِ
ضَاعَ الْحَزْمُ بَيْنَهُمَا تِيهُ الْمُلُوكِ وَأَخْلَاقُ الْمَمَالِيكِ
أَرَدْت شُكْرًا بِلَا بِرٍّ وَلَا صِلَةٍ لَقَدْ سَلَكْت طَرِيقًا غَيْرَ
مَسْلُوكِ ظَنَنْت عِرْضَك لَمْ يُقْرَعْ بِقَارِعَةٍ وَمَا أَرَاك عَلَى
حَالٍ بِمَتْرُوكِ لَئِنْ سَبَقْتَ إلَى مَالٍ حَظِيتَ بِهِ فَمَا
سَبَقْتَ إلَى شَيْءٍ سِوَى النُّوكِ وَقَدْ يَحْدُثُ عَنْ الْبُخْلِ مِنْ
الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى كُلِّ
مَذَمَّةٍ ، أَرْبَعَةُ أَخْلَاقٍ نَاهِيكَ بِهَا ذَمًّا وَهِيَ :
الْحِرْصُ وَالشَّرَهُ وَسُوءُ الظَّنِّ وَمَنْعُ الْحُقُوقِ .
فَأَمَّا الْحِرْصُ فَهُوَ شِدَّةُ الْكَدْحِ وَالْإِسْرَافِ فِي
الطَّلَبِ .
وَأَمَّا
الشَّرَهُ فَهُوَ اسْتِقْلَالُ الْكِفَايَةِ ، وَالِاسْتِكْثَارُ لِغَيْرِ
حَاجَةٍ ، وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْحِرْصِ وَالشَّرَهِ .
وَقَدْ
رَوَى الْعَلَاءُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ مَسْرُوقٍ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ لَا يَجْزِيهِ مِنْ الْعَيْشِ مَا يَكْفِيهِ لَمْ يَجِدْ مَا عَاشَ
مَا يُغْنِيهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الشَّرَهُ مِنْ غَرَائِزِ اللُّؤْمِ .
وَأَمَّا
سُوءُ الظَّنِّ فَهُوَ عَدَمُ الثِّقَةِ بِمَنْ هُوَ لَهَا أَهْلٌ ،
فَإِنْ كَانَ بِالْخَالِقِ كَانَ شَكًّا يَئُولُ إلَى ضَلَالٍ ، وَإِنْ
كَانَ بِالْمَخْلُوقِ كَانَ اسْتِخَانَةً يَصِيرُ بِهَا مُخْتَانًا
وَخَوَّانًا ، لِأَنَّ ظَنَّ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا
يَرَاهُ مِنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا خَيْرًا ظَنَّهُ فِي
غَيْرِهِ ، وَإِنْ رَأَى فِيهَا سُوءًا اعْتَقَدَهُ فِي النَّاسِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَثَلِ كُلُّ إنَاءٍ يَنْضَحُ بِمَا فِيهِ .
فَإِنْ
قِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْحَزْمَ سُوءُ
الظَّنِّ قِيلَ تَأْوِيلُهُ قِلَّةُ الِاسْتِرْسَالِ إلَيْهِمْ لَا
اعْتِقَادُ السُّوءِ فِيهِمْ .
وَأَمَّا مَنْعُ الْحُقُوقِ فَإِنَّ نَفْسَ الْبَخِيلِ لَا تَسْمَحُ
بِفِرَاقِ مَحْبُوبِهَا .
وَلَا تَنْقَادُ إلَى تَرْكِ مَطْلُوبِهَا ، فَلَا تُذْعِنُ لِحَقٍّ وَلَا
تُجِيبُ إلَى إنْصَافٍ .
وَإِذَا آلَ الْبَخِيلُ إلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ
الْمَذْمُومَةِ ، وَالشِّيَمِ
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
اللَّئِيمَةِ ، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ خَيْرٌ مَرْجُوٌّ
وَلَا صَلَاحٌ مَأْمُولٌ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ {
قَالَ لِلْأَنْصَارِ : مَنْ سَيِّدكُمْ ؟ قَالُوا : الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ
عَلَى بُخْلٍ فِيهِ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ
قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ الْبَحْرِ فَكَرِهُوا لِبُخْلِهِمْ نُزُولُ
الْأَضْيَافِ بِهِمْ ، فَقَالُوا : لَيَبْعُد الرِّجَالُ مِنَّا عَنْ
النِّسَاءِ حَتَّى يَعْتَذِرَ الرِّجَالُ إلَى الْأَضْيَافِ بِبُعْدِ
النِّسَاءِ ، وَتَعْتَذِرُ النِّسَاءُ بِبُعْدِ الرِّجَالِ ، فَفَعَلُوا
وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ فَاشْتَغَلَ الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ
بِالنِّسَاءِ } .
وَأَمَّا السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ فَإِنَّ مَنْ
زَادَ عَلَى حَدِّ السَّخَاءِ فَهُوَ مُسْرِفٌ وَمُبَذِّرٌ ، وَهُوَ
بِالذَّمِّ جَدِيرٌ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا
تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا عَالَ مَنْ
اقْتَصَدَ } .
وَقَدْ قَالَ الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ
وَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : صِدِّيقُ الرَّجُلِ قَصْدُهُ ، وَسَرَفُهُ
عَدُوُّهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا كَثِيرَ مَعَ إسْرَافٍ وَلَا قَلِيلَ
مَعَ احْتِرَافٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّرَفَ وَالتَّبْذِيرَ قَدْ يَفْتَرِقُ مَعْنَاهُمَا .
فَالسَّرَفُ : هُوَ الْجَهْلُ بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ ، وَالتَّبْذِيرُ :
هُوَ الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ الْحُقُوقِ .
وَكِلَاهُمَا
مَذْمُومٌ ، وَذَمُّ التَّبْذِيرِ أَعْظَمُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْرِفَ
يُخْطِئُ فِي الزِّيَادَةِ ، وَالْمُبَذِّرُ يُخْطِئُ فِي الْجَهْلِ .
وَمَنْ
جَهِلَ مَوَاقِعَ الْحُقُوقِ وَمَقَادِيرَهَا بِمَالِهِ وَأَخْطَأَهَا ،
فَهُوَ كَمَنْ جَهِلَهَا بِفِعَالِهِ فَتَعَدَّاهَا وَكَمَا أَنَّهُ
بِتَبْذِيرِهِ قَدْ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، فَهَكَذَا
قَدْ يُعْدَلُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ
يُوضَعَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ حَقٍّ وَغَيْرِ حَقٍّ .
وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُلّ سَرَفٍ
فَبِإِزَائِهِ حَقٌّ مُضَيَّعٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْخَطَأُ فِي إعْطَاءِ مَا لَا يَنْبَغِي
وَمَنْعُ مَا يَنْبَغِي وَاحِدٌ .
وَقَالَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْحَلَالُ لَا
يَحْتَمِلُ السَّرَفَ ، وَلَيْسَ يَتِمُّ السَّخَاءُ بِبَذْلِ مَا فِي
يَدِهِ حَتَّى تَسْخُوَ نَفْسُهُ عَمَّا بِيَدِ غَيْرِهِ فَلَا يَمِيلُ
إلَى طَلَبٍ وَلَا يَكُفُّ عَنْ بَذْلٍ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : أَتَدْرِي لِمَ اتَّخَذْتُك خَلِيلًا ؟ قَالَ :
لَا يَا رَبِّ .
قَالَ : لِأَنِّي رَأَيْتُك تُحِبُّ أَنْ تُعْطِيَ وَلَا تُحِبُّ أَنْ
تَأْخُذَ .
وَرَوَى
سَهْلُ بْن سَعْدٍ السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَتَى
رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِعَمَلٍ يُحِبُّنِي اللَّهُ عَلَيْهِ
وَيُحِبُّنِي النَّاسُ .
فَقَالَ : ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّك اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي
أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ } .
وَقَالَ
أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَكُونَ
فِيهِ خَصْلَتَانِ : الْعِفَّةُ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَالتَّجَاوُزُ
عَنْهُمْ .
وَقِيلَ لِسُفْيَانَ : مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا ؟ قَالَ : الزُّهْدُ
فِي النَّاسِ .
وَكَتَبَ
كِسْرَى إلَى ابْنِهِ هُرْمُزَ : يَا بُنَيَّ اسْتَقِلَّ الْكَثِيرَ
مِمَّا تُعْطِي ، وَاسْتَكْثِرْ الْقَلِيلَ مِمَّا تَأْخُذُ ، فَإِنَّ
قُرَّةَ عُيُونِ الْكِرَامِ فِي الْإِعْطَاءِ وَسُرُورَ اللِّئَامِ فِي
الْأَخْذِ ، وَلَا تَعُدَّ الشَّحِيحَ أَمِينًا وَلَا الْكَذَّابَ حُرًّا
فَإِنَّهُ لَا عِفَّةَ مَعَ الشُّحِّ وَلَا مُرُوءَةَ مَعَ الْكَذِبِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : السَّخَاءُ سَخَاءَانِ : أَشْرَفُهُمَا
سَخَاؤُك عَمَّا بِيَدِ غَيْرِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : السَّخَاءُ أَنْ تَكُونَ بِمَالِك
مُتَبَرِّعًا وَعَنْ مَالِ غَيْرِك مُتَوَرِّعًا .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : الْجُودُ غَايَةُ الزُّهْدِ ، وَالزُّهْدُ
غَايَةُ الْجُودِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا لَمْ تَكُنْ نَفْسُ الشَّرِيفِ
شَرِيفَةً وَإِنْ كَانَ ذَا قَدْرٍ فَلَيْسَ لَهُ شَرَفُ
وَالْبَذْلُ
عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ
غَيْرِ سُؤَالٍ ، وَالثَّانِي مَا كَانَ عَنْ طَلَبٍ وَسُؤَالٍ .
فَأَمَّا الْمُبْتَدِئُ بِهِ فَهُوَ أَطْبَعُهُمَا سَخَاءً ،
وَأَشْرَفُهُمَا عَطَاءً .
وَسُئِلَ
عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - عَنْ السَّخَاءِ فَقَالَ : مَا
كَانَ مِنْهُ ابْتِدَاءٌ فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَحَيَاءٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَجَلُّ النَّوَالِ مَا وُصَلَ قَبْلَ
السُّؤَالِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَفَتًى خَلَا مِنْ مَالِهِ وَمِنْ الْمُرُوءَةِ
غَيْرُ خَالِي أَعْطَاك قَبْلَ سُؤَالِهِ وَكَفَاك مَكْرُوهَ السُّؤَالِ
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْبَذْلِ قَدْ يَكُونُ لِتِسْعَةِ أَسْبَابٍ .
فَالسَّبَبُ
الْأَوَّلُ : أَنْ يَرَى خَلَّةً يَقْدِرُ عَلَى سَدِّهَا ، وَفَاقَةً
يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَتِهَا ، فَلَا يَدَعْهُ الْكَرَمُ وَالتَّدَيُّنُ
إلَّا أَنْ يَكُونَ زَعِيمَ صَلَاحِهَا ، وَكَفِيلَ نَجَاحِهَا ، رَغْبَةً
فِي الْأَجْرِ إنْ تَدَيَّنَ وَفِي الشُّكْرِ إنْ تَكَرَّمَ .
وَقَالَ
أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : مَا النَّاسُ إلَّا آلَةٌ مُعْتَمَلَهْ لِلْخَيْرِ
وَالشَّرِّ جَمِيعًا فَعَلَهْ وَالسَّبَبُ الثَّانِي : أَنْ يَرَى فِي
مَالِهِ فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ ، وَفِي يَدِهِ زِيَادَةً عَنْ
كِفَايَتِهِ ، فَيَرَى انْتِهَازَ الْفُرْصَةِ بِهَا فَيَضَعُهَا حَيْثُ
تَكُونُ لَهُ ذُخْرًا مُعَدًّا وَغَنَمًا مُسْتَجَدًّا .
وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا أَنْصَفَك
مَنْ كَلَّفَك إجْلَالِهِ وَمَنَعَك مَالِهِ .
وَقِيلَ لِهِنْدِ بِنْتِ الْحَسَنِ : مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ فِي عَيْنَك
؟ قَالَتْ : مَنْ كَانَ لِي إلَيْهِ حَاجَةٌ .
وَقَالَ
الشَّاعِر : وَمَا ضَاعَ مَالٌ وَرَّثَ الْحَمْدَ أَهْلَهُ وَلَكِنَّ
أَمْوَالَ الْبَخِيلِ تَضِيعُ وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ
لِتَعْرِيضٍ يَتَنَبَّهُ عَلَيْهِ لِفِطْنَتِهِ ، وَإِشَارَةٍ يُسْتَدَلُّ
عَلَيْهَا بِكَرْمِهِ ، فَلَا يَدَعْهُ الْكَرْمُ أَنْ يَغْفُلَ وَلَا
الْحَيَاءُ أَنْ يَكُفَّ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا سَايَرَ بَعْضَ
الْوُلَاةِ فَقَالَ : مَا أَهْزَلَ بِرْذَوْنَك ؟ فَقَالَ : يَدُهُ مَعَ
أَيْدِينَا فَوَصَلَهُ اكْتِفَاءٌ بِهَذَا التَّعْرِيضِ
الَّذِي بَلَغَ مَا لَا يَبْلُغُهُ صَرِيحُ السُّؤَالِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : السَّخَاءُ حُسْنُ
الْفَطِنَةِ وَاللُّؤْمُ سُوءُ التَّغَافُلِ .
وَحُكِيَ
أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ لَمَّا تَقَلَّدَ وَزَارَةَ
الْمُعْتَضِدُ كَتَبَ إلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ : أَبَى دَهْرُنَا إسْعَافَنَا فِي نُفُوسِنَا وَأَسْعَفَنَا
فِيمَنْ نُحِبُّ وَنُكْرِمُ فَقُلْت لَهُ : نُعْمَاك فِيهِمْ أَتِمَّهَا
وَدَعْ أَمَرْنَا إنَّ الْمُهِمَّ مُقَدَّمُ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ :
مَا أَحْسَنَ مَا شَكَا أَمْرَهُ بَيْنَ أَضْعَافِ مَدْحِهِ ، وَقَضَى
حَاجَتَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمَنْ لَا يَرَى مِنْ
نَفْسِهِ مُذَكِّرًا لَهَا رَأَى طَلَبَ الْمُسْتَنْجِدِينَ ثَقِيلًا
وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِيَدٍ أَوْ
جَزَاءً عَلَى صَنِيعَةِ ، فَيَرَى تَأْدِيَةَ الْحَقِّ عَلَيْهِ طَوْعًا
إمَّا أَنَفَةً وَإِمَّا شُكْرًا لِيَكُونَ مِنْ أَسْرِ الِامْتِنَانِ
طَلِيقًا ، وَمِنْ رِقِّ الْإِحْسَانِ وَعُبُودِيَّتِهِ عَتِيقًا .
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْإِحْسَانُ رِقٌّ ، وَالْمُكَافَأَةُ
عِتْقٌ .
وَقَالَ
أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَيْسَتْ أَيَادِي
النَّاسِ عِنْدِي غَنِيمَةً وَرُبَّ يَدٍ عِنْدِي أَشَدُّ مِنْ الْأَسْرِ
وَالسَّبَبُ الْخَامِسُ : أَنْ يُؤْثِرَ الْإِذْعَانَ بِتَقْدِيمِهِ ،
وَالْإِقْرَارَ بِتَعْظِيمِهِ ، تَوْطِيدًا لِرِئَاسَةٍ هُوَ لَهَا
مُحِبٌّ ، وَعَلَى طَلَبِهَا مُكِبٌّ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ :
حُبُّ الرِّئَاسَةِ دَاءٌ لَا دَوَاءَ لَهُ وَقَلَّمَا تَجِدُ الرَّاضِينَ
بِالْقَسْمِ فَتُسْتَصْعَبُ عَلَيْهِ إجَابَةُ النُّفُوسِ لَهُ طَوْعًا
إلَّا بِالِاسْتِعْطَافِ ، وَإِذْعَانُهَا لَهُ إلَّا بِالرَّغْبَةِ
وَالْإِسْعَافِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : بِالْإِحْسَانِ يَرْتَبِطُ
الْإِنْسَانُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ بَذَلَ مَالَهُ أَدْرَكَ آمَالَهُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَتَرْجُو أَنْ تَسُودَ بِلَا عَنَاءٍ وَكَيْفَ
يَسُودُ ذُو الدَّعَةِ الْبَخِيلُ وَالسَّبَبُ السَّادِسُ : أَنْ يَدْفَعَ
بِهِ سَطْوَةَ أَعْدَائِهِ ، وَيَسْتَكْفِيَ بِهِ نِفَارَ خُصَمَائِهِ ،
لِيَصِيرُوا
لَهُ بَعْدَ الْخُصُومَةِ أَعْوَانًا ، وَبَعْدَ الْعَدَاوَةِ إخْوَانًا ،
إمَّا لِصِيَانَةِ عِرْضٍ ، وَإِمَّا لِحِرَاسَةِ مَجْدٍ .
وَقَدْ
قَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَلَمْ يَجْتَمِعْ شَرْقٌ وَغَرْبٌ
لِقَاصِدٍ وَلَا الْمَجْدُ فِي كَفِّ امْرِئٍ وَالدَّرَاهِمُ وَلَمْ أَرَ
كَالْمَعْرُوفِ تُدْعَى حُقُوقُهُ مَغَارِمَ فِي الْأَقْوَامِ وَهِيَ
مَغَانِمُ وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ عَظُمَتْ مَرَافِقُهُ
أَعْظَمَهُ مُرَافِقُهُ .
وَالسَّبَبُ السَّابِعُ : أَنْ يُرَبِّيَ
بِهِ سَالِفَ صَنِيعَةٍ أَوْلَاهَا ، وَيُرَاعِيَ بِهِ قَدِيمَ نِعْمَةٍ
أَسْدَاهَا ، كَيْ لَا يُنْسَى مَا أَوْلَاهُ أَوْ يُضَاعُ مَا أَسْدَاهُ
، فَإِنَّ مَقْطُوعَ الْبِرِّ ضَائِعٌ وَمُهْمَلُ الْإِحْسَانِ ضَالٌّ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّاعِرُ : وَسَمْتُ امْرَأً بِالْبِرِّ ثُمَّ اطَّرَحْتُهُ
وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَشْيَاءِ رَبُّ الصَّنَائِعِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
دَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ : بَدَأْت بِنُعْمَى أَوْجَبَتْ لِي حُرْمَةً
عَلَيْك فَعُدْ بِالْفَضْلِ فَالْعَوْدُ أَحْمَدُ وَالسَّبَبُ الثَّامِنُ
: الْمَحَبَّةُ يُؤْثِرُ بِهَا الْمَحْبُوبُ عَلَى مَالِهِ فَلَا يَضَنُّ
عَلَيْهِ بِمَرْغُوبٍ ، وَلَا يَتَنَفَّسُ عَلَيْهِ بِمَطْلُوبٍ ،
لِلِّذَّةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ أَحْظَى ، وَإِلَى نَفْسِهِ أَشْهَى ؛
لِأَنَّ النَّفْسَ إلَى مَحْبُوبِهَا أَشْوَقُ وَإِلَى مَا يَلِيهِ
أَسْبَقُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَمَا زُرْتُكُمْ عَمْدًا
وَلَكِنَّ ذَا الْهَوَى إلَى حَيْثُ يَهْوَى الْقَلْبُ تَهْوِي بِهِ
الرِّجْلُ وَهَذَا وَإِنْ دَخَلَ فِي أَقْسَامِ الْعَطَاءِ فَخَارِجٌ عَنْ
حَدِّ السَّخَاءِ ، وَهَكَذَا الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ مِنْ هَذِهِ
الْأَسْبَابِ .
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِدُخُولِهَا تَحْتَ أَقْسَامِ الْعَطَاءِ .
وَالسَّبَبُ
التَّاسِعُ : وَلَيْسَ بِسَبَبٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَا سَبَبٍ
وَإِنَّمَا هِيَ سَجِيَّةٌ قَدْ فُطِرَ عَلَيْهَا ، وَشِيمَةٌ قَدْ طُبِعَ
بِهَا ، فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مُسْتَحِقٍّ وَمَحْرُومٍ ، وَلَا
يُفَرِّقُ بَيْنَ مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ ، كَمَا قَالَ بَشَّارٌ : لَيْسَ
يُعْطِيك لِلرَّجَاءِ وَلَا لِلْخَوْفِ لَكِنْ يَلَذُّ طَعْمَ الْعَطَاءِ
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مِثْلِ
هَذَا هَلْ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى السَّخَاءِ
فَيُحْمَدُ ، أَوْ خَارِجًا عَنْهُ فَيُذَمُّ .
وَقَالَ
قَوْمٌ : هَذَا هُوَ السَّخِيُّ طَبْعًا وَالْجَوَادُ كَرَمًا وَهُوَ
أَحَقُّ مَنْ كَانَ بِهِ مَمْدُوحًا وَإِلَيْهِ مَنْسُوبًا ، وَقَالَ
أَبُو تَمَّامٍ : مِنْ غَيْرِ مَا سَبَبٍ يُدْنِي كَفَى سَبَبًا لِلْحُرِّ
أَنْ يَجْتَدِي حُرًّا بِلَا سَبَبِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ : إذَا
لَمْ أُعْطِ إلَّا مُسْتَحِقًّا فَكَأَنَّ أَعْطَيْت غَرِيمًا .
وَقَالَ : الشَّرَفُ فِي السَّرَفِ ، فَقِيلَ لَهُ : لَا خَيْرَ فِي
السَّرَفِ .
فَقَالَ : وَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ .
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ : الْعَجَبُ لِمَنْ يَرْجُو مَنْ فَوْقَهُ
كَيْفَ يَحْرِمُ مَنْ دُونَهُ .
وَقَالَ
بَشَّارٌ : وَمَا النَّاسُ إلَّا صَاحِبَاك فَمِنْهُمْ سَخِيٌّ
وَمَغْلُولُ الْيَدَيْنِ مِنْ الْبُخْلِ فَسَامِحْ يَدًا مَا أَمْكَنَتْك
فَإِنَّهَا تَقِلُّ وَتَثْرِي وَالْعَوَاذِلُ فِي شُغْلِ وَقَالَ آخَرُونَ
: هَذَا خَارِجٌ مِنْ السَّخَاءِ الْمَحْمُودِ إلَى السَّرَفِ
وَالتَّبْذِيرِ الْمَذْمُومِ ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ
سَبَبٍ كَانَ الْمَنْعُ لِغَيْرِ سَبَبٍ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَقِلُّ عَنْ
الْحُقُوقِ وَيُقَصِّرُ عَنْ الْوَاجِبَاتِ فَإِذَا أَعْطَى غَيْرَ
الْمُسْتَحِقِّ فَقَدْ يَمْنَعُ مُسْتَحِقًّا وَمَا يَنَالُهُ مِنْ
الذَّمِّ بِمَنْعِ الْمُسْتَحِقِّ أَكْثَرُ مِمَّا يَنَالُهُ مِنْ
الْحَمْدِ لِإِعْطَاءِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ .
وَحَسْبُك ذَمًّا بِمَنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ تَصْدُرُ عَنْ غَيْرِ
تَمْيِيزٍ ، وَتُوجَدُ لِغَيْرِ عِلَّةٍ .
وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى
عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا
مَحْسُورًا } .
فَنَهَى عَنْ بَسْطِهَا سَرَفًا ، كَمَا نَهَى عَنْ
قَبْضِهَا بُخْلًا ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ ذَمًّا
وَعَلَى اتِّفَاقِهِمَا لَوْمًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَكَانَ
الْمَالُ يَأْتِينَا فَكُنَّا نُبَذِّرُهُ وَلَيْسَ لَنَا عُقُولُ
فَلَمَّا أَنْ تَوَلَّى الْمَالُ عَنَّا عَقَلْنَا حِينَ لَيْسَ لَنَا
فُضُولُ قَالُوا : وَلِأَنَّ الْعَطَاءَ وَالْمَنْعَ إذَا كَانَا لِغَيْرِ
عِلَّةٍ أَفْضَيَا إلَى ذَمِّ الْمَمْنُوعِ
وَقِلَّةِ شُكْرِ الْمُعْطِي .
أَمَّا
الْمَمْنُوعُ فَلِأَنَّهُ قَدْ فَضَّلَ عَلَيْهِ مَنْ سِوَاهُ ، وَأَمَّا
الْمُعْطِي فَإِنَّهُ وَجَدَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا وَرُبَّمَا أَمَلَ
بِالِاتِّفَاقِ أَضْعَافًا ، فَصَارَ ذَلِكَ مُفْضِيًا إلَى اجْتِلَابِ
الذَّمِّ وَإِحْبَاطِ الشُّكْرِ .
وَلَيْسَ فِيمَا أَفْضَى إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَيْرٌ يُرْجَى وَهُوَ
جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ شَرًّا يُتَّقَى .
وَلِمِثْلِ هَذَا كَانَ مَنْعُ الْجَمِيعِ إرْضَاءً لِلْجَمِيعِ وَعَطَاءً
يَكُونُ الْمَنْعُ أَرْضَى مِنْهُ خُسْرَانُ مُبِينٌ .
فَأَمَّا
إذَا كَانَ الْبَذْلُ وَالْعَطَاءُ عَنْ سُؤَالٍ فَشُرُوطُهُ مُعْتَبَرَةٌ
مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي السَّائِلِ ، وَالثَّانِي فِي
الْمَسْئُولِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي السَّائِلِ
فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ
لِسَبَبٍ ، وَالطَّلَبُ لِمُوجِبٍ .
فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْحَرَجُ وَسَقَطَ عَنْهُ
اللَّوْمُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الضَّرُورَةُ تُوَقِّحُ الصُّورَةَ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَلَا قَبَّحَ اللَّهُ الضَّرُورَةَ إنَّهَا
تُكَلِّفُ أَعْلَى الْخَلْقِ أَدْنَى الْخَلَائِقِ وَلِلَّهِ دَرُّ
الِاتِّسَاعِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ فَضْلَ السَّبْقِ مِنْ غَيْرِ سَابِقِ
وَقَالَ الْكُمَيْتُ : إذَا لَمْ تَكُنْ إلَّا الْأَسِنَّةُ مَرْكَبًا
فَلَا رَأْيَ لِلْمُضْطَرِّ إلَّا رُكُوبُهَا فَإِنْ ارْتَفَعَتْ
الضَّرُورَةُ وَدَعَتْ الْحَاجَةُ فِيمَا هُوَ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ أَنْ
يَكُونَ وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ فَالنَّفْسُ الْمُسَامِحَةُ
تَغْلِبُ الْحَاجَةَ ، وَتَسْمَحُ فِي الطَّلَبِ ، وَتُرَاعِي مَا
اسْتَقَامَ بِهِ الْأَمْرُ ، وَإِنْ نَالَهُ ذُلٌّ وَلَحِقَهُ وَهْنٌ
فَيَتَأَوَّلُ صَاحِبُهَا قَوْلَ الْبُحْتُرِيِّ : وَرُبَّمَا كَانَ
مَكْرُوهُ الْأُمُورِ إلَى مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ
وَالنَّفْسُ الشَّرِيفَةُ تَطْلُبُ الصِّيَانَةَ ، وَتُرَاعِي
النَّزَاهَةَ ، وَتَحْتَمِلُ مِنْ الضُّرِّ مَا احْتَمَلَتْ ، وَمِنْ
الشِّدَّةِ مَا طَاقَتْ ، فَيَبْقَى تَحَمُّلُهَا وَيَدُومُ تَصَوُّنُهَا
، فَتَكُونُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَقَدْ يَكْتَسِي الْمَرْءُ خَزَّ
الثِّيَابِ وَمِنْ
دُونِهَا حَالُهُ مُضْنِيَهْ كَمَا
يَكْتَسِي خَدُّهُ حُمْرَةً وَعِلَّتُهُ وَرَمٌ فِي الرِّيَهْ فَلَا يَرَى
أَنْ يَتَدَنَّسَ بِمَطَالِبِ الشُّؤْمِ ، وَمَطَامِعِ اللُّؤْمِ ،
فَإِنَّ الْبَهَائِمَ الْوَحْشِيَّةَ تَأْبَى ذَلِكَ وَتَأْنَفُ مِنْهُ ،
قَالَ الشَّاعِر : وَلَيْسَ اللَّيْثُ مِنْ جُوعٍ بِغَادٍ عَلَى جِيَفٍ
تُطِيفُ بِهَا الْكِلَابُ فَكَيْفَ بِالْإِنْسَانِ الْفَاضِلِ الَّذِي
هُوَ أَكْرَمُ الْحَيَوَانِ جِنْسًا ، وَأَشْرَفُهُ نَفْسًا ، هَلْ
يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَرَى لِوَحْشِ الْبَهَائِمِ عَلَيْهِ فَضْلًا ،
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : عَلَى كُلِّ حَالٍ يَأْكُلُ الْمَرْءُ زَادَهُ
عَلَى الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ وَالْحَدَثَانِ وَالْفَضْلُ فِي مِثْلِ مَا
قِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : لَوْ سَأَلْتَ جَارَك أَعْطَاك ؟ فَقَالَ :
وَاَللَّهِ مَا أَسْأَلُ الدُّنْيَا مِمَّنْ يَمْلِكُهَا فَكَيْفَ مِمَّنْ
لَا يَمْلِكُهَا .
وَوَصَفَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ قَوْمًا فَقَالَ :
إذَا افْتَرَقُوا أَغَضُّوا عَلَى الضُّرِّ خَشْيَةً وَإِنْ أَيْسَرُوا
عَادُوا سِرَاعًا إلَى الْفَقْرِ فَأَمَّا مَنْ يَسْأَلُ مِنْ غَيْرِ
ضَرُورَةٍ مَسَّتْ ، وَلَا حَاجَةٍ دَعَتْ ، فَذَلِكَ صَرِيحُ اللُّؤْمِ
وَمَحْضُ الدَّنَاءَةِ .
وَقَلَّمَا تَجِدُ مِثْلَهُ مَلْحُوظًا أَوْ
مُمَوَّلًا مَحْظُوظًا ؛ لِأَنَّ الْحِرْمَانَ قَادَهُ إلَى أَضْيَقِ
الْأَرْزَاقِ ، وَاللُّؤْمَ سَاقَهُ إلَى أَخْبَثِ الْمَطَاعِمِ ، فَلَمْ
يَبْقَ لِوَجْهِهِ مَاءٌ إلَّا أَرَاقَهُ ، وَلَا ذُلٌّ إلَّا ذَاقَهُ ،
كَمَا قَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمُعَدَّلِ لِأَبِي تَمَّامٍ
الطَّائِيِّ : أَنْتَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ تَبْرُزُ لِلنَّاسِ
وَكِلْتَاهُمَا بِوَجْهٍ مُذَالِ لَسْت تَنْفَكُّ طَالِبًا لِوِصَالٍ مِنْ
حَبِيبٍ أَوْ طَالِبًا لِنَوَالِ أَيُّ مَاءٍ لِحُرِّ وَجْهِك يَبْقَى
بَيْنَ ذُلِّ الْهَوَى وَذُلِّ السُّؤَالِ وَلَوْ اسْتَقْبَحَ الْعَارَ
وَأَنِفَ مِنْ الذُّلِّ لَوَجَدَ غَيْرَ السُّؤَالِ مُكْتَسِبًا
يُمَوِّنُهُ ، وَلَقَدِرَ عَلَى مَا يَصُونَهُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ
: لَا تَطْلُبَنَّ مَعِيشَةً بِتَذَلُّلٍ فَلَيَأْتِيَنَّكَ رِزْقُك
الْمَقْدُورُ وَاعْلَمْ بِأَنَّك آخِذٌ كُلَّ الَّذِي لَك فِي الْكِتَابِ
مُقَدَّرٌ مَسْطُورُ وَالشَّرْطُ الثَّانِي : مِنْ
شُرُوطِ
السُّؤَالِ أَنْ يَضِيقُ الزَّمَانُ عَنْ إرْجَائِهِ ، وَيَقْصُرَ
الْوَقْتُ عَنْ إبْطَائِهِ ، فَلَا يَجِدُ لِنَفْسِهِ فِي التَّأْخِيرِ
فُسْحَةً ، وَلَا فِي التَّمَادِي مُهْلَةً ، فَيَصِيرُ مِنْ
الْمَعْذُورِينَ وَدَاخِلًا فِي عِدَادِ الْمُضْطَرِّينَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسَعًا وَالزَّمَانُ مُمْتَدًّا
فَتَعْجِيلُ السُّؤَالِ لُؤْمٌ وَقُنُوطٌ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : أَبَى لِي إغْضَاءُ الْجُفُونِ عَلَى الْقَذَى يَقِينِي أَنْ
لَا عُسْرَ إلَّا مُفَرَّجُ أَلَا رُبَّمَا ضَاقَ الْفَضَاءُ بِأَهْلِهِ
وَأَمْكَنَ مِنْ بَيْنَ الْأَسِنَّةِ مَخْرَجُ وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ :
اخْتِيَارُ الْمَسْئُولِ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوَّ الْإِجَابَةِ مَأْمُولَ
النُّجْحِ إمَّا لِحُرْمَةِ السَّائِلِ أَوْ كَرَمِ الْمَسْئُولِ فَإِنْ
سَأَلَ لَئِيمًا لَا يَرْعَى حُرْمَةً ، وَلَا يُوَلِّي مَكْرُمَةً ،
فَهُوَ فِي اخْتِيَارِهِ مَلُومٌ ، وَفِي سُؤَالِهِ مَحْرُومٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْمَخْذُولُ مَنْ كَانَتْ لَهُ إلَى
اللِّئَامِ حَاجَةٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَذَلُّ مِنْ اللَّئِيمِ سَائِلُهُ ،
وَأَقَلُّ مِنْ الْبَخِيلِ نَائِلُهُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ أَنْ يَرَى مِنْ سَاقِطٍ
نَيْلًا سَنِيَّا فَلَقَدْ رَجَا أَنْ يَجْتَنِي مِنْ عَوْسَجٍ رُطَبًا
جَنِيَّا وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَسْئُولِ
فَثَلَاثَةٌ .
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكْتَفِيَ بِالتَّعْرِيضِ
وَلَا يَلْجَأُ إلَى السُّؤَالِ الصَّرِيحِ ؛ لَيَصُونَ السَّائِلَ عَنْ
ذُلِّ الطَّلَبِ فَإِنَّ الْحَالَ نَاطِقَةٌ وَالتَّعْرِيضَ كَافٍ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّاعِرُ : أَقُولُ وَسِتْرُ الدُّجَى مُسْبِلٌ كَمَا قَالَ حِينَ
شَكَا الضِّفْدَعُ كَلَامِي إنْ قُلْته ضَائِعٌ وَفِي الصَّمْتِ حَتْفِي
فَمَا أَصْنَعُ وَرُبَّمَا فَهِمَ الْمَسْئُولُ الْإِشَارَةَ فَأَلْجَأَ
إلَى التَّصْرِيحِ بِالْعِبَارَةِ تَهْجِينًا لِلسَّائِلِ فَيَخْجَلُ
وَيَسْتَحِي فَيَكُفُّ كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ : مَنْ كَانَ مَفْقُودَ
الْحَيَاءِ فَوَجْهُهُ مِنْ غَيْرِ بَوَّابٍ لَهُ بَوَّابُ وَالشَّرْطُ
الثَّانِي : أَنْ يَلْقَى بِالْبِشْرِ وَالتَّرْحِيبِ ، وَيُقَابِلَ
بِالطَّلَاقَةِ وَالتَّقْرِيبِ ، لِيَكُونَ
مَشْكُورًا إنْ أَعْطَى وَمَعْذُورًا إنْ مَنَعَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إلْقِ صَاحِبَ الْحَاجَةِ بِالْبِشْرِ
فَإِنْ عَدَمْتَ شُكْرَهُ لَمْ تَعْدَمْ عُذْرَهُ .
وَقَالَ
ابْنُ لَنْكَكَ : إنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ دُرَيْدٍ قَصَدَ بَعْضَ
الْوُزَرَاءِ فِي حَاجَةٍ فَلَمْ يَقْضِهَا لَهُ وَظَهَرَ لَهُ مِنْهُ
ضَجَرٌ ، فَقَالَ : لَا تَدْخُلَنَّك ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ فَلِخَيْرِ
دَهْرِك أَنْ تُرَى مَسْئُولَا لَا تَجْبَهَنَّ بِالرَّدِّ وَجْهَ
مُؤَمِّلٍ فَبَقَاءُ عِزِّك أَنْ تُرَى مَأْمُولَا تَلْقَى الْكَرِيمَ
فَتَسْتَدِلُّ بِبِشْرِهِ وَتَرَى الْعُبُوسَ عَلَى اللَّئِيمِ دَلِيلَا
وَاعْلَمْ بِأَنَّك عَنْ قَلِيلٍ صَائِرٌ خَبَرًا فَكُنْ خَبَرًا يَرُوقُ
جَمِيلَا وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : تَصْدِيقُ الْأَمَلِ وَتَحْقِيقُ
الظَّنِّ بِهِ ثُمَّ اعْتِبَارُ حَالِهِ وَحَالِ سَائِلِهِ فَإِنَّهَا لَا
تَخْلُو مِنْ أَرْبَعِ أَحْوَالٍ : فَالْحَالُ الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ
السَّائِلُ مُسْتَوْجِبًا وَالْمَسْئُولُ مُتَمَكِّنًا .
فَالْإِجَابَةُ
هَهُنَا تَسْتَحِقُّ كَرْمًا وَتَسْتَلْزِمُ مُرُوءَةً وَلَيْسَ لِلرَّدِّ
سَبِيلٌ إلَّا لِمَنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْبُخْلُ ، وَهَانَ عَلَيْهِ
الذَّمُّ ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ :
إنِّي رَأَيْت مِنْ الْمَكَارِمِ حَسْبُكُمْ أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ
الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا فَإِذَا تَذَكَّرْتُ الْمَكَارِمَ مَرَّةً فِي
مَجْلِسٍ أَنْتُمْ بِهِ فَتَقَنَّعُوا فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِمَّنْ
حَرَّمَ ثَرْوَةَ مَالِهِ ، وَمَنَعَ حُسْنَ حَالِهِ ، أَنْ يَكُونَ
مُسْتَوْدَعًا فِي صَنِيعٍ مَشْكُورٍ ، وَبِرٍّ مَذْخُورٍ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَخِيلٍ : لِمَ حَبَسْتَ مَالَك ؟ قَالَ : لِلنَّوَائِبِ .
فَقِيلَ لَهُ : قَدْ نَزَلَتْ بِك .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مَا لَك مِنْ مَالِكِ إلَّا الَّذِي قَدَّمْت
فَابْذُلْ طَائِعًا مَالِكَا تَقُولُ أَعْمَالِي وَلَوْ فَتَّشُوا رَأَيْت
أَعْمَالَك أَعْمَى لَكَا وَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ ، وَرَفَعَ
أَسْبَابَ شُكْرِهِ ، فَصَارَ بِأَنْ لَا حَقَّ لَهُ ، مَذْمُومًا
كَمَشْكُورٍ ، وَمَأْثُومًا كَمَأْجُورٍ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : خَزَنَ الْبَخِيلُ عَلَيَّ صَالِحَهُ إذْ
لَمْ يُثْقِلْ بِرُّهُ ظَهْرِي مَا
فَاتَنِي
خَيْرُ امْرِئٍ وَضَعَتْ عَنِّي يَدَاهُ مُؤْنَةَ الشُّكْرِ فَإِذَا لَمْ
يَكُنْ لِلرَّدِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ سَبِيلٌ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ
التَّأْخِيرُ مُضِرًّا عَجَّلَ بَذْلَهُ ، وَقَطَعَ مَطْلَهُ .
وَكَانَتْ إجَابَتُهُ فِعْلًا ، وَقَوْلُهُ عَمَلًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : مِنْ مُرُوءَةِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَنْ
لَا يَلْجَأَ إلَى إلْحَاحٍ عَلَيْهِ .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ : وَمُنْتَظِرٌ سُؤَالَك بِالْعَطَايَا وَأَشْرَفُ
مِنْ عَطَايَاهُ السُّؤَالْ إذَا لَمْ يَأْتِك الْمَعْرُوفُ طَوْعًا
فَدَعْهُ فَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ مَالْ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ
مُهْلَةٌ ، وَفِي التَّأْخِيرِ فُسْحَةٌ ، فَقَدْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ
الْفُضَلَاءِ فِيهِ .
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى
تَعْجِيلُ الْوَعْدِ قَوْلًا ، ثُمَّ يَعْقُبُهُ الْإِنْجَازُ فِعْلًا ،
لِيَكُونَ السَّائِلُ مَسْرُورًا بِتَعْجِيلِ الْوَعْدِ ثُمَّ بِآجِلِ
الْإِنْجَازِ ، وَيَكُونُ الْمَسْئُولُ مَوْصُوفًا بِالْكَرَمِ مَلْحُوظًا
بِالْوَفَاءِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ } .
وَقَالَ
الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ حَاجَةً : أَعِدُك الْيَوْمَ
وَأَحْبُوك غَدًا بِالْإِنْجَازِ لِتَذُوقَ حَلَاوَةَ الْأَمَلِ
وَأَتَزَيَّنُ بِثُبُوتِ الْوَفَاءِ .
وَوَعَدَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ
رَجُلًا بِحَاجَةٍ سَأَلَهُ إيَّاهَا فَقِيلَ لَهُ : تَعِدُ وَأَنْتَ
قَادِرٌ ؟ فَقَالَ : إنَّ الْحَاجَةَ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهَا وَعْدٌ
يَنْتَظِرُ صَاحِبُهُ نُجْحَهُ لَمْ يَجِدْ سُرُورَهَا ؛ لِأَنَّ
الْوَعْدَ طُعْمٌ وَالْإِنْجَازَ طَعَامٌ ، وَلَيْسَ مَنْ فَاجَأَهُ
الطَّعَامُ كَمَنْ يَجِدُ رِيحَهُ وَيَطْعَمُهُ فَدَعْ الْحَاجَةَ
تَخْتَمِرُ بِالْوَعْدِ ؛ لِيَكُونَ لَهَا طَعْمٌ عِنْدَ الْمُصْطَنَعِ
إلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إذَا أَحْسَنْت الْقَوْلَ
فَأَحْسِنْ الْفِعْلَ ؛ لِيَجْتَمِعَ لَك ثَمَرَةُ اللِّسَانِ وَثَمَرَةُ
الْإِحْسَانِ ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تَفْعَلُ فَإِنَّك لَا تَخْلُو فِي
ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ تَكْسِبُهُ ، أَوْ عَجْزٍ تَلْتَزِمُهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْبَذْلِ فِعْلًا مِنْ
غَيْرِ وَعْدٍ
أَوْلَى
، وَتَقْدِيمَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَلَا انْتِظَارٍ أَحْرَى ،
وَإِنَّمَا يُقَدِّمُ الْوَعْدَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا مَعُوزٌ
يَنْتَظِرُ وَجْدَهُ ، وَإِمَّا شَحِيحٌ يُرَوِّضُ نَفْسَهُ تَوْطِئَةً .
وَلَيْسَ
لِلْوَعْدِ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَجْهٌ يَصِحُّ وَلَا
رَأْيٌ يَتَّضِحُ ، مَعَ مَا يُغَيِّرُهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
وَتَتَقَلَّبُ بِهِ الْحَالُ مِنْ يَسَارٍ وَإِعْسَارٍ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُقَدَّمُ أَمْرُهُ
شَرْقًا وَغَرْبَا اُمْنُنْ بِخَتْمِ صَحِيفَتِي مَا دَامَ هَذَا الطِّينُ
رَطْبَا وَاعْلَمْ بِأَنَّ جَفَافَهُ مِمَّا يُعِيدُ السَّهْلَ صَعْبَا
قَالُوا : وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ مِنْ الِانْكِسَارِ ، وَفِي
تَوَقُّعِ الْوَعْدِ مِنْ مَرَارَةِ الِانْتِظَارِ ، وَفِي الْعَوْدِ
إلَيْهِ مِنْ ذِلَّةِ الِاقْتِضَاءِ ، وَذِلَّةِ الِاجْتِدَاءِ ، مَا
يُكَدِّرُ بِرَّهُ ، وَيُوهِنُ شُكْرَهُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إنَّ
الْحَوَائِجَ رُبَّمَا أَزْرَى بِهَا عِنْدَ الَّذِي تَقْضِي لَهُ
تَطْوِيلُهَا فَإِذَا ضَمِنْتَ لِصَاحِبٍ لَك حَاجَةً فَاعْلَمْ بِأَنَّ
تَمَامَهَا تَعْجِيلُهَا وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ
السَّائِلُ غَيْرَ مُسْتَوْجِبٍ وَالْمَسْئُولُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ .
فَفِي الرَّدِّ فُسْحَةٌ وَفِي الْمَنْعِ عُذْرٌ .
غَيْرَ أَنَّهُ يَلِينُ عِنْدَ الرَّدِّ لِينًا يَقِيهِ الذَّمَّ ،
وَيُظْهِرُ عُذْرًا يَدْفَعُ عَنْهُ اللَّوْمَ .
فَلَيْسَ كُلُّ مُقِلٍّ يَعْرِفُ وَلَا مَعْذُورٍ يُنْصِفُ .
وَقَدْ
قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يَصِفُ النَّاسَ : يَا رَبِّ إنَّ النَّاسَ
لَا يُنْصِفُونَنِي فَكَيْفَ وَإِنْ أَنْصَفْتُهُمْ ظَلَمُونِي فَإِنْ
كَانَ لِي شَيْءٌ تَصَدَّوْا لِأَخْذِهِ وَإِنْ جِئْتُ أَبْغِي شَيْئَهُمْ
مَنَعُونِي وَإِنْ نَالَهُمْ بَذْلِي فَلَا شُكْرَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ
أَنَا لَمْ أَبْذُلْ لَهُمْ شَتَمُونِي وَإِنْ طَرَقَتْنِي نَكْبَةٌ
فَكِهُوا بِهَا وَإِنْ صَحِبَتْنِي نِعْمَةٌ حَسَدُونِي سَأَمْنَعُ
قَلْبِي أَنْ يَحِنَّ إلَيْهِمْ وَأُغْمِضُ عَنْهُمْ نَاظِرِي وَجُفُونِي
وَأَقْطَعُ أَيَّامِي بِيَوْمِ سُهُولَةٍ أَقْضِي بِهَا عُمْرِي وَيَوْمِ
حُزُونِ أَلَا إنَّ أَصْفَى الْعَيْشِ مَا طَابَ غِبُّهُ وَمَا
نِلْتَهُ
فِي لَذَّةٍ وَسُكُونِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ
مُسْتَوْجِبًا ، وَالْمَسْئُولُ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ ، فَيَأْتِي
بِالْحِمْلِ عَلَى النَّفْسِ مَا أَمْكَنَ مِنْ يَسِيرٍ يَسُدُّ بِهِ
خَلَّةً ، أَوْ يَدْفَعُ بِهِ مَذَمَّةً أَوْ يُوَضِّحُ مِنْ أَعْذَارِ
الْمُعْوِزِينَ وَتَوَجُّعِ الْمُتَأَلِّمِينَ مَا يَجْعَلُهُ فِي
الْمَنْعِ مَعْذُورًا وَبِالتَّوَجُّعِ مَشْكُورًا .
وَقَدْ قَالَ
أَبُو النَّصْرِ الْعُتْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : اللَّهُ
يَعْلَمُ أَنِّي لَسْت ذَا بُخْلٍ وَلَسْتُ مُلْتَمِسًا فِي الْبُخْلِ لِي
عِلَلَا لَكِنَّ طَاقَةَ مِثْلِي غَيْرُ خَافِيَةٍ وَالنَّمْلُ يُعْذَرُ
فِي الْقَدْرِ الَّذِي حَمَلَا وَرُبَّمَا تَحَسَّرَ بِحُدُوثِ الْعَجْزِ
بَعْدَ تَقْدُمْ الْقُدْرَةِ عَلَى فَوْتِ الصَّنِيعَةِ وَزَوَالِ
الْعَادَةِ حَتَّى صَارَ أَضْنَى جَسَدًا وَأَزِيدَ كَمَدًا ، كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ : وَكُنْتُ كَبَازِ السُّوءِ قُصَّ جَنَاحُهُ يَرَى حَسَرَاتٍ
كُلَّمَا طَارَ طَائِرُ يَرَى طَائِرَاتِ الْجَوِّ تَخْفِقُ حَوْلَهُ
فَيَذْكُرُ إذْ رِيشُ الْجَنَاحَيْنِ وَافِرُ وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ :
أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ غَيْرَ مُسْتَوْجِبٍ وَالْمَسْئُولُ مُتَمَكِّنًا
، وَعَلَى الْبَذْلِ قَادِرًا ، فَيَنْظُرُ فَإِنْ خَافَ بِالرَّدِّ
قَدْحَ عِرْضٍ ، أَوْ قُبْحَ هِجَاءٍ مُمْضٍ ، كَانَ الْبَذْلُ مَنْدُوبًا
صِيَانَةً لَا جُودًا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ
فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ } .
وَإِنْ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ وَسَلِمَ مِنْهُ
فَمِنْ النَّاسِ مَنْ غَلَّبَ الْمَسْأَلَةَ وَأَمَرَ بِالْبَذْلِ
لِئَلَّا يُقَابِلَ الرَّجَاءَ بِالْخَيْبَةِ وَالْأَمَلَ بِالْإِيَاسِ .
ثُمَّ لِمَا فِيهِ مِنْ اعْتِيَادِ الرَّدِّ وَاسْتِسْهَالِ الْمَنْعِ
الْمُفْضِي إلَى الشُّحِّ .
وَأَنْشَدَ
الْأَصْمَعِيُّ ، عَنْ الْكِسَائِيّ : كَأَنَّك فِي الْكِتَابِ وَجَدْتَ
لَاءً مُحَرَّمَةً عَلَيْك فَلَا تَحِلُّ فَمَا تَدْرِي إذَا أَعْطَيْت
مَالًا أَيُكْثِرُ مِنْ سَمَاحِك أَمْ يُقِلُّ إذَا حَضَرَ الشِّتَاءُ
فَأَنْتَ شَمْسٌ وَإِنْ حَضَرَ الْمَصِيفُ فَأَنْتَ ظِلُّ وَمِنْ النَّاسِ
مَنْ اعْتَبَرَ الْأَسْبَابِ
وَغَلَّبَ حَالَ السَّائِلِ
وَنَدَبَ إلَى الْمَنْعِ إذَا كَانَ الْعَطَاءُ فِي غَيْرِ حَقٍّ
لِيَقْوَى عَلَى الْحُقُوقِ إذَا عُرِضَتْ ، وَلَا يَعْجِزُ عَنْهَا إذَا
لَزِمَتْ وَتَعَيَّنَتْ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا
تَجُدْ بِالْعَطَاءِ فِي غَيْرِ حَقٍّ لَيْسَ فِي مَنْعِ غَيْرِ ذِي
الْحَقِّ بُخْلُ إنَّمَا الْجُودُ أَنْ تَجُودَ عَلَى مَنْ هُوَ لِلْجُودِ
وَالنَّدَى مِنْك أَهْلُ فَأَمَّا مَنْ أَجَابَ السُّؤَالَ ، وَوَعَدَ
بِالْبَذْلِ وَالنَّوَالِ ، فَقَدْ صَارَ بِوَعْدِهِ مَرْهُونًا وَصَارَ
وَفَاؤُهُ بِالْوَعْدِ مَقْرُونًا .
فَالِاعْتِبَارُ بِحَقِّ
السَّائِلِ بَعْدَ الْوَعْدِ وَلَا سَبِيلَ إلَى مُرَاجَعَةِ نَفْسِهِ فِي
الرَّدِّ ، فَيَسْتَوْجِبُ مَعَ ذَمِّ الْمَنْعِ لُؤْمَ الْبُخْلِ
وَمَقْتَ الْقَادِرِ وَهُجْنَةَ الْكَذُوبِ .
ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِمَطْلِهِ بَعْدَ الْوَعْدِ ؛ لِمَا فِي الْمَطْلِ
مِنْ تَكْدِيرِ الصَّنِيعِ وَتَمْحِيقِ الشُّكْرِ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا : الْمَطْلُ أَحَدُ الْمَنْعَيْنِ ،
وَالْيَأْسُ أَحَدُ النَّجَحَيْنِ .
وَقَالَ
بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ : أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْك يَوْمًا غَمَامَةٌ
أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَا رَشَاشُهَا فَلَا غَيْمُهَا يَجْلِي
فَيَيْأَسُ طَامِعٌ وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوِي عِطَاشُهَا ثُمَّ
إذَا أَنْجَزَ وَعْدَهُ ، وَأَوْفَى عَهْدَهُ ، لَمْ يَتْبَعْ نَفْسَهُ
مَا أَعْطَى وَيَسَّرَ إنْ كَانَتْ يَدُهُ الْعُلْيَا .
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : فَإِنَّك لَا تَدْرِي إذَا جَاءَ سَائِلٌ أَأَنْتَ بِمَا
تُعْطِيهِ أَمْ هُوَ أَسْعَدُ عَسَى سَائِلٌ ذُو حَاجَةٍ إنْ مَنَعْتَهُ
مِنْ الْيَوْمِ سُؤْلًا أَنْ يَكُونَ لَهُ غَدٌ وَلْيَكُنْ مِنْ سُرُورِهِ
إذْ كَانَتْ الْأَرْزَاقُ مُقَدَّرَةً أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدِهِ
جَارِيَةٌ ، وَمِنْ جِهَتِهِ وَاصِلَةٌ ، لَا تَنْتَقِلُ عَنْهُ بِمَنْعٍ
وَلَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُ بِإِيَاسٍ .
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا
كَثْرَةَ عِيَالِهِ إلَى بَعْضِ الزُّهَّادِ فَقَالَ : اُنْظُرْ مَنْ
كَانَ مِنْهُمْ لَيْسَ رِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَحَوِّلْهُ
إلَى مَنْزِلِي .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لِرَجُلٍ كَانَ
يَأْتِيهِ عَلَى دَابَّةٍ فَفَقَدَ الدَّابَّةَ : مَا فَعَلَ بِرْذَوْنُك
؟ قَالَ : اشْتَدَّتْ عَلَيَّ مُؤْنَتُهُ فَبِعْتُهُ .
قَالَ :
أَفَتَرَاهُ خَلَّفَ رِزْقَهُ عِنْدَك ؟ وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ لِلَّهِ غَيْرَ مَرْعَاك مَرْعًى يَرْتَعِيهِ
وَغَيْرُ مَائِك مَاءْ إنَّ لِلَّهِ بِالْبَرِيَّةِ لُطْفًا سَبَقَ
الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءْ
ثُمَّ لِيَكُنْ غَالِبُ عَطَائِهِ
لِلَّهِ تَعَالَى وَأَكْثَرُ قَصْدِهِ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ كَاَلَّذِي حَكَاهُ أَبُو بَكْرَةَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَاهُ فَقَالَ :
يَا عُمَرُ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّهْ اُكْسُ بُنَيَّاتِي
وَأُمَّهُنَّهْ وَكُنْ لَنَا مِنْ الزَّمَانِ جُنَّهْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ
لَتَفْعَلَنَّهْ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ لَمْ
أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا ؟ فَقَالَ : إذًا أَبَا حَفْصٍ لَأَذْهَبَنَّهْ
فَقَالَ : فَإِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا ؟ فَقَالَ : يَكُونُ عَنْ
حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ يَوْمَ تَكُونُ الْأُعْطَيَاتُ هَنَّهْ وَمَوْقِفُ
الْمَسْئُولِ بَيْنَهُنَّهْ إمَّا إلَى نَارٍ وَإِمَّا جَنَّهْ فَبَكَى
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتَهُ ثُمَّ قَالَ :
يَا غُلَامُ أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا لِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِشِعْرِهِ
أَمَا وَاَللَّهِ لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ .
وَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَلَا مِنْ طَلَبِ جَزَاءٍ وَشُكْرٍ ، وَعَرَى عَنْ
امْتِنَانٍ وَنَشْرٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشْرَفَ لِلْبَاذِلِ ، وَأَهْنَأَ
لِلْقَابِلِ .
وَأَمَّا الْمُعْطِي إذَا الْتَمَسَ بِعَطَائِهِ
الْجَزَاءَ ، وَطَلَبَ بِهِ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ فَهُوَ خَارِجٌ
بِعَطَائِهِ عَنْ حُكْمِ السَّخَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ طَلَبَ بِهِ
الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ ، كَانَ صَاحِبَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ ، وَفِي
هَذَيْنِ مِنْ الذَّمِّ مَا يُنَافِي السَّخَاءَ .
وَإِنْ طَلَبَ بِهِ الْجَزَاءَ كَانَ تَاجِرًا مُتَرَبِّحًا لَا
يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وَلَا مَدْحًا .
وَقَدْ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَأْوِيلِ قَوْله
تَعَالَى : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } إنَّهُ لَا يُعْطِي عَطِيَّةً
يَلْتَمِسُ بِهَا أَفْضَلَ مِنْهَا .
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ : لَا تَمْنُنْ
بِعَمَلِك تَسْتَكْثِرْ عَلَى رَبِّك .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ :
وَلَيْسَتْ يَدٌ أَوْلَيْتَهَا بِغَنِيمَةٍ إذَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ
تُعِدَّ لَهَا شُكْرَا غِنَى الْمَرْءِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ
فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى
فَقْرَا
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَرِيمَ يُجْتَدَى بِالْكَرَامَةِ وَاللُّطْفِ ،
وَاللَّئِيمُ يَجْتَدِي بِالْمَهَانَةِ وَالْعُنْفِ ، فَلَا يَجُودُ إلَّا
خَوْفًا ، وَلَا يُجِيبُ إلَّا عُنْفًا ، كَمَا قَدْ قَالَ الشَّاعِرُ :
رَأَيْتُك مِثْلَ الْجَوْزِ يَمْنَعُ لُبَّهُ صَحِيحًا وَيُعْطِي خَيْرَهُ
حِينَ يُكْسَرُ فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ الْمَهَانَةُ طَرِيقًا إلَى
اجْتِدَائِك ، وَالْخَوْفُ سَبِيلًا إلَى إعْطَائِك ، فَيَجْرِي عَلَيْك
سَفَهُ الطَّعَامِ ، وَامْتِهَانُ اللِّئَامِ ، وَلْيَكُنْ جُودُك كَرْمًا
وَرَغْبَةً ، لَا لُؤْمًا وَرَهْبَةً ، كَيْ لَا يَكُونَ مَعَ الْوَصْمَةِ
، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ : صِرْتُ كَأَنِّي ذُبَالَةٌ
نُصِبَتْ تُضِيءُ لِلنَّاسِ وَهِيَ تَحْتَرِقُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْبِرِّ فَهُوَ
الْمَعْرُوفُ وَيَتَنَوَّعُ أَيْضًا نَوْعَيْنِ : قَوْلًا وَعَمَلًا .
فَأَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ طِيبُ الْكَلَامِ وَحُسْنُ الْبِشْرِ
وَالتَّوَدُّدُ بِجَمِيلِ الْقَوْلِ .
وَهَذَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ حُسْنُ الْخُلُقِ وَرِقَّةُ الطَّبْعِ .
وَيَجِبُ
أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا كَالسَّخَاءِ فَإِنَّهُ إنْ أَسْرَفَ فِيهِ كَانَ
مَلِقًا مَذْمُومًا ، وَإِنْ تَوَسَّطَ وَاقْتَصَدَ فِيهِ كَانَ
مَعْرُوفًا وَبِرًّا مَحْمُودًا .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا ، فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّك ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } إنَّهَا
الْكَلَامُ الطَّيِّبُ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَتَأَوَّلُ
أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { إنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ
فَلْيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ } .
وَرُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْشِدَ عِنْدَهُ
قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ هَذَا : وَحَيِّ ذَوِي الْأَضْغَانِ تَسْبِ
قُلُوبَهُمْ تَحِيَّتَك الْحُسْنَى فَقَدْ يُرْقَعُ النَّعْلُ فَإِنْ
دَحَسُوا بِالْمَكْرِ فَاعْفُ تَكَرُّمًا وَإِنْ حَبَسُوا عَنْك
الْحَدِيثَ فَلَا تَسْلُ فَإِنَّ الَّذِي يُؤْذِيك مِنْهُ سَمَاعُهُ
وَإِنَّ الَّذِي قَالُوا وَرَاءَك لَمْ يَقْلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً ، وَإِنَّ
مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا } .
وَقِيلَ لِلْعَتَّابِيِّ : إنَّك
تَلْقَى الْعَامَّةَ بِبِشْرٍ وَتَقْرِيبٍ ، قَالَ : دَفْعُ صَنِيعَةٍ
بِأَيْسَرِ مُؤْنَةٍ وَاكْتِسَابُ إخْوَانٍ بِأَيْسَرِ مَبْذُولٍ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ
أَحِبَّاؤُهُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَبُنَيَّ إنَّ الْبِشْرَ شَيْءٌ هَيِّنٌ وَجْهٌ
طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لَيِّنٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَرْءُ لَا يُعْرَفُ
مِقْدَارُهُ مَا لَمْ تَبِنْ لِلنَّاسِ أَفْعَالُهُ وَكُلُّ مَنْ
يَمْنَعُنِي بِشْرَهُ فَقَلَّمَا يَنْفَعُنِي مَالُهُ وَأَمَّا الْعَمَلُ
فَهُوَ بَذْلُ
الْجَاهِ وَالْإِسْعَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَعُونَةُ
فِي النَّائِبَةِ .
وَهَذَا
يَبْعَثُ عَلَيْهِ حُبُّ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ وَإِيثَارُ الصَّلَاحِ
لَهُمْ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ سَرَفٌ ، وَلَا لِغَايَتِهَا
حَدٌّ ، بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ
فَهِيَ أَفْعَالُ خَيْرٍ تَعُودُ بِنَفْعَيْنِ : نَفْعٌ عَلَى فَاعِلِهَا
فِي اكْتِسَابِ الْأَجْرِ وَجَمِيلِ الذِّكْرِ ، وَنَفْعٌ عَلَى
الْمُعَانِ بِهَا فِي التَّخْفِيفِ عَنْهُ وَالْمُسَاعَدَةِ لَهُ .
وَقَدْ
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } ،
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَنَائِعُ
الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ } .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { الْمَعْرُوفُ كَاسْمِهِ
وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَعْرُوفُ
وَأَهْلُهُ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : لَا يُزْهِدَنَّك فِي الْمَعْرُوفِ كُفْرُ مَنْ كَفَرَهُ
فَقَدْ يَشْكُرُ الشَّاكِرُ بِأَضْعَافِ جُحُودِ الْكَافِرِ .
وَقَالَ
الْحُطَيْئَةُ : مَنْ يَفْعَلْ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَائِزَهُ لَا
يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ :
يَدُ الْمَعْرُوفِ غُنْمٌ حَيْثُ كَانَتْ تَحَمَّلَهَا كَفُورٌ أَمْ
شَكُورُ فَفِي شُكْرِ الشَّكُورِ لَهَا جَزَاءٌ وَعِنْدَ اللَّهِ مَا
كَفَرَ الْكَفُورُ فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى ابْتِدَاءِ
الْمَعْرُوفِ أَنْ يُعَجِّلَهُ حَذَرَ فَوَاتِهِ ، وَيُبَادِرَ بِهِ
خِيفَةُ عَجْزِهِ .
وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ فُرَصِ زَمَانِهِ ،
وَغَنَائِمِ إمْكَانِهِ ، وَلَا يُهْمِلُهُ ثِقَةً بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ
، فَكَمْ وَاثِقٍ بِقُدْرَةٍ فَاتَتْ فَأَعْقَبَتْ نَدَمًا ، وَمُعَوِّلٍ
عَلَى مُكْنَةٍ زَالَتْ ف
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَنْفَعُ الصَّنِيعَةُ
إلَّا عِنْدَ ذِي حَسَبٍ وَدِينٍ } .
وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ صَنَائِعَهُ فِي أَهْلِ الْحِفَاظِ } .
وَقَالَ
حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ الصَّنِيعَةَ لَا
تَكُونُ صَنِيعَةً حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ فَإِذَا
صَنَعْتَ صَنِيعَةً فَاعْمَلْ بِهَا لِلَّهِ أَوْ لِذَوِي الْقَرَابَةِ
أَوْ دَعْ وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا خَيْرَ فِي مَعْرُوفٍ
إلَى غَيْرِ عَرُوفٍ .
وَقَدْ ضَرَبَ الشَّاعِرُ بِهِ مَثَلًا قَالَ :
كَحِمَارِ السُّوءِ إنْ أَشْبَعْتَهُ رَمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جَاعَ نَهَقْ
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَلَى قَدْرِ الْمَغَارِسِ يَكُونُ
اجْتِنَاءُ الْغَارِسِ ، فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ :
لَعَمْرُك مَا الْمَعْرُوفُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ وَفِي أَهْلِهِ إلَّا
كَبَعْضِ الْوَدَائِعِ فَمُسْتَوْدَعٌ ضَاعَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ
وَمُسْتَوْدَعٌ مَا عِنْدَهُ غَيْرُ ضَائِعِ وَمَا النَّاسُ فِي شُكْرِ
الصَّنِيعَةِ عِنْدَهُمْ وَفِي كُفْرِهَا إلَّا كَبَعْضِ الْمَزَارِعِ
فَمَزْرَعَةٌ طَابَتْ وَأَضْعَفَ نَبْتُهَا وَمَزْرَعَةٌ أَكْدَتْ عَلَى
كُلِّ زَارِعِ وَأَمَّا مَنْ أُسْدِيَ إلَيْهِ الْمَعْرُوفُ وَاصْطُنِعَ
إلَيْهِ الْإِحْسَانُ فَقَدْ صَارَ بِأَسْرِ الْمَعْرُوفِ مَوْثُوقًا ،
وَفِي مِلْكِ الْإِحْسَانِ مَرْقُوقًا ، وَلَزِمَهُ ، إنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الْمُكَافَأَةِ ، أَنْ يُكَافِئَ عَلَيْهَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يُقَابِلَ الْمَعْرُوفَ
بِنَشْرِهِ ، وَيُقَابِلَ الْفَاعِلَ بِشُكْرِهِ .
فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { مَنْ أَوْدَعَ مَعْرُوفًا فَلْيَنْشُرْهُ فَإِنْ نَشَرَهُ فَقَدْ
شَكَرَهُ ، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ } .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { دَخَلَ
عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا
أَتَمَثَّلُ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ : ارْفَعْ ضَعِيفَك لَا يَخُونُك
ضَعْفُهُ يَوْمًا فَتُدْرِكُهُ الْعَوَاقِبُ قَدْ نَمَا يُجْزِيك أَوْ
يُثْنِي عَلَيْكَ وَإِنَّ
مَنْ أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا
فَعَلْت فَقَدْ جَزَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : رُدِّي عَلَيَّ قَوْلَ الْيَهُودِيِّ - قَاتَلَهُ اللَّهُ -
لَقَدْ أَتَانِي جَبْرَائِيلُ بِرِسَالَةٍ مِنْ رَبِّي تَعَالَى :
أَيُّمَا رَجُلٍ صَنَعَ إلَى أَخِيهِ صَنِيعَةً فَلَمْ يَجِدْ لَهَا
جَزَاءً إلَّا الدُّعَاءَ وَالثَّنَاءَ فَقَدْ كَافَأَهُ } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الشُّكْرُ قَيْدُ النِّعَمِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْإِنْعَامَ فَاعْدُدْهُ
مِنْ الْأَنْعَامِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ قِيمَةُ كُلِّ نِعْمَةٍ شُكْرُهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كُفْرُ النِّعَمِ مِنْ أَمَارَاتِ
الْبَطَرِ وَأَسْبَابِ الْغِيَرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : الْكَرِيمُ شَكُورٌ أَوْ مَشْكُورٌ ،
وَاللَّئِيمُ كَفُورٌ أَوْ مَكْفُورٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا زَوَالَ لِلنِّعْمَةِ مَعَ الشُّكْرِ ،
وَلَا بَقَاءَ لَهَا مَعَ الْكُفْرِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : شُكْرُ الْإِلَهِ بِطُولِ الثَّنَاءِ وَشُكْرُ
الْوُلَاةِ بِصِدْقِ الْوَلَاءِ وَشُكْرُ النَّظِيرِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ
وَشُكْرُك الدُّونَ بِحُسْنِ الْعَطَاءِ وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
فَلَوْ كَانَ يَسْتَغْنِي عَنْ الشُّكْرِ مَاجِدٌ لِعِزَّةِ مُلْكٍ أَوْ
عُلُوِّ مَكَانِ لَمَا أَمَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِشُكْرِهِ فَقَالَ :
اُشْكُرُوا لِي أَيُّهَا الثَّقَلَانِ فَإِنَّ مَنْ شَكَرَ مَعْرُوفَ مَنْ
أَحْسَنَ إلَيْهِ ، وَنَشَرَ أَفْضَالَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ
أَدَّى حَقَّ النِّعْمَةِ ، وَقَضَى مُوجِبِ الصَّنِيعَة ، وَلَمْ يَبْقَ
عَلَيْهِ إلَّا اسْتِدَامَةُ ذَلِكَ إتْمَامًا لِشُكْرِهِ لِيَكُونَ
لِلْمَزِيدِ مُسْتَحِقًّا وَلِمُتَابَعَةِ الْإِحْسَانِ مُسْتَوْجِبًا .
حُكِيَ
أَنَّ الْحَجَّاجَ أُتِيَ إلَيْهِ بِقَوْمٍ مِنْ الْخَوَارِجِ ، وَكَانَ
فِيهِمْ صَدِيقٌ لَهُ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ إلَّا ذَلِكَ الصَّدِيقُ
فَإِنَّهُ عَفَا عَنْهُ وَأَطْلَقَهُ وَوَصَلَهُ .
فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلَى قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ فَقَالَ لَهُ : عُدْ
إلَى قِتَالِ عَدُوِّ اللَّهِ .
فَقَالَ هَيْهَاتَ ، غَلَّ يَدًا مُطْلِقُهَا وَاسْتَرَقَّ رَقَبَةً
مُعْتِقُهَا .
وَأَنْشَأَ يَقُولُ : أَأُقَاتِلُ
الْحَجَّاجَ
فِي سُلْطَانِهِ بِيَدٍ تُقِرُّ بِأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ إنِّي إذًا
لَأَخُو الدَّنَاءَةِ وَاَلَّذِي شَهِدَتْ بِأَقْبَحِ فِعْلِهِ
غَدَرَاتُهُ مَاذَا أَقُولُ إذَا وَقَفْتُ إزَاءَهُ فِي الصَّفِّ
وَاحْتَجَّتْ لَهُ فَعَلَاتُهُ أَأَقُولُ جَارَ عَلَيَّ لَا إنِّي إذًا
لَأَحَقُّ مَنْ جَارَتْ عَلَيْهِ وُلَاتُهُ وَتَحَدَّثَ الْأَقْوَامُ
أَنَّ صَنَائِعًا غُرِسَتْ لَدَيَّ فَحَنْظَلَتْ نَخَلَاتُهُ وَقِيلَ فِي
مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمَعْرُوفُ رِقٌّ ، وَالْمُكَافَأَةُ عِتْقٌ .
وَمِنْ
أَشْكَرِ النَّاسِ الَّذِي يَقُولُ : لَأَشْكُرَنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْتَ
بِهِ إنَّ اهْتِمَامَك بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفُ وَلَا أَلُومَك إنْ لَمْ
يُمْضِهِ قَدَرٌ فَالشَّيْءُ بِالْقَدَرِ الْمَحْتُومِ مَصْرُوفُ وَهَذَا
النَّوْعُ مِنْ الشُّكْرِ الَّذِي يَتَعَجَّلُ الْمَعْرُوفَ وَيَتَقَدَّمُ
الْبِرَّ قَدْ يَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ : فَيَكُونُ تَارَةً مِنْ حُسْنِ
الثِّقَةِ بِالْمَشْكُورِ فِي وُصُولِ بِرِّهِ وَإِسْدَاءِ عُرْفِهِ وَلَا
رَأْيَ لِمَنْ يُحْسِنُ بِهِ ظَنَّ شَاكِرٍ أَنْ يُخْلِفَ حُسْنَ ظَنِّهِ
فِيهِ ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ الْعَتَّابِيُّ : قَدْ أَوْرَقَتْ فِيك
آمَالِي بِوَعْدِك لِي وَلَيْسَ فِي وَرَقِ الْآمَالِ لِي ثَمَرُ وَقَدْ
يَكُونُ تَارَةً مِنْ فَرْطِ شُكْرِ الرَّاجِي وَحُسْنِ مُكَافَأَةِ
الْآمِلِ ، فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ إلَّا بِتَعْجِيلِ الْحَقِّ
وَإِسْلَافِ الشُّكْرِ .
وَلَيْسَ لِمَنْ صَادَفَ لِمَعْرُوفِهِ
مَعْدِنًا زَاكِيًا ، وَمُغْرِسًا نَامِيًا ، أَنْ يُفَوِّتَ نَفْسَهُ
غُنْمًا ، وَلَا يَحْرِمَهَا رِبْحًا فَهَذَا وَجْهٌ ثَانٍ .
وَقَدْ يَكُونُ تَارَةً ارْتِهَانًا لِلْمَأْمُولِ ، وَحُبًّا
لِلْمَسْئُولِ .
وَبِحَسَبِ مَا أَسْلَفَ مِنْ الشُّكْرِ يَكُونُ الذَّمُّ عِنْدَ
الْإِيَاسِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مِنْ حُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ : مَنْ شَكَرَكَ
عَلَى مَعْرُوفٍ لَمْ تُسْدِهِ إلَيْهِ فَعَاجِلْهُ بِالْبِرِّ وَإِلَّا
انْعَكَسَ فَصَارَ ذَمًّا .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : وَمَا
الْحِقْدُ إلَّا تَوْأَمُ الشُّكْرِ فِي الْفَتَى وَبَعْضُ السَّجَايَا
يُنْسَبْنَ إلَى بَعْضِ فَحَيْثُ تَرَى حِقْدًا عَلَى ذِي إسَاءَةٍ
فَثَمَّ تَرَى شُكْرًا عَلَى حُسْنِ الْقَرْضِ إذَا الْأَرْضُ أَدَّتْ
رِيعَ
مَا أَنْتَ زَارِعٌ مِنْ الْبَذْرِ فِيهَا فَهِيَ نَاهِيك مِنْ أَرْضِ
وَأَمَّا مَنْ سَتَرَ مَعْرُوفَ الْمُنْعِمِ وَلَمْ يَشْكُرْهُ عَلَى مَا
أَوْلَاهُ مِنْ نِعَمِهِ ، فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ وَجَحَدَ
الصَّنِيعَةَ .
وَإِنَّ مِنْ أَذَمِّ الْخَلَائِقِ ، وَأَسْوَأِ الطَّرَائِقِ ، مَا
يَسْتَوْجِبُ بِهِ قُبْحَ الرَّدِّ وَسُوءَ الْمَنْعِ .
فَقَدْ
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ
لَا يَشْكُرُ النَّاسَ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ لَمْ يَشْكُرْ لِمُنْعِمِهِ
اسْتَحَقَّ قَطْعَ النِّعْمَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : مَنْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْمُفِيدِ
اسْتَوْجَبَ حِرْمَانَ الْمَزِيدِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَنْكَرَ الصَّنِيعَةَ اسْتَوْجَبَ
قُبْحَ الْقَطِيعَةِ .
وَأَنْشَدَنِي
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : مَنْ جَاوَزَ النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ لَمْ
يَخْشَ عَلَى النِّعْمَةِ مُغْتَالَهَا لَوْ شَكَرُوا النِّعْمَةَ
زَادَتْهُمْ مَقَالَةُ اللَّهِ الَّتِي قَالَهَا لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ لَكِنَّمَا كُفْرُهُمْ غَالَهَا وَالْكُفْرُ
بِالنِّعْمَةِ يَدْعُو إلَى زَوَالِهَا وَالشُّكْرُ أَبْقَى لَهَا وَهَذَا
آخِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَسْبَابِ
الْأُلْفَةِ الْجَامِعَةِ .
فَأَمَّا الْقَاعِدَةُ
الثَّالِثَةُ : فَهِيَ الْمَادَّةُ الْكَافِيَةُ ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ
الْإِنْسَانِ لَازِمَةٌ لَا يُعَرَّى مِنْهَا بَشَرٌ .
قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ
وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } فَإِذَا عَدَمَ الْمَادَّةَ الَّتِي هِيَ
قِوَامُ نَفْسِهِ لَمْ تَدُمْ لَهُ حَيَاةٌ ، وَلَمْ تَسْتَقِمْ لَهُ
دُنْيَا ، وَإِذَا تَعَذَّرَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ لَحِقَهُ مِنْ
الْوَهْنِ فِي نَفْسِهِ وَالِاخْتِلَالِ فِي دُنْيَاهُ بِقَدْرِ مَا
تَعَذَّرَ مِنْ الْمَادَّةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَائِمَ
بِغَيْرِهِ يَكْمُلُ بِكَمَالِهِ وَيَخْتَلُّ بِاخْتِلَالِهِ .
ثُمَّ
لَمَّا كَانَتْ الْمَوَادُّ مَطْلُوبَةً لِحَاجَةِ الْكَافَّةِ إلَيْهَا
أُعْوِزَتْ بِغَيْرِ طَلَبٍ ، وَعُدِمَتْ لِغَيْرِ سَبَبٍ .
وَأَسْبَابُ
الْمَوَدَّةِ مُخْتَلِفَةٌ ، وَجِهَاتُ الْمَكَاسِبِ مُتَشَعِّبَةٌ ؛
لِيَكُونَ اخْتِلَافُ أَسْبَابِهَا عِلَّةَ الِائْتِلَافِ بِهَا ،
وَتَشَعُّبُ جِهَاتِهَا تَوْسِعَةً لِطُلَّابِهَا ، كَيْ لَا يَجْتَمِعُوا
عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ فَلَا يَلْتَئِمُونَ ، أَوْ يَشْتَرِكُوا فِي جِهَةٍ
وَاحِدَةٍ فَلَا يَكْتَفُونَ .
ثُمَّ هَدَاهُمْ إلَيْهَا بِعُقُولِهِمْ
وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهَا بِطِبَاعِهِمْ حَتَّى لَا يَتَكَلَّفُوا
ائْتِلَافَهُمْ فِي الْمَعَايِشِ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَعْجِزُوا وَلَا
يُعَاوَنُوا بِتَقْدِيرِ مَوَادِّهِمْ بِالْمَكَاسِبِ الْمُتَشَعِّبَةِ ،
فَيَخْتَلُّوا حِكْمَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اطَّلَعَ بِهَا
عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ .
وَقَدْ أَنْبَأَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ أَخْبَارًا وَإِذْكَارًا فَقَالَ - سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى - : { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدَى } .
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فَقَالَ قَتَادَةُ :
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَا يَصْلُحُ ثُمَّ هَدَاهُ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : أَعْطَى كُلَّ شَيْءِ زَوْجَةً ثُمَّ هَدَاهُ
لِنِكَاحِهَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } .
يَعْنِي مَعَايِشَهُمْ مَتَى يَزْرَعُونَ وَمَتَى يَغْرِسُونَ : { وَهُمْ
عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : {
وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ }
قَالَ عِكْرِمَةُ : قَدَّرَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مِنْهَا مَا لَمْ
يَجْعَلْهُ فِي الْأُخْرَى لِيَعِيشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ
بِالتِّجَارَةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ .
وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : قَدَّرَ أَرْزَاقَ
أَهْلِهَا سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ الزِّيَادَةَ فِي أَرْزَاقِهِمْ .
ثُمَّ
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُمْ مَعَ مَا هَدَاهُمْ إلَيْهِ مِنْ
مَكَاسِبِهِمْ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ مِنْ مَعَايِشِهِمْ دِينًا يَكُونُ
حُكْمًا وَشَرْعًا يَكُونُ قَيِّمًا ؛ لِيَصِلُوا إلَى مَوَادِّهِمْ
بِتَقْدِيرِهِ ، وَيَطْلُبُوا أَسْبَابَ مَكَاسِبِهِمْ بِتَدْبِيرِهِ ،
حَتَّى لَا يَنْفَرِدُوا بِإِرَادَتِهِمْ فَيَتَغَالَبُوا ، وَتَسْتَوْلِي
عَلَيْهِمْ أَهْوَاؤُهُمْ فَيَتَقَاطَعُوا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : الْحَقُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
هُوَ اللَّهُ - جَلَّ جَلَالَهُ - فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ
الْمَوَادَّ مَطْلُوبَةً بِالْإِلْهَامِ حَتَّى جَعَلَ الْعَقْلَ هَادِيًا
إلَيْهَا ، وَالدِّينَ قَاضِيًا عَلَيْهَا ؛ لِتَتِمَّ السَّعَادَةُ
وَتَعُمَّ الْمَصْلَحَةُ .
ثُمَّ إنَّهُ - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ - جَعَلَ
سَدَّ حَاجَتِهِمْ وَتَوَصُّلِهِمْ إلَى مَنَافِعِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ :
بِمَادَّةٍ وَكَسْبٍ .
فَأَمَّا الْمَادَّةُ فَهِيَ حَادِثَةٌ عَنْ اقْتِنَاءِ أُصُولٍ نَامِيَةٍ
بِذَوَاتِهَا .
وَهِيَ شَيْئَانِ : نَبْتٌ نَامٍ وَحَيَوَانٌ مُتَنَاسِلٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } .
قَالَ أَبُو صَالِحٍ : أَغْنَى خَلْقَهُ بِالْمَالِ ، وَأَقْنَى جَعَلَ
لَهُمْ قُنْيَةً وَهِيَ أُصُولُ الْأَمْوَالِ .
وَأَمَّا الْمَكْسَبُ فَيَكُونُ بِالْأَفْعَالِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى
الْمَادَّةِ وَالتَّصَرُّفِ الْمُؤَدَّيْ إلَى الْحَاجَةِ .
وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَقَلُّبٌ فِي تِجَارَةٍ .
وَالثَّانِي : تَصَرُّفٌ فِي صِنَاعَةٍ .
وَهَذَانِ هُمَا فَرْعٌ لِوَجْهَيْ الْمَادَّةِ ، فَصَارَتْ أَسْبَابُ
الْمَوَادِّ الْمَأْلُوفَةِ ، وَجِهَاتُ الْمَكَاسِبِ
الْمَعْرُوفَةِ ، مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : نَمَاءُ
زِرَاعَةٍ ، وَنِتَاجُ حَيَوَانٍ ، وَرِبْحُ تِجَارَةٍ ، وَكَسْبُ
صِنَاعَةٍ .
وَحَكَى
الْحَسَنُ بْنُ رَجَاءٍ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ الْمَأْمُونِ قَالَ :
سَمِعْتُهُ يَقُولُ : مَعَايِشُ النَّاسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ :
زِرَاعَةٌ وَصِنَاعَةٌ وَتِجَارَةٌ وَإِمَارَةٌ .
فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا كَانَ كَلًّا عَلَيْهَا .
وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَتْ أَسْبَابُ الْمَوَادِّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ
فَسَنَصِفُ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِقَوْلٍ مُوجَزٍ .
أَمَّا
الْأَوَّلُ مِنْ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الزِّرَاعَةُ : فَهِيَ مَادَّةُ
أَهْلِ الْحَضَرِ وَسُكَّانِ الْأَمْصَارِ وَالْمُدُنِ ،
وَالِاسْتِمْدَادُ بِهَا أَعَمُّ نَفْعًا ، وَأَوْفَى فَرْعًا .
وَلِذَلِكَ
ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمَثَلَ فَقَالَ : { مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الْمَالِ
عَيْنٌ سَاهِرَةٌ لِعَيْنٍ نَائِمَةٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نِعْمَتْ لَكُمْ النَّخْلَةُ تَشْرَبُ مِنْ عَيْنٍ
خَرَّارَةٍ وَتُغْرَسُ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّخْلُ : هِيَ
الرَّاسِخَاتُ فِي الْوَحْلِ الْمَطْعِمَاتُ فِي الْمَحَلِّ } .
وَقَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ : خَيْرُ الْمَالِ عَيْنٌ خَرَّارَةٌ فِي أَرْضٍ
خَوَّارَةٍ تَسْهَرُ إذَا نِمْتَ ، وَتَشْهَدُ إذَا غِبْتَ ، وَتَكُونُ
عُقْبًا إذَا مِتَّ .
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْتَمِسُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ } .
يَعْنِي الزَّرْعَ .
وَحُكِيَ
عَنْ الْمُعْتَضِدِ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَنَامِ يُنَاوِلُنِي الْمِسْحَاةَ وَقَالَ
: خُذْهَا فَإِنَّهَا مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الْأَرْضِ .
وَقَالَ
كِسْرَى لِلْمُوبَدِ : مَا قِيمَةُ تَاجِي هَذَا ؟ فَأَطْرَقَ سَاعَةً
ثُمَّ قَالَ : مَا أَعْرِفُ لَهُ قِيمَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ مَطْرَةٌ فِي
نَيْسَانَ فَإِنَّهَا تُصْلِحُ مِنْ مَعَايِشِ الرَّعِيَّةِ مَا تَكُونُ
قِيمَتُهُ مِثْلَ تَاجِ الْمَلِكِ .
وَلَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنَ شِهَابٍ
الزُّهْرِيَّ فَقَالَ لَهُ : اُدْلُلْنِي عَلَى مَا أُعَالِجُهُ .
فَأَنْشَأَ
ابْنُ شِهَابٍ يَقُولُ : تَتَبَّعْ خَبَايَا الْأَرْضِ وَادْعُ مَلِيكَهَا
لَعَلَّك يَوْمًا أَنْ تُجَابَ فَتُرْزَقَا فَيُؤْتِيك مَالًا وَاسِعًا
ذَا مَتَانَةٍ إذَا مَا مِيَاهُ الْأَرْضِ غَارَتْ
تَدَفَّقَا
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْضِيلِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ بِمَا
لَيْسَ يَتَّسِعُ كِتَابُنَا هَذَا لِبَسْطِ الْقَوْلِ فِيهِ ، غَيْرَ
أَنَّ مَنْ فَضَّلَ الزَّرْعَ فَلِقُرْبِ مَدَاهُ ، وَوُفُورِ جَدَاهُ
وَمَنْ فَضَّلَ الشَّجَرَ فَلِثُبُوتِ أَصْلِهِ وَتَوَالِي ثَمَرِهِ .
وَأَمَّا
الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِهَا وَهُوَ نِتَاجُ الْحَيَوَانِ : فَهُوَ
مَادَّةُ أَهْلِ الْفَلَوَاتِ وَسُكَّانِ الْخِيَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا
لَمْ تَسْتَقِرَّ بِهِمْ دَارٌ ، وَلَمْ تَضُمَّهُمْ أَمْصَارٌ
افْتَقَرُوا إلَى الْأَمْوَالِ الْمُنْتَقِلَةِ مَعَهُمْ ، وَمَا لَا
يَنْقَطِعُ نَمَاؤُهُ بِالظَّعْنِ وَالرِّحْلَةِ ، فَاقْتَنَوْا
الْحَيَوَانَ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَقِلُّ فِي النَّقْلَةِ بِنَفْسِهِ ،
وَيَسْتَغْنِي عَنْ الْعُلُوفَةِ بِرَعْيِهِ .
ثُمَّ هُوَ مَرْكُوبٌ
وَمَحْلُوبٌ ، فَكَانَ اقْتِنَاؤُهُ عَلَى أَهْلِ الْخِيَامِ أَيْسَرَ
لِقِلَّةِ مُؤْنَتِهِ وَتَسْهِيلِ الْكُلْفَةِ بِهِ ، وَكَانَتْ جَدْوَاهُ
عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ لِوُفُورِ نَسْلِهِ وَاقْتِيَاتِ رِسْلِهِ إلْهَامًا
مِنْ اللَّهِ لِخَلْقِهِ فِي تَعْدِيلِ الْمَصَالِحِ فِيهِمْ ،
وَإِرْشَادِ الْعِبَادِ فِي قَسْمِ الْمَنَافِعِ بَيْنَهُمْ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ وَسِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ } .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهْرَةٌ
مَأْمُورَةٌ أَيْ كَثِيرَةُ النَّسْلِ .
وَمِنْهُ تَأَوَّلَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا } .
أَيْ كَثَّرْنَا عَدَدَهُمْ .
وَأَمَّا السِّكَّةُ الْمَأْبُورَةُ فَهِيَ النَّخْلُ الْمُؤَبَّرَةُ
الْحُمُلُ .
وَرُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فِي
الْغَنَمِ سِمَنُهَا مَعَاشٌ ، وَصُوفُهَا رِيَاشٍ } .
وَرُوِيَ عَنْ
أَبِي ظَبْيَانَ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا مَالُك يَا أَبَا ظَبْيَانَ ؟ قَالَ قُلْت :
عَطَائِي أَلْفَانِ .
قَالَ : اتَّخِذْ مِنْ هَذَا الْحَرْثِ
وَالسَّائِبَاتِ قَبْلَ أَنْ تَلِيَك غِلْمَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَا تَعُدُّ
الْعَطَاءَ مَعَهُمْ مَالًا ، وَالسَّائِبَاتُ النِّتَاجُ .
وَحُكِيَ
أَنَّ { امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اتَّخَذْت غَنَمًا أَبْتَغِي
نَسْلَهَا وَرِسْلَهَا وَأَنَّهَا لَا تَنْمِي .
فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا
أَلْوَانُهَا ؟ قَالَتْ :
سُودٌ .
فَقَالَ : عَفِّرِي } .
وَهَذَا مِثْلُ { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَنَاكِحِ الْآدَمِيِّينَ : اغْتَرِبُوا وَلَا تُضْوُوا } .
وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِهَا وَهِيَ
التِّجَارَةُ : فَهِيَ فَرْعٌ لِمَادَّتَيْ الزَّرْعِ وَالنِّتَاجِ .
فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { تِسْعَةُ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ وَالْحَرْثِ
وَالْبَاقِي فِي السَّائِبَاتِ } .
وَهِيَ نَوْعَانِ : تُقَلَّبُ فِي
الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ قِلَّةٍ وَلَا سَفَرٍ ، وَهَذَا تَرَبُّصٌ
وَاخْتِصَارٌ وَقَدْ رَغِبَ عَنْهُ ذَوُو الِاقْتِدَارِ وَزَهِدَ فِيهِ
ذَوُو الْأَخْطَارِ .
وَالثَّانِي : تَقَلُّبٌ بِالْمَالِ
بِالْأَسْفَارِ وَنَقْلُهُ إلَى الْأَمْصَارِ ، فَهَذَا أَلْيَقُ بِأَهْلِ
الْمُرُوءَةِ وَأَعَمُّ جَدْوَى وَمَنْفَعَةً ، غَيْرَ أَنَّهُ أَكْثَرُ
خَطَرًا ، وَأَعْظَمُ غَرَرًا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمُسَافِرَ
وَمَالَهُ لَعَلَى قَلَتٍ إلَّا مَا وَقَى اللَّهُ } .
يَعْنِي عَلَى خَطَرٍ ، وَفِي التَّوْرَاةِ : يَا ابْنَ آدَمَ أَحْدِثْ
سَفَرًا أُحْدِثُ لَك رِزْقًا .
وَأَمَّا
الرَّابِعُ مِنْ أَسْبَابِهَا وَهُوَ الصِّنَاعَةُ : فَقَدْ يَتَعَلَّقُ
بِمَا مَضَى مِنْ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ وَتَنْقَسِمُ أَقْسَامًا
ثَلَاثَةً : صِنَاعَةٌ فِكْرٍ ، وَصِنَاعَةُ عَمَلٍ ، وَصِنَاعَةٌ
مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ فِكْرٍ وَعَمَلٍ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ آلَاتٌ
لِلصِّنَاعَاتِ ، وَأَشْرَفُهُمْ نَفْسًا مُتَهَيِّئ لِأَشْرَفِهَا
جِنْسًا ، كَمَا أَنَّ أَرْذَلَهُمْ نَفْسًا مُتَهَيِّئ لِأَرْذَلِهَا
جِنْسًا ؛ لِأَنَّ الطَّبْعَ يَبْعَثُ عَلَى مَا يُلَائِمُهُ ، وَيَدْعُو
إلَى مَا يُجَانِسُهُ .
وَحُكِيَ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى أَقَاصِي
الْأَرْضِ قَالَ لأرسطاطاليس : اُخْرُجْ مَعِي .
قَالَ : قَدْ نَحِلَ جِسْمِي وَضَعُفْتُ عَنْ الْحَرَكَةِ فَلَا
تُزْعِجُنِي .
قَالَ
فَمَا أَصْنَعُ فِي عُمَّالِي خَاصَّةً ؟ قَالَ اُنْظُرْ إلَى مَنْ كَانَ
لَهُ عَبِيدٌ فَأَحْسَنَ سِيَاسَتِهِمْ فَوَلِّهِ الْجُنُودَ ، وَمَنْ
كَانَتْ لَهُ ضَيْعَةٌ فَأَحْسَنَ تَدْبِيرِهَا فَوَلِّهِ الْخَرَاجَ .
فَنَبَّهَ بِاعْتِبَارِ الطِّبَاعِ عَلَى مَا أَغْنَاهُ عَنْ كُلْفَةِ
التَّجْرِبَةِ .
وَأَشْرَفُ
الصِّنَاعَاتِ صِنَاعَةُ الْفِكْرِ وَهِيَ مُدَبِّرَةٌ ، وَأَرْذَلُهَا
صِنَاعَةُ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ نَتِيجَةُ الْفِكْرِ
وَتَدْبِيرُهُ .
فَأَمَّا صِنَاعَةُ الْفِكْرِ فَقَدْ تَنْقَسِمُ
قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا وَقَفَ عَلَى التَّدْبِيرَاتِ
الصَّادِرَةِ عَنْ نَتَائِجِ الْآرَاءِ الصَّحِيحَةِ كَسِيَاسَةِ النَّاسِ
وَتَدْبِيرِ الْبِلَادِ .
وَقَدْ أَفْرَدْنَا لِلسِّيَاسَةِ كِتَابًا
لَخَّصْنَا فِيهِ مِنْ جُمَلِهَا مَا لَيْسَ يَحْتَمِلُ هَذَا الْكِتَابُ
زِيَادَةً عَلَيْهَا .
وَالثَّانِي : مَا أَدَّتْ إلَى الْمَعْلُومَاتِ الْحَادِثَةِ عَنْ
الْأَفْكَارِ النَّظَرِيَّةِ .
وَقَدْ مَضَى فِي فَضْلِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بَابٌ أَغْنَى
مَا فِيهِ عَنْ زِيَادَةِ قَوْلٍ فِيهِ .
وَأَمَّا صِنَاعَةُ الْعَمَلِ فَقَدْ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : عَمَلٌ
صِنَاعِيٌّ ، وَعَمَلٌ بَهِيمِيٌّ .
فَالْعَمَلُ
الصِّنَاعِيُّ أَعْلَاهَا رُتْبَةً ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُعَاطَاةٍ
فِي تَعَلُّمِهِ ، وَمُعَانَاةٍ فِي تَصَوُّرِهِ ، فَصَارَ بِهَذِهِ
النِّسْبَةِ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ الْفِكْرِيَّةِ .
وَالْآخَرُ إنَّمَا هُوَ صِنَاعَةُ كَدٍّ وَآلَةُ
مِهْنَةٍ .
وَهِيَ الصِّنَاعَةُ الَّتِي تَقْتَصِرُ عَلَيْهَا النُّفُوسِ الرَّذِلَةُ
، وَتَقِفُ عَلَيْهَا الطِّبَاعُ الْخَاسِئَةُ .
كَمَا
قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٍ ، وَكَمَا
قَالَ الْمُتَلَمِّسُ : وَلَا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُسَامُ بِهِ إلَّا
الْأَذَلَّانِ عَيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتِدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ
مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ وَأَمَّا
الصِّنَاعَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْفِكْرِ وَالْعَمَلِ فَقَدْ
تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ صِنَاعَةُ الْفِكْرِ
أَغْلَبَ وَالْعَمَلُ تَبَعًا كَالْكِتَابَةِ .
وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ صِنَاعَةُ الْعَمَلِ أَغْلَبَ وَالْفِكْرُ
تَبَعًا كَالْبِنَاءِ .
أَعْلَاهُمَا رُتْبَةً مَا كَانَتْ صِنَاعَةُ الْفِكْرِ أَغْلَبُ
عَلَيْهَا وَالْعَمَلُ تَبَعًا لَهَا .
فَهَذِهِ
أَحْوَالُ الْخَلْقِ الَّتِي رَكَّبَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا
فِي ارْتِيَادِ مَوَادِّهِمْ ، وَوَكَلَهُمْ إلَى نَظَرِهِمْ فِي طَلَبِ
مَكَاسِبِهِمْ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ هِمَمِهِمْ فِي الْتِمَاسِهِمْ ؛
لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِأُلْفَتِهِمْ ، فَسُبْحَانَ مَنْ تَفَرَّدَ
فِينَا بِلُطْفِ حِكْمَتِهِ ، وَأَظْهَرَ فِطَنَنَا بِعَزَائِمِ
قُدْرَتِهِ .
وَإِذْ قَدْ وَضَحَ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ
الْمَوَادِّ وَجِهَاتِ الْكَسْبِ ، فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْإِنْسَانِ
فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَطْلُبَ مِنْهَا
قَدْرَ كِفَايَتِهِ ، وَيَلْتَمِسَ وَفْقَ حَاجَتِهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَتَعَدَّى إلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهَا ، أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى نُقْصَانٍ
مِنْهَا .
فَهَذِهِ أَحَدُ أَحْوَالُ الطَّالِبِينَ ، وَأَعْدَلُ مَرَاتِبِ
الْمُقْتَصِدِينَ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيَّ كَلِمَاتٍ فَدَخَلْنَ فِي
أُذُنِي وَوَقَرْنَ فِي قَلْبِي : مَنْ أَعْطَى فَضْلَ مَالِهِ فَهُوَ
خَيْرٌ لَهُ ، وَمَنْ أَمْسَكَ فَهُوَ شَرٌّ لَهُ ، وَلَا يَلُمْ اللَّهُ
عَلَى كَفَافٍ } .
وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جنيدة قَالَ
: قُلْت : { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَكْفِينِي مِنْ الدُّنْيَا ؟ قَالَ
: مَا يَسُدُّ جَوْعَتَك ، وَيَسْتُرُ عَوْرَتَك .
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
فَذَاكَ وَإِنْ كَانَ حَمَّادًا فَبَخٍ بَخٍ فَلْقٌ مِنْ خُبْزٍ وَجُزْءٌ
مِنْ مَاءٍ وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَمَّا فَوْقَ الْإِزَارِ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى : {
إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } .
أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ بَيْتًا وَزَوْجَةً وَخَادِمًا فَهُوَ مَلِكٌ .
وَرَوَى
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ }
.
وَهُوَ فِي الْمَعْنَى صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ بِالزَّوْجَةِ
وَالْخَادِمِ مُطَاعٌ فِي أَمْرِهِ ، وَفِي الدَّارِ مَحْجُوبٌ إلَّا عَنْ
إذْنِهِ .
وَلَيْسَ عَلَى مَنْ طَلَبَ الْكِفَايَةَ وَلَمْ يُجَاوِزْ
تَبَعَاتِ الزِّيَادَةِ إلَّا تَوَخِّي الْحَلَالَ مِنْهُ ، وَإِجْمَالَ
الطَّلَبِ فِيهِ ، وَمُجَانَبَةَ الشُّبْهَةِ الْمُمَازَجَةِ لَهُ .
وَقَدْ
رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَلَالُ
بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا
يَرِيبُك ، فَلَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ لِلَّهِ } .
{ وَسُئِلَ رَسُولُ
اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الزُّهْدِ فَقَالَ : أَمَا إنَّهُ
لَيْسَ بِإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَلَا تَحْرِيمِ الْحَلَالِ ، وَلَكِنْ
أَنْ تَكُونَ بِمَا بِيَدِ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْك بِمَا فِي يَدِيك ،
وَأَنْ يَكُونَ ثَوَابُ الْمُصِيبَةِ أَرْجَحَ عِنْدَك مِنْ بَقَائِهَا } .
وَحَكَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إلَى الْجَرَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيِّ : إنْ
اسْتَطَعْتَ أَنْ تَدَعَ مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَك مَا يَكُونُ حَاجِزًا
بَيْنَك وَبَيْنَ الْحَرَامِ فَافْعَلْ ، فَإِنَّهُ مَنْ اسْتَوْعَبَ
الْحَلَالَ تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى الْحَرَامِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَإِنَّ
لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } .
فَقَالَ عِكْرِمَةُ : يَعْنِي كَسْبًا حَرَامًا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ إنْفَاقُ مَنْ لَا يُوقِنُ بِالْخَلَفِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : الدِّرْهَمُ عَقْرَبُ فَإِنْ أَحْسَنْتَ
رُقْيَتَهَا وَإِلَّا فَلَا تَأْخُذْهَا .
وَقِيلَ : مَنْ قَلَّ تَوَقِّيهِ كَثُرَتْ مَسَاوِئُهُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ الْأَمْوَالِ مَا أَخَذْته مِنْ الْحَلَالِ
وَصَرَفْته فِي النَّوَالِ ، وَشَرُّ الْأَمْوَالِ مَا أَخَذْته مِنْ
الْحَرَامِ ، وَصَرَفْته فِي الْآثَامِ .
وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ
الْفَقِيهُ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ : الْمَالُ
يُنْقَدُ حِلُّهُ وَحَرَامُهُ يَوْمًا وَيَبْقَى بَعْدَ ذَاكَ آثَامُهُ
لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقٍ لِإِلَهِهِ حَتَّى يَطِيبَ شَرَابُهُ
وَطَعَامُهُ وَيَطِيبَ مَا يَجْنِي وَيَكْسِبَ أَهْلُهُ وَيَطِيبَ مِنْ
لَفْظِ الْحَدِيثِ كَلَامُهُ نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ
فَعَلَى النَّبِيِّ صَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ
الْمُعْتَمِرِ السُّلَمِيِّ قَالَ : النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ :
أَغْنِيَاءٌ وَفُقَرَاءُ وَأَوْسَاطُ .
فَالْفُقَرَاءُ مَوْتَى إلَّا
مَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِعِزِّ الْقَنَاعَةِ ، وَالْأَغْنِيَاءُ سُكَارَى
إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَوَقُّعِ الْغِيَرِ .
وَأَكْثَرُ الْخَيْرِ مَعَ أَكْثَرِ الْأَوْسَاطِ ، وَأَكْثَرُ الشَّرِّ
مَعَ أَكْثَرِ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ ؛ لِسُخْفِ
الْفَقْرِ وَبَطْرِ الْغَنِيِّ .
وَالْأَمْرُ الثَّانِي : أَنْ يُقَصِّرَ عَنْ طَلَبِ
كِفَايَتِهِ ، وَيَزْهَدَ فِي الْتِمَاسِ مَادَّتِهِ .
وَهَذَا
التَّقْصِيرُ قَدْ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فَيَكُونُ تَارَةً
كَسَلًا ، وَتَارَةً تَوَكُّلًا ، وَتَارَةً زُهْدًا وَتَقَنُّعًا .
فَإِنْ
كَانَ تَقْصِيرُهُ لِكَسَلٍ فَقَدْ حُرِمَ ثَرْوَةُ النَّشَاطِ ، وَمَرَحُ
الِاغْتِبَاطِ ، فَلَنْ يَعْدَمَ أَنْ يَكُونَ كَلًّا قَصِيًّا ، أَوْ
ضَائِعًا شَقِيًّا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ
الْقَدَرَ ، وَكَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا } .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : إنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ الْحَيَاةِ
فَالصِّحَّةُ .
وَإِنْ
كَانَ شَيْءٌ مِثْلَهَا فَالْغِنَى ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ
الْمَوْتِ فَالْمَرَضُ ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِثْلَهُ فَالْفَقْرُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْقَبْرُ خَيْرٌ مِنْ الْفَقْرِ .
وَوُجِدَ
فِي نِيلِ مِصْرَ مَكْتُوبٌ عَلَى حَجَرٍ : عُقْبُ الصَّبْرِ نَجَاحٌ
وَغِنًى وَرِدَاءُ الْفَقْرِ مِنْ نَسْجِ الْكَسَلِ وَقَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ : أَعُوذُ بِك اللَّهُمَّ مِنْ بَطَرِ الْغِنَى وَمِنْ
نَكْهَةِ الْبَلْوَى وَمِنْ ذِلَّةِ الْفَقْرِ وَمِنْ أَمَلٍ يَمْتَدُّ
فِي كُلِّ شَارِفٍ يُرْجِعُنِي مِنْهُ بِحَظِّ يَدٍ صِفْرِ إذَا لَمْ
تُدَنِّسْنِي الذُّنُوبُ بِعَارِهَا فَلَسْتُ أُبَالِي مَا تَشَعَّثَ مِنْ
أَمْرِي وَإِذَا كَانَ تَقْصِيرُهُ لِتَوَكُّلٍ فَذَلِكَ عَجْزٌ قَدْ
أَعْذَرَ بِهِ نَفْسَهُ ، وَتَرْكُ حَزْمٍ قَدْ غَيَّرَ اسْمَهُ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالتَّوَكُّلِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحِيَلِ
وَالتَّسْلِيمِ إلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِعْوَازِ .
وَقَدْ رَوَى
مَعْمَرٌ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، قَالَ : { ذُكِرَ
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَذَكَرَ
فِيهِ خَيْرًا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ مَعَنَا حَاجًّا
فَإِذَا نَزَلْنَا مُنْزِلًا لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى نَرْحَلَ ،
فَإِذَا ارْتَحَلْنَا لَمْ يَزَلْ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى
نَنْزِلَ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَنْ كَانَ يَكْفِيهِ
عَلَفَ نَاقَتِهِ
وَصُنْعَ طَعَامِهِ ؟ قَالُوا كُلُّنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ .
قَالَ : كُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ } .
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ مِنْ تَوَكُّلِ الْمَرْءِ إضَاعَتُهُ
لِلْحَزْمِ ، وَلَا مِنْ الْحَزْمِ إضَاعَةُ نَصِيبِهِ مِنْ التَّوَكُّلِ .
وَإِنْ
كَانَ تَقْصِيرُهُ لِزُهْدٍ وَتَقَنُّعٍ فَهَذِهِ حَالُ مَنْ عَلِمَ
بِمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ بِتَبِعَاتِ الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ ، وَخَافَ
عَلَيْهَا بَوَائِقَ الْهَوَى وَالْقُدْرَةِ ، فَآثَرَ الْفَقْرَ عَلَى
الْغِنَى ، وَزَجَرَ النَّفْسَ عَنْ رُكُوبِ الْهَوَى .
فَقَدْ رَوَى
أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إلَّا
وَعَلَى جَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يَسْمَعُهُمَا خَلْقُ
اللَّهِ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا
إلَى رَبِّكُمْ إنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى } .
وَرَوَى
زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { انْتِظَارُ الْفَرْجِ مِنْ اللَّهِ
بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ ، وَمَنْ رَضِيَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
بِالْقَلِيلِ مِنْ الرِّزْقِ رَضِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ
بِالْقَلِيلِ مِنْ الْعَمَلِ } .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مِنْ نُبْلِ الْفَقْرِ
أَنَّك لَا تَجِدُ أَحَدًا يَعْصِي اللَّهَ لِيَفْتَقِرَ .
فَأَخَذَهُ
مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ فَقَالَ : يَا عَائِبَ الْفَقْرِ أَلَا تَزْدَجِرْ
عَيْبُ الْغَنِيِّ أَكْثَرُ لَوْ تَعْتَبِرْ مِنْ شَرَفِ الْفَقْرِ وَمِنْ
فَضْلِهِ عَلَى الْغِنَى إنْ صَحَّ مِنْك النَّظَرْ أَنَّك تَعْصِي
لِتَنَالَ الْغِنَى وَلَسْتَ تَعْصِي اللَّهَ كَيْ تَفْتَقِرْ وَقَالَ
ابْنُ الْمُقَفَّعِ : دَلِيلُك أَنَّ الْفَقْرَ خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى
وَأَنَّ قَلِيلَ الْمَالِ خَيْرٌ مِنْ الْمُثْرِي لِقَاؤُك مَخْلُوقًا
عَصَى اللَّهَ بِالْغِنَى وَلَمْ تَرَ مَخْلُوقًا عَصَى اللَّهَ
بِالْفَقْرِ وَهَذِهِ الْحَالُ إنَّمَا تَصِحُّ لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ
فَأَطَاعَتْهُ ، وَصَدَّقَهَا فَأَجَابَتْهُ ،
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
حَتَّى لَانَ قِيَادُهَا ، وَهَانَ عِنَادُهَا .
وَعَلِمَتْ
أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِالْقَلِيلِ لَمْ يَقْنَعْ بِالْكَثِيرِ ،
كَمَا كَتَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : يَا أَخِي ، مَنْ اسْتَغْنَى بِاَللَّهِ
اكْتَفَى ، وَمَنْ انْقَطَعَ إلَى غَيْرِهِ تَعَنَّى ، وَمَنْ كَانَ مِنْ
قَلِيلِ الدُّنْيَا لَا يَشْبَعُ ، لَمْ يُغْنِهِ مِنْهَا كَثْرَةُ مَا
يَجْمَعُ ، فَعَلَيْك مِنْهَا بِالْكَفَافِ ، وَأَلْزَمْ نَفْسَك
الْعَفَافِ ، وَإِيَّاكَ وَجَمْعَ الْفُضُولِ ، فَإِنَّ حِسَابَهُ يَطُولُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : هَيْهَاتَ مِنْك الْغِنَى إنْ لَمْ
يُقْنِعْك مَا حَوَيْت .
فَأَمَّا
مَنْ أَعْرَضَتْ نَفْسُهُ عَنْ قَبُولِ نُصْحِهِ ، وَجَمَحَتْ بِهِ عَنْ
قَنَاعَةِ زُهْدِهِ ، فَلَيْسَ إلَى إكْرَاهِهَا سَبِيلٌ وَلَا لِلْحَمْلِ
عَلَيْهَا وَجْهٌ إلَّا بِالرِّيَاضَةِ وَالْمُرُوءَةِ .
وَأَنْ
يَسْتَنْزِلَهَا إلَى الْيَسِيرِ الَّذِي لَا تَنْفِرُ مِنْهُ فَإِذَا
اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَنْزَلَهَا إلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ ؛
لِتَنْتَهِيَ بِالتَّدْرِيجِ إلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ
وَتَسْتَقِرُّ بِالرِّيَاضَةِ وَالتَّمْرِينِ عَلَى الْحَالِ
الْمَحْبُوبَةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ : إنَّ الْمَكْرُوهَ يَسْهُلُ
بِالتَّمْرِينِ .
فَهَذَا حُكْمُ مَا فِي الْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ التَّقْصِيرِ عَنْ
طَلَبِ الْكِفَايَةِ .
وَأَمَّا
الْأَمْرُ الثَّالِثُ : فَهُوَ أَنْ لَا يَقْنَعَ بِالْكِفَايَةِ
وَيَطْلُبَ الزِّيَادَةَ وَالْكَثْرَةَ ، فَقَدْ يَدْعُو إلَى ذَلِكَ
أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ : أَحَدُهَا : مُنَازَعَةُ الشَّهَوَاتِ الَّتِي لَا
تُنَالُ إلَّا بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْمَادَّةِ ، فَإِذَا
نَازَعَتْهُ الشَّهْوَةُ طَلَبَ مِنْ الْمَالِ مَا يُوَصِّلُهُ .
وَلَيْسَ لِلشَّهَوَاتِ حَدٌّ مُتَنَاهٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى
أَنَّ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ .
وَمَنْ
لَمْ يَتَنَاهَ طَلَبُهُ اسْتَدَامَ كَدُّهُ وَتَعَبُهُ ، وَمَنْ
اسْتَدَامَ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ لَمْ يَفِ الْتِذَاذَهُ بِنَيْلِ
شَهَوَاتِهِ بِمَا يُعَانِيهِ مِنْ اسْتِدَامَةِ كَدِّهِ وَإِتْعَابِهِ ،
مَعَ مَا قَدْ لَزِمَهُ مِنْ ذَمِّ الِانْقِيَادِ لِمُغَالَبَةِ
الشَّهَوَاتِ ، وَالتَّعَرُّضِ لِاكْتِسَابِ التَّبِعَاتِ ، حَتَّى
يَصِيرَ كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي قَدْ انْصَرَفَ طَلَبُهَا إلَى مَا
تَدْعُو إلَيْهِ شَهْوَتُهَا ، فَلَا تَنْزَجِرُ عَنْهُ بِعَقْلٍ وَلَا
تَنْكَفُّ عَنْهُ بِقَنَاعَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ
أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَهْوَتِهِ ،
وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا
وَكَلَهُ إلَى نَفْسِهِ } .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَإِنَّك إنْ
أَعْطَيْتَ بَطْنَك هَمَّهُ وَفَرْجَك نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ
أَجْمَعَا وَالسَّبَبُ الثَّانِي : أَنْ يَطْلُبَ الزِّيَادَةَ
وَيَلْتَمِسَ الْكَثْرَةَ لِيَصْرِفَهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ ،
وَيَتَقَرَّبَ بِهَا فِي جِهَاتِ الْبِرِّ ، وَيَصْطَنِعَ بِهَا
الْمَعْرُوفَ ، وَيُغِيثَ بِهَا الْمَلْهُوفَ .
فَهَذَا أَعْذَرُ
وَبِالْحَمْدِ أَحْرَى وَأَجْدَرُ ، إذَا انْصَرَفَتْ عَنْهُ تَبِعَاتُ
الْمَطَالِبِ ، وَتَوَقَّى شُبُهَاتِ الْمَكَاسِبِ ، وَأَحْسَنَ
التَّقْدِيرَ فِي حَالَتَيْ فَائِدَتِهِ وَإِفَادَتِهِ عَلَى قَدْرِ
الزَّمَانِ ، وَبِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ آلَةٌ
لِلْمَكَارِمِ وَعَوْنٌ عَلَى الدِّينِ وَمُتَأَلِّفٌ لِلْإِخْوَانِ ،
وَمَنْ فَقَدَهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا قَلَّتْ الرَّغْبَةُ فِيهِ
وَالرَّهْبَةُ مِنْهُ ،
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ بِمَوْضِعِ رَهْبَةٍ وَلَا
رَغْبَةٍ اسْتَهَانُوا بِهِ .
وَقَدْ
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ حِسَابَ
أَهْلِ الدُّنْيَا هَذَا الْمَالُ } .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْخَيْرُ
فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ الْمَالُ : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ
لَشَدِيدٍ } يَعْنِي الْمَالَ وَ : { أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّي } يَعْنِي الْمَالَ : { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ
فِيهِمْ خَيْرًا } يَعْنِي مَالًا .
وَقَالَ شُعَيْبٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إنِّي أَرَاكُمْ
بِخَيْرٍ يَعْنِي الْمَالَ .
وَإِنَّمَا
سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَالَ خَيْرًا إذَا كَانَ فِي الْخَيْرِ
مَصْرُوفًا ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى إلَى الْخَيْرِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ .
وَقَدْ
اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى : {
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فَقَالَ السُّدِّيُّ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : فِي
الدُّنْيَا الْعِلْمُ وَالْعِبَادَةُ وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ .
وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ خَوَاتِمُ اللَّهِ فِي
الْأَرْضِ لَا تُؤْكَلُ وَلَا تُشْرَبُ حَيْثُ قَصَدْتَ بِهَا قَضَيْتَ
حَاجَتَك .
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ : اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي
حَمْدًا وَمَجْدًا فَإِنَّهُ لَا حَمْدَ إلَّا بِفِعَالٍ وَلَا مَجْدَ
إلَّا بِمَالٍ .
وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي الزِّنَادِ : لِمَ تُحِبُّ
الدَّرَاهِمَ وَهِيَ تُدِينُك مِنْ الدُّنْيَا ؟ فَقَالَ : هِيَ وَإِنْ
أَدْنَتْنِي مِنْهَا فَقَدْ صَانَتْنِي عَنْهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَصْلَحَ مَالَهُ فَقَدْ صَانَ
الْأَكْرَمَيْنِ : الدِّينُ وَالْعِرْضُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ اسْتَغْنَى كَرُمَ عَلَى أَهْلِهِ
.
وَمَرَّ
رَجُلٌ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَتَحَرَّكَ
لَهُ وَأَكْرَمَهُ فَقِيلَ لَهُ : بَعْدَ ذَلِكَ أَكَانَتْ لَك إلَى هَذَا
حَاجَةٌ ؟ قَالَ لَا .
وَلَكِنِّي رَأَيْت ذَا الْمَالِ مَهِيبًا .
وَسَأَلَ
رَجُلٌ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدَ وَعَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ
فِي عَشْرِ دِيَاتٍ فَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيَّ دِيَةٌ .
وَقَالَ عَتَّابٌ : الْبَاقِي عَلَيَّ .
فَقَالَ مُحَمَّدٌ : نِعْمَ الْعَوْنُ الْيَسَارُ عَلَى الْمَجْدِ .
وَقَالَ
الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : فَلَوْ كُنْتُ مُثْرًى بِمَالٍ كَثِيرٍ
لَجُدْتُ وَكُنْتُ لَهُ بَاذِلَا فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ لَا تُسْتَطَاعُ
إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُهَا فَاضِلًا وَكَانَ يُقَالُ : الدَّرَاهِمُ
مَرَاهِمُ ؛ لِأَنَّهَا تُدَاوِي كُلَّ جُرْحٍ ، وَيَطِيبُ بِهَا كُلُّ
صُلْحٍ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَلَّالِ : رُزِقْتُ مَالًا وَلَمْ أُرْزَقْ
مُرُوءَتَهُ وَمَا الْمُرُوءَةُ إلَّا كَثْرَةُ الْمَالِ إذَا أَرَدْتُ
رُقَى الْعَلْيَاءِ يُقْعِدُنِي عَمَّا يُنَوِّهُ بِاسْمِي رِقَّةُ
الْحَالِ وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ الْفَقْرُ مَخْذَلَةٌ ،
وَالْغِنَى مَجْدَلَةٌ ، وَالْبُؤْسُ مَرْذَلَةٌ ، وَالسُّؤَالُ
مَبْذَلَةٌ .
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ : أُقِيمُ بِدَارِ الْحَزْمِ
مَا دَامَ حَزْمُهَا وَأَحْرَى إذَا حَالَتْ بِأَنْ أَتَحَوَّلَا فَإِنِّي
وَجَدْتُ النَّاسَ إلَّا أَقَلَّهُمْ خِفَافَ عُهُودٍ يُكْثِرُونَ
التَّثَقُّلَا بَنِي أُمِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِيرِ يَرَوْنَهُ وَإِنْ
كَانَ عَبْدًا سَيِّدَ الْأَمْرِ جَحْفَلَا وَهُمْ لِمُقِلِّ الْمَالِ
أَوْلَادُ عِلَّةٍ وَإِنْ كَانَ مَحْضًا فِي الْعَشِيرَةِ مِخْوَلَا
وَقَالَ بِشْرٌ الضَّرِيرُ : كَفَى حُزْنًا أَنِّي أَرُوحُ وَأَغْتَدِي
وَمَا لِي مِنْ مَالٍ أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَأَكْثَرُ مَا أَلْقَى
الصَّدِيقَ بِمَرْحَبًا وَذَلِكَ لَا يَكْفِي الصَّدِيقَ وَلَا يُرْضِي
وَقَالَ آخَرُ : أَجَلَّك قَوْمٌ حِينَ صِرْتَ إلَى الْغِنَى وَكُلُّ
غَنِيٍّ فِي الْعُيُونِ جَلِيلُ وَلَيْسَ الْغِنَى إلَّا غِنًى زَيَّنَ
الْفَتَى عَشِيَّةَ يُقْرِي أَوْ غَدَاةَ يُنِيلُ وَقَدْ اخْتَلَفَ
النَّاسُ فِي تَفْضِيلِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ
مَا أَحْوَجَ مِنْ الْفَقْرِ مَكْرُوهٌ ، وَمَا أَبْطَرَ مِنْ الْغِنَى
مَذْمُومٌ ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى تَفْضِيلِ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ ؛
لِأَنَّ الْغَنِيَّ مُقْتَدِرٌ وَالْفَقِيرَ عَاجِزٌ ، وَالْقُدْرَةُ
أَفْضَلُ مِنْ الْعَجْزِ
.
وَذَهَبَ
آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ
تَارِكٌ وَالْغَنِيَّ مُلَابِسٌ ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ
مُلَابَسَتِهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ السَّلَامَةِ .
وَذَهَبَ
آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ
يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى ؛
لِيَصِلَ إلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ ، وَيَسْلَمَ مِنْ مَذَمَّةِ
الْحَالَيْنِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ ،
وَأَنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا .
وَقَدْ مَضَى شَوَاهِدُ كُلِّ فَرِيقٍ فِي مَوْضِعِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ
إعَادَتِهِ .
وَالسَّبَبُ
الثَّالِثُ : أَنْ يَطْلُبَ الزِّيَادَةَ وَيَقْتَنِيَ الْأَمْوَالَ ؛
لِيَدَّخِرَهَا لِوَلَدِهِ ، وَيَخْلُفُهَا عَلَى وَرَثَتِهِ ، مَعَ
شِدَّةِ ضَنِّهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَكَفِّهِ عَنْ صَرْفِ ذَلِكَ فِي
حَقِّهِ ، إشْفَاقًا عَلَيْهِمْ مِنْ كَدْحِ الطَّلَبِ ، وَسُوءِ
الْمُنْقَلَبِ ، وَهَذَا شَقِيٌّ بِجَمْعِهَا ، مَأْخُوذٌ بِوِزْرِهَا ،
قَدْ اسْتَحَقَّ اللَّوْمَ مِنْ وُجُوهٍ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ .
مِنْهَا : سُوءُ ظَنِّهِ بِخَالِقِهِ أَنَّهُ لَا يَرْزُقُهُمْ إلَّا مِنْ
جِهَتِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : قَتَلَ الْقُنُوطُ صَاحِبَهُ ، وَفِي حُسْنِ الظَّنِّ
بِاَللَّهِ رَاحَةُ الْقُلُوبِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : كَيْفَ تَبْقَى عَلَى حَالَتِكَ وَالدَّهْرُ
فِي إحَالَتِكَ .
وَمِنْهَا : الثِّقَةُ بِبَقَاءِ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ مَعَ نَوَائِبِ
الزَّمَانِ وَمَصَائِبِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : الدَّهْرُ حَسُودٌ لَا يَأْتِي عَلَى شَيْءٍ إلَّا
غَيَّرَهُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمَالُ مَلُولٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الدُّنْيَا إنْ بَقِيَتْ لَك لَا تَبْقَى
لَهَا .
وَمِنْهَا : مَا حُرِمَ مِنْ مَنَافِعِ مَالِهِ ، وَسُلِبَ مِنْ وُفُورِ
حَالِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّمَا مَالُك لَك أَوْ لِلْوَارِثِ أَوْ لِلْجَائِحَةِ
فَلَا تَكُنْ أَشْقَى الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ اطْرَحْ كَوَاذِبَ آمَالِك : وَكُنْ وَارِثَ
مَالِك .
وَمِنْهَا : مَا لَحِقَهُ مِنْ شَقَاءِ جَمْعِهِ ، وَنَالَهُ مِنْ
وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ النَّبَاهَةِ .
عَنَاءِ كَدِّهِ ، حَتَّى صَارَ سَاعِيًا مَحْرُومًا ،
وَجَاهِدًا مَذْمُومًا .
وَقَدْ قِيلَ : رُبَّ مَغْبُوطٍ بِمَسَرَّةٍ هِيَ دَاؤُهُ ، وَمَرْحُومٍ
مِنْ سَقَمٍ هُوَ شِفَاؤُهُ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : وَمَنْ كَلَّفَتْهُ النَّفْسُ فَوْقَ كَفَافِهَا فَمَا
يَنْقَضِي حَتَّى الْمَمَاتِ عَنَاؤُهُ وَمِنْهَا : مَا يُؤَاخَذُ بِهِ
مِنْ وِزْرِهِ وَآثَامِهِ ، وَيُحَاسَبُ عَلَيْهِ مِنْ تَبِعَاتِهِ
وَأَجْرَامِهِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
لَمَّا ثَقُلَ بُكَاءُ وَلَدِهِ عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ : جَادَ لَكُمْ
هِشَامٌ بِالدُّنْيَا وَجُدْتُمْ عَلَيْهِ بِالْبُكَاءِ ، وَتَرَكَ لَكُمْ
مَا كَسَبَ وَتَرَكْتُمْ عَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ ، مَا أَسْوَأُ حَالِ
هِشَامٍ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ .
فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى
مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ فَقَالَ : تَمَتَّعْ بِمَالِك قَبْلَ الْمَمَاتِ
وَإِلَّا فَلَا مَالَ إنْ أَنْتَ مُتَّا شَقِيتَ بِهِ ثُمَّ خَلَّفْتَهُ
لِغَيْرِك بُعْدًا وَسُحْقًا وَمَقْتَا فَجَادُوا عَلَيْك بِزُورِ
الْبُكَاءِ وَجُدْتَ عَلَيْهِمْ بِمَا قَدْ جَمَعْتَا وَأَرْهَنْتَهُمْ
كُلَّ مَا فِي يَدَيْك وَخَلَّوْك رَهْنًا بِمَا قَدْ كَسَبْتَا وَرُوِيَ
أَنَّ { الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِّنِي .
فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلٌ يَكْفِيك خَيْرٌ
مِنْ كَثِيرٍ يُرْدِيك ، يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ النَّبِيِّ نَفْسٌ
تُنْجِيهَا خَيْرٌ مِنْ إمَارَةٍ لَا تُحْصِيهَا ، يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْإِمَارَةَ
أَوَّلُهَا نَدَامَةٌ ، وَأَوْسَطُهَا مَلَامَةٌ ، وَآخِرُهَا خِزْيٌ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا مَنْ عَدَلَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ
تَعْدِلُونَ مَعَ الْأَقَارِبِ } .
وَقَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنِّي أَخَافُ
الْمَوْتَ وَأَكْرَهُهُ .
فَقَالَ : إنَّك خَلَّفْتَ مَالَك وَلَوْ قَدَّمْتَهُ لَسَرَّك اللُّحُوقِ
بِهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ
الْحِكَمِ كَثْرَةُ مَالِ الْمَيِّتِ تُعَزِّي
وَرَثَتَهُ عَنْهُ .
فَأَخَذَ
هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الرُّومِيِّ فَقَالَ وَزَادَ : أَبْقَيْتَ مَالَك
مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ فَلَيْتَ شِعْرِي مَا أَبْقَى لَك الْمَالُ
الْقَوْمُ بَعْدَك فِي حَالٍ تَسُرُّهُمْ فَكَيْفَ بَعْدَهُمْ حَالَتْ بِك
الْحَالُ مَلُّوا الْبُكَاءَ فَمَا يُبْكِيكَ مِنْ أَحَدٍ وَاسْتَحْكَمَ
الْقَوْلُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْقَالُ وَلَّتْهُمْ عَنْك دُنْيَا
أَقْبَلَتْ لَهُمْ وَأَدْبَرَتْ عَنْك وَالْأَيَّامُ أَحْوَالُ
وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَجْمَعَ الْمَالَ وَيَطْلُبَهُ
اسْتِحْلَالًا لِجَمْعِهِ ، وَشَغَفًا بِاحْتِرَامِهِ .
فَهَذَا
أَسْوَأُ النَّاسِ حَالًا فِيهِ ، وَأَشَدُّهُمْ حُزْنًا لَهُ ، قَدْ
تَوَجَّهَتْ إلَيْهِ سَائِرُ الْمَلَاوِمِ حَتَّى صَارَ وَبَالًا عَلَيْهِ
وَمَذَامَّ .
{ وَفِي مِثْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَبًّا لِلذَّهَبِ تَبًّا
لِلْفِضَّةِ .
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : أَيُّ مَالٍ نَتَّخِذُ ؟ فَقَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ ذَلِكَ ، فَقَالَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَصْحَابَك قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا :
أَيُّ مَالٍ نَتَّخِذُ ؟ فَقَالَ : لِسَانًا ذَاكِرًا ، وَقَلْبًا
شَاكِرًا ، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ } .
وَرَوَى
شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : { مَاتَ رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيَّةٌ .
ثُمَّ مَاتَ آخَرُ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ ، فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيَّتَانِ } .
وَإِنَّمَا
ذَكَرَ ذَلِكَ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ عَلَى عَهْدِهِ مَنْ
تَرَكَ أَمْوَالًا جَمَّةً ، وَأَحْوَالًا ضَخْمَةً ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ
مَا كَانَ فِي هَذَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَظَاهَرَا بِالْقَنَاعَةِ
وَاحْتَجْنَا مَا لَيْسَ بِهِمَا إلَيْهِ حَاجَةٌ فَصَارَ مَا
احْتَجْنَاهُ وِزْرًا عَلَيْهِمَا ، وَعِقَابًا لَهُمَا
.
وَقَدْ
قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا كُنْتَ ذَا مَالٍ وَلَمْ تَكُنْ ذَا نَدًى
فَأَنْتَ إذًا وَالْمُقْتِرُونَ سَوَاءُ عَلَى أَنَّ فِي الْأَمْوَالِ
يَوْمًا تِبَاعَةً عَلَى أَهْلِهَا وَالْمُقْتِرُونَ بَرَاءُ وَأَنْشَدْتُ
عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ الَّذِي
رُزِقَ الْيَسَارَ وَلَمْ يُصِبْ حَمْدًا وَلَا أَجْرًا لَغَيْرُ
مُوَفَّقِ وَالْجِدُّ يُدْنِي كُلَّ شَيْءٍ شَاسِعٍ وَالْجِدُّ يَفْتَحُ
كُلَّ بَابٍ مُغْلَقِ وَأَحَقُّ خَلْقِ اللَّهِ بِالْهَمِّ امْرُؤٌ ذُو
هِمَّةٍ عُلْيَا وَعَيْشٍ ضَيِّقِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ
وَكَوْنِهِ بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ فَإِذَا
سَمِعْتَ بِأَنَّ مَجْدُودًا حَوَى عُودًا فَأَوْرَقَ فِي يَدَيْهِ
فَحَقِّقْ وَإِذَا سَمِعْتَ بِأَنَّ مَخْذُولًا أَتَى مَاءً لِيَشْرَبَهُ
فَجَفَّ فَصَدِّقْ اللُّبُّ الْعَقْلُ .
تَقُولُ : لَبِيبٌ ذُو لُبٍّ .
وَالْجِدُّ فِي اللُّغَةِ الْحَظُّ ، وَهُوَ الْبَخْتُ ، وَالْجَدُّ
أَيْضًا الْعَظَمَةُ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } .
وَالْجَدُّ
مَصْدَرُ جَدَّ الشَّيْءُ إذَا قُطِعَ وَالْجِدُّ بِالْكَسْرِ
الِانْكِمَاشُ فِي الْأُمُورِ أَيْ الِاجْتِهَادُ فِيهَا ، وَهُوَ أَيْضًا
الْحَقُّ ضِدُّ الْهَزْلِ .
وَبِالْحَاءِ إذَا مَنَعَ الرِّزْقَ وَمَجْدٌ مَجْدُودٍ لَا يُقَالُ
فِيهِمَا إلَّا بِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ .
وَآفَةُ
مَنْ بُلِيَ بِالْجَمْعِ وَالِاسْتِكْثَارِ ، وَمُنِيَ بِالْإِمْسَاكِ
وَالِادِّخَارِ ، حَتَّى انْصَرَفَ عَنْ رُشْدِهِ فَغَوَى ، وَانْحَرَفَ
عَنْ سُنَنِ قَصْدِهِ فَهَوَى ، أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ حُبُّ
الْمَالِ وَبُعْدُ الْأَمَلِ فَيَبْعَثُهُ حُبُّ الْمَالِ عَلَى الْحِرْصِ
فِي طَلَبِهِ ، وَيَدْعُوهُ بُعْدُ الْأَمَلِ عَلَى الشُّحِّ بِهِ .
وَالْحِرْصُ
وَالشُّحُّ أَصْلٌ لِكُلِّ ذَمٍّ ، وَسَبَبٌ لِكُلِّ لُؤْمٍ ؛ لِأَنَّ
الشُّحَّ يَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ ، وَيَبْعَثُ عَلَى
الْقَطِيعَةِ وَالْعُقُوقِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { شَرُّ
مَا أُعْطَى الْعَبْدُ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْغَنِيُّ
الْبَخِيلُ كَالْقَوِيِّ الْجَبَانِ .
وَأَمَّا
الْحِرْصُ فَيَسْلُبُ فَضَائِلَ النَّفْسِ ؛ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهَا ،
وَيَمْنَعُ مِنْ التَّوَفُّرِ عَلَى الْعِبَادَةِ ؛ لِتَشَاغُلِهِ عَنْهَا
، وَيَبْعَثُ عَلَى التَّوَرُّطِ فِي الشُّبُهَاتِ ؛ لِقِلَّةِ
تَحَرُّزِهِ مِنْهَا .
وَهَذِهِ الثَّلَاثُ خِصَالُ هُنَّ جَامِعَاتُ
الرَّذَائِلِ ، سَالِبَاتُ الْفَضَائِلِ ، مَعَ أَنَّ الْحَرِيصَ لَا
يَسْتَزِيدُ بِحِرْصِهِ زِيَادَةً عَلَى رِزْقِهِ سِوَى إذْلَالِ نَفْسِهِ
، وَإِسْخَاطِ خَالِقِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَرِيصُ الْجَاهِدُ وَالْقَنُوعُ
الزَّائِدُ يَسْتَوْفِيَانِ أَكْلَهُمَا غَيْرُ مُنْتَقِصٍ مِنْهُ شَيْءٌ
، فَعَلَامَ التَّهَافُتُ فِي النَّارِ } .
وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ : الْحِرْصُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ ،
وَاَللَّهِ مَا عَرَفْتُ مِنْ وَجْهِ رَجُلٍ حِرْصًا فَرَأَيْتُ أَنَّ
فِيهِ مُصْطَنَعًا .
وَقَالَ آخَرُ : الْحَرِيصُ أَسِيرُ مَهَانَةٍ لَا يُفَكُّ أَسْرُهُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْمَقَادِيرُ الْغَالِبَةُ لَا تُنَالُ
بِالْمُغَالَبَةِ ، وَالْأَرْزَاقُ الْمَكْتُوبَةُ لَا تُنَالُ
بِالشِّدَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ ، فَذَلِّلْ لِلْمَقَادِيرِ نَفْسَك
وَاعْلَمْ بِأَنَّك غَيْرُ نَائِلٍ بِالْحِرْصِ إلَّا حَظَّك .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : رُبَّ حَظٍّ أَدْرَكَهُ غَيْرُ طَالِبِهِ ،
وَدُرٍّ أَحْرَزَهُ غَيْرُ جَالِبِهِ .
وَأَنْشَدَنِي
بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ : يَا أَسِيرَ
الطَّمَعِ الْكَاذِبِ فِي غِلِّ الْهَوَانِ إنَّ عِزَّ الْيَأْسِ خَيْرٌ
لَك مِنْ ذُلِّ الْأَمَانِي سَامِحْ الدَّهْرَ إذَا عَزَّ وَخُذْ صَفْوَ
الزَّمَانِ إنَّمَا أُعْدِمَ ذُو الْحِرْصِ وَأُثْرِيَ ذُو الْتَوَانِي
وَلَيْسَ لِلْحَرِيصِ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ يَقِفُ عِنْدَهَا ، وَلَا
نِهَايَةٌ مَحْدُودَةٌ يَقْنَعُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ
بِالْحِرْصِ إلَى مَا أَمَّلَ أَغْرَاهُ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْحِرْصِ
وَالْأَمَلِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ رَأَى إضَاعَةَ الْغِنَى لُؤْمًا ،
وَالصَّبْرَ عَلَيْهِ حَزْمًا ، وَصَارَ بِمَا سَلَفَ مِنْ رَجَائِهِ
أَقْوَى رَجَاءً وَأَبْسَطَ أَمَلًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { يَشِيبُ
ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مَعَهُ خَصْلَتَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ } .
وَقِيلَ
لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : مَا بَالُ الْمَشَايِخِ أَحْرِصُ عَلَى
الدُّنْيَا مِنْ الشَّبَابِ ؟ قَالَ : ؛ لِأَنَّهُمْ ذَاقُوا مِنْ طَعْمِ
الدُّنْيَا مَا لَمْ يَذُقْهُ الشَّبَابُ .
وَلَوْ صَدَقَ الْحَرِيصُ
نَفْسَهُ وَاسْتَنْصَحَ عَقْلَهُ لَعَلِمَ أَنَّ مِنْ تَمَامِ
السَّعَادَةِ وَحُسْنِ التَّوْفِيقِ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ
وَالْقَنَاعَةَ بِالْقَسْمِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اقْتَصِدُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ
مَا رُزِقْتُمُوهُ أَشَدُّ طَلَبًا لَكُمْ مِنْكُمْ لَهُ وَمَا
حُرِمْتُمُوهُ فَلَنْ تَنَالُوهُ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } .
وَرُوِيَ {
أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - هَبَطَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ -
تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ وَيَقُولُ لَك :
اقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : { وَلَا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ
وَأَبْقَى } .
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُنَادِيًا يُنَادِي : مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى
تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتِ } .
وَقِيلَ : مَكْتُوبٌ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ : رُدُّوا أَبْصَارَكُمْ
عَلَيْكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا شُغْلًا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً } قَالَ : بِالْقَنَاعَةِ .
وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : مَنْ بَاعَ الْحِرْصَ بِالْقَنَاعَةِ
ظَفَرَ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : قَدْ يَخِيبُ الْجَاهِدُ السَّاعِي ،
وَيَظْفَرُ الْوَادِعُ الْهَادِي .
فَأَخَذَهُ
الْبُحْتُرِيُّ فَقَالَ : لَمْ أَلْقَ مَقْدُورًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ
فِي الْحَظِّ إمَّا نَاقِصًا أَوْ زَائِدَا وَعَجِبْتُ لِلْمَحْدُودِ
يُحْرَمُ نَاصِبًا كَلَفًا وَلِلْمَجْدُودِ يَغْنَمُ قَاعِدَا مَا خَطْبُ
مَنْ حُرِمَ الْإِرَادَةَ قَاعِدًا
خَطْبُ الَّذِي حُرِمَ
الْإِرَادَةَ جَاهِدَا وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّ مَنْ قَنَعَ
كَانَ غَنِيًّا وَإِنْ كَانَ مُقْتِرًا ، وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ كَانَ
فَقِيرًا وَإِنْ كَانَ مُكْثِرًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ إذَا
طَلَبْتَ الْعِزَّ فَاطْلُبْهُ بِالطَّاعَةِ ، وَإِذَا طَلَبْتَ الْغِنَى
فَاطْلُبْهُ بِالْقَنَاعَةِ ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -
عَنَّ نَصْرُهُ ، وَمَنْ لَزِمَ الْقَنَاعَةَ زَالَ فَقْرُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْقَنَاعَةُ عِزُّ الْمُعْسِرِ ،
وَالصَّدَقَةُ حِرْزُ الْمُوسِرِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إنِّي أَرَى مَنْ لَهُ قُنُوعٌ يُدْرِكُ مَا نَالَ
أَوْ تَمَنَّى وَالرِّزْقُ يَأْتِي بِلَا عَنَاءٍ وَرُبَّمَا فَاتَ مَنْ
تَعَنَّى وَالْقَنَاعَةُ قَدْ تَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَقْنَعَ بِالْبُلْغَةِ مِنْ دُنْيَاهُ ،
وَيَصْرِفَ نَفْسَهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِمَا سِوَاهُ .
وَهَذَا أَعْلَى مَنَازِلِ الْقَنَاعَةِ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : إذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا غَنِيًّا فَلَا تَكُنْ عَلَى
حَالَةٍ إلَّا رَضِيتَ بِدُونِهَا وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ :
أَزْهَدُ النَّاسِ مَنْ لَا تَتَجَاوَزُ رَغْبَتُهُ مِنْ الدُّنْيَا
بُلْغَتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الرِّضَى بِالْكَفَافِ يُؤَدِّي إلَى
الْعَفَافِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : يَا رُبَّ ضَيِّقٍ أَفْضَلِ مِنْ سَعَةٍ ،
وَعَنَاءٍ خَيْرٍ مِنْ دَعَةٍ .
وَأَنْشَدَنِي
بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهِهِ - : أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ
وَأَيُّ غِنًى أَعَزُّ مِنْ الْقَنَاعَهْ فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِك رَأْسَ
مَالٍ وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ تَحَرَّزْ حِينَ تَغْنَى
عَنْ بِخَيْلٍ وَتَنَعَّمْ فِي الْجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَهْ وَالْوَجْهُ
الثَّانِي : أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِ الْقَنَاعَةُ إلَى الْكِفَايَةِ ،
وَيَحْذِفُ الْفُضُولَ وَالزِّيَادَةَ .
وَهَذِهِ أَوْسَطُ حَالِ الْمُقْتَنِعِ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { مَا مِنْ عَبْدٍ إلَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِزْقِهِ حِجَابٌ ، فَإِنْ
قَنَعَ وَاقْتَصَدَ أَتَاهُ رِزْقُهُ ،
وَإِنْ هَتَكَ الْحِجَابَ لَمْ يَزِدْ فِي رِزْقِهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا فَوْقَ الْكَفَافِ إسْرَافٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ رَضِيَ بِالْمَقْدُورِ قَنَعَ
بِالْمَيْسُورِ .
وَقَالَ
الْبُحْتُرِيُّ : تَطْلُبُ الْأَكْثَرَ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ تَبْلُغُ
الْحَاجَةَ مِنْهَا بِالْأَقَلِّ وَأَنْشَدْتُ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْمُدَبَّرِ : إنَّ الْقَنَاعَةَ وَالْعَفَافَ لَيُغْنِيَانِ عَنْ
الْغِنَى فَإِذَا صَبَرْتَ عَنْ الْمُنَى فَاشْكُرْ فَقَدْ نِلْتَ
الْمُنَى وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِ الْقَنَاعَةُ
إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مَا سَنَحَ فَلَا يَكْرَهُ مَا أَتَاهُ وَإِنْ
كَانَ كَثِيرًا ، وَلَا يَطْلُبُ مَا تَعَذَّرَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا .
وَهَذِهِ الْحَالُ أَدْنَى مَنَازِلِ أَهْلِ الْقَنَاعَةِ ؛ لِأَنَّهَا
مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ .
أَمَّا الرَّغْبَةُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَكْرَهُ الزِّيَادَةَ عَلَى
الْكِفَايَةِ إذَا سَنَحَتْ .
وَأَمَّا الرَّهْبَةُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْمُتَعَذَّرَ عَنْ
نُقْصَانِ الْمَادَّةِ إذَا تَعَذَّرَتْ .
وَفِي
مِثْلِهِ قَالَ ذُو النُّونِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - : مَنْ
كَانَتْ قَنَاعَتُهُ سَمِينَةً طَابَتْ لَهُ كُلُّ مَرَقَةٍ .
وَقَدْ
رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الدُّنْيَا دُوَلٌ فَمَا كَانَ مِنْهَا لَك أَتَاك عَلَى
ضَعْفِك ، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْك لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِك ،
وَمَنْ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِمَّا فَاتَ اسْتَرَاحَ بَدَنُهُ ، وَمَنْ
رَضِيَ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَرَّتْ عَيْنُهُ } .
وَقَالَ
أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ وَجَدْتُ شَيْئَيْنِ : شَيْئًا هُوَ لِي لَنْ
أَعْجَلَهُ قَبْلَ أَجَلِهِ وَلَوْ طَلَبْتُهُ بِقُوَّةِ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ ، وَشَيْئًا هُوَ لِغَيْرِي وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ أَنَلْهُ
فِيمَا مَضَى وَلَا أَنَالُهُ فِيمَا بَقِيَ يَمْنَعُ الَّذِي لِي مِنْ
غَيْرِي كَمَا يَمْنَعُ الَّذِي لِغَيْرِي مِنِّي ، فَفِي أَيِّ هَذَيْنِ
أُفْنِي عُمْرِي وَأُهْلِكُ نَفْسِي .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : لَا تَأْخُذُونِي بِالزَّمَانِ
وَلَيْسَ لِي
تَبَعًا
وَلَسْتُ عَلَى الزَّمَانِ كَفِيلَا مَنْ كَانَ مَرْعَى عَزْمِهِ
وَهُمُومِهِ رَوْضَ الْأَمَانِي لَمْ يَزَلْ مَهْزُولَا لَوْ جَارَ
سُلْطَانُ الْقُنُوعِ وَحُكْمِهِ فِي الْخَلْقِ مَا كَانَ الْقَلِيلُ
قَلِيلَا الرِّزْقُ لَا تَكْمَدْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي وَلَمْ
تَبْعَثْ عَلَيْهِ رَسُولَا وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ
لِابْنِ الرُّومِيِّ : جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ فَسِيَّانِ
التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ جُنُونٌ مِنْك أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ
وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ
تَعَالَى أَكْرَمَ مَسْئُولٍ ، وَأَفْضَلَ مَأْمُولٍ ، أَنْ يُحْسِنَ
إلَيْنَا التَّوْفِيقَ فِيمَا مَنَحَ ، وَيَصْرِفَ عَنَّا الرَّغْبَةَ
فِيمَا مَنَعَ ؛ اسْتِكْفَافًا لِتَبِعَاتِ الثَّرْوَةِ ، وَمُوبِقَاتِ
الشَّهْوَةِ .
رَوَى شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ ، عَنْ أَبِي الْجِذْعِ
، عَنْ أَعْمَامِهِ وَأَجْدَادِهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ أُمَّتِي الَّذِينَ لَمْ
يُعْطُوا حَتَّى يَبْطَرُوا ، وَلَمْ يُقْتِرُوا حَتَّى يَسْأَلُوا }
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : عِنْدِي مِنْ الْأَيَّامِ مَا لَوْ
أَنَّهُ أَضْحَى بِشَارِبٍ مُرْقِدٍ مَا غَمَّضَا لَا تَطْلُبَنَّ
الرِّزْقَ بَعْدَ شِمَاسِهِ فَتَرُومَهُ شِبَعًا إذَا مَا غَيَّضَا مَا
عُوِّضَ الصَّبْرَ امْرُؤٌ إلَّا رَأَى مَا فَاتَهُ دُونَ الَّذِي قَدْ
عُوِّضَا
الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ اعْلَمْ
أَنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى شِيَمٍ مُهْمَلَةٍ ، وَأَخْلَاقٍ
مُرْسَلَةٍ ، لَا يَسْتَغْنِي مَحْمُودُهَا عَنْ التَّأْدِيبِ ، وَلَا
يَكْتَفِي بِالْمُرْضِي مِنْهَا عَنْ التَّهْذِيبِ ؛ لِأَنَّ
لِمَحْمُودِهَا أَضْدَادًا مُقَابِلَةً يُسْعِدُهَا هَوًى مُطَاعٌ
وَشَهْوَةٌ غَالِبَةٌ ، فَإِنْ أَغْفَلَ تَأْدِيبَهَا تَفْوِيضًا إلَى
الْعَقْلِ أَوْ تَوَكُّلًا عَلَى أَنْ تَنْقَادَ إلَى الْأَحْسَنِ
بِالطَّبْعِ أَعْدَمَهُ التَّفْوِيضُ دَرَكَ الْمُجْتَهِدِينَ ،
وَأَعْقَبَهُ التَّوَكُّلُ نَدَمَ الْخَائِبِينَ ، فَصَارَ مِنْ الْأَدَبِ
عَاطِلًا ، وَفِي صُورَةِ الْجَهْلِ دَاخِلًا ؛ لِأَنَّ الْأَدَبَ
مُكْتَسَبٌ بِالتَّجْرِبَةِ ، أَوْ مُسْتَحْسَنٌ بِالْعَادَةِ ، وَلِكُلِّ
قَوْمٍ مُوَاضَعَةٌ .
وَذَلِكَ لَا يُنَالُ بِتَوْقِيفِ الْعَقْلِ
وَلَا بِالِانْقِيَادِ لِلطَّبْعِ حَتَّى يُكْتَسَبَ بِالتَّجْرِبَةِ
وَالْمُعَانَاةِ ، وَيُسْتَفَادَ بِالدُّرْبَةِ وَالْمُعَاطَاةِ .
ثُمَّ يَكُونُ الْعَقْلُ عَلَيْهِ قَيِّمًا وَزَكِيُّ الطَّبْعِ إلَيْهِ
مُسَلِّمًا .
وَلَوْ
كَانَ الْعَقْلُ مُغْنِيًا عَنْ الْأَدَبِ لَكَانَ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ
تَعَالَى عَنْ أَدَبِهِ مُسْتَغْنِينَ ، وَبِعُقُولِهِمْ مُكْتَفِينَ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ } .
وَقِيلَ لِعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : مَنْ
أَدَّبَك ؟ قَالَ : مَا أَدَّبَنِي أَحَدٌ وَلَكِنِّي رَأَيْتُ جَهْلَ
الْجَاهِلِ فَجَانَبْتُهُ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ
وَمَحَاسِنَهَا وَصْلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ ، فَحَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ
يَتَّصِلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِخُلُقٍ مِنْهَا .
وَقَالَ
أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ : مِنْ فَضِيلَةِ الْأَدَبِ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ
بِكُلِّ لِسَانٍ ، وَمُتَزَيَّنٌ بِهِ فِي كُلِّ مَكَان ، وَبَاقٍ
ذِكْرُهُ عَلَى أَيَّامِ الزَّمَانِ .
وَقَالَ مَهْبُودٌ : شُبِّهَ
الْعَالِمُ الشَّرِيفُ الْقَدِيمُ الْأَدَبِ بِالْبُنْيَانِ الْخَرَابِ
الَّذِي كُلَّمَا عَلَا سُمْكُهُ كَانَ أَشَدَّ
لِوَحْشَتِهِ
وَبِالنَّهْرِ الْيَابِسِ الَّذِي كُلَّمَا كَانَ أَعْرَضَ وَأَعْمَقَ
كَانَ أَشَدَّ لِوُعُورَتِهِ ، وَبِالْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ الْمُعَطَّلَةِ
الَّتِي كُلَّمَا طَالَ خَرَابُهَا ازْدَادَ نَبَاتُهَا غَيْرَ
الْمُنْتَفَعِ بِهِ الْتِفَافًا وَصَارَ لِلْهَوَامِّ مَسْكَنًا .
وَقَالَ
ابْنُ الْمُقَفَّعِ : مَا نَحْنُ إلَى مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى
حَوَاسِّنَا مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ بِأَحْوَجِ مِنَّا إلَى
الْأَدَبِ الَّذِي هُوَ لِقَاحُ عُقُولِنَا ، فَإِنَّ الْحَبَّةَ
الْمَدْفُونَةَ فِي الثَّرَى لَا تَقْدِرُ أَنْ تَطْلُعَ زَهْرَتُهَا
وَنَضَارَتُهَا إلَّا بِالْمَاءِ الَّذِي يَعُودُ إلَيْهَا مِنْ
مُسْتَوْدَعِهَا .
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ الْعَقْلُ بِلَا
أَدَبٍ كَالشَّجَرِ الْعَاقِرِ ، وَمَعَ الْأَدَبِ دِعَامَةٌ أَيَّدَ
اللَّهُ بِهَا الْأَلْبَابَ ، وَحِلْيَةٌ زَيَّنَ اللَّهُ بِهَا عَوَاطِلَ
الْأَحْسَابِ ، فَالْعَاقِلُ لَا يَسْتَغْنِي وَإِنْ صَحَّتْ غَرِيزَتُهُ
، عَنْ الْأَدَبِ الْمُخْرِجِ زَهْرَتُهُ ، كَمَا لَا تَسْتَغْنِي
الْأَرْضُ وَإِنْ عَذُبَتْ تُرْبَتُهَا عَنْ الْمَاءِ الْمُخْرِجِ
ثَمَرَتُهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْأَدَبُ صُورَةُ الْعَقْلِ فَصَوِّرْ
عَقْلَك كَيْفَ شِئْتَ .
وَقَالَ آخَرُ : الْعَقْلُ بِلَا أَدَبٍ كَالشَّجَرِ الْعَاقِرِ ، وَمَعَ
الْأَدَبِ كَالشَّجَرِ الْمُثْمِرِ .
وَقِيلَ الْأَدَبُ أَحَدُ الْمَنْصِبَيْنِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءُ : الْفَضْلُ بِالْعَقْلِ وَالْأَدَبِ ، لَا
بِالْأَصْلِ وَالْحَسَبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ سَاءَ أَدَبُهُ ضَاعَ نَسَبُهُ ،
وَمَنْ قَلَّ عَقْلُهُ ضَلَّ أَصْلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءُ :
ذَكِّ قَلْبَك بِالْأَدَبِ كَمَا تُذَكَّى النَّارُ بِالْحَطَبِ ،
وَاِتَّخِذْ الْأَدَبَ غُنْمًا ، وَالْحِرْصَ عَلَيْهِ حَظًّا ،
يَرْتَجِيكَ رَاغِبٌ ، وَيَخَافُ صَوْلَتَك رَاهِبٌ ، وَيُؤَمِّلُ
نَفْعَكَ ، وَيُرْجَى عَدْلُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْأَدَبُ وَسِيلَةٌ إلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ
، وَذَرِيعَةٌ إلَى كُلِّ شَرِيعَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : الْأَدَبُ يَسْتُرُ قَبِيحَ النَّسَبِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءُ فِيهِ : فَمَا خَلَقَ اللَّهُ
مِثْلَ
الْعُقُولِ وَلَا اكْتَسَبَ النَّاسُ مِثْلَ الْأَدَبْ وَمَا كَرَمُ
الْمَرْءِ إلَّا التُّقَى وَلَا حَسَبُ الْمَرْءِ إلَّا النَّسَبْ وَفِي
الْعِلْمِ زَيْنٌ لِأَهْلِ الْحِجَا وَآفَةُ ذِي الْحِلْمِ طَيْشُ
الْغَضَبْ وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنْ يَكُ
الْعَقْلُ مَوْلُودًا فَلَسْتُ أَرَى ذَا الْعَقْلِ مُسْتَغْنِيًا عَنْ
حَادِثِ الْأَدَبْ إنِّي رَأَيْتُهُمَا كَالْمَاءِ مُخْتَلِطًا
بِالتُّرْبِ تَظْهَرُ مِنْهُ زَهْرَةُ الْعُشَبْ وَكُلُّ مَنْ
أَخْطَأَتْهُ فِي مَوَالِدِهِ غَرِيزَةُ الْعَقْلِ حَاكَى الْبُهْمَ فِي
الْحَسَبْ وَالتَّأْدِيبُ يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا
لَزِمَ الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ فِي صِغَرِهِ .
وَالثَّانِي مَا لَزِمَ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ نُشُوئِهِ
وَكِبَرِهِ .
فَأَمَّا
التَّأْدِيبُ اللَّازِمُ لِلْأَبِ فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ وَلَدَهُ
بِمَبَادِئِ الْآدَابِ لِيَأْنَسَ بِهَا ، وَيَنْشَأَ عَلَيْهَا ،
فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا عِنْدَ الْكِبْرِ لِاسْتِئْنَاسِهِ
بِمَبَادِئِهَا فِي الصِّغَرِ ؛ لِأَنَّ نُشُوءَ الصِّغَرِ عَلَى
الشَّيْءِ يَجْعَلُهُ مُتَطَبِّعًا بِهِ .
وَمَنْ أُغْفِلَ تَأْدِيبُهُ فِي الصِّغَرِ كَانَ تَأْدِيبُهُ فِي
الْكِبَرِ عَسِيرًا .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
{ مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ نِحْلَةً أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ
يُفِيدُهُ إيَّاهُ ، أَوْ جَهْلٍ قَبِيحٍ يَكْفِهِ عَنْهُ وَيَمْنَعُهُ
مِنْهُ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بَادِرُوا بِتَأْدِيبِ الْأَطْفَالِ قَبْلَ
تَرَاكُمِ الْأَشْغَالِ وَتَفَرُّقِ الْبَالِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إنَّ الْغُصُونَ إذَا قَوَّمْتَهَا اعْتَدَلَتْ
وَلَا يَلِينُ إذَا قَوَّمْتَهُ الْخَشَبُ قَدْ يَنْفَعُ الْأَدَبُ
الْأَحْدَاثَ فِي صِغَرٍ وَلَيْسَ يَنْفَعُ عِنْدَ الشَّيْبَةِ الْأَدَبُ
وَقَالَ آخَرُ : يَنْشُو الصَّغِيرُ عَلَى مَا كَانَ وَالِدُهُ إنَّ
الْأُصُولَ عَلَيْهَا تَنْبُتُ الشَّجَرُ وَأَمَّا الْأَدَبُ اللَّازِمُ
لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ نُشُوئِهِ وَكِبَرِهِ فَأَدَبَانِ : أَدَبُ
مُوَاضَعَةٍ وَاصْطِلَاحٍ ، وَأَدَبُ رِيَاضَةٍ وَاسْتِصْلَاحٍ .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى