رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه المستعان وعليه التكلان
قال الشيخ الإمام العالم أبو الفرج؛ عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي
رحمة الله عليه: الحمد لله حمداً يبلغ رضاه، وصلى الله على أشرف من
اجتباه، وعلى من صاحبه ووالاه، وسلم تسليماً لا يدرك منتهاه.
لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان
من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: قيدوا العلم بالكتابة.
وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته فيذهب، فأتأسف عليه.
ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح له من عجائب الغيب، ما لم
يكن في حساب، فأنثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت
هذا الكتاب قيداً - لصيد الخاطر - والله ولي النفع، إنه قريب مجيب.
فصل بين اليقظة والغفلة
قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت
القسوة والغفلة ! فتدبرت السبب في ذلك، فعرفته.
ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة
من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها، لسببين.
أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت
وقوعها.
والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة، قد تخلى
بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل
اجتذبته بآفاتها، وكيف يصح أن يكون كما كان ؟!.
وهذه حالة تعم الخلق، إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر.
فمنهم من يعزم بلا تردد، ويمضي من غير التفات، فلو توقف بهم ركب الطبع
لضجوا كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة !.
ومنهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحياناً، ويدعوهم ما تقدم من
المواعظ إلى العمل أحياناً، فهم كالسنبلة تميلها الرياح !.
وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه، كما دحرجته على صفوان.... !!.
فصل روابط النفس بالدنيا
جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة ثم هي من داخل، وذكر الآخرة أمر خارج عن
الطبع، من خارج.
وربما ظن من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى، لما يسمع من الوعيد في
القرآن.
وليس كذلك. لأن مثل الطبع في ميله إلى الدنيا، كالماء الجاري فإنه يطلب
الهبوط، وإنما رفعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف.
ولهذا أجاب معاون الشرع: بالترغيب والترهيب يقوى جند العقل.
فأما الطبع فجواذبه كثيرة، وليس العجب أن يغلب، إنما العجب أن يغلب.
فصل تقدير العواقب
من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها، نال خيرها، ونجا من شرها.
ومن لم ير العواقب غلب عليه الحس، فعاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة
وبالنصب ما رجا منه الراحة.
وبيان هذا في المستقبل، يتبين بذكر الماضي، وهو أنك لا تخلو، أن تكون عصيت
الله في عمرك، أو أطعته.
فأين لذة معصيتك ؟ وأين تعب طاعتك ؟ هيهات رحل كل بما فيه ! فليت الذنوب
إذ تخلت خلت ! وأزيدك في هذا بياناً: مثل ساعة الموت، وأنظر إلى مرارة
الحسرات على التفريط، ولا أقول: كيف تغلب حلاوة اللذات، لأن حلاوة اللذات
استحالت حنظلاً، فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم.
أتراك ما علمت أن الأمر بعواقبه ؟ فراقب العواقب تسلم، ولا تمل مع هوى
الحس فتندم.
فصل متاع الغرور
من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه " وتخشى
الناس واللّه أحق أن تخشاه " .
تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن.
أعجب العجائب، سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك، عما قد خبىء لك.
تغتر بصحتك وتنسى دنو السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم.
لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، وأبدى مضجع سواك - قبل الممات - مضجعك.
وقد شغلك نيل لذاتك، عن ذكر خراب ذاتك:
كأنّك لم تسمع بأخبار من مضى ... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر !
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الرّيح بعدك والقبر !
كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده، حتى نزل !.
وكم شاهدت والي قصر، وليه عدوه لما عزل !.
فيا من كل لحظة إلى هذا يسري، وفعله فعل من لا يفهم ولا يدري...
وكيف تنام العين وهي قريرة ؟ ... ولم تدر من أيّ المحلين تنزل ؟
فصل لا تحم حول الحمى
من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة. ومن ادعى الصبر، وكل إلى نفسه.
ورب نظرة لم تناظر !.
وأحق الأشياء بالضبط والقهر، اللسان والعين.
فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى، مع مقاربة الفتنة. فإن الهوى
مكايد.
وكم من شجاع في صف الحرب اغتيل فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه !
واذكر حمزة مع وحشي.
فتبصّر ولا تشم كلّ برقٍ ... ربّ برقٍ فيه صواعق حين
واغضض الطرف تسترح من غرام ... تكتسي فيه ثوب ذل وشين
فبلاء الفتى موافقة النف ... س وبدء الهوى طموح العين
فصل حالة القلب مع العبادة
أعظم المعاقبة أن لا يحس المعاقب بالعقوبة. وأشد من ذلك أن يقع السرور بما
هو عقوبة، كالفرح بالمال الحرام، والتمكن من الذنوب.
ومن هذه حاله، لا يفوز بطاعة.
وإني تدبرت أحوال أكثر العلماء والمتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون
بها، ومعظمها من قبل طلبهم للرياسة.
فالعالم منهم، يغضب إن رد عليه خطؤه، والواعظ متصنع بوعظه، والمتزهد منافق
أو مراء.
فأول عقوباتهم، إعراضهم عن الحق شغلاً بالخلق.
ومن خفي عقوباتهم، سلب حلاوة المناجاة، ولذة التعبد.
إلا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم،
بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم، بل أحلى، وهممهم عند الثريا، بل أعلى.
إن عرفوا تنكروا، وإن رئيت لهم كرامة، أنكروا.
فالناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض، وتفرح بهم أملاك
السماء.
نسأل الله معز وجل التوفيق لاتباعهم، وأن يجعلنا من أتباعهم.
فصل دعوة إلى علو الهمة
من علامة كمال العقل علو الهمة ! والراضي بالدون دنيء !!.
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
فصل المحبة الإلهية
سبحان من سبقت محبته لأحبابه، فمدحهم على ما وهب لهم، واشترى منهم ما
أعطاهم، وقدم المتأخر من أوصافهم، لموضع إيثارهم، فباهى بهم في صومهم،
وأحب خلوف أفواههم.
يا لها من حالة مصونة لا يقدر عليها كل طالب ! ولا يبلغ كنه وصفها كل خاطب.
فصل دوام اليقظة
الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه، ولا
يدري متى يستدعى ؟.
وإني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ونسوا فقد الأقران، وألهاهم طول الأمل.
وربما قال العالم المحض لنفسه: أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً
فيتساهل في الزلل بحجة الراحة، ويؤخر الأهبة لتحقيق التوبة، ولا يتحاشى من
غيبة أو سماعها، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع.
وينسى أن الموت قد يبغت فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه. فإن
بغته الموت رئي مستعداً، وإن نال الأمل ازداد خيراً.
فصل الذنب.. وعقوبته
خطرت لي فكرة فيما يجري على كثير من العالم من المصائب الشديدة، والبلايا
العظيمة، التي تتناهى إلى نهاية الصعوبة.
فقلت: سبحان الله ! إن الله أكرم الأكرمين، والكرم يوجب المسامحة.
فما وجه هذه المعاقبة ؟.
فتفكرت، فرأيت كثيراً من الناس في وجودهم كالعدم، لا يتصفحون أدلة
الوحدانية، ولا ينظرون في أوامر الله تعالى ونواهيه، بل يجرون - على
عاداتهم - كالبهائم.
فإن وافق الشرع مرادهم، وإلا فمعولهم على أغراضهم.
وبعد حصول الدينار لا يبالون، أمن حلال كان أم من حرام.
وإن سهلت عليهم الصلاة فعلوها، وإن لم تسهل تركوها.
وفيهم من يبارز بالذنوب العظيمة، مع نوع معرفة المناهي.
وربما قويت معرفة عالم منهم، وتفاقمت ذنوبه.
فعلمت أن العقوبات، وإن عظمت دون إجرامهم.
فإذا وقعت عقوبة لتمحص ذنباً، صاح مستغيثهم: ترى هذا بأي ذنب ؟.
وينسى ما قد كان، مما تتزلزل الأرض لبعضه.
وقد يهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب، ولا يدري أن ذلك لإهماله حق
الله تعالى في شبابه.
فمتى رأيت معاقباً، فاعلم أنه لذنوب.
فصل حقيقة زهد العلماء
تأملت التحاسد بين العلماء، فرأيت منشأه من حب الدنيا، فإن علماء الآخرة
يتوادون ولا يتحاسدون، كما قال عز وجل: " وَلاَ يَجدُون في صُدُورِهِمْ
حَاجَة مِمَّا أُوتُوا " .
وقال تعالى: " والّذِيْنَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ:
رَبَّنَا أغْفِرْ لَنَا ولإِخْوَانِنا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيمَانِ
وَلاَ تَجْعَلْ فيِ قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمنُوا " .
وقد كان أبو الدرداء: يدعو كل ليلة لجماعة من إخوانه.
وقال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي: أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل
ليلة وقت السحر.
والأمر الفارق بين الفئتين: أن علماء الدنيا، ينظرون إلى الرياسة فيها،
ويحبون كثرة الجمع والثناء.
وعلماء الآخرة، بمعزل من إيثار ذلك، وقد كانوا يتخوفونه، ويرحمون من بلي
به.
وكان النخعي: لا يستند إلى سارية.
وقال علقمة: أكره أن يوطأ عقبي.
وكان بعضهم: إذا جلس إليه أكثر من أربعة، قام عنهم.
وكانوا يتدافعون الفتوى، ويحبون الخمول، مثل القوم، كمثل راكب البحر، وقد
خب، فعنده إلى أن يوقن بالنجاة.
وإنما كان بعضهم يدعو لبعض، ويستفيد منه لأنهم ركب تصاحبوا فتوادوا،
فالأيام والليالي مراحلهم إلى سفر الجنة.
فصل ثمار الطاعة
من أحب تصفية الأحوال، فليجتهد في تصفية الأعمال.
قال الله عز وجل: " وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ،
لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: لو أن عبادي
أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم
صوت الرعد.
وقال صلى الله عليه وسلم: البر لا يبلى، والإثم لا ينسى والديان لا ينام
وكما تدين تدان.
وقال أبو سليمان الداراني: من صفى صفي له ومن كدر كدر عليه، ومن أحسن في
ليله كوفىء في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفىء في ليله.
وكان شيخ يدور في المجالس، ويقول: من سره أن تدوم له العافية، فليتق الله
عز وجل.
وكان الفضيل بن عياض، يقول: إني لأعصي الله، فأعرف ذلك في خلق دابتي،
وجاريتي.
واعلم - وفقك الله - أنه لا يحس بضربة مبنج، وإنما يعرف الزيادة من
النقصان المحاسب لنفسه.
ومتى رأيت تكديراً في حال فاذكر نعمة ما شكرت، أو زلة قد فعلت، واحذر من
نفار النعم، ومفاجأة النقم، ولا تغتبت بسعة بساط الحلم، فربما عجل انقباضه.
وقد قال الله عز وجل: " إِنَّ اللّه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ، حَتى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم " .
وكان أبو علي الروذباري يقول: من الاغترار أن تسيء، فيحسن إليك، فتترك
التوبة، توهماً أنك تسامح في العقوبات ... !!!.
وبه المستعان وعليه التكلان
قال الشيخ الإمام العالم أبو الفرج؛ عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي
رحمة الله عليه: الحمد لله حمداً يبلغ رضاه، وصلى الله على أشرف من
اجتباه، وعلى من صاحبه ووالاه، وسلم تسليماً لا يدرك منتهاه.
لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان
من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: قيدوا العلم بالكتابة.
وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته فيذهب، فأتأسف عليه.
ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح له من عجائب الغيب، ما لم
يكن في حساب، فأنثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت
هذا الكتاب قيداً - لصيد الخاطر - والله ولي النفع، إنه قريب مجيب.
قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت
القسوة والغفلة ! فتدبرت السبب في ذلك، فعرفته.
ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة
من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها، لسببين.
أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت
وقوعها.
والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة، قد تخلى
بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل
اجتذبته بآفاتها، وكيف يصح أن يكون كما كان ؟!.
وهذه حالة تعم الخلق، إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر.
فمنهم من يعزم بلا تردد، ويمضي من غير التفات، فلو توقف بهم ركب الطبع
لضجوا كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة !.
ومنهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحياناً، ويدعوهم ما تقدم من
المواعظ إلى العمل أحياناً، فهم كالسنبلة تميلها الرياح !.
وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه، كما دحرجته على صفوان.... !!.
جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة ثم هي من داخل، وذكر الآخرة أمر خارج عن
الطبع، من خارج.
وربما ظن من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى، لما يسمع من الوعيد في
القرآن.
وليس كذلك. لأن مثل الطبع في ميله إلى الدنيا، كالماء الجاري فإنه يطلب
الهبوط، وإنما رفعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف.
ولهذا أجاب معاون الشرع: بالترغيب والترهيب يقوى جند العقل.
فأما الطبع فجواذبه كثيرة، وليس العجب أن يغلب، إنما العجب أن يغلب.
من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها، نال خيرها، ونجا من شرها.
ومن لم ير العواقب غلب عليه الحس، فعاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة
وبالنصب ما رجا منه الراحة.
وبيان هذا في المستقبل، يتبين بذكر الماضي، وهو أنك لا تخلو، أن تكون عصيت
الله في عمرك، أو أطعته.
فأين لذة معصيتك ؟ وأين تعب طاعتك ؟ هيهات رحل كل بما فيه ! فليت الذنوب
إذ تخلت خلت ! وأزيدك في هذا بياناً: مثل ساعة الموت، وأنظر إلى مرارة
الحسرات على التفريط، ولا أقول: كيف تغلب حلاوة اللذات، لأن حلاوة اللذات
استحالت حنظلاً، فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم.
أتراك ما علمت أن الأمر بعواقبه ؟ فراقب العواقب تسلم، ولا تمل مع هوى
الحس فتندم.
من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه " وتخشى
الناس واللّه أحق أن تخشاه " .
تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن.
أعجب العجائب، سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك، عما قد خبىء لك.
تغتر بصحتك وتنسى دنو السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم.
لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، وأبدى مضجع سواك - قبل الممات - مضجعك.
وقد شغلك نيل لذاتك، عن ذكر خراب ذاتك:
كأنّك لم تسمع بأخبار من مضى ... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر !
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الرّيح بعدك والقبر !
كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده، حتى نزل !.
وكم شاهدت والي قصر، وليه عدوه لما عزل !.
فيا من كل لحظة إلى هذا يسري، وفعله فعل من لا يفهم ولا يدري...
وكيف تنام العين وهي قريرة ؟ ... ولم تدر من أيّ المحلين تنزل ؟
فصل لا تحم حول الحمى
من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة. ومن ادعى الصبر، وكل إلى نفسه.
ورب نظرة لم تناظر !.
وأحق الأشياء بالضبط والقهر، اللسان والعين.
فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى، مع مقاربة الفتنة. فإن الهوى
مكايد.
وكم من شجاع في صف الحرب اغتيل فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه !
واذكر حمزة مع وحشي.
فتبصّر ولا تشم كلّ برقٍ ... ربّ برقٍ فيه صواعق حين
واغضض الطرف تسترح من غرام ... تكتسي فيه ثوب ذل وشين
فبلاء الفتى موافقة النف ... س وبدء الهوى طموح العين
أعظم المعاقبة أن لا يحس المعاقب بالعقوبة. وأشد من ذلك أن يقع السرور بما
هو عقوبة، كالفرح بالمال الحرام، والتمكن من الذنوب.
ومن هذه حاله، لا يفوز بطاعة.
وإني تدبرت أحوال أكثر العلماء والمتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون
بها، ومعظمها من قبل طلبهم للرياسة.
فالعالم منهم، يغضب إن رد عليه خطؤه، والواعظ متصنع بوعظه، والمتزهد منافق
أو مراء.
فأول عقوباتهم، إعراضهم عن الحق شغلاً بالخلق.
ومن خفي عقوباتهم، سلب حلاوة المناجاة، ولذة التعبد.
إلا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم،
بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم، بل أحلى، وهممهم عند الثريا، بل أعلى.
إن عرفوا تنكروا، وإن رئيت لهم كرامة، أنكروا.
فالناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض، وتفرح بهم أملاك
السماء.
نسأل الله معز وجل التوفيق لاتباعهم، وأن يجعلنا من أتباعهم.
من علامة كمال العقل علو الهمة ! والراضي بالدون دنيء !!.
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
سبحان من سبقت محبته لأحبابه، فمدحهم على ما وهب لهم، واشترى منهم ما
أعطاهم، وقدم المتأخر من أوصافهم، لموضع إيثارهم، فباهى بهم في صومهم،
وأحب خلوف أفواههم.
يا لها من حالة مصونة لا يقدر عليها كل طالب ! ولا يبلغ كنه وصفها كل خاطب.
الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه، ولا
يدري متى يستدعى ؟.
وإني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ونسوا فقد الأقران، وألهاهم طول الأمل.
وربما قال العالم المحض لنفسه: أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً
فيتساهل في الزلل بحجة الراحة، ويؤخر الأهبة لتحقيق التوبة، ولا يتحاشى من
غيبة أو سماعها، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع.
وينسى أن الموت قد يبغت فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه. فإن
بغته الموت رئي مستعداً، وإن نال الأمل ازداد خيراً.
خطرت لي فكرة فيما يجري على كثير من العالم من المصائب الشديدة، والبلايا
العظيمة، التي تتناهى إلى نهاية الصعوبة.
فقلت: سبحان الله ! إن الله أكرم الأكرمين، والكرم يوجب المسامحة.
فما وجه هذه المعاقبة ؟.
فتفكرت، فرأيت كثيراً من الناس في وجودهم كالعدم، لا يتصفحون أدلة
الوحدانية، ولا ينظرون في أوامر الله تعالى ونواهيه، بل يجرون - على
عاداتهم - كالبهائم.
فإن وافق الشرع مرادهم، وإلا فمعولهم على أغراضهم.
وبعد حصول الدينار لا يبالون، أمن حلال كان أم من حرام.
وإن سهلت عليهم الصلاة فعلوها، وإن لم تسهل تركوها.
وفيهم من يبارز بالذنوب العظيمة، مع نوع معرفة المناهي.
وربما قويت معرفة عالم منهم، وتفاقمت ذنوبه.
فعلمت أن العقوبات، وإن عظمت دون إجرامهم.
فإذا وقعت عقوبة لتمحص ذنباً، صاح مستغيثهم: ترى هذا بأي ذنب ؟.
وينسى ما قد كان، مما تتزلزل الأرض لبعضه.
وقد يهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب، ولا يدري أن ذلك لإهماله حق
الله تعالى في شبابه.
فمتى رأيت معاقباً، فاعلم أنه لذنوب.
تأملت التحاسد بين العلماء، فرأيت منشأه من حب الدنيا، فإن علماء الآخرة
يتوادون ولا يتحاسدون، كما قال عز وجل: " وَلاَ يَجدُون في صُدُورِهِمْ
حَاجَة مِمَّا أُوتُوا " .
وقال تعالى: " والّذِيْنَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ:
رَبَّنَا أغْفِرْ لَنَا ولإِخْوَانِنا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيمَانِ
وَلاَ تَجْعَلْ فيِ قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمنُوا " .
وقد كان أبو الدرداء: يدعو كل ليلة لجماعة من إخوانه.
وقال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي: أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل
ليلة وقت السحر.
والأمر الفارق بين الفئتين: أن علماء الدنيا، ينظرون إلى الرياسة فيها،
ويحبون كثرة الجمع والثناء.
وعلماء الآخرة، بمعزل من إيثار ذلك، وقد كانوا يتخوفونه، ويرحمون من بلي
به.
وكان النخعي: لا يستند إلى سارية.
وقال علقمة: أكره أن يوطأ عقبي.
وكان بعضهم: إذا جلس إليه أكثر من أربعة، قام عنهم.
وكانوا يتدافعون الفتوى، ويحبون الخمول، مثل القوم، كمثل راكب البحر، وقد
خب، فعنده إلى أن يوقن بالنجاة.
وإنما كان بعضهم يدعو لبعض، ويستفيد منه لأنهم ركب تصاحبوا فتوادوا،
فالأيام والليالي مراحلهم إلى سفر الجنة.
فصل ثمار الطاعة
من أحب تصفية الأحوال، فليجتهد في تصفية الأعمال.
قال الله عز وجل: " وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ،
لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: لو أن عبادي
أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم
صوت الرعد.
وقال صلى الله عليه وسلم: البر لا يبلى، والإثم لا ينسى والديان لا ينام
وكما تدين تدان.
وقال أبو سليمان الداراني: من صفى صفي له ومن كدر كدر عليه، ومن أحسن في
ليله كوفىء في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفىء في ليله.
وكان شيخ يدور في المجالس، ويقول: من سره أن تدوم له العافية، فليتق الله
عز وجل.
وكان الفضيل بن عياض، يقول: إني لأعصي الله، فأعرف ذلك في خلق دابتي،
وجاريتي.
واعلم - وفقك الله - أنه لا يحس بضربة مبنج، وإنما يعرف الزيادة من
النقصان المحاسب لنفسه.
ومتى رأيت تكديراً في حال فاذكر نعمة ما شكرت، أو زلة قد فعلت، واحذر من
نفار النعم، ومفاجأة النقم، ولا تغتبت بسعة بساط الحلم، فربما عجل انقباضه.
وقد قال الله عز وجل: " إِنَّ اللّه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ، حَتى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم " .
وكان أبو علي الروذباري يقول: من الاغترار أن تسيء، فيحسن إليك، فتترك
التوبة، توهماً أنك تسامح في العقوبات ... !!!.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل ما يطيقه البشر وما لا يطيقونه من التكليف
تفكرت يوماً في التكليف، فرأيته ينقسم إلى سهل، وصعب.
فأما السهل، فهو أعمال الجوارح، إلا أن منه ما هو أصعب من بعض، فالوضوء
والصلاة أسهل من الصوم، والصوم ربما كان عند قوم أسهل من الزكاة.
وأما الصعب فيتفاوت، فبعضها أصعب من بعض.
فمن المستصعب، النظر، والاستدلال، الموصلان إلى معرفة الخالق. فهذا صعب
عند من غلبت عليه أمور الحس، سهل عند أهل العقل.
ومن المستصعب غلبة الهوى، وقهر النفوس، وكف أكف الطباع عن التصرف فيما
يؤثره، وكل هذا يسهل على العاقل النظر في ثوابه، ورجاء عاقبته، وإن شق
عاجلاً.
وإنما أصعب التكاليف وأعجبها، أنه قد ثبتت حكمة الخالق عند العقل، ثم نراه
يفقر المتشاغل بالعلم، المقبل على العبادة، حتى يعضه الفقر بناجذيه، فيذل
للجاهل في طلب القوت.
ويغني الفاسق مع الجهل، حتى تفيض الدنيا عليه.
ثم تراه ينشيء الأجسام ويحكمها، ثم ينقض بناء الشباب في مبدأ أمره، وعند
استكمال بنائه، فإذا به قد عاد هشيماً.
ثم تراه يؤلم الأطفال، حتى يرحمهم كل طبع.
ثم يقال له: إياك أن تشك في أنه أرحم الراحمين.
ثم يسمع بإرسال موسى إلى فرعون، ويقال له: أعتقد أن الله تعالى أضل فرعون
واعلم أنه ما كان لآدم بد من أكل الشجرة وقد وبخ بقوله: " وعَصَى آدَمُ
رَبَّهُ " .
وفي مثل هذه الأشياء تحير خلق، حتى خرجوا إلى الكفر والتكذيب.
ولو فتشوا على سر هذه الأشياء، لعلموا أن تسليم هذه الأمور، تكليف العقل
ليذعن، وهذا أصل، إذا فهم، حصل السلامة والتسليم.
نسأل الله عز وجل أن يكشف لنا الغوامض، التي حيرت من ضل، إنه قريب مجيب.
فصل أهمية الزمن
ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير
قربة.
ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. ولتكن نيته في الخير
قائمة، من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل، كما جاء في الحديث: "
نية المؤمن خير من عمله " .
وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات. فنقل عن عامر بن عبد قيس أن
رجلاً قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس.
وقال ابن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي، فقال: يا بني دعني، فإني في وردي
السادس.
ودخلوا على بعض السلف عند موته، وهو يصلي، فقيل له.
فقال: الآن تطوى صحيفتي.
فإذا علم الإنسان - وإن بالغ في الجد - بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في
حياته ما يدوم له أجره بعد موته.
فإن كان له شيء من الدنيا، وقف وقفاً، وغرس غرساً، وأجرى نهراً، ويسعى في
تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له. أو أن يصنف كتاباً من العلم،
فإن تصنيف العالم ولده المخلد.
وأن يكون عاملاً بالخير، عالماً فيه، فينقل من فعله ما يقتدي الغير به.
فلذلك الذي لم يمت.
قد مات قوم وهم في الناس أحياء.
فصل شرف العالم غناه بعمله
رأيت من أعظم حيل الشيطان ومكره، أن يحيط أرباب الأموال بالآمال، والتشاغل
باللذات القاطعة عن الآخرة وأعمالها.
فإذا علقهم بالمال - تحريضاً على جمعه، وحثا على تحصيله - أمرهم بحراسته
بخلا به.
فذلك من متين حيله، وقوي مكره.
ثم دفن في هذا الأمر من دقائق الحيل الخفية، أن خوف من جمعه المؤمنين،
فنفر طالب الآخرة منه، وبادر التائب يخرج ما في يده.
ولا يزال الشيطان، يحرضه على الزهد، ويأمره بالترك، ويخوفه من طرقات
الكسب، إظهاراً لنصحه وحفظ دينه. وفي خفايا ذلك عجائب من مكره.
وربما تكلم الشيطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب، فيقول
له: اخرج من مالك وادخل في زمرة الزهاد.
ومتى كال لك غداء أو عشاء، فلست من أهل الزهد، ولا تنال مراتب العزم.
وربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة والواردة على سبب ولمعنى.
فإذا أخرج ما في يده. وتعطل عن مكاسبه، عاد يعلق طموحه بصلة الإخوان. أو
يحسن عنده صحبة السلطان، لأنه لا يقوى على طريق الزهد والترك إلا أياماً،
ثم يعود الطبع فيتقاضى مطلوباته، فيقع في أقبح مما فر منه.
ويبذل أول السلع في التحصيل دينه وعرضه، ويصير متمندلاً به، ويقف في مقام
اليد السفلى.
ولو أنه نظر في سير الرجال نبلائهم، وتأمل صحاح الأحاديث، عن رؤسائهم،
لعلم أن الخليل عليه الصلاة والسلام كان كثير المال، حتى ضاقت بلدته
بمواشيه.
وكذلك لوط عليه الصلاة والسلام، وكثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،
والجمع الغفير من الصحابة.
وإنما صبروا عند العدم، ولم يمتنعوا من كسب ما يصلحهم، ولا من تناول
المباح عند الوجود.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج للتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم حي.
وكان أكثرهم يخرج فاضل مما يأخذ من بيت المال، ويسلم من ذل الحاجة إلى
الإخوان.
وقد كان ابن عمر لا يرد شيئاً، ولا يسأل.
وإني تأملت أكثر أهل الدين والعلم على هذه الحال، فوجدت العلم شغلهم عن
المكاسب في بداياتهم، فلما احتاجوا إلى قوام نفوسهم ذلوا، وهم أحق بالعز.
وقد كانوا قديماً يكفيهم بيت المال فضلات الإخوان، فلما عدمت في هذا
الأوان، لم يقدر متدين على شيء إلا يبذل شيء من دينه.
وليته قدر فربما تلف الدين لم يحصل له شيء.
فالواجب على العاقل أن يحفظ ما معه، وأن يجتهد في الكسب ليربح مداراة
ظالم، أو مداهنة جاهل، ولا يلتفت إلى ترهات المتصوفة، الذي يدعون في الفقر
ما يدعون.
فما الفقر إلا مرض العجزة، وللصابر على الفقر ثواب الصابر على المرض.
اللهم إلا أن يكون جباناً عن التصرف، مقتنعاً بالكفاف، فليس ذلك من مراتب
الأبطال، بل هو من مقامات الجبناء الزهاد.
وأما الكاسب ليكون المعطي لا المعطى، والمتصدق لا المتصدق عليه، فهي من
مراتب الشجعان الفضلاء.
ومن تأمل، هذا علم شرف الغنى ومخاطرة الفقر.
فصل الندم على ما فات
تأملت أحوال الفضلاء، فوجدتهم - في الأغلب - قد بخسوا من حظوظ الدنيا،
ورأيت الدنيا - غالباً - في أيدي أهل النقائص.
فنظرت في الفضلاء، فإذا هم يتأسفون على ما فاتهم مما ناله أولو النقص،
وربما تقطع بعضهم أسفاً على ذلك.
فخاطبت بعض المتأسفين فقلت له: ويحك تدبر أمرك، فإنك غالط من وجوه.
أحدها: أنه إن كانت لك همة في طلب الدنيا، فاجتهد في طلبها تربح
التأسف على فوتها، فإن قعودك - متأسفاً على ما ناله غيرك، مع قصور اجتهادك
غاية العجز.
والثاني: أن الدنيا إنما تراد لتعبر لا لتعمر، وهذا هو الذي يدلك عليه
علمك ويبلغه فهمك. وما يناله أهل النقص من فضولها يؤذي أبدانهم وأديانهم.
فإذا عرفت ذلك ثم تأسفت على فقد ما فقده أصلح لك، وكان تأسفك عقوبة لتأسفك
على ما تعلم المصلحة في بعده، فاقنع بذلك عذاباً عاجلاً، إن سلمت من
العذاب الآجل.
والثالث: أنك قد علمت بخس حظ الآدمي في الجملة، من مطاعم الدنيا ولذاتها
بالإضافة إلى الحيوان البهيم.
لأنه ينال ذلك أكثر مقداراً ، مع أمن، وأنت تناله مع خوف، وقلة مقدار.
فإذا ضوعف حظك من ذلك كان ذلك لاحقاً بالحيوان البهيم، من جهة أنه يشغله
ذلك عن تحصيل الفضائل. وتخفيف المؤن يحث صاحبه على نيل المراتب.
فإذا آثرت - مع قلة الفضول - الفضول، عدت على ما علمت بالإزراء، فشنت
علمك، ودللت على اختلاط رأيك...
فصل أسباب الخطأ
تأملت إقدام العلماء على شهوات النفس المنهي عنها، فرأيتها مرتبة تزاحم
الكفر لولا تلوح معنى: هو أن الناس عند مواقعة المحظور ينقسمون.
فمنهم: جاهل بالمحظور، أنه محظور، فهذا له نوع عذر.
ومنهم: من يظن المحظور مكروهاً لا محرماً، فهذا قريب من الأول.
وربما دخل في هذا القسم آدم صلى الله عليه وسلم.
ومنهم: من يتأول فيغلط، كما يقال: إن آدم عليه الصلاة والسلام. نهي عن
شجرة بعينها، فأكل من جنسها، لا من عينها.
ومنهم: من يعلم التحريم، غير أن غلبات الشهوة أنسته تذكر ذاك، فشغله ما
رأى عما يعلم.
ولهذا لا يذكر السارق القطع، بل يغيب بكليته في نيل الحظ.
ولا يذكر راكب الفاحشة الفضيحة ولا الحد، لأن ما يرى يذهله عما يعلم.
ومنهم: من يعلم الخطر ويذكره...
غير أن بالحزم أولى بالعاقل، كيف وقد علم أن هذا الملك الحكيم قطع اليد في
ربع دينار، وهدم بناء الجسم المحكم بالرجم بالحجارة، لالتذاذ ساعة.
وخسف، ومسخ، وأغرق.....
فصل ضرورة الجزاء
من تأمل أفعال البارىء سبحانه، رآها على قانون العدل، وشاهد الجزاء
مرصداً، ولو بعد حين.
فلا ينبغي أن يغتر مسامح، فالجزاء قد يتأخر.
ومن أقبح الذنوب التي قد أعد لها الجزاء العظيم، الإصرار على الذنب، ثم
يصانع صاحب باستغفار، وصلاة، وتعبد، وعنده أن المصانعة تنفع.
وأعظم الخلق اغتراراً، من أتى ما يكرهه الله. وطلب منه ما يحبه هو، كما
روي في الحديث: " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " .
ومما ينبغي للعاقل أن يترصد، وقوع الجزاء، فإن ابن سيرين قال: عيرت رجلاً
فقلت: يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة.
وقال ابن الجلا: رآني شيخ لي وأنا أنظر إلى أمرد، فقال: ما هذا ؟ لتجدن
غبها، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وبالضد من هذا، كل من عمل خيراً أو صحح نية، فلينتظر جزاءها الحسن، وإن
امتدت المدة.
قال الله عز وجل: " إِنَّه مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " .
وقال عليه الصلاة والسلام: من غض بصره عن محاسن امرأة أثابه الله إيماناً
يجد حلاوته في قلبه.
تفكرت يوماً في التكليف، فرأيته ينقسم إلى سهل، وصعب.
فأما السهل، فهو أعمال الجوارح، إلا أن منه ما هو أصعب من بعض، فالوضوء
والصلاة أسهل من الصوم، والصوم ربما كان عند قوم أسهل من الزكاة.
وأما الصعب فيتفاوت، فبعضها أصعب من بعض.
فمن المستصعب، النظر، والاستدلال، الموصلان إلى معرفة الخالق. فهذا صعب
عند من غلبت عليه أمور الحس، سهل عند أهل العقل.
ومن المستصعب غلبة الهوى، وقهر النفوس، وكف أكف الطباع عن التصرف فيما
يؤثره، وكل هذا يسهل على العاقل النظر في ثوابه، ورجاء عاقبته، وإن شق
عاجلاً.
وإنما أصعب التكاليف وأعجبها، أنه قد ثبتت حكمة الخالق عند العقل، ثم نراه
يفقر المتشاغل بالعلم، المقبل على العبادة، حتى يعضه الفقر بناجذيه، فيذل
للجاهل في طلب القوت.
ويغني الفاسق مع الجهل، حتى تفيض الدنيا عليه.
ثم تراه ينشيء الأجسام ويحكمها، ثم ينقض بناء الشباب في مبدأ أمره، وعند
استكمال بنائه، فإذا به قد عاد هشيماً.
ثم تراه يؤلم الأطفال، حتى يرحمهم كل طبع.
ثم يقال له: إياك أن تشك في أنه أرحم الراحمين.
ثم يسمع بإرسال موسى إلى فرعون، ويقال له: أعتقد أن الله تعالى أضل فرعون
واعلم أنه ما كان لآدم بد من أكل الشجرة وقد وبخ بقوله: " وعَصَى آدَمُ
رَبَّهُ " .
وفي مثل هذه الأشياء تحير خلق، حتى خرجوا إلى الكفر والتكذيب.
ولو فتشوا على سر هذه الأشياء، لعلموا أن تسليم هذه الأمور، تكليف العقل
ليذعن، وهذا أصل، إذا فهم، حصل السلامة والتسليم.
نسأل الله عز وجل أن يكشف لنا الغوامض، التي حيرت من ضل، إنه قريب مجيب.
ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير
قربة.
ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. ولتكن نيته في الخير
قائمة، من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل، كما جاء في الحديث: "
نية المؤمن خير من عمله " .
وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات. فنقل عن عامر بن عبد قيس أن
رجلاً قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس.
وقال ابن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي، فقال: يا بني دعني، فإني في وردي
السادس.
ودخلوا على بعض السلف عند موته، وهو يصلي، فقيل له.
فقال: الآن تطوى صحيفتي.
فإذا علم الإنسان - وإن بالغ في الجد - بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في
حياته ما يدوم له أجره بعد موته.
فإن كان له شيء من الدنيا، وقف وقفاً، وغرس غرساً، وأجرى نهراً، ويسعى في
تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له. أو أن يصنف كتاباً من العلم،
فإن تصنيف العالم ولده المخلد.
وأن يكون عاملاً بالخير، عالماً فيه، فينقل من فعله ما يقتدي الغير به.
فلذلك الذي لم يمت.
قد مات قوم وهم في الناس أحياء.
فصل شرف العالم غناه بعمله
رأيت من أعظم حيل الشيطان ومكره، أن يحيط أرباب الأموال بالآمال، والتشاغل
باللذات القاطعة عن الآخرة وأعمالها.
فإذا علقهم بالمال - تحريضاً على جمعه، وحثا على تحصيله - أمرهم بحراسته
بخلا به.
فذلك من متين حيله، وقوي مكره.
ثم دفن في هذا الأمر من دقائق الحيل الخفية، أن خوف من جمعه المؤمنين،
فنفر طالب الآخرة منه، وبادر التائب يخرج ما في يده.
ولا يزال الشيطان، يحرضه على الزهد، ويأمره بالترك، ويخوفه من طرقات
الكسب، إظهاراً لنصحه وحفظ دينه. وفي خفايا ذلك عجائب من مكره.
وربما تكلم الشيطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب، فيقول
له: اخرج من مالك وادخل في زمرة الزهاد.
ومتى كال لك غداء أو عشاء، فلست من أهل الزهد، ولا تنال مراتب العزم.
وربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة والواردة على سبب ولمعنى.
فإذا أخرج ما في يده. وتعطل عن مكاسبه، عاد يعلق طموحه بصلة الإخوان. أو
يحسن عنده صحبة السلطان، لأنه لا يقوى على طريق الزهد والترك إلا أياماً،
ثم يعود الطبع فيتقاضى مطلوباته، فيقع في أقبح مما فر منه.
ويبذل أول السلع في التحصيل دينه وعرضه، ويصير متمندلاً به، ويقف في مقام
اليد السفلى.
ولو أنه نظر في سير الرجال نبلائهم، وتأمل صحاح الأحاديث، عن رؤسائهم،
لعلم أن الخليل عليه الصلاة والسلام كان كثير المال، حتى ضاقت بلدته
بمواشيه.
وكذلك لوط عليه الصلاة والسلام، وكثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،
والجمع الغفير من الصحابة.
وإنما صبروا عند العدم، ولم يمتنعوا من كسب ما يصلحهم، ولا من تناول
المباح عند الوجود.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج للتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم حي.
وكان أكثرهم يخرج فاضل مما يأخذ من بيت المال، ويسلم من ذل الحاجة إلى
الإخوان.
وقد كان ابن عمر لا يرد شيئاً، ولا يسأل.
وإني تأملت أكثر أهل الدين والعلم على هذه الحال، فوجدت العلم شغلهم عن
المكاسب في بداياتهم، فلما احتاجوا إلى قوام نفوسهم ذلوا، وهم أحق بالعز.
وقد كانوا قديماً يكفيهم بيت المال فضلات الإخوان، فلما عدمت في هذا
الأوان، لم يقدر متدين على شيء إلا يبذل شيء من دينه.
وليته قدر فربما تلف الدين لم يحصل له شيء.
فالواجب على العاقل أن يحفظ ما معه، وأن يجتهد في الكسب ليربح مداراة
ظالم، أو مداهنة جاهل، ولا يلتفت إلى ترهات المتصوفة، الذي يدعون في الفقر
ما يدعون.
فما الفقر إلا مرض العجزة، وللصابر على الفقر ثواب الصابر على المرض.
اللهم إلا أن يكون جباناً عن التصرف، مقتنعاً بالكفاف، فليس ذلك من مراتب
الأبطال، بل هو من مقامات الجبناء الزهاد.
وأما الكاسب ليكون المعطي لا المعطى، والمتصدق لا المتصدق عليه، فهي من
مراتب الشجعان الفضلاء.
ومن تأمل، هذا علم شرف الغنى ومخاطرة الفقر.
تأملت أحوال الفضلاء، فوجدتهم - في الأغلب - قد بخسوا من حظوظ الدنيا،
ورأيت الدنيا - غالباً - في أيدي أهل النقائص.
فنظرت في الفضلاء، فإذا هم يتأسفون على ما فاتهم مما ناله أولو النقص،
وربما تقطع بعضهم أسفاً على ذلك.
فخاطبت بعض المتأسفين فقلت له: ويحك تدبر أمرك، فإنك غالط من وجوه.
أحدها: أنه إن كانت لك همة في طلب الدنيا، فاجتهد في طلبها تربح
التأسف على فوتها، فإن قعودك - متأسفاً على ما ناله غيرك، مع قصور اجتهادك
غاية العجز.
والثاني: أن الدنيا إنما تراد لتعبر لا لتعمر، وهذا هو الذي يدلك عليه
علمك ويبلغه فهمك. وما يناله أهل النقص من فضولها يؤذي أبدانهم وأديانهم.
فإذا عرفت ذلك ثم تأسفت على فقد ما فقده أصلح لك، وكان تأسفك عقوبة لتأسفك
على ما تعلم المصلحة في بعده، فاقنع بذلك عذاباً عاجلاً، إن سلمت من
العذاب الآجل.
والثالث: أنك قد علمت بخس حظ الآدمي في الجملة، من مطاعم الدنيا ولذاتها
بالإضافة إلى الحيوان البهيم.
لأنه ينال ذلك أكثر مقداراً ، مع أمن، وأنت تناله مع خوف، وقلة مقدار.
فإذا ضوعف حظك من ذلك كان ذلك لاحقاً بالحيوان البهيم، من جهة أنه يشغله
ذلك عن تحصيل الفضائل. وتخفيف المؤن يحث صاحبه على نيل المراتب.
فإذا آثرت - مع قلة الفضول - الفضول، عدت على ما علمت بالإزراء، فشنت
علمك، ودللت على اختلاط رأيك...
فصل أسباب الخطأ
تأملت إقدام العلماء على شهوات النفس المنهي عنها، فرأيتها مرتبة تزاحم
الكفر لولا تلوح معنى: هو أن الناس عند مواقعة المحظور ينقسمون.
فمنهم: جاهل بالمحظور، أنه محظور، فهذا له نوع عذر.
ومنهم: من يظن المحظور مكروهاً لا محرماً، فهذا قريب من الأول.
وربما دخل في هذا القسم آدم صلى الله عليه وسلم.
ومنهم: من يتأول فيغلط، كما يقال: إن آدم عليه الصلاة والسلام. نهي عن
شجرة بعينها، فأكل من جنسها، لا من عينها.
ومنهم: من يعلم التحريم، غير أن غلبات الشهوة أنسته تذكر ذاك، فشغله ما
رأى عما يعلم.
ولهذا لا يذكر السارق القطع، بل يغيب بكليته في نيل الحظ.
ولا يذكر راكب الفاحشة الفضيحة ولا الحد، لأن ما يرى يذهله عما يعلم.
ومنهم: من يعلم الخطر ويذكره...
غير أن بالحزم أولى بالعاقل، كيف وقد علم أن هذا الملك الحكيم قطع اليد في
ربع دينار، وهدم بناء الجسم المحكم بالرجم بالحجارة، لالتذاذ ساعة.
وخسف، ومسخ، وأغرق.....
من تأمل أفعال البارىء سبحانه، رآها على قانون العدل، وشاهد الجزاء
مرصداً، ولو بعد حين.
فلا ينبغي أن يغتر مسامح، فالجزاء قد يتأخر.
ومن أقبح الذنوب التي قد أعد لها الجزاء العظيم، الإصرار على الذنب، ثم
يصانع صاحب باستغفار، وصلاة، وتعبد، وعنده أن المصانعة تنفع.
وأعظم الخلق اغتراراً، من أتى ما يكرهه الله. وطلب منه ما يحبه هو، كما
روي في الحديث: " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " .
ومما ينبغي للعاقل أن يترصد، وقوع الجزاء، فإن ابن سيرين قال: عيرت رجلاً
فقلت: يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة.
وقال ابن الجلا: رآني شيخ لي وأنا أنظر إلى أمرد، فقال: ما هذا ؟ لتجدن
غبها، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وبالضد من هذا، كل من عمل خيراً أو صحح نية، فلينتظر جزاءها الحسن، وإن
امتدت المدة.
قال الله عز وجل: " إِنَّه مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " .
وقال عليه الصلاة والسلام: من غض بصره عن محاسن امرأة أثابه الله إيماناً
يجد حلاوته في قلبه.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل دور المرأة في حياة الرجل
تأملت في فوائد النكاح ومعانيه وموضوعه، فرأيت أن الأصل الأكبر في وضعه
وجود النسل.
لأن هذا الحيوان لا يزال يتحلل ثم يختلف من المتحلل الغذاء، ثم يتحلل من
الأجزاء الأصلية مالا يخلفه شيء، فإذا لم يكن بد من فنائه، وكان المراد
امتداد أزمان الدنيا جعل النسل خلفاً عن الأصل.
ولما كانت صورة النكاح تأباها النفوس الشريفة من كشف العورة وملاقاة ما لا
يستحسن لنفسه، جعلت الشهوة تحث عليه ليحصل المقصود.
ثم رأيت هذا المقصود الأصلي يتبعه شيء آخر، وهو استفراغ هذا الماء الذي
يؤذي دوام احتقانه.
فإن المني ينفصل من الهضم الرابع، فهو من أصفى جوهر الغذاء وأجوده، ثم
يجتمع، فهو أحد الذخائر للنفس فإنه تدخر - لبقائها وقوتها - الدم ثم
المني، ثم تدخر التفل الذي هو من أعمدة البدن كأنه لخوف عدم غيره.
فإذا زاد اجتماع المني أقلق على نحو إقلاق البول للحاقن، إلا أن إقلاقه من
حيث المعنى أكثر من إقلاق البول من حيث الصورة، فتوجب كثرة اجتماعه، وطول
احتباسه، أمراضاً صعبة. لأنه يترقى من بخاره إلى الدماغ فيؤذي، وربما أحدث
سمية.
ومتى كان المزاج سليماً فالطبع يطلب بروز المني إذا اجتمع كما يطلب بروز
البول، وقد ينحرف بعض الأمزجة، فيقل اجتماعه عنده فيندر طلبه لإخراجه،
وإنما نتكلم عن المزاج الصحيح، فأقول: قد بينت أنه إذا وقع به احتباسه
أوجب أمراضاً وجدد أفكاراً رديئة، وجلب العشق والوسوسة إلى غير ذلك من
الآفات.
وقد نجد صحيح المزاج يخرج ذلك إذا اجتمع وهو بعد متقلقل، فكأنه الآكل الذي
لا يشبع.
فبحثت عن ذلك فرأيته وقوع الخلل في المنكوح، إما لدمامته، وقبح منظره، أو
لآفة فيه، أو لأنه غير مطلوب للنفس فحينئذ يخرج منه ويبقى بعضه.
فإذا أردت معرفة ما يدلك على ذلك، فقس مقدار خروج المني في المحل المشتهى.
وفي المحل الذي هو دونه، كالوطء بين الفخذين بالإضافة إلى الوطء في محل
النكاح، وكوطء البكر بالإضافة إلى وطء الثيب.
فعلم حينئذ أن تخير المنكوح يستقصي فضول المني، فيحصل للنفس كمال اللذة،
لموضع كمال بروز الفضول.
ثم قد يؤثر هذا في الولد أيضاً، فإنه إذا كان من شابين قد حبسا أنفسهما عن
النكاح مدى مديدة كان الولد أقوى منه من غيرهما، أو من المدمن على النكاح
على الأغلب.
ولهذا كره نكاح الأقارب، لأنه مما يقبض النفس عن انبساطها، فيتخيل الإنسان
أنه ينكح بعضه، ومدح نكاح الغرائب لهذا المعنى.
ومن هذا الفن يحصل كثير من المقصود من دفع هذه الفضول المؤذية بمنكوح
مستجد، وإن كان مستقبح الصورة ما لا يحصل به في العادة.
ومثال هذا أن الطاعم إذ امتلأ خبزاً ولحماً حيث لم يبق فيه فضل لتناول
لقمة، قدمت إليه الحلوى فيتناول، فلو قدم أعجب منها لتناول، لأن، الجدة
لها معنى عجيب.
وذلك أن النفس لا تميل إلى ما ألفت، وتطلب غير ما عرفت، ويتخايل لها في
الجديد نوع مراد. فإذا لم تجد مرادها صدفت إلى جديد آخر، فكأنها قد علمت
وجود غرض تام بلا كدر، وهي تتخايله فيما تراه.
وفي هذا المعنى دليل مدفون على البعث، لأن في خلق همته متعلقة بلا متعلق
نوع عبث. فافهم هذا ؟.
فإذا رأت النفس عيوب ما خالطت في الدنيا عادت تطلب جديداً.
ولذلك قال الحكماء: العشق، العمى عن عيوب المحبوب، فمن تأمل عيوبه سلا.
ولذلك يستحب للمرأة أن لا تبعد عن زوجها بعداً تنسيه إياها، ولا تقرب منه
قرباً يملها معه، وكذلك يستحب ذلك له، لئلا يملها أو تظهر لديه مكنونات
عيوبها.
وينبغي له أن لا يطلع منها على عورة، ويجتهد في أن لا يشم منها إلا طيب
ريح، إلى غير ذلك من الخصال التي تستعملها النساء الحكيمات، فإنهن يعلمن
ذلك بفطرهن من غير احتياج إلى تعليم.
فأما الجاهلات فإنهن لا ينظرن في هذا فيتعجل التفات الأزواج عنهن.
فمن أراد نجابة الولد وقضاء الوطر فليتخير المنكوح، إن كان زوجة فلينظر
إليها، فإذا وقعت في نفسه فليتزوجها، ولينظر إلى كيفية وقوعها في نفسه،
فإن علامة تعلق حبها بالقلب ألا يصرف الطرف عنه، فإذا انصرف الطرف قلق
القلب بتقاضي النظرة، فهذا الغاية.
ودونه مراتب على مقاديرها يكون بلوغ الأغراض.
وإن كان جارية تشترى فلينظر إليها أبلغ من ذلك النظر، ومن قدر على مناطقة
المرأة أو مكالمتها بما يوجب التنبيه، ثم ليرى ذلك منها، فإن الحسن في
الفم والعينين.
وقد نص أحمد: على جواز أن يبصر الرجل من المرأة التي يريد نكاحها ما هو
عورة، يشير إلى ما يزيد على الوجه.
ومن أمكنه أن يؤخر العقد أو شراء الجارية لينظر كيف توقان قلبه، فإنه لا
يخفى على العاقل توقان النفس لأجل المستجد، وتوقانها لأجل الحب، فإذا رأى
قلق الحب أقدم. فإنه قد أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا حمد بن
أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا عبد
الجبار بن أبي عامر قال: حدثني أبي قال: حدثني خالد بن سلام قال: حدثنا
عطاء الخراساني قال: مكتوب في التوراة كل تزويج على غير هوى حسرة وندامة
إلى يوم القيامة.
ثم ينبغي للمتخير أن يتفرس في الأخلاق فإنها من الخفي، وإن الصورة إذا خلت
من المعنى كانت كخضراء الدمن.
ونجابة الولد مقصودة، وفراغ النفس من الاهتمام بما حصلت من رغبات أصل
عظيم، يوجب إقبال القلب على المهمات.
ومن فرغ من المهمات العارضة أقبل على المهمات الأصلية.
ولهذا جاء في الحديث: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان.
وإذا وضع العشاء وحضرت العشاء فابدءوا بالعشاء.
فمن قدر على امرأة صالحة في الصورة والمعنى فليغمض عن عوراتها، ولتجتهد هي
في مراضيه من غير قرب يمل، ولا بعد ينسي، ولتقدم على التصنع له يحصل
الغرضان منها، الولد وقضاء الوطر.
ومع الاحتراز الذي أوصيت به، تدوم الصحبة، ويحصل الغناء بها عن غيرها.
فإن قدر على الاستكثار فأضاف إليها سواها عالماً أنه بذلك يبلغ الغرض الذي
يفرغ قلبه زيادة تفريغ كان أفضل لحاله.
فإن خاف من وجود الغيرة ما يشغل القلب الذي قد اهتممنا بجمع همته، أو خاف
وجود مستحسنة تشغل قلبه عن ذكر الآخرة، أو تطلب منه ما يوجب خروجه عن
الورع فحسبه واحدة.
ويدخل فيما أوصيت به أنه يبعد في المستحسنات العفاف. فليبالغ الواجد لهن
في حفظهن وسترهن.
فإن وجد ما لا يرضيه عجل الاستبدال، فإنه سبب السلو، وإن قدر على الاقتصار
فإن الاقتصار على الواحدة أولى، فإن كانت على الغرض قنع، وإن لم تكن
استبدل، ونكاح المرأة المحبوبة يستفرغ الماء المجتمع، فيوجب نجابة الولد
وتمامه، وقضاء الوطر بكماله.
ومن خاف وجود الغيرة فعليه بالسراري فإنهن أقل غيرة، والاستظراف لهن أمكن
من استظراف الزوجات.
وقد كان جماعة يمكنهم الجمع، وكان النساء يصبرن، فكان لداود عليه الصلاة
والسلام مائة امرأة، ولسليمان عليه الصلاة والسلام ألف امرأة، وقد علم حال
نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه
أربع حرائر، وسبع عشرة سرية، وتزوج ابنه الحسن رضي الله عنه بنحو من
أربعمائة، إلى غير هذا مما يطول ذكره.
فافهم ما أشرت إليه تفز به إن شاء الله تعالى.
فصل حلاوة الطاعة وشؤم المعصية
كل شيء خلق الله تعالى في الدنيا فهو أنموذج في الآخرة، وكل شيء يجري فيها
أنموذج ما يجري في الآخرة. فأما المخلوق منها فقال ابن عباس رضي الله
عنهما: ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء.
وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم وخوف بعذاب من عذاب. فأما ما يجري في
الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنب
ذنباً، وهو معنى قوله تعالى: " مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ " .
وربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله فظن أن لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به
عقوبة.
وقد قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة
ثواب الحسنة.
وربما كان العقاب العاجل معنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب كم
أعصيك ولا تعاقبني ؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك
حلاوة مناجاتي ؟.
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد، حتى قال وهب بن الورد وقد
سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي ؟ فقال: ولا من هم.
فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرمه الله صفاء قلبه، أو
آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير
ذلك.
وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس، وعلى ضده يجد من يتقي الله
تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلاً، كما في حديث أبي أمامة: عن النبي
صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام
الشيطان، من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيماناً يجد حلاوته في قلبه.
فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها.
فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقل أن تحتبس، ومن ذلك قول النبي صلى
الله عليه وسلم: الصبحة تمنع الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وقد روى المفسرون: أن كل شخص من الأسباط جاء باثني عشر ولداً، وجاء يوسف
بأحد عشر بالهمة، ومثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأى الجزاء وفهم كما قال
الفضيل: إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي. وعن عثمان
النيسابوري: أنه انقطع شسع نعله في مضيه إلى الجمعة فتعوق لإصلاحه ساعة،
ثم قال: ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غسل الجمعة.
ومن عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف: "
وَشَرَوْهُ بِثَمَنِ بَخْسٍ " امتدت أكفهم بين يديه بالطلب، يقولون: "
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا " .
ولما صبر هو يوم الهمة ملك المرأة حلالاً، ولما بغت عليه بدعواها: " مَا
جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا " ، نطقها الحق بقولها: " أَنَا
رَاوَدْتُهُ " .
ولو أن شخصاً ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك، وكذلك إذا فعل
طاعة. وفي الحديث: إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة، أي عاملوه لزيادة
الأرباح العاجلة.
ولقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع، طلباٍ للراحة العاجلة،
فانقلبت أحواله إلى التنغص العاجل، وعكست عليه المقاصد.
حكى بعض المشايخ: أنه اشترى في زمن شبابه جارية، قال: فلما ملكتها تاقت
نفسي إليها، فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقاً يرخص لي، فكلهم قال: لا
يجوز النظر إليها بشهوة، ولا لمسها، ولا جماعها، إلا بعد حيضها، قال:
فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت وهي حائض، فقلت: قرب الأمر، فسألت الفقهاء
فقالوا: لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه، قال: فقلت لنفسي وهي شديدة
التوقان لقوة الشهوة، وتمكن القدرة، وقرب المصاقبة: ما تقولين ؟ فقالت؛
الإيمان بالصبر على الجمر شئت أو أبيت، فصبرت إلى أن حان ذلك، فأثابني
الله تعالى على ذلك الصبر بنيل ما هو أعلى منها أرفع.
فصل بين السر والعلانية
نظرت في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من
أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل، فيظهره الله سبحانه
عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس.
وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جواباً لكل ما أخفى
من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع من
قدره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل.
وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها وبأكثر منها، حتى
إنهم لا يعرفون له ذنباً ولا يذكرونه إلا بالمحاسن، ليعلم أن هنالك رباً
لا يضيع عمل عامل.
وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه، أو تأباه، وتذمه أو تمدحه وفق ما
يتحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر.
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر الحق، إلا انعكس مقصوده وعاد
حامده ذاماً.
فصل السابقون الأولون
تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها.
ثم نظرت في المعمور منها، فوجدت الكفار مستولين على أكثره، ووجدت أهل
الإسلام في الأرض قليلاً بالإضافة إلى الكفار.
ثم تأملت المسلمين فرأيت الأكساب قد شغلت جمهورهم عن الرازق، وأعرضت بهم
عن العلم الدال عليه.
فالسلطان مشغول بالأمر والنهي واللذات العارضة له، ومياه أغراضه جارية لا
شكر لها.
ولا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس.
وإنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها.
كما قال عمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذ رأيتني قد حدت عن
الحق فخذ بثيابي وهزني، وقل: ما لك يا عمر ؟.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا.
فأحوج الخلق إلى النصائح والمواعظ، السلطان.
وأما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى، وزينة الدنيا، وقد انضاف إلى
ذلك الجهل، وعدم العلم، فلا يؤلمهم ذنب، ولا ينزعجون من لبس حرير، أو شرب
خمر، حتى ربما قال بعضهم: إيش يعمل الجندي. أيلبس القطن ؟.
ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها، فالظلم معهم كالطبع.
وأرباب البوادي قد غمرهم الجهل، وكذلك أهل القرى. ما أكثر تقلبهم في
الأنجاس وتهوينهم لأمر الصلوات، وربما صلت المرأة منهن قاعدة.
ثم نظرت في التجار فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص، حتى لا يرون سوى وجوه
الكسب كيف كانت؛ وصار الربا في معاملتهم فاشياً، فلا يبالي أحدهم من أين
تحصل له الدنيا ؟. وهم في باب الزكاة مفرطون، ولا يستوحشون من تركها، إلا
من عصم الله.
ثم نظرت في أرباب المعاش، فوجدت الغش في معاملاتهم عاماً، والتطفيف
والبخس، وهم مع هذا مغمورون بالجهل.
ورأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلباً للكسب قبل أن يعرف ما
يجب عليه وما يتأدب به.
ثم نظرت في أحوال النساء، فرأيتهن قليلات الدين، عظيمات الجهل، ما عندهم
من الآخرة خبر إلا من عصم الله.
فقلت: واعجباً فمن بقي لخدمة الله عز وجل ومعرفته ؟.
فنظرت فإذا العلماء، والمتعلمون، والعباد، والمتزهدون. فتأملت العباد،
والمتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بخير علم، ويأنس إلى تعظيمه، وتقبيل يده
وكثرة أتباعه، حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل،
لئلا ينكسر جاهه.
ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى أن لا يعودوا مريضاً، ولا يشهدوا جنازة،
إلا أن يكون عظيم القدر عندهم. ولا يتزاورون، بل ربما ضن بعضهم على بعض
بلقاء، فقد صارت النواميس كالأوثان يعبدونها ولا يعلمون.
وفيهم من يقدم على الفتوى بجهل لئلا يخل بناموس التصدر، ثم يعيبون العلماء
لحرصهم على الدنيا ولا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه، لا تناول
المباحات.
ثم تأملت العلماء والمتعلمين. فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة
النجابة، لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب منه ما
يصيره شبكة للكسب، إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد، أو قدر
ما يتميز به عن أبناء جنسه ثم يكتفي.
ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى ويستخدمه، فهو يؤثر ما
يصده العلم عنه، ويقبل على ما ينهاه ولا يكاد يجب ذوق معاملة لله سبحانه،
وإنما همته أن يقول وحسب.
إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة، جامع بين العلم والعمل.
عارف بحقوق الله تعالى، خائف منه. فذلك قطب الدنيا، ومتى مات أخلف الله
عوضه.
وربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة.
ومثل هذا لا تخلو الأرض منه. فهو بمقام النبي في الأمة.
وهذا الذي أصفه يكون قائماً بالأصول، حافظاً للحدود، وربما قل علمه أو قلت
معاملته.
فأما الكاملون في جميع الأدوات فيندر وجودهم، فيكون في الزمان البعيد منهم
واحد.
ولقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من
المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة:
أولهم الحسن البصري، وثانيهم سفيان الثوري، وثالثهم أحمد بن حنبل.
وقد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتاباً، وما أنكر على من ربعهم بسعيد بن
المسيب.
وإن كان في السلف سادات إلا أن أكثرهم غلب عليه فن، فنقص من الآخر، فمنهم
من غلب عليه العلم، ومنهم من غلب عليه العمل، وكلا هؤلاء كان له الحظ
الوافر من العلم، والنصيب الأوفى من المعاملة والمعرفة.
ولا يأس من وجود من يحذو حذوهم، وإن كان الفضل بالسبق لهم. فقد أطلع الله
عز وجل الخضر على ما خفى من موسى عليهما السلام.
فخزائن الله مملوءة، وعطاؤه لا يقف على شخص.
ولقد حكي لي عن ابن عقيل أنه كان يقول عن نفسه: أنا عملت في قارب ثم كسر،
وهذا غلط فمن أين له ؟ فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه
على ذلك، وكم من متأخر سبق متقدماً، وقد قيل:
إن الليالي والأيام حاملةٌ ... وليس يعلم غير اللّه ماتلد
تأملت في فوائد النكاح ومعانيه وموضوعه، فرأيت أن الأصل الأكبر في وضعه
وجود النسل.
لأن هذا الحيوان لا يزال يتحلل ثم يختلف من المتحلل الغذاء، ثم يتحلل من
الأجزاء الأصلية مالا يخلفه شيء، فإذا لم يكن بد من فنائه، وكان المراد
امتداد أزمان الدنيا جعل النسل خلفاً عن الأصل.
ولما كانت صورة النكاح تأباها النفوس الشريفة من كشف العورة وملاقاة ما لا
يستحسن لنفسه، جعلت الشهوة تحث عليه ليحصل المقصود.
ثم رأيت هذا المقصود الأصلي يتبعه شيء آخر، وهو استفراغ هذا الماء الذي
يؤذي دوام احتقانه.
فإن المني ينفصل من الهضم الرابع، فهو من أصفى جوهر الغذاء وأجوده، ثم
يجتمع، فهو أحد الذخائر للنفس فإنه تدخر - لبقائها وقوتها - الدم ثم
المني، ثم تدخر التفل الذي هو من أعمدة البدن كأنه لخوف عدم غيره.
فإذا زاد اجتماع المني أقلق على نحو إقلاق البول للحاقن، إلا أن إقلاقه من
حيث المعنى أكثر من إقلاق البول من حيث الصورة، فتوجب كثرة اجتماعه، وطول
احتباسه، أمراضاً صعبة. لأنه يترقى من بخاره إلى الدماغ فيؤذي، وربما أحدث
سمية.
ومتى كان المزاج سليماً فالطبع يطلب بروز المني إذا اجتمع كما يطلب بروز
البول، وقد ينحرف بعض الأمزجة، فيقل اجتماعه عنده فيندر طلبه لإخراجه،
وإنما نتكلم عن المزاج الصحيح، فأقول: قد بينت أنه إذا وقع به احتباسه
أوجب أمراضاً وجدد أفكاراً رديئة، وجلب العشق والوسوسة إلى غير ذلك من
الآفات.
وقد نجد صحيح المزاج يخرج ذلك إذا اجتمع وهو بعد متقلقل، فكأنه الآكل الذي
لا يشبع.
فبحثت عن ذلك فرأيته وقوع الخلل في المنكوح، إما لدمامته، وقبح منظره، أو
لآفة فيه، أو لأنه غير مطلوب للنفس فحينئذ يخرج منه ويبقى بعضه.
فإذا أردت معرفة ما يدلك على ذلك، فقس مقدار خروج المني في المحل المشتهى.
وفي المحل الذي هو دونه، كالوطء بين الفخذين بالإضافة إلى الوطء في محل
النكاح، وكوطء البكر بالإضافة إلى وطء الثيب.
فعلم حينئذ أن تخير المنكوح يستقصي فضول المني، فيحصل للنفس كمال اللذة،
لموضع كمال بروز الفضول.
ثم قد يؤثر هذا في الولد أيضاً، فإنه إذا كان من شابين قد حبسا أنفسهما عن
النكاح مدى مديدة كان الولد أقوى منه من غيرهما، أو من المدمن على النكاح
على الأغلب.
ولهذا كره نكاح الأقارب، لأنه مما يقبض النفس عن انبساطها، فيتخيل الإنسان
أنه ينكح بعضه، ومدح نكاح الغرائب لهذا المعنى.
ومن هذا الفن يحصل كثير من المقصود من دفع هذه الفضول المؤذية بمنكوح
مستجد، وإن كان مستقبح الصورة ما لا يحصل به في العادة.
ومثال هذا أن الطاعم إذ امتلأ خبزاً ولحماً حيث لم يبق فيه فضل لتناول
لقمة، قدمت إليه الحلوى فيتناول، فلو قدم أعجب منها لتناول، لأن، الجدة
لها معنى عجيب.
وذلك أن النفس لا تميل إلى ما ألفت، وتطلب غير ما عرفت، ويتخايل لها في
الجديد نوع مراد. فإذا لم تجد مرادها صدفت إلى جديد آخر، فكأنها قد علمت
وجود غرض تام بلا كدر، وهي تتخايله فيما تراه.
وفي هذا المعنى دليل مدفون على البعث، لأن في خلق همته متعلقة بلا متعلق
نوع عبث. فافهم هذا ؟.
فإذا رأت النفس عيوب ما خالطت في الدنيا عادت تطلب جديداً.
ولذلك قال الحكماء: العشق، العمى عن عيوب المحبوب، فمن تأمل عيوبه سلا.
ولذلك يستحب للمرأة أن لا تبعد عن زوجها بعداً تنسيه إياها، ولا تقرب منه
قرباً يملها معه، وكذلك يستحب ذلك له، لئلا يملها أو تظهر لديه مكنونات
عيوبها.
وينبغي له أن لا يطلع منها على عورة، ويجتهد في أن لا يشم منها إلا طيب
ريح، إلى غير ذلك من الخصال التي تستعملها النساء الحكيمات، فإنهن يعلمن
ذلك بفطرهن من غير احتياج إلى تعليم.
فأما الجاهلات فإنهن لا ينظرن في هذا فيتعجل التفات الأزواج عنهن.
فمن أراد نجابة الولد وقضاء الوطر فليتخير المنكوح، إن كان زوجة فلينظر
إليها، فإذا وقعت في نفسه فليتزوجها، ولينظر إلى كيفية وقوعها في نفسه،
فإن علامة تعلق حبها بالقلب ألا يصرف الطرف عنه، فإذا انصرف الطرف قلق
القلب بتقاضي النظرة، فهذا الغاية.
ودونه مراتب على مقاديرها يكون بلوغ الأغراض.
وإن كان جارية تشترى فلينظر إليها أبلغ من ذلك النظر، ومن قدر على مناطقة
المرأة أو مكالمتها بما يوجب التنبيه، ثم ليرى ذلك منها، فإن الحسن في
الفم والعينين.
وقد نص أحمد: على جواز أن يبصر الرجل من المرأة التي يريد نكاحها ما هو
عورة، يشير إلى ما يزيد على الوجه.
ومن أمكنه أن يؤخر العقد أو شراء الجارية لينظر كيف توقان قلبه، فإنه لا
يخفى على العاقل توقان النفس لأجل المستجد، وتوقانها لأجل الحب، فإذا رأى
قلق الحب أقدم. فإنه قد أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا حمد بن
أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا عبد
الجبار بن أبي عامر قال: حدثني أبي قال: حدثني خالد بن سلام قال: حدثنا
عطاء الخراساني قال: مكتوب في التوراة كل تزويج على غير هوى حسرة وندامة
إلى يوم القيامة.
ثم ينبغي للمتخير أن يتفرس في الأخلاق فإنها من الخفي، وإن الصورة إذا خلت
من المعنى كانت كخضراء الدمن.
ونجابة الولد مقصودة، وفراغ النفس من الاهتمام بما حصلت من رغبات أصل
عظيم، يوجب إقبال القلب على المهمات.
ومن فرغ من المهمات العارضة أقبل على المهمات الأصلية.
ولهذا جاء في الحديث: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان.
وإذا وضع العشاء وحضرت العشاء فابدءوا بالعشاء.
فمن قدر على امرأة صالحة في الصورة والمعنى فليغمض عن عوراتها، ولتجتهد هي
في مراضيه من غير قرب يمل، ولا بعد ينسي، ولتقدم على التصنع له يحصل
الغرضان منها، الولد وقضاء الوطر.
ومع الاحتراز الذي أوصيت به، تدوم الصحبة، ويحصل الغناء بها عن غيرها.
فإن قدر على الاستكثار فأضاف إليها سواها عالماً أنه بذلك يبلغ الغرض الذي
يفرغ قلبه زيادة تفريغ كان أفضل لحاله.
فإن خاف من وجود الغيرة ما يشغل القلب الذي قد اهتممنا بجمع همته، أو خاف
وجود مستحسنة تشغل قلبه عن ذكر الآخرة، أو تطلب منه ما يوجب خروجه عن
الورع فحسبه واحدة.
ويدخل فيما أوصيت به أنه يبعد في المستحسنات العفاف. فليبالغ الواجد لهن
في حفظهن وسترهن.
فإن وجد ما لا يرضيه عجل الاستبدال، فإنه سبب السلو، وإن قدر على الاقتصار
فإن الاقتصار على الواحدة أولى، فإن كانت على الغرض قنع، وإن لم تكن
استبدل، ونكاح المرأة المحبوبة يستفرغ الماء المجتمع، فيوجب نجابة الولد
وتمامه، وقضاء الوطر بكماله.
ومن خاف وجود الغيرة فعليه بالسراري فإنهن أقل غيرة، والاستظراف لهن أمكن
من استظراف الزوجات.
وقد كان جماعة يمكنهم الجمع، وكان النساء يصبرن، فكان لداود عليه الصلاة
والسلام مائة امرأة، ولسليمان عليه الصلاة والسلام ألف امرأة، وقد علم حال
نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه
أربع حرائر، وسبع عشرة سرية، وتزوج ابنه الحسن رضي الله عنه بنحو من
أربعمائة، إلى غير هذا مما يطول ذكره.
فافهم ما أشرت إليه تفز به إن شاء الله تعالى.
فصل حلاوة الطاعة وشؤم المعصية
كل شيء خلق الله تعالى في الدنيا فهو أنموذج في الآخرة، وكل شيء يجري فيها
أنموذج ما يجري في الآخرة. فأما المخلوق منها فقال ابن عباس رضي الله
عنهما: ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء.
وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم وخوف بعذاب من عذاب. فأما ما يجري في
الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنب
ذنباً، وهو معنى قوله تعالى: " مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ " .
وربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله فظن أن لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به
عقوبة.
وقد قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة
ثواب الحسنة.
وربما كان العقاب العاجل معنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب كم
أعصيك ولا تعاقبني ؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك
حلاوة مناجاتي ؟.
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد، حتى قال وهب بن الورد وقد
سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي ؟ فقال: ولا من هم.
فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرمه الله صفاء قلبه، أو
آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير
ذلك.
وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس، وعلى ضده يجد من يتقي الله
تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلاً، كما في حديث أبي أمامة: عن النبي
صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام
الشيطان، من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيماناً يجد حلاوته في قلبه.
فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها.
فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقل أن تحتبس، ومن ذلك قول النبي صلى
الله عليه وسلم: الصبحة تمنع الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وقد روى المفسرون: أن كل شخص من الأسباط جاء باثني عشر ولداً، وجاء يوسف
بأحد عشر بالهمة، ومثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأى الجزاء وفهم كما قال
الفضيل: إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي. وعن عثمان
النيسابوري: أنه انقطع شسع نعله في مضيه إلى الجمعة فتعوق لإصلاحه ساعة،
ثم قال: ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غسل الجمعة.
ومن عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف: "
وَشَرَوْهُ بِثَمَنِ بَخْسٍ " امتدت أكفهم بين يديه بالطلب، يقولون: "
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا " .
ولما صبر هو يوم الهمة ملك المرأة حلالاً، ولما بغت عليه بدعواها: " مَا
جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا " ، نطقها الحق بقولها: " أَنَا
رَاوَدْتُهُ " .
ولو أن شخصاً ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك، وكذلك إذا فعل
طاعة. وفي الحديث: إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة، أي عاملوه لزيادة
الأرباح العاجلة.
ولقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع، طلباٍ للراحة العاجلة،
فانقلبت أحواله إلى التنغص العاجل، وعكست عليه المقاصد.
حكى بعض المشايخ: أنه اشترى في زمن شبابه جارية، قال: فلما ملكتها تاقت
نفسي إليها، فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقاً يرخص لي، فكلهم قال: لا
يجوز النظر إليها بشهوة، ولا لمسها، ولا جماعها، إلا بعد حيضها، قال:
فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت وهي حائض، فقلت: قرب الأمر، فسألت الفقهاء
فقالوا: لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه، قال: فقلت لنفسي وهي شديدة
التوقان لقوة الشهوة، وتمكن القدرة، وقرب المصاقبة: ما تقولين ؟ فقالت؛
الإيمان بالصبر على الجمر شئت أو أبيت، فصبرت إلى أن حان ذلك، فأثابني
الله تعالى على ذلك الصبر بنيل ما هو أعلى منها أرفع.
فصل بين السر والعلانية
نظرت في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من
أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل، فيظهره الله سبحانه
عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس.
وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جواباً لكل ما أخفى
من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع من
قدره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل.
وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها وبأكثر منها، حتى
إنهم لا يعرفون له ذنباً ولا يذكرونه إلا بالمحاسن، ليعلم أن هنالك رباً
لا يضيع عمل عامل.
وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه، أو تأباه، وتذمه أو تمدحه وفق ما
يتحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر.
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر الحق، إلا انعكس مقصوده وعاد
حامده ذاماً.
تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها.
ثم نظرت في المعمور منها، فوجدت الكفار مستولين على أكثره، ووجدت أهل
الإسلام في الأرض قليلاً بالإضافة إلى الكفار.
ثم تأملت المسلمين فرأيت الأكساب قد شغلت جمهورهم عن الرازق، وأعرضت بهم
عن العلم الدال عليه.
فالسلطان مشغول بالأمر والنهي واللذات العارضة له، ومياه أغراضه جارية لا
شكر لها.
ولا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس.
وإنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها.
كما قال عمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذ رأيتني قد حدت عن
الحق فخذ بثيابي وهزني، وقل: ما لك يا عمر ؟.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا.
فأحوج الخلق إلى النصائح والمواعظ، السلطان.
وأما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى، وزينة الدنيا، وقد انضاف إلى
ذلك الجهل، وعدم العلم، فلا يؤلمهم ذنب، ولا ينزعجون من لبس حرير، أو شرب
خمر، حتى ربما قال بعضهم: إيش يعمل الجندي. أيلبس القطن ؟.
ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها، فالظلم معهم كالطبع.
وأرباب البوادي قد غمرهم الجهل، وكذلك أهل القرى. ما أكثر تقلبهم في
الأنجاس وتهوينهم لأمر الصلوات، وربما صلت المرأة منهن قاعدة.
ثم نظرت في التجار فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص، حتى لا يرون سوى وجوه
الكسب كيف كانت؛ وصار الربا في معاملتهم فاشياً، فلا يبالي أحدهم من أين
تحصل له الدنيا ؟. وهم في باب الزكاة مفرطون، ولا يستوحشون من تركها، إلا
من عصم الله.
ثم نظرت في أرباب المعاش، فوجدت الغش في معاملاتهم عاماً، والتطفيف
والبخس، وهم مع هذا مغمورون بالجهل.
ورأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلباً للكسب قبل أن يعرف ما
يجب عليه وما يتأدب به.
ثم نظرت في أحوال النساء، فرأيتهن قليلات الدين، عظيمات الجهل، ما عندهم
من الآخرة خبر إلا من عصم الله.
فقلت: واعجباً فمن بقي لخدمة الله عز وجل ومعرفته ؟.
فنظرت فإذا العلماء، والمتعلمون، والعباد، والمتزهدون. فتأملت العباد،
والمتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بخير علم، ويأنس إلى تعظيمه، وتقبيل يده
وكثرة أتباعه، حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل،
لئلا ينكسر جاهه.
ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى أن لا يعودوا مريضاً، ولا يشهدوا جنازة،
إلا أن يكون عظيم القدر عندهم. ولا يتزاورون، بل ربما ضن بعضهم على بعض
بلقاء، فقد صارت النواميس كالأوثان يعبدونها ولا يعلمون.
وفيهم من يقدم على الفتوى بجهل لئلا يخل بناموس التصدر، ثم يعيبون العلماء
لحرصهم على الدنيا ولا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه، لا تناول
المباحات.
ثم تأملت العلماء والمتعلمين. فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة
النجابة، لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب منه ما
يصيره شبكة للكسب، إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد، أو قدر
ما يتميز به عن أبناء جنسه ثم يكتفي.
ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى ويستخدمه، فهو يؤثر ما
يصده العلم عنه، ويقبل على ما ينهاه ولا يكاد يجب ذوق معاملة لله سبحانه،
وإنما همته أن يقول وحسب.
إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة، جامع بين العلم والعمل.
عارف بحقوق الله تعالى، خائف منه. فذلك قطب الدنيا، ومتى مات أخلف الله
عوضه.
وربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة.
ومثل هذا لا تخلو الأرض منه. فهو بمقام النبي في الأمة.
وهذا الذي أصفه يكون قائماً بالأصول، حافظاً للحدود، وربما قل علمه أو قلت
معاملته.
فأما الكاملون في جميع الأدوات فيندر وجودهم، فيكون في الزمان البعيد منهم
واحد.
ولقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من
المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة:
أولهم الحسن البصري، وثانيهم سفيان الثوري، وثالثهم أحمد بن حنبل.
وقد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتاباً، وما أنكر على من ربعهم بسعيد بن
المسيب.
وإن كان في السلف سادات إلا أن أكثرهم غلب عليه فن، فنقص من الآخر، فمنهم
من غلب عليه العلم، ومنهم من غلب عليه العمل، وكلا هؤلاء كان له الحظ
الوافر من العلم، والنصيب الأوفى من المعاملة والمعرفة.
ولا يأس من وجود من يحذو حذوهم، وإن كان الفضل بالسبق لهم. فقد أطلع الله
عز وجل الخضر على ما خفى من موسى عليهما السلام.
فخزائن الله مملوءة، وعطاؤه لا يقف على شخص.
ولقد حكي لي عن ابن عقيل أنه كان يقول عن نفسه: أنا عملت في قارب ثم كسر،
وهذا غلط فمن أين له ؟ فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه
على ذلك، وكم من متأخر سبق متقدماً، وقد قيل:
إن الليالي والأيام حاملةٌ ... وليس يعلم غير اللّه ماتلد
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى