عبير الروح
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
دخلت ام احمد بيت أختها وهي تستند على يد ابنتها ، لقد اصرت على هذه الزيارة على رغم تدهور صحتها ... ولكنها ما أن علمت بما فعلت اختها في المستشفى حتى شعرت بأن هناك واجب ديني وأخلاقي وأسري يفرض عليها أن تقوم بهذه الزيارة ولو كانت آخر زيارة لها ...
ما أن أطلت ام احمد من الباب حتى ركضت أختها باتجاهها تقبلها وتتستبشر بوجودها وتقول لها بصوت مليء بالهلع :
- أختي حبيبتي ، لماذا جئت أنت ، أنا كنت سآتي إليك اليوم ، لماذا فعلت هذا؟ أنت متعبة ؟
- أنت لماذا فعلت ما فعلت ؟ أمجنونة أنت ، تهربين من المستشفى؟ ألم تفكري في موقف أولاك؟ ألم تفكري بالنتائج أبدا؟ حقا أنك مجنونة ...
- - هوني عليك يا أم احمد ... هوني عليك ، ماذا ستفعل لي المستشفى ، انا لا أريد اجراء عملية جراحية ، أبنائي يكذبون علي، أنا اعلم ، أنا لدي سرطان بالرئة مثلك تماما، هم يقولون بأن هناك التهاب، وأنا أعلم بأنهم يكذبون ، أنا رضيت بقدري ، وصبرت على بلائي ، لا أريد أن أامر بكل المراحل التي مررت بها...
- وبماذ مررت أنا ؟ الحمد لله أخذت العلاج منذ سنيتن ، ولولا هذا العلاج لما تمكنت من أن أحضر زفاف ابنتي ، ولا أن اتمم واجباتي الدعوية ، وأنهي قراءاتي العشر للقرآن الكريم التي جئت كي أدعوك إلى حفلة بهذه المناسبة الأسبوع القادم. ولولا العلاج لما تجدد لي الأمل في الحياة... الحياة يا عزيزتي ينبغي أن يعيشها الإنسان بكل مراراتها وأفراحها، اما أنت فستبقين كل أيام مرضك تنتظرين الموت ؟ هل هكذا أمرنا الإسلام ؟ ألم تسمعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تداووا عباد الله فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء "...
- صحيح تداووا ، ولكن إذا كان هذا الدواء فيه نتيجة .... لا عليك مني ... المهم أنت بخير ... كيف تشعرين هذه الأيام؟؟؟ ...
- والله اشعر بتعب شديد ، وادعو الله ان يمد بعمري حتى أحصل على شهادة القراءات ... ضروي أن تحضري ... أنا افرح بمن حولي ... هيا يا ابنتي لنذهب لقد بدأت اشعر بالتعب .... نظرت أم احمد إلى أختها بعين مليئة بالحب والأسى في الوقت نفسه، وقالت بصوت حزين ... مجنونة
*******************
تميزت الحفلة التي قامت بها الحاجة أم أحمد بوجود حشد كبير من الناس ، التلامذة، الأصدقاء الأساتذة، الأحباب، العائلة، الجيران .... كلهم أتوا لمشاركة أم أحمد فرحتها، بعضهم جاءوا بدافع المحبة ، والبعض الآخر جاء بدافع الشفقة ، اما القسم الأخير فقد جاء ليرى كيف أصبح شكل أم أحمد بعد أن أعياها المرض ...
لم تتمكن أم احمد من مقابلة الناس لاشتداد مرضها عليها، ولكنها خاطبتهم عبر مكبرات الصوت ووجهت إليهم رسالة كلها أمل وحب وحث على طلب العلم والعمل، وذكرتهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن قامت الساعة و في يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها "
كانت كلمة أم احمد مؤثرة جداً ، أبكت الحاضرين وجعلتهم يقفون أمام أنفسهم يحاسبونها على تقصيرهم ، فإذا كانت أم أحمد مع مرضها الشديد تمكنت من أن تتم علمها، ماذا يفعلون هم؟ وهم الأصحاء الذين يضيعون أوقاتهم على التفاهات والترهات والقيل والقال ، متناسين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك "
**********************
مرت بضعة أيام على الحفل الكبير الذي جرى في بيت أم أحمد والذي بقي الناس يتكلمون به في سهراتهم وصبحياتهم، وهم يمدحون هذه المرأة الصابرة القوية ، ويقارنوها بمن يعرفون ممن حولهم ممن أصيب بهذا المرض ... إلا أن أم أحمد لم تكن في هذا الوقت في أجواء ما يحدث من حولها ، فقد اشتد عليها المرض كثيرا ، وكأنه كان يمهلها حتى تحقق حلمها ثم ينقض عليها بشكل قاس حرمها النوم بل وحتى التمدد على السرير ، وضاق تنفسها بشكل كبير حتى أن اولادها كانوا يتناوبون على السهر معها حتى يضمنوا تأمين الهواء لها بسبب صعوبة التنفس لديها ...
إن هذا الوضع الصعب دفع بأم أحمد ان تطلب من ابنها الاتصال بالطبيب كي يجد لها حلا ، فقد أرهقها المرض، ولا تريد أن تتعب غيرها اكثر من ذلك ، أخبرها الطبيب بأنه لا بد من أن تأخذ المسكنات على شكل لصقة يمكن أن تنام عليها، ولكن هذا يعني بأنها ستبتعد عن هذا العالم ولن تشعر بوجود من حولها والتفاعل معهم . وافقت أم أحمد على وضع اللصقة على صدرها، ولكنها قبل أن تفعل طلبت من ابنها أن يجمع لها اخوتها واخواتها واولادها ، فهي تريد أن تودعهم ، فكان لها ما أرادت وكانت أم احمد تكلم كل فرد على حدة بما تعرفه من وضعه ومن حالته تصبره وتدعو له، أو تطلب منه أن ينتبه لأبنائها، أو تدعوه إلى تقوى الله، وما الى ذلك مما فتح الله عليها به .... وعندما انتتهت من مهمتها دعت ابنها البكر وقالت له : هيا با بني فلقد بدات أتعب ، وحان وقت اللقاء ... هيا ضع اللصقة وساعدني على أن أنام وأرتاح ...
****************************
أيام أخرى مرت على أم أحمد وهي شبه نائمة على الكنبة دون أن تتمكن من أن تمدد جسدها وترتاح ، وكان أولادها يوقظونها في وقت الطعام كي تفتح فمها بشكل تلقائي لا واعي تبلع لقيمات قليلة ثم تقفله نهائيا ... إلى أن جاء ذلك اليوم الذي شعر فيه ابنها البكر بأن هناك أمر ما قد تغير، فالوسادة التي كانت تضعها أمه خلف ظهرها بدأت تنزاح شيئا فشيئا ، وبدأ جسد أمه يتمدد على السرير بشكل لم يكن ممكناً من قبل ...
أسرع الولد، وبكل رباطة جأش ، ووضع يديه على جسد أمه ليشعر ببرودته ، فشعر بالقشعريرة ، ونادى اخوته، وأخبرهم بأن أمهم تحتضر ... بدأ الجميع يقرأ سورة يس ، والدموع تنهمر من عيونهم ، بينما كان ابنها يسحب الوسادة من تحتها شيئا فشيئا ليساعد أمه على أن ترتاح بعد معاناة طويلة .... وما أن انتهى من مهمته وسحب الوسادة حتى سمع نفخة بسيطة تخرج من فم أمه، ونظر إلى وجهها ليجد دمعة صغيرة أبت الخروج وبقيت واقفة على باب العين، لتعلن نهاية مأساة امرأة تغلبت على مرضها بالايمان والتقوى ....
الدمعة الأخيرة
د. نهى قاطرجي
دخلت ام احمد بيت أختها وهي تستند على يد ابنتها ، لقد اصرت على هذه الزيارة على رغم تدهور صحتها ... ولكنها ما أن علمت بما فعلت اختها في المستشفى حتى شعرت بأن هناك واجب ديني وأخلاقي وأسري يفرض عليها أن تقوم بهذه الزيارة ولو كانت آخر زيارة لها ...
ما أن أطلت ام احمد من الباب حتى ركضت أختها باتجاهها تقبلها وتتستبشر بوجودها وتقول لها بصوت مليء بالهلع :
- أختي حبيبتي ، لماذا جئت أنت ، أنا كنت سآتي إليك اليوم ، لماذا فعلت هذا؟ أنت متعبة ؟
- أنت لماذا فعلت ما فعلت ؟ أمجنونة أنت ، تهربين من المستشفى؟ ألم تفكري في موقف أولاك؟ ألم تفكري بالنتائج أبدا؟ حقا أنك مجنونة ...
- - هوني عليك يا أم احمد ... هوني عليك ، ماذا ستفعل لي المستشفى ، انا لا أريد اجراء عملية جراحية ، أبنائي يكذبون علي، أنا اعلم ، أنا لدي سرطان بالرئة مثلك تماما، هم يقولون بأن هناك التهاب، وأنا أعلم بأنهم يكذبون ، أنا رضيت بقدري ، وصبرت على بلائي ، لا أريد أن أامر بكل المراحل التي مررت بها...
- وبماذ مررت أنا ؟ الحمد لله أخذت العلاج منذ سنيتن ، ولولا هذا العلاج لما تمكنت من أن أحضر زفاف ابنتي ، ولا أن اتمم واجباتي الدعوية ، وأنهي قراءاتي العشر للقرآن الكريم التي جئت كي أدعوك إلى حفلة بهذه المناسبة الأسبوع القادم. ولولا العلاج لما تجدد لي الأمل في الحياة... الحياة يا عزيزتي ينبغي أن يعيشها الإنسان بكل مراراتها وأفراحها، اما أنت فستبقين كل أيام مرضك تنتظرين الموت ؟ هل هكذا أمرنا الإسلام ؟ ألم تسمعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تداووا عباد الله فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء "...
- صحيح تداووا ، ولكن إذا كان هذا الدواء فيه نتيجة .... لا عليك مني ... المهم أنت بخير ... كيف تشعرين هذه الأيام؟؟؟ ...
- والله اشعر بتعب شديد ، وادعو الله ان يمد بعمري حتى أحصل على شهادة القراءات ... ضروي أن تحضري ... أنا افرح بمن حولي ... هيا يا ابنتي لنذهب لقد بدأت اشعر بالتعب .... نظرت أم احمد إلى أختها بعين مليئة بالحب والأسى في الوقت نفسه، وقالت بصوت حزين ... مجنونة
*******************
تميزت الحفلة التي قامت بها الحاجة أم أحمد بوجود حشد كبير من الناس ، التلامذة، الأصدقاء الأساتذة، الأحباب، العائلة، الجيران .... كلهم أتوا لمشاركة أم أحمد فرحتها، بعضهم جاءوا بدافع المحبة ، والبعض الآخر جاء بدافع الشفقة ، اما القسم الأخير فقد جاء ليرى كيف أصبح شكل أم أحمد بعد أن أعياها المرض ...
لم تتمكن أم احمد من مقابلة الناس لاشتداد مرضها عليها، ولكنها خاطبتهم عبر مكبرات الصوت ووجهت إليهم رسالة كلها أمل وحب وحث على طلب العلم والعمل، وذكرتهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن قامت الساعة و في يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها "
كانت كلمة أم احمد مؤثرة جداً ، أبكت الحاضرين وجعلتهم يقفون أمام أنفسهم يحاسبونها على تقصيرهم ، فإذا كانت أم أحمد مع مرضها الشديد تمكنت من أن تتم علمها، ماذا يفعلون هم؟ وهم الأصحاء الذين يضيعون أوقاتهم على التفاهات والترهات والقيل والقال ، متناسين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك "
**********************
مرت بضعة أيام على الحفل الكبير الذي جرى في بيت أم أحمد والذي بقي الناس يتكلمون به في سهراتهم وصبحياتهم، وهم يمدحون هذه المرأة الصابرة القوية ، ويقارنوها بمن يعرفون ممن حولهم ممن أصيب بهذا المرض ... إلا أن أم أحمد لم تكن في هذا الوقت في أجواء ما يحدث من حولها ، فقد اشتد عليها المرض كثيرا ، وكأنه كان يمهلها حتى تحقق حلمها ثم ينقض عليها بشكل قاس حرمها النوم بل وحتى التمدد على السرير ، وضاق تنفسها بشكل كبير حتى أن اولادها كانوا يتناوبون على السهر معها حتى يضمنوا تأمين الهواء لها بسبب صعوبة التنفس لديها ...
إن هذا الوضع الصعب دفع بأم أحمد ان تطلب من ابنها الاتصال بالطبيب كي يجد لها حلا ، فقد أرهقها المرض، ولا تريد أن تتعب غيرها اكثر من ذلك ، أخبرها الطبيب بأنه لا بد من أن تأخذ المسكنات على شكل لصقة يمكن أن تنام عليها، ولكن هذا يعني بأنها ستبتعد عن هذا العالم ولن تشعر بوجود من حولها والتفاعل معهم . وافقت أم أحمد على وضع اللصقة على صدرها، ولكنها قبل أن تفعل طلبت من ابنها أن يجمع لها اخوتها واخواتها واولادها ، فهي تريد أن تودعهم ، فكان لها ما أرادت وكانت أم احمد تكلم كل فرد على حدة بما تعرفه من وضعه ومن حالته تصبره وتدعو له، أو تطلب منه أن ينتبه لأبنائها، أو تدعوه إلى تقوى الله، وما الى ذلك مما فتح الله عليها به .... وعندما انتتهت من مهمتها دعت ابنها البكر وقالت له : هيا با بني فلقد بدات أتعب ، وحان وقت اللقاء ... هيا ضع اللصقة وساعدني على أن أنام وأرتاح ...
****************************
أيام أخرى مرت على أم أحمد وهي شبه نائمة على الكنبة دون أن تتمكن من أن تمدد جسدها وترتاح ، وكان أولادها يوقظونها في وقت الطعام كي تفتح فمها بشكل تلقائي لا واعي تبلع لقيمات قليلة ثم تقفله نهائيا ... إلى أن جاء ذلك اليوم الذي شعر فيه ابنها البكر بأن هناك أمر ما قد تغير، فالوسادة التي كانت تضعها أمه خلف ظهرها بدأت تنزاح شيئا فشيئا ، وبدأ جسد أمه يتمدد على السرير بشكل لم يكن ممكناً من قبل ...
أسرع الولد، وبكل رباطة جأش ، ووضع يديه على جسد أمه ليشعر ببرودته ، فشعر بالقشعريرة ، ونادى اخوته، وأخبرهم بأن أمهم تحتضر ... بدأ الجميع يقرأ سورة يس ، والدموع تنهمر من عيونهم ، بينما كان ابنها يسحب الوسادة من تحتها شيئا فشيئا ليساعد أمه على أن ترتاح بعد معاناة طويلة .... وما أن انتهى من مهمته وسحب الوسادة حتى سمع نفخة بسيطة تخرج من فم أمه، ونظر إلى وجهها ليجد دمعة صغيرة أبت الخروج وبقيت واقفة على باب العين، لتعلن نهاية مأساة امرأة تغلبت على مرضها بالايمان والتقوى ....
الدمعة الأخيرة
د. نهى قاطرجي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى