لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى Empty كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى {الأربعاء 8 يونيو - 15:22}

القدر المشروع في الصلاة

[ القدر المشروع في الصلاة ]
فصل
و
أما القدر المشروع للإمام فهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في
صحيح البخاري عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال إذا حضرت الصلاة
فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ثم صلوا كما رأيتموني أصلي
وأما القيام
ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في
الفجر بق والقرآن المجيد ونحوها وكانت صلاته بعد إلى تخفيف أي يجعل صلاته
بعد الفجر خفيفة كما في صحيح مسلم أيضا عنه قال كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول
من ذلك وفي الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى لحين تدحض الشمس ويصلي العصر ثم
يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية قال الراوي ونسيت ما قال
في المغرب وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم
قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان
يقرأ فيها بالستين إلى المئة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال حزرنا
قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في
الركعتين الأولتين من الظهر قدر ثلاثين أية قدر آلم السجدة وحزرنا قيامه في
الأولتين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر وحزرنا قيامه في الآخرتين من
العصر على النصف من ذلك رواه مسلم وأبو داود والنسائي وفي الصحيحين
وغيرهما عن جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد بن أبي وقاص لقد شكاك الناس في
كل شيء حتى في الصلاة قال أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف الأخريين ولا آلو

ما
اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك الظن بك يا أبا
إسحاق وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال لقد كانت صلاة
الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول
الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها وفي صحيح مسلم أيضا
عن أبي وائل قال خطبنا عمار بن ياسر يوما فأوجز وأبلغ فقلنا يا أبا اليقظان
لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة في فقهه فأطيلوا الصلاة
وأقصروا الخطبة إن من البيان لسحرا
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي
الله عنه قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات فكانت صلاته
قصدا أي وسطا
وفعله الذي سنه لأمته هو من التخفيف الذي أمر به الأئمة إذ
التخفيف من الأمور الإضافية فالمرجع في مقداره إلى السنة وذلك كما خرجاه
في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله
عليه وسلم ثم يرجع فيؤمنا وقال مرة ثم يرجع فيصلي بقومه فأخبر النبي صلى
الله عليه وسلم وقال مرة العشاء فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم
جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل نافقت فقال ما
نافقت فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن معاذا يصلي معك ثم يرجع
فيؤمنا يا رسول الله إنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا وإنه جاء يؤمنا
فقرأ سورة البقرة فقال أفتان أنت يا معاذ اقرأ بكذا اقرأ بكذا قال أبو
الزبير {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}
وفي رواية للبخاري عن جابر رضي الله عنه قال أقبل رجل بناضحين وقد جنح
الليل فوافق معاذا يصلي وذكره نحوه فقال في آخره فلولا صليت بسبح باسم ربك
الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو
الحاجة

وفي الصحيحين عن أبي مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما
يطيل بنا فما رأيت رسول الله غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ قال أيها
الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن وراءه الكبير والضعيف وذا
الحاجة وفي رواية فإن فيهم الضعيف والكبير وفي رواية فليخفف فإن فيهم
المريض والضعيف وذا الحاجة
وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتادة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها
فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه
وأما مقدار بقية الأركان
مع القيام فقد أخرجا في الصحيحين عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر عن أنس
بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من
النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية عن شريك عنه وإن كان ليسمع بكاء الصبي
فيخفف مخافة أن تفتتن أمه
وأخرجا فيهما من حديث عبد العزيز بن صهيب عن
أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة
ويكملها وفي لفظ يوجز الصلاة ويتم
وأخرجا أيضا عن أبي قتادة عن أنس رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد
أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز من صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من
بكائه رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة
الخفيفة أو بالسورة القصيرة
وروى مسلم أيضا عن أنس رضي الله عنه قال ما
صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت
صلاته متقاربة

وصلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد
في صلاة الصبح وعن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان من أخف الناس صلاة في تمام
فقول أنس رضي الله عنه ما صليت وراء
إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول الله يريد أنه صلى الله عليه وسلم كان
أخف الأئمة صلاة وأتم الأئمة صلاة وهذا لاعتدال صلاته وتناسبها كما في
اللفظ الآخر وكانت صلاته معتدلة وفي اللفظ الآخر كانت صلاته متقاربة لتخفيف
قيامها وقعودها وتكون أتم صلاة لإطالة ركوعها وسجودها ولو أراد أن يكون
نفس الفعل الواحد كالقيام هو أخف وهو أتم لناقض ذلك ولهذا بين التخفيف الذي
كان يفعله إذا بكى الصبي وهو قراءة سورة قصيرة وبين أن عمر بن الخطاب مد
في صلاة الصبح وإنما مد في القراءة فإن عمر رضي الله عنه كان يقرأ في الفجر
بسورة يونس وسورة هود وسورة يوسف
والذي يبين ذلك ما رواه أبو داود في
سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول
الله صلى الله عليه وسلم في تمام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
قال سمع الله لمن حمد قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر ويسجد وكان يقعد بين
السجدتين حتى نقول قد أوهم كما أخرجا في الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت
عن أنس قال إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه
من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وللبخاري من حديث شعبة عن
ثابت قال قال أنس رضي الله عنه ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع حتى يقول القائل قد نسي
فهذه أحاديث
أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي

كان يوجزها
ويكملها والتي كانت أخف الصلاة وأتمها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم
فيها من الركوع حتى يقول القائل إنه قد نسي ويقعد بين السجدتين حتى يقول
القائل قد نسي وإذا كان في هذا يفعل ذلك فمن المعلوم اتفاق المسلمين والسنة
المتواترة أن الركوع والسجود لا ينقصان عن هذين الاعتدالين بل كثير من
العلماء يقول لا يشرع ولا يجوز أن يجعل هذين الاعتدالين بقدر الركوع
والسجود بل ينقصان عن الركوع والسجود وفي الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم
قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن ابن الأشعث وسماه غندر في رواية مطر بن
ناجية فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه
من الركوع قام وقدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض
وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما
منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي
ليلى قال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قيامه وركوعه وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين قريبا من
السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن ابن أبي ليلى
فلم تكن صلاته هكذا ولفظ مطر عن شعبة كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم
وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا
من السواء وهو في الصحيح والسنن من حديث هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى
عن البراء بن عازب قال رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت
قيامه فركوعه فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته ما بين
التسليم والانصراف قريبا من السواء
ويشهد لهذا ما رواه مسلم وأبو داود
والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع

سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك
الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد
أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا
ينفع ذا الجد منك الجد
و قوله أحق ما قال العبد هكذا هو في الحديث وهو
خبر مبتدأ محذوف وأما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء والصوفية من قوله حق
ما قال العبد فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والسنة ليس له أصل
في الأثر ومعناه أيضا فاسد فإن العبد يقول الحق والباطل وأما الرب سبحانه
وتعالى فهو يقول الحق ويهدي السبيل كما قال تعالى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ
أَقُولُ}
وأيضا فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على الله عز وجل
وروى
مسلم وغيره عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء
الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما
قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا
الجد منك الجد
وروى مسلم وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمد
اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد
وفي
رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا أنه كان يقول اللهم طهرني من الذنوب
والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
فإن قيل فإذا كانت هذه صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اتفق الصحابة رضي الله عنهم على نقلها
عنه وقد نقلها أهل الصحاح والسنن والمسانيد من هذه الوجوه وغيرها والصلاة
عمود الدين فكيف خفي ذلك على طائفة من

فقهاء العراق وغيره حتى لم
يجعلوا الاعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من الأفعال المقارنة
للركوع والسجود ولا استحبوا في ذلك ذكرا أكثر من التحميد يقول ربنا لك
الحمد حتى إن بعض المتفقهة قال إذا طال ذلك طولا كثيرا بطلت صلاته
قيل
سبب ذلك وغيره أن الذي مضت به السنة أن الصلاة يصليها المسلمين الأمراء
وولاة الحرب فوالى الجهاد هو كان أمير الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دولة بني العباس والخليفة هو
الذي يصلى بالناس الصلوات الخمس والجمعة لا يعرف المسلمون غير ذلك وقد أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون بعده من تغير الأمراء حتى قال سيكون
من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم
معهم نافلة فكان من هؤلاء من يؤخرها عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها
أن بعضهم كان لا يتم التكبير أى لا يجهر بالتكبير في انتقالات الركوع وغيره
ومنهم من لا يتم الاعتدالين وكان هذا يشيع في الناس فيربو في ذلك الصغير
ويهرم فيه الكبير حتى إن كثيرا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك فإذا
جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك كما رواه البخاري في صحيحه عن قتادة عن
عكرمة قال صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس إنه
لأحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
وفي رواية أبي
بشر عن عكرمة قال رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع وإذا قام وإذا
وضع فأخبرت ابن عباس فقال أو ليس تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
أم لك وهذا يعني به أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير فكان الأئمة الذين
يصلي خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك وابن عباس لم يكن إماما حتى يعرف ذلك منه
فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره ابن عباس وأما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره
على أحد وهذا كما أن عامة

الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير بل
يفعل ذلك المؤذن ونحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة ولا خلاف بين أهل
العلم أن هذه ليست هي السنة بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤذن وغيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير
دائما كما أن بلالا لم يكن يجهر بذلك خلف النبي صلى الله عليه وسلم لكن
إذا احتيج إلى ذلك لضعف صوت الإمام أو بعد المكان فهذا قد احتجوا لجوازه
بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسمع الناس التكبير خلف النبي صلى
الله عليه وسلم في مرضه حتى تنازع الفقهاء في جهر المأموم لغير حاجة هل
يبطل صلاته أم لا
ومثل ذلك ما أخرجاه في الصحيحين والسنن عن مطرف بن عبد
الله بن الشخير قال صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين فكان إذا
سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما قضي الصلاة أخذ
عمران بن حصين بيدي فقال قد ذكرني هذا بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو
قال لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا لما جهر بالتكبير سمعه
عمران ومطرف كما سمعه غيرهما
ومثل هذا ما في الصحيحين والسنن أيضا عن
أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها يكبر
حين يقوم ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يقوم من
الجلوس من الثنتين يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ثم يقول حين
ينصرف والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبها بصلاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا
وهذا كان يفعله أبو هريرة رضي
الله عنه لما كان أميرا على المدينة فإن معاوية كان يعاقب بينه وبين مروان
بن الحكم في إمارة المدينة فيولي هذا تارة ويولي هذا تارة وكان مروان
يستخلف وكان أبو هريرة يصلي بهم بما هو أشبه

بصلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم من صلاة مروان وغيره من أمراء المدينة
وقوله في المكتوبة
وغيرها يعني ما كان من النوافل مثل قيام رمضان كما أخرجه البخاري من حديث
الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث وأبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله
عنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره فيكبر حين
يقوم ويكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول ربنا لك الحمد وذكر
نحوه
وكان الناس قد اعتادوا ما يفعله غيره فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه
كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله
عنه كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع فقلت يا أبا هريرة ما هذا التكبير
قال إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا كله معناه جهر الإمام
بالتكبير ولهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت
وفعله في كل خفض ورفع
يبين ذلك أن البخاري ذكر في باب التكبير عند
النهوض من الركعتين قال وكان ابن الزبير يكبر في نهضته ثم روى البخاري من
حديث فليح ابن سليمان عن سعيد بن الحارث قال صلى لنا أبو سعيد فجهر
بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع وحين قام من الركعتين
وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أردفه البخاري بحديث مطرف
قال صليت أنا وعمران بن حصين خلف على بن أبي طالب رضي الله عنه فكان إذا
سجد كبر وإذا رفع كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما سلم أخذ عمران بن حصين
بيدي فقال لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد ذكرني
هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم
فهذا يبين أن الكلام إنما هو في
الجهر بالتكبير وأما أصل التكبير فلم يكن مما يخفى على أحد وليس هذا أيضا
مما يجهل هل يفعله الإمام أم لا يفعله

فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة
كما لا يصح نفي القراءة في صلاة المخافتة ونفي التسبيح في الركوع والسجود
ونفي القراءة في الركعتين الآخرتين ونحو ذلك ولهذا استدل بعض من كان لا يتم
بالتكبير ولا يجهر به بما روي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه أنه
صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يتم التكبير رواه أبو داود
والبخاري في التاريخ الكبير وقد حكى أبو داود الطيالسي أنه قال هذا عندنا
باطل وهذا إن كان محفوظا فلعل ابن أبزي صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم
في مؤخر المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم صوته ضعيفا فلم يسمع تكبيره
فاعتقد أنه لم يتم التكبير وإلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك فلو
خالفها كان شاذا لا يلتفت إليه ومع هذا فإن كثيرا من الفقهاء المتأخرين
يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرا وأن علي بن أبي طالب وأبا
هريرة وغيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير في الانتقالات
ولازم هذا أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر في خفضها
ولا رفعها
و هذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال ولو
كان المراد التكبير سرا لم يصح نفي ذلك ولا إثباته فإن المأموم لا يعرف
ذلك من إمامه ولا يسمي ترك التكبير بالكلية تركا لأن الأئمة كانوا يكبرون
عند الافتتاح دون الانتقالات وليس كذلك السنة بل الأحاديث المروية تبين أن
رفع الإمام وخفضه كان في جميعها التكبير وقد قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد
بن حنبل ما الذي نقصوا من التكبير قال إذا انحط إلى السجود من الركوع وإذا
أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة
فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة
لم يكونوا يتمون التكبير بل نقصوا التكبير في الخفض من القيام ومن القعود
وهو كذلك والله أعلم لأن الخفض يشاهد

بالأبصار فظنوا لذلك أن المأموم
لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام لأنه يرى ركوعه ويرى سجوده بخلاف
الرفع من الركوع والسجود فإن المأموم لا يرى الإمام فيحتاج أن يعلم رفعه
بتكبيره
و يدل على صحة ما قاله أحمد من حديث ابن أبزي أنه صلى خلف النبي
صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير وكان لا يكبر إذا خفض هكذا رواه أبو
داود الطيالسي عن شعبة عن الحسن بن عمران عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن
أبيه
و قد ظن أبو عمر بن عبد البر كما ظن غيره أن هؤلاء السلف ما كانوا
يكبرون في الخفض والرفع وجعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب لأنهم لا يقرون
الأمة على ترك واجب حتى إنه قد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر إذا صلى وحده
في الفرض وأما التطوع فلا قال أبو عمر لا يحكي أحمد عن ابن عمر إلا ما صح
عنده إن شاء الله
قال وأما رواية مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكبر
في الصلاة كلما خفض ورفع فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إماما وغير
إمام قلت ما روى مالك لا ريب فيه والذي ذكره أحمد لا يخالف ذلك ولكن غلط
ابن عبد البر فيما فهم من كلام أحمد فإن كلامه إنما كان في التكبير دبر
الصلاة أيام العيد الأكبر لم يكن التكبير في الصلاة ولهذا فرق أحمد بين
الفرض والنفل فقال أحب إلي أن يكبر في الفرض دون النفل ولم يكن أحمد ولا
غيره يفرقون في تكبير الصلاة بين الفرض والنفل بل ظاهر مذهبه أن تكبير
الصلاة واجب في النفل كما أنه واجب في الفرض وإن قيل هو سنة في الفرض قيل
هو سنة في النفل فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره
وأما الذي
ذكره عن ابن عمر في تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردا فهو

مشهور عنه
وهي مسألة نزاع بين العلماء مشهورة وقد قال ابن عبد البر لما ذكر حديث أبي
سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع فلما
انصرف قال والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن
عبد البر إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك ويدل عيه مارواه ابن أبي ذئب
في موطئه عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ثلاث كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن وتركهن الناس كان إذا قام إلى الصلاة
رفع يديه مدا وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله وكان يكبر كلما
رفع وخفض قلت هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة والفقهاء ممن لا يرفع
اليدين ولا يوجب التكبير ومن لا يستحب الاستفتاح والاستعاذة ومن لا يجهر من
الأئمة بتكبير الانتقال
قال وقد قال قوم من أهل العلم إن التكبير إنما
هو إيذان بحركات الإمام وشعار للصلاة وليس بسنة إلا في الجماعة أما من صلى
وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر ولهذا ذكر مالك هذا الحديث وحديث ابن شهاب عن
علي بن حسين قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الصلاة كلما
خفض ورفع فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله عز وجل وحديث ابن عمر وجابر رضي
الله عنهم أنهما كانا يكبران كلما خفضا ورفعا في الصلاة فكان جابر يعلمهم
ذلك قال فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة
قلت
ما ذكره مالك فكما ذكره وأما ما ذكره ابن عبد البر من الخلاف فلم أجده ذكر
لذلك أصلا إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين أن التكبير مشروع في
الصلوات وإنما ذكر ذلك مالك وغيره والله أعلم لأجل ما كره من فعل الأئمة
الذين كانوا لا يتمون التكبير وقد قال ابن عبد البر روى

ابن وهب
أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول لكل شيء زينة
وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي فيها وإذا كان ابن عمر يقول ذلك فكيف يظن
به أنه لا يكبر إذا صلى وحده هذا لا يظنه عاقل بابن عمر
قال ابن عبد
البر وقد روى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم انهم
كانوا لا يتمون التكبير وذكر ذلك أيضا عن القاسم وسعيد بن جبير وروى عن أبي
سلمة عن أبي هريرة انه كان يكبر هذا التكبير ويقول إنها لصلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال وهذا يدل على أن التكبير في كل خفض ورفع كان الناس
قد تركوه وفي ترك الناس له من غير نكير من واحد منهم ما يدل على أن الأمر
محمول عندهم على الإباحة قلت لايمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به فأما ترك
الإمام التكبير سرا فلا يجوز أن يدعى تركه إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا
لم يقله أحد من الأئمة ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون في كل خفض ورفع بل
قالوا كانوا لا يتمونه ومعنى لا يتمونه لا ينقصونه ونقصه عدم فعله في حال
الخفض كما تقدم من كلامه وهو نقص بترك رفع الصوت به أو نقص له بترك ذلك في
بعض المواضع وقد روى ابن عبد البر عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال صليت
خلف رسول الله صلى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم فكلهم كان
يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض قال وهذا معارض لما روى عن عمر انه كان لا يتم
التكبير وروى عن سعيد بن عبد العزيز عن الزهرى قال

قلت لعمر بن عبد
العزيز ما منعك أن تتم التكبير وهذا عاملك عبد العزيز يتمه فقال تلك صلاة
الأول وأبى أن يقبل مني
قلت وإنما خفي على عمر بن عبد العزيز وعلى هؤلاء
الجهر بالتكبير كما خفي ذلك على طوائف من أهل زماننا وقبله ما ذكره أبي
شيبة أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال أول من نقص التكبير زياد
قلت
زياد كان أميرا في زمن عمر فيمكن أن يكون ذلك صحيحا ويكون زياد قد سن ذلك
حين تركه غيره وروى عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري قال لقد ذكرنا
علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إما نسيناها وإما
تركناها عمدا وكان يكبر كلما رفع وكلما وضع وكلما سجد
و معلوم أن
الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد وهم أئمة ولم يبلغهم
خلاف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا من شاهدوهم من أهل العلم
والدين لا يعرفون غير ذلك فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة وحصل بذلك نقصان في
وقت الصلاة وفعلها فاعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها كما كان
الأئمة يفعلون ذلك وكذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما
كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ابن مسعود يتأول في بعض
الأمراء الذين كانوا على عهده أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} فكان يقول كيف بكم إذا لبستكم
فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير إذا ترك فيها شيء قيل تركت السنة
فقيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن فقال ذلك إذا ذهب علماؤكم وقلت فقهاؤكم
والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين وكان عبد الله بن مسعود يقول
أيضا أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم

فأيما
رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فالسمت الأول
ومن هذا الباب
أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد بن عمه وعمر
هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك صلى خلفه أنس بن مالك رضي الله عنه
فقال ما رواه أبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما صليت وراء
أحد بعد رسول برسول الله صلى الله ع عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن
عبد العزيز قال فخررنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وهذا
كان في المدينة مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية
الأمصار فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك والمدينة إنما كانت تساس بسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا ولكن كانوا قد غيروا أيضا ببعض
السنة ومن اعتقد أن هذا كان في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط فإن أنس بن
مالك رضي الله عنه لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز بل مات قبل ذلك بسنتين
وهذا
يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة عن عون بن
عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم وذلك أدناه"
وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه قال أبو داود هذا مرسل
عون لم يدرك عبد الله بن مسعود وكذلك قال البخاري في تاريخه وقال الترمذي
ليس إسناده بمتصل عون ابن عبد الله لم يدرك ابن مسعود عون هو من علماء
الكوفة المشهورين وهو من أهل بيت عبد الله

وقيل إنما تلقاه من علماء
أهل بيته فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد
حتى صاروا يقولون في الثلاث إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع وذلك يدل على
أن أعلاه أكثر من هذا
فقول من يقول من الفقهاء إن السنة للإمام أن يقتصر
على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وغيرهم هو من جنس
قول من يقول من السنة أن لا يطيل الاعتدال بعد الركوع أو أن يؤخر الصلاة
إلى آخر الوقت أو نحو ذلك فإن الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من
السنة أصلا بل الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في
الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها تبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يسبح في
أغلب صلاته أكثر من ذلك كما تقدم دلالة الأحاديث عليه ولكن هذا قالوه لما
سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أم أحدكم الناس فليخفف وإذا صلى
لنفسه فليطول ما شاء ولم يعرفوا مقدار التطويل ولا علموا التطويل الذي نهى
عنه لما قال لمعاذ أفتان أنت يا معاذ فجعلوا هذا برأيهم قدرا للمستحب ومن
المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة فإن
هذا من العلم الذي لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد إذ النبي صلى الله
عليه وسلم كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات وكذلك خلفاؤه الراشدون
الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيجب البحث عما سنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم
تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت
به سنة فيرد بالرأي والقياس
ومما يبين هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافي
ليس له حد في اللغة ولا في العرف إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء
ويستخف هؤلاء ما يستطيله

هؤلاء فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس
ومقادير العبادات ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية
فعلم أن الواجب
على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة وبهذا يتبين أن
أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضا في حديث
عمار الذي في الصحيح لما قال إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه
فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما فإن
الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض
الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة ولهذا قال فإذا صلى
أحدكم لنفسه فليطول ما شاء
فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به
الصلاة خفيفة بخلاف الإمام لأجل مراعاة المأمومين فإن خلفه السقيم والكبير
وذو الحاجة ولهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو
بعضهم عارض كما قال صلى الله عليه وسلم إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن
أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه وبذلك علل النبي صلى
الله عليه وسلم فيما تقدم من حديث ابن مسعود
وكذلك في الصحيحين عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم بالناس
فليخفف فإن فيهم الضعيف والكبير

و ذا الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول
ما شاء وفي رواية فإن فيهم السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة
و لهذا كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقصرها أحيانا عما كان يفعل غالبا كما روى مسلم
في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال كأني أسمع صوت النبي صلى الله
عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس {وروى أنه
قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة وكان يطولها أحيانا حتى ثبت
في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو
يقرأ {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} فقالت يا بنى لقد أذكرتنى بقراءتك هذه
السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب
وفي الصحيحين عن محمد ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب وفي البخاري والسنن عن مروان بن
الحكم قال قال لى زيد بن ثابت مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرا في المغرب بطولي الطوليين قال قلت ما
طولى الطوليين قال الأعراف
فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث وقد ثبت فيها
أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور وتارة بالمرسلات مع
اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر نم القراءة في
الفجر فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها
ومن هذا الباب ما روى وكيع عن
منصور عن ابراهيم النخعي قال كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل
القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه قال أبو محمد بن حزم العيب على
من عاب عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعول على من لا حجة فيه
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى Empty رد: كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى {الأربعاء 8 يونيو - 15:22}


قلت قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح وموافقته لفعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن
الحجاج وفتنة ابن الأشعث لم يكونوا من الصحابة ولا عرف أنهم من أعيان
التابعين وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود فابن بن مسعود لم يكن هو
الإمام الراتب في زمنه بل الإمام الراتب كان غيره وابن بن مسعود أقرب إلى
متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين
فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة إنما
أنكروا عليه لمخالفته العادة التي اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية ولكن
ليس هذا الإنكار من الفقهاء
يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم
النخعي هو علقمة وتوفى قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد
الله فإن علقمة توفى سنة إحدى أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد وفتنة
ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك وكذلك مسروق قيل إنه توفى قبل السبعين
أيضا وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه
فتبين أن أكابر الفقهاء من
أصحاب عبد الله بن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك مع أن من الناس إذا
سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي وقد عرفت أن المشهور أن علقمة
يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك وهم رأوا ذلك وهم أخذوا العلم عن عبد
الله ونحوه فقد تبين أن الأمر ليس كذلك
آخر ما وجد في الأصل والحمد لله
رب العالمين
فصل
وأما السلام من الصلاة فالمختار عند مالك ومن تبعه
من أهل المدينة تسليمة واحدة في جميع الصلاة فرضها ونقلها المشتملة على
الأركان الفعلية أو على ركن واحد وعند أهل الكوفة تسليمتان في جميع ذلك
وافقهم الشافعي

والمختار في المشهور عن أحمد أن الصلاة الكاملة
المشتملة على قيام وركوع وسجود يسلم منها تسليمتان وأما الصلاة بركن واحد
كصلاة الجنازة وسجود التلاوة وسجود الشكر فالمختار فيها تسليمة واحدة كما
حاءت أكثر الآثار بذلك فالخروج من الأركان الفعلية المتعددة بالتسليم
المتعدد ومن الركن الفعلي المفرد بالتسليم المفرد فإن صلاة النبي صلى الله
عليه وسلم كانت معتدلة فما طولها أعطى كل جزء منها حظه من الطول وما خففها
أدخل التخفيف على عامة أجزائها
صلاة الجماعة

[ صلاة
الجماعة ]
فصل
فأما صلاة الجماعة فاتبع أهل الحديث ما دل عليه الكتاب
والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر وسقوطها بالعذر وتقديم
الأئمة بما قدم به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال يؤم القوم أقرؤهم
لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة
سواء فأقدمهم هجرة ففرق بين العلم بالكتاب والعلم بالسنة كما دل عليه
الحديث وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام
الصلاة على الوجه المشروع وفعلها على السنة وفي دين الإمام الذي يخرج به
المأموم عن نقص الصلاة خلفه فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما قدم
الأقرأ ثم الأعلم بالسنة وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامهم
وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك وغيره
وقد
يقول بعض العلماء هي سنة مؤكدة وقد يقول آخرون هي فرض على الكفاية ولهم في
تقديم الأئمة خلاف
و يأمر بإقامة الصفوف فيها كما أمر به النبي صلى
الله عليه وسلم من سننها الخمس وهي تقويم الصفوف ورصها وتقاربها وسد الأول
فالأول

و توسيط الإمام حتى ينهى عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من
صلاة المنفرد خلف الصف ويأمره بالإعادة كما أمر بها النبي صلى الله عليه
وسلم في حديثين ثابتين عنه أمر فيهما المنفرد خلف الصف بالإعادة كما أمر
المسيء في صلاته بالإعادة وكما أمر المسيء في وضوءه الذي ترك فيه موضع ظفر
من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة
فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة
والاصطفاف في الصلاة والإتيان بأركانها
و الذين خالفوا حديث المنفرد خلف
الصف كأبي حنيفة ومالك والشافعي منهم من لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده
والشافعي رآه معارضا بكون الإمام يصلي وحده وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم
وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف
و أما أحمد فأصله في الأحاديث إذا
تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين أنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا
يضرب أحدهما بالآخر فيقول في مثل هذه المرأة إذا كانت مع النساء صلت بينهن
وأما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم وإن كانت وحدها لأنها منهية عن
مصافة الرجال فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم كما أنها إذا صلت
بالنساء صلت بينهن لأنه أستر لها كما يصلي إمام العراة بينهم وإن كانت سنة
الرجل الكاسي إذا أم أن يتقدم بين يدي الصف
و نقول إن الإمام لا يشبه
المأموم فإن سنته التقدم لا المصافة وسنة المؤتمين الاصطفاف نعم يدل انفراد
الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة وهو ما إذا لم يحصل
له مكان يصلي فيه إلا انفرادا فهذا قياس قول أحمد وغيره ولأن واجبات الصلاة
وغيرها تسقط بالأعذار فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها فسقط بالعجز في
الجماعة كما يسقط غيره فيها وفي سنن

الصلاة ولهذا كان تحصيل الجماعة
في صلاة الخوف والمرض ونحوهما مع استدبار القبلة والعمل الكثير ومفارقة
الإمام ومع ترك المريض القيام أولى من أن يصلوا وحدانا ولهذا ذهب بعض أصحاب
أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على إمامه عند الحاجة كحال الزحام ونحوه
وإن كان لا يجوز لغير حاجة وقد روى في بعض صفات صلاة الخوف ولهذا سقط عنده
وعند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من عدل الإمام وحل البقعة ونحو
ذلك للحاجة فجوزوا بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك
ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضى ترك ذلك إلى
ترك الجمعة والجماعة أو إلى فتنة في الأمة ونحو ذلك كما جاء في حديث جابر
رضي الله عنه لا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه
لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبا فيسقط بالعذر كما سقط كثير من
الواجبات في جماعة الخوف بالعذر
ومن اهتدى لهذا الأصل وهو أن نفس واجبات
الصلاة تسقط بالعذر وكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها فقد هدى لما جاءت
به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا كما قد يبتلى به
بعضهم وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي
هي أوكد منه عند العجز عنه وإن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه كما قد يبتلى به
آخرون فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين
وعلى
هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا
يفعل ولا تسع القدرة
و كان أحمد في المنصوص عنه وطائفة من أصحابه يقولون
بجواز اقتداء المفترض

بالمتنقل للحاجة كما في صلاة الخوف وكما لو
كان المفترض غير قارئ كما في حديث عمرو بن سلمة ومعاذ ونحو ذلك وإن كان لا
يجوزه لغير حاجة على إحدى الروايتين عنه فأما إذا جوزه مطلقا فلا كلام وإن
كان من أصحابه من لا يجوزه بحال
فصارت الأقوال في مذهبه وغير مذهبه
ثلاثة والمنع مطلقا هو المشهور عن أبي حنيفة ومالك كما أن الجواز مطلقا هو
قول الشافعي
و يشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام فعنه ثلاث
روايات أوسطها جواز ذلك للحاجة كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف وكما
فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة لما شق عليه طول الصلاة
والرواية الثانية المنع مطلقا كقول أبي حنيفة والرواية الثالثة الجواز
مطلقا كقول الشافعي ولهذا جوز أحمد في المشهور عنه أن المرأة تؤم الرجل
لحاجة مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح كما أذن النبي
صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذنا وتتأخر خلفهم
وإن كانوا مأمومين بها للحاجة وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة هذا مع
ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لا تؤمن امرأة رجلا وأن المنع من
إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء
و لهذا الأصل استعمل أحمد ما
استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله في الإمام إذا صلى جالسا فصلوا
جلوسا أجمعون وأنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض فسقط عن
المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي صلى الله
عليه وسلم من مخالفة الإمام والتشبه بالأعاجم في القيام له وكذلك عمل أئمة
الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودا والناس خلفهم قعود كأسيد بن الحضير
و
لكن كره هذا لغير الإمام الراتب إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام

به
ولهذا كرهه أيضا إذا مرض الإمام الراتب مرضا مزمنا لأنه يتعين حينئذ
انصرافه عن الإمامة ولم ير هذا منسوخا بكونه صلى الله عليه وسلم في مرضه
صلى في أثناء الصلاة قاعدا وهم قيام لعدم المنافاة بين ما أمر به وبين ما
فعله ولأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته مع شهودهم لفعله فيفرق بين
القعود من أول الصلاة والقعود في أثنائها إذ يجوز الأمران جميعا إذ ليس في
الفعل تحريم للمأمور به بحال مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي
ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب
الصحيحة التي دل عليها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
وقوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وأنه إذا
تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما وسقط الآخر بالوجه الشرعي والتنبيه على
ضوابط من مآخذ العلماء
فصل
في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام
الناس
فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا ارتباط بينهما وأن كل امرئ يصلي
لنفسه وفائدة الائتمام في تكثير الثواب بالجماعة وهذا هو الغالب على أصل
الشافعي لكن قد عورض بمنعه اقتداء القارئ بالأمي والرجل بالمرأة وإبطال
صلاة المؤتم بمن لا صلاة له كالكافر والمحدث وفي هذه المسائل كلام ليس هذا
موضعه
ومن الحجة فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة إن أحسنوا
فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم
والقول الثاني: أنها منعقدة بصلاة
الإمام فرع عليها مطلقا فكل خلل حصل في صلاة الإمام يسري إلى صلاة المأموم
لقوله صلى الله عليه وسلم الإمام ضامن وعلى هذا فالمؤتمن بالمحدث الناسي
لحدثه يعيد كما يعيد إمامه وهذا مذهب

أبي حنيفة ورواية عن أحمد
اختارها أبو الخطاب حتى اختار بعض هؤلاء كمحمد بن الحسن أن لا يأتم المتوضئ
بالمتيمم لنقص طهارته عنه
والقول الثالث: أنها منعقدة بصلاة الإمام بها
لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما فأما مع العذر
فلا يسري النقص فإذا كان الإمام يعتقد طهارته فهو معذور في الإمامة
والمأموم معذور في الائتمام وهذا قول مالك وأحمد وغيرهما وعليه ينزل ما
يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة وهو أوسط الأقوال كما ذكرنا في نفس صفة
الإمام الناقص أن حكمه مع الحاجة يخالف حكمه مع عدم الحاجة فحكم صلاته كحكم
نفسه
وعلى هذا أيضا ينبني اقتداء المؤتم بإمام قد ترك ما يعتقده
المأموم من فرائض الصلاة إذا كان الإمام متأولا تأويلا يسوغ كأن لا يتوضأ
من خروج النجاسات من غير السبيلين ولا من مس الذكر ونحو ذلك فإن اعتقاد
الإمام هنا صحة صلاته كاعتقاده صحتها مع عدم العلم بالحدث وأولى فإنه هناك
تجب عليه الإعادة وهذا أصل نافع أيضا
ويدل على صحة هذا القول ما أخرجه
البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم فهذا نص
في أن الإمام إذا أخطأ كان درك خطأه عليه لا على المأمومين فمن صلى معتقدا
لطهارته وكان محدثا أو جنبا أو كانت عليه نجاسة وقلنا عليه الإعادة للنجاسة
كما يعيد من الحدث فهذا الإمام مخطئ في هذا الاعتقاد فيكون خطؤه عليه
فيعيد صلاته وأما المأمومون فلهم هذه الصلاة وليس عليهم من خطئه شيء كما
صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نص في إجزاء صلاتهم
وكذلك لو
ترك الإمام بعض فرائض الصلاة بتأويل أخطأ فيه عند المأموم مثل أن يمس ذكره
ويصلي أو يحتجم ويصلي أو يترك قراءة البسملة أو يصلي

وعليه نجاسة لا
يعفي عنها عند المأموم ونحو ذلك فهذا الإمام أسوأ أحواله أن يكون مخطئا إن
لم يكن مصيبا فتكون هذه الصلاة للمأموم وليس عليه من خطأ إمامه شيء وكذلك
روى أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم ومن
انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم لكن لم يذكر أبو داود وأتم الصلاة فهذا
الانتقاص يفسره الحديث الأول أنه الخطأ ومفهوم قوله وإن أخطأ فعليه ولا
عليهم أنه إذا تعمد لم يكن كذلك ولاتفاق المسلمين على أن من يترك الأركان
المتفق عليها لا ينبغي الصلاة خلفه
فصل
وأما القنوت فالناس فيه طرفان
ووسط منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع ومنهم من لا يراه إلا بعده
وأما
فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة
بهما وإن اختاروا القنوت بعد الركوع لأنه أكثر وأقيس فإن سماع الدعاء مناسب
لقول العبد سمع الله لمن حمد فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما
بينت فاتحة الكتاب على ذلك أولها ثناء وآخرها دعاء
وأيضا فالناس في شرعه
في الفجر على ثلاثة أقوال بعد اتفاقهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم
قنت في الفجر منهم من قال هو منسوخ فإنه قنت ثم ترك كما جاءت به الأحاديث
الصحيحة ومن قال المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار فلم يبلغه ألفاظ
الحديث أو بلغته فلم يتأملها فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال سألت أنس
بن مالك رضي الله عنه عن القنوت هل كان قبل الركوع أو بعد الركوع فقال قبل
الركوع قال فإن فلانا أخبرني

أنك قلت بعد الركوع قال كذب إنما قنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع أراه كان بعث قوما يقال لهم
القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول
الله عهد فقنت صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم وكذلك الحديث الذي رواه
أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال ما زال
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا جاء لفظه مفسرا أنه ما
زال يقنت قبل الركوع
والمراد هنا بالقنوت طول القيام لا الدعاء كذلك
جاء مفسرا
ويبينه ما جاء في الصحيحين عن محمد بن سيرين قال قلت لأنس بن
مالك رضى الله عنه قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قال نعم
بعد الركوع يسيرا فأخبر أن قنوته كان سرا وكان بعد الركوع فلما كان لفظ
القنوت هو إدامة الطاعة سمى كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتا كما
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً}
ولهذا لما سئل ابن عمر رضى الله عن القنوت الراتب قال ما سمعنا ولا رأينا
وهذا قول ومنهم من قال بل القنوت سنة راتبة حيث قد ثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قنت وروى عنه أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا وهذا قول
الشافعي

ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات لما صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة
والظهر لكن لم يرو أحد انه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف فاستحبوا أن يدعو
فيه بقنوت الوتر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن على وهو
اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره
وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم
كأحمد وغيرهم فقالوا قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل التي
نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم ونحو ذلك فإنه قنت مستنصرا كما
استسقى حين الجدب فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة إذ بالنصر
والرزق قوام أمر الناس كما قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل تنصرون
وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم" وكما قال في صفات
الأبدال: "بهم ترزقون وبهم تنصرون" وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة
الملك وبين أنهما بيده سبحانه وتعالى في قوله {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ
جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ
إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ
رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} ثم ترك القنوت جاء مفسرا أنه
صلى الله عليه وسلم تركه لزوال ذلك

السبب وكذلك كان عمر رضى الله
عنه إذا أبطأ خبر عليه جيوش السلمين قنت وكذلك على رضى الله عنه قنت لما
حارب من حارب من الخوارج وغيرهم
قالوا وليس الترك نسخا فإن الناسخ لا بد
أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول ص = أمرا لحاجة ثم تركه لزالها لم يكن
ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على
النهي عن الفعل
قالوا ونعلم قطعا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فإن مثل
هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه
دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط
أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من
الصحابة القنوت الراتب فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم أن حى
على خير العمل لم يكن من الأذان الراتب وإنما فعله بعض الصحابة لعارض
تحضيضا للناس على الصلاة
فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع
غير منسوخ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة
وهذا أصل آخر في
الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم فيما يسقط بالعذر فإن كل واحد من
الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا
مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات وكذلك
أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة مالا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا
فالعبادات
في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو
الاستحباب أو سقوطه وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل
الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة
انحلت عنه هذه المشكلات انحلالا كثيرا
القراءة خلف الإمام

[
القراءة خلف الإمام ]
فصل
وأما القراءة خلف الإمام
فالناس فيها
طرفان ووسط منهم من يكره القراءة خلف الإمام حتى يبلغ بها بعضهم إلى
التحريم سواء في ذلك صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن
اتبعهم كأصحاب أبي حنيفة ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة
الفاتحة وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولى الشافعي وقول طائفة
معه ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر وفي حال سكتات الإمام في صلاته
الجهرية وللبعيد الذي لا يسمع الإمام وأما للقريب الذي يسمع قراءة الإمام
فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه إقامة للاستماع مقام التلاوة وهذا قول
الجمهور كمالك وأحمد وغيرهم من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار وعليه يدل عمل
أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث
وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في
صلاة المأموم هل هي مبنية على صلاة الإمام أم كل واحد منهما يصلى لنفسه
كما تقدم التنبيه عليه فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها ومبنية عليها مطلقا
حتى إنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام
واصل
الشافعي أن كل رجل يصلى لنفسه لا يقوم مقامة لا في فرض ولا سنة ولهذا أمر
المأموم بالتسميع وأوجب عليه القراءة ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام إلا
في مواضع مستثناة كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو وتحمل القراءة إذا
كان المأموم مسبوقا وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي ونحو ذلك
وأما مالك
وأحمد فإنها عندهما مبنية عليها من وجه دون وجه كما ذكرنا من الاستماع
للقراءة في حال الجهر والمشاركة في حال المخافتة ولا يقول المأموم عندها
سمع الله لمن حمده بل يحمد جوابا لتسميع الإمام كما دلت عليه

النصوص
الصحيحة وهى مبنية عليها فيما يعذران فيه دون ما لا يعذران كما تقدم في
الإمامة
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى Empty رد: كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى {الأربعاء 8 يونيو - 15:23}

الصلوات في الأحوال العارضة

[ الصلوات في الأحوال العارضة ]
فصل
وأما
الصلوات في الأحوال العارضة
كالصلاة المكتوبة في الخوف والمرض والسفر
ومثل الصلاة لدفع البلاء عند أسبابه كصلوات الآيات في الكسوف ونحوه أو
الصلاة لاستجلاب النعماء كصلاة الاستسقاء ومثل الصلاة على الجنازة ففقهاء
الحديث كأحمد وغيره متبعون لعامة الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه في هذا الباب فيجوزون في صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن
النبي صلى الله عليه وسلم ويختارون قصر الصلاة في السفر إتباعا لسنة النبي
صلى الله عليه وسلم فأنه لم يصل في السفر قط رباعية إلا مقصورة ومن صلى
أربعا لم يبطلوا صلاته لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك بل منهم من يكره ذلك
ومنهم من لا يكرهه وإن رأى تركه أفضل وفي ذلك عن أحمد روايتان
وهذا
بخلاف الجمع بين الصلاتين فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يفعله إلا
مرات قليلة فإنهم يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه اقتداء بالنبي صلى الله
عليه وسلم حين جد به السير حتى اختلف عن أحمد هل يجوز الجمع للمسافر
النازل الذي ليس بسائر أم لا ولهذا كان أهل السنة مجمعين على جواز القصر
مختلفون في جواز الإتمام ومجمعون على جواز التفريق بين الصلاتين مختلفون في
جواز الجمع بينهما
ويجوزون جميع الأنواع الثابتة عن النبي صلى الله
عليه وسلم في صلاة الكسوف
فأصحها وأشهرها أن يكون في كل ركعة ركوعان وفي
الصحيح أيضا في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربعة ويجوزون حذف الركوع الزائد كما
جاء

عن النبي صلى الله عليه وسلم ويطيلون السجود فيها كما صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم ويجهرون فيها بالقراءة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى
الله عليه وسلم وكذلك الاستسقاء يجوزون الخروج إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء
والدعاء كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجوزون الخروج والدعاء
بلا صلاة كما فعله عمر رضى الله عنه بمحضر من الصحابة ويجوزون الاستسقاء
بالدعاء تبعا للصلوات الراتبة كخطبة الجمعة ونحوها كما فعله النبي صلى الله
عليه وسلم
وكذلك الجنازة فإن اختيارهم أنه يكبر عليها أربعا كما ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يفعلونه غالبا ويجوز على
المشهور عند احمد التخميس في التكبير ومتابعة الإمام في ذلك لما ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر خمسا وفعله غير واحد من الصحابة مثل على
بن أبي طالب وغيره ويجوز أيضا على الصحيح عنده التسبيع ومتابعة الإمام فيه
لما ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يكبرون أحيانا سبعا بعد موت النبي صلى الله
عليه وسلم ولما في ذلك من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم
الأصل
الثاني: الزكاة


فصل
الأصل الثاني الزكاة
وهم أيضا متبعون فيها
لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه آخذين بأوسط الأقوال الثلاثة أو
بأحسنها في السائمة فاخذوا في أوقاص الإبل بكتاب الصديق رضى الله عنه
ومتابعيه المتضمن أن في الإبل الكثيرة في أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة
لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الكتاب الذي فيه
استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين فإنه متقدم على هذا لأن استعمال عمرو بن
حزم على نجران كان قبل موته بمدة وأما كتاب الصديق فإنه صلى الله عليه وسلم
كتبه ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر

وتوسطوا في المعشرات بين
أهل الحجاز وأهل العراق فإن أهل العراق كأبي حنيفة يوجبون العشر في كل ما
أخرجت الأرض إلا القصب ونحوه في القليل والكثير منه بناء على أن العشر حق
الأرض كالخراج ولهذا لا يجمعون بين العشر والخراج وأهل الحجاز لا يوجبون
العشر إلا في النصاب المقدر بخمسة أوسق ووافقهم عليه أبو يوسف ومحمد ولا
يوجبون من الثمار إلا في التمر والزبيب وفي الزروع في الأقوات ولا يوجبون
في عسل ولا غيره والشافعي على مذهب أهل الحجاز
وأما أحمد وغيره من فقهاء
الحديث فيوافقون في النصاب قول أهل الحجاز لصحة السنن عن النبي صلى الله
عليه وسلم بأنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا يوجبون الزكاة في
الخضراوات لما في الترك من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه والأثر
عنه لكن يوجبها في الحبوب والثمار التي تدخر وإن لم تكن تمرا أو زبيبا
كالفستق والبندق جعلا للبقاء في المعشرات بمنزلة الحول في الماشية والجرين
فيفرق بين الخضراوات وبين المدخرات وقد يلحق بالموسق الموزونات كالقطن على
إحدى الروايتين لما في ذلك من الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم
ويوجبها
في العسل لما فيه من الآثار التي جمعها هو وإن كان غيره لم تبلغه إلا من
طريق ضعيفة وتسوية بين جنس ما أنزله الله من السماء وما أخرجه من الأرض
ويجمعون
بين العشر والخراج لأن العشر حق الزرع والخراج حق الأرض وصاحبا أبي حنيفة
قولمها هو قول أحمد أو قريب منه
وأما مقدار الصاع والمد ففيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن الصاع خمسة أرطال وثلث والمد ربعه وهذا قول أهل الحجاز
في الأطعمة والمياه وقصة مالك مع أبي يوسف فيه مشهورة وهو قول الشافعي
وكثير من أصحاب أحمد أو أكثرهم

والثاني: أنه ثمانية أرطال والمد ربعه
وهو قول أهل العراق في الجميع
والقول الثالث: أن صاع الطعام خمسة أرطال
وثلث وصاع الطهارة ثمانية أرطال كما جاء بكل واحد منهما الأثر فصاع
الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل والوضوء وهذا قول طائفة
من أصحاب أحمد وغيرهم ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب لمن تأمل
الأخبار الواردة في ذلك
ومن أصولها أن أبا حنيفة أوسع في إيجابها من
غيره فإنه يوجب في الخيل السائمة المشتملة على الآثار ويوجبها في كل خارج
من الأرض ويوجبها في جميع أنواع الذهب والفضة من الحلى المباح وغيره ويجعل
الركاز المعدن وغيره فيوجب فيه الخمس لكنه لا يوجب ما سوى صدقة الفطر
والعشر إلا على مكلف ويجوز الاحتيال لإسقاطها واختلف أصحابه هل هو مكروه أم
لا فكرهه محمد ولم يكرهه أبو يوسف وأما مالك والشافعي فاتفقا على أنه لا
يشترط لها التكليف بما في ذلك من الآثار الكثيرة عن الصحابة
ولم يوجبها
في الخيل ولا في الحلى المباح ولا في الخارج إلا ما تقدم ذكره وحرم مالك
الاحتيال لإسقاطها وأوجبها مع الحيلة وكره الشافعي الحيلة في اسقاطها
وأما
أحمد فهو في الوجوب بين أبي حنيفة ومالك كما تقدم في المعشرات وهو يوجبها
في مال المكلف وغير المكلف
واختلف قوله في الحلى المباح وإن كان المنصور
عند أصحابه أنه لا يجب وقوله في الاحتيال كقول مالك يحرم الاحتيال لسقوطها
ويوجبها مع الحيلة كما دلت عليه سورة نون وغيرها من الدلائل
والأئمة
الأربعة وسائر الأمة إلا من شذ متفقون على وجوبها في عرض التجارة سواء كان
التاجر مقيما أو مسافرا وسواء كان متربصا وهو

الذي يشتري التجارة وقت
رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر أو مدبرا كالتجار الذين في الحوانيت
سواء كانت التجارة بزا من جديد أو لبس أو طعاما من قوت أو فاكهه أو أدم أو
غير ذلك أو كانت آنية كالفخار ونحوه أو حيوانا من رقيق أو خيلا أو بغالا أو
حميرا أو غنما معلوفة أو غير ذلك فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار
الباطنة كما أن الحيوانات الماشية هى أغلب الأموال الظاهرة
فصل
ولا
بد في الزكاة من الملك
واختلفوا في اليد فلهم في زكاة ما ليس في اليد
كالدين ثلاثة أقوال
أحدها: أنها تجب في كل دين وكل عين وإن لم تكن تحت
يد صاحبها كالمنصوب والضال والدين المجحود وعلى معسر أو مماطل وانه يجب
تعجيل الإخراج مما يمكن قبضه كالدين على الموسر وهذا أحد قولى الشافعي وهو
أقواهما
فصل
والناس في إخراج القيم في الزكاة ثلاثة أقوال
أحدها:
أنه يجزئ بكل حال كما قاله أبو حنيفة
والثاني: لا يجزئ بحال كما قاله
الشافعي
والثالث: أنه لا يجزئ إلا عند الحاجة مثل من يجب عليه شاة في
الإبل وليست عنده ومثل من يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس
وهذا هو المنصوص عن
أحمد صريحا فإنه منع من إخراج القيم وجوزه في مواضع للحاجة لكن من أصحابه
من نقل عنه جوازه فجعلوا عنه في إخراج القيمة روايتين واختاروا المنع لأنه
المشهور عنه كقول الشافعي وهذا القول

أعدل الأقوال كما ذكرنا مثله في
الصلاة فإن الأدلة الموجبة للعين نصا وقياسا كسائر أدلة الوجوب ومعلوم أن
مصلحة وجوب العين قد يعارضها أحيانا في القيمة من المصلحة الراجحة وفي
العين من المشقة المنتفية شرعا
الأصل الثالث: الصيام

فصل
وأما
الأصل: الثالث فالصيام
وقد اختلفوا في تبييت نيته على ثلاثة أقوال
فقالت
طائفة منهم أبو حنيفة أنه يجزئ كل صوم فرضا كان أو نفلا بنية قبل الزوال
كما دل عليه حديث عاشوراء وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على
عائشة فلم يجد طعاما فقال إني إذا صائم
وبإزائها طائفة أخرى منهم مالك
قالت لا يجزئ الصوم إلا مبيتا من الليل فرضا كان أو نفلا على ظاهر حديث
حفصة وابن عمر الذي يروي مرفوعا وموقوفا لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل
وأما
القول الثالث فالفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية كما دل عليه حديث حفصة وابن
عمر لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم والنية لا تنعطف على الماضي وأما النفل
فيجزئ بنية من النهار كما دل عليه قوله إني إذا صائم كما أن الصلاة
المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في
التطوع توسيعا من الله على عباده في طرق التطوع فإن أنواع التطوعات دائما
أوسع من أنواع المفروضات وصومهم يوم عاشوراء إن كان واجبا فإنما وجب عليهم
من النهار لأنهم لم يعلموا قبل ذلك وما رواه بعض الخلافيين المتأخرين أن
ذلك كان في رمضان فباطل لا اصل له
وهذا أوسط الأقوال وهو قول الشافعي
وأحمد واختلف قولهما هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال والأظهر صحته كما نقل
عن الصحابة

واختلف أصحابهما في الثواب هل هو ثواب يوم كامل أو من حين
نواه والمنصوص عن أحمد أن الثواب من حين النية
وكذلك اختلفوا في التعيين
وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
أحدها أنه لا بد من نية رمضان فلا
تجزئ نية مطلقة ولا معينة لغير رمضان وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى
الروايتين اختارها كثير من الصحابة
والثاني انه يجزئ بنية مطلقة ومعنية
لغيره كمذهب أبي حنيفة ورواية محكية عن أحمد
والثالث انه يجزئ بالنية
المطلقة دون نية التطوع أو القضاء أو النذر وهو رواية عن أحمد اختارها
طائفة من أصحابه
فصل
واختلفوا في صوم يوم الغيم وهو ما إذا حال دون
مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان فقال قوم يجب صومه بنية من
رمضان احتياطا وهذه الرواية عن أحمد وهى التي اختارها أكثر متأخرى أصحابه
وحكوها عن أكثر متقدميهم بناء على ما تأولوه من الحديث وبناء على أن الغالب
على شعبان هو النقص فيكون الأظهر طلوع الهلال كما هو الغالب فيجب بغالب
الظن
وقالت طائفة لا يجوز صومه من رمضان وهذه رواية عن أحمد اختارها
طائفة من أصحابه كابن عقيل والحلواني وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي
استدلالا بما جاء من الأحاديث وبناء على أن الوجوب لا يثبت بالشك
وهناك
قول ثالث وهو أنه يجوز صومه من رمضان ويجوز فطره والأفضل صومه من وقت الفجر
ومعلوم أنه لو عرف وقت الفجر الذي يجوز طلوعه جاز له الإمساك والأكل وإن
أمسك وقت الفجر فإنه لا معنى لاستحباب

الإمساك لكن وأكثر نصوص أحمد
تدل على هذا القول وأنه كان يستحب صومه ويفعله لا أنه يوجبه وإنما أخذ في
ذلك بما نقله عن الصحابة في مسائل ابنه عبد الله والفضل بن زياد القطان
وغيرهم أخذ بما نقله عن عبد الله بن عمر ونحوه والمنقول عنهم أنهم كانوا
يصومون في حال الغيم لا يوجبون الصوم وكان غالب الناس لا يصومون ولم ينكروا
عليهم الترك
وإنما لم يستحب الصوم في الصحو بل نهى عنه لأن الأصل
والظاهر عدم الهلال فصومه تقديم لرمضان بيوم وقد نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك
واختلف الرواية عنه هل يسمى يوم الغيم يوم شك على روايتين
وكذلك اختلف أصحابه في ذلك
وأما يوم الصحو عنده فيوم شك أو يقين من
شعبان ينهى عن صومه بلا توقف وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على
غيره فإن المشكوك في وجوبه كما لو شك في وجوب زكاة أو كفارة أو صلاة أو غير
ذلك لا يجب فعله ولا يستحب تركه بل يستحب فعله احتياطا فلم تحرم أصول
الشريعة الاحتياط ولم توجب بمجرد الشك
وأيضا فإن أول الشهر كأول النهار
ولو شك في طلوع النهار لم يجب عليه الإمساك ولم يحرم عليه الإمساك بقصد
الصوم ولأن الإغمام أول الشهر كالإغمام بالشك بل ينهى عن صوم يوم الشك لما
يخاف من الزيادة في الفرض
وعلى هذا القول يجتمع غالب المأثور عن الصحابة
في هذا الباب فإن الجماعات الذين صاموا منهم كعمر وعلى ومعاوية وغيرهم لم
يصرحوا بالوجوب

وغالب الذين أفطروا لم يصرحوا بالتحريم ولعل من كره
الصوم منهم إنما كرهه لمن يعتقد وجوبه خشية إيجاب ما ليس بواجب كما كره من
كره منهم الاستنجاء بالماء لمن خيف عليه أن يعتقد وجوبه وكما أمر طائفة
منهم من صام في السفر أن يقضي لما ظنوه به من كراهة الفطر في السفر فتكون
الكراهة عائدة إلى حال الفاعل لا إلى نفس الاحتياط بالصوم فإن تحريم الصوم
أو إيجابه كلاهما فيه بعد عن أصول الشريعة والأحاديث المأثورة في الباب إذا
تؤملت إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم إكمال العدة كما دل بعضها على الفعل
قبل الإكمال أما الإيجاب قبل الإكمال للصوم ففيها نظر
فهذا القول
المتوسط هو الذي يدل عليه غالب نصوص أحمد
ولو قيل بجواز الأمرين
واستحباب الفطر لكان عن التحريم والإيجاب يؤثر عن الصديق أنهم كانوا يأكلون
مع الشك في طلوع الفجر لكن
الأصل الرابع: الحج

[ الأصل
الرابع: الحج ]
فصل
وأما الحج فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في صفته وأحكامه
وقد ثبت بالنقل المتواتر عند
الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله
عليه وسلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة فقال من شاء
أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة
فليفعل فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين
الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدى فإنه
لا يحل حتى

يبلغ الهدى محله فراجعه بعضهم في ذلك فغضب وقال أنظروا ما
أمرتكم به فافعلوه وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدى فلم يحل من
إحرامه ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال لو استقبلت من أمري مااستدبرت لما
سقت الهدى ولجعلتها عمرة ولولا أن معي الهدى لأحللت وقال أيضا إني لبدت
رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين
ساقوا الهدى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بن أبي طالب وطلحة بن
عبيد الله فلما كان يوم التروية احرم المحلون بالحج وهم ذاهبون إلى منى
فبات بهم تلك الليلة بمنى وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء
والفجر ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب ونمرة خارجة عن عرنة من يمانيها
وغربيها ليست من الحرم ولا من عرفة فنصبت له القبة بنمرة وهناك كان ينزل
خلفاؤه الراشدون بعده وبها الأسواق وقضاء الحاجة والأكل ونحو ذلك فلما زالت
الشمس ركب وهو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة حيث قد بنى
المسجد وليس هو من الحرم ولا من عرفة وإنما هو برزخ بين المشعرين الحلال
والحرام هناك بينه وبين الموقف نحو ميل فخطب بهم خطبة الحج على راحلته وكان
يوم الجمعة ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين ثم سار
والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة واسمه إلال
على وزن هلال وهو الذي تسميه العامة عرفة فلم يزل هو والمسلمون في الذكر
والدعاء إلى أن غربت الشمس فدفع بهم إلى مزدلفة فصلى المغرب والعشاء بعد
مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة وبات بها حتى طلع الفجر فصلى
بالمسلمين الفجر في أول وقتها مغلسا بها زيادة على كل يوم ثم وقف عند قزح
وهو جبل مزدلفة الذي يسمى المشعر الحرام وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر
الحرام المذكور في القرآن فلم يزل واقفا بالمسلمين إلى أن أسفر جدا ثم دفع
بهم حتى قدم منى فاستفتحها برمى جمرة العقبة ثم رجع

إلى منزله بمنى
فحلق رأسه ثم نحر ثلاثا وستين بدنه من الهدى الذي ساقه وأمر عليا فنحر
الباقي وكان مائة بدنة ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة وكان قد عجل ضعفة
أهل بيته من مزدلفة قبل طلوع الفجر فرموا الجمرة بليل ثم أقام بالمسلمين
أيام منى الثلاث يصلى بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة يرمي كل يوم
الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يفتتح بالجمرة الأولى وهى الصغرى وهى الدنيا
إلى منى والقصوى من مكة ويختم بجمرة العقبة ويقف بين الجمرتين الأولى
والثانية وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر الله
ويدعو فإن المواقف ثلاث عرفة ومزدلفة ومنى ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد
رمى الجمرات هو والمسلمون فنزل بالمحصب عند خيف بنى كنانة فبات هو
والمسلمون فيه ليلة الأربعاء وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن
لتعتمر من التنعيم وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة وقد
بنى بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي
صلى الله عليه وسلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة لأجل أنها كانت قد حاضت
لما قدمت وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة
وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي
بالبيت ولا بين الصفا والمروة ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى
المدينة ولم يقم بعد أيام التشريق ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج
فيها من الحرام إلى الحل إلا عائشة وحدها
فأخذ فقهاء الحديث كأحمد وغيره
بسنته في ذلك كله وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفى
عليه فيه السنة
فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم أصحابه ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه
بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها متعة استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في
سف واحدة وأحرم في أشهر الحج

كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم
وعلموا أن من أفرد الحج واعتمر عقبه من الحل وإن قالوا إنه جائز فإنه لم
يفعله أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة على قول من يقول
إنها رفضت العمرة وأحرمت بالحج كما يقول الكوفيون وأما على قول أكثر
الفقهاء أنها صارت قارنة فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك
وكذلك علموا أن من
لم يسق الهدى وقرن بين النسكين لا يفعله وإن قال أكثرهم كأحمد وغيره إنه
جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة على
قول من قال إنها كانت قارنة
ولم يختلف أئمة الحديث فقهاء وعلماء كأحمد
وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن مفردا للحج ولا كان متمتعا
تمتعا حل به من إحرامه ومن قال من أصحاب أحمد إنه تمتع وحل من إحرامه فقد
غلط وكذلك من قال إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط
وأما من توهم من بعض
الفقهاء أنه اعتمر بعد حجته كما يفعله المختارون للأفراد إذا جمعوا بين
النسكين فهذا لم يروه أحد ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته صلى الله
عليه وسلم فأنه لا خلاف بينهم أنه صلى الله عليه وسلم لا هو ولا أحد من
أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة ولهذا لا يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا
بمساجد عائشة حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هى ولا
كان صلى الله عليه وسلم أيضا قارنا قرانا طاف فيه طوافين وسعى سعيين فإن
الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل
التعريف مرة واحدة
فمن قال من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو
أحمد شيئا من هذه المقالات فقد غلط
وسبب غلطه ألفاظ مشتركة سمعها في
ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة

النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت
في الصحاح عن غير واحد منهم عائشة وابن عمر وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم
تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت أيضا عنهم أنه أفرد الحج وعامة الذين نقل عنهم
أنه أفرد الحج ثبت عنهم أنهم قالوا إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت عن أنس
ابن مالك أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك عمرة
وحجا" وعن عمر أنه اخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أتاني آت من
ربي يعني بوادي العقيق وقال قل عمرة في حجة ولم يحك أحد لفظ النبي صلى الله
عليه وسلم الذي أحرم به إلا عمر وأنس
فلهذا قال الإمام أحمد لا أشك أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأما ألفاظ الصحابة فإن التمتع بالعمرة
إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه سواء جمع بينهما
بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه فهذا التمتع العام يدخل فيه القرآن ولذلك
وجب عليه الهدى عند عامة الفقهاء إدخالا له في عموم قوله تعالى: {فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
وإن كان اسم التمتع قد يختص بمن اعتمر ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته فمن
قال منهم تمتع بالعمرة إلى الحج لم يرد أنه حل من إحرامه ولكن أراد أنه جمع
في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج لكن لم يبين هل أحرم بالعمرة قبل
الطواف بالبيت وبالجبلين أو أحرم بالحج بعد ذلك فإن كان قد أحرم قبل
الطوافين فهو قارن بلا تردد وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت
وبالجبلين وهو لم يكن حل من إحرامه فهذا يسمى متمتعا لأنه اعتمر قبل
الإهلال بالحج ويسمى قارنا لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة ولهذا
يسميه بعض أصحابنا متمتعا ويسميه بعضهم قارنا ويسميه بعضهم بالإسمين وهو
الأصوب وهذا التمتع الخاص فأما التمتع العام فيشمله بلا تردد

ومع هذا
فالصواب ما قطع به أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج قبل الطواف
لقوله لبيك عمرة وحجا ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ} لأن العمرة دخلت في الحج كما
قاله النبي صلى الله عليه وسلم
وإذا كانت عمرة التمتع جزءا من حجه
فالهدى المسوق لا ينحر حتى يقضي التفث كما قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وذلك إشارة إلى الهدي المسوق فإنه نذر
ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره لأن نحره إنما يكوه عند بلوغه محله وإنما
يبلغ محله إذا بلغ صاحبه محله لأنه تبع له وإنما يبلغ صاحبه محله يوم النحر
إذ قبل ذلك لا يحل مطلقا لأنه يجب عليه أن يحج بخلاف من اعتمر عمرة مفردة
فإنه حل حلا مطلقا
وأما ما تضمنته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المقام بمنى يوم التروية والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة ثم المقام
بعرنه التي بين المشعر الحرام وعرفة إلى الزوال والذهاب منها إلى عرفة
والخطبة والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنه فهذا كالجمع عليه بين الفقهاء
وإن كان كثير من المصنفين لا يميزه وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات
المحدثة
ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بالمسلمين جميعهم
بعرفة بين الظهر والعصر وبمزدلفة بين المغرب والعشاء وكان معه خلق كثير
ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها ولم يأمر حاضري المسجد
الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه
العصر وأن ينفردا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين فإن هذا مما
يعلم بالاضطرار لمن تتبع الأحاديث أنه لم يكن وهو قول مالك وطائفة من أصحاب
الشافعي وأحمد وعليه يدل كلام أحمد
وإنما غفل قوم من أصحاب الشافعي
وأحمد عن هذا فطردوا قياسهم في
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى Empty رد: كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى {الأربعاء 8 يونيو - 15:24}


الجمع واعتقدوا أنه إنما جمع لأجل السفر والجمع للسفر لا يكون إلا لمن
سافر ستة عشر فرسخا وحاضروا مكة ليسوا عن عرنة بهذا البعد
وهذا ليس بحق
فإنه لو كان جمعه لأجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده وقد أقام بمنى أيام
التشريق ولم يجمع فيها لا سيما ولم ينقل عنه أنه جمع في السفر وهو نازل إلا
مرة واحدة وإنما كان يجمع في السفر إذا جد به السير وإنما جمع لنحو الوقوف
لأجل أن لا يفصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها كما قال أحمد أنه يجوز الجمع
لأجل ذلك من الشغل المانع من تفرق الصلوات
ومن اشترط في هذا الجمع السفر
من أصحاب أحمد فهو أبعد عن أصوله من أصحاب الشافعي فإن أحمد يجوز الجمع
لأمور كثيرة غير السفر حتى قال القاضي أبو يعلى وغيره تفسيرا لقول أحمد إنه
يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة فالجمع ليس من خصائص السفر وهذا بخلاف القصر
فإنه لا يشرع إلا للمسافر
وبهذا قال أكثر الفقهاء كالشافعي وأحمد إن
قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام التشريق لا يجوز إلا للمسافر الذي
يباح له القصر عندهم طردا للقياس واعتقادا أن القصر لم يكن إلا للسفر بخلاف
الجمع حتى أمر أحمد وغيره أن الموسم لا يقيمه أمير مكة لأجل قصر الصلاة
وذهب
طوائف من أهل المدينة وغيرهم منهم مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد
كأبي الخطاب في عبادته الخمس إلا أنه يقصر المكيون وغيرهم وأن القصر هناك
لأجل النسك
والحجة مع هؤلاء أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر من صلى خلفه بعرنه ومزدلفة ومنى من المكيين أن يتموا الصلاة كما أمرهم
أن يتموا لما كان يصلى بهم بمكة أيام فتح مكة حين قال لهم أتموا صلاتكم
فإنا قوم سفر

فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر
فأتموها أربعا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها أربعا ثم لما صلوا خلفه
عشاء الآخرة قاموا فأتموها أربعا ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه لما
أهمل الصحابة نقل مثل هذا
ومما قد يغلط فيه الناس اعتقاد بعضهم أنه
يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر حتى قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه
أخذا فيه بالعمومات اللفظية أو القياسية وهذه غفلة عن السنة ظاهرة فإن
النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط وإنما صلاة العيد
بمنى هي جمرة العقبة فرمى جمرة العقبة لأهل الموسم بمنزلة صلاة العيد
لغيرهم ولهذا استحب أحمد أن تكون صلاة أهل الأمصار وقت النحر بممنى ولهذا
خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الجمرة كان كما يخطب في غير
مكة بعد صلاة العيد ورمى الجمرة تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد الحرام
ومثل
هذا ما قاله طائفة منهم ابن عقيل أنه يستحب للمحرم إذا دخل المسجد الحرام
أن يصلى تحية المسجد كسائر المساجد ثم يطوف طواف القدوم أو نحوه وأما
الأئمة وجماهير الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم فعلى إنكار هذا أما أولا
فلأنه خلاف السنة المتواترة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه فإنهم
لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا إلا بالطواف ثم الصلاة عقب الطواف
وأما
ثانيا فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف كما أن تحية سائر المساجد هي
الصلاة
وأشنع من هذا استحباب بعض أصحاب الشافعي لمن سعى بين الصفا
والمروة أ ن يصلى ركعتين بعد السعي على المروة قياسا على الصلاة بعد الطواف
وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف ورأوا أن هذه
بدعة ظاهرة القبح فأن السنة مضت بأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه
طافوا

وصلوا كما ذكر الله الطواف والصلاة ثم سعوا ولم يصلوا عقب
السعي فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات أو بالموقف بعرفات
أو جعل الفجر أربعا قياسا على الظهر والترك الراتب سنة كما أن الفعل
الراتب سنة بخلاف ما كان تركه بعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث
بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ
كجمع القرآن في المصحف وجمع الناس التراويح على إمام واحدا وتعلم العربية
وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم
الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات
شرطه أو وجود مانع
فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعا
لفعله أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأن فعله بدعة
وضلالة ويمتنع القياس بمثله وإنجاز القياس في النوع الأول وهو مثل قياس
صلاة العيدين والإستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس في أن يجعل لها أذان
وإقامة كما فعله بعض المروانية في العيدين وقياس حجرته ونحوها من مقابر
الأنبياء على بيت الله في الإستلام والتقبيل ونحو ذلك من الأقيسة التي تشبه
قياس الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}
و
أخذ فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وغيرهما مع فقهاء الكوفة ما عليه جمهور
الصحابة والسلف بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت عنه أنه
لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة
و ذهب طائفة من السلف من الصحابة
والتابعين وأهل المدينة كمالك إلى أن التلبية تنقطع بالوصول إلى الموقف
بعرفة لأنها إجابة فتنقطع بالوصول إلى المقصد وسنة رسول الله عليه وسلم هي
التي يجب إتباعها
و أما المعنى فإن الواصل إلى عرفة وإن كان قد وصل إلى
هذا الموقف فإنه قد دعي بعده إلى موقف آخر وهو مزدلفة فإذا قضى الوقوف
بمزدلفة

فقد دعي إلى الجمرة فإذا شرع في الرمي فقد انقضى دعاؤه ولم
يبق مكان يدعى إليه محرما لأن الحلق والذبح يفعله حيث أحب من الحرم وطواف
الإفاضة يكون بعد التحلل الأول
ولهذا قالوا أيضا بما ثبت عن النبي صلى
الله عليه وسلم إنه يلبي بالعمرة إلى أن يستلم الحجر وإن كان ابن عمر ومن
اتبعه من أهل المدينة كمالك قالوا يلبي إلى أن يصل إلى الحرم فإنه وإن وصل
إليه فإنه مدعو إلى البيت
نعم يستفاد من هذا المعنى أنه إنما يلبي حال
سيره لا حال الوقوف بعرفة ومزدلفة وحال المبيت بها وهذا مما اختلف فيه أهل
الحديث
فأما التلبية حال السير من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى
فاتفق من جمع الأحاديث الصحيحة عليه
و اختلف الناس في أكل المحرم لحم
الصيد الذي صاده الحلال وذكاه على ثلاثة أقوال
فقالت طائفة من السلف هو
حرام إتباعا لما فهموه من قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ
الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من
أنه رد لحم الصيد لما أهدى إليه
و قال آخرون منهم أبو حنيفة بل هو مباح
مطلقا عملا بحديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي وأهدى لحمه للنبي صلى
الله عليه وسلم وأخبره بأنه لم يصده له كما جاء في الأحاديث الصحيحة
و
قالت الطائفة الثالثة التي فيها فقهاء الحديث بل هو مباح للمحرم إذا لم
يصده له المحرم ولا ذبحه من أجله توفيقا بين الأحاديث كما روى جابر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم
تصيدوه أو يصاد لكم قال الشافعي هذا أحسن حديث في هذا الباب وأقيس وهذا
مذهب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم

وإنما اختلفوا إذا صيد لمحرم بعينه
فهل يباح لغيره من المحرمين على قولين هما وجهان في مذهب أحمد رحمه الله
تعالى
الأصل الخامس: المعاملات

القاعدة الأولى:
الأصل في العقود الإيجاب والقبول


[ القاعدة الأولى: الأصل في العقود
الإيجاب والقبول ]
فصل
وأما العقود من المعاملات المالية والنكاحية
وغيرهم
فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة فإن ذلك فيها أيسر منه في
العبادات
فمن ذلك صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال
أحدها أن
الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي قد يخصها بعض
الفقهاء باسم الإيجاب والقبول سواء في ذلك البيع والإجارة والهبة والنكاح
والوقف والعتق وغير ذلك وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد يكون
تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع والوقف ويكون تارة رواية مخرجة
كالهبة والإجارة
ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها
كما في الأخرس ويقيمون الكناية أيضا مقام العبارة عند الحاجة وقد يستثنون
مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها كما في الهدي إذا عطب
دون محله فإنه ينحر ثم يصبغ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس ومن أخذه
ملكه وكذلك الهدية ونحو ذلك لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود
هو التراضي المذكور في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً} والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة
ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها تحتمل وجوها كثيرة ولأن العقود
من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات
و القول
الثاني أنها تصح بالأفعال فما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات

المحقرات
وكالوقف في مثل من بنى مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه أو سبل أرضا الدفن
فيها أو بنى مطهرة وسبلها للناس وكبعض أنواع الإجارة كمن دفع ثوبه إلى غسال
أو خياط يعمل بالأجرة أو ركب سفينة ملاح وكالهدية ونحو ذلك فإن هذه العقود
لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أكثر أمور الناس ولأن الناس من
لدن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه
الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود
وهذا هو الغالب على أصول
أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد ووجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في
الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف
و القول الثالث أن
العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل وبكل ما عده الناس بيعا
أو إجارة فإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل
قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال وليس لذلك حد مستقر لا في شرع ولا
في لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تنوعت لغاتهم فإن ألفاظ البيع
والإجارة في لغة العرب ليست هي الألفاظ التي في لغة الفرس أو الروم أو
الترك أو البربر أو الحبشة بل قد تختلف ألفاظ اللغة الواحدة
ولا يجب على
الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد
بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم وإن كان
قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد ولهذا
يصحح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما
والفعل من الآخر بأن يقول خذ هذا بدراهم فيأخذه أو يقول أعطني خبزا بدراهم
فيعطيه ما يقبضه أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن ويقبض جزرة البقل
أو الحلواء أو غير ذلك

كما يتعامل به غالب الناس أو يضع المتاع له
ليوضع بدله فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه كما يحكيه التجار عن عادة بعض
أهل المشرق فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع وكذلك في الهبة كل ما عده الناس
هبة
ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة
جارية بأنه عطية لا عارية وكذلك الإجارات مثل ركوب سفينة الملاح المكاري
وركوب دابة الجمال أو الحمار أو البغال المكاري على الوجه الذي اعتقد أنه
إجارة ومثل الدخول إلى الحمامات التي يدخلها الناس بالأجر ومثل دفع الثوب
إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواء يطبخ أو يشوي
بالأجر سواء شوي اللحم مشروحا أو غير مشروح حتى اختلف أصحابه في الخلع هل
يقع بالمعاطاة مثل أن تقول اخلعني بهذه الألف أو بهذا الثوب فيقبض العوض
على الوجه المعتاد من أن ذلك رضا منه بالمعاوضة
فذهب العكبريون كأبي حفص
العكبري وأبي على بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح وذكروا من كلام أحمد ومن
قبله من السلف من الصحابة والتابعين ما يوافق قولهم ولعله هو الغالب على
نصوصه بل لقد نص على أن الطلاق يقع بالقول وبالفعل واحتج على أنه يقع
بالكتاب بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به
أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به" قال وإذا كتب فقد عمل
و ذهب
البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت كأبي عبد الله بن حامد ومن اتبعهم
كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام وذكروا من
كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح والنكاح يفتقر
إلى لفظ فكذلك فسخه
و أما النكاح فقال هؤلاء كابن حامد والقاضي وأصحابه
مثل أبي الخطاب

و عامة المتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح
والتزويج كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكناية لأن الكناية
تفتقر إلى نية والشهادة شرط في صحة النكاح والشهادة على النيه غير ممكنة
ومنعوا من انعقاد النكاح بلفظ الهبة أو العطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك
وقال
أكثر هؤلاء كابن حامد والقاضي والمتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية
لمن يحسنها ومن لم يقدر على تعلمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان وإن قدر
على تعلمها ففيه وجهان بناء على أنه مختص بهذين اللفظين وأن فيه ثواب
التعبد
وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله ولم ينص أحمد
على ذلك ولا نقلوا عنه نصا في ذلك وإنما نقلوا قوله في رواية أبي الحرث إذا
وهبت نفسها لرجل فليس بنكاح فإن الله تعالى قال {خَالِصَةً لَكَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وهذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي صلى
الله عليه وسلم وهو النكاح بغير مهر بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن
النكاح ينعقد بقوله لأمته أعتقتك وجعلت عتقك صداقك وبقوله جعلت عتقك صداقك
أو صداقك عتقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته
فاختلف أصحابه فأما أبو
عبد الله بن حامد فطرد قياسه وقال لا بد مع ذلك من أن يقول تزوجتها أو
نكحتها لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين الصيغتين
و أما
القاضي أبو يعلى وغيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا
عليه ابن حامد وأن ذلك من صور الاستحسان
و ذكر ابن عقيل قولا في المذهب
أنه ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج لنص أحمد بهذا وهذا أشبه بنصوص أحمد
وأصوله
و مذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه فأن أصحاب مالك اختلفوا هل

ينعقد
بغير لفظ الإنكاح والتزويج على قولين والمنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به
النبي صلى الله عليه وسلم من هبة البضع بغير مهر قال ابن القاسم وإن وهب
ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك فهو عندي جائز وما ذكره بعض
أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما فإن
الحكم مبني على مقدمتين
إحداهما أن ما سوي ذلك كناية وأن الكناية مفتقرة
إلى النية ومذهبهما المشهور أن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة
وتقوم مقام إظهار النية ولهذا جعلا الكنايات في الطلاق والقذف ونحوهما مع
دلالة الحال كالصريح
و معلوم أن دلالات الأحوال في النكاح معروفة من
اجتماع الناس لذلك والتحدث بما اجتمعوا له فإذا قال بعد ذلك ملكتكها لك
بألف درهم علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الانكاح وقد شاع هذا اللفظ
في عرف الناس حتى سموا عقده إملاكا وملاكا ولهذا روى الناس قول النبي صلى
الله عليه وسلم لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد رووه تارة
أنكحتكها بما معك من القرآن وتارة ملكتكها وإن كان النبي صلى الله عليه
وسلم لم يثبت عنه أنه اقتصر على ملكتكها بل إما أنه قالهما جميعا أو قال
أحدهما لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء رووا الحديث تارة
هكذا وتارة هكذا
ثم تعيين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن
أصول أحمد ونصوصه وعن أصول الأدلة الشرعية إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم
وهو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة ومعلوم أن العتق لا يتعين له
لفظ لا عربي ولا عجمي وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لها لفظ عربي
بالإجماع

ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من
ذلك اللفظ كما يفهمه من اللغة التي اعتادها
نعم لو قيل تكره العقود
بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة
لكان متوجها كما قد روي عن مالك وأحمد والشافعي ما يدل على كراهة اعتياد
المخاطبة بغير العربية لغير حاجة وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع
وقد
ذكر أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل
والمتأخرين أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم فما اعتقدوه نكاحا بينهم
جاز إقرارهم عليه إذا أسلموا وتحاكموا إلينا إذا لم يكن حينئذ مشتملا على
مانع وإن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الإقرار عليه حتى قالوا لو
قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته واعتقداه نكاحا أقرا عليه وإلا فلا
و
معلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون
الكافر وإنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح بأن يميز عن السفاح كما
قال تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}
وقال {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} فأمر
بالولي الشهود ونحو ذلك مبالغة في تمييزه عن السفاح وصيانة للنساء عن
التشبه بالبغايا حتى شرع فيه الضرب بالدف والوليمة الموجبة لشهرته ولهذا
جاء في الأثر المرأة لا تزوج نفسها فإن البغي هي التي تزوج نفسها وأمر فيه
بالإشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا فإنه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات في
مذهب أحمد ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن
السفاح وبأنه يحفظ النسب عند التجاحد
فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع
في الكتاب والسنة والآثار حكمتها بينة

فأما التزام لفظ مخصوص فليس
فيه أثر ولا نظر
وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح
بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة وهي
التي تعرفها القلوب وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال {فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقال {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وقال
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقال {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وقال {إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقال {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقال {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا
تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا
شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ
عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقال {مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} وقال {مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} وقال {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ} وقال {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ} وقال {فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ} وقال {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقال {فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إلى غير ذلك من الآيات
المشروع فيها هذه العقود إما أمرا وإما إباحة والمنهي فيها عن بعضها كالربا
فإن الدلالة فيها من وجوه
أحدها أنه اكتفى بالتراضي في البيع في قوله
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وبطيب نفس في
التبرع في قوله {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه الآية في
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى Empty رد: كتاب: القواعد النورانية الفقهية الجزء الثانى {الأربعاء 8 يونيو - 15:24}


جنس التبرعات ولم يشترط لفظا معينا ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى
طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم
يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة من الأقوال والأفعال
فنقول قد
وجد التراضي وطيب النفس والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وهو
ظاهر في بعضها وإذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن وبعض الناس قد يحمله
اللد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس
فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن مواطأة وتلقين
في الأخبار والمذاهب فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها
ولهذا قلنا إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب
لأن الفطرة السليمة لا تتفق على الكذب فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق
جماعات على الكذب
الوجه الثاني أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة
رسوله معلقا بها أحكام شرعية وكل اسم فلا بد له من حد فمنه ما يعلم حده
باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والسماء والأرض ومنه ما يعلم بالشرع
كالمؤمن والكافر والمنافق وكالصلاة والزكاة والصيام والحج وما لم يكن له حد
في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله
صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه"
ومعلوم أن
البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا لا في كتاب الله ولا
سنة رسوله ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة
الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ
الخاصة بل قد قيل إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم وأنه من البدع
وليس لذلك حد في لغة العرب بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا
يسمون هذا بيعا حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر

بل
تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها في لغتهم تسمى
بيعا والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها فإذا لم يكن له حد في
الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم فما سموه بيعا
فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة
الوجه الثالث أن تصرفات العباد من الأقوال
والأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم
فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا
يثبت الأمر بها إلا بالشرع
و أما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم
مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله
سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن يكون
مأمور ا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور ولهذا كان
أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل في العبادات التوقيف فلا
يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ
شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}
و
العادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى
قوله {أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ
مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين
ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى:
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً
فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ
لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ
يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ
لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ
وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ

َشَاءُ بِزَعْمِهِمْ
وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات
وفي صحيح مسلم عن عياض بن
حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى إني
خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن
يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
وهذه قاعدة عظيمة نافعة وإذا كان كذلك
فنقول
البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها
في معاشهم كالأكل والشرب واللباس فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات
بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت ما لا بد منه وكرهت ما لا
ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها
و
إذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة كما
يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو
يكون مكروها وما لم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي
و
أما السنة والإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة
من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات علم ضرورة أنهم لم يكونوا
يلتزمون الصيغة من الطرفين والآثار في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها إذ الغرض
التنبيه على القواعد وإلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا
فمن
ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى مسجده والمسلمون بنوا المساجد
على عهده وبعد موته ولم يأمر أحدا أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا
اللفظ بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجدا بنى الله

له
بيتا في الجنة" فعلق الحكم بنفس بنائه وفي الصحيحين أنه لما اشترى الجمل
من عبد الله بن عمر بن الخطاب قال هو لك يا عبد الله ابن عمر ولم يصدر من
ابن عمر قبول وكان يهدي ويهدي له فيكون قبض الهدية قبولها ولما نحر البدنات
قال من شاء اقتطع مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا وكان الاقتطاع هو
القبول وكان يسأل فيعطي أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطى ويكون الإعطاء هو
الإيجاب والأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ
ولا يلتزم أن يتلفظ لهم بصيغة كما في إعطائه للمؤلفة قلوبهم وللعباس وغيرهم
وجعل
إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من
المدلسات
وأيضا فإن التصرفات جنسان عقود وقبوض كما جمعها النبي صلى الله
عليه وسلم في قوله: "رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا
قضى سمحا إذا اقتضى" ويقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء والمقصود من
العقود إنما هو القبض والاستيفاء فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض وجوازه
بمنزلة إيجاب الشارع ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به
في الشرعيات
والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد وتتعلق به أحكام شرعية
كما تتعلق بالقبض فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير
حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحول والأوقات فكذلك العقود وإن حررت
عبارته قلت أحد نوعى التصرفات فكان المرجوع فيه إلى عادة الناس كالنوع
الآخر
ومما يلتحق بهذا أن الإذن العرفي في الإباحة أو التمليك أو التصرف

بطريق
الوكالة كالإذن اللفظي فكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها
من قول وفعل والعلم برضي المستحق يقوم مقام إظهاره للرضا
وعلى هذا يخرج
مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان وكان غائبا
وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة ومنزل جابر بدون استئذانهما لعلمه
أنهما راضيان بذلك ولما دعاه صلى الله عليه وسلم اللحام سادس ستة اتبعهم
رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري أن
أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه قال ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا وكذلك
معنى قول أبي جعفر إن الإخوان من يدخل أحدهم يده في جيب صاحبه فيأخذ منه
ما شاء
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن استوهبه كبة شعر أما ما كان
لي ولبني عبد المطلب فقد وهبته لك وكذلك إعطاؤه المؤلفة قلوبهم عند من
يقول إنه أعطاهم من أربعة الأخماس
وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن
حزم وعروة بن الجعد لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم في شراء شاه بدينار
فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار
فإن التصرف بغير استئذان خاص تارة
بالمعاوضة وتارة بالتبرع وتارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفي عام أو خاص

القاعدة
الثانية: في المعاقد حلالها وحرامها
فصل
القاعدة الثانية: في
المعاقد حلالها وحرامها


و الأصل في ذلك أن الله حرم في كتابه أكل
أموالنا بيننا بالباطل وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس
بالباطل وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس
بالباطل وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير
رضا المستحق والاستحقاق
و أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما
الله في كتابه هما الربا

و الميسر فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في
آخر سورة البقرة وسور آل عمران والروم والمدثر وذم اليهود عليه في سورة
النساء وذكر تحريم الميسر في المائدة
ثم إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما
رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه والغرر هو المجهول العاقبة فإن
بيعه من الميسر الذي هو القمار وذلك أن العبد إذا أبق أو الفرس أو البعير
إذا شرد فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة فيشتريه المشتري بدون ثمنه
بكثير فإن حصل له قال البائع قمرتني وأخذت مالي بثمن قليل وإن لم يحصل قال
المشتري قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي
إيقاع العداوة والبغضاء مع ما فيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من
الظلم ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء
و ما نهى عنه النبي صلى الله
عليه وسلم من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين ومن بيع السنين وبيع
الثمر قبل بدو صلاحه وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك كله من نوع الغرر
وأما الربا فتحريمه في القرآن أشد ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر كما خرجاه
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا
طيبات أحلت لهم بظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال
الناس بالباطل وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات وكلاهما أمر
مجرب عند الناس
و ذلك أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج وإلا
فالموسر لا يأخذ ألفا حالة

بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة
لتلك الألف وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع
تلك الزيادة ظلما للمحتاج بخلاف الميسر فإن المظلوم فيه غير معين ولا هو
محتاج إلى العقد وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع
على الصفة التي ظناها والربا فيه ظلم محقق لمحتاج ولهذا كان ضد الصدقة فإن
الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء فإن مصلحة الغني
والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له
على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى والغريم محتاج إلى دينه فهذا من
أشد أنواع الظلم ويعظمه لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكله وهو الأخذ
وموكله وهو المحتاج المعطي الزيادة وشاهديه وكاتبه لإعانتهم عليهم
ثم إن
النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى
الفساد المحقق كما حرم قليل الخمر لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل فإن
الحكمة فيه قد تخفى إذا العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات
مثل كون الدرهم صحيحا والدرهمين مكسورين أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد
نافق ونحو ذلك ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية وغيرهما فلم
يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر كعبادة بن الصامت وأبي سعيد
وغيرهما بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل
و أما الغرر فإنه
ثلاثة أنواع إما المعدوم كحبل الحبلة وبيع السنين وإما المعجوز عن تسليمه
كالعبد الآبق وإما المجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه أو قدره كقوله
بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتي أو بعتك عبيدي
فأما المعين المعلوم جنسه
وقدره المجهول نوعه أو صفته كقوله بعتك الثوب الذي في كمي أو العبد الذي
أملكه ونحو ذلك ففيه خلاف مشهور وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة وعن أحمد
فيه ثلاث روايات إحداهن لا يصح

بيعه بحال كقول الشافعي الجديد
والثانية يصح وإن لم يوصف وللمشتري الخيار إذا رآه كقول أبي حنيفة وقد روي
عن أحمد لا خيار له والثالثة وهي المشهور أنه لا يصح بالصفة ولا يصح بدون
الصفة كالمطلق الذي في الذمة وهو قول مالك
و مفسدة الغرر أقل من الربا
فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا
مثل بيع العقار جملة وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس ومثل بيع الحيوان
الحامل أو المرضع وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن وإن كان قد نهي عن بيع
الحمل مفردا وكذلك اللبن عند الأكثرين وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها
فإنه يصح مستحق الإبقاء كما دلت عليه السنة وذهب إليه الجمهور كمالك
والشافعي وأحمد وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد
و
جوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت أن يشترط المبتاع
ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها لكن على وجه البيع للأصل
فظهر
أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره
و لما احتاج
الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص فلم يجوز المفاضلة المتيقنة بل سوغ
المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب خمسة أوسق
أو ما دون النصاب على اختلاف القولين الشافعي وأحمد وإن كان المشهور عن
أحمد ما دون النصاب
إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول
غيره فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس في
البيوع كما كان يقال عطاء أفقه الناس في المناسك وإبراهيم أفقههم في الصلاة
والحسن أجمع لذلك كله ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل
فيه لمن استقرأ ذلك في أجوبته ولهذا كان أحمد موافقا له في الأغلب فإنهما
يحرمان

الربا ويشددان فيه حق التشديد لما تقدم من شدة تحريمه وعظم
مفسدته ويمنعان الاحتيال له بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه وإن
لم تكن حيلة وإن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو
لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها
و جماع الحيل
نوعان إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا
ليس بمقصود
فالأول مسألة مد عجوة وضابطها أن يبيع ربويا بجنسه ومعهما
أو مع أحدهما ما ليس من جنسه مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو
ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي
دينار
فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة مد عجوة
بلا خلاف عند مالك وأحمد وغيرهما وإنما يسوغ هذا من جوز الحيل من الكوفيين
وإن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا
و أما إن كان كلاهما مقصودا كمد عجوة
ودرهم بمد عجوة ودرهم أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد والمنع قول
مالك والشافعي والجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد
و أما إن كان
المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي كبيع شاة ذات صوف ولبن بصوف أو
لبن فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز
و النوع الثاني من الحيل أن يضما
إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود مثل أن يتواطآ على أن يبيعه بجرزه ثم
يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب أو يوطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما
عرضا ثم يبيعه المبتاع لمعامله المرابي ثم يبيعه المرابي لصاحبه وهي الحيلة
المثلثة أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة ونحو ذلك مثل أن
يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين أو يكريه دارا تساوي ثلاثين
بخمسة ونحو ذلك

فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم
الله من أجلها الربا وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله
بن عمرو أنه قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا
بيع ما ليس عندك قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو من جنس حيل اليهود فإنهم
إنما استحلوا الربا بالحيل ويسمونه المشكند وقد لعنهم الله على ذلك
و قد
روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى
الحيل" وفي الصحيحين عنه أنه قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم
فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها" وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس قمارا من أدخل فرسا بين
فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار" وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل
السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده البيعان بالخيار ما لم يتفرقا
ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله
و دلائل تحريم الحيل من الكتاب
والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما
كتبناه في ذلك وذكرنا ما يحتج به من يجوزها كيمين أبي أيوب وحديث تمر خيبر
ومعاريض السلف وذكرنا جواب ذلك
ومن ذرائع ذلك مسألة العينة وهو أن يبيعه
سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين
لأنها حيلة وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم
الجهاد في سبيل الله أرسل الله

عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا
دينكم وإن لم يتواطأ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدا للذريعة ولو كانت عكس
مسألة العينة من غير تواطؤ ففيه روايتان عن أحمد وهو أن يبيعه حالا ثم
يبتاع منه بأكثر مؤجلا وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه
ولو كان مقصود
المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى
التورق ففي كراهته عن أحمد روايتان والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك
فيما أظن بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع أو القنية فهذا
يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق
ففي الجملة أهل المدينة وفقهاء الحديث
مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها وقولهم في
ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة وتدل عليه معاني الكتاب والسنة
و أما
الغرر فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي أما الشافعي فإنه يدخل في
هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء مثل الحب والثمر في قشره
الذي ليس بصوان كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر وكالحب في سنبله
فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء
أخضر فخرج ذلك له قولا واختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الاصطخري وروى
عنه أنه ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد فدل
على جواز بيعه اشتداده وإن كان في سنبله فقال إن صح هذا أخرجته من العام أو
كلاما قريبا من هذا وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع
قال ابن المنذر
جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة وعبيد الله ابن الحسن وأهل البصرة
وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وقال الشافعي مرة لا يجوز

ثم بلغه حديث
ابن عمر فرجع عنه وقال به قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به
و
ذكر بعض أصحابه له قولين وأن الجواز هو القديم حتى منع من بيع الأعيان
الغائبة بصفة وغير صفة متأولا أن بيع الغائب غرر وإن وصف حتى اشترط فيما في
الذمة كدين السلم من الصفات وضبطها ما لم يشترط غيره ولهذا يتعذر أو يتعسر
على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول وقاس على بيع الغرر
جميع العقود من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير وفدية الخلع
والكتابة وصلح أهل الهدنة وجزية أهل الذمة ما اشترطه في البيع عينا ودينا
ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع وإن كانت هذه
العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروط أخر
و أما أبو حنيفة
فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته
ويجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة من المثل ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا
صفة مع الخيار لأنه يرى وقف العقود لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما
من المعاملات مطلقا والشافعي يجوز بيع بعض ذلك ويحرم أيضا كثيرا من الشروط
في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد
و أبو حنيفة
يجوز بعض ذلك ويجوز من الوكالات والشركات مالا يجوزه الشافعي حتى جوز شركة
المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق وقال الشافعي إن لم تكن شركة المفاوضة
باطلة فما أعلم شيئا باطلا
فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص لكن أصول
الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك
و أما مالك فمذهبه أحسن
المذاهب في هذا فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل
غرره بحيث يحتمل في العقود حتى يجوز بيع

المقاتي جملة وبيع المغيبات
في الأرض كالجزر والفجل ونحو ذلك
و أحمد قريب منه في ذلك فإنه يجوز هذه
الأشياء ويجوز على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدا مطلقا أو عبدا من عبيده
ونحو ذلك مما لا يزيد جهالة على مهر المثل وإن كان من أصحابه من يجوز
المبهم دون المطلق كأبي الخطاب ومنهم من يوافق الشافعي فلا يجوز في المهر
وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع كأبي بكر عبد العزيز ويجوز على
المنصوص عنه في فدية الخلع أكثر من ذلك حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز
في المهر كقول مالك مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه لكن المنصوص عنه أنه
لا يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر ونحوه إلا إذا قلع وقال هذا الغرر شيء
ليس يراه كيف يشتريه والمنصوص عنه أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار
والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة ولا يباع من المقاتي والمباطخ إلا ما ظهر
دون ما بطن ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة كقول أبي حنيفة والشافعي لأن ذلك
غرر وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك
في كل مغيب كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك كقول مالك
وقال الشيخ أبو
محمد إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله كالبصل المبيع أخضر والكراث والفجل أو
كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر
ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعا وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز
بيعه في الأرض لأن الحكم للأغلب وإن تساويا لم يجز أيضا لأن الأصل اعتياد
الشرط وإنما سقط في الأقل التابع
و كلام أحمد يحتمل وجهين فإن أبا داود
قال قلت لأحمد بيع الجزر في الأرض قال لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه هذا
الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه فعلل بعدم الرؤية

فقد يقال إن لم يره
كله لم يبع وقد يقال رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه
العبد
وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها كما هو العادة غلبا
فقال قوم من المتأخرين يجوز ذلك لأن بيع أصول الخضراوات كبيع الشجر وإذا
باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز فذلك هذا وذكر أن هذا مذهب أبي
حنيفة والشافعي
وقال المتقدمون لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه وهو
إنما نهى عما يعتاده الناس وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار
أن يباع دون عروقه والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده فإن المنصوص عنه في
رواية الأثرم وإبراهيم بن الحرث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه
إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل
معها حيلة لم يحز وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد
صلاحه فإن كانت الأرض هى المقصود جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا وإن كان
المقصود هو الثمر والزرع فاشترى الأرض لذلك لم يجز وإذا كان هذا قوله في
ثمرة الشجر فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ إنما هو الخضراوات دون
الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر
وقد خرج ابن عقيل
وغيره فيها وجهين
أحدهما جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين
عنه في بيع ما لم يره ولا شك انه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا لا
يصح بيع ما لم يره فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب
والثاني أنه
يجوز بيعها مطلقا كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز وهذا القول هو قياس أصول
أحمد وغيره لوجهين
أحدهما أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه
المدفونات على حقيقتها

ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه
والمرجع في كل شئ إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون
هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأوكد
الثاني
أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على
أصحابه ضرر عظيم فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه وإن
قلعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره
الأخضر
وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من
المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب أو البائع الى أكل الثمر فحاجة
البائع هنا أو سحد بكثير وستقرر ذلك إن شاء الله
وكذلك قياس أصول أحمد
وغيره من فقهاء الحديث جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على
بيع معدوم إذا بدا صلاحها كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخله أو شجره
أن يباع جميع ثمرها وإن كان فيها ما لم يصلح بعد
وغاية ما اعتذروا به
عن خروج هذا من القياس أن قالوا إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة
واحدة لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد لأن البسرة
تصفر في يومها وهذا بعينه موجود في المقتاة
وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي
وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد
ليس بتابع للموجود وإنما يكون ذلك للمشتري لأنه موجود في ملكه
والجمهور
من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر لأنه يجب على البائع سقى الثمرة ويستحق
إبقائها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على
البائع ما به تؤخذ فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي
أوجبه العقد لا ما كان من موجبات الملك

وأيضا فإن الرواية اختلفت عن
أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع
إلا ما صلح منها على روايتين
أشهرهما عنه أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه
وهى اختيار قدماء أصحابه كأبي بكر وابن شاقلا
والرواية الثانية يكون بدو
الصلاح في البعض صلاحا للجميع وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي
ومن تبعها
ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال إذا كان في بستان بعضه
بالغ وبعضه غير بالغ بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ فمنهم من فرق بين
صلاح القليل والكثير كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني وأبي البركات
وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح ومنهم من سوى بين الصلاح القليل
والكثير كأبي الخطاب وجماعات وهو قول مالك والشافعي والليث وزاد مالك فقال
يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة وحكوا ذلك رواية عن أحمد
واختلف هؤلاء
هل يكون صلاح النوع كالبرني من الرطب صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في
مذهب الشافعي وأحمد
أحدهما المنع وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد
والثاني
الجواز وهو قول أبي الخطاب
وزاد الليث على هؤلاء فقال صلاح الجنس
كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار
ومأخذ من جوز شيئا من ذلك
أن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة
واختلاف الأيدي وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين ومن سوى
بينهما فإنه قال المقصود الأمن من العاهة وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح
ومأخذ
من منع ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى يبدو صلاحها" يقتضي بدو
صلاح الجميع

والغرض من هذه المذاهب أن من جوز بيع البستان من الجنس
الواحد لبدو الصلاح في بعضه فقياس قوله جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح
بعضها والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك
أكثر إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات
والخيارات وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق فإنه أمر لا ينضبط فإن اجتهاد
الناس في ذلك متفاوت
والغرض من هذا أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في
هذه المسائل كما قد يروي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أخرجه أصحابه على
أصوله وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في
المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل
قولان فى وقتين فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد
بجواب آخر في وقت آخر وإذا كانت الأفراد مستوية كان له فيها قولان فإن لم
يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد فقالت طائفة منهم أبو الخطاب لا يخرج وقال
الجمهور كالقاضي أبي يعلى يخرج الجواب إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق
كما اقتضته أصوله ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين وإن لم يعلم
هل هو ممن يفرق أم لا وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما فإن كان
سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا به وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو
حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم
يباشروا ذلك فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا وإنما هو أمر من أمر
الدنيا لم يعلمه العالم فإن العلماء ورثة الأنبياء وقد قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم فأما ما كان من أمر دينكم فإلى"
وهذا
الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا لأن
التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والاثبات فإذا كان في وقت قد قال إن

هذا
حرام وقال في وقت آخر فيه أو في مثله إنه ليس بحرام أو قال ما يستلزم أنه
ليس بحرام فقد تناقض قولاه وهو مصيب في كليهما عند من يقول كل مجتهد مصيب
وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده
وأما الجمهور
الذين يقولون إن الله حكما في الباطن علمه في إحدى المقالتين ولم يعلمه في
المقالة التي تناقضها وعدم علمه به مع اجتهاد مغفور له مع ما يثاب عليه من
قصده للحق واجتهاد في طلبه ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهاد ن العلماء
بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ
والمنسوج ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا بخلاف أحد قولي العالم
المتناقضين
هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق
الراشد
وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق
الراشد
وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مذمومون في مناقضتهم لأنهم
يتكلمون بغير علم ولا حسن قصد لما يجب قصده
وعلى هذا فلازم قول الإنسان
نوعان
أحدهما لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق
حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره
وكثير ما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب
والثاني لازم قوله
الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذا أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد بينت
أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد
ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم
يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه
هذا
التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود
من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى