صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فأنت إذا تذكرت بهذه الأذكار وأطلت لها الترداد والتكرار وأعملت فيها
النظر والاعتبار ورأيت أنك واحد من المذكورين ملك أو غير ذلك من أصناف
الناس ورأيت خلقك كخلقهم وصفتك كصفتهم وأنه لا بد ان يصيبك من الموت ما
أصابهم وينزل بك منه ما نزل بهم وأنت تشاهد بهذه الدار أنواع المصيبات
وأجناس البليات وضروبا من المهلكات وأن الموت واحد وأسبابه كثيرة
فمن رجل باشر الكفاح فتخللته الرماح وتمكنت من رقبته الصفاح وربما كان هذا
أسهلهم مماتا وأكرمهم وفاة
وثان قد طرح في أيدي أعدائه وأسلم لبلائه فقطعوه إربا إربا وفصلوه عضوا
عضوا
وثالث ردوا مشارع العقاب إليه وصبوا العذاب عليه وما مات حتى كان الموت
أحب عائد إليه وأكرم قادم يقدم عليه
ورابع قد أمسى أكيلة حوت في ظلمات البحار
وخامس فريسة أسد في موحشات القفار
إلى غير ذلك من الأمراض الصعبة والآلام الشاقة وما تظنه وما لا تظنه حتى
إن الرجل ليغص بالطعام ويشرق بالشراب فيكون في ذلك حتفه وتذهب فيه نفسه
كما قال القائل
( وما طريق الموت في ذا الورى ... واحدة بل جمة لاجبه )
( وربما لذ لامريء شربة ... فانقلبت وهي له شاربه )
النظر والاعتبار ورأيت أنك واحد من المذكورين ملك أو غير ذلك من أصناف
الناس ورأيت خلقك كخلقهم وصفتك كصفتهم وأنه لا بد ان يصيبك من الموت ما
أصابهم وينزل بك منه ما نزل بهم وأنت تشاهد بهذه الدار أنواع المصيبات
وأجناس البليات وضروبا من المهلكات وأن الموت واحد وأسبابه كثيرة
فمن رجل باشر الكفاح فتخللته الرماح وتمكنت من رقبته الصفاح وربما كان هذا
أسهلهم مماتا وأكرمهم وفاة
وثان قد طرح في أيدي أعدائه وأسلم لبلائه فقطعوه إربا إربا وفصلوه عضوا
عضوا
وثالث ردوا مشارع العقاب إليه وصبوا العذاب عليه وما مات حتى كان الموت
أحب عائد إليه وأكرم قادم يقدم عليه
ورابع قد أمسى أكيلة حوت في ظلمات البحار
وخامس فريسة أسد في موحشات القفار
إلى غير ذلك من الأمراض الصعبة والآلام الشاقة وما تظنه وما لا تظنه حتى
إن الرجل ليغص بالطعام ويشرق بالشراب فيكون في ذلك حتفه وتذهب فيه نفسه
كما قال القائل
( وما طريق الموت في ذا الورى ... واحدة بل جمة لاجبه )
( وربما لذ لامريء شربة ... فانقلبت وهي له شاربه )
وأسباب الموت أكثر من أن أحصيها لك وأعدها عليك ولا تدري ما
السبب الواصل
إليك منها ولا النصيب الذي قسم لك من جملتها وإنك لا تدري متى يهجم عليك
الموت فيقصمك ولا متى ينزل بك فيحطمك ولعله لا يمهلك حتى ينقضي نفسك
فأنت إذا واظبت على هذا تمكن ذكر الموت من قلبك وملكت القياد من نفسك
ونظرت بعون الله عز و جل في أمرك ومهدت المضجع من قبرك وأعددت به الأنيس
ليوم حشرك
وإلا فقد نبه من حذر وأعذر من أنذر ولا لوم إلا على المقصر والله المستعان
وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ولعلك تقول يا هذا قد أرعدت في ذكر الموت وأبرقت وطولت فيه وعرضت وعرضت في
كلامك بمن عرضت وأمرت بالتفكير فيه والاشتغال بذكره وجمع الهمم له وتقصير
الأمل والخوف من انقضاء الأجل
وأي فائدة في ذكر الموت وأنواعه وضيق العمر واتساعه وهذا أمر قد فرغ منه
وأعجزت الحيلة فيه
وكما تقول لي لا تكثر الاشتغال بأمر الرزق ولا تغتم له ولا تتفكر فيه فإنه
مقدر مفروغ منه وما ترزق يأتيك فكذلك الموت أيضا وأسبابه والعمر ومدته وكل
ذلك أمر مقدر مفروغ منه ما قدر علي يصيبني وما كتب علي يأتيني
فأقول نعم كلاهما قد سبق في الأزل وكتب في القسم الأول والسبب الذي كتب
عليك في الموت لن تتعداه والعمر الذي قسم لك لن تتخطاه
ولكن بين الأمرين في الاشتغال بهما فرقان وذلك أن الرزق المقدر المفروغ
منه لا يزيد فيه حرصك وكذا لا ينقص منه كسلك وعجزك وإن كانت له أسباب
ولطلبه أبواب فقد تتعلق بأسبابه وتأتيه في الظاهر من أبوابه فتكون أحد
المحرومين والمجتهدين والمجدودين فهذا أمر قد شوهد بالعيان وعلم به كل
إنسان فلا يفيدك الطلب إلا العناء والتعب
ولست بمأجور في ألم
الحرص ولا فيما تتحمل من مشقة الطلب لاكثر مما تحتاج إليه وربما تبرمت في
الحال ولم تنظر في المآل وسخطت قضاء الله وقدره عليك وحكمه فيك وإرادته لك
من أفعال الخير وأعمال البر وفي هذا ما فيه
وقد تؤجر فيما يصيبك من
ألم المشقة في طلب أكثر مما تحتاج إليه إذا كان لك فيه نية صالحة من صدقة
أو صلة رحم أو غير ذلك من أفعال الخير وأعمال البر
وأما إن كان سعيك ذلك للتكاثر والتفاخر ومحبة في المال فلا والحول والقوة
لله وحده
وأما ذكر الموت والتفكر فيه فإنه وإن كان أمرا مقدرا مفروغا منه فإنه
يكسبك بتوفيق الله سبحانه التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود
والاستعداد للموت والنظر فيما تقدم عليه وفيما يصير أمرك إليه ويهون عليك
مصائب الدنيا ويصغر عندك نوائبها فإن كان سبب موتك سهلا وأمره قريبا هينا
فهو ذاك وإن كانت الأخرى كنت مأجورا فيما تقاسيه مثابا على ما تتحمله
واعلم أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالقلب وإقبالك على ما
تذكره وإي فائدة لك رحمك الله في تحريك لسانك إذا لم يخطر بجنانك
وإنما مثل ذلك مثل من يكون في بعض أعضائه جراحة فيريد أن يداويها فيجعل
الدواء على عضو آخر صحيح ويدع العضو المريض ليس عليه شيء فانظر كيف يستريح
هذا بهذا التداوي ومتى يستريح إلا أن يأتيه البرء من بارئه والشفاء من
خالقه سبحانه وتعالى
أو مثل من يريد أن يوقظ نائما فيدعه في غمرة
نومه ويوقظ غيره فانظر كيف يستيقظ له ذلك الذي أراد إيقاظه بإيقاظ هذا
الآخر أو متى يستيقظ
وإنما سنة الله تعالى الجارية أن يقصد العضو
المريض بدوائه والنائم بما يوقظ به اللهم إلا أن يكون في إيقاظ هذا النائم
حركة عظيمة ومعالجة كثيرة تتعدى إلى ذلك النائم الآخر فيستيقظ فيكون إذن
كأنه قصده بالإيقاظ مع صاحبه وإما إن كانت حركته لا تتعداه فإن النائم
الآخر يبقى بحاله وفي غمرات نومه حتى يوقظه الذي أنامه ويحركه الذي أسكنه
تبارك وتعالى
وإنما مثل الذكر الذي يعقب التنبيه ويكون له معه البرء
من السقم والإيقاظ من النوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمع له ذهنك وتجعله
نصب عينيك ومثالا حاضرا بين يديك وأن تنظر إلى كل ما تحبه من الدنيا من
ولد أو أهل أو جاه أو غير ذلك فتعلم أنه لا بد لك من مفارقته إما في
الحياة أو في الممات سنة الله الجارية وحكمه المطرد
وتشعر هذا قلبك وتفرغ له نفسك فتمنعها بذلك عن الميل إلى ذلك المحبوب
والتعلق به والهلكة بسببه
كما قيل يا ابن آدم لا تعلق قلبك بما يأخذه منك الفوت أو يأخذك أنت عنه
الموت
ونظر رجل إلى بني له صغير يمشي بين يديه فأعجبه حسنه وألهته حركته فقال يا
بني ولولا الموت لعلقت قلبي بك ولأكثرت من حبي لك
ونظر ابن مطيع يوما إلى داره فأعجبه حسنها فبكى ثم قال والله لولا الموت
لكنت بك مسرورا ولوا ما أصير إليه من ضيق القبر لقرت عيني بك ثم بكى حتى
ارتفع بكاؤه وعلا نحيبه
واعلم أن طول الأمل داء عضال ومرض مزمن ومتى
تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه ولم يفارقه داء ولا نجع فيه دواء بل
أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء
وقد روى في طول الأمل وذمه وفي التحريض على العمل والترغيب فيه ما في بعضه
الكفاية وما بأقل منه يوصل إلى المقصود بعون الله تعالى
قال الله تعالى ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون )
وقال عليه الصلاة و السلام لا يزال قلب الشيخ شابا في اثنتين حب
الدنيا وطول الأمل ذكره البخاري ومسلم وغيرهما
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال خط لنا
رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا مربعا وقال هذا الأجل وخط في وسطه خطا
وقال هذا الإنسان وخط في عرضه يعني في جانبه خطوطا فقال هذه الأعراض وخط
خطا خارجا وقال هذا الأمل قال فالأعراض تنهشه وعينه إلى الأمل
يريد
عليه الصلاة و السلام أن الإنسان قد أحاط به أجله وأنه دائر به فحيثما
توجه لقيه وأن فتن الدنيا ومحنها تعترضه وتنهشه وتتلقاه وتستقبله وهو مع
ذلك بعيد الأمل مصروف النظر إليه
ويروى أنه عليه الصلاة و السلام
أخذ عودا فغرزه بين يديه وغرز عودا آخر إلى جنبه قريبا منه ثم أخذ عودا
ثالثا فغرزه بعيدا منه ثم قال أتدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم
فقال هذا الانسان وأشار إلى العود الذي بين يديه وهذا الأجل وأشار إلى
العود الذي إلى جنبه ثم قال وذلك الأمل وأشار إلى العود الثالث البعيد
فالإنسان يتعاطى الأمل ويختلجه قبل ذلك الأجل
ويروى أن النبي صلى
الله عليه و سلم اطلع ذات يوم على الناس فقال ألا تستحيون من الله قالوا
وما ذاك يا رسول الله قال تجمعون ما لا تأكلون وتأملون مالا تدركون
وروى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال اشترى أسامة بن
زيد من زيد
بن ثابت وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقول ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل والذي
نفسي بيده ما طرفت عيني إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى تقبض روحي ولا
طعمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت ثم قال يا بني آدم
إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى فوالذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت
وما أنتم بمعجزين
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم يهريق الماء فيتيمم بالتراب فأقول يا رسول الله
إن الماء منك قريب فيقول ما يدريني لعلي لا أبلغه ذكره الحارث بن أبي
أسامة في مسنده
وروى عنه عليه السلام أنه قال نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك
آخرها بالبخل والأمل
ومن كلام بعضهم أيها الجاري في أمله رويدك فإن الزمان يفتل قيدك وربما
صرعك قبل أن تنال ما به خدعك وقتلك قبل أن تستوفي أملك فأوردك منهل رداك
وأشمت بك عداك وأخذك بما كسبت يداك وربما أدركت ما طلبت واستوفيت ما أملت
فأخذك أخذة أسف قبل فل عرشك وهدم حوضك وأطبق سماءك وزلزل أرضك ورمى بك حيث
لا يرعى لك ذمة ولا تدركك رحمة ولا تنكشف عنك كربة ولا تنجلي عنك غمة
وأنشدوا
( أمل من دنياه ما أملا ... وقال ما قال لأن يفعلا )
( وصال في هذا الورى صولة ... بز بها الآخر والأولا )
( وطبق الأرض بفرسانه ... وهد منها شعفات الفلا )
( وقال هذي ثمرات المنى ... فليجنها الأفضل والأفضلا )
( فمن حريم فض ختامه ... ومن مليك في الثرى جندلا )
( حتى إذا بات على عرشه ... مستوفيا كل الذي أملا )
( صاح به صرف الردى صيحة ... ألقى بأعلى عرشه أسفلا )
( ودك في الأرض بإيوانه ... وزلزلت أرجاء ذاك الملا )
( ومر لا ينعش من عثرة ... إلا إلى ثمت إلا إلى )
( فلا سقت مصرعه مزنة ... ولا انجلت كربته لا ولا )
وخطب علي رضي الله عنه فقال ألا وإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع وان
الآخرة قد أقبلت وآذنت باطلاع ألا وإن المضمار اليوم والسباق غدا ألا وإن
السبقة الجنة والغاية الموت ألا وإنكم في أيام مهل ومن ورائه أجل يحثه عجل
فمن عمل في أيام مهله قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضره أمله ومن لم يعمل
في أيام مهله قبل حضور أجله ضره أمله وساءه عمله
وقال علي رضي الله
عنه ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد أشرفت مقبلة وإن لكل
واحدة منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ألا
وإن اليوم عمل بلا حساب وغدا حساب بلا عمل ألا وإن من أشد ما أخاف عليكم
خصلتين طول الأمل واتباع الهوى أما طول الأمل فإنه ينسي الآخرة وأما اتباع
الهوى فإنه يصد عن سبيل الله
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه ثلاث
أعجبتني حتى أضحكتني وثلاث أحزنتني حتى أبكتني أما الثلاث الأول فمؤمل
دنيا والموت يطلبه وغافل وليس بمغفول عنه وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط
عليه رب العالمين أم راض عنه
أما الثلاث التي أحزنتني حتى أبكتني
ففراق محمد صلى الله عليه و سلم وفراق الأحبة أصحابه والوقوف بين يدي الله
تعالى ولا أدري أيؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار
وقال أبو بكر زكريا
التيمي بينما هشام بن عبد الملك في المسجد الحرام إذ أتى بحجر مكتوب فيه
باللسان العجمي فطلب من يقرؤه له فأتى بوهب بن
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
منبه رحمه الله
فقرأه فإذا فيه يا ابن آدم لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك
ولرغبت في الزيادة من عملك ولقصرت من حرصك وحيلك وإنما يلقاك ندمك لو قد
زلت بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك ففارقك الولد والقريب ورفضك الوالد والنسيب
فلا أنت لدنياك عائد ولا في حسناتك زائد فاعمل ليوم القيامة يوم الحسرة
والندامة
وقال الحسن البصري رحمه الله كان آدم عليه السلام قبل أن يخطيء الخطيئة
أمله خلف ظهره والموت نصب عينيه فلما أصاب الخطيئة تحول أمله فصار بين
عينيه وصار أجله خلف ظهره
وقال الحسن ما أطال عبد الأمل إلا نسي العمل
ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال يا أهل
دمشق ألا تسمعون من أخ لكم ناصح إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا
ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا
هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا فمن يشتري مني اليوم
تركتهم بدرهمين
وقيل لبعض الزهاد بالبصرة ألك حاجة ببغداد فقال ما أحب أن أبسط أملي حتى
تمضي إلى بغداد وتجيء
وأنشدوا
( يا ذا المؤمل آمالا وإن بعدت ... عنه ويزعم أن يحظى بأقصاها )
( أنى تفوز بما ترجوه ويك وما ... أصبحت في ثقة من نيل أدناها )
وأنشدوا أيضا
( ما الأمر أمرك في حل ولا ظعن ... تجول في جلد جذلان ومنفسح )
( ردت أوائلها بالموت فانقبضت ... والموت يقبض ذا الأحزان والفرح )
( وبادر الأمر ما أصبحت في مهل ... من المشيب ومن مداك في فسح )
( فربما سكنت في الحال عاصفة ... وعاد غور مياه القوم للنضح )
وقال بعض الحكماء الأمل كالسراب غر من رآه وخيب من رجاه
وخطب عمر بن عبد العزيز يوما فقال ألا إن لكل سفر زادا فتزودوا التقوى
لسفركم من الدنيا إلى الآخرة وكونوا كمن عاين ما أعد الله من ثوابه وعقابه
ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم وإنه والله ما بسط
الأمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد مسائه ولا يمسي بعد صباحه
وبين ذلك خطفات المنايا وهجمات المنون وإنما تقرعين من وثق بالنجاة من
عذاب الله تعالى وإنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة
وأما من لا يداوي جرحا إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يفرح أعوذ بالله
أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر غباوتي إنكم قد عنيت بأمر
لو عيت به النجوم لا نكدرت أو الجبال لذابت أو الأرض لتشققت
أما تعلمون أن ليس بين الجنة والنار منزل وأنكم صائرون إلى أحدهما
وروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال بينما نحن نصلح خصا لنا إذ مر
بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما هذا فقلنا يا رسول الله قد وهى
فنحن نصلحه فقال ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك ذكره الترمذي
والخص بيت من قصب يريد عليه السلام تعجيل الأمر وتقريبه وخوف بغتته والحذر
من فجأته
وقيل للحسن البصري رحمه الله تعالى يا أبا سعيد ألا تغسل قميصك فقال الأمر
أعجل من ذلك وكان الحسن رحمه الله تعالى قصير الأمل طويل
الخوف وكان يأتي عليه الأحيان يظن الظان أن الموت قد نزل به
وأنه في سياقه من كثرة تفكره فيه وتخيله له
وقال داود الطائي رحمه الله تعالى لو أملت أن أعيش شهرا لرأيت أني قد أتيت
عظيما وكيف آمل ذلك وأنا أرى الفجائع تنزل بالخلائق آناء الليل والنهار
وقيل للربيع بن خيثم رحمه الله تعالى كيف أصبحت فقال كيف يصبح رجل إذا
أصبح لا يدري أنه يمسي وإذا أمسى لا يدري أنه يصبح
امتثل الربيع رحمه الله الحديث المروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي
الله عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمنكبي وقال كن في
الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور فإذا أصبحت فلا
تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من حياتك لموتك
ومن غناك لفقرك ومن صحتك لسقمك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا
وقوله إذا أصبحت الكلام إلى آخره أكثر ما يروى من قول عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما
ذكر الحديث الترمذي وغيره
وقال آحر ابن عباس رضي الله عنهما ما انتفعت ولا اتعظت بعد رسول الله صلى
الله عليه و سلم بمثل كتاب كتبه إلي علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وهو أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوؤه فوت ما لم يكن
ليدركه فلا تكن بما نلت من دنياك فرحا ولا بما فاتك منها ترحا ولا تكن ممن
يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل فكأن قد نزل بك الأجل
والسلام
وقال بعض الحكماء في موعظة له كلنا نتيقن الموت وما نرى له منا
مستعدا وكلنا نتيقن الجنة وما نرى لها منا عاملا وكلنا نتيقن
النار وما
نرى لها منا خائفا فعلام تعرجون وما عسى تنتظرون وماذا ترجون أو ماذا
تأملون الموت أول قادم يقدم عليكم بخير أو شر فيا إخوتا سيروا سيرا جميلا
وقال آخر العاقل يعتمد على عمله والجاهل يعتمد على أمله
وقال آخر بطول الأمل تقسو القلوب وبإخلاص النية تقل الذنوب
ويروى عن شقيق البلخي أنه جاء إلى أستاذ له يقال له أبو هشام وفي طرف
كسائه شيء مصرور فضرب عليه الباب فخرج إليه فرأى ما في كسائه فقال له ما
هذا الذي في كسائك فقال يا أستاذ دفع إلي أخ لي لويزات وقال أحب أن تفطر
عليها فقال له يا شقيق وأنت تحدث نفسك أن تعيش إلى الليل
لا أكلمك ثم أغلق الباب في وجهه ودخل
ويروى عن الحسن أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكلكم يحب أن
يدخل الجنة قالوا نعم يا رسول الله قال فقصروا آمالكم وثبتوا آجالكم بين
أبصاركم واستحيوا من الله حق الحياء
وقال بعضهم رأيت زرارة بن أبي أوفي في المنام بعد موته فقلت له أي الأعمال
أبلغ عندكم قال التوكل وقصر الأمل
وقال بعضهم في موعظة له أيها الناس حسنوا أعمالكم وقصروا آمالكم واعلموا
أن الموت معقود بنواصيكم وأن الدنيا تطوى من ورائكم
وأنشدوا
( عقد الموت منكم بالنواصي ... ودفعتم منه لهول القصاص )
( ففرارا ولات حين فرار ... ومناصا ولات حين مناص )
( قد طوتكم صروف هذي الليالي ... عن كمال فعدتم لانتقاص )
( أحكمت أسركم وما من أسير ... في يديها يرجى له من خلاص )
( كم ركضتم وراءها من جياد ... وامتطيتم بإثرها من قلاص )
( وانتضيتم لحربها من نصال ... ولبستم لذاكم من دلاص )
( ونزلتم مساريا وغياضا ... وعلوتم شوائقها وصياصي )
( وإلى ذا فما وجدتم نجاة ... من ترد لكم بها والتحاص )
( رحتم مثخنين جرحا وقتلا ... كقنيص بايتتهم القناص )
( فاطلبوها بما لكم من قصاص ... ومحال أن تسعفوا بقصاص )
( فذروها ذميمة دار دنيا ... أخلصت عيشها لذي الإخلاص )
( وإذا امتدت الأماني فيها ... وأشادت بوصلها المتعاص )
( فاقطعوا ذكرها بذكر مقام ... هام من ذكره مطيع وعاصي )
( وإن ارتاع من حديث فؤادي ... فلذاكم يشيب سود النواصي )
وقال الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل وليس أكل الخشن ولبس العباءة وصدق
الثوري رحمه الله فإن من قصر أمله لم يتأنق في المأكولات والمطعومات ولا
يتفنن بالملبوسات وأخذ من الدنيا ما تيسر واجتزأ منها بما يبلغه
وفي
بعض الخطب أيها الناس إن سهام الموت قد فوقت إليكم فانظروها وحبالة الأمل
قد نصبت بين أيديكم فاحذروها وفتن الدنيا قد أحاطت بكم من كل جانب فاتقوها
ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال فإنه إلى زوال ومقيمه إلى ارتحال
وممتده إلى تقلص واضمحلال
أما تسمعون أيها الناس لما به توعظون أما
تعتبرون بما إليه تنظرون أما تفكرون فيما عنه تزولون وفيما إليه ترجعون
وعليه تقدمون أين من تقدمكم وكان قبلكم ممن أمل أملكم وسعى سعيكم وعمل
عملكم أين الذين بنوا المدائن وملأوا الخزائن واستعدوا لما هو عندهم كائن
أين الذين غرسوا في روضة الملك ونظموا الآمال في سلك وهتكوا حجبها أيما
هتك وكانوا في ظاهر
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أعمالهم في ريب من الزمان وفي شك
انظروا
إليهم كيف نضبت لهم تلك المياه وذبلت منهم تلك الشفاه وتكسرت عند سقوطهم
تلك الوجنات وتثلمت تلك الجباه وتغيرت الأحوال وانكمشت الآمال وبقيت شاهدة
عليهم تلك الرسوم والأطلال
( رفعت عرشك في الدنيا وتهت به ... وما بها للبيب ترفع العرش )
( وبت فيها على فرش ملينة ... ولو عقلت لما لانت لك الفرش )
( وظلت تسعى لآمال وتفرشها ... وللمواريث ما تسعى وتفترش )
( كم كان قبلك من مأسور رغبته ... بالحرص تلدغ جنباه وتنتهش )
( يمسي ويصبح في حل وفي ظعن ... يضم هذا إلى هذا ويحتوش )
( عطشان للمال محماة جوانحه ... ألقى على صدره لسانه العطش )
( حتى إذا قيل قد تمت مطالبه ... وطاف من حوله أهلوه واحتوشوا )
( مدت إليه يد للموت باطشة ... خشناء لا دهش فيها ولا رعش )
( فقصعته وقدما كان ذا جيد ... واجهشته ولما يدر ما الجهش )
( فبات مستلبا وبات وارثه ... وقد تغطوا بذاك المال وافترشوا )
( أما سمعت بأملاك مضوا قدما ... شم الأنوف بروض الملك قد عرشوا )
( إن دوفعوا دفعوا أو زوحموا زحموا ... أو غولبوا غلبوا أو بوطشوا بطشوا )
( جاءتهم وجنود الله غالبة ... كتائب للمنايا كلها حبش )
( فضعضعت جنبات عزهم ورمت ... منارهم بظلام ما به غبش )
( لطال ما أكلوا وطال ما تسربوا ... وطال ما رفعوا الآجام واعترشوا )
( مروا فلا أثر منهم بدارهم ... ولا حسيس ولا ركز ولا وقش )
( قد كان للقوم آمال مبسطة ... فأصبحوا قبضوا الآمال وانكمشوا )
ويروى أن أمير المؤمنين المهدي رحمه الله تعالى نام ليلة ونساؤه
حوله
فانتبهن لبكائه فقلن له ما شأنك يا أمير المؤمنين فقال ما رأيتن الشيخ قلن
لا والله ما رأينا أحدا فقال دخل علي شيخ وأنا بين النائم واليقظان والله
لو كان بين ألف رجل لعرفته فأنشدني
( كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ركنه ومنازله )
( وصار عميد القصر من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله )
( ولم يبق إلا ذكره وحديثه ... ينادي بويل معولات حلائله )
فقلن له أضغاث أحلام خيرا رأيت فوالله ما أتت عليه سابعة حتى مات
وأعلم ان الناس في قصر الأمل وطوله مختلفون وفي درجاته متفاوتون فمنهم من
يؤمل أن يعيش أقصى ما يعيشه إنسان ممن شاهد أو سمع به في زمانه ولو كان
الاختيار إليه لما مات أبدا حبا منه للدنيا وكلفا بها وتلذذا بالبقاء فيها
وهيهات ليس للإنسان ما تمنى ولا أن يدرك كل ما فيه تعنى وغاية هذا أن
يتمنى طول العمر ويود أن لو يبقى الأحقاب الكثيرة من الدهر
قال الله تعالى في قوم كانوا كذلك ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة )
ويمكن أن يكون هؤلاء تمنوا طول البقاء لأنهم كانوا لم يتحقق في الآخرة لهم
رجاء لكفرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم وتكذيبهم له مع صحة نبوته عندهم
لكن حملهم بغيهم وحسدهم له على الكفر به والإنكار لدعوته وكانوا يقولون
إنهم يدخلون النار ثم يخرجون منها فيتمنون لذلك طول العمر
وهذه
الآية نزلت في اليهود ومنهم من يؤمل أن يعيش ستين سنة وسبعين سنة وأكثر من
ذلك ومنهم من يؤمل أن يعيش فوق ذلك ودون ذلك حتى إن منهم من لا يجاوز أمله
يومه وربما كان أمله أقصر من ذلك بل منهم من يكون الموت نصب عينيه يتوقعه
مع الأنفاس أن يثب عليه
يذكر عن الأسود الحبشي أنه كان يلتفت يمينا وشمالا فقيل له ما
هذا الالتفات قال انظر ملك الموت من أين يأتيني وأنشد بعضهم من كلمة
( وألبس لهذا الموت جبة خائف ... قد ضاق عنه مسلك ومقام )
( لا نأمنن عليك من إقدامه ... فله على هذا الورى إقدام )
( وأكحل جفونك بالرقاد لأجله ... فالسهد حل والمنام حرام )
( إلا غرارا كالغذاء تناله ... لولا الضرورة ما وجدت تنام )
( ومن العجائب أن تراه نائما ... من طالبوه ساهرون ينام )
وكان بعض الصالحين يقول ما أحسبني إلا رجلا قد أقعد ليقتل وجرد السيف عليه
ومدت عنقه فهو ينتظر أن يضرب فيلقى رأسه بين يديه فشتان ما بين الرجلين
وآخر قد مد في عمره وطول في أمله فازداد في كسله ودخل الوهن في عمله
ورجل آخر قد جعل التقوى بضاعته والعبادة صناعته ولم يتجاوز بأمله ساعته بل
جعل الموت نصب عينيه ومثالا قائما بين يديه وسيفا مصلتا عليه فهو مرتقب له
مستعد لنزوله لا يشغله عن ارتقابه شاغل ولا يصرفه عن الاستعداد له صارف قد
ملأ قلبه وجلا وعمره عملا وعد يوما واحدا يعيشه بقاء ومهلا وغنيمة تملأ
نفسه سرورا وجذلا لازدياده فيه من الخير وادخاره فيه من الأجر واكتسابه
عند الله عز و جل من جميل الذكر
ومثل هذا قد رفع التوفيق عليه لواءه وألبسه رداءه وأعطاه جماله وبهاءه
فانظر رحمك الله تعالى أي الرجلين تريد أن تكون وأي العملين تريد أن تعمل
وبأي الرداءين تريد أن تشتمل وبأيهما تريد أن تتزين وتتجمل فلست تلبس هناك
إلا ما لبسته هنا ولا تحشر هناك إلا فيما كنت فيه هنا إن
صلاح فصلاح وإن فجور ففجور
ولعل هذا هو تأويل الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
يبعث الميت في ثيابه التي مات فيها لأنه قد صح أن الناس يبعثون حفاة عراة
وهذا الخبر ذكره أبو داود في السنن
وأنشد
( قد طواك الزمان شيئا فشيئا ... وبرتك الخطوب جزءا فجزءا )
( ورمت منك حادثات الليالي ... حبة القلب فأدن بعد أو انأى )
( كان ما كان وانقضت مدة العمـ ... ـر وولى الشباب خبرا ومرأى )
( وقديما قد أعلمتك الليالي ... أن أدواءها تفوتك برءا )
( فادرك منها فائتا بمتاب ... بل بإيمان انشىء اليوم نشئا )
( واتخذ للهيام ويحك ريا ... واتخذ للسهوم ويلك فيئا )
( وإاذ ما خرقت بالدين خرقا ... فارفينه بالإنابة رفئا )
( وإذا ما وردت مورد دنيا ... فليكن ما وردت من ذاك ظمئا )
( ولتدعها تحيلا وأماني ... ألبست قلبك المغفل صدأ )
( وإذا ما الحمام جاءك يوما ... لم تجد من جميع ذلك شيئا )
واعلم أن طول الأمل حجاب على قلبك يمنعك من رؤية الموت ومشاهدته ووقر في
أذنيك يمنعك من سماع وجبته ودوي وقعته وبقدر ما يرفع لك من الحجاب ترى
وبقدر ما يخفف عن أذنيك من الوقر تسمع
فانظر رحمك الله نظر من رفع
الحجاب وفتح بابه واستمع سماع من أزيل وقره وخوطب سره وبادر قبل أن يبادر
بك وينزل عليك وينفذ حكم الله فيك فتطوى صحيفة عملك ويختم على ما في يديك
ويقال لك اجن ما
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
غرست واحصد ما زرعت وأقرأ كتابك الذي كتبت كفى بنفسك اليوم عليك
حسيبا وبربك تبارك وتعالى شهيدا ورقيبا
قال مالك بن دينار رحمه الله رأيت في البادية في يوم شديد البرد شابا عليه
ثوبان خلقان وعليه آثار الدعاء وأنوار الإجابة فعرفته وكنت قبل ذلك عهدته
في البصرة ذا ثروة وحسن حال وكان ذا مال وآمال
قال فبكيت لما رأيته
على تلك الحال فلما رآني بكى وبدأني بالسلام وقال لي يا مالك بن دينار ما
تقول في عبد أبق من مولاه فبكيت لقوله بكاء شديدا وقلت له وهل يستطيع
المسكين ذلك البلاد بلاده والعباد عباده فأين يهرب المسكين فقال يا مالك
سمعت قارئا يقرأ ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) فأحسست في الحال
بنار وقعت بين ضلوعي فلا تخمد ولا تهدأ من ذلك اليوم يا مالك أتراني أرحم
وتطفأ هذه الجمرة من قلبي
فقلت له أحسن الظن بمولاك فإنه غفور رحيم
ثم قلت له إلى أين قال إلى مكة شرفها الله تعالى لعلي أن أكون ممن إذا
التجأ إلى الحرم استحق مراعاة الذمم
قال مالك ففارقني ومضى فتعجبت من وقوع الموعظة منه موقعها وما تأجج بين
جنبيه من نار التيقظ والإنابة وما حصل عليه من صدق القبول وحسن الاستماع
واعلم أن الأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني ويعقب التشاغل
والتقاعس ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا
يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان
كما أن قصره يبعث على العمل
ويحمل على المبادرة ويحث على المسابقة وسأضرب لك في ذلك مثلا مثل ملك من
الملوك كتب إلى رجل يقول له افعل كذا وكذا وانظر في كذا وكذا وأصلح كذا
وكذا وانتظر رسولي فلانا فإني سأبعثه إليك ليأتيني بك وإياك ثم إياك أن
يأتيك إلا وقد فرغت من أشغالك وتخلصت من أعمالك ونظرت في زادك وأخذت ما
تحتاج
إليه في سفرك وإلا أحللت بك عقابي وأنزلت عليك سخطي وأمرته
أن يأتيني بك مغلولة يداك مقيدة رجلاك مشمتا بك عداك مسحوبا على وجهك إلى
دار خزيي وهواني وما أعددته لمن عصاني
وإن هو وجدك قد فرغت من
أعمالك وقضيت جميع أشغالك أتي بك مكرما مرفعا مرفها إلى دار رضواني
وكرامتي وما أعددته لمن امتثل أمري وعمل بطاعتي
واحذر أن يخدعك فلان أو فلانة عن امتثال أمري والاشتغال بعملي وكتب إلى
رجل آخر بمثل ذلك الكتاب
فأما الرجل الأول فقال هذا كتاب الملك جاء يأمرني فيه بكذا وكذا وذكر لي
أن رسوله يأتيني ليحملني إليه وأنا لا أمضي إليه حتى يأتيني رسوله ولعل
رسوله لا يأتيني إلا إلى خمسين سنة أو أكثر فأنا على مهلة وسأنظر فيما
أمرني به ولم يقع الكتاب منه بذلك الموقع ولم ينزله من نفسه بتلك المنزلة
وقال والله لقد أتى كتابه إلى خلق كثير بمثل ما أتاني ولم يأتهم رسوله إلا
بعد السنين الكثيرة والمدد الطويلة وأنا واحد منهم ولعل رسوله يتأخر عني
كما تأخر عنهم وجعل الغالب على ظنه أن الرسول لا يأتيه إلا إلى خمسين سنة
كما ظن أو أكثر أو إلى المدة التي جعل لنفسه بزعمه
ثم أقبل على
اشغال نفسه مما لا يحتاج إليه ومما كان غنيا عنه وترك أوامر الملك والشغل
الذي كلفه النظر فيها والاشتغال به فكلما دخلت عليه سنة قال أنا مشغول في
هذه السنة وسأنظر في السنة المقبلة والمسافة أمامي طويلة والمهل بعيد
وهكذا كلما دخلت سنة قال أنا في هذه مشغول وسأنظر في الأخرى أو سأنظر في
نصف السنة أو في الشهر الثاني منها أو سأنظر غدا ذ
فبينما هو على ذلك من تسويفه واغتراره إذ جاءه رسول الملك فكسر بابه
وهتك حجابه وحصل معه في قعر بيته وقال له أجب الملك فقال والله
لقد جاءني
كتابه يأمرني فيه بأعمال أعملها وأشغال انظر له فيها وما قضيت منها شغلا
ولا عملت منها حتى الآن شيئا
فقال له الرسول ويلك وما الذي أبطأك عنها وما الذي حبسك عن الاشتغال بها
والنظر فيها فقال لم أكن أظن أنك تأتيني في هذا الوقت
فقال له ويلك ومن أين كان لك هذا الظن ومن أخبرك به ومن أعلمك بأني لا
آتيك إلا في الوقت الذي تظن قال ظننت وطمعت وسولت لي نفسي ومنتني وخدعني
الشيطان وغرني
فقال له ألم يحذرك الملك في كتابه منهما وأمرك ألا
تسمع لهما قال بلى والله لقد فعل ولقد جاءني هذا في كتابه ولكني خدعت
فانخدعت وفتنت فافتتنت وارتبت في وقت مجيئك فتربصت
فقال له ويلك غرك الغرور وخدعك المخادع أجب الملك لا أم لك
قال أنشدك بحق الملك إلا ما تركتني حتى أنظر فيما أمرني به أو في بعضه أو
فيما تيسر منه حتى لا أقدم عليه في جملة المفرطين وعصابة المقصرين
وهذا مال قد كنت جمعته لنفسي وأعددته لمؤنة زماني فاتركني حتى آخذ منه
زادا أتزوده ودابة أركبها فإن الطريق شاقة والمفازة صعبة والعقبة كؤود
والمنزل ليس فيه ماء
قال أتركك حتى أكون عاصيا مثلك ثم دفعه دفعة
ألقاه على وجهه ثم جمع يديه إلى عنقه وانطلق به يجره من خلفه خزيان ندمان
جوعان عطشان وهو ينشد بلسان الحال
( لا كحزني إذا لقيت حزينا ... جل خطبي فديتكم أن يهونا )
( ضاق صدري عن بعضه واحتمالي ... فاسلكوا بي حيث ألقى المنونا )
( ما تريد العداة مني وإني ... لبحال يرق لي المبغضونا )
( زفرات هتكن خلب فؤادي ... وهموم قطعن مني الوتينا )
( خنت عهد المليك قولا وفعلا ... واتخذت الخلاف شرعا ودينا )
( غرست في الحياة كفي شرا ... فاجتنيت العقاب منه فنونا )
( ليتني لم أكن وأين لمثلي ... ظالم نفسه بأن لا يكونا )
( يا خليلي ولا خليل لي اليو ... م سوى حسرة تديم الأنينا )
( ربح الرابحون وانقضت السو ... ق وخلوا بغبنه المغبونا )
( فابكني إن يكن بكاك مفيدا ... أو فدعني وعصبة يبكونا )
وأما الآخر الذي كتب إليه الملك بمثل ما كتب به إلى هذا فإنه أخذ كتاب
الملك وقبله وقرأه وتصفحه وتدبره وقال أرى الملك قد كتب إلي بأن أعمل له
كذا وكذا وأقضي له كذا وكذا وأنظر له في كذا وكذا ومن أين سبقت لي هذه
السابقة عند الملك ومن الذي عني بي عنده ومن الذي أنزلني منه بهذه المنزلة
حتى جعلني من بعض خدامه والقائمين بأمره والناظرين في أعماله
والله
إن هذه لسعادة والله إن هذه لعناية الحمد لله رب العالمين ثم نظر في
الكتاب وقال أسمع الملك وقد قال لي في كتابه وانتظر رسولي فإني سأبعثه
إليك ليأتيني بك وأراه لم يحد لي الوقت الذي يبعث فيه الرسول إلي ولا سماه
لي ولعلي لا أفرغ من قراءة كتابه إلا ورسوله قد أتاني ونزل علي والله لا
قدمت شغلا على شغل الملك ولا نظرت في شيء إلا بعد فراغي مما أمرني به
الملك وإعدادي زادا أتزوده ومركوبا أركبه إذا جاءني رسوله وحملني إليه
فتعرض له رجل وقال له لم هذه المسارعة كلها وفيم هذه المبادرة كلها فقال
له ويحك أما ترى كتاب الملك بما جاءني أما تسمع ما فيه أما تصدقه
أما تؤمن به قال بلى سمعت وآمنت وصدقت ولكن لم يقل لك فيه إن
رسوله يأتيك
اليوم ولا غدا ولا وقتا معلوما ولكنه سيأتيك وقد جاء كتابه إلى فلان بهذا
الذي قد جاءك أنت به وقد بقي منتظرا لرسوله أكثر من سبعين سنة وإلى الآن
ما أتاه وبعد زمان طويل ما جاءه وفلان أتاه بعد ثمانين سنة وفلان أتاه بعد
مائة سنة وأكثر وفلان كاد أن لا يأتيه
وأنت واحد من المرسول إليهم فلم هذه العجلة وفيم هذا الإسراع
فقال ويحك أما ترى أنت فلانا قد جاءه كتاب الملك بهذا الذي جاءني وجاءه
الرسول في إثر مجيء الكتاب وفلان كذلك وفلان جاءه بعد سنة وفلان كذا
فقال له بلى ولكن لا تنظر إلى هؤلاء خاصة وانظر إلى الذين قلت لك ممن تأخر
عنه مجيء الرسول
فقال له دعني يا هذا فقد شغلتني والله وإني لأخاف أن يأتيني الرسول وأنا
أكلمك
ثم أقبل على ما أمره به الملك فامتثله ونظر فيما حد له واشتغل بما يجب أن
يشتغل به وأخذ الزاد لسفره وأخذ الأهبة لطريقه وجعل ينتظر الرسول أن يأتيه
وأقبل يلتفت يمينا وشمالا من أين يأتيه ومن أين يقبل عليه
فبينما هو
كذلك وإذا برسول الملك قد أتاه فقال أجب الملك قال نعم قال الساعة قال
الساعة قال وفرغت مما أمرك به وعملت ما حد لك أن تعمله قال نعم قال فانطلق
قال بسم الله فخلع عليه خلعة الأولياء وكساه كسوة الأصفياء وأعطاه مركوبا
يليق به ويجمل بمثله وانطلق به في حبور وسرور وهو ينشد بلسان الحال
( هنئوني بغبطتي وسروري ... فجدير بأن يهنأ مثلي )
( ربحت صفقتي وزكي سعيي ... وارتقى للإله قولي وفعلي )
( كيف لي أن أعبر اليوم عني ... بمقال يبين وصف محلي )
( ضاقت الكتب أن تضم حديثي ... بل تلاشت عن بعض ما أنا أملي )
( قد بلغت المنى وزدت عليها ... وتملأت بالمسرة كلي )
( ليت قومي لو يعلمون بما لله ... من نعمة علي وفضل )
( طاب عيشي وقر فيه قراري ... وتقلبت بين ماء وظل )
( أنا ذاكم حقيقا أم هو غيري ... اعذروني فقد تدله عقلي )
فبان لك بهذا المثل وبغيره فضيلة قصر الأمل وفضيلة المبادرة إلى العمل
والاستعداد للموت قبل نزوله والانتظار له قبل حلوله
وقد كثر الحض على هذا وكثرت الأقاويل فيه ولم يزل المذكرون يذكرون
والمنبهون ينبهون لو يجدون سمعا واعيا وقلبا حافظا ومحلا قابلا والحول حول
الله والأمر كله بيد الله
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
لرجل وهو يعظه
اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك
قبل شغلك وحياتك قبل موتك
وعن ابن عباس أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال نعمتان مغبون فيهما
كثير من الناس الصحة والفراغ
ذكر البخاري
وقال القائل
( إن في الموت والمعاد لشغلا ... وادكارا لذي النهى وبلاغا )
( فاغتنم نعمتين قبل المنايا ... صحة الجسم يا أخي والفراغا )
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و
سلم أنه قال
ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو هرما مفندا أو
مرضا مفسدا أو موتا مجهزا أو الدجال والدجال شر غائب ينتظر أو
الساعة والساعة أدهى وأمر
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من خاف
أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة
وقال النبي صلى الله عليه و سلم أنا النذير والموت المغير والساعة الموعد
ذكره القاضي أبو الحسن بن صخر في الفوائد
وقال جابر بن عبد الله كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خطب رفع
صوته واحمرت عيناه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم
ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى
ذكره مسلم بن الحجاج يريد عليه السلام تقريب الأمر وسرعة نزوله وكل آت
قريب وكل ما هو كائن سيكون
قال ابن مسعود قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن يرد الله أن يهديه
يشرح صدره للإسلام فقال إن النور إذا دخل القلب انفسح فقيل يا رسول الله
هل لذلك من علامة تعرف
قال نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت
قبل نزوله
ومن كلام بعضهم أما تسمعون أيها الناس داعي الموت يدعوكم وحاديه يحدوكم
أما ترون صرعاه في منازلكم وقتلاه بين أيديكم ففيم هذا التصامم عن الداعي
والتشاغل عن الحادي والتعامي عن مصارع القتلى والتغافل عن مشاهدة الهلكى
فرحم الله امرأ أيقظ نفسه في مهلة الحياة قبل أن توقظه روعة الممات واستعد
لما هو آت قبل الانبتات وحلول الفوات وكان
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الحكم قد وقع والخطاب قد ارتفع أعرض من أعرض وسمع من سمع
وانشدوا
( قطعت زماني حينا فحينا ... أدير من اللهو فيه فنونا )
( وأهملت نفسي وما أهملت ... وهونت من ذاك ما لم يهونا )
( ورب سرور شفى غلة ... وولى فأعقب حزنا رصينا )
( وكم آكل ساعة ما يريد ... يكابد ما أورثته سنينا )
( وما كان أغنى الفتى عن نعيم ... يعود عليه عذابا مهينا )
( وكم وعظتني عظات الزمان ... لو أني أصيخ إلى الواعظينا )
( وكم قد دعاني داعي المنون ... وأسمع لو كنت في السامعيا )
( وماذا أؤمل أو أرتجيه ... وقد جزت سبعا على الأربعينا )
( فلو كان عقلي معي حاضرا ... سمعت لعمري منه أنينا )
( ولن يبرح المرء في رقدة ... يغط إلى أن يوافي المنونا )
( فتوقظه عندها روعة ... تقطع منه هناك الوتينا )
( وإذ ذاك يدري بما كان فيه ... وتجلو الحقائق منه الظنونا )
وقال أنس في قول الله عز و جل ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن
عملا ) قال أكثركم للموت ذكرا وأحسن استعدادا وأشد منه خوفا وحذرا )
وقال حذيفة رضي الله عنه ما من صباح ولا مساء إلا ومناد ينادي أيها الناس
الرحيل الرحيل
وقال بعضهم أيها الإنسان إنما أنت نازل من الدنيا في منزل تعمره أيام عمرك
ثم تخليه عند موتك لمن ينزله من بعدك وانشدوا
( أخل لمن ينزل ذا المنزل ... وارحل فقد آن أن ترحل )
( وارحل بما قد كنت جمعته ... واحمله إن خليت أن تحمل )
( هيهات لا تخرج منه بشيء ... فافعلن ما شئت أن تفعل )
( واقعد من الغيظ وإلا فقم ... واطلع إلى الكوكب أو فانزل )
( فلست بالخارج إلا بما ... جئت فسلم ويك واستبسل )
( وخل عن هذي الأماني فما ... تثمر إلا شر ما يؤكل )
( كم من فتى طول آماله ... فقصرت دنياه ما طول )
( فجاءه الموت على غرة ... فمات من قبل الذي أمل )
( فيا إلهي والذي جوده ... قد غمر الآخر والأول )
( رحماك يا رحمن في فتية ... ليس لهم دونك من مؤمل )
( قد حجبتها عنك آثامها ... وأنزلتها شر ما منزل )
( وليس إلا عفوك المرتجى ... أو دلها ماذا الذي تعمل )
وقال محمد بن إبراهيم جلست إلى عامر بن عبد الله وهو يصلي فجوز في صلاته
فقال أخبرني بما جئت له فإني أبادر فقلت له وما تبادر قال ملك الموت رحمك
الله فإني أخاف أن ينزل بي فقمت عنه وقام إلى صلاته
ومر داود الطائي رحمه الله فسأله رجل غريب عن حديث فقال دعني فإني أبادر
خروج نفسي
وقال الربيع بن خثيم رحمه الله من خاف الوعيد قرب عليه البعيد ومن طال
أمله ساء عمله
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه التؤدة خير في كل شيء إلا في أمر
الآخرة والتؤدة هي التثبت والتأني
وكان الحسن رحمه الله يقول في موعظته المبادرة المبادرة فإنما هي الأنفاس
لو حبست انقطعت عنكم الأعمال التي تتقربون بها إلى الله عز و جل رحم الله
امرأ نظر لنفسه وبكى على ذنبه ثم قرأ هذه الآية ( إنما نعد لهم
عدا ) يعني الأنفاس آخر العدد خروج نفسك وفراق أهلك وقال بعض
الصلحاء
اغتنم تنفس الأجل وإمكان العمل واقتطع ذكر المعاذير والعلل فإنك في أجل
محدود ونفس معدود وعمر غير ممدود
وقال غيره أعمل عمل المرتحل فإن حادي الموت يحدوك ليوم ليس يعدوك فيطرحك
في حفرة لا يخافك فيها أحد ولا يرجوك
وكتب رجل إلى بعض إخوانه أما بعد فإن الدنيا حلم والآخرة يقظة والموت
متوسط بينهما ونحن في أضغاث أحلام والسلام
وكتب محمد بن يوسف رحمه الله إلى أخ له سلام عليك فإني أحمد إليك الله
الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني محذرك من دار منقلبك إلى دار إقامتك
وجزاء أعمالك فتصير في باطن الأرض بعد ظهرها فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك
وينتهرانك فإن يكن الله معك فلا فاقه ولا بأس ولا وحشة وإن يكن غير ذلك
فأعاذني الله وإياك يا أخي من سوء مصرع وضيق مضجع ثم تبلغك صيحة النشور
ونفخة الصور وقيام الخلائق لفصل القضاء وامتلأت الأرض بأهلها والسموات
بسكانها فباحث الأسرار وسعرت النار ووضعت الموازين ونشرت الدواوين وجيء
بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين
فكم
من مفتضح ومستور ومعذب ومرحوم وكم من هالك وناج فيا ليت شعري ما حالي
وحالك يومئذ فإن في هذا ما هدم اللذات وسلى عن الشهوات وقصر من الأمل
وأيقظ النائم ونبه الغافل أعاننا الله وإياك على هذا الخطر العظيم وأوقع
الدنيا من قلبك وقلبي موقعها من قلوب المتقين فإنما نحن له وبه والسلام
وأنشد بعضهم
( مرادك أن يتم لك المراد ... وتركض في مطالبك الجياد )
( وتمضي في أوامرك الليالي ... فلا يعصى هواك ولا يكاد )
( لقد ملكت مضلات الأماني ... قيادك فاعتديت بها تقاد )
( ألم تسمع بذي أمل بعيد وآمال الفتى منها بعاد )
( رماه الموت فانقبضت إليه ... أمانيه بشيء لا يراد )
( ويلقاه بإثر الموت يوم ... تميد لهوله السبع الشداد )
( تصم لوقعه الآذان صما ... وينطق من زلازله الجماد )
( فكم سالت هنالك من دموع ... يغيرهن من دمه الفؤاد )
( وكم شاهت هنالك من وجوه ... على صفحاتها طلي الحداد )
( وماذا الكرب يشبه ما عهدنا ... وأنى يشبه البحر الثماد )
( وما الأسماء تعطيك اتفاقا ... على معنى يتم لك المراد )
( ولكن ربما كان اشتباه ... قليل لا يحس ولا يكاد )
( يسمى البحر ذو الأهوال بحرا ... وبحر مثله الفرس الجواد )
وفي بعض الخطب المروية أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن
لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم وإن المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا
يدري ما الله صانع فيه وأجل بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليتزود العبد من
نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الحياة قبل الموت فإن الدنيا خلقت لكم
وخلقتم أنتم للآخرة والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب وما بعد
الدنيا دار إلا الجنة أو النار
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله
فقال أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى وإن لكم معادا يجمعكم
الله فيه للفصل وللحكم فيما بينكم فخاب وشقي عبد أخرجه الله من رحمته التي
وسعت كل شيء وجنة عرضها السموات والأرض وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف
واتقى وباع قليلا بكثير وفانيا بباق وشقاء بسعادة
إلا ترون أيها الناس أنكم في أصلاب الهالكين ويستخلف بعدكم الباقين
ألا ترون أيها الناس أنكم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز و جل
قد قضى
نحبه وانقطع عمله وأمله فتضعونه في بطن قاع من الأرض غير ممهد ولا موسد قد
قطع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب
وأيم الله إني لأقول مقالتي
هذه ولا أعلم عند أحدكم من الذنوب أكثر مما عندي ولكنها سنن من الله عادلة
أمر فيها بطاعته ونهى فيها عن معصيته ثم استغفر الله تعالى ووضع كمه على
وجهه وبكى حتى بلت دموعه لحيته وما عاد إلى مجلسه ذلك حتى مات رحمه الله
ومما يروى من خطبه أيضا أنه قال أيها الناس إن الدنيا ليست بدار قراركم
ولا محل إقامتكم دار كتب الله عليها الفناء وأوجب منها على أهلها الرحيل
فكم من عامر مؤنق عما قليل ستخرب عمارته وكم من مقيم مغتبط عما قليل سيرحل
فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة واحملوا خير ما يحضركم للنقلة وتزودوا فإن
خير الزاد التقوى
إن الدنيا كظل قلص فذهب بينما ابن آدم فيها ينافس
وعليها يضارب إذ دعاه الله بقدره ووافاه يوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه وصير
للآخرين مصانعه ومغناه إن الدنيا ما تسر بمقدار ما تضر إنها تسر قليلا
وتحزن حزنا طويلا
وخطب المأمون يوما فقال عباد الله اتقوا الله ما
استطعتم وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار
فاستبدلوا بها وتعوضوا عنها
أيها الناس استعدوا للموت فقد أظلكم
وترحلوا فقد جد بكم وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر
المدة وإن غائبا يحدوه الجديدان لجدير بسرعة الأوبة وإن قادما يقدم بالفوز
أو بالشقوة
لمستحق بأفضل العدة
اتقى عبد ربه نصح نفسه وغلب
شهوته وقدم توبته فإن أجله مستور عنه وأمله خادع له والشيطان موكل به
يمنيه التوبة ليسوفها ويزين لها المعصية ليركبها حتى تهجم عليه منيته أغفل
ما يكون عنها وأنسى ما يكون لها وإن ما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا
الموت أن ينزل به فيالها من حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة أو أن
تؤدبه أيامه إلى شقوة جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمة ولا تقصر به عن
الطاعة معصية ولا تحل به بعد الموت حسرة إنه سميع الدعاء فعال لما يشاء
ومن كلام بعضهم يا ابن آدم إنك لو رأيت ما حل بك وما أحاط بأرجائك لبقيت
مصروعا لما بك مذهولا عن أهليك و أصحابك يا ابن آدم أما علمت أن بين يديك
يوما يصم سماعه الآذان وتشيب لروعه الولدان ويترك ما عز وهان ويهجر له
الأهلون والأوطان
يا ابن آدم أما ترى مسير الأيام بجسمك وذهابها
بعمرك وإخراجها لك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك وبعد ذلك ما لذكر بعضه تتصدع
القلوب وتنضج له الجوانح وتذوب ويفر المرء على وجهه فلا يرجع ولا يؤوب
وأنشدوا
( لأمر ما تصدعت القلوب ... وباح بسرها دمع سكيب )
( وباتت في الجوانح نار ذكرى ... لها من خارج أثر عجيب )
( وما خف اللبيب لغير شيء ... ولا أعيا بمنطقه الأريب )
( ذراه لائماه فلا تلوما ... فربت لائم فيه يحوب )
( رأى الأيام قد مرت عليه ... مرور الريح تدفعها الهبوب )
( وما نفس يمر عليه إلا ... ومن جثمانه فيه نصيب )
( وبين يديه لو يدري مقام ... به الولدان من روع تشيب )
( وهذا الموت يدنيه إليه ... كما يدنى إلى الهرم المشيب )
( مقام تستلذ به المنايا ... وتدعى فيه لو كانت تجيب )
( وماذا الوصف بالغه ولكن ... هي الأمثال يفهمها اللبيب )
وخطب الحجاج يوما فقال أيها الناس إن الله كتب على الدنيا الفناء
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى