صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بغير جنس المغل وإنما كانت ربا لأجل العلوج وهذه الصورة لا حاجة إليها
فإن العلوج يقومون بها فتقبيلها لآخر مراباة له ولهذا كرهها أحمد وإن كانت
بيضاء إذا كان فيها العلوج
وقد استدل حرب الكرماني على المسألة بمعاملة
النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر على أرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر
وزرع على أن يعمروها من أموالهم وذلك أن هذا في المعنى إكراء للأرض منهم
ببعض ما يخرج منها مع إكراء الشجر بنصف ثمره فقياس عليه إكراء الأرض والشجر
بشئ مضمون لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه لكان إعطاء بعضه بمنزلة
بيعه وذلك لا يجوز وهذه المسألة لها أصلان
الأصل الأول أنه متى كان بين
الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كرائهما جميعا فيجوز لأجل الحاجة وإن
كان في ذلك غرر يسير لا سيما إن كان البستان وقفا أو مال يتيم فإن تعطيل
منفعته لا يجوز وإكراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع في العادة ولا يدخل أحد
في إجارته على ذلك وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته ومالا يتم المباح
إلا به فهو مباح فكل ما ثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه إذا لم
يكن في تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه ومالا يتم
اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام فهنا يتعارض الدليلان
وفي مسألتنا
قد ثبت إباحة كراء بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين بخلاف دخول كراء الشجر
فإن تحريمه مختلف فيه ولا نص فيه
و أيضا فمتى أكريت الأرض وحدها وبقي
الشجر لم يكن المكترى مأمونا على الثمر فيفضي إلى اختلاف الأيدي وسوء
المشاركة كما إذا بدا الصلاح في نوع واحد يخرج على هذا القول مثل قول الليث
بن سعد إذا بدا الصلاح في جنس وكان في بيعه متفرقا ضرر جاز بيع جميع
الأجناس وبه فسر تفريق الصفقة ولأنه إذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يجد
من يشتري الثمرة إذا
كانت الأرض والمساكن لغيره إلا بنقص كثير ولأنه
إذا أكرى الأرض فإن شرط عليه سقي الشجر والسقي من جملة المعقود عليه صار
المعوض عوضا وإن لم يشرط عليه السقي فإذا سقاها إن ساقاه عليها صارت
الإجارة لا تصح إلا بمساقاة وإن لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر فيدور
الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعى أو لا تصح الإجارة إلا بمساقاة أو
بتفويت منفعة المستأجر ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها مع
أن الأرض والمساكن لغيره نقص للقيمة في مواضع كثيرة
فيرجع الأمر إلى أن
الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما في المعاوضة وإن لم يجز
إفراد كل منهما لأن حكم الجمع يخالف حكم التفريق ولهذا وجب عند أحمد وأكثر
الفقهاء على أحد الشريكين إذا تعذرت القسمة أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه
إن كان المشترك منفعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شركا له في
عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم
وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق أخرجاه في الصحيحين فأمر النبي
صلى الله عليه وسلم بتقويم العبد كله وبإعطاء الشريك حصته من القيمة ومعلوم
أن قيمة حصته مفردة دون حصته من قيمة الجميع فعلم أن حقه في نصف النصف
وإذا استحق ذلك بالإعتاق فبسائر أنواع الإتلاف أولى وإنما يستحق بالإتلاف
ما يستحق بالمعاوضة فعلم أنه يستحق بالمعاوضة نصف القيمة وإنما يمكن ذلك
عند بيع الجميع فيجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها فإن كان فيها ضرر قسمت
القيمة
فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما في التفريق من نقص
قيمة شريكه فلأن يجوز بيع الأمرين جميعا إذا كان في تفريقهما ضرر أولى
ولذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها وإن أمكن تفريقهما بالحلب وإن
كان بيع اللبن وحده لا يجوز
وعلى هذا الأصل فيجوز متى كان مع الشجر
منفعة مقصودة كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن وأما إن كان المقصود هو الثمر
فقط ومنفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود وإنما دخلت لمجرد الحيلة
كما قد يفعل في مسائل مد عجوة لم يجئ هذا الأصل
الأصل الثاني أن يقال
إكراء الشجر للاستثمار يجري مجرى إكراه الأرض للازدراع واستئجار الظئر
للرضاع وذلك أن الفوائد التي تستحق مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع وإن
كانت أعيانا وهي ثمر الشجر ولبن الآدميات والبهائم والصوف والماء العذب
فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء
ولهذا جرت في الوقف والعارية والمعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة فإن
الوقف لا يكون إلا فيما ينتفع به مع بقاء أصله فإذا جاز وقف الأرض البيضاء
أو الرباع لمنفعتها فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ووقف الماشية لدرها وصوفها
ووقف الآبار والعيون لمائها بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام ونحوه فلا
يوقف
و أما باب العارية فيسمون إباحة الظهر إفقارا يقال أفقره الظهر وما
أبيح لبنه منيحة وما أبيح ثمره عرية وغير ذلك عارية وشبهوا ذلك بالقرض
الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم
منيحة لبن أو منيحة ورق فاكتراء الشجر لأن يعمل عليها ويأخذ
ثمرها
بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها وليس في القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة
الظئر في قوله سبحانه 65: 6 {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ}
ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة
ليست عينا ورأى جواز إجارة الظئر قال المعقود عليه هو وضع الطفل في حجرها
واللبن دخل ضمنا وتبعا كنقع البئر وهذا مكابرة للعقل والحس فإنا نعلم
بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله {فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ} وضم الطفل إلى حجرها إن فعل فإنما هو وسيلة إلى ذلك
وإنما العلة ما ذكرته من أن الفائدة التي تستخلف مع بقاء أصلها تجري مجرى
المنفعة وليس من البيع الخاص فإن الله لم يسم العوض إلا أجرا لم يسمه ثمنا
وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن فإن لا يسمى المعاوضة عليه حينئذ إلا بيعا لأنه
لم يستوف الفائدة من أصلها كما يستوفي المنفعة من أصلها
فلما كان
للفوائد العينية التي يمكن فصلها عن أصلها حالان حال تشبه فيه المنافع
المحضة وهي حال اتصالها واستيفاء المنفعة وحال تشبه في الأعيان المحضة وهي
حال انفصالها وقبضها كقبض الأعيان فإذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها
ويعمل عليها حتى تصلح الثمرة فإنما يبيع ثمرة محضة كما لو كان هو الذي يشق
الأرض ويبذرها ويسقيها حتى يصلح الزرع فإنما يبيع زرعا محضا وأن كان
المشتري هو الذي يجد ويحصد كما لو باعها على الأرض وكان المشتري هو الذي
ينقل ويحول ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في النهي عن بيع
الحب حتى يشتد وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه فإن هذا بيع محض للثمرة والزرع
وأما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلىالمكري حتى يسقيها ويلقحها ويدفع عنها
الأذى فهو بمنزلة دفعه الأرض إلى من يشقها ويبذرها ويسقيها ولهذا سوى
بينهما في المساقاة والمزارعة فكما أن كراء الأرض ليس
ببيع لزرعها
فكذلك كراء الشجرة ليس ببيع لثمرها بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض
كنسبة المساقاة إلى المزارعة هذا معاملة من النماء وهذا كراء بعوض معلوم
فإذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع في الوقف لأصلها وفي التبرعات بها
وفي المشاركة بجزء من نمائها وفي المعاوضة عليها بعد صلاحها فكذلك تساويها
في المعاوضة على استفادتها وتحصيلها ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج
بالعمل بخلاف الثمر فإنه يخرج بلا عمل كان هذا الفرق عديم التأثير بدليل
المساقاة والمزارعة وليس بصحيح فإن للعمل تأثيرا في الإثمار كماله تأثير في
الإنبات ومع عدم العمل عليها قد يعدم الثمر وقد ينقص فإن من الشجر ما لو
لم يسق لم يثمر ولو لم يكن للعمل عليه تأثير أصلا لم يجز دفعه إلى عامل
بجزء من ثمره ولم يجز في مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه فإن بيع محض
للثمرة لا إجارة للشجر ويكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله
بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده
فإن قيل المقصود بالعقد هنا غرر لأنه قد
يثمر قليلا وقد يثمر كثيرا
يقال مثله في إكراء الأرض فإن المقصود بالعقد
غرر أيضا على هذا التقدير فإنه قد ينبت قليلا وقد ينبت كثيرا
و إن قيل
المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت
قيل المعقود
عليه هنا التمكن من الاستثمار لا نفس الثمر الخارج ومعلوم أن المقصود فيهما
إنما هو الزرع والثمر وإنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك كما أن
المقصود باكتراء الدار إنما هو السكنى وإن وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك
فالمقصود
في اكتراء الأرض للزرع إنما هو نفس الأعيان التي تحصد ليس كاكترائها
للسكنى أو البناء فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجعل الأعيان فيها
وهذا
بين عند التأمل لا يزيده البحث عنه إلا وضوحا
فظهر به أن الذي نهى
عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الثمرة قبل زهوها وبيع الحب قبل
اشتداده ليس هو إن شاء الله إكراؤها لمن يحصل ثمرتها وزرعها بعمله وسقيه
ولا هذا داخل في نهيه لفظا ولا معنى
يوضح ذلك أن البائع لثمرتها عليه
تمام سقيها والعمل عليها حتى يتمكن المشتري من الحصاد فإن هذا من تمام
التوفية ومؤنه التوفية على البائع كالكيل والوزن وأما المكري لها لمن
يخدمها حتى تثمر فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تنبت ليس على المكري عمل
أصلا وإنما عليه التمكين من العمل يحصل به الثمر والزرع
ولكن يقال طرد
هذا أن يجوز إكراء البهائم لمن يفعلها ويسقيها ويحتلب لبنها
قيل إذا
جوزنا على إحدى الروايتين أن تدفع الماشية إلى من يعلفها ويسقيها بجزء من
درها ونسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها بشيء من مضمون
و إن قيل
فهلا جاز إجارتها لاحتلاب لبنها كما جاز إجارة الظئر أن ترضع بعمل صاحبها
للغنم لأن الظئر هي التي ترضع الطفل فإذا كانت هي التي توفي المنفعة فنظيره
أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الإرضاع وحينئذ فالقياس جوازه ولو كان
لرجل غنم فاستأجر غنم رجل ليرضعها لم يكن هذا ممتنعا وأما إن كان المستأجر
هو الذي يحلب اللبن أو هو الذي يستوفيه فهذا مشتر اللبن ليس مستوفيا لمنفعة
ولا مستوفيا للعين بعمل وهو شبيه باشتراء الثمرة واحتلابه كقطافها وهو
الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا يباع لبن في ضرع بخلاف ما
لو استأجرها لأن يقوم عليها ويحتلب لبنها فهذا نظير اكتراء الأرض والشجر
هذا
إذا أكرى الأرض والشجر أو الشجرة وحدها لأن يخدمها ويأخذ الثمرة بعوض
معلوم فإن باعه الثمرة فقط وأكراه الأرض للسكنى فهنا لا يجيء إلا الأصل
الأول المذكور عن ابن عقيل وبعضه عن مالك وأحمد في إحدى الروايتين إذا كان
الأغلب هو السكنى وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما فيجوز في الجمع ما
لا يجوز في التفريق كما تقدم من النظائر وهذا إذا كان كل واحد من السكنى
والثمرة مقصود كما يجري في حوائط دمشق فإن البستان يكتري في المدة الصيفية
للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل على الثمرة أصلا بل العمل على المكري
المضمن
وعلى ذلك الأصل فيجوز وإن كان الثمر لم يطلع بحال سواء كان جنسا
واحدا أو أجناسا متفرقة كما يجوز مثل ذلك في القسم الأول فإنه إنما جاز
لأجل الجمع بينه وبين المنفعة وهو في الحقيقة جمع بين بيع وإجارة بخلاف
القسم الأول فإنه قد يقال هو إجارة لأن مؤنة توفية الثمر هنا على المضمن
وبعمله يصير ثمرا بخلاف القسم الأول فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر
ولهذا يسميه الناس ضمانا إذ ليس هو بيعا محضا ولا إجارة محضة فسمى باسم
الالتزام العام في المعاوضات وغيرها وهوالضمان كما يسمي الفقهاء مثل ذلك في
قوله ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه وكذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا
لكن ذلك يسمى إجارة وهذا إذا سمي إجارة أو اكتراء فلأن بعضه إجارة أو
اكتراء وفيه بيع أيضا
فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا وإنما جاءت
لأجل جداد الثمرة مثل أن يشتري عنبا أو بلحا ويريد أن يقيم في الحديقة
لقطافه فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر
فلا يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى إجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر
بخلاف القسم الذي قبله فإن المنفعة
إذا كانت مقصودة احتاج إلى
استئجارها واحتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا
بأن يكون له ثمرة يأكلها فإن مقصوده الانتفاع بالسكنى في ذلك المكان والأكل
من الثمر الذي فيه ولهذا إذا كان المقصود الأعظم هو السكنى والشجر قليل
مثل أن يكون في الدار نخلات أو غريس عنب ونحو ذلك فالجواز هنا مذهب مالك
وقياس أكثر نصوص أحمد وغيره وإن كان المقصود مع السكنى التجارة في الثمر
وهو أكثر من منفعة السكنى فالمنع هنا أوجه منه في التي قبلها كما فرق
بينهما مالك وأحمد وإن كان المقصود السكنى والأكل فهو شبيه بما لو قصد
السكنى والشرب من البئر وإن كان ثمن المأكول أكثر فهنا الجواز فيه أظهر من
التي قبلها ودون الأولى على قول من يفرق وأما على قول ابن عقيل المأثور عن
السلف فالجمع جائز كما قررناه لأجل الجمع فإن اشترط مع ذلك أن يحرث له
المضمن مقتاة فهو كما لو استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر
فقد استأجر أرضه واستأجر منه عملا في الذمة وهذا جائز كما لو استكرى منه
جملا أو حمارا على أن يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه وهذه إجارة عين
وإجارة على عمل في الذمة إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل
فيكون قد استأجر عينين
ولو لم تكن السكنى المقصودة وإنما المقصود ابتياع
ثمرة في بستان ذي أجناس والسقي على البائع فهذا عند الليث يجوز وهو قياس
القول الثالث الذي ذكرناه عند أصحابنا وغيرهم وقررناه لأن الحاجة إلى الجمع
بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة والمنفعة وربما كان أشد
فإنه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه فإنه في كثير من الأوقات لا يحصل
ذلك وفي بعضها إنما يحصل بضرر كثير وقد رأيت من يواطئ المشتري على ذلك ثم
كلما صلحت ثمرة يقسط عليها بعض الثمن وهذا من الحيل الباردة التي لا تخفى
حالها كما تقدم وما يزال العلماء والمؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم
مثل
هذا مع أن أصول الشريعة تنافي تحريمه لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية
والقياسية التي اعتقدوا شمولها من قول العلماء الذين يدرجون هذا في العموم
هو الذي أوجب ما أوجب وهو قياس ما قررناه من جواز بيع المقتاة جميعها بعد
بدو صلاحها لأن تفريق بعضها متعسر أو متعذر كتعسر تفريق الأجناس في البستان
الواحد وإن كانت المشقة في المقتاة أوكد ولهذا جوزها من منع الأجناس كمالك
فإن
قيل هذه الصورة داخلة في عموم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر
حتى يبدو صلاحه بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه فإنه كما قررتم
ليس بداخل في العموم لأنه إجارة لمن يعمل لا بيع لمعين وأما هذا فبيع
للثمرة فيدخل في النهى فكيف تخالفون النهى
قلنا الجواب عن هذا كالجواب
عما يجوز بالسنة والإجماع من ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يبد صلاحه
وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد حبه وما نصرناه من ابتياع المقاتي مع
أن بعض خضرها لم يخلق وجواب ذلك بطريقين
أحدهما أن يقال إن النهى لم
يشمل بلفظه هذه الصورة لأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر انصرف إلى
البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله لأن لام التعريف تنصرف إلى ما
يعرفه المخاطبون فإن كان هنالك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه
كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين في قوله تعالى: 24: 62 {لا تَجْعَلُوا
دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وفي قوله 73:
16 {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وإلى النوع المخصوص نهيه عن بيع الثمر
فإنه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب دون العنب وغيره
وإن لم يكن المعهود شخصيا ولا نوعيا انصرف إلى
وتعريف المضاف إليه
فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه دخل كدخول القرن الثاني
والثالث فيما خاطب به الرسول أصحابه
ونظير هذا ما ذكره أحمد في نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن بول الرجل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم
يغتسل منه فحمله على ما كان معهودا على عهده من المياه الدائمة كالأبيار
والحياض التي بين مكة والمدينة فأما المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها
التي أحدثت بعده فلم يدخله في العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم العموم
اللفظي
يدل على عدم العموم في مسألتنا أن في الصحيحين عن أنس بن مالك
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى
قيل وما تزهى قال تحمر وتصفر وفي لفظ نهى عن بيع الثمر حتى يزهو ولفظ مسلم
نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو ومعلوم أن ذلك هو ثمر النخل كما جاء مقيدا
لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر وإلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض
كالتوت والتفاح والعنب الأبيض والإجاص الأبيض الذي يسميه أهل دمشق الخوخ
والخوخ الأبيض الذي يسمى الفرسك ويسميه الدمشقيون الدراق أو باللين! بلا
تغير لون كالتين ونحوه ولذلك جاء في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تشقح قيل وما تشقح قال تحمار وتصفار
ويؤكل منها وهذه الثمرة هي الرطب وكذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو
صلاحها ولا تبتاعوا التمر بالتمر" والتمر الثاني هو الرطب بلا ريب فكذلك
الأول لأن اللفظ واحد وفي صحيح مسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا تبتاعوا التمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة وقال بدو صلاحه حمرته
وصفرته فهذه الأحاديث التي فيها لفظ التمر
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وأما غيرها فصريح في النخل كحديث ابن عباس المتفق عليه نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل منه وفي رواية لمسلم
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو
وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري والمراد بالنخل ثمره
بالاتفاق لأنه صلى الله عليه وسلم قد جوز اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط
المشتري لثمرته
فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا في كل ثمرة في الأرض
وإنما هي عامة لفظا لكل ما عهده المخاطبون وعامة معنى لكل ما كان في معناه
وما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معناه فلم يتناوله دليل
الحرمة فيبقى على الحل وهذا وحده دليل على عدم التحريم وبه يتم ما نبهنا
عليه أولا من أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية والاستصحابية
تدل على ذلك لكن بشرط نفي الناقل المغير وقد بينا انتفاءه
الطريق الثاني
أن نقول وإن سلمنا العموم اللفظي لكن ليست هي مراده بل هي مخصوصة بما
ذكرناه من الأدلة التي تخص مثل هذا العموم فإن هذا العموم مخصوص بالسنة
والإجماع في الثمر التابع لشجره حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم من ابتاع
نخلا لم يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع أخرجاه من حديث ابن عمر
فجعلها للمبتاع إذا اشترطها بعد التأبير ومعلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها
ولا يجوز بيعها مفردة والعموم المخصوص بالنص أو الإجماع يجوز أن يخص منه
صورة في معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف ويجوز أيضا تخصيصه
بالإجماع وبالقياس القوي وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعاني ما يخص مثل
هذا لو كان عاما أو بالاشتداد بلا تغير لون كالجوز واللوز فبدو الصلاح في
الثمار متنوع تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس وتارة باليبس بعد الرطوبة وتارة
بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض وتارة لا يتغير
وإذا كان قد نهى
عن بيع الثمر حتى يحمر أو يصفر علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أصناف الثمار
وإنما يشمل ما تأتي فيه الحمرة والصفرة وقد جاء مقيدا أنه النخل
فتدبر
ما ذكرناه في هذه المسألة فإنه عظيم المنفعة في هذه القصة التي عمت بها
البلوى وفي نظائرها وانظر في عموم كلام الله ورسوله لفظا ومعنى حتى تعطيه
حقه وأحسن ما تستدل به على معناه آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده
فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة المذكورة
في قوله تعالى: 7: 157 {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ}
و أما نهيه صلى الله عليه وسلم عن المعاومة الذي جاء مفسرا
في رواية أخرى بأنه بيع السنين فهو والله أعلم مثل نهيه عن بيع حبل الحبلة
إنما نهى أن يبتاع المشتري الثمرة التي يستثمرها رب الشجرة وأما اكتراء
الأرض والشجرة حتى يستثمرها فلا يدخل هذا في البيع المطلق وإنما هو نوع من
الإجارة
و نظير هذا ما تقدم من حديث جابر في الصحيح من أنه نهى عن كراء
الأرض وأنه نهى عن المخابرة وأنه نهى عن المزارعة وأنه قال لا تكروا في
الأرض فإن المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه كما جاء مفسرا وهي
المخابرة والمزارعة التي كانوا يعتادونها فنهاهم عما كانوا يعتادونه من
الكراء أو المعاومة الذي يرجع حاصله إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح وإلى
المزارعة المشروط فيها جزء معين
وهذا نهى عما فيه مفسدة راجحة هذا نهى
عن الغرر في جنس البيع وذاك نهى عن الغرر في جنس الكراء العام الذي يدخل
فيه المساقاة والمزارعة وقد بين في كل منهما أن هذه المبايعة وهذه المكاراة
كانت تفضي إلى الخصومة
والشنآن وهو ما ذكره الله في حكمة تحريم
الميسر بقوله 5: 91 {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}
فصل
و
من القواعد التي أدخلها قوم من العلماء في الغرر المنهي عنه أنواع من
الإجارات والمشاركات كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك
فذهب قوم من الفقهاء
إلى أن المساقاة والمزارعة حرام باطل بناء على أنها نوع من الإجارة لأنها
عمل بعوض والإجارة لا بد أن يكون الأجر فيها معلوما لأنها كالثمن ولما روى
أحمد عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى
يتبين له أجره وعن النجش واللمس وإلقاء الحجر وأن العوض في المساقاة
والمزارعة مجهول لأنه قد يخرج الزرع والثمر قليلا وقد يخرج كثيرا وقد يخرج
على صفات ناقصة وقد لا يخرج فإن منع الله الثمرة كان استيفاء عمل العامل
باطلا وهذا قول أبي حنيفة وهو أشد الناس قولا بتحريم هذا
و أما مالك
والشافعي فالقياس عندهما ما قاله أبو حنيفة إدخالا لذلك في الغرر لكن جوزا
منه ما تدعو إليه الحاجة
فجوز مالك والشافعي في القديم المساقاة مطلقا
لأن كراء الشجر لا يجوز لأنه بيع للثمر قبل بدو صلاحه والمالك قد يتعذر
عليه سقي شجره وخدمته فيضطر إلى المساقاة بخلاف المزارعة فإنه يمكنه كراء
الأرض بالأجر المسمى فيغنيه ذلك عن المزارعة عليه تبعا لكن جوزا من
المزارعة ما يدخل في المساقاة تبعا فإذا كان بين الشجر بياض قليل جازت
المزارعة عليه تبعا للمساقاة
و مذهب مالك أن زرع ذلك البياض للعامل
بمطلق العقد فإن شرطاه بينهما جاز وهذا إذا لم يتجاوز الثلث
و الشافعي
لا يجعله للعامل لكن يقول إذا لم يمكن سقي الشجر إلا بسقيه
جازت
المزارعة عليه ولأصحابه في البياض إذا كان كثيرا أكثر من الشجر وجهان
وهذا
إذا جمعهما في صفقة واحدة فإن فرق بينهما في صفقتين فوجهان
أحدهما لا
يجوز بحال لأنه إنما جاز تبعا فلا يفرد بعقد
و الثاني يجوز إذا ساقى ثم
زارع لأنه يحتاج إليه حينئذ وأما إذا قدم المزارعة لم يجز وجها واحدا وهذا
إذا كان الجزء المشروط فيهما واحدا كالثلث والربع فإن فاضل بينهما ففيه
وجهان
وروى عن قوم من السلف منهم طاووس والحسن وبعض الخلف المنع من
إجارتها بالأجرة المسماة وإن كانت دراهم أو دنانير
وروى حرب عن الأوزاعي
أنه سئل هل يصلح اكتراء الأرض فقال اختلف فيه فجماعة من أهل العلم لا يرون
باكترائها بالدينار والدرهم بأسا وكره ذلك آخرون منهم وذلك لأن ذلك في
معنى بيع الغرر لأن المستأجر يلتزم الأجرة بناء على ما يحصل له من الزرع
وقد لا ينبت الزرع فيكون بمنزلة اكتراء الشجرة لاستثمارها وقد كان طاووس
يزارع ولأن المزارعة أبعد عن الغرر من المؤاجرة لأن المتعاملين في المزارعة
إما أن يغنما جميعا أو يغرما جميعا فتذهب منفعة بدن هذا وبقره ومنفعة أرض
هذا وذلك أقرب إلى العدل من أن يحصل أحدهما على شيء مضمون ويبقى الآخر تحت
الخطر إذ المقصود بالعقد هو الزرع لا القدرة على حرث على الأرض وبذرها
وسقيها
وعذر الفريقين مع هذا القياس ما بلغهم من الآثار عن النبي صلى
الله عليه وسلم من نهيه عن المخابرة وعن كراء الأرض كحديث رافع بن خديج
وحديث جابر فعن نافع أن ابن عمر كان يكرى مزارعه على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية ثم حدث عن
رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراءالمزارع فذهب ابن عمر
إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله
عليه وسلم عن
كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء
وشئ من التبن أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم حتى بلغه في
آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها نهي عن النبي صلى الله عليه
وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى
عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد فكان إذا سئل عنها بعد قال زعم رافع
بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها وعن سالم بن عبد الله بن
عمر أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري
كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه عبد الله فقال يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض قال رافع بن خديج لعبد الله سمعت
عمى وكانا قد شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن كراء الأرض قال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن الأرض تكري ثم خشى عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه
وسلم أحدث في ذلك شيئا لم يعلمه فترك كراء الأرض رواه مسلم وروى البخاري
قول عبد الله الذي في آخره عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير
لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا فقلت وما ذاك
ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال دعاني رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال ما تصنعون بمحاقلكم فقلت نؤاجرها يا رسول الله على الربيع
أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال فلا تفعلوا ازرعوها أو ازرعوها أو
أمسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة أخرجاه في الصحيحين وعن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه
فإن أبى فليمسك أرضه" أخرجاه وعن جابر بن عبد الله قال كانوا يزرعونها
بالثلث أو الربع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من
كانت له أرض
فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسك أرضه أخرجاه وهذا لفظ البخاري
ولفظ مسلم كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث أو
الربع بالماذيانات فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال من كانت
له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها
وفي رواية الصحيح ولا يكريها وفي رواية في الصحيح نهى عن كراء الأرض
وقد
ثبت أيضا في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية في الصحيحين عن زيد ابن
أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر
أو يصفر أو يؤكل منه شئ والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم
والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه
ذلك قال زيد قلت لعطاء بن أبي رباح أسمعت جابرا يذكر هذا عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال نعم
فهذه الأحاديث قد يستدل بها من ينهى عن
المؤاجرة والمزارعة لأنه نهى عن كرائها والكراء يعمها لأنه قال فليزرعها أو
ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسكها فلم يرخص إلا في أن يزرعها أو يمنحها
لغيره ولم يرخص في المعارضة عنه لا بمؤاجرة ولا بمزارعة
ومن يرخص في
المزارعة دون المؤاجرة يقول الكراء هو الإجارة أو المزارعة الفاسدة التي
كانوا يفعلونها بخلاف المزارعة الصحيحة التي ستأتي أدلتها والتي كان النبي
صلى الله عليه وسلم يعامل بها أهل خيبر وعمل بها الخلفاء الراشدون وسائر
الصحابة من بعده يؤيد ذلك أن ابن عمر الذي ترك كراء الأرض لما حدثه رافع
كان يروي
حديث أهل خيبر رواية من يفتي به وأن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومةوجميع ذلك من أنواع
الغرر والمؤاجرة أظهر في الغرر من المزارعة كما تقدم
ومن يجوز المؤاجرة
دون المزارعة يستدل بما رواه مسلم في صحيحه عن ثابت ابن الضحاك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها
فهذا صريح في النهى عن المزارعة والأمر بالمؤاجرة ولأنه سيأتي عن رافع بن
خديج الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينههم النبي صلى
الله عليه وسلم عن كرائها بشيء معلوم مضمون وإنما نهاهم عما كانوا يفعلونه
من المزارعة
وذهب جميع فقهاء الحديث الجامعون لطرقه كلهم كأحمد بن حنبل
وأصحابه كله من المتقدمين والمتأخرين وإسحاق بن راهويه وأبي بكر بن أبي
شيبة وسليمان بن دواد الهاشمي وأبي خيثمة زهير بن حرب وأكثر فقهاء الكوفيين
كسفيان الثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي
حنيفة والبخاري صاحب الصحيح وأبي داود وجماهير فقهاء الحديث من المتأخرين
كابن المنذر وابن خزيمة والخطابي وغيرهم وأهل الظاهر وأكثر أصحاب أبي حنيفة
إلى جواز المزارعة والمؤاجرة ونحو ذلك اتباعا لسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وسنة خلفائه وأصحابه وما عليه السلف وعمل جمهور المسلمين وبينوا
معاني الأحاديث التي يظن اختلافها في هذا الباب
فمن ذلك معاملة النبي
صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر وهو وخلفاؤه من بعده إلى أن أجلاهم عمر فعن
ابن عمر قال عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها
من ثمر أو زرع أخرجاه وأخرجا أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أعطى أهل خيبر على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها هذا لفظ
البخاري ولفظ مسلم: "لما
افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر
والزرع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقركم فيها على ذلك ما شئنا وكان
الثمر على السهمان من نصف خيبر فيأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس
وفي رواية مسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم وللرسول صلى
الله عليه وسلم شطر ثمرها وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعطى خيبر أهلها على النصف نخلها وأرضها رواه الإمام أحمد وابن ماجة وعن
طاوس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي
بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع فهو يعمل به إلى يومك هذا رواه ابن ماجة
وطاوس كان بالمين وأخذ عن أصحاب معاذ الذين باليمن من أعيان المخضرمين
وقوله وعمر وعثمان أي كنا نفعل كذلك على عهد عمر وعثمان فحذف الفعل لدلالة
الحال عليه لأن المخاطبين كانوا يعلمون أن معاذا خرج من اليمن في خلافة
الصديق وقدم الشام في خلافة عمر ومات بها في خلافته قال البخاري في صحيحه
وقال قيس ابن مسلم عن أبي جعفر يعني الباقر ما بالمدينة دار هجرة إلا
يزرعون على الثلث والربع قال وزارع علي وسعد ابن مالك وعبد الله بن مسعود
وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين
وعامل عمر الناس على انه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا
بالبذر فلهم كذا وهذه الآثار التي ذكرها البخاري قد رواها غير واحد من
المصنفين في الآثار
فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزرعون والخلفاء
الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع
أعظم من هذا بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا لا سيما وأهل بيعة الرضوان
جميعهم زارعوا
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده إلى أن
أجلا عمر اليهود إلى تيماء
وقد تأول من أبطل المزارعة والمساقاة ذلك
بتأويلات مردودة مثل أن قال كان اليهود عبيدا للنبي صلى الله عليه وسلم
والمسلمين فجعلوا ذلك مثل المخارجة بين العبد وسيده
و معلوم بالنقل
المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم ولم يسترقهم حتى أجلاهم عمر
ولم يبعهم ولا مكن أحدا من المسلمين من استرقاق أحد منهم
ومثل أن قال
هذه معاملة مع الكفار فلا يلزم أن تجوز مع المسلمين وهذا مردود فإن خيبر
كانت قد صارت دار إسلام وقد أجمع المسلمون أنه يحرم في دار الإسلام بين
المسلمين وأهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة ثم إنا قد
ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل بين المهاجرين والأنصار وأن معاذ
بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد إسلامهم على ذلك وأن الصحابة كانوا
يعاملون بذلك والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك مع عمومات الكتاب والسنة
المبيحة أو النافية للحرج ومع الاستصحاب وذلك من وجوه
أحدها أن هذه
المعاملة مشاركة ليست مثل المؤاجرة المطلقة فإن النماء الحادث يحصل من
منفعة أصلين منفعة العين التي لهذا كبدنه وبقره ومنفعة العين التي لهذا
كأرضه وشجره كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين وخيلهم وكما يحصل مال
الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم ونصرهم بخلاف الإجارة فإن المقصود
فيها هو العمل أو المنفعة فمن استأجر لبناء أو خياطة أو شق الأرض أو بذرها
أو حصاد فإذا وافاه ذلك العمل فقد استوفى المستأجر مقصوده بالعقد واستحق
الأجير أجره ولذلك يشترط في الإجارة اللازمة أن يكون العمل مضبوطا كما
يشترط مثل ذلك في المبيع وهنا منفعة بدن العامل وبدن بقره وحديده هو مثل
منفعة أرض المالك وشجره ليس مقصود واحد منهما
استيفاء منفعة الآخر
وإنما مقصودهما جميعا ما يتولد من اجتماع المنفعتين فإن حصل نماء اشتركا
فيه وإن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته فيشتركان في المغنم وفي
المغرم كسائر المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التي لهم وهذا جنس من
التصرفات يخالف في حقيقته ومقصوده وحكمه الإجارة المحضة وما فيه من شوب
المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة
فإن التصرفات العدلية في
الأرض جنسان معاوضات ومشاركات فالمعاوضات كالبيع والإجارة والمشاركات شركة
الأملاك وشركة العقد ويدخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال
واشتراك الناس في المباحات كمنافع المساجد والأسواق المباحة والطرقات وما
يحيا من الموات أو يوجد من المباحات واشتراك الورثة في الميراث واشتراك
الموصى لهم والموقوف عليهم في الوصية والوقف واشتراك التجار والصناع شركة
عنان أو أبدان ونحو ذلك وهذان الجنسان هما منشأ الظلم كما قال تعالى عن
داود عليه السلام 38: 24 {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}
و التصرفات الأخرى هي الفضلية كالقرض
والعارية والهبة والوصية وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي
معاوضة أو مشاركة فمعلوم قطعا أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس
المشاركة ليسا من جنس المعاوضة المحضة والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة
لأنه أكل مال الباطل وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر لأنه لم ينبت الزرع فإن
رب الأرض يأخذ منفعة الآخر إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد ولا هي
مقصوده بل ذهبت منفعة بدنه كما ذهبت منفعة أرض هذا ورب الأرض لم يحصل له
شيء حتى يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئا وبخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر
فإن أحد المتعاوضين بأخذ شيئا والآخر يبقى تحت الخطر فيفضي إلى ندم أحدهما
وخصومتهما
وهذا المعنى نتف في هذه المشاركات التي مبناها على
المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم البتة لا في غرر ولا في غير غرر
ومن
تأمل هذا تبين له مأخذه هذه الأصول وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة
وأعرف في العقول وأبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض بل ومن جواز كثير
من البيوع والإجارات المجمع عليها حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد وإنما
وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار من
جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول لما فيها من عمل بعوض وليس كل
من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرا كعمل الشريكين في المال المشترك وعمل
الشريكين في شركة الأبدان وكاشتراك الغانمين في المغانم ونحو ذلك مما لا
يعد ولا يحصى نعم لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله
كان هذا إجارة
الوجه الثاني أن هذه من جنس المضاربة فإنها عين تنمو
بالعمل عليها فجاز العمل عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير والمضاربة
جوزها الفقهاء الفقهاء كلهم اتباعا لما جاء فيها عن الصحابة رضي الله عنهم
مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد كان أحمد
يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة لأنها تبتت بالنص فتجعل أصلا
يقاس عليه وإن خالف فيها من خالف وقياس كل منهما على الآخر صحيح فإن من
ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويها
فإن قيل
الربح في المضاربة ليس من عين الأصل بل الأصل يذهب ويجيء بدله فالمال
المقسم حصل بنفس العمل بخلاف الثمر والزرع فإنه من نفس الأصل
قيل هذا
الفرق فرق في الصورة وليس له تأثير شرعي فإنا نعلم بالاضطرار أن المال
المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل ومنفعة رأس المال ولهذا
يرد
إلى رب المال مثل رأس ماله ويقتسمان الربح كما أن العامل يبقى بنفسه التي
هي نظير الدراهم وليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من إضافته إلى
منفعة مال هذا
ولهذا فالمضاربة التي تروونها عن عمر إنما حصلت بغير عقد
لما أقرض أبو موسى الأشعري لابني عمر من مال بيت المال فتحملاه إلى أبيهما
فطلب عمر جميع الربح لأنه رأى ذلك كالغصب حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من
المسلمين والمال مشترك وأحد الشركاء إذا اتجر في المال المشترك بدون إذن
الآخر فهو كالغاصب في نصيب الشريك وقال له ابنه عبد الله الضمان كان علينا
فيكون الربح لنا فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة
وهذه الأقوال
الثلاثة في مثل هذه المسألة موجودة بين الفقهاء وهي ثلاثة أقوال في مذهب
أحمد وغيره هل يكون ربح من اتجر بمال غيره بغير إذنه لرب المال أو للعامل
أولهما على ثلاثة أقوال وأحسنها وأقيسها أن يكون مشتركا بينهما كما قضى به
عمر لأن النماء متولد عن الأصلين
و إذا كان أصل المضاربة الذي اعتمدوا
قد عليه راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة فأخذ مثل الدراهم يجري مجرى عينها
ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده القرض منيحة يقال منيحة
ورق ويقول الناس أعرني دراهمك يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية
والمقترض انتفع بها وردها وسموا المضاربة قراضا لأنها في المقابلات نظير
القرض في التبرعات
ويقال أيضا لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثرا لكان
اقتضاءه لتجويز المزارعة دون المضاربة أولى من العكس لأن النماء إذ حصل مع
بقاء الأصلين كان أولى بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما وإن قيل الزرع نماء
الأرض دون البدن فقد يقال والربح نماء العامل دون الدراهم أو بالعكس وكل
هذا
باطل بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب والماء
والهواء ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد
ثم لو سلم أن بينها وبين
المضاربة فرقا فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة لأن المؤاجرة
المقصود فيها هو العمل ويشترط أن يكون معلوما والأجرة مضمونة في الذمة أو
عين معينة وهنا ليس المقصود إلا النماء ولا يشترط معرفة العمل والأجرة ليست
عينا ولا شيئا في الذمة وإنما هي بعض ما يحصل من النماء ولهذا متى عين
فيها شيء معين فسد العقد كما تفسد المضاربة إذا شرطا لأحدهما ربحا معينا أو
أجرة معلومة في الذمة وهذا بين في الغاية فإذا كانت بالمضاربة أشبه منها
بالمؤاجرة جدا والفرق الذي بينها وبين المضاربة ضعيف والذي بينهما وبين
المؤاجرة فروق غير مؤثرة في الشرع والعقل وكان لا بد من إلحاقها بأحد
الأصلين وإلحاقها بما هي به أشبه أولى وهذا أجلى من أن يحتاج فيه إلى إطناب
الوجه
الثالث أن نقول لفظ الإجارة فيه عموم وخصوص فإنها على ثلاث مراتب
أحدها
أن يقال لكل من بذل نفعا بعوض فيدخل في ذلك المهر كما في قوله تعالى: 4:
24 {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ} وسواء
كان العمل هنا معلوما أو مجهولا وكان الآخر معلوما أو مجهولا لازما أو غير
لازم
المرتبة الثانية الإجارة التي هي جعالة وهو أن يكون النفع غير
معلوم لكن العوض مضمونا فيكون عقدا جائزا غير لازم مثل أن يقول من رد علي
عبدي فله كذا فقد يرده من كان بعيدا أو قريبا
الثالثة الإجارة الخاصة
وهي أن يستأجر عينا أو يستأجره على عمل في الذمة بحيث تكون المنفعة معلومة
فيكون الأجر معلوما والإجارة لازمة وهذه
الإجارة التي تشبه البيع في
عامة أحكامه والفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الإجارة أو قالوا باب الإجارة
أرادوا هذا بالمعنى
فيقال المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحوهن من
المشاركات على نماء يحصل من قال هي إجارة بالمعنى الأعم أو العام فقد صدق
ومن قال هي إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ وإذا كانت إجارة بالمعنى العام
التي هي الجعالة فهنالك إن كان العوض شيئا مضمونا من عين أو دين فلا بد أن
يكون معلوما وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءا شائعا
فيه كما لو قال الأمير في الغزو من دلنا على حصن كذا فله منه كذا فحصول
الجعل هناك مشروط بحصول المال مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه فالشركة أولى
وأحرى ويسلك في هذا طريقة أخرى فيقال الذي دل عليه قياس الأصول أن الإجارة
الخاصة يشترط فيها أن يكون العوض غررا قياسا على الثمن فأما الإجارة العامة
التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة لما تقدم فلا
يجوز إلحاقها بها فتبقى على الأصل المبيح
فتحرير المسألة أن المعتقد
لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة فإن أراد الخاصة لم يصح وإن أراد
العامة فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم فإن ذكر قياسا بين له الفرق
الذي لا يخفى على غير فقيه فضلا عن الفقيه ولن تجد إلى أمر يشمل مثل هذه
الإجارة سبيلا فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحال
و يسلك في هذا طريقة
أخرى وهو قياس العكس وهو أن يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل لانتفاء العلة
المقتضية لحكم الأصل فيقال المعنى الموجب لكون الأجرة يجب أن تكون معلومة
منتف في باب المزارعة ونحوها لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر فيكون في
معنى بيع الغرر المقتضي أكل
المال بالباطل أو ما يذكر من هذا الجنس
وهذه المعاني منتفية في الفرع فإذا لم يكن التحريم موجب إلا كذا وهو منتف
فلا تحريم
و أما الأحاديث حديث رافع بن خديج وغيره فقد جاءت مفسرة مبينة
لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن نهيا عما فعل هو والصحابة في
عهده وبعده بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه فعن رافع بن خديج قال كنا
أكثر أهل المدينة مزدرعا كنا نكرى الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض قال
مما يصاب ذلك وتسلم الأرض ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا فأما الذهب
والورق فلم يكن يومئذ رواه البخاري وفي رواية له قال كنا أكثر أهل المدينة
حقلا وكان أحدنا يكرى أرضه فيقول هذه القطعة لي وهذه لك فربما أخرجت ذه ولم
تخرج ذه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية فربما أخرجت هذه كذا
ولم تخرج ذه فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق وفي صحيح مسلم عن رافع قال كنا
أكثر أهل الأمصار حقلا قال كنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما
أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا وفي مسلم أيضا
عن حنظلة بن قيس قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال
لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا
ويهلك هذا ويسلم هذا فلم يكن الناس كراء إلا هذا فلذلك زجر الناس عنه فأما
شيء معلوم مضمون فلا بأس به
فهذا رافع بن خديج الذي عليه مدار الحديث
يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء إلا بزرع
مكان معين من الحقل وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة وحرموا
نظيره في المضاربة فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز وهذا الغرر في المشاركات
نظير الغرر في المعاوضات
وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات
هو التعادل من الجانبين فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم
فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله محرما على عباده فإن كان أحد
المتبايعين إذا ملك الثمن وبقي الآخر تحت الخطر لم يجز ولذلك حرم النبي صلى
الله عليه وسلم بيع الثمر قبل بدو صلاحه فكذلك هذا إذا اشترطا لأحد
الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة فإن الشركة تقتضي الاشتراك في
النماء فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب ودخله الخطر ومعنى
القمار كما ذكره رافع في قوله فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فيفوز أحدهما
ويخيب الآخر وهذا معنى القمار وأخبر رافع أنه لم يكن لهم كراء على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من
المخاطرة ومعنى القمار وأن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود لا إلى
ما يكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة وسأشير إن شاء الله إلى مثل ذلك في
نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ورافع أعلم بنهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن أي شيء وقع وهذا والله أعلم هو الذي انتهى عنه عبد الله بن عمر
فإنه قال لما حدثه رافع قد علمت أنا كنا نكرى مزارعنا على الأربعاء وبشيء
من التبن فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين وكان ابن عمر يفعله لأنهم
كانوا يفعلونه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغه النهي
يدل على
ذلك أن ابن عمر كان يروي حديث معاملة خيبر دائما ويفتي به ويفتي بالمزارعة
على الأرض البيضاء وأهل بيته أيضا بعد حديث رافع فروى حرب الكرماني قال
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه حدثنا معتمر بن سليمان سمعت كليب بن وائل
قال أتيت ابن عمر فقلت أتاني رجل له أرض وماء وليس له بذر ولا بقر فأخذتها
بالنصف فبذرت فيها بذري وعملت فيها ببقري فناصفته قال حسن وقال حدثنا ابن
أخي حزم حدثنا
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
يحيى بن سعيد حدثنا سعيد بن عبيد سمعت سالم بن عبد الله وأتاه رجل فقال
الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول أجيء ببذري وبقري وأعمل أرضك فما أخرج
الله منه فلك منه كذا ولي منه كذا قال لا بأس به ونحن نصنعه وهكذا أخبر
أقارب رافع ففي البخاري عن رافع قال حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه
صاحب الأرض فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقيل لرافع فكيف
بالدينار والدرهم فقال ليس بأس بالدينار والدرهم وكان الذي نهى عنه من ذلك
ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزه لما فيه من المخاطرة وعن
أسيد بن ظهير قال كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع
والنصف ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع وكان العيش إذ ذاك شديدا
وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن
خديج فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل ويقول من
استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع رواه أحمد وابن ماجة وروى أبو داود
قول النبي صلى الله عليه وسلم زاد أحمد وينهاكم عن المزابنة والمزابنة أن
يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول أخذته بكذا وكذا
وسقا من تمر والقصارة ما سقط من السنبل وهكذا أخبر سعد بن أبي وقاص وجابر
فأخبر سعد أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا
يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع وما سعد بالماء مما حول البئر
فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يكروا ذلك وقال اكروا بالذهب والفضة رواه أحمد وأبو
داود والنسائي فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة وأن النهي إنما
كان عن اشتراط زرع مكان معين وعن جابر رضي الله عنه قال كنا نخابر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصيب
من القصري ومن كذا فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو
فليدعها رواه مسلم
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رووا
عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها والعلة التي نهى من أجلها وإذا
كان قد جاء في بعض طرق الحديث أنه نهى عن كراء المزارع مطلقا فالتعريف
للكراء المعهود بينهم وإذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لا تكروا
المزارع فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه وهم أعلم
بمقصوده وكما جاء مفسرا عنه أنه رخص في غير ذلك الكراء وكما يشبه ذلك ما
قرن به النهي من المزابنة ونحوها واللفظ وإن كان في نفسه مطلقا فإنه إذا
كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال أو عقب حكاية حال ونحو ذلك فإنه
كثيرا ما يكون مقيدا بمثل حال المخاطب كما لو قال المريض للطبيب إن به
حرارة فقال له لا تأكل الدسم فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال
و ذلك
أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمى معهود أو حال يقتضيه انصرف إليه وإن كان
نكرة كالمتبايعين إذا قال أحدهما بعتك بعشرة دراهم فإنها مطلقة في اللفظ ثم
لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون
بينهم لفظ الكراء إلا كذلك الذي كانوا يفعلونه ثم خوطبوا به لم ينصرف إلا
إلى ما يعرفونه وكان ذلك من باب التخصيص العرفي كلفظ الدابة إذا كان معروفا
بينهم أنه الفرس أو ذوات الحافر فقال لا تأتني بدابة لم ينصرف هذا المطلق
إلا إلى ذلك ونهى النبي صلى الله عليه وسلم لهم كان مقيدا بالعرف وبالسؤال
وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج وعن ظهير بن رافع قال دعاني رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تصنعون بمحاقلكم قلت نؤاجرها بما على
الربيع وعلى الأوسق من التمر
و الشعير قال لا تفعلوا ازرعوها أو
أزرعوها أو أمسكوها"
فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه وأما
المزارعة المحضة فلم يتناولها النهي ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من
الكراء لأنها والله أعلم عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد فإن الكراء اسم
لما وجب فيه أجرة معلومة إما عين وإما دين فإن كان دينا في الذمة مضمونا
فهو جائز وكذلك إن كان عينا من غير الزرع وأما إن كان عينا من الزرع لم يجز
فأما
المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق بل هو شركة محضة
إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا
للعامل بالجزء الآخر وإن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا فإنما هو كراء
بالمعنى العام الذي تقدم بيانه فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره
فلا ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز وبين النوع الآخر الذي
نهوا عنه ولم يتعرض للشركة لأنها جنس آخر
بقي أن يقال فقول النبي صلى
الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها أمر
إذا لم يفعل واحدا من الزرع والمنيحة أن يمسكها وذلك يقتضي المنع من
المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم
فيقال الأمر بهذا أمر ندب واستحباب لا
أمر أيجاب أو كان أمر أيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء
الفاسد وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية
قال في الآنية التي كانوا يطبخون فيها أهريقوا ما فيها واكسروها وقال صلى
الله عليه وسلم في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة الخشني إن
وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وذلك لأن
النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما
يقاربها من المباح كما قيل لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه وبين
الحرام حاجزا من
الحلال كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج
لا بتركها جملة
فهذا يقع تارة وهذا يقع تارة ولهذا يوجد في سنة النبي
صلى الله عليه وسلم لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة له في أشياء
يستغني بها عن المحرم ولمن وثق بإيمانه وصبره النهي عن بعض ما يستحب له
تركه مبالغة في فعل الأفضل ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه وصبره من فعل
المستحبات البدنية والمالية كالخروج عن جميع ماله مثل أبي بكر الصديق ما لا
يستحب لمن لم يكن حاله كذلك كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب فحذفه بها فلو
أصابته لأوجعته ثم قال يذهب أحدكم فيخرج ماله ثم يجلس كلا على الناس
يدل
على ذلك ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة عن ثابت بن الضحاك أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها وما ذكرناه
من رواية سعد بن أبي وقاص أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين وقال كروا
بالذهب والفضة وكذلك فهمته الصحابة فإن رافع ابن خديج قد روى ذلك وأخبر أنه
لا بأس بكرائها بالذهب والفضة وكذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت وابن عباس
ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال قلت لطاووس لو تركت المخابرة فإنهم
يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها قال أي عمرو إني أعطيهم
وأعينهم وإن أعلمهم أخبرني يعني ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
ينه عنه ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما
وعن ابن عباس أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة ولكن
أمر أن يرفق بعضهم ببعض رواه مسلم مجملا والترمذي وقال
حديث حسن صحيح
فقد أخبر طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دعاهم إلى
الأفضل وهو التبرع قال وأنا أعينهم وأعطيهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا والغرر ومنه مستحب كالعارية والقرض
ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الإحسان كان المسلم أحق به
فقال لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما وقال من
كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها فكان الأخ هو الممنوح
ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم
يمنحهم لا سيما والتبرع إنما يكون عن فضل غني فمن كان محتاجا إلى منفعة
أرضه لم يستحب له المنيحة كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر
وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم حيث عاملوا عليها
المهاجرين وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة كما نهاهم النبي صلى الله
عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت ليطعموا الجياع لأن
إطعامهم واجب فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء
عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عينا كما نهاهم
عن الادخار فإن من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله إذ لا يترك بطالا وقد
ينهى النبي صلى الله عليه وسلم بل الأئمة عن بعض أنواع المباح في بعض
الأحوال لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم في بعض المغازي وأما ما رواه
جابر من نهيه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة فهذه هي المخابرة التي نهى
عنها واللام لتعريف العهد ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك
يبين ذلك ما
في الصحيح عن ابن عمر قال كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم
رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فتركناه من أجله"
فأخبر
ابن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبر وقد تقدم معنى حديث رافع قال أبو عبيد
الخير بكسر الخاء بمعنى المخابرة والمخابرة المزارعة بالنصف والثلث والربع
وأقل وأكثر وكان أبو عبيد يقول لهذا سمى الأكار خيبرا لأنه يخابر على
الأرض والمخابرة هي المؤاكرة
وقد قال بعضهم أصل هذا من خيبر لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أقرها في أيديهم على النصف فقيل خابرهم أي عاملهم
في خيبر وليس هذا بشيء فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط بل فعلها الصحابة
في حياته وبعد موته وإنما روى حديث المخابرة رافع بن خديج وجابر وقد فسرا
ما كانوا يفعلونه والخبير هو الفلاح سمى بذلك لأنه يخبر الأرض
وقد ذهب
طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة فقالوا المخابرة هي
المعاملة على أن يكون البذر من العامل والمزارعة على أن يكون البذر من
المالك قالوا والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة لا المزارعة
وهذا
أيضا ضعيف فإنا قد ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما في الصحيح من أنه
نهى عن المزارعة كما نهى عن المخابرة وكما نهى عن كراء الأرض وهذه الألفاظ
في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه وإنما اختصت بما يفعلونه
لأجل التخصيص العرفي لفظا وفعلا ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد وسؤال
السائل وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة والاشتقاق يدل على
ذلك
فصل
والذين جوزوا المزارعة منهم من اشترط أن يكون البذر من
المالك وقالوا هذه في المزارعة فإما إن كان البذر من العامل لم يجز وهذا
إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي حيث
يجوزون المزارعة وحجة هؤلاء قياسها على المضاربة وبذلك احتج أحمد
أيضا
قال الكرماني قيل لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل دفع أرضه إلى
الأكار على الثلث والربع قال لا بأس بذلك إذا كان البذر من رب الأرض والبقر
والحديد والعمل من الأكار يذهب فيه مذهب المضاربة
ووجه ذلك أن البذر هو
أصل الزرع كما أن المال هو أصل الربح فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل
ليكون من أحدهما العمل ومن الآخر الأصل
و الرواية الثانية عنه لا يشترط
ذلك بل يجوز أن يكون البذر من العامل وقد نقل عنه جماهير أصحابه أكثر من
عشرين نفسا أنه يجوز أن يكرى أرضه بالثلث والربع كما عامل النبي صلى الله
عليه وسلم أهل خيبر
فقالت طائفة من أصحابه كالقاضي أبي يعلى إذا دفع
أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك فإن كان على وجه الإجارة
جاز وإن كان على وجه المزارعة لم يجز وجعلوا هذا التفريق تقريرا لنصوصه
لأنهم رأوا في عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من
الخارج منها ورأوا أن هذا هو ظاهر مذهبه عندهم من أنه لا يجوز في المزارعة
أن يكون البذر من المالك كالمضاربة ففرقوا بين باب المزارعة والمضاربة وباب
الإجارة
وقال آخرون منهم أبو الخطاب معنى قوله في رواية الجماعة يجوز
كراء الأرض ببعض الخارج منها أراد به المزارعة والعمل من الأكار قال أبو
الخطاب ومتبعوه فعلى هذه الرواية إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض
ببعض الخارج منها وإن كان من صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل بما شرط له قال
فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره وما يأخذه من الأجرة يأخذه
بالشرط
وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاري ببعض الخارج هو المزارعة
على أن يبذر الأكار هو الصحيح ولا يحتمل الفقه إلا هذا وأن يكون نصه على
جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولى وجواز هذه
المعاملة
مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرا ونظرا وهو ظاهر نصوص أحمد
المتواترة عنه واختيار طائفة من أصحابه
و القول الأول قول من اشترط أن
يبذر رب الأرض وقول من فرق بين أن يكون إجارة أو مزارعة هو في الضعف نظير
من سوى بين الإجارة الخاصة والمزارعة أو أضعف
أما بيان نص أحمد فهو أنه
إنما جوز المؤاجرة ببعض الزرع استدلالا بقصة معاملة النبي صلى الله عليه
وسلم لأهل خيبر ومعاملته لهم إنما كانت مزارعة لم تكن بلفظ الإجارة فمن
الممتنع أن أحمد لا يجوز ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ
الإجارة ويمنع فعله باللفظ المشهور
و أيضا فقد ثبت في الصحيح أن النبي
صلى الله عليه وسلم شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم كما تقدم ولم
يدفع إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذرا فإذا كانت المعاملة التي فعلها
النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم فكيف يحتج بها
أحمد على المزارعة ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة ثم يمنع الأصل
الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل والنبي صلى الله عليه وسلم
قد قال لليهود نقركم فيها ما أقركم الله لم يشترط مدة معلومة حتى يقال كانت
إجارة لازمة لكن أحمد حيث قال في إحدى الروايتين إنه يشترط كون البذر من
المالك فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياسا على المضاربة وإذا أفتى العالم
بقول لحجة ولهما معارض راجح لم يستحضر حينئذ ذلك المعارض الراجح ثم لما
أفتى بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالا بمزارعة خيبر فلا بد أن يكون في
خيبر كان البذر عنده من العامل وإلا لم يصح الاستدلال فإن فرضنا أن أحمد
فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج وبين المزارعة ببذر العامل كما فرق بينهما
طائفة من أصحابه فمستند هذا الفرق ليس مأخذا شرعيا فإن أحمد لا يرى اختلاف
أحكام العقود باختلاف العبارات
كما يراه طائفة من أصحابه الذين
يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة ويمنعونها بلفظ المزارعة وكذلك يجوزون
بيع ما في الذمة بيعا حالا بلفظ البيع ويمنعونه بلفظ السلم لأنه يصير سلما
حالا ونصوص أحمد وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه في مسألة صيغ العقود فإن
الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا بما يحمل على الألفاظ كما
شهد به أجوبته في الأيمان والنذور والوصايا وغير ذلك من التصرفات وإن كان
هو قد فرق بينهما كما فرق طائفة من أصحابه فيكون هذا التفريق رواية عنه
مرجوحة كالرواية المانعة من الأمرين
و أما الدليل على جواز ذلك فالسنة
والإجماع والقياس
أما السنة فما تقدم من معاملة النبي صلى الله عليه
وسلم لأهل خيبر على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع إليهم بذرا ولما عامل
المهاجرون والأنصار على أن البذر من عندهم قال حرب الكرماني حدثنا محمد بن
نصر حدثنا حسان بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن
حكيم أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران وأهل فدك وأهل خيبر واستعمل يعلى بن
منية فأعطى العنب والنخل على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث وأعطى البياض يعني
بياض الأرض على إن كان البذر والبقر والحديد من عند عمر فلعمر الثلثان
ولهم الثلث وإن كان منهم فلعمر الشطر ولهم الشطر فهذا عمر رضي الله عنه
ويعلى بن منية عامله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عمل في خلافته
بتجويز كلا الأمرين أن يكون البذر من رب الأرض وأن يكون من العامل وقال حرب
حدثنا أبو معن حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن الحارث بن حصيرة الأزدي عن صخر
بن الوليد عن عمرو بن صليع بن محارب قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال
إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها وفعل فدعاه فقال ما هذه الأرض التي أخذت فقال
أرض أخذتها أكرى أنهارها
و أعمرها وأزرعها فما أخرج الله من شيء فلي
النصف وله النصف فقال لا بأس بهذا فظاهره أن البذر من عنده ولم ينهه علي عن
ذلك ويكفي إطلاق سؤاله وإطلاق علي الجواب
و أما القياس فقد قدمنا أن
هذه المعاملة نوع من الشركة ليست من الإجارة الخاصة وإن جعلت إجارة فهي من
الإجارة العامة التي تدخل فيها الجعالة والسبق والرمي وعلى التقديرين فيجوز
أن يكون البذر منهما وذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي ترجع
إلى ربها كالثمن في المضاربة بل البذر يتلف كما تتلف المنافع وإنما ترجع
الأرض أو بدن البقرة والعامل فلو كان البذر مثل رأس المال لكان الواجب أن
يرجع مثله إلى مخرجه ثم يقتسمان الفضل وليس الأمر كذلك بل يشتركان في جميع
الزرع فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائها وبدن
العامل والبقر واكتراء الحرث والبقر يذهب كما تذهب المنافع وكما تذهب أجزاء
من الماء والهواء والتراب فيستحيل زرعا والله سبحانه يخلق الزرع من نفس
الحب التراب والماء والهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين بل ما يستحيل
في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب والحب يستحيل فلا يبقى بل
يفلقه الله ويحيله كما يحيل أجزاء الماء والهواء وكما يحيل المني وسائر
مخلوقاته من الحيوان والمعدن والنبات وقع ما وقع من رأي كثير من الفقهاء
اعتقدوا أن الحب والنوى في الزرع والشجر هو الأصل والباقي تبع حتى قضوا في
مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوى والحب مع قلة قيمته ولرب الأرض أجرة
أرضه
و النبي صلى الله عليه وسلم إنما قضى بضد هذا حيث قال من زرع في
أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته فأخذ أحمد وغيره من
فقهاء
الحديث بهذا الحديث وبعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس وأنه من صور
الاستحسان وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم وهو أن الزرع تبع
للبذر والشجر تبع للنوى وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه
الفطرة فإن إلقاء الحب في الأرض بمنزلة إلقاء المني في الرحم سواء ولهذا
تبع الولد الآدمي أمه في الحرية والرق دون أبيه ويكون الجنين البهيم لمالك
الأم دون مالك الفحل الذي نما عن عسبه وذلك لأن الأجزاء التي استمدها من
الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب وإنما للأب حق الابتداء فقط ولا
ريب أنه مخلوق منهما جميعا وكذلك الحب والنوى فإن الأجزاء التي خلق منها
الشجر والزرع أكثرها من التراب والماء والهواء وقد يؤثر ذلك في الأرض
فيتضعف بالزرع فيها لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما فإن الله سبحانه
لا يزال يمد الأرض بالماء والهواء وبالتراب إما مستحيلا من غيره وإما
بالموجود ولا يؤثر في الأرض نقص الأجزاء الترابية شيئا إما للخلف
بالاستحالة وأما للكثرة لهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معنى المنافع
بخلاف الحب والنوى الملقى فيها فإنه عين ذاهبة غير مستخلفة ولا يعوض عنها
لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط فإن العامل هو وبقره لا
بد له مدة العمل من قوت وعلف يذهب أيضا ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك
ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض ولو جرى
عندهم مجرى الأصول لرجع
فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة
أشياء أصول باقية وهي الأرض بدن العامل والبقر والحديد ومنافع فانية وأجزاء
فانية أيضا وهي البذر وبعض أجزاء الأرض وبعض أجزاء العامل وبقره فهذه
الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء فتكون الخيرة إليهما فيمن يبذل هذه
الأجزاء ويشتركان على أي وجه شاءا ما لم يفض إلى ما نهى عن النبي صلى الله
عليه وسلم من
أنواع الغرر أو الربا وأكل المال بالباطل ولهذا جوز
أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة مثل أن يدفع دابته
أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما
فصل
وهذا
الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع 8اليسر في
هذه الأبواب فإنك تجد كثيرا ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه
من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهى فرضى
الله عن أحمد حيث يقول ينبغى للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين
المجمل والقياس وقال أيضا أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس ثم
هذا التمسك يفضى إلى مالا يمكن اتباعه ألبتة
ومن هذا الباب بيع الديون
دين السلم وغيره وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك ولولا أن الغرض ذكر
قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا
القاعدة الثالثة: في
العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد ومسائل هذه
القاعدة كثيرة جدا
فصلالقاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها
فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا
والذى
يمكن ضبطه فيها قولان أحدهما أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو
ذلك الحظر إلا ماورد الشرع باجازته فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي
حنيفة تنبنى على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك
وأحمد فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس
كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه وكذلك طائفة من أصحابه
قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ويقولون ما خالف مقتضى
العقد فهو باطل أما أهل الظاهر فلم يصححوا
يمكن ضبطه فيها قولان أحدهما أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو
ذلك الحظر إلا ماورد الشرع باجازته فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي
حنيفة تنبنى على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك
وأحمد فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس
كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه وكذلك طائفة من أصحابه
قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ويقولون ما خالف مقتضى
العقد فهو باطل أما أهل الظاهر فلم يصححوا
لا عقد ولا شرطا إلا ما ثبت
جوازه بنص أو إجماع وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذى قبله
وطردوا ذلك طردا جاريا لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم
وأما
أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق
وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ولهذا أبطل
أن يشترط في البيع خيار ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال ولهذا منع
بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته
وإنما جوز الإجارة المؤخرة لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود
المنفعة أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به أو أن يشترط المشترى بقاء
الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره ولم يصحح في النكاح شرطا
أصلا لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو
نحوهما ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة
الأيام للأثر وهو عنده موضع استحسان
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف
مقتضى العقد فهو باطل لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار
أكثر من ثلاث ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم
المبيع حتى منع الإجارة المؤخرة لأن موجبها وهو القبض لا يلي العقد ولا
يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق لما فيه من السنة
والمعنى لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع كبيع العين المؤجرة على الصحيح
في مذهبه وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك ويجوز في
النكاح بعض الشروط دون بعض ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها ولا أن يتزوج
عليها ولا يتسرى ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها وكذلك سائر الصفات المقصودة
على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار
وانفساخه بالشروط التي
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تنافيه كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار بخلاف فساد المهر ونحوه
و
طائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون
أكثر مما يستثنيه الشافعي كالخيار أكثر من ثلاث وكاستثناء البائع منفعة
المبيع واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها ونحو ذلك
من المصالح فيقولون كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل إلا إذا كان فيه
مصلحة المتعاقدين
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود
أكثر مما جوزه الشافعي فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما
استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثني
للمعارض
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ويتوسعون في الشروط
أكثر منهم لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة ولما يفهمونه من معاني
النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر وعمدة هؤلاء قصة بريرة المشهورة وهو
ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءتني بريرة فقالت
كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت إن أحب أهلك أن
أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا
عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت إني قد
عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله
عليه وسلم فقال خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت
عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط
ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق
وإنما الولاء لمن أعتق وفي رواية للبخاري اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما
شاءوا فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها
فقال النبي صلى الله
عليه وسلم الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط وفي لفظ شرط الله أحق
وأوثق وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن
تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها نبيعكها على أن ولائها لنا فذكرت ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق وفي
مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها
فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: "لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق"
ولهم من هذا الحديث
حجتان
إحداهما قوله: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" فكل شرط
ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتاب الله بخلاف ما
كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع
السنة والإجماع
ومن قال بالقياس وهم الجمهور قالوا إذا دل على صحته
القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله فهو في
كتاب الله
و الحجة الثانية أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب
العقد على اشتراط الولاء لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد وذلك لأن
العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع
بمنزلة تغيير العبادات وهذا نكتة القاعدة وهي أن العقود مشروعة على وجه
فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع ولهذا كان أبو حنيفة ومالك
والشافعي في أحد القولين لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف
مقتضاها فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر متابعة لعبد الله بن
عمر حيث كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول أليس حسبكم سنة نبيكم وقد استدلوا
على
هذا الأصل بقوله تعالى: 5: 3 {لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
وقوله 2: 229 {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ}
قالوا فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله
وزيادة في الدين
و ما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها
بالعموم أو بالخصوص قالوا ذلك منسوخ كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى
الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية أو قالوا هذا عام أو مطلق فيخص
بالشرط الذي في كتاب الله
و احتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي
حنيفة وابن أبي ليلى وشريك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط
وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث وقد
أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف وأن الأحاديث الصحيحة
تعارضه وأجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه عن غيرهم أن اشتراط صفة
في المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا أو اشتراط طول الثوب أو
قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح
القول الثاني أن الأصل في العقود والشروط
الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا
أو قياسا عند من يقول به وأصول أحمد المنصوص عنه أكثرها يجري على هذا
القول ومالك قريب منه لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط فليس في الفقهاء الأربعة
أكثر تصحيحا للشروط منه
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها
يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة
ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أولم يرد به نص وكان قد بلغه
في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا
تجده عند
غيره من الأئمة فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه وما
اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته وكذلك قد يضعف
ما اعتمدوه من قياس وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي
سنذكرها في تصحيح الشروط كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا فمالك يجوزه
بقدر الحاجة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا
ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة
الخارج من ملكه في جميع العقود واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق
فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والنقص منه بالشرط
ما لم يتضمن مخالفة الشرع كما سأذكره إن شاء الله
فيجوز للبائع أن
يستثني بعض منفعة المبيع كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك إذا كانت تلك
المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير اتباعا لحديث جابر لما باع النبي
صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى المدينة
و يجوز أيضا للمعتق
أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث
سفينة لما أعتقته أم مسلمة واشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما
عاش
و يجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها كما في
حديث صفية وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة كأنه أعتقها
واستثنى منفعة البضع لكنه استثناها بالنكاح إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز
بخلاف منفعة الخدمة
ويجوز أيضا للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته
وغلته جميعها لنفسه مدة حياته كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك وروي فيه
حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه فيه
عنه روايتان
و يجوز أيضا على قياس قوله استثناء بعض المنفعة في العين
الموهوبة والصداق وفدية الخلع والصلح عن القصاص ونحو ذلك من أنواع إخراج
الملك سواء كان بإسقاط كالعتق أو بتمليك بعوض كالبيع أو بغير عوض كالهبة
و
يجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح لما في
الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحق الشروط أن توفوا به
ما استحللتم به الفروج" ومن قال بهذا الحديث قال إنه يقتضي أن الشروط في
النكاح أوكد منها في البيع والإجارة وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في
البيع دون النكاح فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق
فتشترط أن لا تسافر معه ولا تنتقل من دارها وتزيد على ما يملكه بالإطلاق
فتشترط أن تكون مخلية به فلا يتزوج عليها ولا يتسرى
و يجوز على الرواية
المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه أن يشترط كل واحد من الزوجين في
الآخر صفة مقصودة كاليسار والجمال ونحو ذلك ويملك الفسخ بفواته وهو من أشد
الناس قولا بفسخ النكاح وانفساخه فيجوز فسخه بالعيب كما لو تزوج عليها وقد
شرطت عليه أن لا يتزوج عليها وبالتدليس كما لو ظنها حرة فطهرت أمة وبالخلف
بالصفة على الصحيح كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر وينفسخ
عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت واشتراط الطلاق وهل يبطل
بفساد المهر كالخمر والميتة ونحو ذلك فيه عنه روايتان إحداهما نعم كنكاح
الشغار وهو رواية عن مالك والثانية لا ينفسخ لأنه تابع وهو عقد مفرز كقول
أبي حنيفة والشافعي
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلا أو
تركا في المبيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه وإن كان أكثر متأخري
أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق وقد يروى ذلك عنه لكن الأول أكثر في
كلامه ففي
جامع الخلال عن أبي طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية
فشرط أن يتسرى بها تكون جارية نفيسه يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون
للخدمة قال لا بأس به وقال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل
جارية فقال له إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني قال
لا بأس به ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط لأن ابن مسعود قال لرجل
لا تقربنها ولأحد فيها شرط وقال حنبل حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن
محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة أن ابن مسعود
اشترى جارية من امرأته وشرط لها إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به
فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب فقال لا تنكحها وفيها شرط وقال حنبل
قال عمي كل شرط في فرج فهو على هذا والشرط الواحد في البيع جائز إلا أن عمر
كره لابن مسعود أن يطأها لأنه شرط لامرأته الذي شرط فكره عمر أن يطأها
وفيها شرط وقال الكرماني سألت أحمد عن رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا
يبيعها ولا يهبها فكأنه رخص فيه ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها
بالثمن فلا يقربها يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب حين قال لعبد الله بن
مسعود
فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا
ردها إلى البائع بالثمن الأول كالمقابلة وأكثر المتأخرين من أصحابه على
القول المبطل لهذا ردها إلى الشرط وربما تأولوا قوله جائز إي العقد جائز
وبقية نصوصه تصرح بأن مراده الشرط أيضا واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر
وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة وكذلك اشتراط المبيع
فلا يبيعه ولا يهبه أو يتسراها ونحو ذلك مما فيه تعيين لمصرف واحد كما روى
عمر بن شبه في أخبار عثمان أنه اشترى من صهيب دارا وشرط أن يقفها على صهيب
وذريته من بعده"
وجماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة فكما
جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه جوز
أيضا استثناء بعض التصرفات
وعلى هذا فمن قال هذا الشرط ينافي مقتضى
العقد قيل له أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا فإن أراد
الأول فكل شرط كذلك وإن أراد الثاني لم يسلم له وإنما المحذور أن ينافي
مقصود العقد كاشتراط الطلاق في النكاح أو اشتراط الفسخ في العقد فأما إذا
شرط ما يقصد بالعقد لم ينافي مقصوده هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب
والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي
أما الكتاب
فقال الله تعالى 5: 1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} والعقود هي العهود وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} وقال
تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وقال
تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ
الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} فقد أمر سبحانه بالوفاء
بالعقود وهذا عام وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد وقد دخل في ذلك ما
عقده المرء على نفسه بدليل قوله {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ
قَبْلُ} فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن
الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع وإنما أمر
بالوفاء به ولهذا قرنه بالصدق في قوله {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} لأن العدل في القول
خبر يتعلق بالماضي والحاضر والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق
بالمستقبل كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا
مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا
يَكَذِبُونَ} وقال
سبحانه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحَامَ} قال المفسرون كالضحاك وغيره تساءلون به تتعاهدون
وتتعاقدون وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من
فعل أو ترك أو مال أو نفع ونحو ذلك وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة
أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التي
يدخل فيها الصهر وولاية مال اليتيم ونحو ذلك وقال سبحانه {وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ} والأيمان جمع يمين وكل عقد فإنه يمين قيل سمى بذلك لأنهم كانوا
يعقدونه بالمصافحة باليمين يدل على ذلك قوله {إِلَّا الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ
يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا
لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ
وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً}
والإل هو القرابة والذمة العهد وهما المذكوران في قوله {تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحَامَ} إلى قوله {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا
ذِمَّةً} فذمهم الله على قطيعة الرحم ونقض الذمة إلى قوله {وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} وهذه نزلت في كفار مكة لما صالحهم
النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على
خزاعة وأما قوله سبحانه { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فتلك عهود جائزة لا لازمة
فإنها
كانت مطلقة وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها كالوكالة ونحوها ومن قال من
الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إن الهدنة لا تصلح إلا مؤقتة فقوله مع أنه مخالف
لأصول أحمد يرده القرآن وترده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر
المعاهدين فإنه لم يوقت معهم وقتا فأما من كان من عهده موقتا فلم يبح له
نقضه بدليل قوله {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ
لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقال {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقال {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ
قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} فإنما أباح النبذ
عند ظهور أمارات الخيانة لأن المحذور من جهتهم وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} الآية وجاء أيضا في
صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري إن في القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت
كبراءة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا
تَفْعَلُونَ} فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة وقال تعالى:
{الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} في سورتي
المؤمنون والمعارج وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله {إِنَّ
الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا
مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} هذا
يقتضي وجوب ذلك لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك ولهذا لم
يذكر فيها إلا ما هو واجب وكذلك في سورة المؤمنين قال في أولها {أُولَئِكَ
هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ} فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين لأن ظاهر
الآية
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الحصر فإن إدخال الفصل بين المبتدأ والخبر يشعر الحصر ومن لم يكن من
وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة إلا أن يعفو الله عنه وإذا كانت رعاية العهد
واجبة فرعايته هي الوفاء به ولما جمع الله بين العهد والأمانة جعل النبي
صلى الله عليه وسلم ضد ذلك صفة المنافق في قوله إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف
وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وعنه كان على خلق من نفاق فطبع المؤمن ليس
الخيانة ولا الكذب وما زالوا يوصون بصدق الحديث وأداء الأمانة وهذا عام
وقال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر
الله بصلته لأن الواجب إما بالشرع وإما بالشرط الذي عقده المرء باختياره
وقال أيضا {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ
الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ
صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ
السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ
بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وقال
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقال {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ
قَائِماً ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقال {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال تعالى:
{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ}
و الأحاديث في هذا كثيرة مثل ما في الصحيحين عن عبد الله
بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا
ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب
وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" وفي الصحيحين عن عبد الله بن
عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينصب لكل غادر لواء يوم
القيامة" وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل
غادر لواء عند استه يوم القيامة وفي رواية وفي رواية: "لكل غادر لواء يوم
القيامة يعرف به بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة" وفي صحيح
مسلم عن بريدة بن الحصيب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر
أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله وفيمن معه من المسلمين
خيرا ثم قال اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا
تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين
فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم الحديث
فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول
وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي
سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم هل يغدر فقال
لا يغدر ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال ولم يمكني كلمة أدخل
فيها شيئا إلا هذه الكلمة
و قال هرقل في جوابه سألتك هل يغدر فذكرت
أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين
وفي
الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحق
الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج فدل على استحقاق الشروط بالوفاء
وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها
و روى البخاري عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم
يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ورجل استأجر
أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره فذم الغادر وكل من شرط شرطا ثم نقصه فقد
غدر
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق
والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة
والتشديد على من يفعل ذلك
و لما كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما
أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا كما أن قتل
النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن
يؤمر بقتل النفس ويحمل على القدر المباح بخلاف ما كان جنسه واجبا كالصلاة
والزكاة فإنه يؤمر به مطلقا وإن كان لذلك شروط وموانع فينهى عن الصلاة بغير
طهارة وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك وكذلك الصدق في الحديث مأمور به
وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويحج السكوت أو التعريض
و إذا كان
جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط إذ لا
معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده ومقصود العقد هو الوفاء
به فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة
والإباحة
و قد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال حدثنا
كثير ابن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا
والمسلمون على شروطهم وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية هو ثقة وضعفه
في رواية أخرى
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن
عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما" قال الترمذي
حديث حسن صحيح وروى ابن ماجة منه الفصل الأول لكن كثيرا ابن عمرو ضعفه
الجماعة وضرب أحمد على حديثه في المسند فلم يحدث به فلعل تصحيح الترمذي له
لروايته من وجوه وقد روي أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن
السلماني عن أبيه عن أبن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس
على شروطهم ما وافق الحق وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفا
فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب
والسنة وهو حقيقة المذهب فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم
ما أباحه الله فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله وكذلك ليس له أن يسقط
ما أوجبه الله وإنما المشترط له أن يكون يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه
فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجبا ولا حراما وعدم الإيجاب ليس نفيا
للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب
ما لم يكن واجبا فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم
يكن واجبا ويباح أيضل لكل منهما ما لم يكن مباحا ويحرم على كل منهما ما لم
يكن حراما وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين وكذلك إذا اشترط صفة في
المبيع أو رهنا أو اشترطت
المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم
ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن
الأصل فساد الشروط قال لأنها إما تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا
أو تسقط واجبا وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى
توهم أن هذا الحديث متناقض وليس كذلك بل كل ما كان حراما بدون الشرط
فالشرط لا يبيحه كالربا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق
فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين فلو أراد رجل أن يعير أمته
لآخر للوطء لم يجز له ذلك بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز وكذلك الولاء فقد
نهى النبي صلى لله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته وجعل الله الولاء
كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد وقال صلى الله عليه وسلم: "من
ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس
أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" وأبطل الله ما كانوا عليه في
الجاهلية من تبنى الرجل ابن غيره وانتساب المعتق إلى غير مولاه فهذا أمر لا
يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما وأما ما كان مباحا
بدون اشرط فالشرط يوجبه كالزيادة في المهر والثمن والرهن وتأخير الاستيفاء
فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ونحو ذلك فإذا
شرطه صار واجبا وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه لأن
المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا
فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره
وأما ما أباحه الله في حال
مخصوصة ولم يبحه مطلقا فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم
ما أحله الله وكذلك ما حرمه الله في حال
مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم
يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة
والتحريم لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب وبين ثبوته بمجرد
الاستصحاب
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب لكن لا يرفع ما أوجبه كلام
الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال عمر رضى الله عنه مقطع الحقوق عند
الشروط
وأما الاعتبار فمن وجوه أحدها أن العقود والشروط من باب الأفعال
العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك
على التحريم كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم وقوله {وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} عام في الأعيان والأفعال وإذا لم يكن حراما
لم تكن فاسدة وكانت صحيحة
وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس
العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة
وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي
وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا
كالأعيان التي لم تحرم وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم
التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء
الحكم لانتفاء دليله فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء
سمى ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم فإن ما
ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع منه سببه تحريم
الأعيان ومنه ما سببه تحريم الأفعال كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه
والطواف فيها إذا لم يكن احمسيا ويأمرونه بالتعري إلا أن يعيره احمسى ثوبه
ويحرمون عليه الدخول تحت سقف كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته
في فرجها إذا كانت
مجنبة ويحرمون الطواف بالصفا والمروة وكانوا مع
ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع فأمرهم الله سبحانه في سورة
النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم
فعلم أن العهود يجب
الوفاء بها إذا لم تكن محرمة وإن لم يثبت حلها بشرع خاص كالعهود التي
عقدوها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم
وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله لأن الله
ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه
الله فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية
بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله بخلاف العقود التي تتضمن شرع
دين لم يأذن به الله فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين مما لم يأذن به فلا
يشرع عبادة إلا بشرع الله ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله والعقود في
المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر وإن كان فيها قربة من وجه
آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة
فإن قيل
العقود تغير ما كان مشروعا لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال
فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال فقد غير ما كان مشروعا بخلاف الأعيان التي لم
تحرم فإنه لا يعتبر في إباحتها
فيقال لا فرق بينهما وذلك أن الأعيان
إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع إلى غيره
لا يغيرها وهو من باب العقود وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه هو
فعل من الأفعال مغير لحكمها بمنزلة العقود
وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة
فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال فكما أن أفعالنا في
الأعيان من الأخذ والزكاة الأصل فيه الحل وإن غير
حكم العين فكذلك
أفعالنا في الملاك في العقود ونحوها الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك
وسبب
ذلك أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت
بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا
لم يثبته ابتداء كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة فإذا
كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا
رفعه فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره لإثباته سبب ذلك وهو
الملك الثابت بالبيع وما لم يحرم الشارع عليه ورفع ذلك فله أن يرفع ما
أثبته على أى وجه احب ما لم يحرمه الشارع عليه كمن أعطى رجلا مالا فالأصل
أن لايحرم عليه التصرف فيه وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطى ما لم
يمنع مانع وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها وهو أن الأحكام الجزئية
من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا وإنما
شرعها شرعا كليا مثل قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}
وقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله {فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وهذا الحكم الكلي ثابت سواء وجد هذا البيع
المعين أو لم يوجد فإذا وجد بيع معين أثبت ملكها معينا فهذا المعين سببه
فعل العبد فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله
من الحكم الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط لأن الشارع أثبته ابتداء
وإنما
توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام وليس كذلك
فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته وهو الشارع وأما هذا المعين
فإنما ثبت لأن العبد ادخله في المطلق فإدخاله في المطلق إليه فكذلك إخراجه
إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا مثل أن يقول هذا الثوب بعه أو
لا تبعه أو هبه أو لا تهبه وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين
على حكم المعين
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى