صفحة 3 من اصل 3 • 1, 2, 3
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
المسألة السابعة عشرة
وهي هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة
وإذا كانت محدثة مخلوقة وهي من أمر الله فكيف يكون أمر الله محدثا مخلوقا
وقد أخبر سبحانه أنه نفخ في آدم من روحه فهذه الإضافة إليه هل تدل على
أنها قديمة أم لا وما حقيقة هذه الإضافة فقد أخبر عن آدم أنه خلقه بيده
ونفخ فيه من روحه فأضاف اليد والروح إليه إضافة واحدة
فهذه مسألة زل فيها عالم وضل فيها طوائف من بنى آدم وهدى الله اتباع رسوله
فيها للحق المبين والصواب المستبين فأجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم
على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة هذا معلوم بالاضطرار من دين
الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كما يعلم بالاضطرار من دينهم أن العالم
حادث وأن معاد الأبدان واقع وأن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق له
وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الفضيلة على ذلك من
غير اختلاف بينهم في حدوثها وأنها مخلوقة حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في
الكتاب والسنة فزعم أنها قديمة غير مخلوقة واحتج بأنها من أمر الله وأمره
غير مخلوق وبأن الله تعالى أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وكتابه وقدرته
وسمعه وبصره ويده وتوقف آخرون فقالوا لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة
وسئل عن ذلك حافظ أصبهان أبو عبد الله بن منده فقال أما بعد فإن سائلا
سألني عن الروح التي جعلها الله سبحانه قوام نفس الخلق وأبدانهم وذكر أن
أقواما تكلموا في الروح وزعموا أنها غير مخلوقة وخص بعضهم منها أرواح
القدس وأنها من ذات الله قال وأنا أذكر اختلاف أقاويل متقدميهم وأبين ما
يخالف أقاويلهم من الكتاب والأثر وأقاويل الصحابة والتابعين وأهل العلم
وأذكر بعد ذلك وجوه الروح من الكتاب والأثر وأوضح خطأ المتكلم في الروح
بغير علم وأن كلامهم يوافق قول جهم وأصحابه فنقول وبالله التوفيق أن الناس
اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلها من النفس
فقال بعضهم الأرواح كلها مخلوقة وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر واحتجوا
بقول النبي الأرواح جنود مجنده فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة
وقال بعضهم الأرواح من أمر الله أخفي الله حقيقتها وعلمها عن الخلق
واحتجوا بقول الله تعالى قل الروح من أمر ربى
وقال بعضهم الأرواح نور من أنوار الله تعالى وحياة من حياته
واحتجت بقول النبي إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره ثم ذكر
الخلاف في الأرواح هل تموت أم لا وهل تعذب مع الأجساد في البرزخ وفي
مستقرها بعد الموت وهل هي النفس أو غيرها
وقال محمد بن نصر المروزى في كتابه تأول صنف من الزنادقة وصنف من الروافض
في روح آدم ما تأولته النصارى في روح عيسى وما تأوله قوم من أن الروح
انفصل من ذات الله فصار في المؤمن فعبد صنف من النصارى عيسى ومريم جميعا
لأن عيسى عندهم روح من الله صار في مريم فهو غير مخلوق عندهم
وقال صنف من الزنادقة وصنف من الروافض أن روح آدم مثل ذلك أنه غير مخلوق
وتأولوا قوله تعالى ونفخت فيه من روحي وقوله تعالى ثم سواه ونفخ فيه من
روحه فزعموا إن روح آدم ليس بمخلوق كما تأول من قال إن النور من الرب غير
مخلوق قالوا ثم صاروا بعد آدم في الوصي بعده ثم هو في كل نبي ووصى إلى أن
صار في على ثم في الحسن والحسين ثم في كل وصى وإمام فيه يعلم الإمام كل
شيء ولا يحتاج أن يتعلم من أحد
ولا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من
بنى آدم كلها مخلوقة لله خلقها وأنشأها وكونها واخترعها ثم أضافها إلى
نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في
الأرض جميعا منه
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الآدمي مخلوقة مبدعة بإتفاق سلف الأمة
وأئمتها وسائر أهل السنة وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد
من أئمة المسلمين مثل محمد ابن نصر المروزى الإمام المشهور الذي هو من
أعلم أهل زمانه بالإجماع ولا اختلاف وكذلك أبو محمد بن قتيبة قال في كتاب
اللفظ لما تكلم على الروح قال النسم الأرواح قال وأجمع الناس على أن الله
تعالى هو فالق الحبة وبارىء النسمة أي خالق الروح وقال أبو إسحاق ابن
شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة هي أو
غير مخلوقة قال وهذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب أن الروح من الأشياء
المخلوقة وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ وردوا
على من يزعم إنها غير مخلوقة وصنف الحافظ أبو عبد الله بن منده في ذلك
كتابا كبيرا وقبله الإمام محمد بن نصر المروزى وغيره والشيخ أبو سعيد
الخراز وأبو يعقوب النهر جوري والقاضي أبو يعلى وقد نص على ذلك الأئمة
الكبار واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم فكيف بروح
غيره كما ذكره الإمام أحمد فيما كتبه في مجلسه في الرد على
الزنادقة والجهمية ثم أن الجهمى ادعى أمرا فقال أنا أجد آية في كتاب الله
مما يدل على أن القرآن مخلوق قول الله تعالى إنما المسيح عيسى ابن مريم
رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وعيسى مخلوق قلنا له إن الله
تعالى منعك الفهم للقرآن ان عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجرى على القرآن لأنا
نسميه مولودا وطفلا وصبيا وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجرى
عليه الخطاب والوعد والوعيد ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم فلا يحل
لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما
قال في عيسى ولكن المعنى في قوله تعالى إن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له
كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن ولكن كان بكن فكن من الله قول وليس كن
مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية
قالوا روح هذه الخرقة من هذا الثواب قلنا نحن أن عيسى بالكلمة كان وليس
عيسى هو الكلمة وإنما الكلمة قول الله تعالى كن وقوله وروح منه يقول من
أمره كان الروح فيه كقوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما الأرض جميعا
منه يقول من أمره وتفسير روح الله إنما معناها بكلمة الله خلقها كما يقال
عبد الله وسماء الله وأرض الله فقد صرح بأن روح المسيح مخلوقة فكيف بسائر
الأرواح وقد أضاف الله إليه الروح الذي أرسله إلى مريم وهو عبده ورسوله
ولم يدل على ذلك أنه قديم غير مخلوق فقال تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل
لها بشرا سويا قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول
ربك لأهب لك غلاما زكيا فهذا الروح هو روح الله وهو عبده ورسوله
وسنذكر إن شاء الله تعالى أقسام المضاف إلى الله وأنى يكون المضاف صفة له
قديمة وإني يكون مخلوقا وما ضابط ذلك
فصل والذي يدل على خلقها وجوه الوجه الأول قول الله تعالى
الله خالق كل شيء فهذا اللفظ عام لا تخصيص فيه بوجه ما ولا يدخل في ذلك
صفاته فإنها داخلة في مسمى بإسمه فالله سبحانه هو الإله الموصوف بصفات
الكمال فعلمه وقدرته وحياته وإرادته وسمعه وبصره وسائر صفاته داخل في مسمى
اسمه ليس داخلا في الأشياء المخلوقة كما لم تدخل ذاته فيها فهو سبحانه
وصفاته الخالق وما سواه مخلوق
ومعلوم قطعا أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته وإنما هي
مصنوع من مصنوعاته فوقوع الخلق عليها كوقوعه على الملائكة والجن والإنس
الوجه الثاني قوله تعالى زكريا وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا وهذا الخطاب
لروحه وبدنه ليس لبدنه فقط فإن البدن وحده لا يفهم ولا يخاطب ولا يعقل
وإنما الذي يفهم ويعقل ويخاطب هو الروح
الوجه الثالث قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون
الوجه الرابع قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا
لآدم وهذا الإخبار إنما يتناول أرواحنا وأجسادنا كما يقوله الجمهور واما
أن يكون واقعا على الأرواح قبل خلق الأجساد كما يقوله من يزعم ذلك وعلى
التقدير فهو صريح في خلق الأرواح
الوجه الخامس النصوص الدالة على أنه سبحانه ربنا ورب آبائنا الأولين ورب
كل شيء وهذه الربوبية شاملة لأرواحنا وأبداننا فالأرواح مربوبة له مملوكة
كما ان الأجسام كذلك وكل مربوب مملوك فهو مخلوق
الوجه السادس أول سورة في القرآن وهي الفاتحة تدل على أن الأرواح مخلوقة
من عدة أوجه أحدها قوله تعالى الحمد لله رب العالمين والأرواح من جملة
العالم فهو ربها
الثاني قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فالأرواح عابدة له مستعينة ولو
كانت غير مخلوقة لكانت معبودة مستعانا بها
الثالث إنها فقيرة إلى هداية فاطرها وربها تسأله أن يهديها صراطه المستقيم
الرابع أنها منعم عليها مرحومة ومغضوب عليها وضالة شقية وهذا شأن المربوب
والمملوك لا شأن القديم غير المخلوق
الوجه السابع النصوص الدالة على أن الإنسان عبد بجملته وليست عبوديته
واقعة على بدنه دون روحه بل عبوديته الروح أصل وعبودية البدن تبع كما أنه
تبع لها في الأحكام وهي التي تحركه وتستعمله وهو تبع لها في العبودية
الوجه الثامن قوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا
مذكورا فلو كانت روحه قديمة لكان الإنسان لم يزل شيئا مذكورا فإنه إنما هو
إنسان بروحه لا ببدنه فقط كما قيل
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
الوجه التاسع النصوص الدالة على أن الله سبحانه كان ولم يكن شيء
غيره كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران حصين أن أهل اليمن قالوا يا
رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر فقال كان الله
ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء فلم يكن مع
الله أرواح ولا نفوس قديمة يساوى وجودها وجوده تعالى الله عن ذلك علوا
كبيرا بل هو الأول وحده لا يشاركه غيره في أوليته بوجه
الوجه العاشر النصوص الدالة على خلق الملائكة وهم أرواح مستغنية عن أجساد
تقوم بها وهم مخلوقون قبل خلق الإنسان وروحه فإذا كان الملك الذي يحدث
الروح في جسد ابن آدم بنفخته مخلوقا فكيف تكون الروح الحادثة بنفخه قديمة
وهؤلاء الغالطون يظنون ان الملك يرسل إلى الجنين بروح قديمة أزلية ينفخها
فيه كما يرسل الرسول بثوب إلى الإنسان يلبسه إياه وهذا ضلال وخطأ وإنما
يرسل الله سبحانه إليه الملك فينفخ فيه نفخة تحدث له الروح بواسطة تلك
النفخة فتكون النفخة هي سبب حصول الروح وحدوثها له كما كان الوطء والإنزال
سبب تكوين جسمه والغذاء سبب نموه فمادة الروح من نفخة الملك ومادة الجسم
من صب الماء في الرحم فهذه مادة سماوية وهذه مادة أرضية فمن الناس من تغلب
عليه المادة السماوية فتصير روحه علوية شريفة تناسب الملائكة ومنهم من
تغلب عليه المادة الأرضية فتصير روحه سفلية ترابية مهينة تناسب الأرواح
السفلية فالملك أب لروحه والتراب أب لبدنه وجسمه
الوجه الحادي عشر حديث أبى هريرة رضى الله عنه الذي في صحيح البخاري وغيره
عن النبي الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة وهذا الحديث رواه عن النبي أبو هريرة
وعائشة أم المؤمنين وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن مسعود
وعبد الله بن عمرو وعلى بن أبى طالب وعمرو بن عبسة رضى الله عنهم
الوجه الثاني عشر أن الروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال وهذا
شأن المخلوق المحدث المربوب قال الله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها
والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل
مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون والأنفس ها هنا هي الأرواح قطعا وفي
الصحيحين من حديث عبد الله بن أبى قتادة الأنصاري عن أبيه قال سرنا مع
رسول الله في سفر ذات ليلة فقلنا يا رسول الله لو عرست بنا فقال إني أخاف
أن تناموا فمن يوقظنا للصلاة فقال بلال أنا يا رسول الله فعرس بالقوم
فاضطجعوا واستند بلال إلى راحلته فغلبته عيناه فاستيقظ
رسول الله وقد طلع جانب الشمس فقال يا بلال أين ما قلت لنا فقال
والذي بعثك بالحق ما ألقيت على نومة مثلها فقال رسول الله ان الله قبض
أرواحكم حين شاء وردها حين شاء فهذه الروح المقبوضة هي النفس التي يتوفاها
الله حين موتها وفي منامها التي يتوفاها ملك الموت وهي التي تتوفاها رسل
الله سبحانه وهي التي يجلس الملك عند رأس صاحبها ويخرجها من بدنه كرها
ويكفنها بكفن من الجنة أو النار ويصعد بها إلى السماء فتصلى عليها
الملائكة أو تلعنها وتوقف بين يدي ربها فيقضى فيها أمره ثم تعاد إلى الأرض
فتدخل بين الميت وأكفانه فيسأل ويمتحن ويعاقب وينعم وهي التي تجعل في
أجواف الطير الخضر تأكل وتشرب من الجنة وهي التي تعرض على النار غدوا
وعشيا وهي التي تؤمن وتكفر وتطيع وتعصى وهي الأمارة بالسوء وهي اللوامة
وهي المطمئنة إلى ربها وأمره وذكره وهي التي تعذب وتنعم وتسعد وتشقى وتحبس
وترسل وتصح وتسقم وتلذ وتألم وتخاف وتحزن وما ذاك إلا سمات مخلوق مبدع
وصفات منشأ مخترع وأحكام مربوب مدبر مصرف تحت مشيئة خالقه وفاطره وبارئه
وكان رسول الله يقول عند نومه اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها
ومحياها فإن أمسكتها فإرحمها وإن أرسلتها فأحفظها بما تحفظ به عبادك
الصالحين وهو تعلى بارىء النفوس كما هو بارىء الأجساد قال تعالى ما أصاب
من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على
الله يسير قيل من قبل أن نبرأ المصيبة وقيل من قبل أن نبرأ الأرض وقيل من
قبل أن نبرأ الأنفس وهو أولى لأنه أقرب مذكور إلى الضمير ولو قيل يرجع إلى
الثلاثة أي من قبل أن نبرأ المصيبة والأرض والأنفس لكان أوجه
وكيف تكون قديمة مستغنية عن خالق محدث مبدع لها وشواهد الفقر والحاجة
والضرورة أعدل شواهد على أنها مخلوقة مربوبة مصنوعة وأن وجود ذاتها
وصفاتها وأفعالها من ربها وفاطرها ليس لها من نفسها إلا العدم فهي لا تملك
لنفسها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لا تستطيع أن تأخذ من
الخير إلا ما أعطاها وتتقى من الشر إلا ما وقاها ولا تهتدي إلى شيء من
صالح دنياها وأخراها إلا بهداه وتصلح إلا بتوفيقه لها وإصلاحه إياها ولا
تعلم إلا ما علمها ولا تتعدى ما ألهمها فهو الذي خلقها فسواها وألهمها
فجورها وتقواها فأخبر سبحانه أنه خالقها ومبدعها وخالق أفعالها من الفجور
والتقوى خلافا لمن يقول إنها ليست مخلوقة ولمن يقول إنها وإن كانت مخلوقة
فليس خالقا لأفعالها بل هي التي تخلق أفعالها وهما قولان لأهل الضلال
والغي
ومعلوم أنها لو كانت قديمة غير مخلوقة لكانت مستغنية بنفسها في
وجودها وصفاتها وكمالها وهذا من ابطل الباطل فإن فقرها إليه سبحانه في
وجودها وكمالها وصلاحها هو من لوازم ذاتها ليس معللا بعلة فإنه أمر ذاتي
لها كما أن غنى ربها وفاطرها ومبدعها من لوازم ذاته ليس معللا بعلة فهو
سبحانه الغنى بالذات وهي الفقيرة إليه بالذات فلا يشاركه سبحانه في غناه
مشارك كما لا يشاركه في قدمه وربوبيته وملكه التام وكماله المقدس مشارك
فشواهد الخلق والحدوث على الأرواح كشواهده على الأبدان
قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد
وهذا الخطاب بالفقر إليه للأرواح والأبدان ليس هو للأبدان فقط وهذا الغنى
التام لله وحده لا يشركه فيه غيره وقد أرشد الله سبحانه عباده إلى أوضح
دليل على ذلك بقوله فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب
إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم
صادقين أي فلولا ان كنتم غير مملوكين ومقهورين ومربوبين ومجازين بأعمالكم
تردون الأرواح إلى الأبدان إذا وصلت إلى هذا الموضع أو لا تعلمون بذلك
أنها مدينة مملوكة مربوبة محاسبة مجزية بعملها
وكلما تقدم ذكره في هذا الجواب من أحكام الروح وشأنها ومستقرها بعد الموت
فهو دليل على أنها مخلوقة مربوبة مدبرة ليست بقديمة
وهذا الأمر أوضح من أن تساق الأدلة عليه ولولا ضلال من المتصوفة وأهل
البدع ومن قصر فهمه في كتاب الله وسنة رسوله فأتى من سوء الفهم لا من النص
تكلموا في أنفسهم وأرواحهم بما دل على أنهم من أجهل الناس بها وكيف يمكن
من له أدنى مسكة من عقل أن ينكر أمرا تشهد عليه به نفسه وصفاته وأفعاله
وجوارحه وأعضاؤه بل تشهد به السموات والأرض والخليقة فلله سبحانه في كل ما
سواه آية بل آيات تدل على أنه مخلوق مربوب وانه خالقه وربه وبارؤه ومليكه
ولو جحد ذلك فمعه شاهد عليه
المسألة السابعة عشرة
وهي هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة
وإذا كانت محدثة مخلوقة وهي من أمر الله فكيف يكون أمر الله محدثا مخلوقا
وقد أخبر سبحانه أنه نفخ في آدم من روحه فهذه الإضافة إليه هل تدل على
أنها قديمة أم لا وما حقيقة هذه الإضافة فقد أخبر عن آدم أنه خلقه بيده
ونفخ فيه من روحه فأضاف اليد والروح إليه إضافة واحدة
فهذه مسألة زل فيها عالم وضل فيها طوائف من بنى آدم وهدى الله اتباع رسوله
فيها للحق المبين والصواب المستبين فأجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم
على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة هذا معلوم بالاضطرار من دين
الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كما يعلم بالاضطرار من دينهم أن العالم
حادث وأن معاد الأبدان واقع وأن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق له
وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الفضيلة على ذلك من
غير اختلاف بينهم في حدوثها وأنها مخلوقة حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في
الكتاب والسنة فزعم أنها قديمة غير مخلوقة واحتج بأنها من أمر الله وأمره
غير مخلوق وبأن الله تعالى أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وكتابه وقدرته
وسمعه وبصره ويده وتوقف آخرون فقالوا لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة
وسئل عن ذلك حافظ أصبهان أبو عبد الله بن منده فقال أما بعد فإن سائلا
سألني عن الروح التي جعلها الله سبحانه قوام نفس الخلق وأبدانهم وذكر أن
أقواما تكلموا في الروح وزعموا أنها غير مخلوقة وخص بعضهم منها أرواح
القدس وأنها من ذات الله قال وأنا أذكر اختلاف أقاويل متقدميهم وأبين ما
يخالف أقاويلهم من الكتاب والأثر وأقاويل الصحابة والتابعين وأهل العلم
وأذكر بعد ذلك وجوه الروح من الكتاب والأثر وأوضح خطأ المتكلم في الروح
بغير علم وأن كلامهم يوافق قول جهم وأصحابه فنقول وبالله التوفيق أن الناس
اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلها من النفس
فقال بعضهم الأرواح كلها مخلوقة وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر واحتجوا
بقول النبي الأرواح جنود مجنده فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة
وقال بعضهم الأرواح من أمر الله أخفي الله حقيقتها وعلمها عن الخلق
واحتجوا بقول الله تعالى قل الروح من أمر ربى
وقال بعضهم الأرواح نور من أنوار الله تعالى وحياة من حياته
واحتجت بقول النبي إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره ثم ذكر
الخلاف في الأرواح هل تموت أم لا وهل تعذب مع الأجساد في البرزخ وفي
مستقرها بعد الموت وهل هي النفس أو غيرها
وقال محمد بن نصر المروزى في كتابه تأول صنف من الزنادقة وصنف من الروافض
في روح آدم ما تأولته النصارى في روح عيسى وما تأوله قوم من أن الروح
انفصل من ذات الله فصار في المؤمن فعبد صنف من النصارى عيسى ومريم جميعا
لأن عيسى عندهم روح من الله صار في مريم فهو غير مخلوق عندهم
وقال صنف من الزنادقة وصنف من الروافض أن روح آدم مثل ذلك أنه غير مخلوق
وتأولوا قوله تعالى ونفخت فيه من روحي وقوله تعالى ثم سواه ونفخ فيه من
روحه فزعموا إن روح آدم ليس بمخلوق كما تأول من قال إن النور من الرب غير
مخلوق قالوا ثم صاروا بعد آدم في الوصي بعده ثم هو في كل نبي ووصى إلى أن
صار في على ثم في الحسن والحسين ثم في كل وصى وإمام فيه يعلم الإمام كل
شيء ولا يحتاج أن يتعلم من أحد
ولا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من
بنى آدم كلها مخلوقة لله خلقها وأنشأها وكونها واخترعها ثم أضافها إلى
نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في
الأرض جميعا منه
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الآدمي مخلوقة مبدعة بإتفاق سلف الأمة
وأئمتها وسائر أهل السنة وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد
من أئمة المسلمين مثل محمد ابن نصر المروزى الإمام المشهور الذي هو من
أعلم أهل زمانه بالإجماع ولا اختلاف وكذلك أبو محمد بن قتيبة قال في كتاب
اللفظ لما تكلم على الروح قال النسم الأرواح قال وأجمع الناس على أن الله
تعالى هو فالق الحبة وبارىء النسمة أي خالق الروح وقال أبو إسحاق ابن
شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة هي أو
غير مخلوقة قال وهذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب أن الروح من الأشياء
المخلوقة وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ وردوا
على من يزعم إنها غير مخلوقة وصنف الحافظ أبو عبد الله بن منده في ذلك
كتابا كبيرا وقبله الإمام محمد بن نصر المروزى وغيره والشيخ أبو سعيد
الخراز وأبو يعقوب النهر جوري والقاضي أبو يعلى وقد نص على ذلك الأئمة
الكبار واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم فكيف بروح
غيره كما ذكره الإمام أحمد فيما كتبه في مجلسه في الرد على
الزنادقة والجهمية ثم أن الجهمى ادعى أمرا فقال أنا أجد آية في كتاب الله
مما يدل على أن القرآن مخلوق قول الله تعالى إنما المسيح عيسى ابن مريم
رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وعيسى مخلوق قلنا له إن الله
تعالى منعك الفهم للقرآن ان عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجرى على القرآن لأنا
نسميه مولودا وطفلا وصبيا وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجرى
عليه الخطاب والوعد والوعيد ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم فلا يحل
لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما
قال في عيسى ولكن المعنى في قوله تعالى إن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له
كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن ولكن كان بكن فكن من الله قول وليس كن
مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية
قالوا روح هذه الخرقة من هذا الثواب قلنا نحن أن عيسى بالكلمة كان وليس
عيسى هو الكلمة وإنما الكلمة قول الله تعالى كن وقوله وروح منه يقول من
أمره كان الروح فيه كقوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما الأرض جميعا
منه يقول من أمره وتفسير روح الله إنما معناها بكلمة الله خلقها كما يقال
عبد الله وسماء الله وأرض الله فقد صرح بأن روح المسيح مخلوقة فكيف بسائر
الأرواح وقد أضاف الله إليه الروح الذي أرسله إلى مريم وهو عبده ورسوله
ولم يدل على ذلك أنه قديم غير مخلوق فقال تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل
لها بشرا سويا قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول
ربك لأهب لك غلاما زكيا فهذا الروح هو روح الله وهو عبده ورسوله
وسنذكر إن شاء الله تعالى أقسام المضاف إلى الله وأنى يكون المضاف صفة له
قديمة وإني يكون مخلوقا وما ضابط ذلك
فصل والذي يدل على خلقها وجوه الوجه الأول قول الله تعالى
الله خالق كل شيء فهذا اللفظ عام لا تخصيص فيه بوجه ما ولا يدخل في ذلك
صفاته فإنها داخلة في مسمى بإسمه فالله سبحانه هو الإله الموصوف بصفات
الكمال فعلمه وقدرته وحياته وإرادته وسمعه وبصره وسائر صفاته داخل في مسمى
اسمه ليس داخلا في الأشياء المخلوقة كما لم تدخل ذاته فيها فهو سبحانه
وصفاته الخالق وما سواه مخلوق
ومعلوم قطعا أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته وإنما هي
مصنوع من مصنوعاته فوقوع الخلق عليها كوقوعه على الملائكة والجن والإنس
الوجه الثاني قوله تعالى زكريا وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا وهذا الخطاب
لروحه وبدنه ليس لبدنه فقط فإن البدن وحده لا يفهم ولا يخاطب ولا يعقل
وإنما الذي يفهم ويعقل ويخاطب هو الروح
الوجه الثالث قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون
الوجه الرابع قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا
لآدم وهذا الإخبار إنما يتناول أرواحنا وأجسادنا كما يقوله الجمهور واما
أن يكون واقعا على الأرواح قبل خلق الأجساد كما يقوله من يزعم ذلك وعلى
التقدير فهو صريح في خلق الأرواح
الوجه الخامس النصوص الدالة على أنه سبحانه ربنا ورب آبائنا الأولين ورب
كل شيء وهذه الربوبية شاملة لأرواحنا وأبداننا فالأرواح مربوبة له مملوكة
كما ان الأجسام كذلك وكل مربوب مملوك فهو مخلوق
الوجه السادس أول سورة في القرآن وهي الفاتحة تدل على أن الأرواح مخلوقة
من عدة أوجه أحدها قوله تعالى الحمد لله رب العالمين والأرواح من جملة
العالم فهو ربها
الثاني قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فالأرواح عابدة له مستعينة ولو
كانت غير مخلوقة لكانت معبودة مستعانا بها
الثالث إنها فقيرة إلى هداية فاطرها وربها تسأله أن يهديها صراطه المستقيم
الرابع أنها منعم عليها مرحومة ومغضوب عليها وضالة شقية وهذا شأن المربوب
والمملوك لا شأن القديم غير المخلوق
الوجه السابع النصوص الدالة على أن الإنسان عبد بجملته وليست عبوديته
واقعة على بدنه دون روحه بل عبوديته الروح أصل وعبودية البدن تبع كما أنه
تبع لها في الأحكام وهي التي تحركه وتستعمله وهو تبع لها في العبودية
الوجه الثامن قوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا
مذكورا فلو كانت روحه قديمة لكان الإنسان لم يزل شيئا مذكورا فإنه إنما هو
إنسان بروحه لا ببدنه فقط كما قيل
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
الوجه التاسع النصوص الدالة على أن الله سبحانه كان ولم يكن شيء
غيره كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران حصين أن أهل اليمن قالوا يا
رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر فقال كان الله
ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء فلم يكن مع
الله أرواح ولا نفوس قديمة يساوى وجودها وجوده تعالى الله عن ذلك علوا
كبيرا بل هو الأول وحده لا يشاركه غيره في أوليته بوجه
الوجه العاشر النصوص الدالة على خلق الملائكة وهم أرواح مستغنية عن أجساد
تقوم بها وهم مخلوقون قبل خلق الإنسان وروحه فإذا كان الملك الذي يحدث
الروح في جسد ابن آدم بنفخته مخلوقا فكيف تكون الروح الحادثة بنفخه قديمة
وهؤلاء الغالطون يظنون ان الملك يرسل إلى الجنين بروح قديمة أزلية ينفخها
فيه كما يرسل الرسول بثوب إلى الإنسان يلبسه إياه وهذا ضلال وخطأ وإنما
يرسل الله سبحانه إليه الملك فينفخ فيه نفخة تحدث له الروح بواسطة تلك
النفخة فتكون النفخة هي سبب حصول الروح وحدوثها له كما كان الوطء والإنزال
سبب تكوين جسمه والغذاء سبب نموه فمادة الروح من نفخة الملك ومادة الجسم
من صب الماء في الرحم فهذه مادة سماوية وهذه مادة أرضية فمن الناس من تغلب
عليه المادة السماوية فتصير روحه علوية شريفة تناسب الملائكة ومنهم من
تغلب عليه المادة الأرضية فتصير روحه سفلية ترابية مهينة تناسب الأرواح
السفلية فالملك أب لروحه والتراب أب لبدنه وجسمه
الوجه الحادي عشر حديث أبى هريرة رضى الله عنه الذي في صحيح البخاري وغيره
عن النبي الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة وهذا الحديث رواه عن النبي أبو هريرة
وعائشة أم المؤمنين وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن مسعود
وعبد الله بن عمرو وعلى بن أبى طالب وعمرو بن عبسة رضى الله عنهم
الوجه الثاني عشر أن الروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال وهذا
شأن المخلوق المحدث المربوب قال الله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها
والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل
مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون والأنفس ها هنا هي الأرواح قطعا وفي
الصحيحين من حديث عبد الله بن أبى قتادة الأنصاري عن أبيه قال سرنا مع
رسول الله في سفر ذات ليلة فقلنا يا رسول الله لو عرست بنا فقال إني أخاف
أن تناموا فمن يوقظنا للصلاة فقال بلال أنا يا رسول الله فعرس بالقوم
فاضطجعوا واستند بلال إلى راحلته فغلبته عيناه فاستيقظ
رسول الله وقد طلع جانب الشمس فقال يا بلال أين ما قلت لنا فقال
والذي بعثك بالحق ما ألقيت على نومة مثلها فقال رسول الله ان الله قبض
أرواحكم حين شاء وردها حين شاء فهذه الروح المقبوضة هي النفس التي يتوفاها
الله حين موتها وفي منامها التي يتوفاها ملك الموت وهي التي تتوفاها رسل
الله سبحانه وهي التي يجلس الملك عند رأس صاحبها ويخرجها من بدنه كرها
ويكفنها بكفن من الجنة أو النار ويصعد بها إلى السماء فتصلى عليها
الملائكة أو تلعنها وتوقف بين يدي ربها فيقضى فيها أمره ثم تعاد إلى الأرض
فتدخل بين الميت وأكفانه فيسأل ويمتحن ويعاقب وينعم وهي التي تجعل في
أجواف الطير الخضر تأكل وتشرب من الجنة وهي التي تعرض على النار غدوا
وعشيا وهي التي تؤمن وتكفر وتطيع وتعصى وهي الأمارة بالسوء وهي اللوامة
وهي المطمئنة إلى ربها وأمره وذكره وهي التي تعذب وتنعم وتسعد وتشقى وتحبس
وترسل وتصح وتسقم وتلذ وتألم وتخاف وتحزن وما ذاك إلا سمات مخلوق مبدع
وصفات منشأ مخترع وأحكام مربوب مدبر مصرف تحت مشيئة خالقه وفاطره وبارئه
وكان رسول الله يقول عند نومه اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها
ومحياها فإن أمسكتها فإرحمها وإن أرسلتها فأحفظها بما تحفظ به عبادك
الصالحين وهو تعلى بارىء النفوس كما هو بارىء الأجساد قال تعالى ما أصاب
من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على
الله يسير قيل من قبل أن نبرأ المصيبة وقيل من قبل أن نبرأ الأرض وقيل من
قبل أن نبرأ الأنفس وهو أولى لأنه أقرب مذكور إلى الضمير ولو قيل يرجع إلى
الثلاثة أي من قبل أن نبرأ المصيبة والأرض والأنفس لكان أوجه
وكيف تكون قديمة مستغنية عن خالق محدث مبدع لها وشواهد الفقر والحاجة
والضرورة أعدل شواهد على أنها مخلوقة مربوبة مصنوعة وأن وجود ذاتها
وصفاتها وأفعالها من ربها وفاطرها ليس لها من نفسها إلا العدم فهي لا تملك
لنفسها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لا تستطيع أن تأخذ من
الخير إلا ما أعطاها وتتقى من الشر إلا ما وقاها ولا تهتدي إلى شيء من
صالح دنياها وأخراها إلا بهداه وتصلح إلا بتوفيقه لها وإصلاحه إياها ولا
تعلم إلا ما علمها ولا تتعدى ما ألهمها فهو الذي خلقها فسواها وألهمها
فجورها وتقواها فأخبر سبحانه أنه خالقها ومبدعها وخالق أفعالها من الفجور
والتقوى خلافا لمن يقول إنها ليست مخلوقة ولمن يقول إنها وإن كانت مخلوقة
فليس خالقا لأفعالها بل هي التي تخلق أفعالها وهما قولان لأهل الضلال
والغي
ومعلوم أنها لو كانت قديمة غير مخلوقة لكانت مستغنية بنفسها في
وجودها وصفاتها وكمالها وهذا من ابطل الباطل فإن فقرها إليه سبحانه في
وجودها وكمالها وصلاحها هو من لوازم ذاتها ليس معللا بعلة فإنه أمر ذاتي
لها كما أن غنى ربها وفاطرها ومبدعها من لوازم ذاته ليس معللا بعلة فهو
سبحانه الغنى بالذات وهي الفقيرة إليه بالذات فلا يشاركه سبحانه في غناه
مشارك كما لا يشاركه في قدمه وربوبيته وملكه التام وكماله المقدس مشارك
فشواهد الخلق والحدوث على الأرواح كشواهده على الأبدان
قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد
وهذا الخطاب بالفقر إليه للأرواح والأبدان ليس هو للأبدان فقط وهذا الغنى
التام لله وحده لا يشركه فيه غيره وقد أرشد الله سبحانه عباده إلى أوضح
دليل على ذلك بقوله فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب
إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم
صادقين أي فلولا ان كنتم غير مملوكين ومقهورين ومربوبين ومجازين بأعمالكم
تردون الأرواح إلى الأبدان إذا وصلت إلى هذا الموضع أو لا تعلمون بذلك
أنها مدينة مملوكة مربوبة محاسبة مجزية بعملها
وكلما تقدم ذكره في هذا الجواب من أحكام الروح وشأنها ومستقرها بعد الموت
فهو دليل على أنها مخلوقة مربوبة مدبرة ليست بقديمة
وهذا الأمر أوضح من أن تساق الأدلة عليه ولولا ضلال من المتصوفة وأهل
البدع ومن قصر فهمه في كتاب الله وسنة رسوله فأتى من سوء الفهم لا من النص
تكلموا في أنفسهم وأرواحهم بما دل على أنهم من أجهل الناس بها وكيف يمكن
من له أدنى مسكة من عقل أن ينكر أمرا تشهد عليه به نفسه وصفاته وأفعاله
وجوارحه وأعضاؤه بل تشهد به السموات والأرض والخليقة فلله سبحانه في كل ما
سواه آية بل آيات تدل على أنه مخلوق مربوب وانه خالقه وربه وبارؤه ومليكه
ولو جحد ذلك فمعه شاهد عليه
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل قولكم في الوجه الثالث أن الصور العقلية الكلية مجردة
وتجردها
إنما هو بسبب الآخذ لها وهو القوة العقلية جوابه أن يقال ما الذي تريدون
بهذه الصورة العقلية الكلية أتريدون به أن المعلوم حصل في ذات العالم أو
أن العلم به حصل في ذات العالم فالأول ظاهر إلا حالة
والثاني حق إلا أنه يفيدكم شيئا لأن الأمر الكلي المشترك بين
الأشخاص الإنسانية هو الإنسانية لا العلم بها والإنسانية لا وجود لها في
الخارج كلية والوجود في الخراج للمعينات فقط والعلم تابع للمعلوم فكما أن
المعلوم معين فالعلم به معين لكنه صورة منطبقة على أفراد كثيرة فليس في
الذهن ولا في الخارج صورة غير منقسمة البتة وكم قد غلط في هذا الموضع
طوائف من العقلاء لا يحصيهم إلا الله تعالى فالصورة الكلية التي يثبتونها
ويزعمون أنها حالة في النفس فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية فهب أن
هذه الصورة العقلية حالة في جوهر ليس بجسم ولا جسماني فإنها غير مجردة عن
العوارض فإن قلتم مرادنا بكونها مجردة النظر إليها من حيث هي هي مع قطع
النظر عن تلك العوارض
قيل لكم فلم لا يجوز أن تكون الصورة الحالة في المحل الجسماني منقسمة
وإنما تكون مجردة إذا نظرنا إليها من حيث هي هي بقطع النظر عن عوارضها
فصل قولكم في الرابع أن العقلية تقوى على أفعاله غير متناهية
ولا شيء
من القوى الجسمانية كذلك فجوابه أنا لا نسلم أنها تقوى على أفعال غير
متناهية
وقولكم أنها تقوى على إدراكات لا تتناهي هي والإدراكات أفعال مقدمتان
كاذبتان فإن إدراكاتها ولو بلغت ما بلغت فهي متناهية فلو كان لها بكل نفس
ألف ألف إدراك لتناهت إدراكاتها فهي قطعا تنتهي في الإدراكات والمعارف إلى
حد لا يمكنها أن تزيد عليه شيئا كما قال تعالى وفوق كل ذي علم عليم إلى أن
ينتهي العلم إلى من هو بكل شيء عليم فهو الله الذي لا إله إلا هو وحده
وذلك من خصائصه التي لا يشاركه فيها سواه
فإن قلتم لو انتهي إدراكها إلى حد لا يمكنها المزيد عليه لزم انقلاب الشيء
من الإمكان الذاتي قلنا فهذا بعينه لو صح دل على أن القوة الجسمانية تقوى
على أفعال غير متناهية وذلك يوجب سقوط الشبهة وبطلانها
وأيضا فإن قوة التخيل والتفكر والتذكر تقوى على استحضار المخيلات
والمذكرات إلى غير نهاية مع أنها عندكم قوة جسمانية
فإن قلتم لا نسلم أنها تقوى على مالا يتناهي قيل لكم هكذا يقول خصومكم في
القوة العاقلة سواء
وأما كذب المقدمة الثانية فإن الإدراك ليس بفعل فلا يلزم من تناهي فعلها
تناهي إدراكها وقد صرحتم بأن الجوهر العقلي قابل لصورة المعلوم لا أنها
فاعل لها والشيء الواحد لا يكون
فاعلا وقابلا عندكم وقد صرحتم بأن الأجسام يمتنع عليها أفعال لا
نهاية لها ولا يمتنع عليها مجهولات وانفعالات لا نتناهي وقد أورد ابن
سيناء على هذه الشبهة سؤالا فقال أليس النفس الفلكية المباشرة لتحريك
الفلك قوة جسمانية مع أن الحركات الفلكية غير متناهية وأجاب عنه بأنها وإن
كانت قوة جسمانية إلا أنها تستمد الكمال من العقل المفارق فلهذا السبب
قدرت على أفعال غير متناهية
فنقول فإذا كان الأمر عندك كذلك فلم لا يجوز أن يقال النفس الناطقة تستمد
الكمال والقوة من فاطرها ومنشئها الذي له القوة جميعا فلا جرم تقوى مع
كونها جسمانية على مالا يتناها فإذا قلت بذلك وافقت الرسل والعقل ودخلت مع
زمرة المسلمين وفارقت العصبة المبطلين
فصل قولكم في الخامس لو كانت القوة العاقلة حالة في آلة جسمانية
لوجب
أن تكون دائمة الإدراك لتلك الآلة أو ممتنعة الإدراك لها فهو مبنى على
أصلكم الفاسد أن الإدراك عبارة عن حصول صورة مساوية للمدرك في القرة
المدركة ثم لو سلمنا لكم ذلك الأصل لم يفدكم شيئا فإن حصول تلك الصورة
يكون شرطا لحصول الإدراك فأما أن يقول أو يقال أن الإدراك عين حصول تلك
الصورة فهذا لا يقوله عاقل فلم لا يجوز أن يقال القوة العقلية حالة في جسم
مخصوص ثم أن القوة الناطقة قد تحصل لها حالة إضافية تسمى بالشعور والإدراك
فحينئذ تصير القوة العاقلة مدركة لتلك الآلة وقد لا توجد تلك الحالة
الإضافية فتصير غافلة عنها وإذا كان هذا ممكنا سقطت تلك الشبهة رأسا ثم
نقول أتدعون أنا إذا عقلنا شيئا فإن الصورة الحاضرة في العقل مساوية لذلك
المعقول من جميع الوجوه والاعتبارات أو لا يجب حصول هذه المساواة من جميع
الوجوه لم يلزم من حدوث صورة أخرى في القلب أو الدماغ اجتماع المثلين
وأيضا فالقوة العاقلة حالة في جوهر القلب أو الدماغ والصورة الحادثة حالة
في القوة العاقلة فإحدى الصورتين محل للقوة العاقلة وأيضا فنحن إذا رأينا
المسافة الطويلة والبعد الممتد فهل يتوقف هذا الإبصار على ارتسام صورة
المرئي في عين الرائي أو لا يتوقف فإن توقف لزم اجتماع المثلين لأن القوة
الباصرة عندكم جسمانية فهي في محل له حجم ومقدار فإذا حصل
فيه حجم المرئي ومقداره لزم اجتماع المثلين وإذا جاز هناك فلم
لا يجوز مثله في مسئتنا وإن كان إدراك الشيء لا يتوقف على حصول صورة
المرئي في الرائي بطل قولكم أن إدراك القلب والدماغ يتوقف على حصول صورة
القلب والدماغ في القوة العاقلة
وأيضا فقولكم لو كانت القوة العقلية حالة في جسم لوجب أن تكون دائمة
الإدراك لذلك الجسم لكن إدراكنا لقلبنا ودماغنا غير دائم فهذا إنما يلزم
من يقول أنها حالة في القلب أو الدماغ وأما من يقول أنها حالة في جسم
مخصوص وهو النفس وهي مشابكة للبدن فهذا الإلزام غير وارد عليه فإنه يقول
النفس جسم مخصوص والإنسان أبدا عالم بأنه جسم مخصوص ولا يزول ذلك عن عقله
إلا إذا عرضت له الغفلة فسقطت الشبهة التي عولتم عليها على كل تقدير
فصل قولكم في السادس ان كل أحد يدرك نفسه والإدراك عبارة عن حصول
ماهية المعلوم عند العالم وهذا إنما يصح إذا كانت النفس غنية عن المحل إلى
آخره
جوابه أن ذلك مبنى على الأصل المتقدم وهو أن العلم عبارة عن حصول صورة
مساوية للمعلوم في نفس العالم وهذا باطل من وجوه كثيرة مذكورة في مسألة
العلم حتى لو سلم ذلك فالصورة المذكورة شرطا في حصول العلم لا أنها نفس
العلم
وأيضا فهذه الشبهة مع ركاكة ألفاظها وفساد مقدماتها منقوضة فإنا إذا أخذنا
حجرا أو خشبة قلنا هذا جوهر قائم بنفسه فذاته حاضرة عند ذاته فيجب في هذه
الجمادات أن تكون عالمة بذواتها
وأيضا فجميع الحيوانات مدركة لذواتها فلو كان كون الشيء مدركا لذاته تقتضي
كون ذاته جوهرا مجردا لزم كون نفوس الحيوانات بأسرها جواهر مجردة وأنتم لا
تقولون بذلك
فصل قولكم في السابع الواحد منا يتخيل بحرا من زئبق وجبلا من
ياقوت
إلى آخره وهو شبهة أبى البركات البغدادي فشبهة داحضة جدا فإنها مبنية على
أن تلك المتخيلات أمور موجودة وأنها منطبعه في النفس في محله ومعلوم قطعا
أن هذه المخيلات لا حقيقة لها في ذاتها وغنما الذهن يفرضها تقديرا وليست
منطبعة في النفس فإن العلوم الخارجية لا تنطبع صورها في النفس فكيف
بالخيالات المعدومة فهذه مندحضة ولا يمنع من وقوع
التمييز بين الإعدام المضافة فإن العقل يميز بين عدم السمع وعدم
البصر وعدم الشم وغير ذلك ولا يلزم من هذا التمييز كون هذه الإعدام موجودة
بل يميز بين أنواع المستحيلات التي لا يمكن وجودها البتة ثم نقول إذا عقل
حلول الأشكال والمقادير فيما كان مجردا عن الحجمية والمقدار من كل الوجوه
أفلا يعقل حلول العلم بالشكل العظيم والمقدار العظيم في الجسم الصغير
وأيضا فإذا كان عدم الانطباق من جميع الوجوه لا يمنع من حلول الصورة
والشكل في الجوهر المجرد فعدم انطباق العظيم على الصغير أولى أن لا يمنع
من حلول الصورة العظيمة في المحل الصغير
وأيضا فإن سلفكم من الأوائل أقاموا الدليل على أن انطباع الصورة الحالة في
الجوهر المجرد محال وذكروا له وجوها
فصل قولكم في الثامن لو كانت القوة العقلية جسدانية لضعفت في زمن
الشيخوخة وليس كذلك جوابه من وجوه
الوجه الأول لم يجوز أن يقال القدر المحتاج إليه من صحة البدن في كمال
القوة العقلية مقدار معين وأما كمال حال البدن في الصحة فإنه غير معتبر في
كمال حال القوة العقلية وإذا احتمل ذلك لم يبعد أن يقال ذلك القدر المحتاج
إليه باق إلى آخر الشيخوخة فبقى العقل إلى آخرها
الوجه الثاني أن الشيخ لعله إنما يمكنه أن يستمر في الإدراكات العقلية على
الصحة أن عقله يبقى ببعض الأعضاء التي يتأخر الفساد والاستحالة إليها فإذا
انتهي إليها الفساد والاستحالة فسد عقله وإدراكه
الوجه الثالث أنه لا يمتنع أن يكون بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى فلعل مزاج
الشيخ أوفق للقوة العقلية فلهذا السبب تقوى فيه القوة العاقلة
الوجه الرابع أن المزاج إذا كان في غاية القوة والشدة كانت سائر القوى
قوية فتكون القوة الشهوانية والغضبية قوية جدا وقوة هذه القوى تمنع العقل
من الاستكمال فإذا حصلت القوة الشيخوخة وحصل الضعف حصل بسبب الضعف ضعف في
هذه القوى المانعة للعقل من الاستكمال وحصل في العقل أيضا ضعف ولكن بعد ما
حصل في العقل من الضعف حصل ذلك في أضداده فينجبر النقصان من أحد الجانبين
بالنقصان من الجانب الآخر فيقع الاعتدال
الوجه الخامس أن الشيخ حفظ العلوم والتجارب الكثيرة ومارس الأمور ودربها
وكثرت تجاربه وهذه الأحوال تعينه على وجوه الفكر وقوة النظر
فقام النقصان الحاصل بسبب ضعف البدن والقوى
الوجه السادس أن كثرة الأفعال بسبب حصول الملكات الراسخة فصارت الزيادة
الحاصلة بهذا الطريق جابرا للنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن
الوجه السابع أنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه قال يهرم ابن آدم وتشب فيه
خصلتان الحرص وطول الأمل والواقع شاهد لهذا الحديث مع أن الحرص والأمل من
القوى الجسمانية والصفات الخيالية ثم أن ضعف البدن لم يوجب ضعف هاتين
الصفتين فعلم أنه لا يلزم من اختلال البدن وضعفه ضعف الصفات البدنية
الوجه الثامن أنا نرى كثيرا من الشيوخ يصيرون إلى الخزف وضعف العقل بل هذا
هو الأغلب ويدل عليه قوله تعالى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعمل
بعد علم شيئا فالشيخ في أرذل عمره يصير كالطفل أو أسوأ حالا منه وأما من
لم يحصل له ذلك فإنه لا يرد إلى أرذل العمر
الوجه التاسع أنه لا تلازم بين قوة البدن وقوة النفس ولا بين ضعفه وضعفها
فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف النفس جبانا خوارا وقد يكون ضعيف البدن قوي
النفس فيكون شجاعا مقداما على ضعف بدنه
الوجه العاشر أنه لو سلم لكم ما ذكرتم لم يدل على كون النفس جوهرا مجردا
لا داخلي العالم ولا خارجه ولا هي في البدن ولا خارجة عنه لأنها إذا كانت
جسما صافيا مشرقا سماويا مخالفا للأجسام الأرضية لم تقبل الانحلال والذبول
والتبدل كما تقبله الأجسام المتحللة الأرضية فلا يلزم من حصول الانحلال
والذبول في هذا البدن حصولهما في جوهر النفس
وتجردها
إنما هو بسبب الآخذ لها وهو القوة العقلية جوابه أن يقال ما الذي تريدون
بهذه الصورة العقلية الكلية أتريدون به أن المعلوم حصل في ذات العالم أو
أن العلم به حصل في ذات العالم فالأول ظاهر إلا حالة
والثاني حق إلا أنه يفيدكم شيئا لأن الأمر الكلي المشترك بين
الأشخاص الإنسانية هو الإنسانية لا العلم بها والإنسانية لا وجود لها في
الخارج كلية والوجود في الخراج للمعينات فقط والعلم تابع للمعلوم فكما أن
المعلوم معين فالعلم به معين لكنه صورة منطبقة على أفراد كثيرة فليس في
الذهن ولا في الخارج صورة غير منقسمة البتة وكم قد غلط في هذا الموضع
طوائف من العقلاء لا يحصيهم إلا الله تعالى فالصورة الكلية التي يثبتونها
ويزعمون أنها حالة في النفس فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية فهب أن
هذه الصورة العقلية حالة في جوهر ليس بجسم ولا جسماني فإنها غير مجردة عن
العوارض فإن قلتم مرادنا بكونها مجردة النظر إليها من حيث هي هي مع قطع
النظر عن تلك العوارض
قيل لكم فلم لا يجوز أن تكون الصورة الحالة في المحل الجسماني منقسمة
وإنما تكون مجردة إذا نظرنا إليها من حيث هي هي بقطع النظر عن عوارضها
فصل قولكم في الرابع أن العقلية تقوى على أفعاله غير متناهية
ولا شيء
من القوى الجسمانية كذلك فجوابه أنا لا نسلم أنها تقوى على أفعال غير
متناهية
وقولكم أنها تقوى على إدراكات لا تتناهي هي والإدراكات أفعال مقدمتان
كاذبتان فإن إدراكاتها ولو بلغت ما بلغت فهي متناهية فلو كان لها بكل نفس
ألف ألف إدراك لتناهت إدراكاتها فهي قطعا تنتهي في الإدراكات والمعارف إلى
حد لا يمكنها أن تزيد عليه شيئا كما قال تعالى وفوق كل ذي علم عليم إلى أن
ينتهي العلم إلى من هو بكل شيء عليم فهو الله الذي لا إله إلا هو وحده
وذلك من خصائصه التي لا يشاركه فيها سواه
فإن قلتم لو انتهي إدراكها إلى حد لا يمكنها المزيد عليه لزم انقلاب الشيء
من الإمكان الذاتي قلنا فهذا بعينه لو صح دل على أن القوة الجسمانية تقوى
على أفعال غير متناهية وذلك يوجب سقوط الشبهة وبطلانها
وأيضا فإن قوة التخيل والتفكر والتذكر تقوى على استحضار المخيلات
والمذكرات إلى غير نهاية مع أنها عندكم قوة جسمانية
فإن قلتم لا نسلم أنها تقوى على مالا يتناهي قيل لكم هكذا يقول خصومكم في
القوة العاقلة سواء
وأما كذب المقدمة الثانية فإن الإدراك ليس بفعل فلا يلزم من تناهي فعلها
تناهي إدراكها وقد صرحتم بأن الجوهر العقلي قابل لصورة المعلوم لا أنها
فاعل لها والشيء الواحد لا يكون
فاعلا وقابلا عندكم وقد صرحتم بأن الأجسام يمتنع عليها أفعال لا
نهاية لها ولا يمتنع عليها مجهولات وانفعالات لا نتناهي وقد أورد ابن
سيناء على هذه الشبهة سؤالا فقال أليس النفس الفلكية المباشرة لتحريك
الفلك قوة جسمانية مع أن الحركات الفلكية غير متناهية وأجاب عنه بأنها وإن
كانت قوة جسمانية إلا أنها تستمد الكمال من العقل المفارق فلهذا السبب
قدرت على أفعال غير متناهية
فنقول فإذا كان الأمر عندك كذلك فلم لا يجوز أن يقال النفس الناطقة تستمد
الكمال والقوة من فاطرها ومنشئها الذي له القوة جميعا فلا جرم تقوى مع
كونها جسمانية على مالا يتناها فإذا قلت بذلك وافقت الرسل والعقل ودخلت مع
زمرة المسلمين وفارقت العصبة المبطلين
فصل قولكم في الخامس لو كانت القوة العاقلة حالة في آلة جسمانية
لوجب
أن تكون دائمة الإدراك لتلك الآلة أو ممتنعة الإدراك لها فهو مبنى على
أصلكم الفاسد أن الإدراك عبارة عن حصول صورة مساوية للمدرك في القرة
المدركة ثم لو سلمنا لكم ذلك الأصل لم يفدكم شيئا فإن حصول تلك الصورة
يكون شرطا لحصول الإدراك فأما أن يقول أو يقال أن الإدراك عين حصول تلك
الصورة فهذا لا يقوله عاقل فلم لا يجوز أن يقال القوة العقلية حالة في جسم
مخصوص ثم أن القوة الناطقة قد تحصل لها حالة إضافية تسمى بالشعور والإدراك
فحينئذ تصير القوة العاقلة مدركة لتلك الآلة وقد لا توجد تلك الحالة
الإضافية فتصير غافلة عنها وإذا كان هذا ممكنا سقطت تلك الشبهة رأسا ثم
نقول أتدعون أنا إذا عقلنا شيئا فإن الصورة الحاضرة في العقل مساوية لذلك
المعقول من جميع الوجوه والاعتبارات أو لا يجب حصول هذه المساواة من جميع
الوجوه لم يلزم من حدوث صورة أخرى في القلب أو الدماغ اجتماع المثلين
وأيضا فالقوة العاقلة حالة في جوهر القلب أو الدماغ والصورة الحادثة حالة
في القوة العاقلة فإحدى الصورتين محل للقوة العاقلة وأيضا فنحن إذا رأينا
المسافة الطويلة والبعد الممتد فهل يتوقف هذا الإبصار على ارتسام صورة
المرئي في عين الرائي أو لا يتوقف فإن توقف لزم اجتماع المثلين لأن القوة
الباصرة عندكم جسمانية فهي في محل له حجم ومقدار فإذا حصل
فيه حجم المرئي ومقداره لزم اجتماع المثلين وإذا جاز هناك فلم
لا يجوز مثله في مسئتنا وإن كان إدراك الشيء لا يتوقف على حصول صورة
المرئي في الرائي بطل قولكم أن إدراك القلب والدماغ يتوقف على حصول صورة
القلب والدماغ في القوة العاقلة
وأيضا فقولكم لو كانت القوة العقلية حالة في جسم لوجب أن تكون دائمة
الإدراك لذلك الجسم لكن إدراكنا لقلبنا ودماغنا غير دائم فهذا إنما يلزم
من يقول أنها حالة في القلب أو الدماغ وأما من يقول أنها حالة في جسم
مخصوص وهو النفس وهي مشابكة للبدن فهذا الإلزام غير وارد عليه فإنه يقول
النفس جسم مخصوص والإنسان أبدا عالم بأنه جسم مخصوص ولا يزول ذلك عن عقله
إلا إذا عرضت له الغفلة فسقطت الشبهة التي عولتم عليها على كل تقدير
فصل قولكم في السادس ان كل أحد يدرك نفسه والإدراك عبارة عن حصول
ماهية المعلوم عند العالم وهذا إنما يصح إذا كانت النفس غنية عن المحل إلى
آخره
جوابه أن ذلك مبنى على الأصل المتقدم وهو أن العلم عبارة عن حصول صورة
مساوية للمعلوم في نفس العالم وهذا باطل من وجوه كثيرة مذكورة في مسألة
العلم حتى لو سلم ذلك فالصورة المذكورة شرطا في حصول العلم لا أنها نفس
العلم
وأيضا فهذه الشبهة مع ركاكة ألفاظها وفساد مقدماتها منقوضة فإنا إذا أخذنا
حجرا أو خشبة قلنا هذا جوهر قائم بنفسه فذاته حاضرة عند ذاته فيجب في هذه
الجمادات أن تكون عالمة بذواتها
وأيضا فجميع الحيوانات مدركة لذواتها فلو كان كون الشيء مدركا لذاته تقتضي
كون ذاته جوهرا مجردا لزم كون نفوس الحيوانات بأسرها جواهر مجردة وأنتم لا
تقولون بذلك
ياقوت
إلى آخره وهو شبهة أبى البركات البغدادي فشبهة داحضة جدا فإنها مبنية على
أن تلك المتخيلات أمور موجودة وأنها منطبعه في النفس في محله ومعلوم قطعا
أن هذه المخيلات لا حقيقة لها في ذاتها وغنما الذهن يفرضها تقديرا وليست
منطبعة في النفس فإن العلوم الخارجية لا تنطبع صورها في النفس فكيف
بالخيالات المعدومة فهذه مندحضة ولا يمنع من وقوع
التمييز بين الإعدام المضافة فإن العقل يميز بين عدم السمع وعدم
البصر وعدم الشم وغير ذلك ولا يلزم من هذا التمييز كون هذه الإعدام موجودة
بل يميز بين أنواع المستحيلات التي لا يمكن وجودها البتة ثم نقول إذا عقل
حلول الأشكال والمقادير فيما كان مجردا عن الحجمية والمقدار من كل الوجوه
أفلا يعقل حلول العلم بالشكل العظيم والمقدار العظيم في الجسم الصغير
وأيضا فإذا كان عدم الانطباق من جميع الوجوه لا يمنع من حلول الصورة
والشكل في الجوهر المجرد فعدم انطباق العظيم على الصغير أولى أن لا يمنع
من حلول الصورة العظيمة في المحل الصغير
وأيضا فإن سلفكم من الأوائل أقاموا الدليل على أن انطباع الصورة الحالة في
الجوهر المجرد محال وذكروا له وجوها
فصل قولكم في الثامن لو كانت القوة العقلية جسدانية لضعفت في زمن
الشيخوخة وليس كذلك جوابه من وجوه
الوجه الأول لم يجوز أن يقال القدر المحتاج إليه من صحة البدن في كمال
القوة العقلية مقدار معين وأما كمال حال البدن في الصحة فإنه غير معتبر في
كمال حال القوة العقلية وإذا احتمل ذلك لم يبعد أن يقال ذلك القدر المحتاج
إليه باق إلى آخر الشيخوخة فبقى العقل إلى آخرها
الوجه الثاني أن الشيخ لعله إنما يمكنه أن يستمر في الإدراكات العقلية على
الصحة أن عقله يبقى ببعض الأعضاء التي يتأخر الفساد والاستحالة إليها فإذا
انتهي إليها الفساد والاستحالة فسد عقله وإدراكه
الوجه الثالث أنه لا يمتنع أن يكون بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى فلعل مزاج
الشيخ أوفق للقوة العقلية فلهذا السبب تقوى فيه القوة العاقلة
الوجه الرابع أن المزاج إذا كان في غاية القوة والشدة كانت سائر القوى
قوية فتكون القوة الشهوانية والغضبية قوية جدا وقوة هذه القوى تمنع العقل
من الاستكمال فإذا حصلت القوة الشيخوخة وحصل الضعف حصل بسبب الضعف ضعف في
هذه القوى المانعة للعقل من الاستكمال وحصل في العقل أيضا ضعف ولكن بعد ما
حصل في العقل من الضعف حصل ذلك في أضداده فينجبر النقصان من أحد الجانبين
بالنقصان من الجانب الآخر فيقع الاعتدال
الوجه الخامس أن الشيخ حفظ العلوم والتجارب الكثيرة ومارس الأمور ودربها
وكثرت تجاربه وهذه الأحوال تعينه على وجوه الفكر وقوة النظر
فقام النقصان الحاصل بسبب ضعف البدن والقوى
الوجه السادس أن كثرة الأفعال بسبب حصول الملكات الراسخة فصارت الزيادة
الحاصلة بهذا الطريق جابرا للنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن
الوجه السابع أنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه قال يهرم ابن آدم وتشب فيه
خصلتان الحرص وطول الأمل والواقع شاهد لهذا الحديث مع أن الحرص والأمل من
القوى الجسمانية والصفات الخيالية ثم أن ضعف البدن لم يوجب ضعف هاتين
الصفتين فعلم أنه لا يلزم من اختلال البدن وضعفه ضعف الصفات البدنية
الوجه الثامن أنا نرى كثيرا من الشيوخ يصيرون إلى الخزف وضعف العقل بل هذا
هو الأغلب ويدل عليه قوله تعالى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعمل
بعد علم شيئا فالشيخ في أرذل عمره يصير كالطفل أو أسوأ حالا منه وأما من
لم يحصل له ذلك فإنه لا يرد إلى أرذل العمر
الوجه التاسع أنه لا تلازم بين قوة البدن وقوة النفس ولا بين ضعفه وضعفها
فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف النفس جبانا خوارا وقد يكون ضعيف البدن قوي
النفس فيكون شجاعا مقداما على ضعف بدنه
الوجه العاشر أنه لو سلم لكم ما ذكرتم لم يدل على كون النفس جوهرا مجردا
لا داخلي العالم ولا خارجه ولا هي في البدن ولا خارجة عنه لأنها إذا كانت
جسما صافيا مشرقا سماويا مخالفا للأجسام الأرضية لم تقبل الانحلال والذبول
والتبدل كما تقبله الأجسام المتحللة الأرضية فلا يلزم من حصول الانحلال
والذبول في هذا البدن حصولهما في جوهر النفس
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل قولكم في التاسع أن القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم
وما
كان غنيا عن الجسم في أفعاله كان غنيا عنه في ذاته إلى آخره جوابه أن يقال
لا يلزم من ثبوت حكم في قوة جسمانية ثبوت مثل ذلك الحكم في جميع القوى
الجسمانية وليس معكم غير الدعوى المجردة والقياس الفاسد
وأيضا فالصور والأعراض محتاجة إلى محلها وليس احتياجها إلى تلك
المحال إلا لمجرد ذواتها ولا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في
ذواتها عن تلك المحال فلا يلزم من كون الشيء مستقلا باقتضاء حكم من
الأحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحال والله أعلم
فصل قولكم في العاشر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة الأفعال ولا
تقوى
على القوى بعد الضعف إلى آخره جوابه أن القوة الخيالية جسمانية ثم إنها
تقوى على تخيل الأشياء العظيمة مع تخيلها الأشياء الحقيرة فإنها يمكنها أن
تتخيل الشعلة الصغيرة حال ما تخيل الشمس والقمر
وأيضا فإن الإبصار القوية القاهرة تمنع إبصار الأشياء الضعيفة فكذلك نقول
العقول العظيمة العالية تمنع تعقل المعقولات الضعيفة فإن المستغرق في
معرفة جلال رب الأرض والسموات وأسمائه وصفاته يمتنع عليه في تلك الحال
الفكر في ثبوت الجوهر الفرد وحقيقته
فصل قولكم في الحادي عشر إنا إذا حكمنا بأن السواد مضاد للبياض
وجب
أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض معا والبداهة حاكمة بأن اجتماعهما
في الجسم محال جوابه أن هذا مبنى على أن من أدرك شيئا فقد حصل في ذات
المدرك صورة مساوية للمدرك وهذا باطل واستدلالكم على صحته بانطباع الصورة
في المرآة باطل فإن المرآة لم ينطبع فيها شيء البتة كما يقوله جمهور
العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم والقول بالانطباع باطل من وجوه
كثيرة ثم نقول إذا كنتم قد قلتم ان المتطبع في النفس عند إدراك السواد
والبياض رسومهما ومثالهما لا حقيقتهما فلم لا يجوز حصول رسوم هذه الأشياء
في المادة الجسمانية
فصل قولكم في الثاني عشر أنه لو كان محل الإدراكات جسما وكل جسم
منقسم لم يمنع أن يقوم ببعض أجزاء الجسم علم بالشيء وبالجزء الآخر منه جهل
به فيكون الإنسان عالما بالشيء جاهلا به في وقت واحد جوابه أن هذه الشبهة
منتقضة على أصولكم فإن الشهوة والغضب والتخيل من الأحوال الجسمانية عندكم
ومحلها منقسم فلزمكم أن تجوزوا قيام الشهوة والغضب بأحد الجزأين وضدهما
بالجزء الآخر فيكون مشتهيا للشيء نافرا عنه غضبان عليه غير غضبان في وقت
واحد
فصل قولكم في الثالث عشر أن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نقوش
مخصوصة امتنع فيها حصول مثلها والنفوس البشرية بضد ذلك إلى آخره
جوابه أن غاية هذا أن يكون قياسا ممتازا بغير جامع وذلك لا يفيد الظن فضلا
عن اليقين فإن النقوش العقلية هي العلوم والإدراكات والنقوش الجسمانية هي
الأشكال والصور ولا ريب أن العلوم مخالفة بحقائقها للصور والأشكال ولا
يلزم من ثبوت حكم في نوع من أنواع الماهيات ثبوته فيما يخالف ذلك النوع
فصل قولكم في الرابع عشر لو كانت النفس جسما لكان بين تحريك
المحرك
رجله وبين إرادته للحركة زمان إلى آخره
جوابه أن النفس مع الجسد لا تخلو من ثلاثة أحوال إما أن تكون لابسة لجميعه
من خارج كالثوب أو تكون في موضع واحد كالقلب والدماغ أو تكون سارية في
جميع أجزاء الجسد وعلى كل تقدير من هذه التقادير فتحريكها لما تريد تحريكه
يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما يلاقيه وإدراك السمع
والشم والذوق وإذا قطع العضو لم ينقطع ما كان من جسم النفس متجللا لذلك
العضو سواء كانت لابسة له من داخل أو من خارج بل تفارق العضو الذى بطل حسه
في الوقت وتتقلص عنه بلا زمان ويكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء
للإناء إذا ملىء ماء وأما إن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من البدن لم
يلزم ان تبين مع العضو المقطوع وأما إن كانت لابسة للبدن من خارج لم يلزم
أن يكون بين إرادتها لتحريكه ونفس التحريك زمان بل يكون فعلها حينئذ في
تحريك الأعضاء كفعل المغناطيس في الحديد وإن لم يلاصقه
ثم نقول هذا الهذيان الذي شغلتم به الزمان وارد عليكم بعينه فإنها عندكم
غير متصلة بالبدن ولا منفصلة عنه ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه فيلزمكم مثل
ذلك
فصل قولكم في الخامس عشر لو كانت جسما لكانت منقسمة ولصح عليها
أن
تعلم بعضها وتجهل بعضها فيكون الإنسان عالما ببعض نفسه جاهلا بالبعض الآخر
جوابه أن هذه الشبهة مركبة من مقدمتين تلازميه واستثنائية
والمنع واقع في كلا المقدمتين أو إحداهما فلا نسلم أنها لو كانت جسما لصح
أن تعلم بعضها وتجهل بعضها فإن لنفس بسيطة غير مركبة من هذه العناصر ولا
من الأجزاء المختلفة فمتى شعرت بذاتها شعرت بجهلها فهذا منع المقدمة
التلازمية
وأما الاستثنائية فلا نسلم أنها لا يصح أن تعلم بعضها حال غفلتها عن البعض
الآخر ولم تذكروا على بطلان ذلك شبهة فضلا عن دليل ومن المعلوم أن الإنسان
قد يشعر بنفسه من بعض الوجوه دون كلها ويتفاوت الناس في ذلك فمنهم من يكون
شعوره بنفسه أتم من غيره بدرجات كثيرة وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين
نسوا الله فأنساهم أنفسهم فهؤلاء نسوا نفوسهم لا من جميع الوجوه بل من
الوجه الذي به مصالحها وكمالها وسعادتها وإن لم ينسوها من الوجه الذي منه
شهوتها وحظها وإرادتها فأنساهم مصالح نفوسهم أن يفعلوها ويطلبوها وعيوبها
ونقائصها أن يزيلوها ويجتنبوها وكمالها الذي خلقت له أن يعرفوه ويطلبوه
فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هذه الوجوه وإن كانوا عالمين بها من وجوه أخر
فصل قولكم في السادس عشر لو كانت النفس جسما لوجب ثقل البدن
بدخولها
فيه لأن من شأن الجسم إذا زدت عليه جسما آخر أن يثقل به
فهذه شبهة في غاية الثقلة والمحتج بها أثقل وليس كل جسم زيد عليه جسم آخر
ثقله فهذه الخشبة تكون ثقيلة فإذا زيد عليها جسم النار خفت جدا وهذا الظرف
يكون ثقيلا فإذا دخله جسم الهواء خف وهذا إنما يكون في الأجسام الثقال
التي تطلب المركز والوسط بطبعها وهي تتحرك بالطبع إليه وأما الأجسام التي
تتحرك بطبعها إلى العلو فلا يعرض لها ذلك بل الأمر فيها بالضد من تلك
الأجسام الثقال بل إذا أضيفت إلى جسم ثقيل أكسبته الخفة وقد أخذ هذا
المعنى بعضهم فقال
ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
فصل قولكم في السابع عشر لو كانت النفس جسما لكانت على صفات سائر
الأجسام التي لا تخلو منها من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والرطوبة
واليبوسة والنعومة والخشونة
إلى آخره شبهة فاسدة وحجة داحضة فإنه لا يجب اشتراك الأجسام في
جميع الكيفيات والصفات وقد فاوت الله سبحانه بين صفاتها وكيفياتها
وطبائعها منها ما يرى بالبصر ويلمس باليد ومنها ما لا يرى ولا يلمس ومنا
ماله لون ومنها مالا لون له ومنها مالا يقل الحرارة والبرودة ومنها ما
يقبله على أن للنفس من الكيفيات المختصة بها مالا يشاركها فيها البدن ولها
خفة وثقل وحرارة وبرودة ويبس ولين يحسبها وأنت تجد الإنسان في غاية
الثقالة وبدنه نحيل جدا وتجده في غاية الخفة وبدنه ثقيل وتجد نفسها لينة
وادعة ونفسا يابسة قاسية ومن له حس سليم يشم رائحة بعض النفوس كالجيفة
المنتنة ورائحة بعضها أطيب من ريح المسك وقد كان رسول الله إذا مر في طريق
بقي أثر رائحته في الطريق ويعرف أنه مر بها وتلك رائحة نفسه وقلبه وكانت
رائحة عرقه من أطيب شيء وذلك تابع لطيب نفسه وبدنه وأخبر وهو أصدق البشر
أن الروح عند المفارقة يوجد ! لها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض أو
كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ولولا الزكام الغالب لشم الحاضرون ذلك
على أن كثيرا من الناس يجد ذلك وقد أخبر به غير واحد ويكفي فيه خبر الصادق
المصدوق وكذلك أخبر بأن أرواح المؤمنين مشرقة وأرواح الكفار سود
وبالجملة فكيفيات النفوس أظهر من أن ينكرها إلا من هو من أجهل الناس بها
فصل قولكم في الثامن عشر لو كانت النفس جسما لوجب أن تقع تحت
جميع الحواس أو تحت حاسة منها إلى آخره
فجوابه منع اللزوم فإنكم لم تذكروا عليه شبهة فضلا عن دليل ومنع انتفاء
اللازم فإن الروح تدرك بالحواس فتلمس وترى وتشم لها الرائحة الطيبة
والخبيثة كما تقدم في النفوس المستفيضة ولكن لا نشاهد نحن ذلك وهذا الدليل
لا يمكن ممن يصدق الرسل أن يحتج به فإن الملك جسم ولا يقع تحت حاسة من
حواسنا وكذلك الجن والشياطين أجسام لطاف لا تقع تحت حاسة من حواسنا
والأجسام متفاوتة في ذلك تفاوتا كثيرا فمنها ما يدرك أكثر ! الحواس ومنها
مالا يدرك بأكثرها ومنا ما يدرك بحاسة واحدة ومنها مالا ندركه نحن في
الغالب وإن أدرك في بعض الأحوال لكونه لم يخلق لنا إدراكه أو لمانع يمنع
من إدراكه أو للطفه عن إدراك حواسنا فما عدم اللون من الأجسام لم يدرك
بالبصر كالهواء والنار في عنصرها وما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالنار
والحصا والزجاج وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن
وأيضا فالروح هي المدركة لمدارك هذه الحواس بواسطة آلاتها
فالنفس هي الحاسة المدركة وإن لم تكن محسوسة فالأجسام والأعراض محسوسة
والنفس محسة بها وهي القابلة لأعراضها المتعاقبة عليها من الفضائل
والرذائل كقبول الأجرام لأعراضها المتعاقبة عليها وهي المتحركة بأختيارها
المحركة للبدن قسرا وقهرا وهي مؤثرة في البدن متأثرة به تألم وتلذ وتفرح
وتحزن وترضى وتغضب وتنعم وتبأس وتحب وتكره وتذكر وتنسى وتصعد وتنزل وتعرف
وتنكر وآثارها من أدل الدلائل على وجودها كما أن آثار الخالق سبحانه دالة
على وجوده وعلى كماله فإن دلالة الأثر على مؤثره ضرورية
وتأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حس سليم ولا عقل مستقيم ولا
سيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية فإن قواها تتضاعف
وتتزايد بحسب ذلك ولا سيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية
من العفة والشجاعة والعدل والسخاء وتجنبها سفساف الأخلاق ورذائلها وسافلها
فإن تأثيرها في العالم يقوي جدا تأثيرا يعجز عنه البدن وأعراضه أن تنظر
إلى حجر عظيم فتشقه أو حيوان كبير فتتلفه أو إلى نعمة فتزيلها وهذا أمر قد
شاهدته الأمم على اختلاف أجناسها وأديانها وهو الذي سمى إصابة العين
فيضيفون الأثر إلى العين وليس لها في الحقيقة وإنما هو النفس المتكيفة
بكيفية ردية سمية وقد تكون بواسطة نظر العين وقد لا نكون بل يوصف له الشيء
من بعيد فتتكيف عليه نفسه بتلك الكيفية فتفسده وأنت ترى تأثير النفس في
الأجسام صفرة وحمرة وارتعاشا بمجرد مقابلتها لها وقوتها وهذه وأضعافها
آثار خارجة عن تأثير البدن وأعراضه فإن البدن لا يؤثر إلا فيما لاقاه
وماسه تأثيرا مخصوصا ولم تزل الأمم تشهد تأثير الهمم الفعالة في العالم
وتستعين بها وتحذر أثرها وقد أمر رسول الله أن يغسل العائن مغابنه ومواضع
القذر منه ثم يصب ذلك الماء على المعين فإنه يزيل عنه تأثير نفسه فيه وذلك
بسبب أمر طبعي اقتضته حكمة الله سبحانه فإن النفس الأمارة لها بهذه
المواضع تعلق وألف والأرواح الخبيثة الخارجية تساعدها وتألف هذه المواضع
غالبا للمناسبة بينها وبينها فإذا غسلت بالماء طفئت تلك النارية منها كما
يطفأ الحديد المحمى بالماء فإذا صب ذلك الماء على المصاب طفأ عنه تلك
النارية التي وصلت إليه من البعائن وقد وصف الأطباء الماء الذي يطفأ فيه
الحديد لآلام وأوجاع معروفة وقد جرب الناس من تأثير الأرواح بعضها في بعض
عند تجردها في المنام عجائب تفوت الحصر وقد نبهنا على بعضها فيما مضى
فعالم الأرواح عالم آخر أعظم من عالم الأبدان وأحكامه وآثاره
أعجب من آثار الأبدان بل كل ما في العالم من الآثار الإنسانية
فإنما هي من تأثير النفوس بواسطة البدن فالنفوس والأبدان يتعاونان على
التأثير تعاون المشتركين في الفعل وتنفره النفس بآثار لا يشاركها فيها
البدن ولا يكون للبدن تأثير لا تشاركه فيه النفس
وما
كان غنيا عن الجسم في أفعاله كان غنيا عنه في ذاته إلى آخره جوابه أن يقال
لا يلزم من ثبوت حكم في قوة جسمانية ثبوت مثل ذلك الحكم في جميع القوى
الجسمانية وليس معكم غير الدعوى المجردة والقياس الفاسد
وأيضا فالصور والأعراض محتاجة إلى محلها وليس احتياجها إلى تلك
المحال إلا لمجرد ذواتها ولا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في
ذواتها عن تلك المحال فلا يلزم من كون الشيء مستقلا باقتضاء حكم من
الأحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحال والله أعلم
فصل قولكم في العاشر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة الأفعال ولا
تقوى
على القوى بعد الضعف إلى آخره جوابه أن القوة الخيالية جسمانية ثم إنها
تقوى على تخيل الأشياء العظيمة مع تخيلها الأشياء الحقيرة فإنها يمكنها أن
تتخيل الشعلة الصغيرة حال ما تخيل الشمس والقمر
وأيضا فإن الإبصار القوية القاهرة تمنع إبصار الأشياء الضعيفة فكذلك نقول
العقول العظيمة العالية تمنع تعقل المعقولات الضعيفة فإن المستغرق في
معرفة جلال رب الأرض والسموات وأسمائه وصفاته يمتنع عليه في تلك الحال
الفكر في ثبوت الجوهر الفرد وحقيقته
وجب
أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض معا والبداهة حاكمة بأن اجتماعهما
في الجسم محال جوابه أن هذا مبنى على أن من أدرك شيئا فقد حصل في ذات
المدرك صورة مساوية للمدرك وهذا باطل واستدلالكم على صحته بانطباع الصورة
في المرآة باطل فإن المرآة لم ينطبع فيها شيء البتة كما يقوله جمهور
العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم والقول بالانطباع باطل من وجوه
كثيرة ثم نقول إذا كنتم قد قلتم ان المتطبع في النفس عند إدراك السواد
والبياض رسومهما ومثالهما لا حقيقتهما فلم لا يجوز حصول رسوم هذه الأشياء
في المادة الجسمانية
منقسم لم يمنع أن يقوم ببعض أجزاء الجسم علم بالشيء وبالجزء الآخر منه جهل
به فيكون الإنسان عالما بالشيء جاهلا به في وقت واحد جوابه أن هذه الشبهة
منتقضة على أصولكم فإن الشهوة والغضب والتخيل من الأحوال الجسمانية عندكم
ومحلها منقسم فلزمكم أن تجوزوا قيام الشهوة والغضب بأحد الجزأين وضدهما
بالجزء الآخر فيكون مشتهيا للشيء نافرا عنه غضبان عليه غير غضبان في وقت
واحد
مخصوصة امتنع فيها حصول مثلها والنفوس البشرية بضد ذلك إلى آخره
جوابه أن غاية هذا أن يكون قياسا ممتازا بغير جامع وذلك لا يفيد الظن فضلا
عن اليقين فإن النقوش العقلية هي العلوم والإدراكات والنقوش الجسمانية هي
الأشكال والصور ولا ريب أن العلوم مخالفة بحقائقها للصور والأشكال ولا
يلزم من ثبوت حكم في نوع من أنواع الماهيات ثبوته فيما يخالف ذلك النوع
المحرك
رجله وبين إرادته للحركة زمان إلى آخره
جوابه أن النفس مع الجسد لا تخلو من ثلاثة أحوال إما أن تكون لابسة لجميعه
من خارج كالثوب أو تكون في موضع واحد كالقلب والدماغ أو تكون سارية في
جميع أجزاء الجسد وعلى كل تقدير من هذه التقادير فتحريكها لما تريد تحريكه
يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما يلاقيه وإدراك السمع
والشم والذوق وإذا قطع العضو لم ينقطع ما كان من جسم النفس متجللا لذلك
العضو سواء كانت لابسة له من داخل أو من خارج بل تفارق العضو الذى بطل حسه
في الوقت وتتقلص عنه بلا زمان ويكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء
للإناء إذا ملىء ماء وأما إن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من البدن لم
يلزم ان تبين مع العضو المقطوع وأما إن كانت لابسة للبدن من خارج لم يلزم
أن يكون بين إرادتها لتحريكه ونفس التحريك زمان بل يكون فعلها حينئذ في
تحريك الأعضاء كفعل المغناطيس في الحديد وإن لم يلاصقه
ثم نقول هذا الهذيان الذي شغلتم به الزمان وارد عليكم بعينه فإنها عندكم
غير متصلة بالبدن ولا منفصلة عنه ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه فيلزمكم مثل
ذلك
أن
تعلم بعضها وتجهل بعضها فيكون الإنسان عالما ببعض نفسه جاهلا بالبعض الآخر
جوابه أن هذه الشبهة مركبة من مقدمتين تلازميه واستثنائية
والمنع واقع في كلا المقدمتين أو إحداهما فلا نسلم أنها لو كانت جسما لصح
أن تعلم بعضها وتجهل بعضها فإن لنفس بسيطة غير مركبة من هذه العناصر ولا
من الأجزاء المختلفة فمتى شعرت بذاتها شعرت بجهلها فهذا منع المقدمة
التلازمية
وأما الاستثنائية فلا نسلم أنها لا يصح أن تعلم بعضها حال غفلتها عن البعض
الآخر ولم تذكروا على بطلان ذلك شبهة فضلا عن دليل ومن المعلوم أن الإنسان
قد يشعر بنفسه من بعض الوجوه دون كلها ويتفاوت الناس في ذلك فمنهم من يكون
شعوره بنفسه أتم من غيره بدرجات كثيرة وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين
نسوا الله فأنساهم أنفسهم فهؤلاء نسوا نفوسهم لا من جميع الوجوه بل من
الوجه الذي به مصالحها وكمالها وسعادتها وإن لم ينسوها من الوجه الذي منه
شهوتها وحظها وإرادتها فأنساهم مصالح نفوسهم أن يفعلوها ويطلبوها وعيوبها
ونقائصها أن يزيلوها ويجتنبوها وكمالها الذي خلقت له أن يعرفوه ويطلبوه
فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هذه الوجوه وإن كانوا عالمين بها من وجوه أخر
فصل قولكم في السادس عشر لو كانت النفس جسما لوجب ثقل البدن
بدخولها
فيه لأن من شأن الجسم إذا زدت عليه جسما آخر أن يثقل به
فهذه شبهة في غاية الثقلة والمحتج بها أثقل وليس كل جسم زيد عليه جسم آخر
ثقله فهذه الخشبة تكون ثقيلة فإذا زيد عليها جسم النار خفت جدا وهذا الظرف
يكون ثقيلا فإذا دخله جسم الهواء خف وهذا إنما يكون في الأجسام الثقال
التي تطلب المركز والوسط بطبعها وهي تتحرك بالطبع إليه وأما الأجسام التي
تتحرك بطبعها إلى العلو فلا يعرض لها ذلك بل الأمر فيها بالضد من تلك
الأجسام الثقال بل إذا أضيفت إلى جسم ثقيل أكسبته الخفة وقد أخذ هذا
المعنى بعضهم فقال
ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
الأجسام التي لا تخلو منها من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والرطوبة
واليبوسة والنعومة والخشونة
إلى آخره شبهة فاسدة وحجة داحضة فإنه لا يجب اشتراك الأجسام في
جميع الكيفيات والصفات وقد فاوت الله سبحانه بين صفاتها وكيفياتها
وطبائعها منها ما يرى بالبصر ويلمس باليد ومنها ما لا يرى ولا يلمس ومنا
ماله لون ومنها مالا لون له ومنها مالا يقل الحرارة والبرودة ومنها ما
يقبله على أن للنفس من الكيفيات المختصة بها مالا يشاركها فيها البدن ولها
خفة وثقل وحرارة وبرودة ويبس ولين يحسبها وأنت تجد الإنسان في غاية
الثقالة وبدنه نحيل جدا وتجده في غاية الخفة وبدنه ثقيل وتجد نفسها لينة
وادعة ونفسا يابسة قاسية ومن له حس سليم يشم رائحة بعض النفوس كالجيفة
المنتنة ورائحة بعضها أطيب من ريح المسك وقد كان رسول الله إذا مر في طريق
بقي أثر رائحته في الطريق ويعرف أنه مر بها وتلك رائحة نفسه وقلبه وكانت
رائحة عرقه من أطيب شيء وذلك تابع لطيب نفسه وبدنه وأخبر وهو أصدق البشر
أن الروح عند المفارقة يوجد ! لها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض أو
كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ولولا الزكام الغالب لشم الحاضرون ذلك
على أن كثيرا من الناس يجد ذلك وقد أخبر به غير واحد ويكفي فيه خبر الصادق
المصدوق وكذلك أخبر بأن أرواح المؤمنين مشرقة وأرواح الكفار سود
وبالجملة فكيفيات النفوس أظهر من أن ينكرها إلا من هو من أجهل الناس بها
فصل قولكم في الثامن عشر لو كانت النفس جسما لوجب أن تقع تحت
جميع الحواس أو تحت حاسة منها إلى آخره
فجوابه منع اللزوم فإنكم لم تذكروا عليه شبهة فضلا عن دليل ومنع انتفاء
اللازم فإن الروح تدرك بالحواس فتلمس وترى وتشم لها الرائحة الطيبة
والخبيثة كما تقدم في النفوس المستفيضة ولكن لا نشاهد نحن ذلك وهذا الدليل
لا يمكن ممن يصدق الرسل أن يحتج به فإن الملك جسم ولا يقع تحت حاسة من
حواسنا وكذلك الجن والشياطين أجسام لطاف لا تقع تحت حاسة من حواسنا
والأجسام متفاوتة في ذلك تفاوتا كثيرا فمنها ما يدرك أكثر ! الحواس ومنها
مالا يدرك بأكثرها ومنا ما يدرك بحاسة واحدة ومنها مالا ندركه نحن في
الغالب وإن أدرك في بعض الأحوال لكونه لم يخلق لنا إدراكه أو لمانع يمنع
من إدراكه أو للطفه عن إدراك حواسنا فما عدم اللون من الأجسام لم يدرك
بالبصر كالهواء والنار في عنصرها وما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالنار
والحصا والزجاج وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن
وأيضا فالروح هي المدركة لمدارك هذه الحواس بواسطة آلاتها
فالنفس هي الحاسة المدركة وإن لم تكن محسوسة فالأجسام والأعراض محسوسة
والنفس محسة بها وهي القابلة لأعراضها المتعاقبة عليها من الفضائل
والرذائل كقبول الأجرام لأعراضها المتعاقبة عليها وهي المتحركة بأختيارها
المحركة للبدن قسرا وقهرا وهي مؤثرة في البدن متأثرة به تألم وتلذ وتفرح
وتحزن وترضى وتغضب وتنعم وتبأس وتحب وتكره وتذكر وتنسى وتصعد وتنزل وتعرف
وتنكر وآثارها من أدل الدلائل على وجودها كما أن آثار الخالق سبحانه دالة
على وجوده وعلى كماله فإن دلالة الأثر على مؤثره ضرورية
وتأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حس سليم ولا عقل مستقيم ولا
سيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية فإن قواها تتضاعف
وتتزايد بحسب ذلك ولا سيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية
من العفة والشجاعة والعدل والسخاء وتجنبها سفساف الأخلاق ورذائلها وسافلها
فإن تأثيرها في العالم يقوي جدا تأثيرا يعجز عنه البدن وأعراضه أن تنظر
إلى حجر عظيم فتشقه أو حيوان كبير فتتلفه أو إلى نعمة فتزيلها وهذا أمر قد
شاهدته الأمم على اختلاف أجناسها وأديانها وهو الذي سمى إصابة العين
فيضيفون الأثر إلى العين وليس لها في الحقيقة وإنما هو النفس المتكيفة
بكيفية ردية سمية وقد تكون بواسطة نظر العين وقد لا نكون بل يوصف له الشيء
من بعيد فتتكيف عليه نفسه بتلك الكيفية فتفسده وأنت ترى تأثير النفس في
الأجسام صفرة وحمرة وارتعاشا بمجرد مقابلتها لها وقوتها وهذه وأضعافها
آثار خارجة عن تأثير البدن وأعراضه فإن البدن لا يؤثر إلا فيما لاقاه
وماسه تأثيرا مخصوصا ولم تزل الأمم تشهد تأثير الهمم الفعالة في العالم
وتستعين بها وتحذر أثرها وقد أمر رسول الله أن يغسل العائن مغابنه ومواضع
القذر منه ثم يصب ذلك الماء على المعين فإنه يزيل عنه تأثير نفسه فيه وذلك
بسبب أمر طبعي اقتضته حكمة الله سبحانه فإن النفس الأمارة لها بهذه
المواضع تعلق وألف والأرواح الخبيثة الخارجية تساعدها وتألف هذه المواضع
غالبا للمناسبة بينها وبينها فإذا غسلت بالماء طفئت تلك النارية منها كما
يطفأ الحديد المحمى بالماء فإذا صب ذلك الماء على المصاب طفأ عنه تلك
النارية التي وصلت إليه من البعائن وقد وصف الأطباء الماء الذي يطفأ فيه
الحديد لآلام وأوجاع معروفة وقد جرب الناس من تأثير الأرواح بعضها في بعض
عند تجردها في المنام عجائب تفوت الحصر وقد نبهنا على بعضها فيما مضى
فعالم الأرواح عالم آخر أعظم من عالم الأبدان وأحكامه وآثاره
أعجب من آثار الأبدان بل كل ما في العالم من الآثار الإنسانية
فإنما هي من تأثير النفوس بواسطة البدن فالنفوس والأبدان يتعاونان على
التأثير تعاون المشتركين في الفعل وتنفره النفس بآثار لا يشاركها فيها
البدن ولا يكون للبدن تأثير لا تشاركه فيه النفس
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل قولكم في التاسع عشر لو كانت النفس جسما لكانت ذات طول وعرض
وعمق وشكل وسطح وهذه المقادير لا تقوم إلا بمادة إلى آخره
جوابه أنا نقول قولكم هذه المقادير لا تقوم إلا بمادة قلنا وكان ماذا
والنفس لها مادة خلقت منها وجعلت على شكل معين وصورة معينة
قولكم مادتها إن كانت نفسا لزم اجتماع نفسين وإن كانت غير نفس كانت مركبة
من بدن وصورة
قلنا مادتها ليست نفسا كما أن مادة الإنسان ليست إنسانا ومادة الجن ليست
جنا ومادة الحيوان ليست حيوانا
قولكم يلزم كون النفس مركبة من بدن وصورة مقدمة كاذبة وإنما يلزم كون
النفس مخلوقة من مادة ولها صورة معينة وهكذا نقول سواء ولم تذكروا على
بطلان هذه شبهة فضلا عن حجة ظنية أو قطعية
فصل قولكم في الوجه العشرين أن خاصة الجسم أن يقبل التجزيء !
وأن الجزء
الصغير منه ليس كالكبير فلو قبلت التجزيء فكل جزء منها إن كان نفسا لزم أن
يكون للإنسان نفوس كثيرة وإن لم يكن نفسا لم يكن المجموع نفسا
جوابه إن أردتم أن كل جسم يقبل التجزيء في الخارج فكذب ظاهر فإن الشمس
والقمر والكواكب لا تقبل ذلك ولا يلزم أن كل جسم يصح عليه التجزيء
والتبعيض في الخارج أما على قول نفاة الجوهر الفرد فظاهر وأما على قول
متبنيه ! فإنه عندهم جوهر متحيز لا يصح عليه قبول الانقسام سلمنا أنها
تقبل الانقسام فأي شيء يلزم من ذلك
قولكم إن كان كل جزء من تلك الأجزاء نفسا لزم اجتماع نفوس كثيرة في
الإنسان
قلنا إنما يلزم ذلك لو انقسمت النفس بالفعل إلى نفوس كثيرة وهذا محال
قولكم وإن لم يكن كل جزء نفسا لم يكن المجموع نفسا مقدمة كاذبة منتقضة فكم
ماهية ثبت لها حكم عند اجتماع أجزائها فإن ذلك الحكم كماهية البيت
والإنسان والعشرة وغيرها
فصل قولكم في الوجه الحادي والعشرين أن الجسم يحتاج في قوامه
وبقائه
وحفظه إلى نفس أخرى ويلزم التسلسل
جوابه أنه يلزم من افتقار البدن إلى نفس تحفظه افتقار النفس إلى نفس
تحفظها وهل ذلك إلا بمجرد دعوة كاذبة مستندة إلى قياس قد تبين بطلانه فإن
كل جسما لا يصير إلى نفس تحفظه كأجسام المعادن وجسم الهواء والماء والنار
والتراب وأجسام سائر الجمادات
فإن قلتم إن هذه ليست أحياء ناطقة بخلاف النفس فإنها حية ناطقة
قلنا فحينئذ يبقى الدليل هكذا أي كل جسم حي ناطق يحتاج في حفظه وقيامه إلى
نفس نقوم به وهذه دعوى مجردة وهي كاذبة فإن الجن والملائكة أحياء ناطقون
وليسوا مفتقرين في قيامهم إلى أرواح أخر تقوم بهم
فإن قلتم وكلامنا معكم في الجن والملائكة فإنهم ليسوا بأجسام متحيزة
قلنا الكلام مع من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأما من كفر بذلك
فالكلام معه في النفس ضائع وقد كفر بفاطر النفس ومبدعها وملائكته وما جاءت
به رسله وكان تاركا ما دل عليه العيان مع دليل الإيمان فإن الآثار
المشهودة في العالم من تأثيرات الملائكة والجن بإذن ربهم لا يمكن إنكارها
وهي موجودة بنفسها ولا تقدر عليها القوى البشرية
فصل قولكم في الثاني والعشرين لو كانت جسما لكان اتصالها بالبدن
إن
كان على سبيل المداخلة لزم تداخل الأجسام وإن كان على سبيل الملاصقة
والمجاورة كان للإنسان الواحد جسمان متلاصقان أحدهما يرى والآخر لا يرى
جوابه من وجوه
أحدها أن تتداخل الأجسام المحال أن يتداخل جسمان كثيفان أحدهما في الآخر
بحيث يكون حيزهما واحدا وأما أن يدخل جسم لطيف في كثيف يسرى فيه فهذا ليس
بمحال
الثاني أن هذا باطل بصور كثيرة منها دخول الماء في العود والسحاب ودخول
النار في الحديد ودخول الغذاء في جميع أجزاء البدن ودخول الجن في المصروع
فالروح للطافتها لا يمتنع عليها مشابكة البدن والدخول في جميع أجزائه
الثالث أن حيز النفس البدن وحيزه مكانه المنفصل عنه وهذا ليس
بتداخل ممتنع فإذا فارقته صار لها حيز آخر غير حيزه وحينئذ فلا يتداخلان
بل يصير لكل منهما حيز يخصه وبالجملة فدخول الروح في البدن الطف من دخول
الماء في الثرى والدهن في البدن فهذه الشبهة الفاسدة لا يعارض بها ما دل
عليها نصوص الوحي والأدلة العقلية وبالله التوفيق
المسألة العشرون وهي هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران
فأختلف الناس في ذلك
فمن قائل أن مسماهما واحد وهم الجمهور
ومن قائل أنهما متغايران ونحن نكشف سر المسألة بحول الله وقوته فنقول
النفس تطلق على أمور
أحدها الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش
نجما سالما والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر
أي بجفن سيف ومئزر والنفس والدم قال سألت نفسه وفي الحديث مالا نفس له
سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه والنفس الجسد
قال الشاعر
نبئت أن بني تميم أدخلوا ... أبناءهم تامور نفس المنذر
والتامور الدم والنفس العين يقال أصابت فلانا أي عين
قلت ليس كما قال بل النفس ها هنا الروح ونسبة الإضافة إلى العين توسع
لأنها تكون بواسطة النظر المصيب والذي أصابه إنما هو نفس العائن كما تقدم
قلت والنفس في القرآن تطلق على الذات بحملتها كقوله تعالى فسلموا على
أنفسكم وقوله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وقوله تعالى كل نفس
بما كسبت رهينة وتطلق على الروح وحدها كقوله تعالى يا أيتها النفس
المطمئنة وقوله تعالى أخرجوا أنفسكم وقوله تعالى ونهى النفس عن الهوى
وقوله تعالى إن النفس لأمارة بالسوء
وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بإنفراده ولا مع النفس وتطلق الروح على
القرآن الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله قال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا
من أمرنا
وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله قال تعالى يلقى الروح من أمره
على من
يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ! وقال تعالى ينزل الملائكة
بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فإتقون
وسمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع
صاحبها البتة بل حياة الحيوان البهيم ! خير منها وأسلم عاقبة
وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من
الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح قال الشاعر
إذا ذهبت الأرواح من نحو أرضكم ... وجدت لمسرها على كبدي بردا
ومنها الروح والريحان والاستراحة فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت
نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها وإما من تنفس الشيء إذا خرج
فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا ومنه النفس بالتحريك فإن العبد
كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا
دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه
فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات وإنما سمي الدم نفسا
لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس وإن الحياة لا تتم إلا به
كما لا تتم إلا بالنفس فلهذا قال
تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل
ويقال فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت نفسه كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن
الفيض الاندفاع وهلة واحدة ومنه الإفاضة وهي الاندفاع بكثرة وسرعة لكن
أفاض إذا دفع بإختياره وإرادته إذا اندفع قسرا وقهرا فالله سبحانه هو الذي
يفيضها عند الموت فتفيض هي
فصل وقالت فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف الروح غير
النفس
قال مقاتل بن سليمان للإنسان حياة وروح ونفس فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل
بها الأشياء ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع فيرى الرؤيا
بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد فيه يتقلب ويتنفس فإذا
حرك رجعت إليه أسرع من طرفة عين فإذا أراد الله عز و جل أن يميته في
المنام أمسك تلك النفس التي خرجت وقال أيضا إذا نام خرجت نفسه فصعدت إلى
فوق فإذا رأت الرؤيا رجعت فأخبرت الروح ويخبر الروح فيصبح يعلم أنه قد رأى
كيت وكيت
قال أبو عبد الله بن منده ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس
فقال بعضهم النفس طينية نارية والروح نورية روحانية
وقال بعضهم الروح لاهوتية والنفس ناسوتية وأن الخلق بها ابتلى
وقالت طائفة وهم أهل الأثر أن الروح غير النفس والنفس غير الروح وقوام
النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا
عدو أعدى لابن آدم من نفسه فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها
والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها وجعل الهوى تبعا للنفس والشيطان تبع النفس
والهوى والملك مع العقل والروح والله تعالى يمدهما بالهامة وتوفيقه
وقال بعضهم الأرواح من أمر الله أخفى حقيقتها وعلمها على الخلق
وقال بعضهم الأرواح نور من نور الله وحياة من حياة الله
ثم اختلفوا في الأرواح هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت
فقالت طائفة الأرواح لا تموت ولا تبلى
وقالت الجماعة الأرواح على صور الخلق لها أيد وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان
وقالت طائفة للمؤمن ثلاثة أرواح وللمنافق والكافر روح واحدة
وقال بعضهم للأنبياء والصديقين خمس أرواح
وقال بعضهم الأرواح روحانية خلقت من الملكوت فإذا صفت رجعت إلى الملكوت
قلت أما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس
وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما
قال تعالى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وكذلك الروح الذي
أيد بها روحه المسح ابن مريم كما قال تعالى إذ قال الله يا عيسى ابن مريم
اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدك بروح القدس وكذلك الروح التي يلقيها
على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن
وأما القوى التي في البدن فإنها تسمى أيضا أرواحا فيقال الروح الباصر
والروح السامع والروح الشام فهذه الأرواح قوى مودعة في البدن تموت بموت
الأبدان وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن ولا تبلى كما يبلى ويطلق
الروح على أخص من هذا كله وهو قوة
المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه
وإرادته ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن فإذا فقدتها
الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه وهي الروح التي يؤيد بها أهل ولايته
وطاعته ولهذا يقول الناس فلان فيه روح وفلان ما فيه روح وهو بو وهو قصبة
فارغة ونحو ذلك
فللعلم روح وللإحسان روح وللإخلاص روح وللمحبة والإنابة روح وللتوكل
والصدق روح والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت فمنهم من تغلب عليه
هذه الأرواح فيصير روحانيا ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا
والله المستعان
وعمق وشكل وسطح وهذه المقادير لا تقوم إلا بمادة إلى آخره
جوابه أنا نقول قولكم هذه المقادير لا تقوم إلا بمادة قلنا وكان ماذا
والنفس لها مادة خلقت منها وجعلت على شكل معين وصورة معينة
قولكم مادتها إن كانت نفسا لزم اجتماع نفسين وإن كانت غير نفس كانت مركبة
من بدن وصورة
قلنا مادتها ليست نفسا كما أن مادة الإنسان ليست إنسانا ومادة الجن ليست
جنا ومادة الحيوان ليست حيوانا
قولكم يلزم كون النفس مركبة من بدن وصورة مقدمة كاذبة وإنما يلزم كون
النفس مخلوقة من مادة ولها صورة معينة وهكذا نقول سواء ولم تذكروا على
بطلان هذه شبهة فضلا عن حجة ظنية أو قطعية
وأن الجزء
الصغير منه ليس كالكبير فلو قبلت التجزيء فكل جزء منها إن كان نفسا لزم أن
يكون للإنسان نفوس كثيرة وإن لم يكن نفسا لم يكن المجموع نفسا
جوابه إن أردتم أن كل جسم يقبل التجزيء في الخارج فكذب ظاهر فإن الشمس
والقمر والكواكب لا تقبل ذلك ولا يلزم أن كل جسم يصح عليه التجزيء
والتبعيض في الخارج أما على قول نفاة الجوهر الفرد فظاهر وأما على قول
متبنيه ! فإنه عندهم جوهر متحيز لا يصح عليه قبول الانقسام سلمنا أنها
تقبل الانقسام فأي شيء يلزم من ذلك
قولكم إن كان كل جزء من تلك الأجزاء نفسا لزم اجتماع نفوس كثيرة في
الإنسان
قلنا إنما يلزم ذلك لو انقسمت النفس بالفعل إلى نفوس كثيرة وهذا محال
قولكم وإن لم يكن كل جزء نفسا لم يكن المجموع نفسا مقدمة كاذبة منتقضة فكم
ماهية ثبت لها حكم عند اجتماع أجزائها فإن ذلك الحكم كماهية البيت
والإنسان والعشرة وغيرها
وبقائه
وحفظه إلى نفس أخرى ويلزم التسلسل
جوابه أنه يلزم من افتقار البدن إلى نفس تحفظه افتقار النفس إلى نفس
تحفظها وهل ذلك إلا بمجرد دعوة كاذبة مستندة إلى قياس قد تبين بطلانه فإن
كل جسما لا يصير إلى نفس تحفظه كأجسام المعادن وجسم الهواء والماء والنار
والتراب وأجسام سائر الجمادات
فإن قلتم إن هذه ليست أحياء ناطقة بخلاف النفس فإنها حية ناطقة
قلنا فحينئذ يبقى الدليل هكذا أي كل جسم حي ناطق يحتاج في حفظه وقيامه إلى
نفس نقوم به وهذه دعوى مجردة وهي كاذبة فإن الجن والملائكة أحياء ناطقون
وليسوا مفتقرين في قيامهم إلى أرواح أخر تقوم بهم
فإن قلتم وكلامنا معكم في الجن والملائكة فإنهم ليسوا بأجسام متحيزة
قلنا الكلام مع من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأما من كفر بذلك
فالكلام معه في النفس ضائع وقد كفر بفاطر النفس ومبدعها وملائكته وما جاءت
به رسله وكان تاركا ما دل عليه العيان مع دليل الإيمان فإن الآثار
المشهودة في العالم من تأثيرات الملائكة والجن بإذن ربهم لا يمكن إنكارها
وهي موجودة بنفسها ولا تقدر عليها القوى البشرية
إن
كان على سبيل المداخلة لزم تداخل الأجسام وإن كان على سبيل الملاصقة
والمجاورة كان للإنسان الواحد جسمان متلاصقان أحدهما يرى والآخر لا يرى
جوابه من وجوه
أحدها أن تتداخل الأجسام المحال أن يتداخل جسمان كثيفان أحدهما في الآخر
بحيث يكون حيزهما واحدا وأما أن يدخل جسم لطيف في كثيف يسرى فيه فهذا ليس
بمحال
الثاني أن هذا باطل بصور كثيرة منها دخول الماء في العود والسحاب ودخول
النار في الحديد ودخول الغذاء في جميع أجزاء البدن ودخول الجن في المصروع
فالروح للطافتها لا يمتنع عليها مشابكة البدن والدخول في جميع أجزائه
الثالث أن حيز النفس البدن وحيزه مكانه المنفصل عنه وهذا ليس
بتداخل ممتنع فإذا فارقته صار لها حيز آخر غير حيزه وحينئذ فلا يتداخلان
بل يصير لكل منهما حيز يخصه وبالجملة فدخول الروح في البدن الطف من دخول
الماء في الثرى والدهن في البدن فهذه الشبهة الفاسدة لا يعارض بها ما دل
عليها نصوص الوحي والأدلة العقلية وبالله التوفيق
المسألة العشرون وهي هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران
فأختلف الناس في ذلك
فمن قائل أن مسماهما واحد وهم الجمهور
ومن قائل أنهما متغايران ونحن نكشف سر المسألة بحول الله وقوته فنقول
النفس تطلق على أمور
أحدها الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش
نجما سالما والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر
أي بجفن سيف ومئزر والنفس والدم قال سألت نفسه وفي الحديث مالا نفس له
سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه والنفس الجسد
قال الشاعر
نبئت أن بني تميم أدخلوا ... أبناءهم تامور نفس المنذر
والتامور الدم والنفس العين يقال أصابت فلانا أي عين
قلت ليس كما قال بل النفس ها هنا الروح ونسبة الإضافة إلى العين توسع
لأنها تكون بواسطة النظر المصيب والذي أصابه إنما هو نفس العائن كما تقدم
قلت والنفس في القرآن تطلق على الذات بحملتها كقوله تعالى فسلموا على
أنفسكم وقوله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وقوله تعالى كل نفس
بما كسبت رهينة وتطلق على الروح وحدها كقوله تعالى يا أيتها النفس
المطمئنة وقوله تعالى أخرجوا أنفسكم وقوله تعالى ونهى النفس عن الهوى
وقوله تعالى إن النفس لأمارة بالسوء
وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بإنفراده ولا مع النفس وتطلق الروح على
القرآن الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله قال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا
من أمرنا
وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله قال تعالى يلقى الروح من أمره
على من
يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ! وقال تعالى ينزل الملائكة
بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فإتقون
وسمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع
صاحبها البتة بل حياة الحيوان البهيم ! خير منها وأسلم عاقبة
وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من
الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح قال الشاعر
إذا ذهبت الأرواح من نحو أرضكم ... وجدت لمسرها على كبدي بردا
ومنها الروح والريحان والاستراحة فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت
نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها وإما من تنفس الشيء إذا خرج
فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا ومنه النفس بالتحريك فإن العبد
كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا
دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه
فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات وإنما سمي الدم نفسا
لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس وإن الحياة لا تتم إلا به
كما لا تتم إلا بالنفس فلهذا قال
تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل
ويقال فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت نفسه كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن
الفيض الاندفاع وهلة واحدة ومنه الإفاضة وهي الاندفاع بكثرة وسرعة لكن
أفاض إذا دفع بإختياره وإرادته إذا اندفع قسرا وقهرا فالله سبحانه هو الذي
يفيضها عند الموت فتفيض هي
فصل وقالت فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف الروح غير
النفس
قال مقاتل بن سليمان للإنسان حياة وروح ونفس فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل
بها الأشياء ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع فيرى الرؤيا
بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد فيه يتقلب ويتنفس فإذا
حرك رجعت إليه أسرع من طرفة عين فإذا أراد الله عز و جل أن يميته في
المنام أمسك تلك النفس التي خرجت وقال أيضا إذا نام خرجت نفسه فصعدت إلى
فوق فإذا رأت الرؤيا رجعت فأخبرت الروح ويخبر الروح فيصبح يعلم أنه قد رأى
كيت وكيت
قال أبو عبد الله بن منده ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس
فقال بعضهم النفس طينية نارية والروح نورية روحانية
وقال بعضهم الروح لاهوتية والنفس ناسوتية وأن الخلق بها ابتلى
وقالت طائفة وهم أهل الأثر أن الروح غير النفس والنفس غير الروح وقوام
النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا
عدو أعدى لابن آدم من نفسه فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها
والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها وجعل الهوى تبعا للنفس والشيطان تبع النفس
والهوى والملك مع العقل والروح والله تعالى يمدهما بالهامة وتوفيقه
وقال بعضهم الأرواح من أمر الله أخفى حقيقتها وعلمها على الخلق
وقال بعضهم الأرواح نور من نور الله وحياة من حياة الله
ثم اختلفوا في الأرواح هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت
فقالت طائفة الأرواح لا تموت ولا تبلى
وقالت الجماعة الأرواح على صور الخلق لها أيد وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان
وقالت طائفة للمؤمن ثلاثة أرواح وللمنافق والكافر روح واحدة
وقال بعضهم للأنبياء والصديقين خمس أرواح
وقال بعضهم الأرواح روحانية خلقت من الملكوت فإذا صفت رجعت إلى الملكوت
قلت أما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس
وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما
قال تعالى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وكذلك الروح الذي
أيد بها روحه المسح ابن مريم كما قال تعالى إذ قال الله يا عيسى ابن مريم
اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدك بروح القدس وكذلك الروح التي يلقيها
على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن
وأما القوى التي في البدن فإنها تسمى أيضا أرواحا فيقال الروح الباصر
والروح السامع والروح الشام فهذه الأرواح قوى مودعة في البدن تموت بموت
الأبدان وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن ولا تبلى كما يبلى ويطلق
الروح على أخص من هذا كله وهو قوة
المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه
وإرادته ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن فإذا فقدتها
الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه وهي الروح التي يؤيد بها أهل ولايته
وطاعته ولهذا يقول الناس فلان فيه روح وفلان ما فيه روح وهو بو وهو قصبة
فارغة ونحو ذلك
فللعلم روح وللإحسان روح وللإخلاص روح وللمحبة والإنابة روح وللتوكل
والصدق روح والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت فمنهم من تغلب عليه
هذه الأرواح فيصير روحانيا ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا
والله المستعان
صفحة 3 من اصل 3 • 1, 2, 3
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى