رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان
في الصحيحين [ عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رجالا من أصحاب النبي صلى
الله عليه و سلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن
كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ]
و في صحيح مسلم [ عنه عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم
أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي ] قد ذكرنا فيما تقدم أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يجتهد في شهر رمضان على طلب ليلة القدر و أنه اعتكف
مرة العشر الأوائل منه ثم طلبها فاعتكف بعد ذلك العشر الأوسط في طلبها و
إن ذلك تكرر منه غيرة مرة ثم استقر أمره على اعتكاف العشر الأواخر في
طلبها و أمر بطلبها فيه ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ]
و في رواية للبخاري : [ في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ]
و له
من [ حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في العشر
الأواخر الغوابر من رمضان ] و لمسلم من [ حديث أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : التمسوها في العشر الغوابر ]
و الأحاديث في
المعنى كثيرة و كان يأمر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر ففي صحيح
البخاري [ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى في سابعة
تبقى في خامسة تبقى ] و في رواية له : [ هي في العشر في سبع تمضين أو سبع
يبقين ] و خرج الإمام أحمد و النسائي و الترمذي من [ حديث أبي بكرة قال :
ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا في
العشر الأواخر فإني سمعته يقول : التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين أو
خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة ] و كان أبو بكرة يصلي في العشرين من
رمضان كصلاته في سائر السنة فإذا دخل العشر اجتهد ثم بعد ذلك أمر بطلبها
في السبع الأواخر و في المسند و كتاب النسائي [ عن أبي ذر قال : كنت أسأل
الناس عنها يعني ليلة القدر فقلت : يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر ؟
أفي رمضان هي أو في غيره ؟ قال : بلى هي في رمضان قلت : تكون مع الأنبياء
ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال : بل هي إلى يوم
القيامة قلت في أي رمضان هي ؟ قال التمسوها في العشر الأول و العشر
الأواخر قلت : فبأي العشرين هي ؟ قال : في العشر الأواخر لا تسألني عن شيء
بعدها ثم حدث رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم اهتبلت غفلته فقلت : يا
رسول الله أقسمت بحقي لما أخبرتني في أي العشر هي ؟ فغضب علي غضبا لم يغضب
مثله منذ صحبته ؟ و قال : التمسوها في السبع الأواخر لا تسألني عن شيء
بعدها ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و الحاكم و في رواية لهما : أنه قال : [
ألم أنهك أن تسألني عنها إن الله لو أذن لي أن أخبركم بها لأخبرتكم لا آمن
أن تكون في السبع الأواخر ]
ففي هذه الرواية أن بيان النبي صلى الله
عليه و سلم لليلة القدر انتهى إلى أنها في السبع الأواخر و لم يزد على ذلك
شيئا و هذا مما يستدل به من رجح ليلة ثلاث و عشرين و خمس و عشرين على ليلة
إحدى و عشرين فإن ليلة إحدى و عشرين ليست من السبع الأواخر بلا تردد و قد
روى عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه أخر : [ أنه بين أنها ليلة سبع
و عشرين ] كما سيأتي إن شاء الله تعالى و اختلف في أول السبع الأواخر
فمنهم من قال أول السبع ليلة ثلاث و عشرين على حساب نقصان الشهر دون تمامه
لأنها المتيقن و روي هذا ابن عباس و سيأتي كلامه فيما بعد إن شاء الله
تعالى و في صحيح البخاري عن بلال قال : إنها أول السبع من العشر الأواخر و
خرجه ابن أبي شيبة و عنده قال : ليلة ثلاث و عشرين و هذا قول مالك قال :
أرى و الله أعلم أن التاسعة ليلة إحدى و عشرين و السابعة ليلة ثلاث و
عشرين و الخامسة ليلة خمس و عشرين و تأوله عبد الملك بن حبيب على أنه إنما
يحسب كذلك إذا كان الشهر ناقصا و ليس هذا بشيء فإنه أمر بالإجتهاد في هذه
الليالي على هذا الحساب و هذا لا يمكن أن يكون مراعى بنقصان الشهر في آخره
و كان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث و عشرين و يمس طيبا و ليلة أربع و
عشرين و يقول : ليلة ثلاث و عشرين ليلة أهل المدينة و ليلة أربع و عشرين
ليلتنا يعني أهل البصرة و كذلك كان ثابت و حميد يفعلان و كانت طائفة تجتهد
ليلة أربع وعشرين روي عن أنس و الحسن و روي عنه قال : رقبت الشمس عشرين
سنة ليلة أربع و عشرين فكانت تطلع لا شعاع لها و روي عن ابن عباس ذكره
البخاري عنه و قيل : إن المحفوظ عنه أنها ليلة ثلاث و عشرين كما سبق و قد
تقدم حديث إنزال القرآن في ليلة أربع و عشرين و كذلك أبو سعيد الخدري و
أبو ذر حسبا الشهر تاما فيكون عندهما أول السبع الأواخر ليلة أربع و عشرين
و ممن اختار هذا القول ابن عبد البر و استدل بأن الأصل تمام الشهر و لهذا
أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإكماله إذا غم مع احتمال نقصانه و كذلك
رجحه بعض أصحابنا و قد تقدم [ من حديث أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان إذا كان ليلة أربع و عشرين لم يذق غمضا ] و إسناده
ضعيف و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم ما يدل على أن أول السبع
البواقي ليلة ثلاث و عشرين ففي مسند الإمام أحمد [ عن جابر أن عبد الله بن
أنيس سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ليلة القدر و قد خلت اثنان و
عشرون ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : التمسوها في السبع
الأواخر التي بقين من الشهر ] و فيه أيضا [ عن عبد الله بن أنيس أنهم
سألوا النبي صلى الله عليه و سلم عن ليلة القدر و ذلك مساء ليلة ثلاث و
عشرين فقال : التمسوها هذه الليلة فقال رجل من القوم : فهي إذن يا رسول
الله أولى ثمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنها ليست بأولى
ثمان و لكنها أولى سبع أن الشهر لا يتم ] و فيه أيضا [ عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كم مضى من الشهر ؟ قلنا :
مضت ثنتان و عشرون و بقي ثمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا بل
مضت ثنتان و عشرون و بقي سبع اطلبوها الليلة ] و قد يحمل هذا على شهر خاص
اطلع النبي صلى الله عليه و سلم على نقصانه و هو بعيد و يدل على خلافه أنه
روي في تمام [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه ثم قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : الشهر هكذا و هكذا و هكذا ثم خنس إبهامه في الثالثة ] فهذا
يدل على أنه تشريع عام و إنه حسب الشهر على تقدير نقصانه أبدا لأنه
المتيقن كما ذهب إليه أيوب و مالك و غيرهما و على قولهما تكون ليلة سابعة
تبقى ليلة ثلاث و عشرين و ليلة خامسة تبقى ليلة خمس و عشرين و ليلة تاسعة
تبقى ليلة إحدى و عشرين و قد روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه
أنكر أن تحسب ليلة القدر بما مضى من الشهر و أخبر أن الصحابة يحسبونها بما
بقي منه و هذا الإحتمال إنما يكون في مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم :
[ التمسوها في التاسعة و السابعة و الخامسة ] و قد خرجه البخاري من حديث
عبادة رضي الله عنه و مسلم من حديث أبي سعيد فإنه يحتمل أن يراد به
التاسعة و السابعة و الخامسة بما يبقى و بما يمضي فأما حديث ابن عباس و
أبي بكرة و ما في معناهما فإنها مقيدة بالباقي من الشهر فلا يحتمل أن يراد
به الماضي و حينئذ يتوجه الإختلاف السابق في أنه هل يحسب على تقدير تمام
الشهر أو نقصانه و حديث ابن عباس قد روي بالشك فيما مضى أو يبقى و قد خرجه
البخاري بالوجهين و حديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه و سلم بهم
أفراد العشر الأواخر قد خرجه أبو داود الطيالسي بلفظ صريح : أنه قام بهم
أشاع العشر الأواخر و حسبها أوتارا بالنسبة إلى ما يبقى من الشهر و قدره
تاما و جعل الليلة التي قامها حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح ليلة ثمان و
عشرين و هي الثالثة مما يبقى و قد قيل : إن ذلك من تصرف بعض الرواة بما
فهمه من المعنى و الله أعلم و على قياس من حسب الليالي الباقية من الشهر
على تقدير نقصان الشهر فينبغي أن يكون عنده أول العشر الأواخر ليلة
العشرين لاحتمال أن يكون الشهر ناقصا فلا يتحقق كونها عشر ليال بدون إدخال
ليلة العشرين فيها و قد يقال : بل العشر الأواخر عبارة عما بعد انقضاء
العشرين الماضية من الشهر و سواء كانت تامة أو ناقصة فهي المعبر عنها
بالعشر الأواخر و قيامها هم قيام العشر الأواخر و هذا كما يقال : صام عشر
ذي الحجة و إنما صام منه تسعة أيام و لهذا كان ابن سيرين يكره أن يقال :
صام عشر ذي الحجة و قال : إنما يقال : صام التسع و من لم يكره و هم
الجمهور فقد يقولون : الصيام المضاف إلى العشر هو صيام ما يمكن منه وهو ما
عدا يوم النحر و يطلق على ذلك العشر لأنه أكثر العشر و الله أعلم
و
قد اختلف الناس في ليلة القدر كثيرا فحكى عن بعضهم أنها رفعت و حديث أبي
ذر يرد ذلك و روي عن محمد بن الحنفية أنها في كل سبع سنين مرة و في إسناده
ضعف و عن بعضهم أنها في كل السنة حكي عن ابن مسعود و طائفة من الكوفيين و
روي عن أبي حنيفة و قال الجمهور : هي في رمضان كل سنة ثم منهم من قال : هي
في الشهر كله و حكي عن بعض المتقدمين : أنها أول ليلة منه و قالت طائفة :
هي في النصف الثاني منه و قد حكي عن أبي يوسف و محمد و قد تقدم قول من قال
: إنها ليلة بدر على اختلافهم هي ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة و قال الجمهور
: هي منحصرة في العشر الأواخر و اختلفوا في أي ليالي العشر أرجى فحكي عن
الحسن و مالك أنها تطلب في جميع ليال العشر أشفاعه و أوتاره و رجحه بعض
أصحابنا و قال : لأن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التمسوها في تاسعة
تبقى أو سابعة تبقى أو خامسة تبقى ] إن حملناه على تقدير كمال الشهر كانت
أشفاعا و إن حملناه على ما بقي منه حقيقة كان الأمر موقوفا على كمال الشهر
فلا يعلم قبله فإن كان تاما كانت الليالي المأمور بها بطلبها أشفاعا و إن
كان ناقصا كانت أوتارا فيوجب ذلك الإجتهاد في القيام في كلا الليلتين
الشفع منها و الوتر و قال الأكثرون : بل بعض لياليه أرجى من بعض و قالوا :
الأوتار أرجى في الجملة ثم اختلفوا أي الأوتار أرجى : فمنهم من قال : ليلة
إحدى و عشرين و هو المشهور عن الشافعي لحديث أبي سعيد الخدري و قد ذكرناه
فيما سبق و حكي عنه أنها تطلب ليلة إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين قال في
القديم : كأني رأيت و الله أعلم أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى و عشرين و
ليلة ثلاث و عشرين و هي التي مات فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه و قد
جاء في ليلة سبع عشرة و ليلة أربع و عشرين و ليلة سبع و عشرين انتهى و قد
روي عن علي و ابن مسعود رضي الله عنهما : أنها تطلب ليلة إحدى و عشرين و
ثلاث و عشرين و حكى للشافعي قول آخر : أرجاها ليلة ثلاث و عشرين و هذا قول
أهل المدينة و حكاه سفيان الثوري عن أهل مكة و المدينة و ممن روي عنه أنه
كان يوقظ أهلها فيها ابن عباس و عائشة و هو قول مكحول و روى رشدين بن سعد
عن زهرة بن معبد قال : أصابني احتلام في أرض العدو و أنا في البحر ليلة
ثلاث و عشرين في رمضان فذهبت لأغتسل فسقطت في الماء فإذا الماء عذب فناديت
أصحابي أعلمهم أني في ماء عذب قال ابن عبد البر : هذه الليلة تعرف بليلة
الجهني بالمدينة يعني عبد الله بن أنيس و قد روي عنه أن النبي صلى الله
عليه و سلم أمره بقيامها و في صحيح مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال في ليلة القدر : [ أريت أني أسجد صبيحتها في ماء و طين ] فانصرف النبي
صلى الله عليه و سلم من صلاة الصبح يوم ثلاث و عشرين و على جبهته أثر
الماء و الطين و قال سعيد بن المسيب : كان النبي صلى الله عليه و سلم في
نفر من أصحابه فقال : [ ألا أخبركم بليلة القدر ؟ قالوا : بلى يا رسول
الله فسكت ساعة ثم قال : لقد قلت لكم ما قلت آنفا و أنا أعلمها ثم أنسيتها
أرأيتم يوما كنا بموضع كذا و كذا ـ أي ليلة هي في غزوة غزاها ـ فقالوا :
سرنا فقفلنا حتى استقام ملأ القوم على أنها ليلة ثلاث و عشرين ] خرجه عبد
الرزاق في كتابه و رجحت طائفة ليلة أربع و عشرين و هم : الحسن و أهل
البصرة و قد روي عن أنس و كان حميد و أيوب و ثابت يحتاطون فيجمعون بين
الليلتين أعني ليلة ثلاث و أربع و رجحت طائفة ليلة سبع وعشرين و حكاه
الثوري عن أهل الكوفة و قال نحن نقول هي ليلة سبع و عشرين لما جاءنا عن
أبي بن كعب و ممن قال بهذا أبي بن كعب و كان يحلف عنه و لا يستثني وزر بن
حبيش و عبده بن أبي لبابة و روي عن قنان بن عبد الله النهي قال : سألت زرا
عن ليلة القدر ؟ فقال : كان عمر و حذيفة و أناس من أصحاب النبي صلى الله
عليه و سلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين خرجه ابن أبي شيبة و هو قول
أحمد و إسحاق و ذهب أبو قلابة إلى أنها تنتقل في ليالي العشر و روي عنه
أنها تنتقل في أوتاره خاصة و ممن قال بانتقالها في ليال العشر : المزني و
ابن خزيمة و حكاه ابن عبد البر عن مالك و الثوري و الشافعي و أحمد و أبي
ثور و في صحة ذلك عنهم بعد و إنما قول أنها في العشر و تطلب في لياليه كله
و اختلفوا في أرجى لياليه كما سبق و استدل من رجح ليلة سبع و عشرين
بأن أبي بن كعب كان يحلف على ذلك و يقول بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا
بها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها
خرجه مسلم و خرجه أيضا بلفظ آخر عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : و الله
إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم
بقيامها هي ليلة سبع و عشرين و في مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن رجلا قال : يا رسول الله إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام
فمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر قال : عليك بالسابعة ] و إسناده
على شرط البخاري و روى الإمام أحمد أيضا قال حدثنا يزيد بن هارون : أنبأنا
شعبة [ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : من كان منكم متحريها فليتحرها ليلة سبع و
عشرين أو قال : تحروها ليلة سبع و عشرين ] يعني ليلة القدر و رواه شبابة و
وهب بن جرير عن شعبة مثله ورواه أسود بن عامر عن شعبة مثله و زاد : [ في
السبع البواقي ] قال شعبة : و أخبرني ثقة عن سفيان أنه إنما قال : في
السبع البواقي يعني لم يقل : ليلة سبع و عشرين قال أحمد في رواية ابنه
صالح الثقة هو يحيى بن سعيد قال شعبة : فلا أدري أيهما قال و رواه عمرو عن
شعبة و قال في حديثه : [ ليلة سبع و عشرين ] أو قال : [ في السبع الأواخر
] بالشك فرجع الأمر إلى أن شعبة شك في لفظه و رواه [ حماد بن زيد عن أيوب
عن نافع عن ابن عمرو قال : كانوا لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه
و سلم إنها الليلة السابعة من العشر الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه
و سلم : أرى رؤياكم أنها قد تواطأت إنها ليلة السابعة في العشر الأواخر
فمن كان متحريها فليتحرها ليلة السابعة من العشر الأواخر ] كذا رواه حنبل
بن اسحاق عن عارم عن حماد و كذا خرجه الطحاوي عن إبراهيم بن مرزوق عن عارم
و رواه البخاري في صحيحه عن عارم إلا أنه لم يذكر لفظه ليلة السابعة بل
قال : [ من كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر ] ورواه [ عبد الرزاق
في كتابه عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : جاء
رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني رأيت في
النوم ليلة القدر كأنها ليلة سابعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
إني أرى رؤياكم قد تواطأت إنها ليلة سابعة فمن كان متحريها منكم فليتحرها
في ليلة سابعة ] قال معمر : فكان أيوب يغتسل في ليلة ثلاث و عشرين يشير
إلى أنه حملها على سابعة تبقى و خرجه الثعلبي في تفسيره من طريق [ الحسن
بن عبد الأعلى عن عبد الرزاق بهذا الإسناد و قال : في حديثه ليلة سابعة
تبقى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني أرى رؤياكم قد تواطأت على
ثلاث و عشرين فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث و
عشرين ] و هذه الألفاظ غير محفوظة في الحديث و الله أعلم و في سنن أبي
داود بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح [ عن معاوية عن النبي صلى الله عليه و
سلم في ليلة القدر ليلة سبع و عشرين ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و صححه
ابن عبد البر و له علة و هي وقفه على معاوية و هو أصح عند الإمام أحمد و
الدارقطني و قد اختلف أيضا عليه في لفظه و في المسند [ عن ابن مسعود رضي
الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : متى ليلة القدر ؟
فقال : من يذكر منكم ليلة الصهباوات ] قال عبد الله : أنا بأبي أنت و أمي
و إن في يدي لتمرات أتسحر بهن مستترا بمؤخرة رحل من الفجر و ذلك حين طلع
القمر و خرجه يعقوب بن شيبة في مسنده و زاد : و ذلك ليلة سبع و عشرين و
قال : صالح الإسناد و الصهباوات : موضع بقرب خيبر و في المسند أيضا من وجه
آخر [ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال : إن ليلة القدر في النصف
من السبع الأواخر من رمضان ] و إذا حسبنا أول السبع الأواخر ليلة أربع و
عشرين كانت ليلة سبع و عشرين نصف السبع لأن قبلها ثلاث ليال و بعدها ثلاث
و مما يرجح أن ليلة القدر ليلة سبع و عشرين أنها من السبع الأواخر التي
أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالتماسها فيها بالإتفاق و في دخول الثالثة
و العشرين في السبع اختلاف سبق ذكره و لا خلاف أنها آكد من الخامس و
العشرين و مما يدل على ذلك أيضا حديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه
و سلم بهم في أفراد السبع الأواخر و إنه قام بهم في الثالثة و العشرين إلى
ثلث الليل و في الخامسة إلى نصف الليل و في السابعة إلى آخر الليل حتى
خشوا أن يفوتهم الفلاح و جمع أهله ليلتئذ و جمع الناس و هذا كله يدل على
تأكدها على سائر أفراد السبع و العشر
و مما يدل على ذلك ما استشهد
به ابن عباس رضي الله عنه بحضرة عمر رضي الله عنه و الصحابة معه و استحسنه
عمر رضي الله عنه و قد روي من وجوه متعددة : فروى عبد الرزاق في كتابه عن
معمر عن قتادة و عاصم أنهما سمعا عكرمة يقول : قال ابن عباس رضي الله
عنهما دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فسألهم عن ليلة
القدر فأجمعوا أنها في العشر الأواخر قال ابن عباس : فقلت لعمر رضي الله
عنه : إني لأعلم أو إني لأظن أي ليلة هي ؟ قال عمر رضي الله عنه : و أي
ليلة هي ؟ : قلت : سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر فقال عمر
رضي الله عنه : و من أين علمت ذلك ؟ قال : فقلت : إن الله خلق سبع سموات و
سبع أرضين و سبعة أيام و إن الدهر يدور على سبع و خلق الله الإنسان في سبع
و يأكل من سبع و يسجد على سبع و الطواف بالبيت سبع و رمي الجمار سبع لا
يشاء ذكرها فقال عمر رضي الله عنه : لقد فطنت لأمر ما فطنا له و كان قتادة
يزيد على ابن عباس في قوله : يأكل من سبع قال هو قول الله عز و جل : {
فأنبتنا فيها حبا * و عنبا و قضبا * و زيتونا و نخلا * و حدائق غلبا * و
فاكهة و أبا } و لكن في هذه الرواية : أنها في سبع تمضي أو تبقى بالترديد
في ذلك و خرجه ابن شاهين من رواية عبد الواحد بن زياد عن عاصم الأحول
حدثني لاحق بن حميد و عكرمة قالا : قال عمر رضي الله عنه : من يعلم ليلة
القدر ؟ فذكر الحديث بنحوه و زاد : أن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : [ هي في العشر سبع تمضي أو سبع تبقى ] فخالف في إسناده
و جعله مرسلا و رفع آخره روى ابن عبد البر بإسناد صحيح من طريق سعيد بن
جبير قال : كان ناس من المهاجرين وجدوا على عمر في ادنائه ابن عباس فجمعهم
ثم سألهم عن ليلة القدر فأكثروا فيها فقال بعضهم : كنا نراها في العشر
الأوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر فأكثروا فيها فقال بعضهم : ليلة
إحدى و عشرون و قال بعضهم : ليلة ثلاث و عشرون و قال بعضهم : ليلة سبع و
عشرين فقال عمر رضي الله عنه : يا ابن عباس تكلم فقال : الله أعلم قال عمر
: قد نعلم أن الله يعلم و إنما نسألك عن علمك فقال ابن عباس رضي الله
عنهما : إن الله وتر يحب الوتر خلق من خلقه سبع سموات فاستوى عليهن و خلق
الأرض سبعا و جعل عدة الأيام سبعا و رمي الجمار سبعا و خلق الإنسان من سبع
و جعل رزقه من سبع فقال عمر : خلق الإنسان من سبع و جعل رزقه من سبع هذا
أمر ما فهمته ؟ فقال : إن الله تعالى يقول : { و لقد خلقنا الإنسان من
سلالة من طين } حتى بلغ آخر الآيات و قرأ : { أنا صببنا الماء صبا * ثم
شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * و عنبا و قضبا * و زيتونا و نخلا *
و حدائق غلبا * و فاكهة و أبا * متاعا لكم و لأنعامكم } ثم قال : و الأب
للدواب و خرجه ابن سعد في طبقاته عن اسحاق الأزرق عن عبد الملك بن أبي
سليمان عن سعيد بن جبير فذكره بمعناه و زاد في آخره : قال : و أما ليلة
القدر فما تراها إن شاء الله إلا ليلة ثلاث و عشرين يمضين أو سبع يبقين و
الظاهر إن هذا سمعه سعيد بن جبير من ابن عباس فيكون متصلا وروى عاصم بن
كليب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : دعا عمر الأشياخ من أصحاب
محمد صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه
و سلم قال : في ليلة القدر ما قد علمتم التمسوها في العشر الأواخر وترا
ففي أي الوتر ترونها ؟ فقال رجل برأيه : أنها تاسعة سابعة خامسة ثالثة ثم
قال : يا ابن عباس تكلم فقلت : أقول برأي قال : عن رأيك أسألك ؟ فقلت :
إني سمعت رسول الله أكثر من ذكر السبع و ذكر باقيه بمعنى ما تقدم و في
آخره قال عمر رضي الله عنه : أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي
لم تستوي شؤون رأسه خرجه الإسماعيلي في مسند عمر و الحاكم و قال : صحيح
الإسناد و خرجه الثعلبي في تفسيره و زاد قال ابن عباس فما أراها إلا ليلة
ثلاث و عشرين لسبع بقين و خرج علي بن المديني في كتاب العلل المرفوع منه و
قال : هو صالح و ليس مما يحتج به و روى مسلم الملاي ـ و هو ضعيف ـ عن
مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر قال له : أخبرني برأيك عن ليلة
القدر فذكر معنى ما تقدم و فيه أن ابن عباس قال : لا أراها إلا في سبع
يبقين من رمضان فقال عمر وافق رأي رأيك و روي بإسناد فيه ضعف عن محمد بن
كعب عن ابن عباس : أن عمر رضي الله عنه جلس في رهط من أصحاب النبي صلى
الله عليه و سلم فتذاكروا ليلة القدر فذكر معنى ما تقدم و زاد فيه عن ابن
عباس أنه قال : و أعطى من المثاني سبعا و نهى في كتابه عن نكاح الأقربين
عن سبع و قسم الميراث في كتابه على سبع و نقع في السجود من أجسادنا على
سبع و قال : فأراها في السبع الأواخر من رمضان و ليس في شيء من هذه
الروايات أنها ليلة سبع و عشرين جزما بل في بعضها الترديد بين ثلاث و سبع
و في بعضها : أنها ليلة ثلاث و عشرين لأنها أول السبع الأواخر على رأيه و
قد صح عن ابن عباس أنه كان ينضح على أهله الماء ليلة ثلاث و عشرين خرجه
عبد الرزاق و خرجه ابن أبي عاصم مرفوعا و الموقوف أصح
و قد استنبط
طائفة من المتأخرين من القرآن أنها ليلة سبع و عشرين موضعين : أحدهما : أن
الله تعالى ذكر ليلة القدر في سورة القدر في ثلاثة مواضع منها و ليلة
القدر حروفها تسع حروف و التسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع و عشرون و
الثاني : أنه قال سلام الله عليه فكلمة هي : هي الكلمة السابعة و العشرون
من السورة فإن كلماتها كلها ثلاثون كلمة قال ابن عطية : هذا من ملح
التفسير لا من متين العلم و هو كما قال و مما استدل به من رجح ليلة سبع و
عشرين بالآيات و العلامات التي رأيت فيها قديما و حديثا و بما وقع فيها من
إجابة الدعوات فقد تقدم عن أبي بن كعب أنه استدل على ذلك بطلوع الشمس في
صبيحتها لا شعاع لها و كان عبدة ابن أبي لبابة يقول : هي ليلة سبع وعشرين
و يستدل على ذلك فإنه قد جرب ذلك بأشياء و بالنجوم خرجه عبد الرزاق و روي
عن عبدة أنه ذاق ماء البحر ليلة سبع و عشرين فإذا هو عذب ذكره الإمام أحمد
بإسناده و طاف بعض السلف ليلة سبع و عشرين بالبيت الحرام فرأى الملائكة في
الهواء طائفين فوق رؤوس الناس و روى أبو موسى المديني من طريق أبي الشيخ
الأصبهاني بإسناد عن حماد بن شعيب عن رجل منهم قال : كنت بالسواد فلما كان
في العشر الأواخر جعلت أنظر بالليل فقال لي رجل منهم : إلى أي شيء تنظر ؟
قلت : إلى ليلة القدر قال : فنم فإني سأخبرك فلما كان ليلة سبع و عشرين
جاء و أخذ بيدي فذهب بي إلى النخل فإذا النخل واضع سعفه في الأرض فقال :
لسنا نرى هذا في السنة كلها إلا في هذه الليلة و ذكر أبو موسى بأسانيد له
أن رجلا مقعدا دعا الله ليلة سبع و عشرين فأطلقه و عن امرأة مقعدة كذلك و
عن رجل بالبصرة كان أخرس ثلاثين سنة فدعا الله ليلة سبع و عشرين فأطلق
لسانه فتكلم و ذكر الوزير أبو المظفر ابن هبيرة أنه رأى ليلة سبع و عشرين
و كانت ليلة جمعة بابا في السماء مفتوحا شامي الكعبة قال : فظننته حيال
الحجرة النبوية المقدسة قال : و لم يزل كذلك إلى أن التفت إلى المشرق
لأنظر طلوع الفجر ثم التفت إليه فوجدته قد غاب قال : و إن وقع في ليلة من
أوتار العشر ليلة جمعة فهي أرجى من غيرها و اعلم أن جميع هذه العلامات لا
توجب القطع بليلة القدر و قد روى سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان [
حدثنا إبراهيم بن الحكم حدثني أبي قال : حدثني فرقد : أن أناسا من الصحابة
كانوا في المسجد فسمعوا كلاما من السماء ورأوا نورا من السماء و بابا من
السماء و ذلك في شهر رمضان فأخبروا رسول الله صلى الله عليه و سلم بما
رأوا فزعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أما النور فنور رب
العزة تعالى و أما الباب فباب السماء و الكلام كلام الأنبياء فكل شهر
رمضان على هذه الحال و لكن هذه ليلة كشف غطاؤها ] و هذا مرسل ضعيف
في الصحيحين [ عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رجالا من أصحاب النبي صلى
الله عليه و سلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن
كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ]
و في صحيح مسلم [ عنه عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم
أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي ] قد ذكرنا فيما تقدم أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يجتهد في شهر رمضان على طلب ليلة القدر و أنه اعتكف
مرة العشر الأوائل منه ثم طلبها فاعتكف بعد ذلك العشر الأوسط في طلبها و
إن ذلك تكرر منه غيرة مرة ثم استقر أمره على اعتكاف العشر الأواخر في
طلبها و أمر بطلبها فيه ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ]
و في رواية للبخاري : [ في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ]
و له
من [ حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في العشر
الأواخر الغوابر من رمضان ] و لمسلم من [ حديث أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : التمسوها في العشر الغوابر ]
و الأحاديث في
المعنى كثيرة و كان يأمر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر ففي صحيح
البخاري [ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى في سابعة
تبقى في خامسة تبقى ] و في رواية له : [ هي في العشر في سبع تمضين أو سبع
يبقين ] و خرج الإمام أحمد و النسائي و الترمذي من [ حديث أبي بكرة قال :
ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا في
العشر الأواخر فإني سمعته يقول : التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين أو
خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة ] و كان أبو بكرة يصلي في العشرين من
رمضان كصلاته في سائر السنة فإذا دخل العشر اجتهد ثم بعد ذلك أمر بطلبها
في السبع الأواخر و في المسند و كتاب النسائي [ عن أبي ذر قال : كنت أسأل
الناس عنها يعني ليلة القدر فقلت : يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر ؟
أفي رمضان هي أو في غيره ؟ قال : بلى هي في رمضان قلت : تكون مع الأنبياء
ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال : بل هي إلى يوم
القيامة قلت في أي رمضان هي ؟ قال التمسوها في العشر الأول و العشر
الأواخر قلت : فبأي العشرين هي ؟ قال : في العشر الأواخر لا تسألني عن شيء
بعدها ثم حدث رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم اهتبلت غفلته فقلت : يا
رسول الله أقسمت بحقي لما أخبرتني في أي العشر هي ؟ فغضب علي غضبا لم يغضب
مثله منذ صحبته ؟ و قال : التمسوها في السبع الأواخر لا تسألني عن شيء
بعدها ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و الحاكم و في رواية لهما : أنه قال : [
ألم أنهك أن تسألني عنها إن الله لو أذن لي أن أخبركم بها لأخبرتكم لا آمن
أن تكون في السبع الأواخر ]
ففي هذه الرواية أن بيان النبي صلى الله
عليه و سلم لليلة القدر انتهى إلى أنها في السبع الأواخر و لم يزد على ذلك
شيئا و هذا مما يستدل به من رجح ليلة ثلاث و عشرين و خمس و عشرين على ليلة
إحدى و عشرين فإن ليلة إحدى و عشرين ليست من السبع الأواخر بلا تردد و قد
روى عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه أخر : [ أنه بين أنها ليلة سبع
و عشرين ] كما سيأتي إن شاء الله تعالى و اختلف في أول السبع الأواخر
فمنهم من قال أول السبع ليلة ثلاث و عشرين على حساب نقصان الشهر دون تمامه
لأنها المتيقن و روي هذا ابن عباس و سيأتي كلامه فيما بعد إن شاء الله
تعالى و في صحيح البخاري عن بلال قال : إنها أول السبع من العشر الأواخر و
خرجه ابن أبي شيبة و عنده قال : ليلة ثلاث و عشرين و هذا قول مالك قال :
أرى و الله أعلم أن التاسعة ليلة إحدى و عشرين و السابعة ليلة ثلاث و
عشرين و الخامسة ليلة خمس و عشرين و تأوله عبد الملك بن حبيب على أنه إنما
يحسب كذلك إذا كان الشهر ناقصا و ليس هذا بشيء فإنه أمر بالإجتهاد في هذه
الليالي على هذا الحساب و هذا لا يمكن أن يكون مراعى بنقصان الشهر في آخره
و كان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث و عشرين و يمس طيبا و ليلة أربع و
عشرين و يقول : ليلة ثلاث و عشرين ليلة أهل المدينة و ليلة أربع و عشرين
ليلتنا يعني أهل البصرة و كذلك كان ثابت و حميد يفعلان و كانت طائفة تجتهد
ليلة أربع وعشرين روي عن أنس و الحسن و روي عنه قال : رقبت الشمس عشرين
سنة ليلة أربع و عشرين فكانت تطلع لا شعاع لها و روي عن ابن عباس ذكره
البخاري عنه و قيل : إن المحفوظ عنه أنها ليلة ثلاث و عشرين كما سبق و قد
تقدم حديث إنزال القرآن في ليلة أربع و عشرين و كذلك أبو سعيد الخدري و
أبو ذر حسبا الشهر تاما فيكون عندهما أول السبع الأواخر ليلة أربع و عشرين
و ممن اختار هذا القول ابن عبد البر و استدل بأن الأصل تمام الشهر و لهذا
أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإكماله إذا غم مع احتمال نقصانه و كذلك
رجحه بعض أصحابنا و قد تقدم [ من حديث أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان إذا كان ليلة أربع و عشرين لم يذق غمضا ] و إسناده
ضعيف و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم ما يدل على أن أول السبع
البواقي ليلة ثلاث و عشرين ففي مسند الإمام أحمد [ عن جابر أن عبد الله بن
أنيس سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ليلة القدر و قد خلت اثنان و
عشرون ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : التمسوها في السبع
الأواخر التي بقين من الشهر ] و فيه أيضا [ عن عبد الله بن أنيس أنهم
سألوا النبي صلى الله عليه و سلم عن ليلة القدر و ذلك مساء ليلة ثلاث و
عشرين فقال : التمسوها هذه الليلة فقال رجل من القوم : فهي إذن يا رسول
الله أولى ثمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنها ليست بأولى
ثمان و لكنها أولى سبع أن الشهر لا يتم ] و فيه أيضا [ عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كم مضى من الشهر ؟ قلنا :
مضت ثنتان و عشرون و بقي ثمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا بل
مضت ثنتان و عشرون و بقي سبع اطلبوها الليلة ] و قد يحمل هذا على شهر خاص
اطلع النبي صلى الله عليه و سلم على نقصانه و هو بعيد و يدل على خلافه أنه
روي في تمام [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه ثم قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : الشهر هكذا و هكذا و هكذا ثم خنس إبهامه في الثالثة ] فهذا
يدل على أنه تشريع عام و إنه حسب الشهر على تقدير نقصانه أبدا لأنه
المتيقن كما ذهب إليه أيوب و مالك و غيرهما و على قولهما تكون ليلة سابعة
تبقى ليلة ثلاث و عشرين و ليلة خامسة تبقى ليلة خمس و عشرين و ليلة تاسعة
تبقى ليلة إحدى و عشرين و قد روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه
أنكر أن تحسب ليلة القدر بما مضى من الشهر و أخبر أن الصحابة يحسبونها بما
بقي منه و هذا الإحتمال إنما يكون في مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم :
[ التمسوها في التاسعة و السابعة و الخامسة ] و قد خرجه البخاري من حديث
عبادة رضي الله عنه و مسلم من حديث أبي سعيد فإنه يحتمل أن يراد به
التاسعة و السابعة و الخامسة بما يبقى و بما يمضي فأما حديث ابن عباس و
أبي بكرة و ما في معناهما فإنها مقيدة بالباقي من الشهر فلا يحتمل أن يراد
به الماضي و حينئذ يتوجه الإختلاف السابق في أنه هل يحسب على تقدير تمام
الشهر أو نقصانه و حديث ابن عباس قد روي بالشك فيما مضى أو يبقى و قد خرجه
البخاري بالوجهين و حديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه و سلم بهم
أفراد العشر الأواخر قد خرجه أبو داود الطيالسي بلفظ صريح : أنه قام بهم
أشاع العشر الأواخر و حسبها أوتارا بالنسبة إلى ما يبقى من الشهر و قدره
تاما و جعل الليلة التي قامها حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح ليلة ثمان و
عشرين و هي الثالثة مما يبقى و قد قيل : إن ذلك من تصرف بعض الرواة بما
فهمه من المعنى و الله أعلم و على قياس من حسب الليالي الباقية من الشهر
على تقدير نقصان الشهر فينبغي أن يكون عنده أول العشر الأواخر ليلة
العشرين لاحتمال أن يكون الشهر ناقصا فلا يتحقق كونها عشر ليال بدون إدخال
ليلة العشرين فيها و قد يقال : بل العشر الأواخر عبارة عما بعد انقضاء
العشرين الماضية من الشهر و سواء كانت تامة أو ناقصة فهي المعبر عنها
بالعشر الأواخر و قيامها هم قيام العشر الأواخر و هذا كما يقال : صام عشر
ذي الحجة و إنما صام منه تسعة أيام و لهذا كان ابن سيرين يكره أن يقال :
صام عشر ذي الحجة و قال : إنما يقال : صام التسع و من لم يكره و هم
الجمهور فقد يقولون : الصيام المضاف إلى العشر هو صيام ما يمكن منه وهو ما
عدا يوم النحر و يطلق على ذلك العشر لأنه أكثر العشر و الله أعلم
و
قد اختلف الناس في ليلة القدر كثيرا فحكى عن بعضهم أنها رفعت و حديث أبي
ذر يرد ذلك و روي عن محمد بن الحنفية أنها في كل سبع سنين مرة و في إسناده
ضعف و عن بعضهم أنها في كل السنة حكي عن ابن مسعود و طائفة من الكوفيين و
روي عن أبي حنيفة و قال الجمهور : هي في رمضان كل سنة ثم منهم من قال : هي
في الشهر كله و حكي عن بعض المتقدمين : أنها أول ليلة منه و قالت طائفة :
هي في النصف الثاني منه و قد حكي عن أبي يوسف و محمد و قد تقدم قول من قال
: إنها ليلة بدر على اختلافهم هي ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة و قال الجمهور
: هي منحصرة في العشر الأواخر و اختلفوا في أي ليالي العشر أرجى فحكي عن
الحسن و مالك أنها تطلب في جميع ليال العشر أشفاعه و أوتاره و رجحه بعض
أصحابنا و قال : لأن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التمسوها في تاسعة
تبقى أو سابعة تبقى أو خامسة تبقى ] إن حملناه على تقدير كمال الشهر كانت
أشفاعا و إن حملناه على ما بقي منه حقيقة كان الأمر موقوفا على كمال الشهر
فلا يعلم قبله فإن كان تاما كانت الليالي المأمور بها بطلبها أشفاعا و إن
كان ناقصا كانت أوتارا فيوجب ذلك الإجتهاد في القيام في كلا الليلتين
الشفع منها و الوتر و قال الأكثرون : بل بعض لياليه أرجى من بعض و قالوا :
الأوتار أرجى في الجملة ثم اختلفوا أي الأوتار أرجى : فمنهم من قال : ليلة
إحدى و عشرين و هو المشهور عن الشافعي لحديث أبي سعيد الخدري و قد ذكرناه
فيما سبق و حكي عنه أنها تطلب ليلة إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين قال في
القديم : كأني رأيت و الله أعلم أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى و عشرين و
ليلة ثلاث و عشرين و هي التي مات فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه و قد
جاء في ليلة سبع عشرة و ليلة أربع و عشرين و ليلة سبع و عشرين انتهى و قد
روي عن علي و ابن مسعود رضي الله عنهما : أنها تطلب ليلة إحدى و عشرين و
ثلاث و عشرين و حكى للشافعي قول آخر : أرجاها ليلة ثلاث و عشرين و هذا قول
أهل المدينة و حكاه سفيان الثوري عن أهل مكة و المدينة و ممن روي عنه أنه
كان يوقظ أهلها فيها ابن عباس و عائشة و هو قول مكحول و روى رشدين بن سعد
عن زهرة بن معبد قال : أصابني احتلام في أرض العدو و أنا في البحر ليلة
ثلاث و عشرين في رمضان فذهبت لأغتسل فسقطت في الماء فإذا الماء عذب فناديت
أصحابي أعلمهم أني في ماء عذب قال ابن عبد البر : هذه الليلة تعرف بليلة
الجهني بالمدينة يعني عبد الله بن أنيس و قد روي عنه أن النبي صلى الله
عليه و سلم أمره بقيامها و في صحيح مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال في ليلة القدر : [ أريت أني أسجد صبيحتها في ماء و طين ] فانصرف النبي
صلى الله عليه و سلم من صلاة الصبح يوم ثلاث و عشرين و على جبهته أثر
الماء و الطين و قال سعيد بن المسيب : كان النبي صلى الله عليه و سلم في
نفر من أصحابه فقال : [ ألا أخبركم بليلة القدر ؟ قالوا : بلى يا رسول
الله فسكت ساعة ثم قال : لقد قلت لكم ما قلت آنفا و أنا أعلمها ثم أنسيتها
أرأيتم يوما كنا بموضع كذا و كذا ـ أي ليلة هي في غزوة غزاها ـ فقالوا :
سرنا فقفلنا حتى استقام ملأ القوم على أنها ليلة ثلاث و عشرين ] خرجه عبد
الرزاق في كتابه و رجحت طائفة ليلة أربع و عشرين و هم : الحسن و أهل
البصرة و قد روي عن أنس و كان حميد و أيوب و ثابت يحتاطون فيجمعون بين
الليلتين أعني ليلة ثلاث و أربع و رجحت طائفة ليلة سبع وعشرين و حكاه
الثوري عن أهل الكوفة و قال نحن نقول هي ليلة سبع و عشرين لما جاءنا عن
أبي بن كعب و ممن قال بهذا أبي بن كعب و كان يحلف عنه و لا يستثني وزر بن
حبيش و عبده بن أبي لبابة و روي عن قنان بن عبد الله النهي قال : سألت زرا
عن ليلة القدر ؟ فقال : كان عمر و حذيفة و أناس من أصحاب النبي صلى الله
عليه و سلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين خرجه ابن أبي شيبة و هو قول
أحمد و إسحاق و ذهب أبو قلابة إلى أنها تنتقل في ليالي العشر و روي عنه
أنها تنتقل في أوتاره خاصة و ممن قال بانتقالها في ليال العشر : المزني و
ابن خزيمة و حكاه ابن عبد البر عن مالك و الثوري و الشافعي و أحمد و أبي
ثور و في صحة ذلك عنهم بعد و إنما قول أنها في العشر و تطلب في لياليه كله
و اختلفوا في أرجى لياليه كما سبق و استدل من رجح ليلة سبع و عشرين
بأن أبي بن كعب كان يحلف على ذلك و يقول بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا
بها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها
خرجه مسلم و خرجه أيضا بلفظ آخر عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : و الله
إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم
بقيامها هي ليلة سبع و عشرين و في مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن رجلا قال : يا رسول الله إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام
فمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر قال : عليك بالسابعة ] و إسناده
على شرط البخاري و روى الإمام أحمد أيضا قال حدثنا يزيد بن هارون : أنبأنا
شعبة [ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : من كان منكم متحريها فليتحرها ليلة سبع و
عشرين أو قال : تحروها ليلة سبع و عشرين ] يعني ليلة القدر و رواه شبابة و
وهب بن جرير عن شعبة مثله ورواه أسود بن عامر عن شعبة مثله و زاد : [ في
السبع البواقي ] قال شعبة : و أخبرني ثقة عن سفيان أنه إنما قال : في
السبع البواقي يعني لم يقل : ليلة سبع و عشرين قال أحمد في رواية ابنه
صالح الثقة هو يحيى بن سعيد قال شعبة : فلا أدري أيهما قال و رواه عمرو عن
شعبة و قال في حديثه : [ ليلة سبع و عشرين ] أو قال : [ في السبع الأواخر
] بالشك فرجع الأمر إلى أن شعبة شك في لفظه و رواه [ حماد بن زيد عن أيوب
عن نافع عن ابن عمرو قال : كانوا لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه
و سلم إنها الليلة السابعة من العشر الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه
و سلم : أرى رؤياكم أنها قد تواطأت إنها ليلة السابعة في العشر الأواخر
فمن كان متحريها فليتحرها ليلة السابعة من العشر الأواخر ] كذا رواه حنبل
بن اسحاق عن عارم عن حماد و كذا خرجه الطحاوي عن إبراهيم بن مرزوق عن عارم
و رواه البخاري في صحيحه عن عارم إلا أنه لم يذكر لفظه ليلة السابعة بل
قال : [ من كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر ] ورواه [ عبد الرزاق
في كتابه عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : جاء
رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني رأيت في
النوم ليلة القدر كأنها ليلة سابعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
إني أرى رؤياكم قد تواطأت إنها ليلة سابعة فمن كان متحريها منكم فليتحرها
في ليلة سابعة ] قال معمر : فكان أيوب يغتسل في ليلة ثلاث و عشرين يشير
إلى أنه حملها على سابعة تبقى و خرجه الثعلبي في تفسيره من طريق [ الحسن
بن عبد الأعلى عن عبد الرزاق بهذا الإسناد و قال : في حديثه ليلة سابعة
تبقى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني أرى رؤياكم قد تواطأت على
ثلاث و عشرين فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث و
عشرين ] و هذه الألفاظ غير محفوظة في الحديث و الله أعلم و في سنن أبي
داود بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح [ عن معاوية عن النبي صلى الله عليه و
سلم في ليلة القدر ليلة سبع و عشرين ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و صححه
ابن عبد البر و له علة و هي وقفه على معاوية و هو أصح عند الإمام أحمد و
الدارقطني و قد اختلف أيضا عليه في لفظه و في المسند [ عن ابن مسعود رضي
الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : متى ليلة القدر ؟
فقال : من يذكر منكم ليلة الصهباوات ] قال عبد الله : أنا بأبي أنت و أمي
و إن في يدي لتمرات أتسحر بهن مستترا بمؤخرة رحل من الفجر و ذلك حين طلع
القمر و خرجه يعقوب بن شيبة في مسنده و زاد : و ذلك ليلة سبع و عشرين و
قال : صالح الإسناد و الصهباوات : موضع بقرب خيبر و في المسند أيضا من وجه
آخر [ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال : إن ليلة القدر في النصف
من السبع الأواخر من رمضان ] و إذا حسبنا أول السبع الأواخر ليلة أربع و
عشرين كانت ليلة سبع و عشرين نصف السبع لأن قبلها ثلاث ليال و بعدها ثلاث
و مما يرجح أن ليلة القدر ليلة سبع و عشرين أنها من السبع الأواخر التي
أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالتماسها فيها بالإتفاق و في دخول الثالثة
و العشرين في السبع اختلاف سبق ذكره و لا خلاف أنها آكد من الخامس و
العشرين و مما يدل على ذلك أيضا حديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه
و سلم بهم في أفراد السبع الأواخر و إنه قام بهم في الثالثة و العشرين إلى
ثلث الليل و في الخامسة إلى نصف الليل و في السابعة إلى آخر الليل حتى
خشوا أن يفوتهم الفلاح و جمع أهله ليلتئذ و جمع الناس و هذا كله يدل على
تأكدها على سائر أفراد السبع و العشر
و مما يدل على ذلك ما استشهد
به ابن عباس رضي الله عنه بحضرة عمر رضي الله عنه و الصحابة معه و استحسنه
عمر رضي الله عنه و قد روي من وجوه متعددة : فروى عبد الرزاق في كتابه عن
معمر عن قتادة و عاصم أنهما سمعا عكرمة يقول : قال ابن عباس رضي الله
عنهما دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فسألهم عن ليلة
القدر فأجمعوا أنها في العشر الأواخر قال ابن عباس : فقلت لعمر رضي الله
عنه : إني لأعلم أو إني لأظن أي ليلة هي ؟ قال عمر رضي الله عنه : و أي
ليلة هي ؟ : قلت : سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر فقال عمر
رضي الله عنه : و من أين علمت ذلك ؟ قال : فقلت : إن الله خلق سبع سموات و
سبع أرضين و سبعة أيام و إن الدهر يدور على سبع و خلق الله الإنسان في سبع
و يأكل من سبع و يسجد على سبع و الطواف بالبيت سبع و رمي الجمار سبع لا
يشاء ذكرها فقال عمر رضي الله عنه : لقد فطنت لأمر ما فطنا له و كان قتادة
يزيد على ابن عباس في قوله : يأكل من سبع قال هو قول الله عز و جل : {
فأنبتنا فيها حبا * و عنبا و قضبا * و زيتونا و نخلا * و حدائق غلبا * و
فاكهة و أبا } و لكن في هذه الرواية : أنها في سبع تمضي أو تبقى بالترديد
في ذلك و خرجه ابن شاهين من رواية عبد الواحد بن زياد عن عاصم الأحول
حدثني لاحق بن حميد و عكرمة قالا : قال عمر رضي الله عنه : من يعلم ليلة
القدر ؟ فذكر الحديث بنحوه و زاد : أن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : [ هي في العشر سبع تمضي أو سبع تبقى ] فخالف في إسناده
و جعله مرسلا و رفع آخره روى ابن عبد البر بإسناد صحيح من طريق سعيد بن
جبير قال : كان ناس من المهاجرين وجدوا على عمر في ادنائه ابن عباس فجمعهم
ثم سألهم عن ليلة القدر فأكثروا فيها فقال بعضهم : كنا نراها في العشر
الأوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر فأكثروا فيها فقال بعضهم : ليلة
إحدى و عشرون و قال بعضهم : ليلة ثلاث و عشرون و قال بعضهم : ليلة سبع و
عشرين فقال عمر رضي الله عنه : يا ابن عباس تكلم فقال : الله أعلم قال عمر
: قد نعلم أن الله يعلم و إنما نسألك عن علمك فقال ابن عباس رضي الله
عنهما : إن الله وتر يحب الوتر خلق من خلقه سبع سموات فاستوى عليهن و خلق
الأرض سبعا و جعل عدة الأيام سبعا و رمي الجمار سبعا و خلق الإنسان من سبع
و جعل رزقه من سبع فقال عمر : خلق الإنسان من سبع و جعل رزقه من سبع هذا
أمر ما فهمته ؟ فقال : إن الله تعالى يقول : { و لقد خلقنا الإنسان من
سلالة من طين } حتى بلغ آخر الآيات و قرأ : { أنا صببنا الماء صبا * ثم
شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * و عنبا و قضبا * و زيتونا و نخلا *
و حدائق غلبا * و فاكهة و أبا * متاعا لكم و لأنعامكم } ثم قال : و الأب
للدواب و خرجه ابن سعد في طبقاته عن اسحاق الأزرق عن عبد الملك بن أبي
سليمان عن سعيد بن جبير فذكره بمعناه و زاد في آخره : قال : و أما ليلة
القدر فما تراها إن شاء الله إلا ليلة ثلاث و عشرين يمضين أو سبع يبقين و
الظاهر إن هذا سمعه سعيد بن جبير من ابن عباس فيكون متصلا وروى عاصم بن
كليب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : دعا عمر الأشياخ من أصحاب
محمد صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه
و سلم قال : في ليلة القدر ما قد علمتم التمسوها في العشر الأواخر وترا
ففي أي الوتر ترونها ؟ فقال رجل برأيه : أنها تاسعة سابعة خامسة ثالثة ثم
قال : يا ابن عباس تكلم فقلت : أقول برأي قال : عن رأيك أسألك ؟ فقلت :
إني سمعت رسول الله أكثر من ذكر السبع و ذكر باقيه بمعنى ما تقدم و في
آخره قال عمر رضي الله عنه : أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي
لم تستوي شؤون رأسه خرجه الإسماعيلي في مسند عمر و الحاكم و قال : صحيح
الإسناد و خرجه الثعلبي في تفسيره و زاد قال ابن عباس فما أراها إلا ليلة
ثلاث و عشرين لسبع بقين و خرج علي بن المديني في كتاب العلل المرفوع منه و
قال : هو صالح و ليس مما يحتج به و روى مسلم الملاي ـ و هو ضعيف ـ عن
مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر قال له : أخبرني برأيك عن ليلة
القدر فذكر معنى ما تقدم و فيه أن ابن عباس قال : لا أراها إلا في سبع
يبقين من رمضان فقال عمر وافق رأي رأيك و روي بإسناد فيه ضعف عن محمد بن
كعب عن ابن عباس : أن عمر رضي الله عنه جلس في رهط من أصحاب النبي صلى
الله عليه و سلم فتذاكروا ليلة القدر فذكر معنى ما تقدم و زاد فيه عن ابن
عباس أنه قال : و أعطى من المثاني سبعا و نهى في كتابه عن نكاح الأقربين
عن سبع و قسم الميراث في كتابه على سبع و نقع في السجود من أجسادنا على
سبع و قال : فأراها في السبع الأواخر من رمضان و ليس في شيء من هذه
الروايات أنها ليلة سبع و عشرين جزما بل في بعضها الترديد بين ثلاث و سبع
و في بعضها : أنها ليلة ثلاث و عشرين لأنها أول السبع الأواخر على رأيه و
قد صح عن ابن عباس أنه كان ينضح على أهله الماء ليلة ثلاث و عشرين خرجه
عبد الرزاق و خرجه ابن أبي عاصم مرفوعا و الموقوف أصح
و قد استنبط
طائفة من المتأخرين من القرآن أنها ليلة سبع و عشرين موضعين : أحدهما : أن
الله تعالى ذكر ليلة القدر في سورة القدر في ثلاثة مواضع منها و ليلة
القدر حروفها تسع حروف و التسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع و عشرون و
الثاني : أنه قال سلام الله عليه فكلمة هي : هي الكلمة السابعة و العشرون
من السورة فإن كلماتها كلها ثلاثون كلمة قال ابن عطية : هذا من ملح
التفسير لا من متين العلم و هو كما قال و مما استدل به من رجح ليلة سبع و
عشرين بالآيات و العلامات التي رأيت فيها قديما و حديثا و بما وقع فيها من
إجابة الدعوات فقد تقدم عن أبي بن كعب أنه استدل على ذلك بطلوع الشمس في
صبيحتها لا شعاع لها و كان عبدة ابن أبي لبابة يقول : هي ليلة سبع وعشرين
و يستدل على ذلك فإنه قد جرب ذلك بأشياء و بالنجوم خرجه عبد الرزاق و روي
عن عبدة أنه ذاق ماء البحر ليلة سبع و عشرين فإذا هو عذب ذكره الإمام أحمد
بإسناده و طاف بعض السلف ليلة سبع و عشرين بالبيت الحرام فرأى الملائكة في
الهواء طائفين فوق رؤوس الناس و روى أبو موسى المديني من طريق أبي الشيخ
الأصبهاني بإسناد عن حماد بن شعيب عن رجل منهم قال : كنت بالسواد فلما كان
في العشر الأواخر جعلت أنظر بالليل فقال لي رجل منهم : إلى أي شيء تنظر ؟
قلت : إلى ليلة القدر قال : فنم فإني سأخبرك فلما كان ليلة سبع و عشرين
جاء و أخذ بيدي فذهب بي إلى النخل فإذا النخل واضع سعفه في الأرض فقال :
لسنا نرى هذا في السنة كلها إلا في هذه الليلة و ذكر أبو موسى بأسانيد له
أن رجلا مقعدا دعا الله ليلة سبع و عشرين فأطلقه و عن امرأة مقعدة كذلك و
عن رجل بالبصرة كان أخرس ثلاثين سنة فدعا الله ليلة سبع و عشرين فأطلق
لسانه فتكلم و ذكر الوزير أبو المظفر ابن هبيرة أنه رأى ليلة سبع و عشرين
و كانت ليلة جمعة بابا في السماء مفتوحا شامي الكعبة قال : فظننته حيال
الحجرة النبوية المقدسة قال : و لم يزل كذلك إلى أن التفت إلى المشرق
لأنظر طلوع الفجر ثم التفت إليه فوجدته قد غاب قال : و إن وقع في ليلة من
أوتار العشر ليلة جمعة فهي أرجى من غيرها و اعلم أن جميع هذه العلامات لا
توجب القطع بليلة القدر و قد روى سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان [
حدثنا إبراهيم بن الحكم حدثني أبي قال : حدثني فرقد : أن أناسا من الصحابة
كانوا في المسجد فسمعوا كلاما من السماء ورأوا نورا من السماء و بابا من
السماء و ذلك في شهر رمضان فأخبروا رسول الله صلى الله عليه و سلم بما
رأوا فزعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أما النور فنور رب
العزة تعالى و أما الباب فباب السماء و الكلام كلام الأنبياء فكل شهر
رمضان على هذه الحال و لكن هذه ليلة كشف غطاؤها ] و هذا مرسل ضعيف
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
قيام ليلة القدر
و أما العمل في ليلة القدر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
: [ من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و
قيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها و الصلاة و قد أمر عائشة بالدعاء
فيها أيضا قال سفيان الثوري الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة قال :
و إذا كان يقرأ و هو يدعو و يرغب إلى الله في الدعاء و المسألة لعله يوافق
انتهى و مراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء و
إن قرأ و دعا كان حسنا و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يتهجد في ليالي
رمضان و يقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل و لا بآية فيها
عذاب إلا تعوذ فيجمع بين الصلاة و القراءة و الدعاء و التفكر و هذا أفضل
الأعمال و أكملها في ليالي العشر و غيرها و الله أعلم و قد قال الشعبي في
ليلة القدر : ليلها كنهارها و قال الشافعي في القديم : استحب أن يكون
اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها و هذا يقتضي استحباب الإجتهاد في
جميع زمان العشر الأواخر ليله و نهاره و الله أعلم المحبون تطول عليهم
الليالي فيعدونها غدا لانتظار ليالي العشر في كل عام فإذا ظفروا بها نالوا
مطلوبهم و خدموا محبوبهم
( قد مزق الحب قميص الصبر ... و قد غدوت حائرا في أمري )
( آه على تلك الليالي الغر ... ما كن إلا كليالي القدر )
( إن عدن لي من بعد هذا الهجر ... وفيت لله بكل نذر )
( و قام بالحمد خطيب شكري )
رياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين و أنفاس المحبين و قصص التائبين ثم
تعود برد الجواب بلا كتاب
( أعلمتمو أن النسيم إذا سرى ... حمل الحديث إلى الحبيب كما جرى )
( جهل الحبيب بأنني في حبهم ... سهر الدجى عندي ألذ من الكرى )
فإذا ورد يريد برد السحر بحمل ملطفات الألطاف لم يفهمها غير من كتبت إليه
( نسيم صبا نجد متى جئت حاملا ... تحيتهم فاطو الحديث عن الركب )
( و لا تذع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبي )
يا يعقوب الهجر قد هبت ريح يوسف الوصل فلو استنشقت لعدت بعد العمى بصيرا و
لوجدت ما كنت لفقده فقيرا
( كان لي قلب أعيش به ... ضاع مني في تقلبه )
( رب فاردده علي فقد ... عيل صبري في تطلبه )
( و أغثني ما دام بي رمق ... يا غياث المستغيث به )
لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الإنكسار و رفعوا قصص الإعتذار
مضمونها : { يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف
لنا الكيل و تصدق علينا } لبرز لهم التوقيع عليها : { لا تثريب عليكم
اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين }
( أشكو إلى الله كما قد شكى ... أولاد يعقوب إلى يوسف )
( قد مسني الضر و أنت الذي ... تعلم حالي و ترى موقفي )
( بضاعتي المزجاة محتاجة ... إلى سماح من كريم وفي )
( فقد أتى المسكين مستمطرا ... جودك فارحم ذله و اعطف )
( فاوف كيلي و تصدق على ... هذا المقل البائس الأضعف )
قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه و سلم : أرأيت إن وافقت
ليلة القدر ما أقول فيها قال : [ قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني
] العفو من أسماء الله تعالى و هو يتجاوز عن سيئات عباده الماحي لأثارهم
عنهم و هو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده و يحب من عباده أن يعفو بعضهم
عن بعض فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه و عفوه أحب إليه من عقوبته و
كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ أعوذ برضاك من سخطك و عفوك من
عقوبتك ] قال يحيى بن معاذ : لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل
بالذنب أكرم الناس عليه يشير إلى أنه ابتلى كثيرا من أوليائه و أحبابه
بشيء من الذنوب ليعاملهم بالعفو فإنه يحب العفو قال بعض السلف الصالح : لو
علمت أحب الأعمال إلى الله تعالى لأجهدت نفسي فيه فرأى قائلا يقول له في
منامه : إنك تريد ما لا يكون إن الله يحب أن يعفو و يغفر و إنما أحب أن
يعفو ليكون العباد كلهم تحت عفوه و لا يدل عليه أحد منهم بعمل و قد جاء في
[ حديث ابن عباس مرفوعا : إن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة
محمد صلى الله عليه و سلم فيعفو عنهم و يرحمهم إلا أربعة : مدمن خمر و
عاقا و مشاحنا و قاطع رحم ] لما عرف العارفون بجلاله خضعوا و لما سمع
المذنبون بعفوه طمعوا ما تم إلا عفو الله أو النار لولا طمع المذنبين في
العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة و لكن إذا ذكرت عفو الله استروحت
إلى برد عفوه كان بعض المتقدمين يقول في دعائه : اللهم إن ذنوبي قد عظمت
فجلت عن الصفة و إنها صغيرة في جنب عفوك فاعف عني و قال آخر منهم : جرمي
عظيم و عفوك كثير فاجمع بين جرمي و عفوك يا كريم يا كبير الذنب عفو الله
من ذنبك أكبر أكبر الأوزار في جنب عفو الله يصغر و إنما أمر بسؤال العفو
في ليلة القدر بعد الإجتهاد في الأعمال فيها و في ليالي العشر لأن
العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا و لا حالا و
لا مقالا فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر قال يحيى بن معاذ :
ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنك عفو عن الذنب )
كان مطرف يقول في دعائه : اللهم ارض عنا فإن لم ترض عنا فاعف عنا من عظمت
ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا و كان غاية أمله أن يطمع في العفو و من
كملت معرفته لم ير نفسه إلا في هذه المنزلة
( يا رب عبدك قد أتا ... ك و قد أساء و قد هفا )
( يكفيه منك حياؤه ... من سوء ما قد أسلفا )
( حمل الذنوب على الذنو ... ب الموبقات و أسرفا )
( و قد استجار بذيل عفو ... ك من عقابك ملحفا )
( رب اعف و عافه ... فلأنت أولى من عفا )
المجلس السادس في وداع رمضان
في الصحيحين [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و من قام
ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و فيهما أيضا [ من
حديث أبي هريرة أيضا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من
قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و للنسائي في رواية
: [ من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ] و
قد سبق في قيام ليلة القدر مثل ذلك من رواية عبادة بن الصامت و التكفير
بصيامه قد ورد مشروطا بالتحفظ مما ينبغي أن يتحفظ منه ففي المسند و صحيح
ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : من صام رمضان فعرف حدوده و تحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ منه كفر ذلك
ما قبله ] و الجمهور على أن ذلك إنما يكفر الصغائر و يدل عليه ما خرجه
مسلم [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصلوات
الخمس الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت
الكبائر ] و في تأويله قولان : أحدهما : أن تكفير هذه الأعمال مشروط
باجتناب الكبائر فمن لم يجتنب الكبائر لم تكفر له الأعمال كبيرة و لا
صغيرة و الثاني : أن المراد أن هذه الفرائض تكفر الصغائر خاصة بكل حال و
سواء اجتنبت الكبائر أو لم تجتنب و أنها لا تكفر الكبائر بحال و قد قال
ابن المنذر في قيام ليلة القدر : إنه يرجى به مغفرة الذنوب كبائرها و
صغائرها و قال غيره مثل ذلك في الصوم أيضا و الجمهور على : أن الكبائر لا
بد لها من توبة نصوح و هذه المسائل قد ذكرناها مستوفاة في مواضع أخر فدل
حديث أبي هريرة رضي الله عنه على : أن هذه الأسباب الثلاثة كل واحد منها
مكفر لما سلف من الذنوب و هي : صيام رمضان و قيامه و قيام ليلة القدر
فقيام ليلة القدر بمجرده يكفر الذنوب لمن وقعت له كما في حديث عبادة بن
الصامت و قد سبق ذكره و سواء كانت أول العشر أو أوسطه أو آخره و سواء شعر
بها أو لم يشعر و لا يتأخر تكفير الذنوب بها إلى انقضاء الشهر و أما صيام
رمضان و قيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر فإذا تم الشهر فقد كمل
للمؤمن صيام رمضان و قيامه فيترتب له على ذلك مغفرة ما تقد من ذنبه بتمام
السببين و هما صيامه و قيامه و قد يقال : إنه يغفر لهم عند استكمال القيام
في آخر ليلة من رمضان بقيام رمضان قبل تمام نهارها و تتأخر المغفرة
بالصيام إلى إكمال النهار بالصوم فيغفر لهم بالصوم في ليلة الفطر و يدل
على ذلك ما خرجه الإمام أحمد [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم يعطها أمة
غيرهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و تستغفر لهم الملائكة
حتى يفطروا و يزين الله كل يوم جنته و يقول : يوشك عبادي أن يكفوا عنهم
المؤنة و الأذى و يصيروا إليك و يصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه
إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره و يغفر لهم في آخر ليلة فيه فقيل له :
يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا و لكن العامل إنما يوفى أجره إذا
قضى عمله ]
و قد روي : أن الصائمين يرجعون يوم الفطر مغفورا لهم و
إن يوم الفطر يسمى يوم الجوائز و فيه أحاديث ضعيفة و قال الزهري [ إذا كان
يوم الفطر خرج الناس إلى الجبار اطلع عليهم قال : عبادي لي صمتم و لي قمتم
ارجعوا مغفورا لكم ] قال مورق العجلي لبعض إخوانه في المصلى يوم الفطر :
يرجع هذا اليوم قوم كما ولدتهم أمهاتهم و في حديث أبي جعفر الباقر المرسل
: [ من أتى عليه رمضان فصام نهاره و صلى وردا من ليله و غض بصره و حفظ
فرجه و لسانه و يده و حافظ على صلاته في الجماعة و بكر إلى الجمعة فقد صام
الشهر و استكمل الأجر و أدرك ليلة القدر و فاز بجائزة الرب ] قال أبو جعفر
: جائزة لا تشبه جوائز الأمراء إذا أكمل الصائمون صيام رمضان و قيامه فقد
وفوا ما عليهم من العمل و بقي ما لهم من الأجر و هو المغفرة فإذا خرجوا
يوم عيد الفطر إلى الصلاة قسمت عليهم أجورهم فرجعوا إلى منازلهم و قد
استوفوا الأجر و استكملوه كما في [ حديث ابن عباس رضي الله عنهما المرفوع
: إذا كان يوم الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك
ينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن و الإنس يقولون : يا أمة
محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل و يغفر الذنب العظيم فإذا برزوا إلى
مصلاهم يقول الله عز و جل لملائكته : يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل
عمله ؟ فيقولون : إلهنا و سيدنا أن توفيه أجره فيقول : إني أشهدكم أني قد
جعلت ثوابهم من صيامهم و قيامهم رضائي و مغفرتي انصرفوا مغفورا لكم ] خرجه
سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان و غيره و في إسناده مقال و قد روي من
وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا بعضه و قد روي معناه
مرفوعا من وجوه أخر فيها ضعف : من وفى ما عليه من العمل كاملا وفى له
الأجر كاملا و من سلم ما عليه وفرا تسلم ماله نقدا لا مؤخرا
( ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... و لا أسلمها إلا يدا بيد )
( فإن وفيتم بما قلتم وفيت أنا ... و إن أبيتم يكون الرهن تحت يدي )
و من نقص من العمل الذي عليه نقص من الأجر بحسب نقصه فلا يلم إلا نفسه قال
سلمان : الصلاة مكيال فمن وفى وفي له و من طفف فقد علمتم ما قيل في
المطففين فالصيام و سائر الأعمال على هذا المنوال من وفاها فهو من خيار
عباد الله الموفين و من طفف فيها فويل للمطففين أما يستحي من يستوفي مكيال
شهواته و يطفف في مكيال صيامه و صلاته إلا بعد المدين في الحديث : [ أسوأ
الناس سرقة الذي يسرق صلاته ] إذا كان الويل لمن طفف مكيال الدنيا فكيف
حال من طفف مكيال الدين : { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون }
( غدا توفى النفوس ما كسبت ... و يحصد الزارعون ما زرعوا )
( إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ... و إن أسؤا فبئس ما صنعوا )
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل و إكماله و إتقانه ثم يهتمون بعد
ذلك بقبوله و يخافون من رده و هؤلاء الذين : { يؤتون ما آتوا و قلوبهم
وجلة } روي عن علي رضي الله عنه قال : كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم
بالعمل ألم تسمعوا الله عز و جل يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين } و
عن فضالة بن عبيد قال : لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من
خردل أحب إلي من الدنيا و ما فيها لأن الله يقول : { إنما يتقبل الله من
المتقين } قال ابن دينار : الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل و
قال عطاء السلمي : الحذر الاتقاء على العمل أن لا يكون لله و قال عبد
العزيز بن أبي رواد : أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع
عليهم الهم أيقبل منهم أم لا قال بعض السلف كانوا يدعون الله ستة أشهر أن
يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم خرج عمر بن عبد
العزيز رحمه الله في يوم عيد فطر فقال في خطبته : أيها الناس إنكم صمتم
لله ثلاثين يوما و قمتم ثلاثين ليلة و خرجتم اليوم تطلبون من الله أن
يتقبل منكم كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له : إنه
يوم فرح و سرور فيقول : صدقتم و لكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا فلا
أدري أيقبله مني أم لا ؟ رأى وهب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد فقال :
إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين و إن كان لم يتقبل
منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين و عن الحسن قال : إن الله جعل شهر رمضان
مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا و تخلف آخرون
فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون و يخسر
فيه المبطلون
( لعلك غضبان و قلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا )
روي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان : يا ليت
شعري من هذا المقبول فنهنيه و من هذا المحروم فنعزيه و عن ابن مسعود أنه
كان يقول : من هذا المقبول منا فنهنيه و من هذا المحروم منا فنعزيه أيها
المقبول هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك
( ليت شعري من فيه يقبل منا ... فيهنا يا خيبة المردود )
( من تولى عنه بغير قبول ... أرغم الله أنفه بخزي شديد )
ماذا فات من فاته خير رمضان و أي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان كم بين من
حظه فيه القبول و الغفران و من كان حظه فيه الخيبة و الخسران رب قائم حظه
من قيامه السهر و صائم حظه من صيامه الجوع و العطش
( ما أصنع هكذا جرى المقدور ... الجبر لغيري و أنا المكسور )
( أسير ذنب مقيد مهجور ... هل يمكن أن يغير المقدور )
غيره
( سار القوم و الشفاء يقعدني ... حازوا القرب و الجفا يبعدني )
( حسبي حسبي إلى متى تطردني ... أعداي داني و كلهم يقصدني )
غيره
( أسباب هواك أوهنت أسبابي ... من بعد جفاك فالضنى أولى بي )
( ضاقت حيلي و أنت تدري ما بي ... فارحم فالعبد واقف بالباب )
شهر رمضان تكثر فيه أسباب الغفران فمن أسباب المغفرة فيه صيامه و قيامه و
قيام ليلة القدر فيه كما سبق و منها : تفطير الصوام و التخفيف عن المملوك
و هما مذكوران في حديث سلمان المرفوع و منها : الذكر و في حديث مرفوع : [
ذاكر الله في رمضان مغفور له ] و منها : الإستغفار و الإستغفار طلب
المغفرة و دعاء الصائم مستجاب في صيامه و عند فطره و لهذا كان ابن عمر إذا
أفطر يقول : اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي و في حديث أبي هريرة رضي الله
عنه المرفوع في فضل شهر رمضان و يغفر فيه إلا لمن أبى قالوا : يا أبا
هريرة و من يأبى ؟ قال : يأبى أن يستغفر الله و منها : استغفار الملائكة
للصائمين حتى يفطروا و قد تقدم ذكره فلما كثرت أسباب المغفرة في رمضان كان
الذي تفوته المغفرة فيه محروما غاية الحرمان و في صحيح ابن حبان [ عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم صعد المنبر فقال : آمين
آمين آمين قيل : يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت : آمين آمين آمين ؟
فقال : إن جبريل أتاني فقال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار
فأبعده الله قل آمين فقلت آمين و من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات
فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين و من ذكرت عنده فلم يصل عليك
فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين ] و خرجه الإمام أحمد و
الترمذي و ابن حبان أيضا من وجه آخر [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا
بلفظ : رغم أنفه ] و حسنه الترمذي و قال سعيد عن قتادة : كان يقال : من لم
يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما سواه و في حديث آخر : إذا لم يغفر له
في رمضان فمتى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر من يقبل من رد في ليلة
القدر متى يصلح من لا يصلح في رمضان حتى يصلح من كان به فيه من داء
الجهالة و الغفلة مرضان كل مالا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع
ثم يوقد في النار من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير
الندم و الخسارة
( ترحل شهر الصبر و الهفاه و انصرما ... و اختص بالفوز في الجنات من خدما
)
( و أصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما )
( من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهم و الندما )
[ شهر رمضان شهر أوله رحمه و أوسطه مغفرة و آخره عتق من النار ] روي هذا
عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث سلمان الفارسي خرجه ابن خزيمة في
صحيحه و روي عنه أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه خرجه ابن أبي الدنيا
و غيره و الشهر كله شهر رحمة و مغفرة و عتق و لهذا في الحديث الصحيح : [
إنه تفتح فيه أبواب الرحمة ] و في الترمذي و غيره : [ إن لله عتقاء من
النار و ذلك كل ليلة ] و لكن الأغلب على أوله الرحمة و هي للمحسنين
المتقين قال الله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } و قال الله
تعالى : { و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون } فيفاض على المتقين
في أول الشهر خلع الرحمة و الرضوان و يعامل أهل الإحسان بالفضل و الإحسان
و أما أوسط الشهر فالأغلب عليه المغفرة فيغفر فيه للصائمين و إن ارتكبوا
بعض الذنوب الصغائر فلا يمنعهم من المغفرة كما قال الله تعالى : { و إن
ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } و أما آخر الشهر فيعتق من النار من
أوبقته الأوزار و استوجب النار بالذنوب الكبار و في [ حديث ابن عباس
المرفوع : لله في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار
كلهم قد استوجبوا النار فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك
اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره ] و خرجه سلمة بن شبيب و غيره و
إنما كان يوم الفطر من رمضان عيدا لجميع الأمة لأنه تعتق فيه أهل الكبائر
من الصائمين من النار فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار كما أن يوم النحر هو
العيد الكبر لأن قبله يوم عرفة و هو اليوم الذي لا يرى في يوم من الدنيا
أكثر عتقا من النار منه فمن أعتق من النار في اليومين فله يوم عيد و من
فاته العتق في اليومين فله يوم و عيد
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان )
( إنما العيد أن تكون لدى الله ... كريما مقربا في أمان )
و رؤي بعض العارفين ليلة عيد في فلاة يبكي على نفسه و ينشد
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف على ألا تجود )
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد )
( فإن اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود )
لما كانت المغفرة و العتق كل منهما مرتبا على صيام رمضان و قيامه أمر الله
سبحانه و تعالى عند إكمال العدة بتكبيره و شكره فقال : { و لتكملوا العدة
و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون } فشكر من أنعم على عباده
بتوفيقهم للصيام و إعانتهم عليه و مغفرته لهم و عتقهم من النار أن يذكروه
و يشكروه و يتقوه حق تقاته و قد فسر ابن مسعود رضي الله عنه تقواه حق
تقاته بأن يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر فيا أرباب
الذنوب العظيمة الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة فما منها عوض و لا
لها قيمة فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة و المنحة
الجسيمة يا من أعتقه مولاه من النار إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق
الأوزار أيبعدك مولاك من النار و تتقرب منها و ينقذك منها و أنت توقع نفسك
فيها و لا تحيد عنها
( و إن امرءا ينجو من النار بعدما ... تزود من أعمالها لسعيد )
إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها و إن تكن المغفرة مكتوبة
للمتقين فالظالم لنفسه غير محجوب عنها غيره
( إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ ... فمن يجود على العاصين بالكرم )
غيره
( إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو و يدعو المذنب )
لم لا يرجى العفو من ربنا و كيف لا يطمع في حلمه و في الصحيح : أنه بعبده
أرحم من أمه : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله إن الله يغفر الذنوب جميعا }
فيا أيها العاصي و كلنا ذلك لا
تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك
فأحسن الظن بمولاك و تب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك
( إذا أوجعتك الذنوب فداوها ... برفع يد بالليل و الليل مظلم )
( و لا تقنطن من رحمة الله إنما ... قنوطك منها من ذنوبك أعظم )
( فرحمته للمحسنين كرامة ... و رحمته للمذنبين تكرم )
ينبغي لمن يرجو العتق في شهر رمضان من النار أن يأتي بأسباب توجب العتق من
النار و هي متيسرة في هذا الشهر و كان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية
حسناء مزينة يرجو بعتقها العتق من النار و في حديث سلمان الفارسي المرفوع
الذي في صحيح ابن خزيمة : [ من فطر صائما كان عتقا له من النار و من خفف
فيه عن مملوكه كان له عتقا من النار ] و فيه أيضا : [ فاستكثروا فيه من
أربع خصال : خصلتين : ترضون بها ربكم و خصلتين : لا غناء لكم عنهما فأما
الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : شهادة أن لا إله إلا الله و الإستغفار
و أما اللتان لا غناء لكم عنهما : فتسألون الله الجنة و تستعيذون به من
النار ] فهذه الخصال الأربعة المذكورة في الحديث كل منها سبب العتق و
المغفرة : فأما كلمة التوحيد : فإنها تهدم الذنوب و تمحوها محوا و لا تبقي
ذنبا و لا يسبقها عمل و هي تعدل عتق الرقاب الذي يوجب العتق من النار و من
أتى بها أربع مرار حين يصبح و حين يمسي أعتقه الله من النار و من قالها
مخلصا من قلبه حرمه الله على النار و أما كلمة الإستغفار : فمن أعظم أسباب
المغفرة فإن الإستغفار دعاء بالمغفرة و دعاء الصائم مستجاب في حال صيامه و
عند فطره و قد سبق حديث أبي هريرة المرفوع : [ يغفر فيه ـ يعني شهر رمضان
ـ إلا لمن أبى قالوا : يا أبا هريرة و من أبى ؟ قال : من أبى أن يستغفر
الله عز و جل ] قال الحسن : أكثروا من الإستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل
الرحمة و قال لقمان لابنه : يا بني عود لسانك الإستغفار فإن لله ساعات لا
يرد فيهن سائلا و قد جمع الله بين التوحيد و الإستغفار في قوله تعالى : {
فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك } و في بعض الآثار : أن إبليس
قال : أهلكت الناس بالذنوب و أهلكوني بلا إله إلا الله و الإستغفار و
الإستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها فيختم به الصلاة و الحج و قيام الليل
و يختم به المجالس فإن كانت ذكرا كان كالطابع عليها و إن كانت لغوا كان
كفارة لها فكذلك ينبغي أن تختم صيام رمضان بالاستغفار و كتب عمر بن عبد
العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار و صدقة الفطر فإن الفطر
طهرة للصائم من اللغو و الرفث و الإستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو
و الرفث و لهذا قال بعض العلماء المتقدمين : إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي
السهو للصلاة و قال عمر بن عبد العزيز في كتابه قولوا كما قال أبوكم آدم :
{ ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } و
قولوا كما قال نوح عليه السلام : { و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من
الخاسرين } و قولوا كما قال موسى عليه السلام : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر
لي } و قولوا كما قال ذو النون عليه السلام : { سبحانك إني كنت من
الظالمين } و يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : الغيبة تخرق الصيام و
الإستغفار يرقعه فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل و عن ابن
المنكدر معنى ذلك : الصيام جنة من النار ما لم يخرقها و الكلام السيء يخرق
هذه الجنة و الاستغفار يرقع ما تخرق منها فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار
نافع و عمل صالح له شافع كم نخرق صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه و قد اتسع
الخرق على الراقع كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات
القاطع كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر
المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين
مثلنا في عباداتهم ارحموا من حسناته كلها سيئات و طاعاته كلها غفلات
( أستغفر الله من صيامي ... طول زماني و من صلاتي )
( يوم يرى كله خروق ... و صلاته أيما صلاة )
( مستيقظ في الدجى و لكن ... أحسن من يقظتي سنأتي )
و قريب من هذا أمر النبي عليه السلام لعائشة رضي الله عنها في ليلة القدر
بسؤال العفو فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه و قيامه فإذا قرب
فراغه و صادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو كالمسيء المقصر كان
صلة بن أشيم يحي الليل ثم يقول في دعائه عند السحر : اللهم إني أسألك أن
تجيرني من النار و مثلي يجترىء أن يسألك الجنة كان مطرف يقول : اللهم ارض
عنا فأن لم ترض عنا فاعف عنا قال يحيى بن معاذ : ليس بعارف من لم يكن غاية
أمله من الله العفو
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنكم عفو عن الذنب )
أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة و هي حل عقدة الإصرار فمن استغفر بلسانه
و قلبه على المعصية معقود و عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر و يعود
فصومه عليه مردود و باب القبول عنه مسدود قال كعب : من صام رمضان و هو
يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة
و لا حساب و من صام رمضان و هو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه
فصيامه عليه مردود و خرجه مسلمة بن شبيب
( و لولا التقى ثم النهى خشية الردى ... لعاصيت في وقت الصبا كل واجب )
( قضى ما قضى فيما مضى ثم لا يرى ... له عودة أخرى لليالي الغوائب )
و في سنن أبي داود و غيره [ عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : لا يقولن أحدكم : صمت رمضان كله و لا قمت رمضان كله ]
قال أبو بكرة : فلا أدري أكره التزكية أم لا بد من غفلة أين من كان إذا
صام صان الصيام و إذا قام استقام في القيام أحسنوا الإسلام ثم ارحلوا
بسلام ما بقي إلا من إذا صام افتخر بصيامه و صال و إذا قام عجب بقيامه و
قال : كم بين خلى و شجى و واجد و فاقد و كاتم و مبدي و أما سؤال الجنة و
الاستعاذة من النار فمن أهم الدعاء و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [
حولها ندندن ] فالصائم يرجى استجابة دعائه فينبغي أن لا يدعو إلا بأهم
الأمور قال أبو مسلم : ما عرضت لي دعوة إلا صرفتها إلى الاستعاذة من النار
و قال : { لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون }
في الحديث : [ تعرضوا لنفحات رحمة بكم فإن لله نفحات من رحمته ] : { يصيب
به من يشاء من عباده } فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها بدا فإن أعظم
نفحاته مصادفة دعوة الإجابة يسأل العبد فيها الجنة و النجاة من النار
فيجاب سؤاله فيفوز بسعادة الأبد قال الله تعالى : { فمن زحزح عن النار و
أدخل الجنة فقد فاز } و قال : { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير
و شهيق } إلى قوله : { و أما الذين سعدوا ففي الجنة }
( ليس السعيد الذي دنياه تسعده ... إن السعيد الذي ينجى من النار )
عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل و لم يبق منه إلا القليل فمن
منكم أحسن فيه فعليه التمام و من فرط فليختمه بالحسنى و العمل بالختام
فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة و الأيام و استودعوه عملا صالحا
يشهد لكم به عند الملك العلام و ودعوه عند فراقه بأزكى تحية و سلام
( سلام من الرحمن كل أوان ... على خير شهر قد مضى و زمان )
( سلام على الصيام فإنه ... أمان من الرحمن كل أمان )
( لئن فنيت أيامك الغر بغتة ... فما الحزن من قلبي عليك بفان )
لقد ذهبت أيامه و ما أطعتم و كتبت عليكم فيه آثامه و ما أضعتم و كأنكم
بالمشمرين فيه و قد وصلوا و انقطعتم أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم
( ما ضاع من أيامنا هل يعزم ... هيهات و الأزمان كيف تقوم )
( يوم بأرواح تباع و تشترى ... و أخوه ليس يسام فيه درهم )
قلوب المتقنين إلى هذا الشهر تحن و من ألم فراقه تئن
( دهاك الفراق فما تصنع ... أتصبر للبين أم تجزع )
( إذا كنت تبكي وهم جيرة ... فكيف تكون إذا ودعوا )
كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع و هو لا يدري هل بقي له في عمره إليه
رجوع
( تذكرت أياما مضت و لياليا ... خلت فجرت من ذكرهن دموع )
( ألا هل لها يوما من الدهر عودة ... و هل لي إلى يوم الوصال رجوع )
( و هل بعد إعاض الحبيب تواصل ... و هل لبدور قد أفلن طلوع )
أين حرق المجتهدين في نهاره أين قلق المجتهدين في أسحاره فكيف حال من خسر
في أيامه و لياليه ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه و قد عظمت فيه مصيبته و جل
عزاؤه كم نصح المسكين فما قبل النصح كم دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى
الصلح كم شاهد الواصلين فيه و هو متباعد كم مرت به زمر السائرين و هو قاعد
حتى إذا ضاق به الوقت و خاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم و
طلب الإستدراك في وقت العدم
( أتترك من تحب و أنت جار ... و تطلبهم و قد بعد المزار )
( و تبكي بعد نأيهم اشتياقا ... و تسأل في المنازل أين ساروا )
( تركت سؤالهم و هم حضور ... و ترجو أن تخبرك الديار )
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار )
يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تدفق قلوبهم من ألم الفراق تشقق عسى وقفة
للوداع تطفىء من نار الشوق ما أحرق عسى ساعة توبة و إقلاع ترفو من الصيام
كلما تخرق عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق عسى أسير الأوزار يطلق عسى من
استوجب النار يعتق
( عسى و عسى من قبل وقت التفرق ... إلى كل ما ترجو من الخير تلتقى )
( فيجبر مكسور و يقبل تائب ... و يعتق خطاء و يسعد من شقى )
و أما العمل في ليلة القدر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
: [ من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و
قيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها و الصلاة و قد أمر عائشة بالدعاء
فيها أيضا قال سفيان الثوري الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة قال :
و إذا كان يقرأ و هو يدعو و يرغب إلى الله في الدعاء و المسألة لعله يوافق
انتهى و مراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء و
إن قرأ و دعا كان حسنا و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يتهجد في ليالي
رمضان و يقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل و لا بآية فيها
عذاب إلا تعوذ فيجمع بين الصلاة و القراءة و الدعاء و التفكر و هذا أفضل
الأعمال و أكملها في ليالي العشر و غيرها و الله أعلم و قد قال الشعبي في
ليلة القدر : ليلها كنهارها و قال الشافعي في القديم : استحب أن يكون
اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها و هذا يقتضي استحباب الإجتهاد في
جميع زمان العشر الأواخر ليله و نهاره و الله أعلم المحبون تطول عليهم
الليالي فيعدونها غدا لانتظار ليالي العشر في كل عام فإذا ظفروا بها نالوا
مطلوبهم و خدموا محبوبهم
( قد مزق الحب قميص الصبر ... و قد غدوت حائرا في أمري )
( آه على تلك الليالي الغر ... ما كن إلا كليالي القدر )
( إن عدن لي من بعد هذا الهجر ... وفيت لله بكل نذر )
( و قام بالحمد خطيب شكري )
رياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين و أنفاس المحبين و قصص التائبين ثم
تعود برد الجواب بلا كتاب
( أعلمتمو أن النسيم إذا سرى ... حمل الحديث إلى الحبيب كما جرى )
( جهل الحبيب بأنني في حبهم ... سهر الدجى عندي ألذ من الكرى )
فإذا ورد يريد برد السحر بحمل ملطفات الألطاف لم يفهمها غير من كتبت إليه
( نسيم صبا نجد متى جئت حاملا ... تحيتهم فاطو الحديث عن الركب )
( و لا تذع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبي )
يا يعقوب الهجر قد هبت ريح يوسف الوصل فلو استنشقت لعدت بعد العمى بصيرا و
لوجدت ما كنت لفقده فقيرا
( كان لي قلب أعيش به ... ضاع مني في تقلبه )
( رب فاردده علي فقد ... عيل صبري في تطلبه )
( و أغثني ما دام بي رمق ... يا غياث المستغيث به )
لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الإنكسار و رفعوا قصص الإعتذار
مضمونها : { يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف
لنا الكيل و تصدق علينا } لبرز لهم التوقيع عليها : { لا تثريب عليكم
اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين }
( أشكو إلى الله كما قد شكى ... أولاد يعقوب إلى يوسف )
( قد مسني الضر و أنت الذي ... تعلم حالي و ترى موقفي )
( بضاعتي المزجاة محتاجة ... إلى سماح من كريم وفي )
( فقد أتى المسكين مستمطرا ... جودك فارحم ذله و اعطف )
( فاوف كيلي و تصدق على ... هذا المقل البائس الأضعف )
قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه و سلم : أرأيت إن وافقت
ليلة القدر ما أقول فيها قال : [ قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني
] العفو من أسماء الله تعالى و هو يتجاوز عن سيئات عباده الماحي لأثارهم
عنهم و هو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده و يحب من عباده أن يعفو بعضهم
عن بعض فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه و عفوه أحب إليه من عقوبته و
كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ أعوذ برضاك من سخطك و عفوك من
عقوبتك ] قال يحيى بن معاذ : لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل
بالذنب أكرم الناس عليه يشير إلى أنه ابتلى كثيرا من أوليائه و أحبابه
بشيء من الذنوب ليعاملهم بالعفو فإنه يحب العفو قال بعض السلف الصالح : لو
علمت أحب الأعمال إلى الله تعالى لأجهدت نفسي فيه فرأى قائلا يقول له في
منامه : إنك تريد ما لا يكون إن الله يحب أن يعفو و يغفر و إنما أحب أن
يعفو ليكون العباد كلهم تحت عفوه و لا يدل عليه أحد منهم بعمل و قد جاء في
[ حديث ابن عباس مرفوعا : إن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة
محمد صلى الله عليه و سلم فيعفو عنهم و يرحمهم إلا أربعة : مدمن خمر و
عاقا و مشاحنا و قاطع رحم ] لما عرف العارفون بجلاله خضعوا و لما سمع
المذنبون بعفوه طمعوا ما تم إلا عفو الله أو النار لولا طمع المذنبين في
العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة و لكن إذا ذكرت عفو الله استروحت
إلى برد عفوه كان بعض المتقدمين يقول في دعائه : اللهم إن ذنوبي قد عظمت
فجلت عن الصفة و إنها صغيرة في جنب عفوك فاعف عني و قال آخر منهم : جرمي
عظيم و عفوك كثير فاجمع بين جرمي و عفوك يا كريم يا كبير الذنب عفو الله
من ذنبك أكبر أكبر الأوزار في جنب عفو الله يصغر و إنما أمر بسؤال العفو
في ليلة القدر بعد الإجتهاد في الأعمال فيها و في ليالي العشر لأن
العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا و لا حالا و
لا مقالا فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر قال يحيى بن معاذ :
ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنك عفو عن الذنب )
كان مطرف يقول في دعائه : اللهم ارض عنا فإن لم ترض عنا فاعف عنا من عظمت
ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا و كان غاية أمله أن يطمع في العفو و من
كملت معرفته لم ير نفسه إلا في هذه المنزلة
( يا رب عبدك قد أتا ... ك و قد أساء و قد هفا )
( يكفيه منك حياؤه ... من سوء ما قد أسلفا )
( حمل الذنوب على الذنو ... ب الموبقات و أسرفا )
( و قد استجار بذيل عفو ... ك من عقابك ملحفا )
( رب اعف و عافه ... فلأنت أولى من عفا )
في الصحيحين [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و من قام
ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و فيهما أيضا [ من
حديث أبي هريرة أيضا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من
قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و للنسائي في رواية
: [ من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ] و
قد سبق في قيام ليلة القدر مثل ذلك من رواية عبادة بن الصامت و التكفير
بصيامه قد ورد مشروطا بالتحفظ مما ينبغي أن يتحفظ منه ففي المسند و صحيح
ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : من صام رمضان فعرف حدوده و تحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ منه كفر ذلك
ما قبله ] و الجمهور على أن ذلك إنما يكفر الصغائر و يدل عليه ما خرجه
مسلم [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصلوات
الخمس الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت
الكبائر ] و في تأويله قولان : أحدهما : أن تكفير هذه الأعمال مشروط
باجتناب الكبائر فمن لم يجتنب الكبائر لم تكفر له الأعمال كبيرة و لا
صغيرة و الثاني : أن المراد أن هذه الفرائض تكفر الصغائر خاصة بكل حال و
سواء اجتنبت الكبائر أو لم تجتنب و أنها لا تكفر الكبائر بحال و قد قال
ابن المنذر في قيام ليلة القدر : إنه يرجى به مغفرة الذنوب كبائرها و
صغائرها و قال غيره مثل ذلك في الصوم أيضا و الجمهور على : أن الكبائر لا
بد لها من توبة نصوح و هذه المسائل قد ذكرناها مستوفاة في مواضع أخر فدل
حديث أبي هريرة رضي الله عنه على : أن هذه الأسباب الثلاثة كل واحد منها
مكفر لما سلف من الذنوب و هي : صيام رمضان و قيامه و قيام ليلة القدر
فقيام ليلة القدر بمجرده يكفر الذنوب لمن وقعت له كما في حديث عبادة بن
الصامت و قد سبق ذكره و سواء كانت أول العشر أو أوسطه أو آخره و سواء شعر
بها أو لم يشعر و لا يتأخر تكفير الذنوب بها إلى انقضاء الشهر و أما صيام
رمضان و قيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر فإذا تم الشهر فقد كمل
للمؤمن صيام رمضان و قيامه فيترتب له على ذلك مغفرة ما تقد من ذنبه بتمام
السببين و هما صيامه و قيامه و قد يقال : إنه يغفر لهم عند استكمال القيام
في آخر ليلة من رمضان بقيام رمضان قبل تمام نهارها و تتأخر المغفرة
بالصيام إلى إكمال النهار بالصوم فيغفر لهم بالصوم في ليلة الفطر و يدل
على ذلك ما خرجه الإمام أحمد [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم يعطها أمة
غيرهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و تستغفر لهم الملائكة
حتى يفطروا و يزين الله كل يوم جنته و يقول : يوشك عبادي أن يكفوا عنهم
المؤنة و الأذى و يصيروا إليك و يصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه
إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره و يغفر لهم في آخر ليلة فيه فقيل له :
يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا و لكن العامل إنما يوفى أجره إذا
قضى عمله ]
و قد روي : أن الصائمين يرجعون يوم الفطر مغفورا لهم و
إن يوم الفطر يسمى يوم الجوائز و فيه أحاديث ضعيفة و قال الزهري [ إذا كان
يوم الفطر خرج الناس إلى الجبار اطلع عليهم قال : عبادي لي صمتم و لي قمتم
ارجعوا مغفورا لكم ] قال مورق العجلي لبعض إخوانه في المصلى يوم الفطر :
يرجع هذا اليوم قوم كما ولدتهم أمهاتهم و في حديث أبي جعفر الباقر المرسل
: [ من أتى عليه رمضان فصام نهاره و صلى وردا من ليله و غض بصره و حفظ
فرجه و لسانه و يده و حافظ على صلاته في الجماعة و بكر إلى الجمعة فقد صام
الشهر و استكمل الأجر و أدرك ليلة القدر و فاز بجائزة الرب ] قال أبو جعفر
: جائزة لا تشبه جوائز الأمراء إذا أكمل الصائمون صيام رمضان و قيامه فقد
وفوا ما عليهم من العمل و بقي ما لهم من الأجر و هو المغفرة فإذا خرجوا
يوم عيد الفطر إلى الصلاة قسمت عليهم أجورهم فرجعوا إلى منازلهم و قد
استوفوا الأجر و استكملوه كما في [ حديث ابن عباس رضي الله عنهما المرفوع
: إذا كان يوم الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك
ينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن و الإنس يقولون : يا أمة
محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل و يغفر الذنب العظيم فإذا برزوا إلى
مصلاهم يقول الله عز و جل لملائكته : يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل
عمله ؟ فيقولون : إلهنا و سيدنا أن توفيه أجره فيقول : إني أشهدكم أني قد
جعلت ثوابهم من صيامهم و قيامهم رضائي و مغفرتي انصرفوا مغفورا لكم ] خرجه
سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان و غيره و في إسناده مقال و قد روي من
وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا بعضه و قد روي معناه
مرفوعا من وجوه أخر فيها ضعف : من وفى ما عليه من العمل كاملا وفى له
الأجر كاملا و من سلم ما عليه وفرا تسلم ماله نقدا لا مؤخرا
( ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... و لا أسلمها إلا يدا بيد )
( فإن وفيتم بما قلتم وفيت أنا ... و إن أبيتم يكون الرهن تحت يدي )
و من نقص من العمل الذي عليه نقص من الأجر بحسب نقصه فلا يلم إلا نفسه قال
سلمان : الصلاة مكيال فمن وفى وفي له و من طفف فقد علمتم ما قيل في
المطففين فالصيام و سائر الأعمال على هذا المنوال من وفاها فهو من خيار
عباد الله الموفين و من طفف فيها فويل للمطففين أما يستحي من يستوفي مكيال
شهواته و يطفف في مكيال صيامه و صلاته إلا بعد المدين في الحديث : [ أسوأ
الناس سرقة الذي يسرق صلاته ] إذا كان الويل لمن طفف مكيال الدنيا فكيف
حال من طفف مكيال الدين : { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون }
( غدا توفى النفوس ما كسبت ... و يحصد الزارعون ما زرعوا )
( إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ... و إن أسؤا فبئس ما صنعوا )
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل و إكماله و إتقانه ثم يهتمون بعد
ذلك بقبوله و يخافون من رده و هؤلاء الذين : { يؤتون ما آتوا و قلوبهم
وجلة } روي عن علي رضي الله عنه قال : كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم
بالعمل ألم تسمعوا الله عز و جل يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين } و
عن فضالة بن عبيد قال : لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من
خردل أحب إلي من الدنيا و ما فيها لأن الله يقول : { إنما يتقبل الله من
المتقين } قال ابن دينار : الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل و
قال عطاء السلمي : الحذر الاتقاء على العمل أن لا يكون لله و قال عبد
العزيز بن أبي رواد : أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع
عليهم الهم أيقبل منهم أم لا قال بعض السلف كانوا يدعون الله ستة أشهر أن
يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم خرج عمر بن عبد
العزيز رحمه الله في يوم عيد فطر فقال في خطبته : أيها الناس إنكم صمتم
لله ثلاثين يوما و قمتم ثلاثين ليلة و خرجتم اليوم تطلبون من الله أن
يتقبل منكم كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له : إنه
يوم فرح و سرور فيقول : صدقتم و لكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا فلا
أدري أيقبله مني أم لا ؟ رأى وهب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد فقال :
إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين و إن كان لم يتقبل
منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين و عن الحسن قال : إن الله جعل شهر رمضان
مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا و تخلف آخرون
فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون و يخسر
فيه المبطلون
( لعلك غضبان و قلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا )
روي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان : يا ليت
شعري من هذا المقبول فنهنيه و من هذا المحروم فنعزيه و عن ابن مسعود أنه
كان يقول : من هذا المقبول منا فنهنيه و من هذا المحروم منا فنعزيه أيها
المقبول هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك
( ليت شعري من فيه يقبل منا ... فيهنا يا خيبة المردود )
( من تولى عنه بغير قبول ... أرغم الله أنفه بخزي شديد )
ماذا فات من فاته خير رمضان و أي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان كم بين من
حظه فيه القبول و الغفران و من كان حظه فيه الخيبة و الخسران رب قائم حظه
من قيامه السهر و صائم حظه من صيامه الجوع و العطش
( ما أصنع هكذا جرى المقدور ... الجبر لغيري و أنا المكسور )
( أسير ذنب مقيد مهجور ... هل يمكن أن يغير المقدور )
غيره
( سار القوم و الشفاء يقعدني ... حازوا القرب و الجفا يبعدني )
( حسبي حسبي إلى متى تطردني ... أعداي داني و كلهم يقصدني )
غيره
( أسباب هواك أوهنت أسبابي ... من بعد جفاك فالضنى أولى بي )
( ضاقت حيلي و أنت تدري ما بي ... فارحم فالعبد واقف بالباب )
شهر رمضان تكثر فيه أسباب الغفران فمن أسباب المغفرة فيه صيامه و قيامه و
قيام ليلة القدر فيه كما سبق و منها : تفطير الصوام و التخفيف عن المملوك
و هما مذكوران في حديث سلمان المرفوع و منها : الذكر و في حديث مرفوع : [
ذاكر الله في رمضان مغفور له ] و منها : الإستغفار و الإستغفار طلب
المغفرة و دعاء الصائم مستجاب في صيامه و عند فطره و لهذا كان ابن عمر إذا
أفطر يقول : اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي و في حديث أبي هريرة رضي الله
عنه المرفوع في فضل شهر رمضان و يغفر فيه إلا لمن أبى قالوا : يا أبا
هريرة و من يأبى ؟ قال : يأبى أن يستغفر الله و منها : استغفار الملائكة
للصائمين حتى يفطروا و قد تقدم ذكره فلما كثرت أسباب المغفرة في رمضان كان
الذي تفوته المغفرة فيه محروما غاية الحرمان و في صحيح ابن حبان [ عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم صعد المنبر فقال : آمين
آمين آمين قيل : يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت : آمين آمين آمين ؟
فقال : إن جبريل أتاني فقال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار
فأبعده الله قل آمين فقلت آمين و من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات
فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين و من ذكرت عنده فلم يصل عليك
فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين ] و خرجه الإمام أحمد و
الترمذي و ابن حبان أيضا من وجه آخر [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا
بلفظ : رغم أنفه ] و حسنه الترمذي و قال سعيد عن قتادة : كان يقال : من لم
يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما سواه و في حديث آخر : إذا لم يغفر له
في رمضان فمتى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر من يقبل من رد في ليلة
القدر متى يصلح من لا يصلح في رمضان حتى يصلح من كان به فيه من داء
الجهالة و الغفلة مرضان كل مالا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع
ثم يوقد في النار من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير
الندم و الخسارة
( ترحل شهر الصبر و الهفاه و انصرما ... و اختص بالفوز في الجنات من خدما
)
( و أصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما )
( من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهم و الندما )
[ شهر رمضان شهر أوله رحمه و أوسطه مغفرة و آخره عتق من النار ] روي هذا
عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث سلمان الفارسي خرجه ابن خزيمة في
صحيحه و روي عنه أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه خرجه ابن أبي الدنيا
و غيره و الشهر كله شهر رحمة و مغفرة و عتق و لهذا في الحديث الصحيح : [
إنه تفتح فيه أبواب الرحمة ] و في الترمذي و غيره : [ إن لله عتقاء من
النار و ذلك كل ليلة ] و لكن الأغلب على أوله الرحمة و هي للمحسنين
المتقين قال الله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } و قال الله
تعالى : { و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون } فيفاض على المتقين
في أول الشهر خلع الرحمة و الرضوان و يعامل أهل الإحسان بالفضل و الإحسان
و أما أوسط الشهر فالأغلب عليه المغفرة فيغفر فيه للصائمين و إن ارتكبوا
بعض الذنوب الصغائر فلا يمنعهم من المغفرة كما قال الله تعالى : { و إن
ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } و أما آخر الشهر فيعتق من النار من
أوبقته الأوزار و استوجب النار بالذنوب الكبار و في [ حديث ابن عباس
المرفوع : لله في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار
كلهم قد استوجبوا النار فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك
اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره ] و خرجه سلمة بن شبيب و غيره و
إنما كان يوم الفطر من رمضان عيدا لجميع الأمة لأنه تعتق فيه أهل الكبائر
من الصائمين من النار فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار كما أن يوم النحر هو
العيد الكبر لأن قبله يوم عرفة و هو اليوم الذي لا يرى في يوم من الدنيا
أكثر عتقا من النار منه فمن أعتق من النار في اليومين فله يوم عيد و من
فاته العتق في اليومين فله يوم و عيد
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان )
( إنما العيد أن تكون لدى الله ... كريما مقربا في أمان )
و رؤي بعض العارفين ليلة عيد في فلاة يبكي على نفسه و ينشد
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف على ألا تجود )
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد )
( فإن اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود )
لما كانت المغفرة و العتق كل منهما مرتبا على صيام رمضان و قيامه أمر الله
سبحانه و تعالى عند إكمال العدة بتكبيره و شكره فقال : { و لتكملوا العدة
و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون } فشكر من أنعم على عباده
بتوفيقهم للصيام و إعانتهم عليه و مغفرته لهم و عتقهم من النار أن يذكروه
و يشكروه و يتقوه حق تقاته و قد فسر ابن مسعود رضي الله عنه تقواه حق
تقاته بأن يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر فيا أرباب
الذنوب العظيمة الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة فما منها عوض و لا
لها قيمة فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة و المنحة
الجسيمة يا من أعتقه مولاه من النار إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق
الأوزار أيبعدك مولاك من النار و تتقرب منها و ينقذك منها و أنت توقع نفسك
فيها و لا تحيد عنها
( و إن امرءا ينجو من النار بعدما ... تزود من أعمالها لسعيد )
إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها و إن تكن المغفرة مكتوبة
للمتقين فالظالم لنفسه غير محجوب عنها غيره
( إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ ... فمن يجود على العاصين بالكرم )
غيره
( إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو و يدعو المذنب )
لم لا يرجى العفو من ربنا و كيف لا يطمع في حلمه و في الصحيح : أنه بعبده
أرحم من أمه : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله إن الله يغفر الذنوب جميعا }
فيا أيها العاصي و كلنا ذلك لا
تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك
فأحسن الظن بمولاك و تب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك
( إذا أوجعتك الذنوب فداوها ... برفع يد بالليل و الليل مظلم )
( و لا تقنطن من رحمة الله إنما ... قنوطك منها من ذنوبك أعظم )
( فرحمته للمحسنين كرامة ... و رحمته للمذنبين تكرم )
ينبغي لمن يرجو العتق في شهر رمضان من النار أن يأتي بأسباب توجب العتق من
النار و هي متيسرة في هذا الشهر و كان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية
حسناء مزينة يرجو بعتقها العتق من النار و في حديث سلمان الفارسي المرفوع
الذي في صحيح ابن خزيمة : [ من فطر صائما كان عتقا له من النار و من خفف
فيه عن مملوكه كان له عتقا من النار ] و فيه أيضا : [ فاستكثروا فيه من
أربع خصال : خصلتين : ترضون بها ربكم و خصلتين : لا غناء لكم عنهما فأما
الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : شهادة أن لا إله إلا الله و الإستغفار
و أما اللتان لا غناء لكم عنهما : فتسألون الله الجنة و تستعيذون به من
النار ] فهذه الخصال الأربعة المذكورة في الحديث كل منها سبب العتق و
المغفرة : فأما كلمة التوحيد : فإنها تهدم الذنوب و تمحوها محوا و لا تبقي
ذنبا و لا يسبقها عمل و هي تعدل عتق الرقاب الذي يوجب العتق من النار و من
أتى بها أربع مرار حين يصبح و حين يمسي أعتقه الله من النار و من قالها
مخلصا من قلبه حرمه الله على النار و أما كلمة الإستغفار : فمن أعظم أسباب
المغفرة فإن الإستغفار دعاء بالمغفرة و دعاء الصائم مستجاب في حال صيامه و
عند فطره و قد سبق حديث أبي هريرة المرفوع : [ يغفر فيه ـ يعني شهر رمضان
ـ إلا لمن أبى قالوا : يا أبا هريرة و من أبى ؟ قال : من أبى أن يستغفر
الله عز و جل ] قال الحسن : أكثروا من الإستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل
الرحمة و قال لقمان لابنه : يا بني عود لسانك الإستغفار فإن لله ساعات لا
يرد فيهن سائلا و قد جمع الله بين التوحيد و الإستغفار في قوله تعالى : {
فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك } و في بعض الآثار : أن إبليس
قال : أهلكت الناس بالذنوب و أهلكوني بلا إله إلا الله و الإستغفار و
الإستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها فيختم به الصلاة و الحج و قيام الليل
و يختم به المجالس فإن كانت ذكرا كان كالطابع عليها و إن كانت لغوا كان
كفارة لها فكذلك ينبغي أن تختم صيام رمضان بالاستغفار و كتب عمر بن عبد
العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار و صدقة الفطر فإن الفطر
طهرة للصائم من اللغو و الرفث و الإستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو
و الرفث و لهذا قال بعض العلماء المتقدمين : إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي
السهو للصلاة و قال عمر بن عبد العزيز في كتابه قولوا كما قال أبوكم آدم :
{ ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } و
قولوا كما قال نوح عليه السلام : { و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من
الخاسرين } و قولوا كما قال موسى عليه السلام : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر
لي } و قولوا كما قال ذو النون عليه السلام : { سبحانك إني كنت من
الظالمين } و يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : الغيبة تخرق الصيام و
الإستغفار يرقعه فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل و عن ابن
المنكدر معنى ذلك : الصيام جنة من النار ما لم يخرقها و الكلام السيء يخرق
هذه الجنة و الاستغفار يرقع ما تخرق منها فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار
نافع و عمل صالح له شافع كم نخرق صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه و قد اتسع
الخرق على الراقع كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات
القاطع كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر
المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين
مثلنا في عباداتهم ارحموا من حسناته كلها سيئات و طاعاته كلها غفلات
( أستغفر الله من صيامي ... طول زماني و من صلاتي )
( يوم يرى كله خروق ... و صلاته أيما صلاة )
( مستيقظ في الدجى و لكن ... أحسن من يقظتي سنأتي )
و قريب من هذا أمر النبي عليه السلام لعائشة رضي الله عنها في ليلة القدر
بسؤال العفو فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه و قيامه فإذا قرب
فراغه و صادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو كالمسيء المقصر كان
صلة بن أشيم يحي الليل ثم يقول في دعائه عند السحر : اللهم إني أسألك أن
تجيرني من النار و مثلي يجترىء أن يسألك الجنة كان مطرف يقول : اللهم ارض
عنا فأن لم ترض عنا فاعف عنا قال يحيى بن معاذ : ليس بعارف من لم يكن غاية
أمله من الله العفو
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنكم عفو عن الذنب )
أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة و هي حل عقدة الإصرار فمن استغفر بلسانه
و قلبه على المعصية معقود و عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر و يعود
فصومه عليه مردود و باب القبول عنه مسدود قال كعب : من صام رمضان و هو
يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة
و لا حساب و من صام رمضان و هو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه
فصيامه عليه مردود و خرجه مسلمة بن شبيب
( و لولا التقى ثم النهى خشية الردى ... لعاصيت في وقت الصبا كل واجب )
( قضى ما قضى فيما مضى ثم لا يرى ... له عودة أخرى لليالي الغوائب )
و في سنن أبي داود و غيره [ عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : لا يقولن أحدكم : صمت رمضان كله و لا قمت رمضان كله ]
قال أبو بكرة : فلا أدري أكره التزكية أم لا بد من غفلة أين من كان إذا
صام صان الصيام و إذا قام استقام في القيام أحسنوا الإسلام ثم ارحلوا
بسلام ما بقي إلا من إذا صام افتخر بصيامه و صال و إذا قام عجب بقيامه و
قال : كم بين خلى و شجى و واجد و فاقد و كاتم و مبدي و أما سؤال الجنة و
الاستعاذة من النار فمن أهم الدعاء و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [
حولها ندندن ] فالصائم يرجى استجابة دعائه فينبغي أن لا يدعو إلا بأهم
الأمور قال أبو مسلم : ما عرضت لي دعوة إلا صرفتها إلى الاستعاذة من النار
و قال : { لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون }
في الحديث : [ تعرضوا لنفحات رحمة بكم فإن لله نفحات من رحمته ] : { يصيب
به من يشاء من عباده } فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها بدا فإن أعظم
نفحاته مصادفة دعوة الإجابة يسأل العبد فيها الجنة و النجاة من النار
فيجاب سؤاله فيفوز بسعادة الأبد قال الله تعالى : { فمن زحزح عن النار و
أدخل الجنة فقد فاز } و قال : { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير
و شهيق } إلى قوله : { و أما الذين سعدوا ففي الجنة }
( ليس السعيد الذي دنياه تسعده ... إن السعيد الذي ينجى من النار )
عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل و لم يبق منه إلا القليل فمن
منكم أحسن فيه فعليه التمام و من فرط فليختمه بالحسنى و العمل بالختام
فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة و الأيام و استودعوه عملا صالحا
يشهد لكم به عند الملك العلام و ودعوه عند فراقه بأزكى تحية و سلام
( سلام من الرحمن كل أوان ... على خير شهر قد مضى و زمان )
( سلام على الصيام فإنه ... أمان من الرحمن كل أمان )
( لئن فنيت أيامك الغر بغتة ... فما الحزن من قلبي عليك بفان )
لقد ذهبت أيامه و ما أطعتم و كتبت عليكم فيه آثامه و ما أضعتم و كأنكم
بالمشمرين فيه و قد وصلوا و انقطعتم أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم
( ما ضاع من أيامنا هل يعزم ... هيهات و الأزمان كيف تقوم )
( يوم بأرواح تباع و تشترى ... و أخوه ليس يسام فيه درهم )
قلوب المتقنين إلى هذا الشهر تحن و من ألم فراقه تئن
( دهاك الفراق فما تصنع ... أتصبر للبين أم تجزع )
( إذا كنت تبكي وهم جيرة ... فكيف تكون إذا ودعوا )
كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع و هو لا يدري هل بقي له في عمره إليه
رجوع
( تذكرت أياما مضت و لياليا ... خلت فجرت من ذكرهن دموع )
( ألا هل لها يوما من الدهر عودة ... و هل لي إلى يوم الوصال رجوع )
( و هل بعد إعاض الحبيب تواصل ... و هل لبدور قد أفلن طلوع )
أين حرق المجتهدين في نهاره أين قلق المجتهدين في أسحاره فكيف حال من خسر
في أيامه و لياليه ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه و قد عظمت فيه مصيبته و جل
عزاؤه كم نصح المسكين فما قبل النصح كم دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى
الصلح كم شاهد الواصلين فيه و هو متباعد كم مرت به زمر السائرين و هو قاعد
حتى إذا ضاق به الوقت و خاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم و
طلب الإستدراك في وقت العدم
( أتترك من تحب و أنت جار ... و تطلبهم و قد بعد المزار )
( و تبكي بعد نأيهم اشتياقا ... و تسأل في المنازل أين ساروا )
( تركت سؤالهم و هم حضور ... و ترجو أن تخبرك الديار )
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار )
يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تدفق قلوبهم من ألم الفراق تشقق عسى وقفة
للوداع تطفىء من نار الشوق ما أحرق عسى ساعة توبة و إقلاع ترفو من الصيام
كلما تخرق عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق عسى أسير الأوزار يطلق عسى من
استوجب النار يعتق
( عسى و عسى من قبل وقت التفرق ... إلى كل ما ترجو من الخير تلتقى )
( فيجبر مكسور و يقبل تائب ... و يعتق خطاء و يسعد من شقى )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وظائف شوال و فيه مجالس ـ المجلس الأول في صيام شوال كله و
إتباع رمضان
بصيام ستة أيام من شوال
خرج مسلم [ من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر ] ثم
اختلف في هذا الحديث و في العمل به : فمنهم من صححه و منهم من قال : هو
موقوف قاله : ابن عيينة و غيره و إليه يميل الإمام أحمد و منهم من تكلم في
إسناده و أما العمل به فاستحب صيام ستة من شوال أكثر العلماء روي ذلك عن
ابن عباس رضي الله عنهما و طاوس و الشعبي و ميمون بن مهران و هو قول ابن
المبارك و الشافعي و أحمد و اسحاق و أنكر ذلك آخرون و روي عن الحسن أنه
كان إذا ذكر عنده صيام هذه الستة قال : لقد رضي الله بهذا الشهر لسنة كلها
و لعله إنما أنكر على من اعتقد وجوب صيامها و أنه لا يكتفي بصيام رمضان
عنها في الوجوب و ظاهر كلامه يدل على هذا و كرهها الثوري و أبو حنيفة و
أبو يوسف و علل أصحابهما ذلك مشابهة أهل الكتاب يعنون في الزيادة في صيامه
المفروض عليهم ما ليس منه و أكثر المتأخرين من مشايخهم قالوا : لا بأس به
و عللوا أن الفطر قد حصل بفطر يوم العيد حكى ذلك صاحب الكافي منهم و كان
مهدي يكرهها و لا ينهى عنها و كرهها أيضا مالك و ذكر في الموطأ : أنه لم
ير أحدا من أهل العلم يفعل ذلك و قد قيل : إنه كان يصومها في نفسه و إنما
كرهها على وجه يخشى منه أن يعتقد فريضتها لئلا يزاد في رمضان ما ليس منه
و أما الذين استحبوا صيامها فاختلفوا في صيامها على ثلاثة أقوال : أحدها :
أنه يستحب صيامها من أول الشهر متتابعة و هو قول الشافعي و ابن المبارك و
قد روي [ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : من صام ستة أيام بعد
الفطر متتابعة فكأنما صام السنة ] خرجه الطبراني و غيره من طرق ضعيفة و
روي مرفوعا و روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله بمعناه بإسناد ضعيف
أيضا و الثاني : إنه لا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها من الشهر كله و هما
سواء و هو قول وكيع و أحمد و الثالث : أنها لا تصام عقب يوم الفطر فإنها
أيام أكل و شرب و لكن يصام ثلاثة أيام قبل أيام البيض و أيام البيض أو
بعدها و هذا قول معمر و عبد الرزاق و روي عن عطاء حتى روي عنه أنه كره لمن
عليه صيام من قضاء رمضان أن يصومه ثم يصله بصيام تطوع و أمر بالفطر بينهما
و هو قول شاذ و أكثر العلماء على : أنه لا يكره صيام ثاني يوما لفطر و قد
دل عليه [ حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه قال لرجل : إذا أفطرت فصم ] و قد ذكرناه في صيام آخر شعبان و قد سرد
طائفة من الصحابة و التابعين الصوم إلا يوم الفطر و الأضحى و قد روي عن أم
سلمة أنها كانت تقول لأهلها من كان عليه رمضان فليصمه الغد من يوم الفطر
فمن صام الغد من يوم الفطر فكأنما صام رمضان و في إسناده ضعف و عن الشعبي
قال : لإن أصوم يوما بعد رمضان أحب إلي من أن أصوم الدهر كله و يروى
بإسناد ضعيف [ عن أين عمر مرفوعا : من صام بعد الفطر يوما فكأنما صام
السنة ] و بإسناده ضعف [ عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : الصائم بعد
رمضان كالكار بعد الفار ]
و أما صيام شوال كله : ففي حديث رجل من
قريش سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ من صام رمضان و شوالا و
الأربعاء و الخميس دخل الجنة ] و خرجه الإمام أحمد و النسائي و خرج الإمام
أحمد و أبو داود و النسائي و الترمذي [ من حديث مسلم القرشي عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه سئل عن صيام الدهر ؟ فقال : إن لأهلك عليك حقا فصم
رمضان و الذي يليه و كل أربعة و خميس فإذا أنت قد صمت الدهر و أفطرت ] و
خرج ابن ماجه بإسناد منقطع أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فقال له
رسول الله صلى الله عليه و سلم [ صم شوالا ] فترك الأشهر الحرم لم يزل
يصوم شوالا حتى مات و خرجه أبو يعلى الموصلي بإسناد متصل عن أسامة قال كنت
أصوم شهرا من السنة فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أين أنت من
شوال ] فكان أسامة إذا أفطر أصبح الغد صائما من شوال حتى يأتي على آخره و
صيام شوال كصيام شعبان لأن كلا الشهرين حريم لشهر رمضان و هما يليانه و قد
ذكرنا في فضل صيام شعبان أن الأظهر أن صيامهما أفضل من صيام الأشهر الحرم
و الإختلاف في ذلك و إنما كان صيام رمضان و اتباعه بست من شوال يعدل صيام
الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها و قد جاء ذلك مفسرا [ من حديث ثوبان رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام رمضان بعشرة أشهر و
صيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام سنة ] يعني رمضان و ستة أيام من شوال بعده
خرجه الإمام أحمد و النسائي و هذا لفظه و ابن حبان في صحيحه و صححه أبو
حاتم الرازي و قال الإمام أحمد : ليس في حديث الرازي أصح منه و توقف فيه
في رواية أخرى و لا فرق في ذلك بين أن يكون شهر رمضان ثلاثين أو تسعا و
عشرين و على هذا حمل بعضهم قول النبي صلى الله عليه و سلم [ شهرا عيد لا
ينقصان رمضان و ذو الحجة ] و قال : المراد كمال آخره سواء كان ثلاثين أو
تسعا و عشرين و أنه اتبع بستة أيام من شوال فإنه يعدل صيام الدهر على كل
حال و كره إسحاق ابن راهويه أن يقال لشهر رمضان : أنه ناقص و إن كان تسعا
و عشرين لهذا المعنى فإن قال قائل : فلو صام هذه الستة أيام من غير شوال
يحصل له هذا الفضل ؟ فكيف خص صيامها من شوال ؟ قيل : صيامها من شوال يلتحق
بصيام رمضان في الفضل فيكون له أجر صيام الدهر فرضا ذكر ذلك ابن المبارك و
ذكر : أنه في بعض الحديث حكاه الترمذي في جامعه و لعله أشار إلى ما روي عن
أم سلمة رضي الله عنها : أن من صام الغد من يوم الفطر فكأنما صام رمضان
و في معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة : منها : أن صيام ستة أيام من
شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله كما سبق و منها : أن صيام
شوال و شعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة و بعدها فيكمل بذلك
ما حصل في الفرض من خلل و نقص فإن الفرائض تجبر أو تكمل بالنوافل يوم
القيامة كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة و أكثر
الناس في صيامه للفرض نقص و خلل فيحتاج إلى ما يجبره و يكمله من الأعمال و
لهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن يقول الرجل صمت رمضان كله أو
قمته كله ] قال الصحابي فلا أدري أكره التزكية أم لا بد من الغفلة و كان
عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول : من لم يجد ما يتصدق به فليصم يعني من
لم يجد ما يخرجه صدقة الفطر في آخر رمضان فليصم بعد الفطر فإن الصيام يقوم
مقام الإطعام في التكفير للسيئات كما يقوم مقامه في كفارات الإيمان و
غيرها من الكفارات في مثل كفارات القتل و الوطء في رمضان و الظهار و منها
: أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان فإن الله إذا
تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده كما قال بعضهم : ثواب الحسنة الحسنة
بعدها فمن عمل حسنة ثم اتبعها بعد بحسنة كان ذلك علامة على قبول الحسنة
الأولى كما أن من عمل حسنة ثم اتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة و عدم
قبولها و منها : أن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب كما سبق ذكره
و أن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر و هو يوم الجوائز فيكون
معاودة الصيام بعد الفطر شكرا لهذه النعمة فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب
[ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقوم حتى تتورم قدماه فيقال له : أتفعل
هذا و قد غفر الله لك ماتقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا
شكورا ] و قد أمر الله سبحانه و تعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار
ذكره و غير ذلك من أنواع شكره فقال : { و لتكملوا العدة و لتكبروا الله
على ما هداكم و لعلكم تشكرون } فمن جملة شكر العبد لربه على توقيفه لصيام
رمضان و إعانته عليه و مغفرة ذنوبه أن يصوم له شكرا عقب ذلك كان بعض السلف
إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهاره صائما و يجعل صيامه شكرا
للتوفيق للقيام و كان وهب بن الورد يسئل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف و
نحوه ؟ فيقول : لا تسألوا عن ثوابه و لكن اسألوا ما الذي على من وفق لهذا
العمل من الشكر للتوفيق و الإعانة عليه
( إذا أنت لم تزدد على كل نعمة ... لموليكها شكرا فلست بشاكر )
على كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها ثم
للتوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان ثم التوفيق للشكر الثاني
نعمة أخرى يحتاج إلى شكر أخر و هكذا أبدا فلا يقدر العبد غلى القيام بشكر
النعم و حقيقة الشكر الإعتراف بالعجز عن الشكر كما قيل :
( إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر )
( فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... و إن طالت الأيام و اتصل العمر )
قال أبو عمر الشيباني : قال موسى عليه السلام يوم الطور : يا رب إن أنا
صليت فمن قبلك و إن أنا تصدقت فمن قبلك و إن بلغت رسالاتك فمن قبلك فكيف
أشكرك ؟ قال : يا موسى الآن شكرتني فأما مقابلة نعمة التوفيق كصيام شهر
رمضان بارتكاب المعاصي بعده فهو من فعل من بدل نعمة الله كفرا فإن كان قد
عزم في صيامه على معاودة المعاصي بعد انقضاء الصيام فصيامه عليه مردود و
باب الرحمة في وجهه مسدود قال كعب : من صام رمضان و هو يحدث نفسه إذا أفطر
من رمضان لم يعص الله دخل الجنة بغير مسألة و لا حساب و من صام رمضان و هو
يحدث نفسه إذا أفطر عصى ربه فصيامه عليه مردود و منها أن الأعمال التي كان
العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان بل هي باقية
بعد انقضائه ما دام العبد حيا و هذا معنى الحديث المتقدم : أن الصائم بعد
رمضان كالكار بعد الفار يعني كالذي يفر من القتال في سبيل الله ثم يعود
إليه و ذلك لأن كثيرا من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان لاستثقال الصيام و
ملله و طوله عليه و من كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصيام سريعا فالعائد
إلى الصيام بعد فطره يوم الفطر يدل عوده على رغبته في الصيام و أنه لم
يمله و لم يستثقله و لا تكره به و في حديث خرجه الترمذي مرفوعا : [ أحب
الأعمال إلى الله الحال المرتحل ] و فسر بصاحب القرآن يضرب من أوله إلى
آخره و من آخره إلى أوله كلما حل ارتحل و العائد إلى الصيام سريعا بعد
فراغ صيامه شبيه بقارىء القرآن إذا فرغ من قراءته ثم عاد في المعنى و الله
أعلم و قيل لبشر : إن قوما يتعبدون و يجتهدون في رمضان فقال : بئس القوم
لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان إن الصالح الذي يتعبد و يجتهد السنة
كلها سئل الشبلي : أيما أفضل رجب أم شعبان ؟ فقال : كن ربانيا و لا تكن
شعبانيا كان النبي صلى الله عليه و سلم عمله ديمة و سئلت عائشة رضي الله
عنها : هل كان يخص يوما من الأيام ؟ فقالت : لا كان عمله ديمة و قالت :
كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يزيد في رمضان و لا غيره على إحدى عشرة
ركعة و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يقضي ما فاته من أوراده في رمضان
في شوال فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ثم قضاه في شوال
فاعتكف العشر الأول منه و سأل رجل أهل صام من شهر شعبان في شوال و قد تقدم
عن أم سلمة أنها كانت تأمر أهلها من كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ أن
يقضيه الغد من يوم الفطر فمن كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ بقضائه في
شوال فإنه أسرع لبراءة ذمته و هو أولى من التطوع بصيام ستة من شوال فإن
العلماء اختلفوا فيمن عليه صيام مفروض هل يجوز أن يتطوع قبله أو لا و على
قول من جوز التطوع قبل القضاء فلا يحصل مقصود صيام ستة أيام من شوال إلا
لمن أكمل صيام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فمن كان عليه قضاء من رمضان ثم
بدأ بصيام ست من شوال حيث لم يكمل عدة رمضان لم يحصل له ثواب من صام رمضان
ثم أتبعه بست من شوال كما لا يحصل لمن أفطر رمضان لعذر بصيام ستة من شوال
آخر صيام السنة بغير إشكال و من بدأ بالقضاء في شوال ثم أراد أن يتبع ذلك
بصيام ستة من شوال بعد تكمله قضاء رمضان كان حسنا لأنه يصير حينئذ قد صام
رمضان و أتبعه بست من شوال و لا يحصل له فضل صيام ست من شوال بصوم قضاء
رمضان لأن صيام الست من شوال إنما تكون بعد إكمال عدة رمضان عمل المؤمن لا
ينقضي حتى يأتيه أجله قال الحسن : إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون
الموت ثم قرأ : { و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين } هذه الشهور و الأعوام و
الليالي و الأيام كلها مقادير الآجال و مواقيت الأعمال ثم تنقضي سريعا و
تمضي جميعا و الذي أوجدها و ابتدعها و خصها بالفضائل و أودعها باق لا يزول
و دائم لا يحول هو في جميع الأوقات إله واحد و لأعمال عباده رقيب مشاهد
فسبحان من قلب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم يسبغ عليهم فيها
فواضل النعم و يعاملهم بنهاية الجود و الكرم لما انقضت الأشهر الحرم
الثلاثة الكرام التي أولها الشهر الحرام و آخر شهر الصيام أقبلت الأشهر
الثلاثة أشهر الحج إلى بيت الله الحرام فكما أن من صام رمضان و قامه غفر
له ما تقدم من ذنبه فمن حج البيت و لم يرفث و لم يفسق رجع من ذنوبه كيوم
ولدته أمه فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا و الله فيها عليه
وظيفة من وظائف الطاعات فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف و يتقرب بها إلى
مولاه و هو راج خائف المحب لا يمل من التقرب بالنوافل إلى مولاه و لا يأمل
إلا قربه و رضاه
( ما للمحب سوى إرادة حبه ... إن المحب بكل أمر يضرع )
كل وقت يخيله العبد من طاعة مولاه فقد خسره و كل ساعة يغفل فيها عن ذكر
الله تكون عليه يوم القيامة ترة فوا أسفاه على زمان ضاع في غير طاعته و
واحسرتاه على قلب بات في غير خدمته
( من فاته أن يراك يوما ... فكل أوقاته فوات )
( و حيثما كنت من بلاد ... فلى إلى وجهك التفات )
( إليكم هجرتي و قصدي ... و أنتم الموت و الحياة )
( أمنت أن توحشوا فؤادي ... فآنسوا مقتلي و لات )
من عمل طاعة من الطاعات و فرغ منها فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى و
علامة ردها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها و
أحسن منها بعد الحسنة تتلوها و ما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها و تعفوها
ذنب واحد بعد التوبة أقبح من سبعين ذنبا قبلها النكسة أصعب من الضعفة و
ربما أهلكت سلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات و تعوذوا به من تقلب
لقلوب و من الحور بعد الكور و ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة و أوحش
منه فقر الطمع بعد غنى القناعة ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل و غني قوم
بالذنوب افتقر
( ترى الحي الأولى بانوا ... على العهد كما كانوا )
( أم الدهر بهم خانوا ... و دهر المرء خوان )
( إذا عز بغير الله يو ... ما شر هانوا )
يا شبان التوبة لاترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام فالرضاع إنما
يصلح للأطفال لا للرجال و لكن لا بد من الصبر على مرارة الفطام فإن صبرتم
تعوضتم عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب من ترك شيئا لله لم يجد
فقده عوضه الله خيرا منه : { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما
أخذ منكم و يغفر لكم } و في الحديث : [ النظر سهم مسموم من سهام إبليس من
تركه من خوف الله أعطاه إيمانا يجد حلاوته في قلبه ] خرجه الإمام أحمد و
هذا الخطاب للشباب فأما الشيخ إذا عاود المعاصي بعد انقضاء رمضان فهو أقبح
و أقبح لأن الشباب يؤمل معاودة التوبة في آخر عمره و هو مخاطر فإن الموت
قد يعاجله و قد يطرقه بغتة و أما الشيخ فقد شارف مركبه على ساحل بحر
المنون فماذا يؤمل
( نعى لك ظل الشباب المشيب ... و نادتك باسم سواك الخطوب )
( فكن مستعدا لداعي الفناء ... فكل الذي هو آت قريب )
( ألسنا نرى شهوات النفو ... س تفنى و تبقى علينا الذنوب )
( يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف يكون الذي لا يتوب )
إتباع رمضان
بصيام ستة أيام من شوال
خرج مسلم [ من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر ] ثم
اختلف في هذا الحديث و في العمل به : فمنهم من صححه و منهم من قال : هو
موقوف قاله : ابن عيينة و غيره و إليه يميل الإمام أحمد و منهم من تكلم في
إسناده و أما العمل به فاستحب صيام ستة من شوال أكثر العلماء روي ذلك عن
ابن عباس رضي الله عنهما و طاوس و الشعبي و ميمون بن مهران و هو قول ابن
المبارك و الشافعي و أحمد و اسحاق و أنكر ذلك آخرون و روي عن الحسن أنه
كان إذا ذكر عنده صيام هذه الستة قال : لقد رضي الله بهذا الشهر لسنة كلها
و لعله إنما أنكر على من اعتقد وجوب صيامها و أنه لا يكتفي بصيام رمضان
عنها في الوجوب و ظاهر كلامه يدل على هذا و كرهها الثوري و أبو حنيفة و
أبو يوسف و علل أصحابهما ذلك مشابهة أهل الكتاب يعنون في الزيادة في صيامه
المفروض عليهم ما ليس منه و أكثر المتأخرين من مشايخهم قالوا : لا بأس به
و عللوا أن الفطر قد حصل بفطر يوم العيد حكى ذلك صاحب الكافي منهم و كان
مهدي يكرهها و لا ينهى عنها و كرهها أيضا مالك و ذكر في الموطأ : أنه لم
ير أحدا من أهل العلم يفعل ذلك و قد قيل : إنه كان يصومها في نفسه و إنما
كرهها على وجه يخشى منه أن يعتقد فريضتها لئلا يزاد في رمضان ما ليس منه
و أما الذين استحبوا صيامها فاختلفوا في صيامها على ثلاثة أقوال : أحدها :
أنه يستحب صيامها من أول الشهر متتابعة و هو قول الشافعي و ابن المبارك و
قد روي [ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : من صام ستة أيام بعد
الفطر متتابعة فكأنما صام السنة ] خرجه الطبراني و غيره من طرق ضعيفة و
روي مرفوعا و روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله بمعناه بإسناد ضعيف
أيضا و الثاني : إنه لا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها من الشهر كله و هما
سواء و هو قول وكيع و أحمد و الثالث : أنها لا تصام عقب يوم الفطر فإنها
أيام أكل و شرب و لكن يصام ثلاثة أيام قبل أيام البيض و أيام البيض أو
بعدها و هذا قول معمر و عبد الرزاق و روي عن عطاء حتى روي عنه أنه كره لمن
عليه صيام من قضاء رمضان أن يصومه ثم يصله بصيام تطوع و أمر بالفطر بينهما
و هو قول شاذ و أكثر العلماء على : أنه لا يكره صيام ثاني يوما لفطر و قد
دل عليه [ حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه قال لرجل : إذا أفطرت فصم ] و قد ذكرناه في صيام آخر شعبان و قد سرد
طائفة من الصحابة و التابعين الصوم إلا يوم الفطر و الأضحى و قد روي عن أم
سلمة أنها كانت تقول لأهلها من كان عليه رمضان فليصمه الغد من يوم الفطر
فمن صام الغد من يوم الفطر فكأنما صام رمضان و في إسناده ضعف و عن الشعبي
قال : لإن أصوم يوما بعد رمضان أحب إلي من أن أصوم الدهر كله و يروى
بإسناد ضعيف [ عن أين عمر مرفوعا : من صام بعد الفطر يوما فكأنما صام
السنة ] و بإسناده ضعف [ عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : الصائم بعد
رمضان كالكار بعد الفار ]
و أما صيام شوال كله : ففي حديث رجل من
قريش سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ من صام رمضان و شوالا و
الأربعاء و الخميس دخل الجنة ] و خرجه الإمام أحمد و النسائي و خرج الإمام
أحمد و أبو داود و النسائي و الترمذي [ من حديث مسلم القرشي عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه سئل عن صيام الدهر ؟ فقال : إن لأهلك عليك حقا فصم
رمضان و الذي يليه و كل أربعة و خميس فإذا أنت قد صمت الدهر و أفطرت ] و
خرج ابن ماجه بإسناد منقطع أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فقال له
رسول الله صلى الله عليه و سلم [ صم شوالا ] فترك الأشهر الحرم لم يزل
يصوم شوالا حتى مات و خرجه أبو يعلى الموصلي بإسناد متصل عن أسامة قال كنت
أصوم شهرا من السنة فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أين أنت من
شوال ] فكان أسامة إذا أفطر أصبح الغد صائما من شوال حتى يأتي على آخره و
صيام شوال كصيام شعبان لأن كلا الشهرين حريم لشهر رمضان و هما يليانه و قد
ذكرنا في فضل صيام شعبان أن الأظهر أن صيامهما أفضل من صيام الأشهر الحرم
و الإختلاف في ذلك و إنما كان صيام رمضان و اتباعه بست من شوال يعدل صيام
الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها و قد جاء ذلك مفسرا [ من حديث ثوبان رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام رمضان بعشرة أشهر و
صيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام سنة ] يعني رمضان و ستة أيام من شوال بعده
خرجه الإمام أحمد و النسائي و هذا لفظه و ابن حبان في صحيحه و صححه أبو
حاتم الرازي و قال الإمام أحمد : ليس في حديث الرازي أصح منه و توقف فيه
في رواية أخرى و لا فرق في ذلك بين أن يكون شهر رمضان ثلاثين أو تسعا و
عشرين و على هذا حمل بعضهم قول النبي صلى الله عليه و سلم [ شهرا عيد لا
ينقصان رمضان و ذو الحجة ] و قال : المراد كمال آخره سواء كان ثلاثين أو
تسعا و عشرين و أنه اتبع بستة أيام من شوال فإنه يعدل صيام الدهر على كل
حال و كره إسحاق ابن راهويه أن يقال لشهر رمضان : أنه ناقص و إن كان تسعا
و عشرين لهذا المعنى فإن قال قائل : فلو صام هذه الستة أيام من غير شوال
يحصل له هذا الفضل ؟ فكيف خص صيامها من شوال ؟ قيل : صيامها من شوال يلتحق
بصيام رمضان في الفضل فيكون له أجر صيام الدهر فرضا ذكر ذلك ابن المبارك و
ذكر : أنه في بعض الحديث حكاه الترمذي في جامعه و لعله أشار إلى ما روي عن
أم سلمة رضي الله عنها : أن من صام الغد من يوم الفطر فكأنما صام رمضان
و في معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة : منها : أن صيام ستة أيام من
شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله كما سبق و منها : أن صيام
شوال و شعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة و بعدها فيكمل بذلك
ما حصل في الفرض من خلل و نقص فإن الفرائض تجبر أو تكمل بالنوافل يوم
القيامة كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة و أكثر
الناس في صيامه للفرض نقص و خلل فيحتاج إلى ما يجبره و يكمله من الأعمال و
لهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن يقول الرجل صمت رمضان كله أو
قمته كله ] قال الصحابي فلا أدري أكره التزكية أم لا بد من الغفلة و كان
عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول : من لم يجد ما يتصدق به فليصم يعني من
لم يجد ما يخرجه صدقة الفطر في آخر رمضان فليصم بعد الفطر فإن الصيام يقوم
مقام الإطعام في التكفير للسيئات كما يقوم مقامه في كفارات الإيمان و
غيرها من الكفارات في مثل كفارات القتل و الوطء في رمضان و الظهار و منها
: أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان فإن الله إذا
تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده كما قال بعضهم : ثواب الحسنة الحسنة
بعدها فمن عمل حسنة ثم اتبعها بعد بحسنة كان ذلك علامة على قبول الحسنة
الأولى كما أن من عمل حسنة ثم اتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة و عدم
قبولها و منها : أن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب كما سبق ذكره
و أن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر و هو يوم الجوائز فيكون
معاودة الصيام بعد الفطر شكرا لهذه النعمة فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب
[ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقوم حتى تتورم قدماه فيقال له : أتفعل
هذا و قد غفر الله لك ماتقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا
شكورا ] و قد أمر الله سبحانه و تعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار
ذكره و غير ذلك من أنواع شكره فقال : { و لتكملوا العدة و لتكبروا الله
على ما هداكم و لعلكم تشكرون } فمن جملة شكر العبد لربه على توقيفه لصيام
رمضان و إعانته عليه و مغفرة ذنوبه أن يصوم له شكرا عقب ذلك كان بعض السلف
إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهاره صائما و يجعل صيامه شكرا
للتوفيق للقيام و كان وهب بن الورد يسئل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف و
نحوه ؟ فيقول : لا تسألوا عن ثوابه و لكن اسألوا ما الذي على من وفق لهذا
العمل من الشكر للتوفيق و الإعانة عليه
( إذا أنت لم تزدد على كل نعمة ... لموليكها شكرا فلست بشاكر )
على كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها ثم
للتوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان ثم التوفيق للشكر الثاني
نعمة أخرى يحتاج إلى شكر أخر و هكذا أبدا فلا يقدر العبد غلى القيام بشكر
النعم و حقيقة الشكر الإعتراف بالعجز عن الشكر كما قيل :
( إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر )
( فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... و إن طالت الأيام و اتصل العمر )
قال أبو عمر الشيباني : قال موسى عليه السلام يوم الطور : يا رب إن أنا
صليت فمن قبلك و إن أنا تصدقت فمن قبلك و إن بلغت رسالاتك فمن قبلك فكيف
أشكرك ؟ قال : يا موسى الآن شكرتني فأما مقابلة نعمة التوفيق كصيام شهر
رمضان بارتكاب المعاصي بعده فهو من فعل من بدل نعمة الله كفرا فإن كان قد
عزم في صيامه على معاودة المعاصي بعد انقضاء الصيام فصيامه عليه مردود و
باب الرحمة في وجهه مسدود قال كعب : من صام رمضان و هو يحدث نفسه إذا أفطر
من رمضان لم يعص الله دخل الجنة بغير مسألة و لا حساب و من صام رمضان و هو
يحدث نفسه إذا أفطر عصى ربه فصيامه عليه مردود و منها أن الأعمال التي كان
العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان بل هي باقية
بعد انقضائه ما دام العبد حيا و هذا معنى الحديث المتقدم : أن الصائم بعد
رمضان كالكار بعد الفار يعني كالذي يفر من القتال في سبيل الله ثم يعود
إليه و ذلك لأن كثيرا من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان لاستثقال الصيام و
ملله و طوله عليه و من كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصيام سريعا فالعائد
إلى الصيام بعد فطره يوم الفطر يدل عوده على رغبته في الصيام و أنه لم
يمله و لم يستثقله و لا تكره به و في حديث خرجه الترمذي مرفوعا : [ أحب
الأعمال إلى الله الحال المرتحل ] و فسر بصاحب القرآن يضرب من أوله إلى
آخره و من آخره إلى أوله كلما حل ارتحل و العائد إلى الصيام سريعا بعد
فراغ صيامه شبيه بقارىء القرآن إذا فرغ من قراءته ثم عاد في المعنى و الله
أعلم و قيل لبشر : إن قوما يتعبدون و يجتهدون في رمضان فقال : بئس القوم
لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان إن الصالح الذي يتعبد و يجتهد السنة
كلها سئل الشبلي : أيما أفضل رجب أم شعبان ؟ فقال : كن ربانيا و لا تكن
شعبانيا كان النبي صلى الله عليه و سلم عمله ديمة و سئلت عائشة رضي الله
عنها : هل كان يخص يوما من الأيام ؟ فقالت : لا كان عمله ديمة و قالت :
كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يزيد في رمضان و لا غيره على إحدى عشرة
ركعة و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يقضي ما فاته من أوراده في رمضان
في شوال فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ثم قضاه في شوال
فاعتكف العشر الأول منه و سأل رجل أهل صام من شهر شعبان في شوال و قد تقدم
عن أم سلمة أنها كانت تأمر أهلها من كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ أن
يقضيه الغد من يوم الفطر فمن كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ بقضائه في
شوال فإنه أسرع لبراءة ذمته و هو أولى من التطوع بصيام ستة من شوال فإن
العلماء اختلفوا فيمن عليه صيام مفروض هل يجوز أن يتطوع قبله أو لا و على
قول من جوز التطوع قبل القضاء فلا يحصل مقصود صيام ستة أيام من شوال إلا
لمن أكمل صيام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فمن كان عليه قضاء من رمضان ثم
بدأ بصيام ست من شوال حيث لم يكمل عدة رمضان لم يحصل له ثواب من صام رمضان
ثم أتبعه بست من شوال كما لا يحصل لمن أفطر رمضان لعذر بصيام ستة من شوال
آخر صيام السنة بغير إشكال و من بدأ بالقضاء في شوال ثم أراد أن يتبع ذلك
بصيام ستة من شوال بعد تكمله قضاء رمضان كان حسنا لأنه يصير حينئذ قد صام
رمضان و أتبعه بست من شوال و لا يحصل له فضل صيام ست من شوال بصوم قضاء
رمضان لأن صيام الست من شوال إنما تكون بعد إكمال عدة رمضان عمل المؤمن لا
ينقضي حتى يأتيه أجله قال الحسن : إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون
الموت ثم قرأ : { و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين } هذه الشهور و الأعوام و
الليالي و الأيام كلها مقادير الآجال و مواقيت الأعمال ثم تنقضي سريعا و
تمضي جميعا و الذي أوجدها و ابتدعها و خصها بالفضائل و أودعها باق لا يزول
و دائم لا يحول هو في جميع الأوقات إله واحد و لأعمال عباده رقيب مشاهد
فسبحان من قلب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم يسبغ عليهم فيها
فواضل النعم و يعاملهم بنهاية الجود و الكرم لما انقضت الأشهر الحرم
الثلاثة الكرام التي أولها الشهر الحرام و آخر شهر الصيام أقبلت الأشهر
الثلاثة أشهر الحج إلى بيت الله الحرام فكما أن من صام رمضان و قامه غفر
له ما تقدم من ذنبه فمن حج البيت و لم يرفث و لم يفسق رجع من ذنوبه كيوم
ولدته أمه فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا و الله فيها عليه
وظيفة من وظائف الطاعات فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف و يتقرب بها إلى
مولاه و هو راج خائف المحب لا يمل من التقرب بالنوافل إلى مولاه و لا يأمل
إلا قربه و رضاه
( ما للمحب سوى إرادة حبه ... إن المحب بكل أمر يضرع )
كل وقت يخيله العبد من طاعة مولاه فقد خسره و كل ساعة يغفل فيها عن ذكر
الله تكون عليه يوم القيامة ترة فوا أسفاه على زمان ضاع في غير طاعته و
واحسرتاه على قلب بات في غير خدمته
( من فاته أن يراك يوما ... فكل أوقاته فوات )
( و حيثما كنت من بلاد ... فلى إلى وجهك التفات )
( إليكم هجرتي و قصدي ... و أنتم الموت و الحياة )
( أمنت أن توحشوا فؤادي ... فآنسوا مقتلي و لات )
من عمل طاعة من الطاعات و فرغ منها فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى و
علامة ردها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها و
أحسن منها بعد الحسنة تتلوها و ما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها و تعفوها
ذنب واحد بعد التوبة أقبح من سبعين ذنبا قبلها النكسة أصعب من الضعفة و
ربما أهلكت سلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات و تعوذوا به من تقلب
لقلوب و من الحور بعد الكور و ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة و أوحش
منه فقر الطمع بعد غنى القناعة ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل و غني قوم
بالذنوب افتقر
( ترى الحي الأولى بانوا ... على العهد كما كانوا )
( أم الدهر بهم خانوا ... و دهر المرء خوان )
( إذا عز بغير الله يو ... ما شر هانوا )
يا شبان التوبة لاترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام فالرضاع إنما
يصلح للأطفال لا للرجال و لكن لا بد من الصبر على مرارة الفطام فإن صبرتم
تعوضتم عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب من ترك شيئا لله لم يجد
فقده عوضه الله خيرا منه : { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما
أخذ منكم و يغفر لكم } و في الحديث : [ النظر سهم مسموم من سهام إبليس من
تركه من خوف الله أعطاه إيمانا يجد حلاوته في قلبه ] خرجه الإمام أحمد و
هذا الخطاب للشباب فأما الشيخ إذا عاود المعاصي بعد انقضاء رمضان فهو أقبح
و أقبح لأن الشباب يؤمل معاودة التوبة في آخر عمره و هو مخاطر فإن الموت
قد يعاجله و قد يطرقه بغتة و أما الشيخ فقد شارف مركبه على ساحل بحر
المنون فماذا يؤمل
( نعى لك ظل الشباب المشيب ... و نادتك باسم سواك الخطوب )
( فكن مستعدا لداعي الفناء ... فكل الذي هو آت قريب )
( ألسنا نرى شهوات النفو ... س تفنى و تبقى علينا الذنوب )
( يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف يكون الذي لا يتوب )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثاني في ذكر الحج و فضله و الحث عليه
في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : أفضل الأعمال إيمان بالله و رسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور
] هذه الأعمال الثلاثة ترجع في الحقيقة إلى عملين : أحدهما : الإيمان
بالله و رسوله و هو التصديق الجازم بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم
الآخر كما فسر النبي صلى الله عليه و سلم الإيمان بذلك في سؤال جبريل و في
غيره من الأحاديث و قد ذكر الله تعالى الإيمان بهذه الأصول في مواضع كثيرة
من كتابه كأول البقرة و وسطها و آخرها و العمل الثاني : الجهاد في سبيل
الله تعالى و قد جمع الله بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه كقوله تعالى
: { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون
بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم } الآية و في
قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا
بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } و قد صح عن النبي صلى
الله عليه و سلم من غير وجه : [ أن أفضل الأعمال : الإيمان بالله و الجهاد
في سبيل الله ] فالإيمان المجرد يدخل فيه الجوارح عند السلف و أهل الحديث
و الإيمان المقرون بالعمل يراد به التصديق مع القول و خصوصا إن قرن
الإيمان بالله بالإيمان برسوله كما في هذا الحديث فالإيمان القائم بالقلوب
أصل كل خير و هو خير ما أوتيه العبد في الدنيا و الآخرة و به يحصل له
سعادة الدنيا و الآخرة و النجاة من شقاوة الدنيا و الآخرة و متى رسخ
الإيمان في القلب انبعثت الجوارح كلها بالأعمال الصالحة و اللسان بالكلام
الطيب كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا و إن في الجسد مضغة إذا
صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب ] و لا صلاح
للقلب بدون الإيمان بالله و ما يدخل في مسماه من معرفة الله و توحيده و
خشيته و محبته و رجائه و إجابته و الإنابة إليه و التوكل عليه قال الحسن :
ليس الإيمان بالتمني و لا بالتحلي و لكنه بما وقر في الصدور و صدقته
الأعمال و يشهد لذلك قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله
وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون *
الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا } و في
هذا يقول بعضهم :
( ما كل من زوق لي قوله ... يغرني يا صاح تزويقه )
( من حقق الإيمان في قلبه ... لا بد أن يظهر تحقيقه )
فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان و وجد طعمه و حلاوته ظهر ثمرة ذلك على لسانه
و جوارحه فاستحلى اللسان ذكر الله و ما والاه و سرعت الجوارح إلى طاعة
الله فحينئذ يدخل حب الإيمان في القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد
برده في اليوم الشديد حره للظمآن الشديد عطشه و يصير الخروج من الإيمان
أكره إلى القلوب من الإلقاء في النار و أمر عليها من الصبر ذكر ابن
المبارك عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه دخل المدينة فقال لهم : ما لي لا
أرى عليكم يا أهل المدينة حلاوة الإيمان و الذي نفسي بيده لو أن دب الغابة
وجد طعم الإيمان لرؤي عليه حلاوة الإيمان
( لو ذاق طعم الإيمان رضوى ... لكاد من جوده يميد )
( قد حملوني تكليف عهد ... يعجز عن حمله الحديد )
فالإيمان بالله و رسوله وظيفة القلب و اللسان ثم يتبعهما عمل الجوارح و
أفضلها الجهاد في سبيل الله و هو نوعان : أفضلهما : جهاد المؤمن بعدوه
الكافر و قتاله في سبيل الله : فإن فيه دعوة له إلى الإيمان بالله و رسوله
ليدخل في الإيمان قال الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله } قال أبو هريرة رضي الله عنه
في هذه الآية : يجيئون بهم في السلاسل حتى يدخلونهم الجنة و في الحديث
المرفوع : [ عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ] فالجهاد في سبيل
الله دعاء الخلق إلى الإيمان بالله و رسوله بالسيف و اللسان بعد دعائهم
إليه بالحجة و البرهان و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم في أول الأمر
لا يقاتل قوما حتى يدعوهم فالجهاد به تعلو كلمة الإيمان و تتسع رقعة
الإسلام و يكثر الداخلون فيه و هو وظيفة الرسل و أتباعهم و به تصير كلمة
الله هي العليا و المقصود منه أن يكون الدين كله لله و الطاعة له كما قال
تعالى : { و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله } و المجاهد
في سبيل الله هو المقاتل لتكون كلمة الله هي العليا خاصة و النوع الثاني
من الجهاد : جهاد النفس في طاعة الله كما قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ المجاهد من جاهد نفسه في الله ] و قال بعض الصحابة لمن سأله عن الغزو ؟
: ابدأ بنفسك فاغزها و ابدأ بنفسك فجاهدها و أعظم مجاهدة النفس على طاعة
الله عمارة بيوته بالذكر و الطاعة قال الله تعالى : { إنما يعمر مساجد
الله من آمن بالله و اليوم الآخر و أقام الصلاة و آتى الزكاة و لم يخش إلا
الله } و في حديث أبي سعيد الخدري المرفوع : [ إذا رأيتم الرجل يعتاد
المسجد فاشهدوا له بالإيمان ثم تلا الآية ] خرجه الإمام أحمد و الترمذي و
ابن ماجه و قال الله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه
يسبح له فيها بالغدو و الآصال * رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر
الله } الآية و النوع الأول من الجهاد أفضل من هذا الثاني قال الله تعالى
: { أجعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم
الآخر و جاهد في سبيل الله لا يستون عند الله و الله لا يهدي القوم
الظالمين * الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم
أعظم درجة عند الله } و في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال
: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال رجل : لا أبالي أن لا أعمل
عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج و قال آخر : لا أبالي أن لا أعمل عملا
بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام و قال آخر : الجهاد في سبيل الله
أفضل مما قلتم فزجرهم عمر و قال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله
صلى الله عليه و سلم و هو يوم الجمعة و لكن إذا صليت الجمعة دخلت
فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز و جل : { أجعلتم سقاية الحاج و
عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر } إلى آخر الآية فهذا
الحديث الذي فيه ذكر سبب نزول هذه الآية يبين أن المراد أفضل ما يتقرب به
إلى الله تعالى من أعمال النوافل و التطوع الجهاد و إن الآية تدل على أن
أفضل ذلك الجهاد مع الإيمان فدل على التطوع بالجهاد أفضل من التطوع بعمارة
المسجد الحرام و سقاية الحاج و على مثل هذا يحمل حديث أبي هريرة رضي الله
عنه هذا و أن الجهاد أفضل من الحج المتطوع به فإن فرض الحج تأخر عند كثير
من العلماء إلى السنة التاسعة و لعل النبي صلى الله عليه و سلم قال هذا
الكلام قبل أن يفرض الحج بالكلية فكان حينئذ تطوعا و قد قيل : إن الجهاد
كان في أول الإسلام فرض عين فلا إشكال في هذا على تقديمه على الحج قبل
افتراضه فأما بعد أن صار الجهاد فرض كفاية و الحج فرض عين فإن الحج
المفترض حينئذ يكون أفضل من الجهاد قال عبد الله بن عمرو بن العاص : حجة
قبل الغزو أفضل من عشر غزوات و غزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات و روي ذلك
مرفوعا من وجوه متعددة في أسانيدها مقال و قال الصبي بن معبد : كنت
نصرانيا فأسلمت فسألت أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم : الجهاد أفضل أم
الحج ؟ فقالوا : الحج و المراد و الله أعلم : أن الحج أفضل لمن لم يحج حجة
الإسلام مثل الذي أسلم و قد يكون المراد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه :
أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد و
هو كونه فرض عين صار ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد و إلا فالجهاد أفضل
و الله أعلم و قد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أن أفضل الأعمال بعد
الجهاد في سبيل الله جنس عمارة المساجد بذكر الله و طاعته فيدخل في ذلك
الصلاة و الذكر و التلاوة و الإعتكاف و تعليم العلم النافع و استماعه و
أفضل من ذلك عمارة أفضل المساجد و أشرفها و هو المسجد الحرام بالزيارة و
الطواف فلهذا خصه بالذكر و جعل قصده للحج أفضل الأعمال بعد الجهاد و قد
خرجه ابن المنذر و لفظه ثم حج مبرور أو عمرة و قد ذكر الله تعالى هذا
البيت في كتابه بأعظم ذكر و أفخم تعظيم و ثناء قال الله تعالى : { و إذ
جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى و عهدنا
إلى إبراهيم و إسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود }
الآيات و قال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدى
للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا } و قال تعالى
: { و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهر بيتي
للطائفين و القائمين و الركع السجود * و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و
على كل ضامر يأتين من كل فج عميق } فعمارة سائر المساجد سوى المسجد الحرام
و قصدها للصلاة فيها و أنواع العبادات من الرباط في سبيل الله تعالى كما
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطا
إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم
الرباط ] فأما المسجد الحرام بخصوصه فقصده لزيارته و عمارته بالطواف الذي
خصه الله به من نوع الجهاد في سبيل الله عز و جل و في صحيح البخاري [ عن
عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا
نجاهد فقال : لكن أفضل الجهاد حج مبرور ] يعني أفضل جهاد النساء و رواه
بعضهم : [ لكن أفضل الجهاد حج مبرور ] فيكون صريحا في هذا المعنى و قد
خرجه البخاري بلفظ آخر و هو : [ جهادكن الحج ] و هو كذلك و في المسند و
سنن ابن ماجه [ عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي قال : الحج جهاد كل
ضعيف ] و خرج البيهقي و غيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : [
جهاد الكبير و الضعيف و المرأة الحج و العمرة ] و في حديث مرسل الحج جهاد
و العمرة تطوع و في حديث آخر مرسل خرجه عبد الرزاق [ أن رجلا قال للنبي
صلى الله عليه و سلم : إني جبان لا أطيق لقاء العدو قال : ألا أدلك على
جهاد لا قتال فيه قال : بلى قال : عليك بالحج و العمرة ] و خرج أيضا من
مراسيل [ علي بن الحسين أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الجهاد
فقال ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه الحج ] و فيه عن عمر أنه قال : إذا
وضعتم السروج يعني من سفر الجهاد فشدوا الرحال إلى الحج و العمرة فإنه أحد
الجهادين و ذكره البخاري تعليقا و قال ابن مسعود رضي الله عنه : إنما سرج
و رحل فالسرج في سبيل الله و الرحل و الحج خرجه الإمام أحمد في مناسكه و
إنما كان الحج و العمرة جهادا لأنه يجهد المال و النفس و البدن كما قال
أبو الشعثاء نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال و
الصيام كذلك و الحج يجهدهما فرأيته أفضل و روى عبد الرزاق بإسناده عن أبي
موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلا سأله عن الحج قال : إن الحاج يشفع في
أربعمائة بيت من قومه و يبارك في أربعين من أمهات البعير الذي حمله و يخرج
من ذنوبه كيوم ولدته أمه فقال له رجل : يا أبا موسى إني كنت أعالج الحج و
قد كبرت و ضعفت فهل من شيء يعدل الحج فقال له : هل تستطيع أن تعتق سبعين
رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل فأما الحل و الرحيل : فلا أجد له عدلا أو قال
مثلا و بإسناده عنه طاوس أنه سئل هل الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة ؟
قال : فأين الحل و الرحيل و السهر و النصب و الطواف بالبيت و الصلاة عنده
و الوقوف بعرفة و جمع و رمي الجمار كأنه يقول الحج أفضل
و قد اختلف
العلماء في تفضيل الحج تطوعا أو الصدقة فمنهم من رجح الحج كما قال طاوس و
أبو الشعثاء و قال الحسن أيضا و منهم من رجح الصداقة و هو قول النخعي و
منهم من قال : إن كان ثم رحم محتاجه أو زمن مجاعة فالصدقة و إلا فالحج و
هو نص أحمد و روي عن الحسن معناه و إن صلة الرحم و التنفيس عن المكروب
أفضل من التطوع بالحج و في كتاب عبد الرزاق بإسناد ضعيف [ عن عائشة رضي
الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن رجل حج فأكثر أيجعل
نفقته في صلة أو عتق ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : طواف سبع لا لغو
فيه يعدل رقبة ] و هذا يدل على تفضيل الحج
و استدل من رأى ذلك أيضا
بأن النفقة في الحج أفضل من النفقة في سبيل الله و في مسند الإمام أحمد [
عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : النفقة في الحج
كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ] و خرجه الطبراني [ من حديث أنس رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : النفقة في سبيل الله الدرهم فيه
بسبعمائة ] و يدل عليه قوله تعالى : { و أنفقوا في سبيل الله و لا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة و أحسنوا إن الله يحب المحسنين * و أتموا الحج و
العمرة لله } ففيه دليل على أن النفقة في الحج و العمرة تدخل في جملة
النفقة في سبيل الله و قد كان بعض الصحابة جعل بعيره في سبيل الله فأرادت
امرأته أن تحج عليه فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : [ حجي عليه فإن
الحج في سبيل الله ] و قد خرجه أهل المسانيد و السنن من وجوه متعددة و
ذكره البخاري تعليقا و هذا يستدل به على أن الحج يصرف فيه من سهم سبيل
الله المذكور في آية الزكاة كما هو أحد قولي العلماء فيعطى من الزكاة من
لم يحج ما يحج به في اعطائه لحج التطوع اختلاف بينهم أيضا
في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : أفضل الأعمال إيمان بالله و رسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور
] هذه الأعمال الثلاثة ترجع في الحقيقة إلى عملين : أحدهما : الإيمان
بالله و رسوله و هو التصديق الجازم بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم
الآخر كما فسر النبي صلى الله عليه و سلم الإيمان بذلك في سؤال جبريل و في
غيره من الأحاديث و قد ذكر الله تعالى الإيمان بهذه الأصول في مواضع كثيرة
من كتابه كأول البقرة و وسطها و آخرها و العمل الثاني : الجهاد في سبيل
الله تعالى و قد جمع الله بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه كقوله تعالى
: { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون
بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم } الآية و في
قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا
بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } و قد صح عن النبي صلى
الله عليه و سلم من غير وجه : [ أن أفضل الأعمال : الإيمان بالله و الجهاد
في سبيل الله ] فالإيمان المجرد يدخل فيه الجوارح عند السلف و أهل الحديث
و الإيمان المقرون بالعمل يراد به التصديق مع القول و خصوصا إن قرن
الإيمان بالله بالإيمان برسوله كما في هذا الحديث فالإيمان القائم بالقلوب
أصل كل خير و هو خير ما أوتيه العبد في الدنيا و الآخرة و به يحصل له
سعادة الدنيا و الآخرة و النجاة من شقاوة الدنيا و الآخرة و متى رسخ
الإيمان في القلب انبعثت الجوارح كلها بالأعمال الصالحة و اللسان بالكلام
الطيب كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا و إن في الجسد مضغة إذا
صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب ] و لا صلاح
للقلب بدون الإيمان بالله و ما يدخل في مسماه من معرفة الله و توحيده و
خشيته و محبته و رجائه و إجابته و الإنابة إليه و التوكل عليه قال الحسن :
ليس الإيمان بالتمني و لا بالتحلي و لكنه بما وقر في الصدور و صدقته
الأعمال و يشهد لذلك قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله
وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون *
الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا } و في
هذا يقول بعضهم :
( ما كل من زوق لي قوله ... يغرني يا صاح تزويقه )
( من حقق الإيمان في قلبه ... لا بد أن يظهر تحقيقه )
فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان و وجد طعمه و حلاوته ظهر ثمرة ذلك على لسانه
و جوارحه فاستحلى اللسان ذكر الله و ما والاه و سرعت الجوارح إلى طاعة
الله فحينئذ يدخل حب الإيمان في القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد
برده في اليوم الشديد حره للظمآن الشديد عطشه و يصير الخروج من الإيمان
أكره إلى القلوب من الإلقاء في النار و أمر عليها من الصبر ذكر ابن
المبارك عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه دخل المدينة فقال لهم : ما لي لا
أرى عليكم يا أهل المدينة حلاوة الإيمان و الذي نفسي بيده لو أن دب الغابة
وجد طعم الإيمان لرؤي عليه حلاوة الإيمان
( لو ذاق طعم الإيمان رضوى ... لكاد من جوده يميد )
( قد حملوني تكليف عهد ... يعجز عن حمله الحديد )
فالإيمان بالله و رسوله وظيفة القلب و اللسان ثم يتبعهما عمل الجوارح و
أفضلها الجهاد في سبيل الله و هو نوعان : أفضلهما : جهاد المؤمن بعدوه
الكافر و قتاله في سبيل الله : فإن فيه دعوة له إلى الإيمان بالله و رسوله
ليدخل في الإيمان قال الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله } قال أبو هريرة رضي الله عنه
في هذه الآية : يجيئون بهم في السلاسل حتى يدخلونهم الجنة و في الحديث
المرفوع : [ عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ] فالجهاد في سبيل
الله دعاء الخلق إلى الإيمان بالله و رسوله بالسيف و اللسان بعد دعائهم
إليه بالحجة و البرهان و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم في أول الأمر
لا يقاتل قوما حتى يدعوهم فالجهاد به تعلو كلمة الإيمان و تتسع رقعة
الإسلام و يكثر الداخلون فيه و هو وظيفة الرسل و أتباعهم و به تصير كلمة
الله هي العليا و المقصود منه أن يكون الدين كله لله و الطاعة له كما قال
تعالى : { و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله } و المجاهد
في سبيل الله هو المقاتل لتكون كلمة الله هي العليا خاصة و النوع الثاني
من الجهاد : جهاد النفس في طاعة الله كما قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ المجاهد من جاهد نفسه في الله ] و قال بعض الصحابة لمن سأله عن الغزو ؟
: ابدأ بنفسك فاغزها و ابدأ بنفسك فجاهدها و أعظم مجاهدة النفس على طاعة
الله عمارة بيوته بالذكر و الطاعة قال الله تعالى : { إنما يعمر مساجد
الله من آمن بالله و اليوم الآخر و أقام الصلاة و آتى الزكاة و لم يخش إلا
الله } و في حديث أبي سعيد الخدري المرفوع : [ إذا رأيتم الرجل يعتاد
المسجد فاشهدوا له بالإيمان ثم تلا الآية ] خرجه الإمام أحمد و الترمذي و
ابن ماجه و قال الله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه
يسبح له فيها بالغدو و الآصال * رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر
الله } الآية و النوع الأول من الجهاد أفضل من هذا الثاني قال الله تعالى
: { أجعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم
الآخر و جاهد في سبيل الله لا يستون عند الله و الله لا يهدي القوم
الظالمين * الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم
أعظم درجة عند الله } و في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال
: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال رجل : لا أبالي أن لا أعمل
عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج و قال آخر : لا أبالي أن لا أعمل عملا
بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام و قال آخر : الجهاد في سبيل الله
أفضل مما قلتم فزجرهم عمر و قال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله
صلى الله عليه و سلم و هو يوم الجمعة و لكن إذا صليت الجمعة دخلت
فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز و جل : { أجعلتم سقاية الحاج و
عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر } إلى آخر الآية فهذا
الحديث الذي فيه ذكر سبب نزول هذه الآية يبين أن المراد أفضل ما يتقرب به
إلى الله تعالى من أعمال النوافل و التطوع الجهاد و إن الآية تدل على أن
أفضل ذلك الجهاد مع الإيمان فدل على التطوع بالجهاد أفضل من التطوع بعمارة
المسجد الحرام و سقاية الحاج و على مثل هذا يحمل حديث أبي هريرة رضي الله
عنه هذا و أن الجهاد أفضل من الحج المتطوع به فإن فرض الحج تأخر عند كثير
من العلماء إلى السنة التاسعة و لعل النبي صلى الله عليه و سلم قال هذا
الكلام قبل أن يفرض الحج بالكلية فكان حينئذ تطوعا و قد قيل : إن الجهاد
كان في أول الإسلام فرض عين فلا إشكال في هذا على تقديمه على الحج قبل
افتراضه فأما بعد أن صار الجهاد فرض كفاية و الحج فرض عين فإن الحج
المفترض حينئذ يكون أفضل من الجهاد قال عبد الله بن عمرو بن العاص : حجة
قبل الغزو أفضل من عشر غزوات و غزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات و روي ذلك
مرفوعا من وجوه متعددة في أسانيدها مقال و قال الصبي بن معبد : كنت
نصرانيا فأسلمت فسألت أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم : الجهاد أفضل أم
الحج ؟ فقالوا : الحج و المراد و الله أعلم : أن الحج أفضل لمن لم يحج حجة
الإسلام مثل الذي أسلم و قد يكون المراد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه :
أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد و
هو كونه فرض عين صار ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد و إلا فالجهاد أفضل
و الله أعلم و قد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أن أفضل الأعمال بعد
الجهاد في سبيل الله جنس عمارة المساجد بذكر الله و طاعته فيدخل في ذلك
الصلاة و الذكر و التلاوة و الإعتكاف و تعليم العلم النافع و استماعه و
أفضل من ذلك عمارة أفضل المساجد و أشرفها و هو المسجد الحرام بالزيارة و
الطواف فلهذا خصه بالذكر و جعل قصده للحج أفضل الأعمال بعد الجهاد و قد
خرجه ابن المنذر و لفظه ثم حج مبرور أو عمرة و قد ذكر الله تعالى هذا
البيت في كتابه بأعظم ذكر و أفخم تعظيم و ثناء قال الله تعالى : { و إذ
جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى و عهدنا
إلى إبراهيم و إسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود }
الآيات و قال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدى
للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا } و قال تعالى
: { و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهر بيتي
للطائفين و القائمين و الركع السجود * و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و
على كل ضامر يأتين من كل فج عميق } فعمارة سائر المساجد سوى المسجد الحرام
و قصدها للصلاة فيها و أنواع العبادات من الرباط في سبيل الله تعالى كما
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطا
إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم
الرباط ] فأما المسجد الحرام بخصوصه فقصده لزيارته و عمارته بالطواف الذي
خصه الله به من نوع الجهاد في سبيل الله عز و جل و في صحيح البخاري [ عن
عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا
نجاهد فقال : لكن أفضل الجهاد حج مبرور ] يعني أفضل جهاد النساء و رواه
بعضهم : [ لكن أفضل الجهاد حج مبرور ] فيكون صريحا في هذا المعنى و قد
خرجه البخاري بلفظ آخر و هو : [ جهادكن الحج ] و هو كذلك و في المسند و
سنن ابن ماجه [ عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي قال : الحج جهاد كل
ضعيف ] و خرج البيهقي و غيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : [
جهاد الكبير و الضعيف و المرأة الحج و العمرة ] و في حديث مرسل الحج جهاد
و العمرة تطوع و في حديث آخر مرسل خرجه عبد الرزاق [ أن رجلا قال للنبي
صلى الله عليه و سلم : إني جبان لا أطيق لقاء العدو قال : ألا أدلك على
جهاد لا قتال فيه قال : بلى قال : عليك بالحج و العمرة ] و خرج أيضا من
مراسيل [ علي بن الحسين أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الجهاد
فقال ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه الحج ] و فيه عن عمر أنه قال : إذا
وضعتم السروج يعني من سفر الجهاد فشدوا الرحال إلى الحج و العمرة فإنه أحد
الجهادين و ذكره البخاري تعليقا و قال ابن مسعود رضي الله عنه : إنما سرج
و رحل فالسرج في سبيل الله و الرحل و الحج خرجه الإمام أحمد في مناسكه و
إنما كان الحج و العمرة جهادا لأنه يجهد المال و النفس و البدن كما قال
أبو الشعثاء نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال و
الصيام كذلك و الحج يجهدهما فرأيته أفضل و روى عبد الرزاق بإسناده عن أبي
موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلا سأله عن الحج قال : إن الحاج يشفع في
أربعمائة بيت من قومه و يبارك في أربعين من أمهات البعير الذي حمله و يخرج
من ذنوبه كيوم ولدته أمه فقال له رجل : يا أبا موسى إني كنت أعالج الحج و
قد كبرت و ضعفت فهل من شيء يعدل الحج فقال له : هل تستطيع أن تعتق سبعين
رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل فأما الحل و الرحيل : فلا أجد له عدلا أو قال
مثلا و بإسناده عنه طاوس أنه سئل هل الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة ؟
قال : فأين الحل و الرحيل و السهر و النصب و الطواف بالبيت و الصلاة عنده
و الوقوف بعرفة و جمع و رمي الجمار كأنه يقول الحج أفضل
و قد اختلف
العلماء في تفضيل الحج تطوعا أو الصدقة فمنهم من رجح الحج كما قال طاوس و
أبو الشعثاء و قال الحسن أيضا و منهم من رجح الصداقة و هو قول النخعي و
منهم من قال : إن كان ثم رحم محتاجه أو زمن مجاعة فالصدقة و إلا فالحج و
هو نص أحمد و روي عن الحسن معناه و إن صلة الرحم و التنفيس عن المكروب
أفضل من التطوع بالحج و في كتاب عبد الرزاق بإسناد ضعيف [ عن عائشة رضي
الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن رجل حج فأكثر أيجعل
نفقته في صلة أو عتق ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : طواف سبع لا لغو
فيه يعدل رقبة ] و هذا يدل على تفضيل الحج
و استدل من رأى ذلك أيضا
بأن النفقة في الحج أفضل من النفقة في سبيل الله و في مسند الإمام أحمد [
عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : النفقة في الحج
كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ] و خرجه الطبراني [ من حديث أنس رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : النفقة في سبيل الله الدرهم فيه
بسبعمائة ] و يدل عليه قوله تعالى : { و أنفقوا في سبيل الله و لا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة و أحسنوا إن الله يحب المحسنين * و أتموا الحج و
العمرة لله } ففيه دليل على أن النفقة في الحج و العمرة تدخل في جملة
النفقة في سبيل الله و قد كان بعض الصحابة جعل بعيره في سبيل الله فأرادت
امرأته أن تحج عليه فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : [ حجي عليه فإن
الحج في سبيل الله ] و قد خرجه أهل المسانيد و السنن من وجوه متعددة و
ذكره البخاري تعليقا و هذا يستدل به على أن الحج يصرف فيه من سهم سبيل
الله المذكور في آية الزكاة كما هو أحد قولي العلماء فيعطى من الزكاة من
لم يحج ما يحج به في اعطائه لحج التطوع اختلاف بينهم أيضا
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الحج المبرور
و في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الحج
المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ] و في المسند أن النبي صلى الله عليه و
سلم سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : [ إيمان بالله وحده ثم الجهاد ثم حجة
برة تفضل سائر الأعمال ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ] و ثبت عنه صلى الله
عليه و سلم أنه قال : [ من حج هذا البيت فلم يرفث و لم يفسق خرج من ذنوبه
كيوم ولدته أمه ] فمغفرة الذنوب بالحج و دخول الجنة به مرتب على كون الحج
مبرورا
و إنما يكون مبرورا باجتماع أمرين قيه أحدهما : الإتيان فيه
بأعمال البر و البر يطلق بمعنيين : أحدهما : بمعنى الإحسان إلى الناس كما
يقال البرو الصلة و ضده العقوق و في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و
سلم سئل عن البر ؟ فقال : [ حسن الخلق ] و كان ابن عمر رضي الله عنهما
يقول : إن البر شيء هين : وجه طليق و كلام لين و هذا يحتاج إليه في الحج
كثيرا أعني معاملة الناس بالإحسان بالقول و الفعل قال بعضهم : إنما سمي
السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال و في المسند عن جابر بن عبد الله
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الحج المبرور ليس له
جزاء إلا الجنة قالوا : و ما بر الحج يا رسول الله ؟ قال : إطعام الطعام و
إفشاء السلام ] و في حديث آخر : [ و طيب الكلام ] و سئل سعيد بن جبير : أي
الحج أفضل ؟ قال : من أطعم الطعام و كف لسانه قال الثوري : سمعت أنه من بر
الحج و في مراسيل [ خالد بن معدان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما
يصنع من يؤم هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاثة : ورع يحجزه عما حرم
الله و حلم يضبط به جهله و حسن صحابة لمن يصحب و إلا فلا حاجة لله بحجه ]
و قال أبو جعفر الباقر : ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم يأت بثلاثة :
ورع يحجزه عن معاصي الله و حلم يكف به غضبه و حسن الصحابة لمن يصحبه من
المسلمين فهذه الثلاثة يحتاج إليها في الأسفار خصوصا في سفر الحج فمن
كملها فقد كمل حجه وبر و من أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج ما وصى
به النبي صلى الله عليه و سلم أبا جزي الهجيمي فقال : [ لا تحقرن من
المعروف شيئا و لو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي و لو أن تعطي صلة
الحبل و لو أن تعطي شسع النعل و لو أن تنحي الشي من طريق الناس يؤذيهم و
لو أن تلقى أخاك و وجهك إليه منطلق و لو أن تلقى أخاك المسلم عليه فتسلم
عليه و لو أن تؤنس الوحشان في الأرض ] و في الجملة : فخير الناس أنفعهم
للناس و أصبرهم على أذى الناس كما وصف الله المتقين بذلك في قوله تعالى :
{ الذين ينفقون في السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و
الله يحب المحسنين } و الحاج يحتاج إلى مخالطة الناس و المؤمن الذي يخالط
الناس و يصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم و لا يصبر على أذاهم قال
ربيعة : المروءة في السفر بذل الزاد و قلة الخلاف على الأصحاب و كثرة
المزاح في غير مساخط الله عز و جل و جاء رجلان إلى ابن عون يودعانه و
يسألانه أن يوصيهما فقال لهما : عليكما بكظم الغيظ و بذل الزاد فرأى
أحدهما في المنام : أن ابن عون أهدى إليهما حلتين و الإحسان إلى الرفقة في
السفر أفضل من العبادة القاصرة لا سيما إن احتاج العابد إلى خدمة إخوانه و
قد كان النبي صلى الله عليه و سلم في سفر في حر شديد و معه من هو صائم و
مفطر فسقط الصوام و قام المفطرون فضربوا الأبنية و سقوا الركاب فقال النبي
صلى الله عليه و سلم : [ ذهب المفطرون اليوم بالأجر ] و روي أنه صلى الله
عليه و سلم كان في سفر فرأى رجلا صائما فقال له : [ ما حملك على الصوم في
السفر ؟ فقال : معي ابناي يرحلان بي و يخدماني فقال له ما زال لهما الفضل
عليك ] و في مراسيل أبي داود [ عن أبي قلابة رضي الله عنه قال : قدم ناس
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من سفر يثنون على صاحب لهم قالوا
: ما رأينا مثل فلان قط ما كان في مسير إلا كان في قراءة و لا نزلنا منزلا
إلا كان في صلاة قال : فمن كان يكفيه ضيعته ؟ حتى ذكر و من كان يعلف دابته
؟ قالوا : نحن قال : فكلكم خير منه ] و قال مجاهد : صحبت ابن عمر في السفر
لأخدمه فكان يخدمني و كان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن
يخدمهم اغتناما لأجر ذلك منهم : عامر بن عبد قيس و عمرو بن عتبة بن فرقد
مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما و كذلك كان إبراهيم بن أدهم يشترط على
أصحابه في السفر الخدمة و الأذان و كان رجل من الصالحين يصحب إخوانه في
سفر الجهاد و غيره فيشترط عليهم أن يخدمهم فكان إذا رأى رجلا يريد أن يغسل
ثوبه قال له : هذا من شرطي فيغسله و إذا رأى من يريد أن يغسل رأسه قال :
هذا من شرطي فيغسله فلما مات نظروا في يده فإذا فيها مكتوب من أهل الجنة
فنظروا إليها فإذا هي كتابة بين الجلد و اللحم و ترافق بهيم العجلي و كان
من العبادين البكائين و رجل تاجر موسر في الحج فلما كان يوم خروجهم للسفر
بكى بهيم حتى قطرت دموعه على صدره ثم قطرت على الأرض و قال : ذكرت بهذه
الرحلة الرحلة إلى الله ثم علا صوته بالنحيب فكره رفيقه التاجر منه ذلك و
خشي أن يتنغص عليه سفره و معه بكثرة بكائه فلما قدما من الحج جاء الرجل
الذي رافق بينهما إليه ليسلم عليهما فبدأ بالتاجر فسلم عليه و سأله عن حله
مع بهيم فقال له : و الله ظننت إن في هذا الخلق مثله كان و الله يتفضل علي
في النفقة و هو معسر و أنا موسر و يتفضل علي في الخدمة و هو شيخ ضعيف و
أنا شاب و يطبخ لي و هو صائم و أنا مفطر فسأله عما كان يكرهه من كثرة
بكائه فقال : و الله ألفت ذلك البكاء و أشرب حبه قلبي حتى كنت أساعده عليه
حتى تأذى بنا الرفقة ثم ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا و يقول
بعضهم لبعض : ما الذي جعلهما أولى بالبكاء منا و المصير واحد فجعلوا و
الله يبكون و نبكي ثم خرج من عنده فدخل على بهيم فسلم عليه و قال له : كيف
رأيت صاحبك قال : خير صاحب كثير الذكر لله طويل التلاوة للقرآن سريع
الدمعة متحمل لهفوات الرفيق فجزاك الله عني خيرا و كان ابن المبارك يطعم
أصحابه في الأسفار أطيب الطعام و هو صائم و كان إذا أراد الحج من بلده مر
و جمع أصحابه و قال : من يريد منكم الحج فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها عنده
في صندوق و يقفل عليه ثم يحملهم و ينفق عليهم أوسع النفقة و يطعمهم أطيب
الطعام ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا و التحف ثم يرجع بهم إلى
بلده فإذا وصلوا صنع لهم طعاما ثم جمعهم عليه و دعا بالصندوق الذي فيه
نفقاتهم فرد إلى كل واحد نفقته
المعنى الثاني : مما يراد بالبر :
فعل الطاعات كلها و ضده الإثم و قد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله : {
و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و
آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و
السائلين و في الرقاب } الآية فتضمنت الآية : أن أنواع البر ستة أنواع من
استكملها فقد استكمل البر : أولها : الإيمان بأصول الإيمان الخمسة و
ثانيها : إيتاء المال المحبوب لذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن
السبيل و السائلين و في الرقاب و ثالثها : إقام الصلاة و رابعها : إيتاء
الزكاة و خامسها : الوفاء بالعهد و سادسها : الصبر على البأساء و الضراء و
حين البأس و كلها يحتاج الحاج إليها فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان و لا
يكمل حجه و يكون مبرورا بدون إقام الصلاة و إيتاء الزكاة فإن أركان
الإسلام بعضها مرتبطة ببعض فلا يكمل الإيمان و الإسلام حتى يؤتي بها كلها
و لا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات و المشاركات المحتاج
إليها في سفر الحج و إيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه و يحتاج مع
ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر فهذه خصال البر و من أهمها
للحاج : إقام الصلاة فمن حج من غير إقام الصلاة لا سيما إن كان حجه تطوعا
كان بمنزلة من سعى في ربح درهم و ضيع رأس ماله و هو ألوف كثيرة و قد كان
السلف يواظبون في الحج على نوافل الصلاة و كان النبي صلى الله عليه و سلم
[ يواظب على قيام الليل على راحلته في أسفاره كلها و يؤثر عليها ] و حج
مسروق فما نام إلا ساجدا و كان محمد بن واسع يصلي في طريق مكة ليله أجمع
في محمله يومىء إيماء و يأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه حتى يشغل عنه بسماع
صوت الحادي فلا يتفطن له و كان المغيرة بن الحكيم الصنعاني يحج من اليمن
ماشيا و كان له ورد بالليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن فيقف فيصلي حتى
يفرغ من ورده ثم يلحق بالركب متى لحق فربما لم يلحقهم إلا في آخر النهار
سلام الله على تلك الأرواح رحمة الله على تلك الأشباح ما مثلنا و مثلهم
إلا كما قال القائل :
( نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... و نزلت بالبيداء أبعد منزل )
فنحن ما نأمر إلا بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها و لو بالجمع بين
الصلاتين المجموعتين في وقت إحداهما بالأرض فإنه لا يرخص لأحد أن يصلي
صلاة الليل في النهار و لا صلاة النهار في الليل و لا أن يصلي على ظهر
راحلته المكتوبة إلا من خاف الإنقطاع عن رفقته أو نحو ذلك مما يخاف على
نفسه فأما المريض و من كان في ماء وطين ففي صلاته على الراحلة اختلاف
مشهور للعلماء و فيه روايتان عن الإمام أحمد و أن يكون بالطهارة الشرعية
بالوضوء بالماء مع القدرة عليه و التيمم عند العجز حسا أو شرعا و متى علم
الله من عبد حرصه على إقام الصلاة على وجهها أعانه قال بعض العلماء : كنت
في طريق الحج و كان الأمير يقف للناس كل يوم لصلاة الفجر فينزل فنصلي ثم
نركب فلما كان ذات يوم قرب طلوع الشمس و لم يقفوا للناس فناديتهم فلم
يلتفتوا إلى ذلك فتوضأت على المحمل ثم نزلت للصلاة على الأرض و وطنت نفسي
على المشي إلى وقت نزولهم للضحى و كانوا لا ينزلون إلى قريب وقت الظهر مع
علمي بمشقة ذلك علي و إني لا قدرة لي عليه فلما صليت و قضيت صلاتي نظرت
إلى رفقتي فإذا هم وقوف و قد كانوا لو سئلوا ذلك لم يفعلوه فسألتهم عن سبب
وقوفهم ؟ فقالوا : لما نزلت تعرقلت مقاود الجمال بعضها في بعض فنحن في
تخليصها إلى الآن قال : فجئت و ركبت و حمدت الله عز و جل و علمت أنه ما
قدم أحد حق الله على هوى نفسه و راحتها إلا رأى سعادة الدنيا و الآخرة و
لا عكس أحد ذلك فقدم حظ نفسه على حق ربه إلا و رأى الشقاوة في الدنيا و
الآخرة و استشهد بقول القائل :
( و الله ما جئتكم زائرا ... إلا وجدت الأرض تطوى لي )
( و لا ثنيت العزم عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي )
و من أعظم أنواع بر الحج كثرة ذكر الله تعالى فيه و قد أمر الله تعالى
بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى و قد روي أن النبي صلى الله
عليه و سلم سئل : [ أي الحاج أفضل ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ] خرجه الإمام
أحمد و روي مرسلا من وجوه متعددة و خصوصا كثرة الذكر في حال الإحرام
بالتلبية و التكبير و في الترمذي و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
: [ أفضل الحج العج و الثج ]
و في حديث جبير بن مطعم المرفوع : [
عجو التكبير عجا و ثجوا الإبل ثجا ] فالعج رفع الصوت في التكبير و التلبية
الثج إراقة دماء الهدايا و النسك و الهدي من أفضل الأعمال قال الله تعالى
: { و البدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير } الآية و قال الله
تعالى : { و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } و أهدى النبي صلى
الله عليه و سلم في حجة الوداع مائة بدنة و كان يبعث الهدي إلى منى فتنحر
عنه و هو مقيم بالمدينة الأمر الثاني : مما يكمل ببر الحج اجتناب أفعال
الإثم فيه من الرفث و الفسوق و المعاصي قال الله تعالى : { فلا رفث و لا
فسوق و لا جدال في الحج و ما تفعلوا من خير يعلمه الله و تزودوا فإن خير
الزاد التقوى }
و في الحديث الصحيح : [ من حج هذا البيت فلم يرفث و لم يفسق رجع كيوم
ولدته أمه ]
و قد سبق حديث : [ من لم يكن له ورع يحجزه عن معاصي الله فليس لله حاجة في
حجه ] فما تزود حاج و لا غيره أفضل من زاد التقوى و لا دعي للحاج عند
توديعه بأفضل من التقوى و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ ودع
غلاما للحج فقال له : زودك الله التقوى ] قال بعض السلف لمن ودعه : اتق
الله فمن اتقى الله فلا وحشة عليه و قال آخر : لمن ودعه للحج أوصيك بما
وصى به النبي صلى الله عليه و سلم معاذا حين ودعه : [ اتق الله حيثما كنت
و أتبع السيئة الحسنة تمحها و خالق الناس بخلق حسن ] و هذه وصية جامعة
لخصال البر كلها و لأبي الدرداء رضي الله عنه :
( يريد المرء أن تؤتى مناه ... و يأبى الله إلا ما أراد )
( يقول المرء فائدتي و مالي ... و تقوى الله أفضل ما استفاد )
و من أعظم ما يجب على الحاج اتقاؤه من الحرام و أن يطيب نفقته في الحج و
أن لا يجعلها من كسب حرام و قد خرج الطبراني و غيره [ من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه مرفوعا : إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة و وضع رجله في الغرز
فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء : لبيك و سعديك زادك حلال و
راحلتك حلال و حجك مبرور غير مأزور و إذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله
في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء : لا لبيك و لا
سعديك زادك حرام و نفقتك حرام و حجك غير مبرور ] مات رجل في طريق مكة
فحفروا له فدفنوه و نسوا الفأس في لحده فكشفوا عنه التراب ليأخذوا الفاس
فإذا رأسه و عنقه قد جمعا في حلقة الفاس فردوا عليه التراب و رجعوا إلى
أهله فسألوهم عنه فقالوا : صحب رجلا فأخذ ماله فكان منه يحج و يغزو
( إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت و لكن حجت العير )
( لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل من حج بيت الله مبرور )
و ما يجب اجتنابه على الحاج و به يتم بر حجه أن لا يقصد بحجه رياء و لا
سمعة و لا مباهاة و لا فخرا و لا خيلاء و لا يقصد به إلا وجه الله و
رضوانه و يتواضع في حجه و يستكين و يخشع لربه روي [ عن أنس رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه و سلم حج على رحل رث و قطيفة ما تساوي أربعة دراهم
و قال : اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها و لا سمعة ]
و قال عطاء : [
صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الصبح بمنى غداة عرفة ثم غدا إلى عرفات
و تحته قطيفة اشتريت له بأربعة دراهم و هو يقول : اللهم اجعلها حجة مبرورة
متقبلة لا رياء فيها و لا سمعة ]
و قال عبد الله بن الحارث : [ ركب
رسول الله صلى الله عليه و سلم رحلا فاهتز به فتواضع لله عز و جل و قال :
لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة ]
قال رجل لابن عمر : ما أكثر الحاج
فقال : ابن عمر : ما أقلهم ثم رأى رجلا على بعير على رحل رث خطامه حبال
فقال : لعل هذا و قال شريح : الحاج قليل و الركبان كثير ما أكثر من يعمل
الخير و لكن ما أقل الذين يريدون وجهه
( خليلي قطاع الفيافي إلى الحمى ... كثير و أما الواصلون قليل )
كان بعض المتقدمين يحج ماشيا على قدميه كل عام فكان ليلة نائما على فراشه
فطلبت منه أمه شربة ماء فصعب على نفسه القيام من فراشه لسقي أمه الماء
فتذكر حجه ماشيا كل عام و أنه لا يشق عليه فحاسب نفسه فرأى أنه لا يهونه
عليه إلا رؤية الناس له و مدحهم إياه فعلم أنه كان مدخولا قال بعض
التابعين : رب محرم يقول : لبيك اللهم لبيك فيقول الله : لا لبيك و لا
سعديك هذا مردود عليك قيل له : لم ؟ قال : لعله اشترى ناقة بخمسمائة درهم
و رحلا بمائتي درهم و مفرشا بكذا و كذا ثم ركب ناقته و رجل رأسه و نظر في
عطفيه فذلك الذي يرد عليه و من هنا استحب للحاج أن يكون شعثا أغبر و في
حديث المباهاة يوم عرفة أن الله تعالى يقول لملائكته : [ انظروا إلى عبادي
أتوني شعثا غبرا ضاحين اشهدوا أني قد غفرت لهم ] قال عمر يوما و هو بطريق
مكة : تشعثون و تغبرون و تتفلون و تضحون لا تريدون بذلك شيئا من عرض
الدنيا ما نعلم سفرا خيرا من هذا يعني الحج و عنه قال : إنما الحاج الشعث
التفل و قال ابن عمر لرجل رآه : قد استظل في إحرامه أضح لمن أحرمت له أي
أبرز للضحى و هو حر الشمس
( أتاك الوافدون إليك شعثا ... يسوقون المقلدة الصواف )
( فكم من قاصد للرب رغبا ... و رهبا بين منتعل و حاف )
سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس و أمنا يترددون إليه و يرجعون عنه و
لا يرون أنهم قضوا منه وطرا لما أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه و
نسبه إليه بقوله عز و جل لخليله : { و طهر بيتي للطائفين } تعلقت قلوب
المحبين ببيت محبوبهم فكلما ذكر لهم ذلك البيت الحرام حنوا و كلما تذكروا
بعدهم عنه أنوا
( لا يذكر الرمل الأحن مغترب ... له بذي الرمل أوطار و أوطان )
( تهفو إلى البان من قلبي نوازعه ... و ما بي البان بل من داره البان )
رأى بعض الصالحين الحاج في وقت خروجهم فوقف يبكي و يقول : واضعفاه و ينشد
على أثر ذلك :
( فقلت دعوني و اتباعي ركابكم ... أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد )
ثم تنفس و قال : هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت فكيف تكون حسرة من
انقطع عن الوصول إلى رب البيت يحق لمن رأى الواصلين و هو منقطع أن يقلق و
لمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبة و هو قاعد أن يحزن
( يا سائق العيس ترفق و استمع ... مني و بلغ السلام عني )
( عرض بذكري عندهم لعلهم ... إن سمعوك سألوك عني )
( قل ذلك المحبوس عن قصدكم ... معذب القلب بكل فني )
( يقول أملت بأن أزوركم ... في جملة الوفد فخاب ظني )
( أقعدني الحرمان عن قصدكم ... و رمت أن أسعى فلم يدعني )
ينبغي للمنقطعين طلب الدعاء من الواصلين لتحصل المشاركة كما روي عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال لعمر لما أراد العمرة : [ يا أخي أشركنا في دعائك
] و في مسند البزار [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : اللهم اغفر
للحاج و لمن استغفر له الحاج ] و في الطبراني [ عن ابن عباس رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول في الطواف : اللهم اغفر
لفلان بن فلان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من هذا ؟ قال : رجل
حملني أن أدعو له بين الركن و المقام فقال : قد غفر لصاحبك ]
( ألا قل لزوار دار الحبيب ... هنيئا لكم في الجنان الخلود )
( أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش و أنتم ورود )
لئن سار القوم و قعدنا و قربوا و بعدنا فما يؤمننا أن نكون ممن كره الله
أتباعهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين
( لله در ركائب سارت بهم ... تطوي القفار الشاسعات على الدجا )
( رحلوا إلى البيت الحرام و قد شجا ... قلب المتيم منهمو ما قد شجا )
( نزلوا بباب لا يخيب نزيله ... و قلوبهم بين المخافة و الرجا )
على أن المتخلف لعذر شريك للسائر كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لما
رجع من غزوة تبوك : [ إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا و لا قطعتم واديا
إلا كانوا معكم خلفهم العذر ]
( يا سائرين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
و ربما سبق بعض من سار بقلبه و همته و عزمه بعض السائرين ببدنه رأى بعض
الصالحين في منامه عشية عرفة بعرفة قائلا يقول له : ترى هذا الزحام
بالموقف قال : نعم قال : ما حج منهم إلا رجل واحد تخلف عن الموقف فحج
بهمته فوهب الله له أهل الموقف ما الشأن فيمن سار ببدنه إنما الشأن فيمن
قعد بدنه و سار بقلبه حتى سبق الركب
( من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدا و تجي في الأول )
يا سائرين إلى دار الأحباب قفوا للمنقطعين تحملوا معكم رسائل المحصرين
( خذوا نظرة مني ... فلاقوا بها الحمى )
( يا سائرين إلى الحبيب ترفقوا ... فالقلب بين رحالكم خلفته )
( مالي سوى قلبي و فيك أذبته ... مالي سوى دمعي و فيك سكبته )
كان عمر بن عبد العزيز إذا رأى من يسافر إلى المدينة النبوية يقول له :
أقرىء رسول الله صلى الله عليه و سلم مني السلام و روي أنه كان يبرد عليه
البريد من الشام
( هذه الخيف و هاتيك مني ... فترفق أيها الحادي بنا )
( و احبس الركب علينا ساعة ... نندب الربع و نبكي الدمنا )
( فلذا الموقف أعددنا البكا ... و لذا اليوم الدموع تقتني )
( أتراكم في النقا و المنحنا ... أهل سلع تذكرونا ذكرنا )
( انقطعنا و وصلتم فاعلموا ... و اشكروا المنعم يا أهل منى )
( قد خسرنا و ربحتم فصلوا ... بفضول الربح من قد غبنا )
( سار قلبي خلف أحمالكم ... غير أن العذر عاق البدنا )
( ما قطعتم واديا إلا و قد ... جئته أسعى بأقدام المنى )
( آه و أشواقي إلى ذاك الحمى ... شوق محروم و قد ذاق العنا )
( سلموا عني على أربابه ... أخبروهم أنني خلف الضنا )
( أنا مذ غبتم على تذكاركم ... أترى عندكم ما عندنا )
( بيننا يوم أثيلات النقا ... كان عن غير تراض بيننا )
( زمنا كان و كنا جيرة ... فأعاد الله ذاك الزمنا )
من شاهد تلك الديار و عاين تلك الآثار ثم انقطع عنها لم يمت إلا بالأسف
عليها و الحنين إليها
( ما أذكر عيشنا الذي قد سلفا ... إلا وجف القلب و كم قد وجفا )
( واها لزماننا الذي كان صفا ... وا أسفا و هل يرد فائتا وا أسفا )
و في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الحج
المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ] و في المسند أن النبي صلى الله عليه و
سلم سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : [ إيمان بالله وحده ثم الجهاد ثم حجة
برة تفضل سائر الأعمال ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ] و ثبت عنه صلى الله
عليه و سلم أنه قال : [ من حج هذا البيت فلم يرفث و لم يفسق خرج من ذنوبه
كيوم ولدته أمه ] فمغفرة الذنوب بالحج و دخول الجنة به مرتب على كون الحج
مبرورا
و إنما يكون مبرورا باجتماع أمرين قيه أحدهما : الإتيان فيه
بأعمال البر و البر يطلق بمعنيين : أحدهما : بمعنى الإحسان إلى الناس كما
يقال البرو الصلة و ضده العقوق و في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و
سلم سئل عن البر ؟ فقال : [ حسن الخلق ] و كان ابن عمر رضي الله عنهما
يقول : إن البر شيء هين : وجه طليق و كلام لين و هذا يحتاج إليه في الحج
كثيرا أعني معاملة الناس بالإحسان بالقول و الفعل قال بعضهم : إنما سمي
السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال و في المسند عن جابر بن عبد الله
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الحج المبرور ليس له
جزاء إلا الجنة قالوا : و ما بر الحج يا رسول الله ؟ قال : إطعام الطعام و
إفشاء السلام ] و في حديث آخر : [ و طيب الكلام ] و سئل سعيد بن جبير : أي
الحج أفضل ؟ قال : من أطعم الطعام و كف لسانه قال الثوري : سمعت أنه من بر
الحج و في مراسيل [ خالد بن معدان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما
يصنع من يؤم هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاثة : ورع يحجزه عما حرم
الله و حلم يضبط به جهله و حسن صحابة لمن يصحب و إلا فلا حاجة لله بحجه ]
و قال أبو جعفر الباقر : ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم يأت بثلاثة :
ورع يحجزه عن معاصي الله و حلم يكف به غضبه و حسن الصحابة لمن يصحبه من
المسلمين فهذه الثلاثة يحتاج إليها في الأسفار خصوصا في سفر الحج فمن
كملها فقد كمل حجه وبر و من أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج ما وصى
به النبي صلى الله عليه و سلم أبا جزي الهجيمي فقال : [ لا تحقرن من
المعروف شيئا و لو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي و لو أن تعطي صلة
الحبل و لو أن تعطي شسع النعل و لو أن تنحي الشي من طريق الناس يؤذيهم و
لو أن تلقى أخاك و وجهك إليه منطلق و لو أن تلقى أخاك المسلم عليه فتسلم
عليه و لو أن تؤنس الوحشان في الأرض ] و في الجملة : فخير الناس أنفعهم
للناس و أصبرهم على أذى الناس كما وصف الله المتقين بذلك في قوله تعالى :
{ الذين ينفقون في السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و
الله يحب المحسنين } و الحاج يحتاج إلى مخالطة الناس و المؤمن الذي يخالط
الناس و يصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم و لا يصبر على أذاهم قال
ربيعة : المروءة في السفر بذل الزاد و قلة الخلاف على الأصحاب و كثرة
المزاح في غير مساخط الله عز و جل و جاء رجلان إلى ابن عون يودعانه و
يسألانه أن يوصيهما فقال لهما : عليكما بكظم الغيظ و بذل الزاد فرأى
أحدهما في المنام : أن ابن عون أهدى إليهما حلتين و الإحسان إلى الرفقة في
السفر أفضل من العبادة القاصرة لا سيما إن احتاج العابد إلى خدمة إخوانه و
قد كان النبي صلى الله عليه و سلم في سفر في حر شديد و معه من هو صائم و
مفطر فسقط الصوام و قام المفطرون فضربوا الأبنية و سقوا الركاب فقال النبي
صلى الله عليه و سلم : [ ذهب المفطرون اليوم بالأجر ] و روي أنه صلى الله
عليه و سلم كان في سفر فرأى رجلا صائما فقال له : [ ما حملك على الصوم في
السفر ؟ فقال : معي ابناي يرحلان بي و يخدماني فقال له ما زال لهما الفضل
عليك ] و في مراسيل أبي داود [ عن أبي قلابة رضي الله عنه قال : قدم ناس
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من سفر يثنون على صاحب لهم قالوا
: ما رأينا مثل فلان قط ما كان في مسير إلا كان في قراءة و لا نزلنا منزلا
إلا كان في صلاة قال : فمن كان يكفيه ضيعته ؟ حتى ذكر و من كان يعلف دابته
؟ قالوا : نحن قال : فكلكم خير منه ] و قال مجاهد : صحبت ابن عمر في السفر
لأخدمه فكان يخدمني و كان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن
يخدمهم اغتناما لأجر ذلك منهم : عامر بن عبد قيس و عمرو بن عتبة بن فرقد
مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما و كذلك كان إبراهيم بن أدهم يشترط على
أصحابه في السفر الخدمة و الأذان و كان رجل من الصالحين يصحب إخوانه في
سفر الجهاد و غيره فيشترط عليهم أن يخدمهم فكان إذا رأى رجلا يريد أن يغسل
ثوبه قال له : هذا من شرطي فيغسله و إذا رأى من يريد أن يغسل رأسه قال :
هذا من شرطي فيغسله فلما مات نظروا في يده فإذا فيها مكتوب من أهل الجنة
فنظروا إليها فإذا هي كتابة بين الجلد و اللحم و ترافق بهيم العجلي و كان
من العبادين البكائين و رجل تاجر موسر في الحج فلما كان يوم خروجهم للسفر
بكى بهيم حتى قطرت دموعه على صدره ثم قطرت على الأرض و قال : ذكرت بهذه
الرحلة الرحلة إلى الله ثم علا صوته بالنحيب فكره رفيقه التاجر منه ذلك و
خشي أن يتنغص عليه سفره و معه بكثرة بكائه فلما قدما من الحج جاء الرجل
الذي رافق بينهما إليه ليسلم عليهما فبدأ بالتاجر فسلم عليه و سأله عن حله
مع بهيم فقال له : و الله ظننت إن في هذا الخلق مثله كان و الله يتفضل علي
في النفقة و هو معسر و أنا موسر و يتفضل علي في الخدمة و هو شيخ ضعيف و
أنا شاب و يطبخ لي و هو صائم و أنا مفطر فسأله عما كان يكرهه من كثرة
بكائه فقال : و الله ألفت ذلك البكاء و أشرب حبه قلبي حتى كنت أساعده عليه
حتى تأذى بنا الرفقة ثم ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا و يقول
بعضهم لبعض : ما الذي جعلهما أولى بالبكاء منا و المصير واحد فجعلوا و
الله يبكون و نبكي ثم خرج من عنده فدخل على بهيم فسلم عليه و قال له : كيف
رأيت صاحبك قال : خير صاحب كثير الذكر لله طويل التلاوة للقرآن سريع
الدمعة متحمل لهفوات الرفيق فجزاك الله عني خيرا و كان ابن المبارك يطعم
أصحابه في الأسفار أطيب الطعام و هو صائم و كان إذا أراد الحج من بلده مر
و جمع أصحابه و قال : من يريد منكم الحج فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها عنده
في صندوق و يقفل عليه ثم يحملهم و ينفق عليهم أوسع النفقة و يطعمهم أطيب
الطعام ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا و التحف ثم يرجع بهم إلى
بلده فإذا وصلوا صنع لهم طعاما ثم جمعهم عليه و دعا بالصندوق الذي فيه
نفقاتهم فرد إلى كل واحد نفقته
المعنى الثاني : مما يراد بالبر :
فعل الطاعات كلها و ضده الإثم و قد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله : {
و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و
آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و
السائلين و في الرقاب } الآية فتضمنت الآية : أن أنواع البر ستة أنواع من
استكملها فقد استكمل البر : أولها : الإيمان بأصول الإيمان الخمسة و
ثانيها : إيتاء المال المحبوب لذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن
السبيل و السائلين و في الرقاب و ثالثها : إقام الصلاة و رابعها : إيتاء
الزكاة و خامسها : الوفاء بالعهد و سادسها : الصبر على البأساء و الضراء و
حين البأس و كلها يحتاج الحاج إليها فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان و لا
يكمل حجه و يكون مبرورا بدون إقام الصلاة و إيتاء الزكاة فإن أركان
الإسلام بعضها مرتبطة ببعض فلا يكمل الإيمان و الإسلام حتى يؤتي بها كلها
و لا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات و المشاركات المحتاج
إليها في سفر الحج و إيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه و يحتاج مع
ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر فهذه خصال البر و من أهمها
للحاج : إقام الصلاة فمن حج من غير إقام الصلاة لا سيما إن كان حجه تطوعا
كان بمنزلة من سعى في ربح درهم و ضيع رأس ماله و هو ألوف كثيرة و قد كان
السلف يواظبون في الحج على نوافل الصلاة و كان النبي صلى الله عليه و سلم
[ يواظب على قيام الليل على راحلته في أسفاره كلها و يؤثر عليها ] و حج
مسروق فما نام إلا ساجدا و كان محمد بن واسع يصلي في طريق مكة ليله أجمع
في محمله يومىء إيماء و يأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه حتى يشغل عنه بسماع
صوت الحادي فلا يتفطن له و كان المغيرة بن الحكيم الصنعاني يحج من اليمن
ماشيا و كان له ورد بالليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن فيقف فيصلي حتى
يفرغ من ورده ثم يلحق بالركب متى لحق فربما لم يلحقهم إلا في آخر النهار
سلام الله على تلك الأرواح رحمة الله على تلك الأشباح ما مثلنا و مثلهم
إلا كما قال القائل :
( نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... و نزلت بالبيداء أبعد منزل )
فنحن ما نأمر إلا بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها و لو بالجمع بين
الصلاتين المجموعتين في وقت إحداهما بالأرض فإنه لا يرخص لأحد أن يصلي
صلاة الليل في النهار و لا صلاة النهار في الليل و لا أن يصلي على ظهر
راحلته المكتوبة إلا من خاف الإنقطاع عن رفقته أو نحو ذلك مما يخاف على
نفسه فأما المريض و من كان في ماء وطين ففي صلاته على الراحلة اختلاف
مشهور للعلماء و فيه روايتان عن الإمام أحمد و أن يكون بالطهارة الشرعية
بالوضوء بالماء مع القدرة عليه و التيمم عند العجز حسا أو شرعا و متى علم
الله من عبد حرصه على إقام الصلاة على وجهها أعانه قال بعض العلماء : كنت
في طريق الحج و كان الأمير يقف للناس كل يوم لصلاة الفجر فينزل فنصلي ثم
نركب فلما كان ذات يوم قرب طلوع الشمس و لم يقفوا للناس فناديتهم فلم
يلتفتوا إلى ذلك فتوضأت على المحمل ثم نزلت للصلاة على الأرض و وطنت نفسي
على المشي إلى وقت نزولهم للضحى و كانوا لا ينزلون إلى قريب وقت الظهر مع
علمي بمشقة ذلك علي و إني لا قدرة لي عليه فلما صليت و قضيت صلاتي نظرت
إلى رفقتي فإذا هم وقوف و قد كانوا لو سئلوا ذلك لم يفعلوه فسألتهم عن سبب
وقوفهم ؟ فقالوا : لما نزلت تعرقلت مقاود الجمال بعضها في بعض فنحن في
تخليصها إلى الآن قال : فجئت و ركبت و حمدت الله عز و جل و علمت أنه ما
قدم أحد حق الله على هوى نفسه و راحتها إلا رأى سعادة الدنيا و الآخرة و
لا عكس أحد ذلك فقدم حظ نفسه على حق ربه إلا و رأى الشقاوة في الدنيا و
الآخرة و استشهد بقول القائل :
( و الله ما جئتكم زائرا ... إلا وجدت الأرض تطوى لي )
( و لا ثنيت العزم عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي )
و من أعظم أنواع بر الحج كثرة ذكر الله تعالى فيه و قد أمر الله تعالى
بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى و قد روي أن النبي صلى الله
عليه و سلم سئل : [ أي الحاج أفضل ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ] خرجه الإمام
أحمد و روي مرسلا من وجوه متعددة و خصوصا كثرة الذكر في حال الإحرام
بالتلبية و التكبير و في الترمذي و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
: [ أفضل الحج العج و الثج ]
و في حديث جبير بن مطعم المرفوع : [
عجو التكبير عجا و ثجوا الإبل ثجا ] فالعج رفع الصوت في التكبير و التلبية
الثج إراقة دماء الهدايا و النسك و الهدي من أفضل الأعمال قال الله تعالى
: { و البدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير } الآية و قال الله
تعالى : { و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } و أهدى النبي صلى
الله عليه و سلم في حجة الوداع مائة بدنة و كان يبعث الهدي إلى منى فتنحر
عنه و هو مقيم بالمدينة الأمر الثاني : مما يكمل ببر الحج اجتناب أفعال
الإثم فيه من الرفث و الفسوق و المعاصي قال الله تعالى : { فلا رفث و لا
فسوق و لا جدال في الحج و ما تفعلوا من خير يعلمه الله و تزودوا فإن خير
الزاد التقوى }
و في الحديث الصحيح : [ من حج هذا البيت فلم يرفث و لم يفسق رجع كيوم
ولدته أمه ]
و قد سبق حديث : [ من لم يكن له ورع يحجزه عن معاصي الله فليس لله حاجة في
حجه ] فما تزود حاج و لا غيره أفضل من زاد التقوى و لا دعي للحاج عند
توديعه بأفضل من التقوى و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ ودع
غلاما للحج فقال له : زودك الله التقوى ] قال بعض السلف لمن ودعه : اتق
الله فمن اتقى الله فلا وحشة عليه و قال آخر : لمن ودعه للحج أوصيك بما
وصى به النبي صلى الله عليه و سلم معاذا حين ودعه : [ اتق الله حيثما كنت
و أتبع السيئة الحسنة تمحها و خالق الناس بخلق حسن ] و هذه وصية جامعة
لخصال البر كلها و لأبي الدرداء رضي الله عنه :
( يريد المرء أن تؤتى مناه ... و يأبى الله إلا ما أراد )
( يقول المرء فائدتي و مالي ... و تقوى الله أفضل ما استفاد )
و من أعظم ما يجب على الحاج اتقاؤه من الحرام و أن يطيب نفقته في الحج و
أن لا يجعلها من كسب حرام و قد خرج الطبراني و غيره [ من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه مرفوعا : إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة و وضع رجله في الغرز
فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء : لبيك و سعديك زادك حلال و
راحلتك حلال و حجك مبرور غير مأزور و إذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله
في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء : لا لبيك و لا
سعديك زادك حرام و نفقتك حرام و حجك غير مبرور ] مات رجل في طريق مكة
فحفروا له فدفنوه و نسوا الفأس في لحده فكشفوا عنه التراب ليأخذوا الفاس
فإذا رأسه و عنقه قد جمعا في حلقة الفاس فردوا عليه التراب و رجعوا إلى
أهله فسألوهم عنه فقالوا : صحب رجلا فأخذ ماله فكان منه يحج و يغزو
( إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت و لكن حجت العير )
( لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل من حج بيت الله مبرور )
و ما يجب اجتنابه على الحاج و به يتم بر حجه أن لا يقصد بحجه رياء و لا
سمعة و لا مباهاة و لا فخرا و لا خيلاء و لا يقصد به إلا وجه الله و
رضوانه و يتواضع في حجه و يستكين و يخشع لربه روي [ عن أنس رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه و سلم حج على رحل رث و قطيفة ما تساوي أربعة دراهم
و قال : اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها و لا سمعة ]
و قال عطاء : [
صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الصبح بمنى غداة عرفة ثم غدا إلى عرفات
و تحته قطيفة اشتريت له بأربعة دراهم و هو يقول : اللهم اجعلها حجة مبرورة
متقبلة لا رياء فيها و لا سمعة ]
و قال عبد الله بن الحارث : [ ركب
رسول الله صلى الله عليه و سلم رحلا فاهتز به فتواضع لله عز و جل و قال :
لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة ]
قال رجل لابن عمر : ما أكثر الحاج
فقال : ابن عمر : ما أقلهم ثم رأى رجلا على بعير على رحل رث خطامه حبال
فقال : لعل هذا و قال شريح : الحاج قليل و الركبان كثير ما أكثر من يعمل
الخير و لكن ما أقل الذين يريدون وجهه
( خليلي قطاع الفيافي إلى الحمى ... كثير و أما الواصلون قليل )
كان بعض المتقدمين يحج ماشيا على قدميه كل عام فكان ليلة نائما على فراشه
فطلبت منه أمه شربة ماء فصعب على نفسه القيام من فراشه لسقي أمه الماء
فتذكر حجه ماشيا كل عام و أنه لا يشق عليه فحاسب نفسه فرأى أنه لا يهونه
عليه إلا رؤية الناس له و مدحهم إياه فعلم أنه كان مدخولا قال بعض
التابعين : رب محرم يقول : لبيك اللهم لبيك فيقول الله : لا لبيك و لا
سعديك هذا مردود عليك قيل له : لم ؟ قال : لعله اشترى ناقة بخمسمائة درهم
و رحلا بمائتي درهم و مفرشا بكذا و كذا ثم ركب ناقته و رجل رأسه و نظر في
عطفيه فذلك الذي يرد عليه و من هنا استحب للحاج أن يكون شعثا أغبر و في
حديث المباهاة يوم عرفة أن الله تعالى يقول لملائكته : [ انظروا إلى عبادي
أتوني شعثا غبرا ضاحين اشهدوا أني قد غفرت لهم ] قال عمر يوما و هو بطريق
مكة : تشعثون و تغبرون و تتفلون و تضحون لا تريدون بذلك شيئا من عرض
الدنيا ما نعلم سفرا خيرا من هذا يعني الحج و عنه قال : إنما الحاج الشعث
التفل و قال ابن عمر لرجل رآه : قد استظل في إحرامه أضح لمن أحرمت له أي
أبرز للضحى و هو حر الشمس
( أتاك الوافدون إليك شعثا ... يسوقون المقلدة الصواف )
( فكم من قاصد للرب رغبا ... و رهبا بين منتعل و حاف )
سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس و أمنا يترددون إليه و يرجعون عنه و
لا يرون أنهم قضوا منه وطرا لما أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه و
نسبه إليه بقوله عز و جل لخليله : { و طهر بيتي للطائفين } تعلقت قلوب
المحبين ببيت محبوبهم فكلما ذكر لهم ذلك البيت الحرام حنوا و كلما تذكروا
بعدهم عنه أنوا
( لا يذكر الرمل الأحن مغترب ... له بذي الرمل أوطار و أوطان )
( تهفو إلى البان من قلبي نوازعه ... و ما بي البان بل من داره البان )
رأى بعض الصالحين الحاج في وقت خروجهم فوقف يبكي و يقول : واضعفاه و ينشد
على أثر ذلك :
( فقلت دعوني و اتباعي ركابكم ... أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد )
ثم تنفس و قال : هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت فكيف تكون حسرة من
انقطع عن الوصول إلى رب البيت يحق لمن رأى الواصلين و هو منقطع أن يقلق و
لمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبة و هو قاعد أن يحزن
( يا سائق العيس ترفق و استمع ... مني و بلغ السلام عني )
( عرض بذكري عندهم لعلهم ... إن سمعوك سألوك عني )
( قل ذلك المحبوس عن قصدكم ... معذب القلب بكل فني )
( يقول أملت بأن أزوركم ... في جملة الوفد فخاب ظني )
( أقعدني الحرمان عن قصدكم ... و رمت أن أسعى فلم يدعني )
ينبغي للمنقطعين طلب الدعاء من الواصلين لتحصل المشاركة كما روي عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال لعمر لما أراد العمرة : [ يا أخي أشركنا في دعائك
] و في مسند البزار [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : اللهم اغفر
للحاج و لمن استغفر له الحاج ] و في الطبراني [ عن ابن عباس رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول في الطواف : اللهم اغفر
لفلان بن فلان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من هذا ؟ قال : رجل
حملني أن أدعو له بين الركن و المقام فقال : قد غفر لصاحبك ]
( ألا قل لزوار دار الحبيب ... هنيئا لكم في الجنان الخلود )
( أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش و أنتم ورود )
لئن سار القوم و قعدنا و قربوا و بعدنا فما يؤمننا أن نكون ممن كره الله
أتباعهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين
( لله در ركائب سارت بهم ... تطوي القفار الشاسعات على الدجا )
( رحلوا إلى البيت الحرام و قد شجا ... قلب المتيم منهمو ما قد شجا )
( نزلوا بباب لا يخيب نزيله ... و قلوبهم بين المخافة و الرجا )
على أن المتخلف لعذر شريك للسائر كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لما
رجع من غزوة تبوك : [ إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا و لا قطعتم واديا
إلا كانوا معكم خلفهم العذر ]
( يا سائرين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
و ربما سبق بعض من سار بقلبه و همته و عزمه بعض السائرين ببدنه رأى بعض
الصالحين في منامه عشية عرفة بعرفة قائلا يقول له : ترى هذا الزحام
بالموقف قال : نعم قال : ما حج منهم إلا رجل واحد تخلف عن الموقف فحج
بهمته فوهب الله له أهل الموقف ما الشأن فيمن سار ببدنه إنما الشأن فيمن
قعد بدنه و سار بقلبه حتى سبق الركب
( من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدا و تجي في الأول )
يا سائرين إلى دار الأحباب قفوا للمنقطعين تحملوا معكم رسائل المحصرين
( خذوا نظرة مني ... فلاقوا بها الحمى )
( يا سائرين إلى الحبيب ترفقوا ... فالقلب بين رحالكم خلفته )
( مالي سوى قلبي و فيك أذبته ... مالي سوى دمعي و فيك سكبته )
كان عمر بن عبد العزيز إذا رأى من يسافر إلى المدينة النبوية يقول له :
أقرىء رسول الله صلى الله عليه و سلم مني السلام و روي أنه كان يبرد عليه
البريد من الشام
( هذه الخيف و هاتيك مني ... فترفق أيها الحادي بنا )
( و احبس الركب علينا ساعة ... نندب الربع و نبكي الدمنا )
( فلذا الموقف أعددنا البكا ... و لذا اليوم الدموع تقتني )
( أتراكم في النقا و المنحنا ... أهل سلع تذكرونا ذكرنا )
( انقطعنا و وصلتم فاعلموا ... و اشكروا المنعم يا أهل منى )
( قد خسرنا و ربحتم فصلوا ... بفضول الربح من قد غبنا )
( سار قلبي خلف أحمالكم ... غير أن العذر عاق البدنا )
( ما قطعتم واديا إلا و قد ... جئته أسعى بأقدام المنى )
( آه و أشواقي إلى ذاك الحمى ... شوق محروم و قد ذاق العنا )
( سلموا عني على أربابه ... أخبروهم أنني خلف الضنا )
( أنا مذ غبتم على تذكاركم ... أترى عندكم ما عندنا )
( بيننا يوم أثيلات النقا ... كان عن غير تراض بيننا )
( زمنا كان و كنا جيرة ... فأعاد الله ذاك الزمنا )
من شاهد تلك الديار و عاين تلك الآثار ثم انقطع عنها لم يمت إلا بالأسف
عليها و الحنين إليها
( ما أذكر عيشنا الذي قد سلفا ... إلا وجف القلب و كم قد وجفا )
( واها لزماننا الذي كان صفا ... وا أسفا و هل يرد فائتا وا أسفا )
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى