: دروس من الأندلس 2 {الأحد 21 أغسطس - 15:40}

خطبة : دروس من الأندلس 2
الحمد لله الذي تسبح له الرمال ، وتسجد له الظلال ، وتنهدم من هيبته الجبال . أحمده حمد الشاكرين الذاكرين ، وأستغفره استغفار المذنبين المقصرين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، قيوم السماوات والأراضين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إمام من اتقى ، وبصيرة من اهتدى ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،،،

معاشر المؤمنين ..
نواصل اليوم ما بدأناه في الخطبة الماضية من وقفات ودروس من تاريخ الأندلس ،التي فتحها المسلمون وحكموها قرونا سادوا فيها تلك البلاد حين تسلحوا بالإيمان ،وتمسكوا بالقرآن، واعتصموا بالوحدة وتزينوا بالعلم ، فظهرت حضارة إسلامية انتشر ضياؤها في ربوع أوروبا التي كانت تتخبط في ظلمات الجهل ، واليكم عباد الله وثيقة تاريخية ما قرأها مسلم او سمعها الا واشتاقت نفسه لتلك العزة والرفعة، وهو يتأمل واقع الأمة اليوم وقد ترجلت من صهوة القيادة إلى ذلّ التبعية، ومن جمال العلم والحضارة إلى قاع الجهل والتخلف ، الا أن بصيص الأمل بدأ يلمع ويترآى للناظرين بعد ان عرفت الأمة سبيل العزة والرفعة، واستبانت سبيل المجرمين واتبعت سبيل المؤمنين.
عباد الله ..
أرسل الملك جورج الثاني ملك إنجلترا ابنة أخيه ورئيس ديوانه على رأس بعثة مكونة من ثماني عشرة فتاة من بنات الأمراء والإشراف إلى إشبيلية في عهد هشام الثالث لدراسة نظام الدولة والحكم وآداب السلوك الإسلامي وكل ما يؤدي إلى تهذيب المرأة، ولقد أرسل معها رسالة هذا نصها:
""من جورج الثاني ملك إنجلترا والغال* والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام, وبعد التعظيم والتوقير فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من أربعة أركان, ولقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة دوبانت على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز تتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وحماية الحاشية الكريمة وحدب من اللواتي سيتوافرون على تعليمهن . ولقد أرفقت مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص ،،، من خادمكم المطيع جورج ملك إنجلترا""

كانت تلك رسالة الملك النصراني واليكم جواب الأمير المسلم جواب الخليفة الأندلسي هشام الثالث..
) بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه سيد المرسلين وبعد: إلى ملك إنجلترا وايكوسيا واسكندنافيا الأجل... أطلعت على التماسكم فوافقت على طلبكم بعد استشارة من يعنيهم الأمر من أرباب الشأن، وعليه نعلمكم أنه سوف ينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابل أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية وهي من صنع أبنائنا هدية لحضرتكم وفيها المغزى الكافي للتدليل على التفاتتنا ومحبتنا والسلام.
خليفة رسول الله في ديار الأندلس هشام الثالث)

أسمعتم عباد الله كيف كانت عزة المسلمين ورفعتهم وحضارتهم ، ما تحقق ذلك عباد الله الا بعد توحّد كيانهم في دولة واحدة هي الدولة الأموية في الأندلس وكانت أطول العهود التي حكم خلالها المسلمون الأندلس وأكثرها استقرارا وتقدما ،فالوحدة هي القاعدة الثانية بعد الإيمان لتأسيس الأمة المسلمة وقوتها ونهضتها ،كما قال جل وعلا "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"(آل عمران 103)،وهذه الوحدة المطلوبة –عباد الله-لايطالب بها الحكام فقط بل الشعوب المسلمة اليوم مطالبة بالاستجابة لأمر الله تعالى "ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم( لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ) رواه مسلم .

فالواجب عباد الله ان يتمثل المسلمون تلك التوجيهات النبوية الكريمة وان يتذكروا انهم أمة واحدة وان كانوا شعوبا متعددة فتلك تسمية الله جل وعلا لنا معاشر أمة الاسلام ،قال تعالى :" وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ"(المؤمنون 52)،وهي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بقوله:" المسلمون تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم" .(ابو داود واحمد والنسائي)

هدانا الله واياكم لما يحب ويرضى واعاننا على البر والتقوى اقول ماتسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم ..

الخطبة الثانية

الحمد لله حق حمده وأشهد الا اله الا الله وحده لا شريك له وأصلي وأسلم على من لانبي بعده محمد عبد الله ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره

معاشر المؤمنين ..
حين تفرق المسلمون في الاندلس الى دول وممالك وتركوا وحدتهم وتعلقوا بالدنيا وزخرفها وألقابها وأصبحوا كما وصفهم الشاعربقوله:
مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتصم فيها ومعتضــد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

حينها انقلبت القوة الى ضعف والعزة الى ذلة ، واليكم شاهدا على ذلك ، فحين حضرت الوفاة حاكم "سرقسطة" احد ملوك الطوائف قسم دويلته بين ابنيه ليرضيهما ،وما ان مات الاب الذي ورّث ابنيه حب السلطة حتى تنازعا على حدودهما ،فقام احدهما واستعان بملك برشلونة النصراني رغم ما حذّره الناصحون ان النصارى لا عهد لهم وسيحكمون بلادك وبلاد أخيك، فلم يستمع للنصح وتمادى في غيه واتبع هواه وشهوة السلطان ، فماذا حدث عباد الله ، جاء جيش النصارى لمدينة بربشتر وحاصروها أربعين يوما والمسلمون في الداخل يستغيثون بكل أمراء المسلمين ، ولكن لا حراك ولا نجدة ولا نصرة ، فالقلوب الواهنة ملئت رهبة من النصارى،كما هي من يستجدون الصهاينة فتات المطالب وهم يزدادون لهم تعنتا وإذلالا .
و دخل النصارى بربُشْتَر، وفي اليوم الأول من دخولهم قتلوا من المسلمين أربعين ألفًا، (من رواية ياقوت الحموي، وهناك رواية أخرى تزيدهم إلى مائة ألف) وسبوا سبعة آلاف فتاة مسلمة أعطين هدية لملك القسطنطينية، وأحدثوا من المآسي ما تقشعر منه الأبدان وتنخلع منه القلوب؛

ومثل هذه الصورة قد تكررت في تاريخنا المعاصر ،وليس ببعيد عنا ما قام به النصارى وإخوانهم اليهود في البوسنة والهرسك، من مذابح مروعة واعتداءات مجرمة فقد قتل مائتين وخمسين ألف مسلم، غير ما حدث في كشمير وكوسوفا، وما يقومون به اليوم في فلسطين وأفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين الممتحنة.فالله الله يا معاشر المسلمين في وحدتكم والله الله في اعتصامكم بحبل الله المتين وبهدي رسوله القويم ،هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه.
الخطيب : يحي العقيلي