صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثالث في صيام آخر شعبان
ثبت في الصحيحين [ عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
لرجل : هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ؟ قال : لا قال : فإذا أفطرت فصم
يومين ] و في رواية للبخاري أظنه يعني رمضان و في رواية لمسلم و علقها
البخاري : [ هل صمت من سرر شعبان شيئا ] و في رواية : [ فإذا أفطرت من
رمضان فصم يومين مكانه ] و في رواية : [ يوما أو يومين ] شك شعبة و روي :
[ من سرار الشهر ] و قد اختلف في تفسير السرار و المشهور إنه آخر الشهر
يقال : سرار الشهر و سراره بكسر السين و فتحها ذكره ابن السكيت و غيره و
قيل : إن الفتح أفصح قاله الفراء و سمي آخر الشهر سرارا : لاسترار القمر
فيه و ممن فسر السرار بآخر الشهر أبو عبيد و غيره من الأئمة و كذلك بوب
عليه البخاري صيام آخر الشهر و أشكل هذا على كثير من العلماء في الصحيحين
أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا
تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] فقال كثير من
العلماء كأبي عبيد و من تابعه كالخطابي و أكثر شراح الحديث : أن هذا الرجل
الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان يعلم أن له عادة بصيامه أو كان
قد نذره فلذلك أمره بقضائه و قالت طائفة : حديث عمران يدل على أنه يجوز
صيام يوم الشك و آخر شعبان مطلقا سواء وافق عادة أو لم يوافق و إنما ينهى
عنه إذا صامه بنية الرمضانية احتياطا و هذا مذهب مالك و ذكر أنه القول
الذي أدرك عليه أهل العلم حتى قال محمد بن مسلمة من أصحابه : يكره الأمر
بفطره لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده و حكى ابن عبد البر
هذا القول عن أكثر علماء الأمصار و ذكر محمد بن ناصر الحافظ : إن هذا هو
مذهب أحمد أيضا و غلط في نقله هذا عن أحمد و لكن يشكل على هذا الحديث [
أبي هريرة رضي الله عنه و قوله : إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] و قد ذكر
الشافعي في كتاب مختلف الحديث احتمالا في معنى قوله : [ إلا من كان يصوم
صوما فليصمه ] و في رواية : [ إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم ] أن
المراد بموافقة العادة صيامه على عادة الناس في التطوع بالصيام دون صيامه
بنية الرمضانية للاحتياط
و قالت طائفة : سر الشهر : أوله و خرج أبو
داود في باب تقدم رمضان من [ حديث معاوية أنه قال : إني متقدم الشهر فمن
شاء فليتقدم فسئل عن ذلك فقال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول :
صوموا الشهر و سره ] ثم حكى أبو داود عن الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز :
أن سر الشهر : أوله قال أبو داود : و قال بعضهم : سره وسطه و فرق الأزهري
بين سرار الشهر و سره فقال : سراره و سرره آخره و سره وسطه و هي أيام
البيض و سر كل شيء جوفه و في رواية لمسلم في [ حديث عمران بن حصين المذكور
: هل صمت من سرة هذا الشهر ] و فسر ذلك : بأيام البيض قلت : لا يصح أن
يفسر سرر الشهر و سراره بأوله لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال و يرى من
أول الليل و لذلك سمى الشهر شهرا لاشتهاره و ظهوره فتسمية ليالي الإشتهار
ليالي السرار قلب للغة و العرف و قد أنكر العلماء ما حكاه أبو داود عن
الأوزاعي منهم الخطابي و روى بإسناده عن الوليد عن الأوزاعي قال : سر
الشهر : آخره و قال الهروي : المعروف أن سر الشهر آخره و فسر الخطابي حديث
معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] بأن المراد بالشهر الهلال فيكون المنى
صوموا أول الشهر و آخره فلذلك أمر معاوية بصيام آخر الشهر قلت : لما روى
معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] و صام آخر الشهر علم أنه فسر السر بالآخر
و الأظهر أن المراد بالشهر شهر رمضان كله و المراد بسره آخر شعبان كما في
رواية البخاري في حديث عمران أظنه يعني رمضان و أضاف السرر إلى رمضان و إن
لم يكن منه كما سمى رمضان شهر عيد و إن كان العيد ليس منه لكنه يعقبه فدل
حديث عمران و حديث معاوية على استحباب صيام آخر شعبان و إنما أمر بقضائه
في أول شوال لأن كلا من الوقتين صيام يلي شهر رمضان فهو ملتحق برمضان في
الفضل فمن فاته ما قبله صامه فيما بعده كما كان النبي صلى الله عليه و سلم
يصوم شعبان و ندب إلى صيام شوال
و إنما يشكل على هذا حديث أبي هريرة
رضي الله عنه في نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن تقدم رمضان بيوم أو
يومين إلا من له عادة أو من كان يصوم صوما و أكثر العلماء على أنه نهى عن
التقدم إلا من كانت له عادة بالتطوع فيه و هو ظاهر الحديث و لم يذكر أكثر
العلماء في تفسيره بذلك اختلافا و هو الذي اختاره الشافعي في تفسيره و لم
يرجح ذلك الإحتمال المتقدم و على هذا فيرجح حديث أبي هريرة على حديث عمران
فإن حديث أبي هريرة فيه نهي عام للأمة عموما فهو تشريع عام للأمة فيعمل به
و أما حديث عمران فهي قضية عين في حق رجل معين فيتعين حمله على صورة صيام
لا ينهى عن التقدم به جمعا بين الحدثين و أحسن ما حمل عليه : أن هذا الرجل
الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان قد علم منه صلى الله عليه و سلم
أنه كان يصوم شعبان أو أكثره موافقة لصيام النبي صلى الله عليه و سلم و
كان قد أفطر فيه بعضه فسأله عن صيام آخره فلما أخبره أنه لم يصم آخره أمره
بأن يصوم بدله بعد يوم الفطر لأن صيام أول شوال كصيام آخر شعبان و كلاهما
حريم لرمضان و فيه دليل على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام و أن
يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل و فيه دليل على
أنه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما
فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يصوم بنية الرمضانية احتياطا لرمضان فهذا منهي عنه و قد فعله
بعض الصحابة و كأنهم لم يبلغهم النهي عنه و فرق ابن عمر بين يوم الغيم و
الصحو في يوم الثلاثين من شعبان و تبعه الإمام أحمد
و الثاني : أن
يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة و نحو ذلك فجوزه الجمهور و
نهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان بفطر يوم مطلقا و هم طائفة من
السلف و حكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة و الشافعي و فيه نظر
و الثالث
: أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان
بالفطر منهم الحسن و إن وافق صوما كان يصومه و رخص فيه مالك و من وافقه و
فرق الشافعي و الأوزاعى و أحمد و غيرهم بين أن يوافق عادة أو لا و كذلك
يفرق بين صيامه بأكثر من يومين و وصله برمضان فلا يكره أيضا إلا عند من
كره الإبتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدىء
الصيام قبل النصف ثم يصله برمضان و في الجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول
به في هذا الباب عند كثير من العلماء و انه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع
بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة و لا سبق منه صيام قبل ذلك في
شعبان متصلا بآخره
و لكراهة التقدم ثلاثة معان : أحدها : أنه على
وجه الإحتياط لرمضان فينهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس
منه كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب
في صيامهم فزادوا فيه بآرائهم و أهوائهم و خرج الطبراني و غيره عن عائشة
رضي الله عنه قالت : إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى
الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا
بين يدي الله و رسوله } قالت عائشة : إنما الصوم صوم الناس و الفطر فطر
الناس و مع هذا فكان من السلف من يتقدم للإحتياط و الحديث حجة عليه و لهذا
نهي عن صيام يوم الشك قال عمار : من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله
عليه و سلم و يوم الشك هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو غيره فكان
من المتقدمين من يصومه احتياطا و رخص فيه بعض الحنفية للعلماء في أنفسهم
خاصة دون العامة لئلا يعتقدوا وجوبه بناء على أصلهم في أن صوم رمضان يجزىء
بنية الصيام المطلق و النفل و يوم الشك هو الذي تحدث فيه برؤيته من لم
يقبل قوله فأما يوم الغيم فمن العلماء من جعله يوم شك و نهى عن صيامه و هو
قول الأكثرين و منهم من صامه احتياطا و هو قول ابن عمر و كان الإمام أحمد
يتابعه على ذلك و عنه في صيامه ثلاث روايات مشهورات ثالثها لا يصام إلا مع
الإمام و جماعة المسلمين لئلا يقع الإفتيات عليهم و الإنفراد عنهم و قال
اسحاق : لا يصام يوم الغيم و لكم يتلوم بالأكل فيه إلى ضحوة النهار خشية
أن يشهد برؤيته بخلاف حال الصحو فإنه يأكل فيه من غدوة
و المعنى
الثاني : الفصل بين صيام الفرض و النفل فإن جنس الفصل بين الفرائض و
النوافل مشروع و لهذا حرم صيام يوم العيد و نهى النبي صلى الله عليه و سلم
أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام و خصوصا سنة
الفجر قبلها فإنه يشرع الفصل بينها و بين الفريضة و لهذا يشرع صلاتها في
البيت و الإضطجاع بعدها و لما رأى النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يصلي و
قد أقيمت صلاة الفجر : [ الصبح أربعا ] و في المسند : أنه صلى الله عليه و
سلم قال : [ افصلوا بينها و بين المكتوبة و لا تجعلوها كصلاة الظهر ] و في
سنن أبي داود : [ إن رجلا صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما سلم قام
يشفع فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبيه فهزه ثم قال : اجلس فإنه لم يهلك أهل
الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل فرفع النبي صلى الله عليه و سلم بصره
فقال : أصاب الله بك يا ابن الخطاب ] و من علل بهذا
فمنهم من كره
وصل صوم شعبان برمضان مطلقا و روي عن ابن عمر قال : لو صمت الدهر كله
لأفطرت الذي بينهما و روي فيه حديث مرفوع لا يصح و الجمهور على جواز صيام
ما وافق عادة لأن الزيادة إنما تخشى إذا لم يعرف سبب الصيام
و
المعنى الثالث : إنه أمر بذلك للتقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصيام قد
تضعف عن صيام الفرض فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى
التقوي على صيام رمضان و في هذا التعليل نظر فإنه لا يكره التقدم بأكثر من
ذلك و لا لمن صام الشهر كله و هو أبلغ في معنى الضعف لكن الفطر بنية
التقوي لصيام رمضان حسن لمن أضعفه مواصلة الصيام كما كان عبد الله بن عمرو
بن العاص يسرد الفطر أحيانا ثم يسرد الصوم ليتقوى بفطره على صومه و منه
قول بعض الصحابة إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي و في الحديث المرفوع : [
الطاعم الشاكر كالصائم الصابر ] خرجه الترمذي و غيره و لربما ظن بعض
الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من
الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام و لهذا يقولون هي أيام توديع للأكل و
تسمى تنحيسا و اشتقاقه من الأيام النحسات و من قال : هو تنهيس بالهاء فهو
خطأ منه ذكره ابن درستويه النحوي و ذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى فإنهم
يفعلونه عند قرب صيامهم و هذا كله خطأ و جهل ممن ظنه و ربما لم يقتصر كثير
منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات و هذا هو الخسران
المبين و أنشد لبعضهم :
( إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار )
( و لا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار )
و قال آخر
( جاء شعبان منذرا بالصيام ... فاسقياني راحا بماء الغمام )
و من كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه و له نصيب من قوله تعالى : { و لقد
ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } الآية و ربما
كره كثير منهم صيام رمضان حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه و كان
للرشيد ابن سفيه فقال مرة :
( دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... و لا صمت شهرا بعده آخر الدهر )
( فلو كان يعديني الأنام بقدرة ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر )
فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة و مات قبل أن يدركه
رمضان آخر و هؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من
الصلاة و الصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام و
كثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه و يشق على نفسه
مفارقتها لمألوفها فهو يعد الأيام و الليالي ليعودوا إلى المعصية و هؤلاء
مصرون على ما فعلوا و هم يعلمون فهم هلكى و منهم من لا يصبر على المعاصي
فهو يواقعها في رمضان و حكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة و قد رويت من
وجوه و هو أنه كان مصرا على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان و هو
سكران فعاتبته أمه و هي تسجر تنورا فحملها فألقاها في التنور فاحترقت و
كان بعد ذلك قد تاب و تعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم
سواه فمن أراد الله به خيرا حبب إليه الإيمان و زينه في قلبه و كره إليه
الكفر و الفسوق و العصيان فصار من الراشدين و من أراد به شر خلى بينه و
بين نفسه فاتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر و الفسوق و العصيان فكان من
الغاوين الحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم و كم جلبت من نقم و كم
خربت من ديار و كم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديار كم أخذت من
العصاة بالثار كم محت لهم من آثار
( يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى و هي تنتظر )
( فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... و ليس للخلق من ديانهم وزر )
أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام و نهارهم
صيام باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له و
يستعدون بالأطعمة و غيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت : و
أنتم لا تصومون إلا رمضان لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم
باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم : يا أهل الدار
الصلاة الصلاة قالوا : طلع الفجر ؟ قالت : أنتم لا تصلون إلا المكتوبة ثم
جاءت الحسن فقالت : بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني
قال بعض السلف : صم الدنيا و اجعل فطرك الموت الدنيا كلها شهر صيام
المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر
صيامهم و استهلوا عيد فطرهم
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته و من تعجل ما حرم عليه قبل
وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة و فواته و شاهد ذلك قوله تعالى : { أذهبتم
طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها } الآية و قول النبي صلى الله
عليه و سلم : [ من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس
الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ]
( أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك )
( و اجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك )
( و ليكن فطرك عند اللـ ... ه في يوم وفاتك )
في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا : [ لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت
أمتي أن يكون رمضان السنة كلها ] و كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر
أصحابه بقدوم رمضان كما خرجه الإمام أحمد و النسائي [ عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر أصحابه يقول : قد
جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان و
تغلق فيه أبواب الجحيم و تغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم
خيرها فقد حرم ] قال بعض العلماء : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم
بعضا بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب
بغلق أبواب النيران كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين من أين يشبه
هذا الزمان زمان و في حديث آخر : [ أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحبا به و
أهلا ] جاء شهر الصيام بالبركات فأكرم به من زائر هو آت و روي : [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل رجب يقول :
اللهم بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان ] خرجه الطبراني و غيره من
حديث أنس قال معلى بن الفضل : كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم
رمضان يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم و قال يحيى بن أبي كثير كان من
دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان و سلم لي رمضان و تسلمه مني متقبلا بلوغ
شهر رمضان و صيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه و يدل عليه [ حديث
الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما فرؤي في
المنام سابقا لهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أليس صلى بعدهما كذا
و كذا صلاة و أدرك رمضان فصامه ؟ ! فوالذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما
بين السماء و الأرض ] خرجه الإمام أحمد و غيره من رحم في رمضان فهو
المرحوم و من حرم خيره فهو المحروم و من لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم
( أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد )
( فأد حقوقه قولا و فعلا ... و زادك فاتخذه للمعاد )
( فمن زرع الحبوب و ما سقاها ... تأوه نادما يوم الحصاد )
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة يا من دامت خسارته قد أقبلت
أيام التجارة الرابحة من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح من لم يقرب
فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح
( أناس أعرضوا عنا ... بلا جرم و لا معنى )
( أساؤا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا )
( فإن عادوا لنا عدنا ... و إن خانوا فما خنا )
( فإن كانوا قد استغنوا ... فإنا عنهم أغنا )
كم ينادي حي على الفلاح و أنت خاسر كم تدعى إلى الصلاح و أنت على الفساد
مثابر
( إذا رمضان أتى مقبلا ... فاقبل فبالخير يستقبل )
( لعلك تخطئه قابلا ... و تأتي بعذر فلا يقبل )
كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر كم من
مستقبل يوما لا يستكمله و مؤمل غدا لا يدركه إنكم لو أبصرتم الأجل و مسيره
لأبغضتم الأمل و غروره خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها :
إنكم لم تخلقوا عبثا و لن تتركوا سدى و إن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل
بين عباده فقد خاب و خسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء و حرم جنة
عرضها السموات و الأرض ألا ترون إنكم في أسلاب الهالكين و سيرتها بعدكم
الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين و في كل يوم تشيعون غاديا و رائحا
إلى الله قد قضى نحبه و انقضى أجله فتودعونه و تدعونه في صدع من الأرض غير
موسد و لا ممهد قد خلع الأسباب و فارق الأحباب و سكن التراب و واجه الحساب
غنيا عما خلف فقيرا إلى ما أسلف فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت و
انقضاء مواقيته و إني لأقول لكم هذه المقالة و ما أعلم عند أحد من الذنوب
أكثر مما أعلم عندي و لكن أستغفر الله و أتوب إليه ثم رفع طرف ردائه و بكى
حتى شهق ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه
( يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان )
( لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان )
( و اتل القرآن و سبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح و قرآن )
( فاحمل على جسد ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران )
( كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل و جيران و إخوان )
( أفناهم الموت و استبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني )
( و معجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان )
( حتى يعمر الإنسان مسكنه ... مصير مسكنه قبر لإنسان )
ثبت في الصحيحين [ عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
لرجل : هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ؟ قال : لا قال : فإذا أفطرت فصم
يومين ] و في رواية للبخاري أظنه يعني رمضان و في رواية لمسلم و علقها
البخاري : [ هل صمت من سرر شعبان شيئا ] و في رواية : [ فإذا أفطرت من
رمضان فصم يومين مكانه ] و في رواية : [ يوما أو يومين ] شك شعبة و روي :
[ من سرار الشهر ] و قد اختلف في تفسير السرار و المشهور إنه آخر الشهر
يقال : سرار الشهر و سراره بكسر السين و فتحها ذكره ابن السكيت و غيره و
قيل : إن الفتح أفصح قاله الفراء و سمي آخر الشهر سرارا : لاسترار القمر
فيه و ممن فسر السرار بآخر الشهر أبو عبيد و غيره من الأئمة و كذلك بوب
عليه البخاري صيام آخر الشهر و أشكل هذا على كثير من العلماء في الصحيحين
أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا
تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] فقال كثير من
العلماء كأبي عبيد و من تابعه كالخطابي و أكثر شراح الحديث : أن هذا الرجل
الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان يعلم أن له عادة بصيامه أو كان
قد نذره فلذلك أمره بقضائه و قالت طائفة : حديث عمران يدل على أنه يجوز
صيام يوم الشك و آخر شعبان مطلقا سواء وافق عادة أو لم يوافق و إنما ينهى
عنه إذا صامه بنية الرمضانية احتياطا و هذا مذهب مالك و ذكر أنه القول
الذي أدرك عليه أهل العلم حتى قال محمد بن مسلمة من أصحابه : يكره الأمر
بفطره لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده و حكى ابن عبد البر
هذا القول عن أكثر علماء الأمصار و ذكر محمد بن ناصر الحافظ : إن هذا هو
مذهب أحمد أيضا و غلط في نقله هذا عن أحمد و لكن يشكل على هذا الحديث [
أبي هريرة رضي الله عنه و قوله : إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] و قد ذكر
الشافعي في كتاب مختلف الحديث احتمالا في معنى قوله : [ إلا من كان يصوم
صوما فليصمه ] و في رواية : [ إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم ] أن
المراد بموافقة العادة صيامه على عادة الناس في التطوع بالصيام دون صيامه
بنية الرمضانية للاحتياط
و قالت طائفة : سر الشهر : أوله و خرج أبو
داود في باب تقدم رمضان من [ حديث معاوية أنه قال : إني متقدم الشهر فمن
شاء فليتقدم فسئل عن ذلك فقال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول :
صوموا الشهر و سره ] ثم حكى أبو داود عن الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز :
أن سر الشهر : أوله قال أبو داود : و قال بعضهم : سره وسطه و فرق الأزهري
بين سرار الشهر و سره فقال : سراره و سرره آخره و سره وسطه و هي أيام
البيض و سر كل شيء جوفه و في رواية لمسلم في [ حديث عمران بن حصين المذكور
: هل صمت من سرة هذا الشهر ] و فسر ذلك : بأيام البيض قلت : لا يصح أن
يفسر سرر الشهر و سراره بأوله لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال و يرى من
أول الليل و لذلك سمى الشهر شهرا لاشتهاره و ظهوره فتسمية ليالي الإشتهار
ليالي السرار قلب للغة و العرف و قد أنكر العلماء ما حكاه أبو داود عن
الأوزاعي منهم الخطابي و روى بإسناده عن الوليد عن الأوزاعي قال : سر
الشهر : آخره و قال الهروي : المعروف أن سر الشهر آخره و فسر الخطابي حديث
معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] بأن المراد بالشهر الهلال فيكون المنى
صوموا أول الشهر و آخره فلذلك أمر معاوية بصيام آخر الشهر قلت : لما روى
معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] و صام آخر الشهر علم أنه فسر السر بالآخر
و الأظهر أن المراد بالشهر شهر رمضان كله و المراد بسره آخر شعبان كما في
رواية البخاري في حديث عمران أظنه يعني رمضان و أضاف السرر إلى رمضان و إن
لم يكن منه كما سمى رمضان شهر عيد و إن كان العيد ليس منه لكنه يعقبه فدل
حديث عمران و حديث معاوية على استحباب صيام آخر شعبان و إنما أمر بقضائه
في أول شوال لأن كلا من الوقتين صيام يلي شهر رمضان فهو ملتحق برمضان في
الفضل فمن فاته ما قبله صامه فيما بعده كما كان النبي صلى الله عليه و سلم
يصوم شعبان و ندب إلى صيام شوال
و إنما يشكل على هذا حديث أبي هريرة
رضي الله عنه في نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن تقدم رمضان بيوم أو
يومين إلا من له عادة أو من كان يصوم صوما و أكثر العلماء على أنه نهى عن
التقدم إلا من كانت له عادة بالتطوع فيه و هو ظاهر الحديث و لم يذكر أكثر
العلماء في تفسيره بذلك اختلافا و هو الذي اختاره الشافعي في تفسيره و لم
يرجح ذلك الإحتمال المتقدم و على هذا فيرجح حديث أبي هريرة على حديث عمران
فإن حديث أبي هريرة فيه نهي عام للأمة عموما فهو تشريع عام للأمة فيعمل به
و أما حديث عمران فهي قضية عين في حق رجل معين فيتعين حمله على صورة صيام
لا ينهى عن التقدم به جمعا بين الحدثين و أحسن ما حمل عليه : أن هذا الرجل
الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان قد علم منه صلى الله عليه و سلم
أنه كان يصوم شعبان أو أكثره موافقة لصيام النبي صلى الله عليه و سلم و
كان قد أفطر فيه بعضه فسأله عن صيام آخره فلما أخبره أنه لم يصم آخره أمره
بأن يصوم بدله بعد يوم الفطر لأن صيام أول شوال كصيام آخر شعبان و كلاهما
حريم لرمضان و فيه دليل على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام و أن
يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل و فيه دليل على
أنه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما
فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يصوم بنية الرمضانية احتياطا لرمضان فهذا منهي عنه و قد فعله
بعض الصحابة و كأنهم لم يبلغهم النهي عنه و فرق ابن عمر بين يوم الغيم و
الصحو في يوم الثلاثين من شعبان و تبعه الإمام أحمد
و الثاني : أن
يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة و نحو ذلك فجوزه الجمهور و
نهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان بفطر يوم مطلقا و هم طائفة من
السلف و حكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة و الشافعي و فيه نظر
و الثالث
: أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان
بالفطر منهم الحسن و إن وافق صوما كان يصومه و رخص فيه مالك و من وافقه و
فرق الشافعي و الأوزاعى و أحمد و غيرهم بين أن يوافق عادة أو لا و كذلك
يفرق بين صيامه بأكثر من يومين و وصله برمضان فلا يكره أيضا إلا عند من
كره الإبتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدىء
الصيام قبل النصف ثم يصله برمضان و في الجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول
به في هذا الباب عند كثير من العلماء و انه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع
بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة و لا سبق منه صيام قبل ذلك في
شعبان متصلا بآخره
و لكراهة التقدم ثلاثة معان : أحدها : أنه على
وجه الإحتياط لرمضان فينهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس
منه كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب
في صيامهم فزادوا فيه بآرائهم و أهوائهم و خرج الطبراني و غيره عن عائشة
رضي الله عنه قالت : إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى
الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا
بين يدي الله و رسوله } قالت عائشة : إنما الصوم صوم الناس و الفطر فطر
الناس و مع هذا فكان من السلف من يتقدم للإحتياط و الحديث حجة عليه و لهذا
نهي عن صيام يوم الشك قال عمار : من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله
عليه و سلم و يوم الشك هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو غيره فكان
من المتقدمين من يصومه احتياطا و رخص فيه بعض الحنفية للعلماء في أنفسهم
خاصة دون العامة لئلا يعتقدوا وجوبه بناء على أصلهم في أن صوم رمضان يجزىء
بنية الصيام المطلق و النفل و يوم الشك هو الذي تحدث فيه برؤيته من لم
يقبل قوله فأما يوم الغيم فمن العلماء من جعله يوم شك و نهى عن صيامه و هو
قول الأكثرين و منهم من صامه احتياطا و هو قول ابن عمر و كان الإمام أحمد
يتابعه على ذلك و عنه في صيامه ثلاث روايات مشهورات ثالثها لا يصام إلا مع
الإمام و جماعة المسلمين لئلا يقع الإفتيات عليهم و الإنفراد عنهم و قال
اسحاق : لا يصام يوم الغيم و لكم يتلوم بالأكل فيه إلى ضحوة النهار خشية
أن يشهد برؤيته بخلاف حال الصحو فإنه يأكل فيه من غدوة
و المعنى
الثاني : الفصل بين صيام الفرض و النفل فإن جنس الفصل بين الفرائض و
النوافل مشروع و لهذا حرم صيام يوم العيد و نهى النبي صلى الله عليه و سلم
أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام و خصوصا سنة
الفجر قبلها فإنه يشرع الفصل بينها و بين الفريضة و لهذا يشرع صلاتها في
البيت و الإضطجاع بعدها و لما رأى النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يصلي و
قد أقيمت صلاة الفجر : [ الصبح أربعا ] و في المسند : أنه صلى الله عليه و
سلم قال : [ افصلوا بينها و بين المكتوبة و لا تجعلوها كصلاة الظهر ] و في
سنن أبي داود : [ إن رجلا صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما سلم قام
يشفع فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبيه فهزه ثم قال : اجلس فإنه لم يهلك أهل
الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل فرفع النبي صلى الله عليه و سلم بصره
فقال : أصاب الله بك يا ابن الخطاب ] و من علل بهذا
فمنهم من كره
وصل صوم شعبان برمضان مطلقا و روي عن ابن عمر قال : لو صمت الدهر كله
لأفطرت الذي بينهما و روي فيه حديث مرفوع لا يصح و الجمهور على جواز صيام
ما وافق عادة لأن الزيادة إنما تخشى إذا لم يعرف سبب الصيام
و
المعنى الثالث : إنه أمر بذلك للتقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصيام قد
تضعف عن صيام الفرض فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى
التقوي على صيام رمضان و في هذا التعليل نظر فإنه لا يكره التقدم بأكثر من
ذلك و لا لمن صام الشهر كله و هو أبلغ في معنى الضعف لكن الفطر بنية
التقوي لصيام رمضان حسن لمن أضعفه مواصلة الصيام كما كان عبد الله بن عمرو
بن العاص يسرد الفطر أحيانا ثم يسرد الصوم ليتقوى بفطره على صومه و منه
قول بعض الصحابة إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي و في الحديث المرفوع : [
الطاعم الشاكر كالصائم الصابر ] خرجه الترمذي و غيره و لربما ظن بعض
الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من
الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام و لهذا يقولون هي أيام توديع للأكل و
تسمى تنحيسا و اشتقاقه من الأيام النحسات و من قال : هو تنهيس بالهاء فهو
خطأ منه ذكره ابن درستويه النحوي و ذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى فإنهم
يفعلونه عند قرب صيامهم و هذا كله خطأ و جهل ممن ظنه و ربما لم يقتصر كثير
منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات و هذا هو الخسران
المبين و أنشد لبعضهم :
( إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار )
( و لا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار )
و قال آخر
( جاء شعبان منذرا بالصيام ... فاسقياني راحا بماء الغمام )
و من كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه و له نصيب من قوله تعالى : { و لقد
ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } الآية و ربما
كره كثير منهم صيام رمضان حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه و كان
للرشيد ابن سفيه فقال مرة :
( دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... و لا صمت شهرا بعده آخر الدهر )
( فلو كان يعديني الأنام بقدرة ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر )
فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة و مات قبل أن يدركه
رمضان آخر و هؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من
الصلاة و الصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام و
كثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه و يشق على نفسه
مفارقتها لمألوفها فهو يعد الأيام و الليالي ليعودوا إلى المعصية و هؤلاء
مصرون على ما فعلوا و هم يعلمون فهم هلكى و منهم من لا يصبر على المعاصي
فهو يواقعها في رمضان و حكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة و قد رويت من
وجوه و هو أنه كان مصرا على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان و هو
سكران فعاتبته أمه و هي تسجر تنورا فحملها فألقاها في التنور فاحترقت و
كان بعد ذلك قد تاب و تعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم
سواه فمن أراد الله به خيرا حبب إليه الإيمان و زينه في قلبه و كره إليه
الكفر و الفسوق و العصيان فصار من الراشدين و من أراد به شر خلى بينه و
بين نفسه فاتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر و الفسوق و العصيان فكان من
الغاوين الحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم و كم جلبت من نقم و كم
خربت من ديار و كم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديار كم أخذت من
العصاة بالثار كم محت لهم من آثار
( يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى و هي تنتظر )
( فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... و ليس للخلق من ديانهم وزر )
أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام و نهارهم
صيام باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له و
يستعدون بالأطعمة و غيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت : و
أنتم لا تصومون إلا رمضان لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم
باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم : يا أهل الدار
الصلاة الصلاة قالوا : طلع الفجر ؟ قالت : أنتم لا تصلون إلا المكتوبة ثم
جاءت الحسن فقالت : بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني
قال بعض السلف : صم الدنيا و اجعل فطرك الموت الدنيا كلها شهر صيام
المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر
صيامهم و استهلوا عيد فطرهم
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته و من تعجل ما حرم عليه قبل
وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة و فواته و شاهد ذلك قوله تعالى : { أذهبتم
طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها } الآية و قول النبي صلى الله
عليه و سلم : [ من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس
الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ]
( أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك )
( و اجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك )
( و ليكن فطرك عند اللـ ... ه في يوم وفاتك )
في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا : [ لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت
أمتي أن يكون رمضان السنة كلها ] و كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر
أصحابه بقدوم رمضان كما خرجه الإمام أحمد و النسائي [ عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر أصحابه يقول : قد
جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان و
تغلق فيه أبواب الجحيم و تغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم
خيرها فقد حرم ] قال بعض العلماء : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم
بعضا بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب
بغلق أبواب النيران كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين من أين يشبه
هذا الزمان زمان و في حديث آخر : [ أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحبا به و
أهلا ] جاء شهر الصيام بالبركات فأكرم به من زائر هو آت و روي : [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل رجب يقول :
اللهم بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان ] خرجه الطبراني و غيره من
حديث أنس قال معلى بن الفضل : كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم
رمضان يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم و قال يحيى بن أبي كثير كان من
دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان و سلم لي رمضان و تسلمه مني متقبلا بلوغ
شهر رمضان و صيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه و يدل عليه [ حديث
الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما فرؤي في
المنام سابقا لهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أليس صلى بعدهما كذا
و كذا صلاة و أدرك رمضان فصامه ؟ ! فوالذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما
بين السماء و الأرض ] خرجه الإمام أحمد و غيره من رحم في رمضان فهو
المرحوم و من حرم خيره فهو المحروم و من لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم
( أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد )
( فأد حقوقه قولا و فعلا ... و زادك فاتخذه للمعاد )
( فمن زرع الحبوب و ما سقاها ... تأوه نادما يوم الحصاد )
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة يا من دامت خسارته قد أقبلت
أيام التجارة الرابحة من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح من لم يقرب
فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح
( أناس أعرضوا عنا ... بلا جرم و لا معنى )
( أساؤا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا )
( فإن عادوا لنا عدنا ... و إن خانوا فما خنا )
( فإن كانوا قد استغنوا ... فإنا عنهم أغنا )
كم ينادي حي على الفلاح و أنت خاسر كم تدعى إلى الصلاح و أنت على الفساد
مثابر
( إذا رمضان أتى مقبلا ... فاقبل فبالخير يستقبل )
( لعلك تخطئه قابلا ... و تأتي بعذر فلا يقبل )
كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر كم من
مستقبل يوما لا يستكمله و مؤمل غدا لا يدركه إنكم لو أبصرتم الأجل و مسيره
لأبغضتم الأمل و غروره خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها :
إنكم لم تخلقوا عبثا و لن تتركوا سدى و إن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل
بين عباده فقد خاب و خسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء و حرم جنة
عرضها السموات و الأرض ألا ترون إنكم في أسلاب الهالكين و سيرتها بعدكم
الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين و في كل يوم تشيعون غاديا و رائحا
إلى الله قد قضى نحبه و انقضى أجله فتودعونه و تدعونه في صدع من الأرض غير
موسد و لا ممهد قد خلع الأسباب و فارق الأحباب و سكن التراب و واجه الحساب
غنيا عما خلف فقيرا إلى ما أسلف فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت و
انقضاء مواقيته و إني لأقول لكم هذه المقالة و ما أعلم عند أحد من الذنوب
أكثر مما أعلم عندي و لكن أستغفر الله و أتوب إليه ثم رفع طرف ردائه و بكى
حتى شهق ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه
( يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان )
( لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان )
( و اتل القرآن و سبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح و قرآن )
( فاحمل على جسد ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران )
( كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل و جيران و إخوان )
( أفناهم الموت و استبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني )
( و معجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان )
( حتى يعمر الإنسان مسكنه ... مصير مسكنه قبر لإنسان )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وظائف شهر رمضان المعظم و فيه مجالس ـ المجلس الأول في فضل
الصيام
ثبت في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال عز
و جل : إلا الصيام فإنه لي و أنا الذي أجزي به إنه ترك شهوته و طعامه و
شرابه من أجلي للصائم فرحتان : فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه و لخلوف
فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ] و في رواية : [ كل عمل ابن آدم له
إلا الصيام فإنه لي ] و في رواية للبخاري : [ لكل عمل كفارة و الصوم لي و
أنا الذي أجزي به ] و خرجه الإمام أحمد من هذا الوجه و لفظه : [ كل عمل
ابن آدم له كفارة إلا الصوم و الصوم لي و أنا أجزي به ]
فعلى
الرواية الأولى : يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون العمال
كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه
في هذا العدد بل يضاعفه الله عز و جل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد فإن
الصيام من الصبر و قد قال الله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير
حساب } و لهذا ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه سمى شهر رمضان
شهر الصبر ] و في حديث آخر عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ الصوم نصف
الصبر ] خرجه الترمذي
و الصبر ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله و صبر عن محارم الله و صبر على
أقدار الله المؤلمة
و تجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبرا على طاعة الله و صبرا عما حرم الله
على الصائم من الشهوات و صبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع و
العطش و ضعف النفس و البدن و هذا الألم الناشىء من أعمال الطاعات يثاب
عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ
ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون
من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } و في
حديث سلمان المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في فضل شهر رمضان : [ و
هو شهر الصبر و الصبر ثوابه الجنة ] و في الطبراني [ عن ابن عمر مرفوعا :
الصيام لا يعلم ثواب عمله إلا الله عز و جل ] و روي مرسلا و هو أصح
و اعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها شرف المكان المعمول فيه
ذلك العمل كالحرم و لذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة و المدينة كما ثبت ذلك
في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ صلاة في مسجدي هذا
خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ] و في رواية : [
فإنه أفضل ] و كذلك روي : [ أن الصيام يضاعف بالحرم ] و في سنن ابن ماجة
بإسناد ضعيف [ عن ابن عباس مرفوعا : من أدرك رمضان بمكة فصامه و قام منه
ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه ] و ذكر له ثوابا كثيرا
و منها : شرف الزمان كشهر رمضان و عشر ذي الحجة و في حديث سلمان الفارسي
المرفوع الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان : [ من تطوع فيه بخصلة من خصال
الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه و من أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين
فريضة فيما سواه ] و في الترمذي [ عن أنس : سئل النبي صلى الله عليه و سلم
أي الصدقة أفضل ؟ قال : صدقة في رمضان ] و في الصحيحين [ عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : عمرة في رمضان تعدل بحجة ] أو قال : [ حجة معي ] و
ورد في حديث آخر : [ أن عمل الصائم مضاعف ] و ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن
أشياخه أنهم كانوا يقولون : إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة فإن
النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة
في غيره قال النخعي : صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم و تسبيحة فيه أفضل
من ألف تسبيحة و ركعة فيه أفضل من ألف ركعة فلما كان الصيام في نفسه
مضاعفا أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفا على سائر
الصيام لشرف زمانه و كونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده و جعل صيامه
أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها و قد يضاعف الثواب بأسباب أخر
منها شرف العامل عند الله و قربه منه و كثرة تقواه كما يضاعف أجر هذه
الأمة على أجور من قبلهم من الأمم و أعطوا كفلين من الأجر
و أما على
الرواية الثانية : فاستثناء الصيام من بين الأعمال يرجع إلى أن سائر
الأعمال للعباد و الصيام اختصه الله تعالى لنفسه من بين أعمال عباده و
أضاف إليه و سيأتي ذكر توجيه هذا الاختصاص إن شاء الله تعالى
و أما
على الرواية الثالثة : فالإستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال و من أحسن ما
قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله قال : هذا من أجود الأحاديث
و أحكمها : [ إذا كان يوم يوم القيامة يحاسب الله عبده و يؤدي ما عليه من
المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل الله عز و جل ما بقي
عليه من المظالم و يدخله بالصوم الجنة ] خرجه البيهقي في شعب الإيمان و
غيره و على هذا فيكون المعنى : أن الصيام لله عز و جل فلا سبيل لأحد إلى
أخذ أجره من الصيام بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز و جل و حينئذ فقد
يقال : إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر فإنه
روي : [ أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات و السيئات و يقص بعضها من بعض
فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة ] قاله سعيد بن جبير و
غيره و فيه حديث مرفوع خرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا فيحتمل أن
يقال في الصوم إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة و لا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه
حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها
و أما قوله : [ فإنه لي ] فإن الله
خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال و قد كثر القول في معنى ذلك
من الفقهاء و الصوفية و غيرهم و ذكروا فيه وجوها كثيرة و من أحسن ما ذكر
فيه وجهان : أحدهما : أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس و شهواتها الأصلية
التي جبلت على الميل إليها لله عز و جل و لا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير
الصيام لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع و دواعيه من الطيب دون سائر
الشهوات من الأكل و الشرب و كذلك الإعتكاف مع أنه تابع للصيام و أما
الصلاة فإنه و إن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا
يجد المصلي فقد الطعام و الشراب في صلاته بل قد نهي أن يصلي و نفسه تشوق
إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه و لهذا أمر بتقديم العشاء
على الصلاة و ذهبت طائفة من العلماء إلى إباحة شرب الماء في صلاة التطوع و
كان ابن الزبير يفعله في صلاته و هو رواية عن الإمام أحمد و هذا بخلاف
الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات و تشوق نفسه
إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره و طوله و لهذا روي : [ أن من خصال
الإيمان الصوم في الصيف ] و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم
رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه كما قاله أبو الدرداء : كنا مع
النبي صلى الله عليه و سلم في رمضان في سفر و أحدنا يضع يده على رأسه من
شدة الحر و ما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد الله بن
رواحة و في الموطأ : إنه صلى الله عليه و سلم كان بالعرج يصب الماء على
رأسه و هو صائم من العطش أو الحر فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع
قدرتها عليه ثم تركته لله عز و جل في موضع لا يطلع عليه إلا الله كان ذلك
دليلا على صحة الإيمان فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته و قد
حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه و
امتثل أمره و اجتنب نهيه خوفا من عقابه و رغبة في ثوابه فشكر الله تعالى
له ذلك و اختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله و لهذا قال بعد ذلك : [
إنه إنما ترك شهواته و طعامه و شرابه من أجلي ] قال بعض السلف : طوبى لمن
ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في
ترك شهواته قدم رضا مولاه على هواه فصارت لذته في ترك شهواته لله لإيمانه
باطلاع الله و ثوابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه
على هوى نفسه بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب و
لهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل
لعلمه لكراهة الله لفطره في هذا الشهر و هذا من علامات الإيمان أن يكره
المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكره فتصير لذته فيما يرضى
مولاه و إن كان مخالفا لهواه و يكون ألمه فيما يكره مولاه و إن كان موافقا
لهواه و إذا كان هذا فيما حرم لعارض الصوم من الطعام و الشراب و مباشرة
النساء فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق : كالزنا و شرب الخمر و
أخذ الأموال أو الأعراض بغير حق و سفك الدماء المحرمة فإن هذا يسخطه الله
على كل حال و في كل زمان و مكان فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم
من كراهته للقتل و الضرب و لهذا جعل النبي صلى الله عليه و سلم من علامات
وجود حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره
أن يلقى في النار و قال يوسف عليه السلام : { رب السجن أحب إلي مما
يدعونني إليه } سئل ذو النون المصري متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يكرهه
أمر عندك من الصبر و قال غيره : ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه
حبيبك و كثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان و يقتضيه
فلهذا كثير منه لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر و من جهالهم من لا يفطر
لعذر و لو تضرر بالصوم مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته جريا على العادة
و قد اعتاد مع ذلك ما حرم الله من الزنا و شرب الخمر و أخذ الأموال و
الأعراض أو الدماء بغير حق فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى
الإيمان و من عمل بمقتضى الإيمان صارت لذته في مصابرة نفسه عما تميل نفسه
إليه إذا كان فيه سخط الله و ربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكره الله
منه و ينفر منه و إن كان ملائما للنفوس كما قيل :
( إن كان رضاكم في سهري ... فسلام الله على وسني )
و قال آخر :
( عذابه فيك عذاب ... و بعده فيك قرب )
( و أنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب )
( حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب )
الوجه الثاني : إن الصيام سر بين العبد و ربه لا يطلع عليه غيره لأنه مركب
من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله و ترك لتناول الشهوات التي يستخفي
بتناولها في العادة و لذلك قيل : لا تكتبه الحفظة و قيل : إنه ليس فيه
رياء كذا قاله الإمام أحمد و غيره و فيه حديث مرفوع مرسل و هذا الوجه
اختيار أبي عبيد و غيره و قد يرجع إلى الأول فإن من ترك ما تدعوه نفسه
إليه لله عز و جل حيث لا يطلع عليه غير من أمره و نهاه دل على صحة إيمانه
و الله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم و بينه و أهل محبته يحبون
أن يعاملوه سرا بينهم و بينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان
بعضهم يود لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة و قال بعضهم :
لما اطلع على بعض سرائره إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني و
بينه سرا ثم دعا لنفسه بالموت فمات المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على
الأسرار التي بينهم و بين من يحبهم و يحبونه
( نسيم صبا تجد متى جئت حاملا ... تحيتهم فاطوا الحديث عن الركب )
( و لا تدع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبي )
و قوله : [ ترك شهوته و طعامه و شرابه من أجلي ] : فيه إشارة إلى المعنى
الذي ذكرناه و أن الصائم يقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام و
الشراب و النكاح و هذه أعظم شهوات النفس و في التقرب بترك هذه الشهوات
بالصيام فوائد : منها : كسر النفس فإن الشبع و الري و مباشرة النساء تحمل
النفس على الأشر و البطر و الغفلة و منها تخلي القلب للفكر و الذكر فإن
تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب و تعميه و تحول بين العبد و بين الذكر و
الفكر و تستدعي الغفلة و خلو الباطن من الطعام و الشراب ينور القلب و يوجب
رقته و يزيل قسوته و يخليه للذكر و الفكر و منها : أن الغني يعرف قدر نعمة
الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام و
الشراب و النكاح فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص و حصول المشقة له بذلك
يتذكر به من منع من ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه
بالغنى و يدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج و مواساته بما يمكن من ذلك و منها :
أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فإن الشيطان
يجري من ابن آدم مجرى الدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان و تنكسر سورة
الشهوة و الغضب و لهذا جعل النبي صلى الله عليه و سلم [ الصوم وجاء ]
لقطعه عن شهوة النكاح
و اعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك
هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم
الله في كل حال من الكذب و الظلم و العدوان على الناس في دمائهم و أموالهم
و أعراضهم و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من لم يدع قول الزور
و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه ] خرجه البخاري و في
حديث آخر : [ ليس الصيام من الطعام و الشراب إنما الصيام من اللغو و الرفث
] و قال الحافظ أبو موسى المديني : على شرط مسلم قال بعض السلف : أهون
الصيام ترك الشراب و الطعام و قال جابر : إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و
لسانك عن الكذب و المحارم و دع أذى الجار و ليكن عليك وقار و سكينة يوم
صومك و لا تجعل يوم صومك و يوم فطرك سواء
( إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... و في بصري غض و في منطقي صمت )
( فحظي إذا من صومي الجوع و الظمأ ... فإن قلت إني صمت يومي صمت )
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش
و رب قائم حظه من قيامه السهر ] و سر هذا : أن التقرب إلى الله تعالى بترك
المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات فمن ارتكب المحرمات
ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض و يتقرب
بالنوافل و إن كان صومه مجزئا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل
إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى
يختص به هذا هو قول جمهور العلماء و في مسند الإمام أحمد [ أن امرأتين
صامتا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم فكادتا أن تموتا من العطش فذكر
ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فأعرض ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن
تتقيآ فقاءتا ملء قدح قيحا و دما و صديدا و لحما عبيطا فقال النبي صلى
الله عليه و سلم : إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما و أفطرتا على ما حرم
الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان في لحوم الناس ]
و لهذا المعنى و الله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام و الشراب
على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل فإن تحريم هذا عام
في كل زمان و مكان بخلاف الطعام و الشراب فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر
الله في اجتناب الطعام و الشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل
الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات
و
قوله صلى الله عليه و سلم : [ و للصائم فرحتان : فرحة عند فطره و فرحة عند
لقاء ربه ] أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما
يلائمها من مطعم و مشرب و منكح فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم
أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة
إليه فإن النفوس تفرح بذلك طبعا فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا و
الصائم عند فطره كذلك فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام
تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى
تناولها في أول الليل و آخره فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا و الله و
ملائكته يصلون على المتسحرين فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إلى
الله و طاعة له و يبادر إليها في الليل تقربا إلى الله و طاعة له فما
تركها إلا بأمر ربه و لا عاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع له في الحالين و
لهذا نهى عن الوصال في الصيام فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه
و أكل و شرب و حمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك و في
الحديث : [ إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب
الشربة فيحمده عليها ] و ربما استجيب دعاؤه عند ذلك كما جاء في الحديث
المرفوع الذي خرجه ابن ماجه : [ إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد و إن نوى
بأكله و شربه تقوية بدنه على القيام و الصيام كان مثابا على ذلك كما أنه
إذا نوى بنومه في الليل و النهار التقوى على العمل كان نومه عبادة ] و في
حديث مرفوع : [ نوم الصائم عبادة ] قالت حفصة بنت سيرين : قال أبو العالية
: الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدا و إن كان نائما على فراشه فكانت حفصة
تقول : يا حبذا عبادة و أنا نائمة على فراشي خرجه عبد الرزاق فالصائم في
ليله و نهاره في عبادة و يستجاب دعاؤه في صيامه و عند فطره فهو في نهاره
صائم صابر و في ليله طاعم شاكر و في الحديث الذي خرجه الترمذي و غيره : [
الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ] و من فهم هذا الذي أشرنا إليه لم
يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل
الله و رحمته فيدخل في قول الله تعالى : { قل بفضل الله و برحمته فبذلك
فليفرحوا هو خير مما يجمعون } و لكن شرط ذلك أن يكون فطره على حلال فإن
كان فطره على حرام كان ممن صام عما أحل الله و أفطر على ما حرم الله و لم
يستجب له دعاء كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الذي يطيل السفر يمد
يديه إلى السماء يا رب يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه و غذي
بالحرام فأنى يستجاب لذلك
الصيام
ثبت في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال عز
و جل : إلا الصيام فإنه لي و أنا الذي أجزي به إنه ترك شهوته و طعامه و
شرابه من أجلي للصائم فرحتان : فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه و لخلوف
فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ] و في رواية : [ كل عمل ابن آدم له
إلا الصيام فإنه لي ] و في رواية للبخاري : [ لكل عمل كفارة و الصوم لي و
أنا الذي أجزي به ] و خرجه الإمام أحمد من هذا الوجه و لفظه : [ كل عمل
ابن آدم له كفارة إلا الصوم و الصوم لي و أنا أجزي به ]
فعلى
الرواية الأولى : يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون العمال
كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه
في هذا العدد بل يضاعفه الله عز و جل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد فإن
الصيام من الصبر و قد قال الله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير
حساب } و لهذا ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه سمى شهر رمضان
شهر الصبر ] و في حديث آخر عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ الصوم نصف
الصبر ] خرجه الترمذي
و الصبر ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله و صبر عن محارم الله و صبر على
أقدار الله المؤلمة
و تجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبرا على طاعة الله و صبرا عما حرم الله
على الصائم من الشهوات و صبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع و
العطش و ضعف النفس و البدن و هذا الألم الناشىء من أعمال الطاعات يثاب
عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ
ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون
من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } و في
حديث سلمان المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في فضل شهر رمضان : [ و
هو شهر الصبر و الصبر ثوابه الجنة ] و في الطبراني [ عن ابن عمر مرفوعا :
الصيام لا يعلم ثواب عمله إلا الله عز و جل ] و روي مرسلا و هو أصح
و اعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها شرف المكان المعمول فيه
ذلك العمل كالحرم و لذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة و المدينة كما ثبت ذلك
في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ صلاة في مسجدي هذا
خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ] و في رواية : [
فإنه أفضل ] و كذلك روي : [ أن الصيام يضاعف بالحرم ] و في سنن ابن ماجة
بإسناد ضعيف [ عن ابن عباس مرفوعا : من أدرك رمضان بمكة فصامه و قام منه
ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه ] و ذكر له ثوابا كثيرا
و منها : شرف الزمان كشهر رمضان و عشر ذي الحجة و في حديث سلمان الفارسي
المرفوع الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان : [ من تطوع فيه بخصلة من خصال
الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه و من أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين
فريضة فيما سواه ] و في الترمذي [ عن أنس : سئل النبي صلى الله عليه و سلم
أي الصدقة أفضل ؟ قال : صدقة في رمضان ] و في الصحيحين [ عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : عمرة في رمضان تعدل بحجة ] أو قال : [ حجة معي ] و
ورد في حديث آخر : [ أن عمل الصائم مضاعف ] و ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن
أشياخه أنهم كانوا يقولون : إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة فإن
النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة
في غيره قال النخعي : صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم و تسبيحة فيه أفضل
من ألف تسبيحة و ركعة فيه أفضل من ألف ركعة فلما كان الصيام في نفسه
مضاعفا أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفا على سائر
الصيام لشرف زمانه و كونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده و جعل صيامه
أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها و قد يضاعف الثواب بأسباب أخر
منها شرف العامل عند الله و قربه منه و كثرة تقواه كما يضاعف أجر هذه
الأمة على أجور من قبلهم من الأمم و أعطوا كفلين من الأجر
و أما على
الرواية الثانية : فاستثناء الصيام من بين الأعمال يرجع إلى أن سائر
الأعمال للعباد و الصيام اختصه الله تعالى لنفسه من بين أعمال عباده و
أضاف إليه و سيأتي ذكر توجيه هذا الاختصاص إن شاء الله تعالى
و أما
على الرواية الثالثة : فالإستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال و من أحسن ما
قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله قال : هذا من أجود الأحاديث
و أحكمها : [ إذا كان يوم يوم القيامة يحاسب الله عبده و يؤدي ما عليه من
المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل الله عز و جل ما بقي
عليه من المظالم و يدخله بالصوم الجنة ] خرجه البيهقي في شعب الإيمان و
غيره و على هذا فيكون المعنى : أن الصيام لله عز و جل فلا سبيل لأحد إلى
أخذ أجره من الصيام بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز و جل و حينئذ فقد
يقال : إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر فإنه
روي : [ أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات و السيئات و يقص بعضها من بعض
فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة ] قاله سعيد بن جبير و
غيره و فيه حديث مرفوع خرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا فيحتمل أن
يقال في الصوم إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة و لا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه
حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها
و أما قوله : [ فإنه لي ] فإن الله
خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال و قد كثر القول في معنى ذلك
من الفقهاء و الصوفية و غيرهم و ذكروا فيه وجوها كثيرة و من أحسن ما ذكر
فيه وجهان : أحدهما : أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس و شهواتها الأصلية
التي جبلت على الميل إليها لله عز و جل و لا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير
الصيام لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع و دواعيه من الطيب دون سائر
الشهوات من الأكل و الشرب و كذلك الإعتكاف مع أنه تابع للصيام و أما
الصلاة فإنه و إن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا
يجد المصلي فقد الطعام و الشراب في صلاته بل قد نهي أن يصلي و نفسه تشوق
إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه و لهذا أمر بتقديم العشاء
على الصلاة و ذهبت طائفة من العلماء إلى إباحة شرب الماء في صلاة التطوع و
كان ابن الزبير يفعله في صلاته و هو رواية عن الإمام أحمد و هذا بخلاف
الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات و تشوق نفسه
إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره و طوله و لهذا روي : [ أن من خصال
الإيمان الصوم في الصيف ] و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم
رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه كما قاله أبو الدرداء : كنا مع
النبي صلى الله عليه و سلم في رمضان في سفر و أحدنا يضع يده على رأسه من
شدة الحر و ما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد الله بن
رواحة و في الموطأ : إنه صلى الله عليه و سلم كان بالعرج يصب الماء على
رأسه و هو صائم من العطش أو الحر فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع
قدرتها عليه ثم تركته لله عز و جل في موضع لا يطلع عليه إلا الله كان ذلك
دليلا على صحة الإيمان فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته و قد
حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه و
امتثل أمره و اجتنب نهيه خوفا من عقابه و رغبة في ثوابه فشكر الله تعالى
له ذلك و اختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله و لهذا قال بعد ذلك : [
إنه إنما ترك شهواته و طعامه و شرابه من أجلي ] قال بعض السلف : طوبى لمن
ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في
ترك شهواته قدم رضا مولاه على هواه فصارت لذته في ترك شهواته لله لإيمانه
باطلاع الله و ثوابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه
على هوى نفسه بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب و
لهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل
لعلمه لكراهة الله لفطره في هذا الشهر و هذا من علامات الإيمان أن يكره
المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكره فتصير لذته فيما يرضى
مولاه و إن كان مخالفا لهواه و يكون ألمه فيما يكره مولاه و إن كان موافقا
لهواه و إذا كان هذا فيما حرم لعارض الصوم من الطعام و الشراب و مباشرة
النساء فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق : كالزنا و شرب الخمر و
أخذ الأموال أو الأعراض بغير حق و سفك الدماء المحرمة فإن هذا يسخطه الله
على كل حال و في كل زمان و مكان فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم
من كراهته للقتل و الضرب و لهذا جعل النبي صلى الله عليه و سلم من علامات
وجود حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره
أن يلقى في النار و قال يوسف عليه السلام : { رب السجن أحب إلي مما
يدعونني إليه } سئل ذو النون المصري متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يكرهه
أمر عندك من الصبر و قال غيره : ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه
حبيبك و كثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان و يقتضيه
فلهذا كثير منه لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر و من جهالهم من لا يفطر
لعذر و لو تضرر بالصوم مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته جريا على العادة
و قد اعتاد مع ذلك ما حرم الله من الزنا و شرب الخمر و أخذ الأموال و
الأعراض أو الدماء بغير حق فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى
الإيمان و من عمل بمقتضى الإيمان صارت لذته في مصابرة نفسه عما تميل نفسه
إليه إذا كان فيه سخط الله و ربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكره الله
منه و ينفر منه و إن كان ملائما للنفوس كما قيل :
( إن كان رضاكم في سهري ... فسلام الله على وسني )
و قال آخر :
( عذابه فيك عذاب ... و بعده فيك قرب )
( و أنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب )
( حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب )
الوجه الثاني : إن الصيام سر بين العبد و ربه لا يطلع عليه غيره لأنه مركب
من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله و ترك لتناول الشهوات التي يستخفي
بتناولها في العادة و لذلك قيل : لا تكتبه الحفظة و قيل : إنه ليس فيه
رياء كذا قاله الإمام أحمد و غيره و فيه حديث مرفوع مرسل و هذا الوجه
اختيار أبي عبيد و غيره و قد يرجع إلى الأول فإن من ترك ما تدعوه نفسه
إليه لله عز و جل حيث لا يطلع عليه غير من أمره و نهاه دل على صحة إيمانه
و الله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم و بينه و أهل محبته يحبون
أن يعاملوه سرا بينهم و بينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان
بعضهم يود لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة و قال بعضهم :
لما اطلع على بعض سرائره إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني و
بينه سرا ثم دعا لنفسه بالموت فمات المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على
الأسرار التي بينهم و بين من يحبهم و يحبونه
( نسيم صبا تجد متى جئت حاملا ... تحيتهم فاطوا الحديث عن الركب )
( و لا تدع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبي )
و قوله : [ ترك شهوته و طعامه و شرابه من أجلي ] : فيه إشارة إلى المعنى
الذي ذكرناه و أن الصائم يقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام و
الشراب و النكاح و هذه أعظم شهوات النفس و في التقرب بترك هذه الشهوات
بالصيام فوائد : منها : كسر النفس فإن الشبع و الري و مباشرة النساء تحمل
النفس على الأشر و البطر و الغفلة و منها تخلي القلب للفكر و الذكر فإن
تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب و تعميه و تحول بين العبد و بين الذكر و
الفكر و تستدعي الغفلة و خلو الباطن من الطعام و الشراب ينور القلب و يوجب
رقته و يزيل قسوته و يخليه للذكر و الفكر و منها : أن الغني يعرف قدر نعمة
الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام و
الشراب و النكاح فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص و حصول المشقة له بذلك
يتذكر به من منع من ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه
بالغنى و يدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج و مواساته بما يمكن من ذلك و منها :
أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فإن الشيطان
يجري من ابن آدم مجرى الدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان و تنكسر سورة
الشهوة و الغضب و لهذا جعل النبي صلى الله عليه و سلم [ الصوم وجاء ]
لقطعه عن شهوة النكاح
و اعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك
هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم
الله في كل حال من الكذب و الظلم و العدوان على الناس في دمائهم و أموالهم
و أعراضهم و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من لم يدع قول الزور
و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه ] خرجه البخاري و في
حديث آخر : [ ليس الصيام من الطعام و الشراب إنما الصيام من اللغو و الرفث
] و قال الحافظ أبو موسى المديني : على شرط مسلم قال بعض السلف : أهون
الصيام ترك الشراب و الطعام و قال جابر : إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و
لسانك عن الكذب و المحارم و دع أذى الجار و ليكن عليك وقار و سكينة يوم
صومك و لا تجعل يوم صومك و يوم فطرك سواء
( إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... و في بصري غض و في منطقي صمت )
( فحظي إذا من صومي الجوع و الظمأ ... فإن قلت إني صمت يومي صمت )
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش
و رب قائم حظه من قيامه السهر ] و سر هذا : أن التقرب إلى الله تعالى بترك
المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات فمن ارتكب المحرمات
ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض و يتقرب
بالنوافل و إن كان صومه مجزئا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل
إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى
يختص به هذا هو قول جمهور العلماء و في مسند الإمام أحمد [ أن امرأتين
صامتا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم فكادتا أن تموتا من العطش فذكر
ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فأعرض ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن
تتقيآ فقاءتا ملء قدح قيحا و دما و صديدا و لحما عبيطا فقال النبي صلى
الله عليه و سلم : إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما و أفطرتا على ما حرم
الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان في لحوم الناس ]
و لهذا المعنى و الله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام و الشراب
على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل فإن تحريم هذا عام
في كل زمان و مكان بخلاف الطعام و الشراب فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر
الله في اجتناب الطعام و الشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل
الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات
و
قوله صلى الله عليه و سلم : [ و للصائم فرحتان : فرحة عند فطره و فرحة عند
لقاء ربه ] أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما
يلائمها من مطعم و مشرب و منكح فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم
أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة
إليه فإن النفوس تفرح بذلك طبعا فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا و
الصائم عند فطره كذلك فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام
تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى
تناولها في أول الليل و آخره فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا و الله و
ملائكته يصلون على المتسحرين فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إلى
الله و طاعة له و يبادر إليها في الليل تقربا إلى الله و طاعة له فما
تركها إلا بأمر ربه و لا عاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع له في الحالين و
لهذا نهى عن الوصال في الصيام فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه
و أكل و شرب و حمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك و في
الحديث : [ إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب
الشربة فيحمده عليها ] و ربما استجيب دعاؤه عند ذلك كما جاء في الحديث
المرفوع الذي خرجه ابن ماجه : [ إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد و إن نوى
بأكله و شربه تقوية بدنه على القيام و الصيام كان مثابا على ذلك كما أنه
إذا نوى بنومه في الليل و النهار التقوى على العمل كان نومه عبادة ] و في
حديث مرفوع : [ نوم الصائم عبادة ] قالت حفصة بنت سيرين : قال أبو العالية
: الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدا و إن كان نائما على فراشه فكانت حفصة
تقول : يا حبذا عبادة و أنا نائمة على فراشي خرجه عبد الرزاق فالصائم في
ليله و نهاره في عبادة و يستجاب دعاؤه في صيامه و عند فطره فهو في نهاره
صائم صابر و في ليله طاعم شاكر و في الحديث الذي خرجه الترمذي و غيره : [
الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ] و من فهم هذا الذي أشرنا إليه لم
يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل
الله و رحمته فيدخل في قول الله تعالى : { قل بفضل الله و برحمته فبذلك
فليفرحوا هو خير مما يجمعون } و لكن شرط ذلك أن يكون فطره على حلال فإن
كان فطره على حرام كان ممن صام عما أحل الله و أفطر على ما حرم الله و لم
يستجب له دعاء كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الذي يطيل السفر يمد
يديه إلى السماء يا رب يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه و غذي
بالحرام فأنى يستجاب لذلك
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فرحة الصائم عند لقاء ربه
و أما فرحه عند لقاء ربه : فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا فيجده
أحوج ما كان إليه كما قال تعالى : { و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند
الله هو خيرا و أعظم أجرا } و قال تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من
خير محضرا } و قال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } و قد تقدم قول ابن
عيينة : أن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم بل يدخره الله عنده
للصائم حتى يدخله به الجنة و في المسند [ عن عقبة بن عامر عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : ليس من عمل يوم إلا يختم عليه ] و عن عيسى عليه
السلام قال : إن هذا الليل و النهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما
فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير و شر و في يوم القيامة
تفتح هذه الخزائن لأهلها فالمتقون يجدون في خزائنهم العز و الكرامة و
المذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة و الندامة
و الصائمون على طبقتين
: إحداهما : من ترك طعامه و شرابه و شهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في
الجنة فهذا قد تاجر مع الله و عامله و الله تعالى { لا نضيع أجر من أحسن
عملا } و لا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح و قال رسول الله
صلى الله عليه و سلم : [ إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا أتاك الله خيرا
منه ] خرجه الإمام أحمد فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام و
شراب و نساء قال الله تعالى : { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام
الخالية } قال مجاهد و غيره : نزلت في الصائمين قال يعقوب بن يوسف الحنفي
: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة : يا أوليائي طالما نظرت
إليكم في الدنيا و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة و غارت أعينكم و جفت بطونكم
كونوا اليوم في نعيمكم و تعاطوا الكأس فيما بينكم : { كلوا و اشربوا هنيئا
بما أسلفتم في الأيام الخالية } و قال الحسن : تقول الحوراء لولي الله و
هو متكىء معها على نهر العسل تعاطيه الكأس : إن نظر إليك في يوم صائف بعيد
ما بين الطرفين و أنت في ظمأها حرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة و قال
: انظروا إلى عبدي ترك زوجته و شهوته و لذته و طعامه و شرابه من أجلي رغبة
فيما عندي اشهدوا إني قد غفرت له فغفر لك يومئذ و زوجنيك و في الصحيحين عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل
منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم ] و في رواية : [ فإذا دخلوا أغلق ] و في
رواية : [ من دخل منه شرب و من شرب لم يظمأ أبدا ] و في [ حديث عبد الرحمن
بن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في منامه الطويل قال : و رأيت رجلا
من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيام رمضان فسقاه و أرواه
] خرجه الطبراني و غيره و روى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف [ عن أنس
مرفوعا : الصائمون ينفح من أفواههم ريح المسك و يوضع لهم مائدة تحت العرش
يأكلون منها و الناس في الحساب ]
و [ عن أنس موقوفا : إن لله مائدة
لم تر مثلها عين و لم تسمع أذن و لا خطر على قلب بشر لا يقعد عليها إلا
الصائمون ] و عن بعض السلف قال : بلغنا أنه يوضع للصوام مائدة يأكلون
عليها و الناس في الحساب فيقولون : يا رب نحن نحاسب و هم يأكلون فيقال :
إنهم طالما صاموا و أفطرتم وقاموا و نمتم رأى بعضهم بشر بن الحارث في
المنام و بين يديه مائدة و هو يأكل و يقال له : كل يا من لم يأكل و اشرب
يا من لم يشرب كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى و انقطع صوته فمات فرآه
بعض أصحابه في المنام فسأله عن حاله فضحك و أنشد
( قد كسي حلة البهاء و طافت ... بالأباريق حوله الخدام )
( ثم حلى و قيل يا قاريء ارقه ... فلعمري لقد براك الصيام )
اجتاز بعض الصالحين بمناد ينادي على السحور في رمضان : يا ما خبأنا للصوام
فتنبه بهذه الكلمة و أكثر من الصيام رأى بعض العارفين في منامه كأنه أدخل
الجنة فسمع قائلا يقول له : هل تذكر أنك صمت لله يوما قط فقال : نعم قال
فأخذتني صوانيء النار من الجنة من ترك لله في الدنيا طعاما و شرابا و شهوة
مدة يسيرة عوضه الله عنده طعاما و شرابا لا ينفذ و أزواجا لا يمتن أبدا
شهر رمضان فيه يزوج الصائمون في الحديث : [ إن الجنة لتزخرف و تنجد من
الحول إلى الحول لدخول رمضان فتقول الحور : يا رب اجعل لنا في هذا الشهر
من عبادك أزواجا تقر أعيننا بهم و تقر أعينهم بنا ] و في حديث آخر [ أن
الحور ينادين في شهر رمضان : هل من خاطب إلى الله فنزوجه ] مهور الحور
العين : طول التهجد و هو حاصل في رمضان أكثر من غيره كان بعض الصالحين
كثير التهجد و الصيام فصلى ليلة في المسجد و دعا فغلبته عيناه فرأى في
منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة بياض
الثلج فوق كل رغيف در كأمثال الرمان فقالوا : كل فقال إني أريد الصوم
قالوا له يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل قال : فأكلت و جعلت آخذ ذلك الدر
لاحتمله فقالوا له : دعه نغرسه لك شجرا ينبت لك خيرا من هذا قال : أين ؟
قالوا : في دار لا تخرب و ثمر لا يتغير و ملك لا ينقطع و ثياب لا تبلى
فيها رضوى و عينا وقرة أعين أزواج رضيات مرضيات راضيات لا يغرن و لا يغرن
فعليك بالإنكماش فيما أنت فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار فما مكث
بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه
الذين حدثهم برؤياه و هو يقول : لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك و قد
حمل فقال له : ما حمل ؟ قال : لا تسأل لا يقدر أحد على صفته لم ير مثل
الكريم إذا حل به مطيع يا قوم ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن ألا راغب
فيما أعده الله للطائعين في الجنان ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم
مع أنه ليس الخبر كالعيان
( من يرد ملك الجنان ... فليدع عنه التواني )
( و ليقم في ظلمة الليـ ... ل إلى نور القرآن )
( و ليصل صوما بصوم ... إن هذا العيش فاني )
( إنما العيش جوار اللـ ... ه في دار الأمان )
الطبقة الثانية من الصائمين : من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس
و ما حوى و يحفظ البطن و ما وعى و يذكر الموت و البلى و يريد الآخرة فيترك
زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه و فرحه برؤيته :
( أهل الخصوص من الصوام صومهم ... صون اللسان عن البهتان و الكذب )
( و العارفون و أهل الإنس صومهم ... صون القلوب عن الأغيار و الحجب )
العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر و لا يرويهم دون مشاهدته نهر هممهم
أجل من ذلك :
( كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراك )
( من يصم عن مفطرات ... فصيامي عمن سواك )
من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة و من صام عما سوى الله
فعيده يوم لقائه من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
رؤي بشر في المنام فسئل عن حاله ؟ فقال : علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني
النظر إليه و قيل لبعضهم : أين نطلبك في الآخرة ؟ قال : في زمرة الناظرين
إلى الله قيل له : كيف علمت ذلك ؟ قال : بغض طرفي له عن كل محرم و
باجتنابي فيه كل منكر و مأثم و قد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه
( يا حبيب القلوب مالي سواكا ... ارحم اليوم مذنبا قد أتاكا )
( ليس لي في الجنان مولاي رأي ... غير أني أريدها لأراكا )
يا معشر التائبين صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم
اللقاء لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل فإن معظم نهار الصيام قد ذهب
و عيد اللقاء قد اقترب
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه )
و قوله : [ و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ] : خلوف الفم :
رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام و هي رائحة
مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن
طاعته و ابتغاء مرضاته كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثغب دما لونه
لون الدم و ريحه ريح المسك و بهذا استدل من كره السواك للصائم أو لم
يستحبه من العلماء و أول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح و روي عن
أبي هريرة : أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت و في المسألة خلاف مشهور بين
العلماء و إنما كرهه من كرهه في آخر نهار الصوم لأنه وقت خلو المعدة و
تصاعد الأبخرة و هل وقت الكراهة بصلاة العصر ؟ أو بزوال الشمس ؟ أو بفعل
صلاة الظهر في أول وقتها ؟ على أقوال ثلاثة : و الثالث : هو المنصوص عن
أحمد
و في طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز و جل معنيان : أحدهما :
أن الصيام لما كان سرا بين العبد و بين ربه في الدنيا أظهره الله في
الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام و يعرفون بصيامهم بين الناس
جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناد فيه ضعف
عن أنس مرفوعا : [ يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم أفواههم
أطيب من ريح المسك ] حكي عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد رحمه الله :
أنه كان يواظب على الصيام فمر يوما بثمار و بين يديه رطب حسن فاشتهت نفسه
فرد شهوتها فقالت نفسه : فعلت بي كل بلية من سهر الليالي و ظمأ الهواجر
فأعطني هذه الشهوة و استعملني في الطاعة كيف شئت فاشترى سهل من الرطب و
خبز الحواري و قليل شوى و دخل موضعا ليأكل فإذا رجلان يختصمان فقال أحدهما
: إني محق وأنت مبطل أتريد أن أحلف لك أني محق وأن الأمر على ما زعمت قال
: بلى فحلف قال : و حق الصائمين إني محق في دعواي فقال : هذا مبعوث الحق
تعالى إلى هذا السوط بي ثم أخذ بلحيته و قال : يا سهل بلغ من شرفك و شرف
صومك حتى يحلف العباد بصومك فيقول : و حق الصائمين فيقول : و حق الصائمين
ثم تفطر أنت على قليل رطب و الله أعلم
قال مكحول : يروح أهل الجنة
برائحة فيقولون : ربنا ما وجدنا ريحا منذ دخلنا الجنة أطيب من هذه الريح
فيقال : هذه رائحة أفواه الصوام و قد تفوح رائحة الصيام في الدنيا و
تستنشق قبل الآخرة و هو نوعان : أحدهما : ما يدرك بالحواس الظاهرة كان عبد
الله بن غالب من العباد المجتهدين في الصلاة و الصيام فلما دفن كان يفوح
من تراب قبره رائحة المسك فرؤي في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد
من قبره فقال : تلك رائحة التلاوة و الظمأ
و النوع الثاني : ما
تستنشقه الأرواح و القلوب فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة و المحبة في
قلوب المؤمنين و [ حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن
زكريا عليه السلام قال لبني إسرائيل : آمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل
في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم تعجبه ريحه و أن ريح الصيام أطيب عند
الله من ريح المسك ] خرجه الترمذي و غيره لما كان أمر المخلصين بصيامهم
لمولاهم سرا بينه و بينهم أظهر الله سرهم لعباده فصار علانية فصار هذا
التجلي و الإظهار جزاء لذلك الصون و الإسرار في الحديث : [ ما أسر أحد
سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية ] قال يوسف بن إسباط : أوحى الله
تعالى إلى نبي من الأنبياء قل لقومك يخفون لي أعمالهم و علي إظهارها لهم
( تذلل أرباب الهوى في الهوى عز ... و فقرهم نحو الحبيب هو الكنز )
( و سترهم فيه السرائر شهرة ... و غير تلاف النفس فيه هو العجز )
و المعنى الثاني : أن من عبد الله و أطاعه و طلب رضاه في الدنيا بعمل فنشأ
من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله
بل هي محبوبة له و طيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته و اتباع مرضاته فإخباره
بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطبيب لقلوبهم لئلا يكره منهم ما وجد في
الدنيا قال بعض السلف : وعد الله موسى ثلاثين ليلة أن يكلمه على رأسها
فصام ثلاثين يوما ثم وجد من فيه خلوفا فكره أن يناجي ربه على تلك الحال
فأخذ سواكا فاستاك به فلما أتى لموعد الله إياه قال له : يا موسى أما علمت
إن خلوف فم الصائم أطيب عندنا من ريح المسك ارجع فصم عشرة أخرى و لهذا
المعنى كان دم الشهيد ريحه يوم القيامة كريح المسك و غبار المجاهدين في
سبيل الله ذريرة أهل الجنة ورد في حديث مرسل : [ كل شيء ناقص في عرف الناس
في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعته و رضاه فهو الكامل في الحقيقة خلوف
أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك ] عري المحرمين لزيارة بيته أجمل من
لباس الحلل نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح انكسار
المخبتين لعظمته هو الجبر ذل الخائفين من سطوته هو العز تهتك المحبين في
محبته أحسن من الستر بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة جوع الصائمين
لأجله هو الشبع عطشهم في طلب مرضاته هو الري نصب المجتهدين في خدمته هو
الراحة
( ذل الفتى في الحب مكرمة ... و خضوعه لحبيبه شرف )
هبت
اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب سعى سمسار المواعظ للمهجورين
في الصلح وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل و للمذنبين بالعفو و المستوجبين
النار بالعتق لما سلسل الشيطان في شهر رمضان و خمدت نيران الشهوات بالصيام
انعزل سلطان الهوى و صارت الدولة لحاكم العقل بالعدل فلم يبق للعاصي عذر
يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي يا شموس التقوى و الإيمان اطلعي يا صحائف
أعمال الصائمين ارتفعي يا قلوب الصائمين اخشعي يا أقدام المتهجدين اسجدي
لربك و اركعي يا عيون المجتهدين لا تهجعي يا ذنوب التائبين لا ترجعي يا
أرض الهوى ابلعي ماءك و يا سماء النفوس أقلعي يا بروق العشاق للعشاق المعي
يا خواطر العارفين ارتعي يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي يا جنيد اطرب
يا شبلي احضر يا رابعة اسمعي قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام
فما منكم إلا من دعي : { يا قومنا أجيبوا داعي الله } و يا همم المؤمنين
اسرعي فطوبى لمن أجاب فأصاب و ويل لمن طرد عن الباب و ما دعي
( ليت شعري إن جئتهم يقبلوني ... أم تراهم عن بابهم يصرفوني )
( أم تراني إذا وقفت لديهم ... يأذنوا بالدخول أم يطردوني )
و أما فرحه عند لقاء ربه : فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا فيجده
أحوج ما كان إليه كما قال تعالى : { و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند
الله هو خيرا و أعظم أجرا } و قال تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من
خير محضرا } و قال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } و قد تقدم قول ابن
عيينة : أن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم بل يدخره الله عنده
للصائم حتى يدخله به الجنة و في المسند [ عن عقبة بن عامر عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : ليس من عمل يوم إلا يختم عليه ] و عن عيسى عليه
السلام قال : إن هذا الليل و النهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما
فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير و شر و في يوم القيامة
تفتح هذه الخزائن لأهلها فالمتقون يجدون في خزائنهم العز و الكرامة و
المذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة و الندامة
و الصائمون على طبقتين
: إحداهما : من ترك طعامه و شرابه و شهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في
الجنة فهذا قد تاجر مع الله و عامله و الله تعالى { لا نضيع أجر من أحسن
عملا } و لا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح و قال رسول الله
صلى الله عليه و سلم : [ إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا أتاك الله خيرا
منه ] خرجه الإمام أحمد فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام و
شراب و نساء قال الله تعالى : { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام
الخالية } قال مجاهد و غيره : نزلت في الصائمين قال يعقوب بن يوسف الحنفي
: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة : يا أوليائي طالما نظرت
إليكم في الدنيا و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة و غارت أعينكم و جفت بطونكم
كونوا اليوم في نعيمكم و تعاطوا الكأس فيما بينكم : { كلوا و اشربوا هنيئا
بما أسلفتم في الأيام الخالية } و قال الحسن : تقول الحوراء لولي الله و
هو متكىء معها على نهر العسل تعاطيه الكأس : إن نظر إليك في يوم صائف بعيد
ما بين الطرفين و أنت في ظمأها حرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة و قال
: انظروا إلى عبدي ترك زوجته و شهوته و لذته و طعامه و شرابه من أجلي رغبة
فيما عندي اشهدوا إني قد غفرت له فغفر لك يومئذ و زوجنيك و في الصحيحين عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل
منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم ] و في رواية : [ فإذا دخلوا أغلق ] و في
رواية : [ من دخل منه شرب و من شرب لم يظمأ أبدا ] و في [ حديث عبد الرحمن
بن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في منامه الطويل قال : و رأيت رجلا
من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيام رمضان فسقاه و أرواه
] خرجه الطبراني و غيره و روى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف [ عن أنس
مرفوعا : الصائمون ينفح من أفواههم ريح المسك و يوضع لهم مائدة تحت العرش
يأكلون منها و الناس في الحساب ]
و [ عن أنس موقوفا : إن لله مائدة
لم تر مثلها عين و لم تسمع أذن و لا خطر على قلب بشر لا يقعد عليها إلا
الصائمون ] و عن بعض السلف قال : بلغنا أنه يوضع للصوام مائدة يأكلون
عليها و الناس في الحساب فيقولون : يا رب نحن نحاسب و هم يأكلون فيقال :
إنهم طالما صاموا و أفطرتم وقاموا و نمتم رأى بعضهم بشر بن الحارث في
المنام و بين يديه مائدة و هو يأكل و يقال له : كل يا من لم يأكل و اشرب
يا من لم يشرب كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى و انقطع صوته فمات فرآه
بعض أصحابه في المنام فسأله عن حاله فضحك و أنشد
( قد كسي حلة البهاء و طافت ... بالأباريق حوله الخدام )
( ثم حلى و قيل يا قاريء ارقه ... فلعمري لقد براك الصيام )
اجتاز بعض الصالحين بمناد ينادي على السحور في رمضان : يا ما خبأنا للصوام
فتنبه بهذه الكلمة و أكثر من الصيام رأى بعض العارفين في منامه كأنه أدخل
الجنة فسمع قائلا يقول له : هل تذكر أنك صمت لله يوما قط فقال : نعم قال
فأخذتني صوانيء النار من الجنة من ترك لله في الدنيا طعاما و شرابا و شهوة
مدة يسيرة عوضه الله عنده طعاما و شرابا لا ينفذ و أزواجا لا يمتن أبدا
شهر رمضان فيه يزوج الصائمون في الحديث : [ إن الجنة لتزخرف و تنجد من
الحول إلى الحول لدخول رمضان فتقول الحور : يا رب اجعل لنا في هذا الشهر
من عبادك أزواجا تقر أعيننا بهم و تقر أعينهم بنا ] و في حديث آخر [ أن
الحور ينادين في شهر رمضان : هل من خاطب إلى الله فنزوجه ] مهور الحور
العين : طول التهجد و هو حاصل في رمضان أكثر من غيره كان بعض الصالحين
كثير التهجد و الصيام فصلى ليلة في المسجد و دعا فغلبته عيناه فرأى في
منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة بياض
الثلج فوق كل رغيف در كأمثال الرمان فقالوا : كل فقال إني أريد الصوم
قالوا له يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل قال : فأكلت و جعلت آخذ ذلك الدر
لاحتمله فقالوا له : دعه نغرسه لك شجرا ينبت لك خيرا من هذا قال : أين ؟
قالوا : في دار لا تخرب و ثمر لا يتغير و ملك لا ينقطع و ثياب لا تبلى
فيها رضوى و عينا وقرة أعين أزواج رضيات مرضيات راضيات لا يغرن و لا يغرن
فعليك بالإنكماش فيما أنت فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار فما مكث
بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه
الذين حدثهم برؤياه و هو يقول : لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك و قد
حمل فقال له : ما حمل ؟ قال : لا تسأل لا يقدر أحد على صفته لم ير مثل
الكريم إذا حل به مطيع يا قوم ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن ألا راغب
فيما أعده الله للطائعين في الجنان ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم
مع أنه ليس الخبر كالعيان
( من يرد ملك الجنان ... فليدع عنه التواني )
( و ليقم في ظلمة الليـ ... ل إلى نور القرآن )
( و ليصل صوما بصوم ... إن هذا العيش فاني )
( إنما العيش جوار اللـ ... ه في دار الأمان )
الطبقة الثانية من الصائمين : من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس
و ما حوى و يحفظ البطن و ما وعى و يذكر الموت و البلى و يريد الآخرة فيترك
زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه و فرحه برؤيته :
( أهل الخصوص من الصوام صومهم ... صون اللسان عن البهتان و الكذب )
( و العارفون و أهل الإنس صومهم ... صون القلوب عن الأغيار و الحجب )
العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر و لا يرويهم دون مشاهدته نهر هممهم
أجل من ذلك :
( كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراك )
( من يصم عن مفطرات ... فصيامي عمن سواك )
من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة و من صام عما سوى الله
فعيده يوم لقائه من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
رؤي بشر في المنام فسئل عن حاله ؟ فقال : علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني
النظر إليه و قيل لبعضهم : أين نطلبك في الآخرة ؟ قال : في زمرة الناظرين
إلى الله قيل له : كيف علمت ذلك ؟ قال : بغض طرفي له عن كل محرم و
باجتنابي فيه كل منكر و مأثم و قد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه
( يا حبيب القلوب مالي سواكا ... ارحم اليوم مذنبا قد أتاكا )
( ليس لي في الجنان مولاي رأي ... غير أني أريدها لأراكا )
يا معشر التائبين صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم
اللقاء لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل فإن معظم نهار الصيام قد ذهب
و عيد اللقاء قد اقترب
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه )
و قوله : [ و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ] : خلوف الفم :
رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام و هي رائحة
مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن
طاعته و ابتغاء مرضاته كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثغب دما لونه
لون الدم و ريحه ريح المسك و بهذا استدل من كره السواك للصائم أو لم
يستحبه من العلماء و أول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح و روي عن
أبي هريرة : أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت و في المسألة خلاف مشهور بين
العلماء و إنما كرهه من كرهه في آخر نهار الصوم لأنه وقت خلو المعدة و
تصاعد الأبخرة و هل وقت الكراهة بصلاة العصر ؟ أو بزوال الشمس ؟ أو بفعل
صلاة الظهر في أول وقتها ؟ على أقوال ثلاثة : و الثالث : هو المنصوص عن
أحمد
و في طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز و جل معنيان : أحدهما :
أن الصيام لما كان سرا بين العبد و بين ربه في الدنيا أظهره الله في
الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام و يعرفون بصيامهم بين الناس
جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناد فيه ضعف
عن أنس مرفوعا : [ يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم أفواههم
أطيب من ريح المسك ] حكي عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد رحمه الله :
أنه كان يواظب على الصيام فمر يوما بثمار و بين يديه رطب حسن فاشتهت نفسه
فرد شهوتها فقالت نفسه : فعلت بي كل بلية من سهر الليالي و ظمأ الهواجر
فأعطني هذه الشهوة و استعملني في الطاعة كيف شئت فاشترى سهل من الرطب و
خبز الحواري و قليل شوى و دخل موضعا ليأكل فإذا رجلان يختصمان فقال أحدهما
: إني محق وأنت مبطل أتريد أن أحلف لك أني محق وأن الأمر على ما زعمت قال
: بلى فحلف قال : و حق الصائمين إني محق في دعواي فقال : هذا مبعوث الحق
تعالى إلى هذا السوط بي ثم أخذ بلحيته و قال : يا سهل بلغ من شرفك و شرف
صومك حتى يحلف العباد بصومك فيقول : و حق الصائمين فيقول : و حق الصائمين
ثم تفطر أنت على قليل رطب و الله أعلم
قال مكحول : يروح أهل الجنة
برائحة فيقولون : ربنا ما وجدنا ريحا منذ دخلنا الجنة أطيب من هذه الريح
فيقال : هذه رائحة أفواه الصوام و قد تفوح رائحة الصيام في الدنيا و
تستنشق قبل الآخرة و هو نوعان : أحدهما : ما يدرك بالحواس الظاهرة كان عبد
الله بن غالب من العباد المجتهدين في الصلاة و الصيام فلما دفن كان يفوح
من تراب قبره رائحة المسك فرؤي في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد
من قبره فقال : تلك رائحة التلاوة و الظمأ
و النوع الثاني : ما
تستنشقه الأرواح و القلوب فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة و المحبة في
قلوب المؤمنين و [ حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن
زكريا عليه السلام قال لبني إسرائيل : آمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل
في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم تعجبه ريحه و أن ريح الصيام أطيب عند
الله من ريح المسك ] خرجه الترمذي و غيره لما كان أمر المخلصين بصيامهم
لمولاهم سرا بينه و بينهم أظهر الله سرهم لعباده فصار علانية فصار هذا
التجلي و الإظهار جزاء لذلك الصون و الإسرار في الحديث : [ ما أسر أحد
سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية ] قال يوسف بن إسباط : أوحى الله
تعالى إلى نبي من الأنبياء قل لقومك يخفون لي أعمالهم و علي إظهارها لهم
( تذلل أرباب الهوى في الهوى عز ... و فقرهم نحو الحبيب هو الكنز )
( و سترهم فيه السرائر شهرة ... و غير تلاف النفس فيه هو العجز )
و المعنى الثاني : أن من عبد الله و أطاعه و طلب رضاه في الدنيا بعمل فنشأ
من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله
بل هي محبوبة له و طيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته و اتباع مرضاته فإخباره
بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطبيب لقلوبهم لئلا يكره منهم ما وجد في
الدنيا قال بعض السلف : وعد الله موسى ثلاثين ليلة أن يكلمه على رأسها
فصام ثلاثين يوما ثم وجد من فيه خلوفا فكره أن يناجي ربه على تلك الحال
فأخذ سواكا فاستاك به فلما أتى لموعد الله إياه قال له : يا موسى أما علمت
إن خلوف فم الصائم أطيب عندنا من ريح المسك ارجع فصم عشرة أخرى و لهذا
المعنى كان دم الشهيد ريحه يوم القيامة كريح المسك و غبار المجاهدين في
سبيل الله ذريرة أهل الجنة ورد في حديث مرسل : [ كل شيء ناقص في عرف الناس
في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعته و رضاه فهو الكامل في الحقيقة خلوف
أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك ] عري المحرمين لزيارة بيته أجمل من
لباس الحلل نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح انكسار
المخبتين لعظمته هو الجبر ذل الخائفين من سطوته هو العز تهتك المحبين في
محبته أحسن من الستر بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة جوع الصائمين
لأجله هو الشبع عطشهم في طلب مرضاته هو الري نصب المجتهدين في خدمته هو
الراحة
( ذل الفتى في الحب مكرمة ... و خضوعه لحبيبه شرف )
هبت
اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب سعى سمسار المواعظ للمهجورين
في الصلح وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل و للمذنبين بالعفو و المستوجبين
النار بالعتق لما سلسل الشيطان في شهر رمضان و خمدت نيران الشهوات بالصيام
انعزل سلطان الهوى و صارت الدولة لحاكم العقل بالعدل فلم يبق للعاصي عذر
يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي يا شموس التقوى و الإيمان اطلعي يا صحائف
أعمال الصائمين ارتفعي يا قلوب الصائمين اخشعي يا أقدام المتهجدين اسجدي
لربك و اركعي يا عيون المجتهدين لا تهجعي يا ذنوب التائبين لا ترجعي يا
أرض الهوى ابلعي ماءك و يا سماء النفوس أقلعي يا بروق العشاق للعشاق المعي
يا خواطر العارفين ارتعي يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي يا جنيد اطرب
يا شبلي احضر يا رابعة اسمعي قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام
فما منكم إلا من دعي : { يا قومنا أجيبوا داعي الله } و يا همم المؤمنين
اسرعي فطوبى لمن أجاب فأصاب و ويل لمن طرد عن الباب و ما دعي
( ليت شعري إن جئتهم يقبلوني ... أم تراهم عن بابهم يصرفوني )
( أم تراني إذا وقفت لديهم ... يأذنوا بالدخول أم يطردوني )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثاني في فضل الجود في رمضان و تلاوة القرآن
في الصحيحين [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه
و سلم أجود الناس و كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه
القرآن و كان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فرسول الله صلى
الله عليه و سلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ] و خرجه
الإمام أحمد بزيادة في آخره و هي : [ لا يسأل عن شيء إلا أعطاه ] الجود :
هو سعة العطاء و كثرته و الله تعالى يوصف بالجود و في الترمذي [ من حديث
سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله جواد يحب الجود
كريم يحب الكرم ] و فيه أيضا [ من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم : عن ربه قال : يا عبادي لو أن أولكم و أخركم و حيكم و
ميتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا في صعيد واحد فسأل كل إنسان منكم ما بلغت
أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر
بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد
عطائي كلام و عذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له : كن فيكون ]
و في الأثر المشهور عن فضيل بن عياض : أن الله تعالى يقول كل ليلة : أنا
الجواد و مني الجود أنا الكريم و مني الكرم فالله سبحانه و تعالى أجود
الأجودين و جوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان و فيه أنزل قوله { و إذا
سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } و في الحديث الذي
خرجه الترمذي و غيره : [ أنه ينادي فيه مناديا يا باغي الخير هلم و يا
باغي الشر أقصر ] و لله عتقاء من النار و ذلك في كل ليلة و لما كان الله
عز و جل قد جب نبيه صلى الله عليه و سلم على أكمل الأخلاق و أشرفها كما في
[ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنما بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق ] و ذكره مالك في الموطأ بلاغا : [ فكان رسول الله صلى الله
عليه و سلم أجود الناس كلهم ] و خرج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من [ حديث أنس
مرفوعا : ألا أخبركم بالأجود الأجود الله الأجود الأجود و أنا أجود بني
آدم و أجودهم من بعدي رجل علم علما فنشر علمه يبعث يوم القيامة أمة وحده و
رجل جاد بنفسه في سبيل الله ] فدلك هذا على أنه صلى الله عليه و سلم أجود
بني آدم على الإطلاق كما أنه أفضلهم و أعلمهم و أشجعهم و أكملهم في جميع
الأوصاف الحميدة و كان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم و المال و بذل
نفسه لله تعالى في إظهار دينه و هداية عباده و إيصال النفع إليهم بكل طريق
من إطعام جائعهم و وعظ جاهلهم و قضاء حوائجهم و تحمل أثقالهم و لم يزل صلى
الله عليه و سلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ و لهذا قالت له خديجة في
أول مبعثه : و الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم و تقري الضيف و
تحمل الكل و تكسب المعدوم و تعين على نوائب الحق ثم تزايدت هذه الخصال فيه
بعد البعثة و تضاعفت أضعافا كثيرة و في الصحيحين [ عن أنس قال : كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم أحسن الناس و أشجع الناس و أجود الناس ] و في
صحيح مسلم [ عنه قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام
شيئا إلا أعطاه فجاء رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال : يا
قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ] و في رواية : [ أن
رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه
فقال : يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء ما يخاف الفقر ] قال أنس : إن
كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه
من الدنيا و ما عليها و فيه أيضا [ عن صفوان بن أمية قال : لقد أعطاني
رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أعطاني و أنه لمن أبغض الناس إلي فما
برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي ] قال ابن شهاب : أعطاه يوم حنين مائة
من النعم ثم مائة ثم مائة و في مغازي الواقدي : أن النبي صلى الله عليه و
سلم أعطى صفوان يومئذ واديا مملوء إبلا و نعما فقال صفوان : أشهد ما طابت
بهذا إلا نفس نبي و في الصحيحين [ عن جبير بن مطعم : أن الأعراب علقوا
بالنبي صلى الله عليه و سلم مرجعه من حنين يسألونه أن يقسم بينهم فقال :
لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا و لا
كذوبا و لا جبانا ] و فيهما [ عن جابر قال : ما سئل رسول الله صلى الله
عليه و سلم شيئا فقال : لا و إنه قال لجابر : لو جاءنا مال البحرين لقد
أعطيتك هكذا و هكذا و هكذا و قال : بيديه جميعا ] و خرج البخاري [ من حديث
سهل بن سعد : إن شملة أهديت للنبي صلى الله عليه و سلم فلبسها و هو محتاج
إليها فسأله إياها رجل فأعطاه فلامه الناس و قالوا : كان محتاجا إليها و
قد علمت أنه لا يرد سائلا فقال : إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه ] و
كان جوده صلى الله عليه و سلم كله لله و في ابتغاء مرضاته فإنه كان يبذل
المال إما لفقير أو محتاج أو ينفقه في سبيل الله أو يتألف به على الإسلام
من يقوي الإسلام بإسلامه و كان يؤثر على نفسه و أهله و أولاده فيعطي عطاء
يعجز عنه الملوك مثل كسرى و قيصر و يعيش في نفسه عيش الفقراء فيأتي عليه
الشهر و الشهران لا يوقد في بيته نار و ربما ربط على بطنه الحجر من الجوع
و كان قد أتاه صبي مرة فشكت إليه فاطمة ما تلقي من خدمة البيت و طلبت منه
خادما يكفيها مؤنة بيتها فأمرها أن تستعين بالتسبيح و التكبير و التحميد
عند نومها و قال : [ لا أعطيك و أدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع ] و
كان جوده صلى الله عليه و سلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور كما
أن جود ربه تضاعف فيه أيضا فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة
و كان على ذلك من قبل البعثة و ذكر ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عن عبيد بن
عمير قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاور في حراء من كل سنة
شهرا يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما
أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها و ذلك الشهر شهر رمضان خرج إلى
حراء كما يخرج لجواره معه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى
برسالته و رحم العباد بها جاءه جبريل من الله عز و جل ثم كان بعد الرسالة
جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك فإنه كان يلتقي هو و جبريل عليه
السلام و هو أفضل الملائكة و أكرمهم و يدارسه الكتاب الذي جاء به إليه و
هو أشرف الكتب و أفضلها و هو يحث على الإحسان و مكارم الأخلاق و قد كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الكتاب له خلقا بحيث يرضى لرضاه و يسخط
لسخطه و يسارع إلى ما حث عليه و يمتنع مما زجر عنه فلهذا كان يتضاعف جوده
و إفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام و كثرة
مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم و الجود و لا شك إن
المخالطة تؤثر و تورث أخلاقا من المخالطة كان بعض الشعراء قد امتدح ملكا
جوادا فأعطاه جائزة سنية فخرج بها من عنده و فرقها كلها على الناس فأنشد :
( لمست بكفي كفه أبتغي الغنا ... و لم أدر أن الجود من كفه يعدي )
فبلغ ذلك الملك فأضعف له الجائزة و قد قال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجواد
و لا يصلح أن يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم
( تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله )
( تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله )
( هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف و الجود ساحله )
( و لو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله )
سمع الشبلي قائلا يقول : يا الله يا جواد فتأوه و صاح و قال : كيف يمكنني
أن أصف الحق بالجود و مخلوق يقول في شكله فذكر هذه الأبيات ثم بكى و قال :
بلى يا جواد فإنك أوجدت تلك الجوارح و بسطت تلك الهمم فأنت الجواد كل
الجود فإنهم يعطون عن محدود و عطائك لأحد له و لا صفة فيا جوادا يعلو كل
جواد و به جاد كل من جاد
و في تضاعف جوده صلى الله عليه و سلم في
شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة : منها : شرف الزمان و مضاعفة أجر العمل فيه
و في الترمذي [ عن أنس مرفوعا : أفضل الصدقة صدقة رمضان ]
و منها
إعانة الصائمين و القائمين و الذاكرين على طاعتهم فيستوجب المعين لهم مثل
أجرهم كما أن من جهز غازيا فقد غزا و من خلفه في أهله فقط غزا و في [ حديث
زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من فطر صائما فله مثل
أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و
الترمذي و ابن ماجه و خرجه الطبراني من [ حديث عائشة و زاد : و ما عمل
الصائم من أعمال البر إلا كان لصاحب الطعام ما دام قوة الطعام فيه ] و خرج
ابن خزيمة في صحيحه من [ حديث سلمان مرفوعا حديثا في فضل شهر رمضان و فيه
: و هو شهر المواساة و شهر يزاد فيه في رزق المؤمن من فطر فيه صائما كان
مغفرة لذنوبه و عتق رقبته من النار و كان له مثل أجره من غير أن ينقص من
أجره شيء قالوا : يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم ؟ قال : يعطي
الله هذا الثواب لمن فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء و من
أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة ]
و منها : أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة و المغفرة و
العتق من النار لا سيما في ليلة القدر و الله تعالى يرحم من عباده الرحماء
كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إنما يرحم الله من عباده الرحماء ] فمن
جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء و الفضل و الجزاء من جنس العمل
و منها : أن الجمع بين الصيام و الصدقة من موجبات الجنة كما في [ حديث علي
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة غرفا الجنة
غرفا يرى ظهورها من بطونها من ظهورها قالوا : لمن هي يا رسول الله ؟ قال :
لمن طيب الكلام و أطعم الطعام و أدام الصيام و صلى بالليل و الناس نيام ]
و هذه الخصال كلها تكون في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن الصيام و القيام و
الصدقة و طيب الكلام فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو و الرفث و الصيام و
الصلاة و الصدقة توصل صاحبها إلى الله عز و جل قال بعض السلف : الصلاة
توصل صاحبها إلى نصف الطريق و الصيام يوصله إلى باب الملك و الصدقة تأخذ
بيده فتدخله على الملك و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو
بكر : أنا قال : من تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : من
تصدق بصدقة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : فمن عاد منكم مريضا ؟ قال أبو بكر :
أنا قال : ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة ]
و منها : أن الجمع
بين الصيام و الصدقة أبلغ في تفكير الخطايا و اتقاء جهنم و المباعدة عنها
و خصوصا إن ضم إلى ذلك قيام الليل فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و
سلم أنه قال : [ الصيام جنة ] و في رواية : [ جنة أحدكم من النار كجنته من
القتال ] و في [ حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصدقة
تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار و قيام الرجل من جوف الليل يعني أنه
يطفىء الخطيئة ] أيضا و قد صرح بذلك في رواية الإمام أحمد و في الحديث
الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اتقوا النار و لو بشق تمرة ]
كان أبو الدرداء يقول : صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور صوموا
يوما شديدا حره لحر يوم النشور تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير
و منها :
أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص و تكفير الصيام للذنوب مشروط
بالتحفظ مما نبغي التحفظ منه كما ورد ذلك في حديث خرجه ابن حبان في صحيحه
و عامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي و لهذا نهى أن يقول
الرجل : صمت رمضان كله أو قمته كله فالصدقة تجبر ما فيه من النقص و الخلل
و لهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث و
الصيام و الصدقة لهما مدخل في كفارات الإيمان و محظورات الإحرام و كفارة
الوطء في رمضان و لهذا كان الله تعالى قد خير المسلمين في ابتداء الأمر
بين الصيام و إطعام المسكين ثم نسخ ذلك و بقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام
لكبره و من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يقضيه و يضم إليه
إطعام مسكين لكل يوم تقوية له عند أكثر العلماء كما أفتى به الصحابة و
كذلك من أفطر لأجل غيره كالحامل و المرضع على قول طائفة من العلماء
و منها : أن الصائم يدع طعامه و شرابه لله فإذا أعان الصائمين على التقوي
على طعامهم و شرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله و آثر بها أو واسى منها و
لهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر لأن الطعام يكون محبوبا له حينئذ
فيواسي منه حتى يكون من أطعم الطعام على حبه و يكون في ذلك شكر لله على
نعمة إباحة الطعام و الشراب له و رده عليه بعد منعه إياه فإن هذه النعمة
إنما عرف قدرها عند المنع منها و سئل بعض السلف : لم شرع الصيام ؟ قال :
ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع و هذا من بعض حكم الصوم و فوائده و
قد ذكرنا فيما تقدم حديث سلمان و فيه : [ و هو شهر المواساة ] فمن لم يقدر
فيه على درجة الإيثار على نفسه فلا يعجز عن درجة أهل المواساة كان كثير من
السلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به و يطوون كان ابن عمر يصوم و لا يفطر
إلا مع المساكين فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة و كان إذا جاءه
سائل و هو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام و قام فأعطاه السائل فيرجع و قد
أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائما و لم يأكل شيئا و اشتهى بعض
الصالحين من السلف طعاما و كان صائما فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلا
يقول : من يقرض الملي الوفي الغني ؟ فقال عبده المعدم من الحسنات فقام
فأخذ الصحفة فخرج بها إليه و بات طاويا و جاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع
إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم طوى و أصبح صائما و كان الحسن يطعم
إخوانه و هو صائم تطوعا و يجلس يروحهم و هم يأكلون و كان ابن المبارك يطعم
إخوانه في السفر الألوان من الحلواء و غيرها و هو صائم سلام الله على تلك
الأرواح رحمة الله على تلك الأشباح لم يبق إلا أخبار و آثار كم بين من
يمنع الحق الواجب عليه و بين أهل الإيثار
( لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد )
و له فوائد أخر قال الشافعي رضي الله عنه : أحب للرجل الزيادة في الجود في
شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم و لحاجة الناس فيه إلى
مصالحهم و لتشاغل كثير منهم بالصوم و الصلاة عن مكاسبهم و كذا قال القاضي
أبو يعلى و غيره من أصحابنا أيضا و دل الحديث أيضا على استحباب دراسة
القرآن في رمضان و الإجتماع على ذلك و عرض القرآن على من هو أحفظ له و فيه
دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان و في [ حديث فاطمة
عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه و سلم : أنه أخبرها أن جبريل عليه
كان يعارضه القرآن كل عام مرة و أنه عارضه في عام وفاته مرتين ] و في حديث
ابن عباس أن المدارسة بينه و بين جبريل كان ليلا يدل على استحباب الإكثار
من التلاوة في رمضان ليلا فإن الليل تنقطع فيه الشواغل و يجتمع فيه الهم و
يتواطأ فيه القلب و اللسان على التدبر كما قال تعالى : { إن ناشئة الليل
هي أشد وطئا و أقوم قيلا } و شهر رمضان له خصوصية بالقرآن كما قال تعالى :
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } و قد قال ابن عباس رضي الله عنهما :
إنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر و يشهد
لذلك قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } و قوله : { إنا أنزلناه
في ليلة مباركة } و قد سبق [ عن عبيد بن عمير : أن النبي صلى الله عليه و
سلم بدىء بالوحي و نزول القرآن عليه في شهر رمضان ] و في المسند [ عن
واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه قال : نزلت صحف
إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان و أنزلت التوراة لست مضين من رمضان و
أنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان و أنزل القرآن لأربع و عشرين خلت من
رمضان ] و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم : [ يطيل القراءة في قيام
رمضان بالليل أكثر من غيره و قد صلى معه حذيفة ليلة في رمضان قال : فقرأ
بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران لا يمر بآية تخويف إلا وقف و سأل فما صلى
الركعتين حتى جاءه بلال فأذنه بالصلاة ] خرجه الإمام أحمد و خرجه النسائي
و عنده أنه ما صلى إلا أربع ركعات و كان عمر قد أمر أبي بن كعب و تميما
الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارىء يقرأ بالمائتين في ركعة
حتى كانوا يعتمدون على العصى من طول القيام و ما كانوا ينصرفون إلا عند
الفجر و في رواية : أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها
و روي أن عمر جمع ثلاثة قراء فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين و
أوسطهم بخمس و عشرين و أبطأهم بعشرين ثم كان في زمن التابعين يقرؤون
بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا
أنه قد خفف قال ابن منصور : سئل إسحاق بن راهوية كم يقرأ في قيام شهر
رمضان فلم يرخص في دون عشر آيات فقيل له : إنهم لا يرضون ؟ فقال : لا رضوا
فلا تؤمنهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من البقرة ثم إذا صرت إلى الآيات
الخفاف فبقدر عشر آيات من البقرة يعني في كل ركعة و كذلك كره مالك أن يقرأ
دون عشر آيات و سئل الإمام أحمد عما روي عن عمر كما تقدم ذكره في السريع
القراءة و البطيء فقال : في هذا مشقة على الناس و لا سيما في هذه الليالي
القصار و إنما الأمر على ما يحتمله الناس و قال أحمد لبعض أصحابه و كان
يصلي بهم في رمضان : هؤلاء قوم ضعفى اقرأ خمسا ستا سبعا قال : فقرأت فختمت
ليلة سبع و عشرين و قد روى الحسن : أن الذي أمره عمر أن يصلي بالناس كان
يقرأ خمس آيات ست آيات و كلام الإمام أحمد يدل على أنه يراعي في القراءة
حال المأمومين فلا يشق عليهم و قاله أيضا غيره من الفقهاء من أصحاب أبي
حنيفة و غيرهم و قد روي [ عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قام بهم
ليلة ثلاث و عشرين إلى ثلث الليل و ليلة خمس و عشرين إلى نصف الليل فقالوا
له : لو نفلتنا بقية ليلتنا فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف
كتب له بقية ليلته ] خرجه أهل السنن و حسنه الترمذي و هذا يدل على أن قيام
ثلث الليل و نصفه يكتب به قيام ليلة لكن مع الإمام و كان الإمام أحمد يأخذ
بهذا الحديث و يصلي مع الإمام حتى ينصرف و لا ينصرف حتى ينصرف الإمام و
قال بعض السلف : من قام نصف الليل فقد قام الليل و في سنن أبي داود [ عن
عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قام بعشر آيات لم
يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية
كتب من المقنطرين ] ـ يعني أنه كتب له قنطار من الأجر ـ و يروى من [ حديث
تميم و أنس مرفوعا : من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قيام ليلة ] و في
إسنادهما ضعف
و روي حديث تميم موقوفا عليه و هو أصح و عن ابن مسعود
قال : من قرأ ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين و من قرأ بمائة آية كتب
من القانتين و من قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار و من أراد أن يزيد في
القراءة و يطيل و كان يصلي لنفسه فليطول ما شاء كما قاله النبي صلى الله
عليه و سلم و كذلك من صلى بجماعة يرضون بصلاته و كان بعض السلف يختم في
قيام رمضان في كل ثلاث ليال و بعضهم في كل سبع منهم قتادة و بعضهم في كل
عشرة منهم أبو رجاء العطاردي وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في
الصلاة و غيرها كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان و كان النخعي يفعل
ذلك في العشر الأواخر منه خاصة و في بقية الشهر في ثلاث و كان قتادة يختم
في كل سبع دائما و في رمضان في كل ثلاث و في العشر الأواخر كل ليلة و كان
للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة و عن أبي حنيفة نحوه و
كان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان و كان الزهري إذا دخل رمضان قال :
فإنما هو تلاوة القرآن و إطعام الطعام قال ابن عبد الحكم : كان مالك إذا
دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة أهل العلم و أقبل على تلاوة
القرآن من المصحف قال عبد الرزاق : كان سفيان الثوري : إذا دخل رمضان ترك
جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن و كانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في
المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت و قال سفيان : كان
زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف و جمع إليه أصحابه و إنما ورد
النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في
الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو
في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من
تلاوة القرآن اغتناما للزمان و المكان و هو قول أحمد و إسحاق و غيرهما من
الأئمة و عليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره و اعلم أن المؤمن يجتمع له في
شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام و جهاد بالليل على
القيام فمن جمع بين هذين الجهادين و وفى بحقوقهما و صبر عليهما و فى أجره
بغير حساب قال كعب ينادي يوم القيامة مناد بأن كل حارث يعطى بحرثه و يزاد
غير أهل القرآن و الصيام يعطون أجورهم بغير حساب و يشفعان له أيضا عند
الله عز و جل كما في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه
و سلم قال : الصيام و القيام يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام : أي
رب منعته الطعام و الشراب بالنهار و يقول بالقرآن : منعته النوم بالنهار
فشفعني فيه فيشفعان ] فالصيام يشفع لمن منعه الطعام و الشهوات المحرمة
كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام و الشراب و النكاح و
مقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم و النظر المحرم و السماع
المحرم و الكسب المحرم فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع
له عند الله يوم القيامة و يقول : يا رب منعته شهواته فشفعني فيه فهذا لمن
حفظ صيامه و منعه من شهواته فأما من ضيع صيامه و لم يمنعه مما حرمه الله
عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه و يقول له : ضيعك الله كما ضيعتني
كما ورد مثل ذلك في الصلاة قال بعض السلف : إذا احتضر المؤمن يقال للملك :
شم رأسه قال : أجد في رأسه القرآن فيقال شم قلبه فيقول : أجد في قلبه
الصيام فيقال : شم قدميه فيقول : أجد في قدميه القيام فيقال : حفظ نفسه
حفظه الله عز و جل و كذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل فأما
من قرأ القرآن و قام به فقد قام بحقه فيشفع له و قد ذكر النبي صلى الله
عليه و سلم رجلا فقال : ذاك لا يتوسد القرآن ـ يعني لا ينام عليه فيصير له
كالوسادة ـ و خرج الإمام أحمد من [ حديث بريدة مرفوعا : أن القرآن يلقى
صاحبه يوم القيامة حتى ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول : هل تعرفني أنا
صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر و أسهرت ليلك و كل تاجر من وراء تجارته
فيعطي الملك بيمينه و الخلد بشماله و يوضع على رأسه تاج الوقار ثم يقال له
: اقرأ و اصعد في درج الجنة و غرفها فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو
ترتيلا ] و في [ حديث عبادة بن الصامت الطويل : إن القرآن يأتي صاحبه في
القبر فيقول له : أنا الذي كنت أسهر ليلك و أظمىء نهارك و أمنعك شهوتك و
سمعك و بصرك فستجدني من الأخلاء خليل صدق ثم يصعد فيسأل له فراشا و دثارا
فيؤمر له بفراش من الجنة و قنديل من الجنة و ياسمين من الجنة ثم يدفع
القرآن في قبلة القبر فيوسع عليه ما شاء الله من ذلك ] قال ابن مسعود :
ينبغي لقارىء القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون و نهاره إذا الناس
يفطرون و ببكائه إذا الناس يضحكون و بورعه إذا الناس يخلطون و بصمته إذا
الناس يخوضون و بخشوعه إذا الناس يختالون و بحزنه إذا الناس يفرحون قال
محمد بن كعب : كنا نعرف قارىء القرآن بصفرة لونه يشير إلى سهره و طول
تهجده قال وهيب بن الورد : قيل لرجل ألا تنام ؟ قال : إن عجائب القرآن
أطرن نومي و صحب رجل رجلا شهرين فلم يره نائما فقال : مالي لا أراك نائما
قال : إن عجائب القرآن أطرن نومي ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في أخرى قال
أحمد أبي الحواري : إني لأقرا القرآن و أنظر في آيه فيحير عقلي بها و أعجب
من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم و يسعهم أن يشغلوا بشيء من الدنيا و هم
يتلون كلام الله و أما إنهم لو فهموا ما يتلون و عرفوا حقه و تلذذوا به و
استحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما قد رزقوا أنشد ذو النون
المصري :
( منع القرآن بوعده و وعيده ... مقل العيون بليلها لا تهجع )
( فهموا عن الملك العظيم كلامه ... فهما تذل له الرقاب و تخضع )
فأما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل به بالنهار فإنه ينتصب
القرآن خصما له يطالبه بحقوقه التي ضيعها و خرج الإمام أحمد [ من حديث
سمرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى في منامه رجلا مستلقيا على قفاه
و رجل قائم بيده فهر أو صخرة فيشدخ به رأسه فيتدهده الحجر فإذا ذهب ليأخذه
عاد رأسه كما كان فيصنع به مثل ذلك فسأل عنه ؟ فقيل له : هذا رجل آتاه
الله القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل به بالنهار فهو يفعل به ذلك إلى
يوم القيامة ] و قد خرجه البخاري بغير هذا اللفظ و في [ حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم : يمثل القرآن يوم القيامة
رجلا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيتمثل له خصما فيقول : يا رب حملته
إياي فبئس حامل تعدى حدودي و ضيع فرائضي و ركب معصيتي و ترك طاعتي فما
يزال يقذف عليه الحجج حتى يقال شأنك به فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على
منخره في النار و يؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله و حفظ أمره فيتمثل خصما
دونه فيقول : يا رب حملته إياي فخير حامل حفظ حدودي و عمل بفرائضي و اجتنب
معصيتي و اتبع طاعتي فلا يزال يقذف له بالحجج حتى يقال : شأنك به فيأخذه
بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق و يعقد عليه تاج الملك و يسقيه كأس
الخمر ] يا من ضيع عمره في غير الطاعة يا من فرط في شهره بل في دهره و
أضاعه يا من بضاعته التسويف و التفريط و بئست البضاعة يا من جعل خصمه
القرآن و شهر رمضان كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة
( ويل لمن شفعاؤه خصماؤه ... و الصور في يوم القيامة ينفخ )
رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و قائم حظه من قيامه السهر كل قيام لا
ينهى عن الفحشاء و المنكر لا يزيده صاحبه إلا بعدا و كل صيام لا يصان عن
قول الزور و العمل به لا يورث صاحبه إلا مقتا و ردا يا قوم أين آثار
الصيام أين أنوار القيام
( إن كنت تنوح يا حمام البان ... للبين فأين شاهد الأحزان )
( أجفانك للدموع أم أجفاني ... لا يقبل مدع بلا برهان )
هذا عباد الله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن و في بقيته للعابدين مستمتع
و هذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم و يسمع و هو القرآن الذي لو أنزل على
جبل لرأيته خاشعا يتصدع و مع هذا فلا قلب يخشع و لا عين تدمع و لا صيام
يصان عن الحرام فينفع و لا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع قلوب خلت
من التقوى فهي خراب بلقع و تراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر و لا
تسمع كم تتلى علينا آيات القرآن و قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة و كم
يتوالى علينا شهر رمضان و حالنا فيه كحال أهل الشقوة لا الشاب منا ينتهي
عن الصبوة و لا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة أين نحن من قوم إذا
سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة و إذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم
جلوة و إذا صاموا صامت منه الألسنة و الأسماع و الأبصار أفما لنا فيهم
أسوة ؟ كما بيننا و بين حال الصفا أبعد مما بيننا و بين الصفا و المروة
كلما حسنت منا الأقوال ساءت الأعمال فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي
العظيم و حسبنا الله
( يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... و أبصروا الحق و قلبي قد عمي )
( يا حسنهم و الليل قد جنهم ... و نورهم يفوق نور الأنجم )
( ترنموا بالذكر في ليلهم ... فعيشهم قد طاب بالترنم )
( قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منتظم )
( أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ... و خلع الغفران خير القسم )
( ويحك يا نفس ألا تيقظ ... ينفع قبل أن تزل قدمي )
( مضى الزمان في ثوان و هوى ... فاستدركي ما قد بقي و اغتنمي )
في الصحيحين [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه
و سلم أجود الناس و كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه
القرآن و كان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فرسول الله صلى
الله عليه و سلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ] و خرجه
الإمام أحمد بزيادة في آخره و هي : [ لا يسأل عن شيء إلا أعطاه ] الجود :
هو سعة العطاء و كثرته و الله تعالى يوصف بالجود و في الترمذي [ من حديث
سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله جواد يحب الجود
كريم يحب الكرم ] و فيه أيضا [ من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم : عن ربه قال : يا عبادي لو أن أولكم و أخركم و حيكم و
ميتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا في صعيد واحد فسأل كل إنسان منكم ما بلغت
أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر
بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد
عطائي كلام و عذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له : كن فيكون ]
و في الأثر المشهور عن فضيل بن عياض : أن الله تعالى يقول كل ليلة : أنا
الجواد و مني الجود أنا الكريم و مني الكرم فالله سبحانه و تعالى أجود
الأجودين و جوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان و فيه أنزل قوله { و إذا
سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } و في الحديث الذي
خرجه الترمذي و غيره : [ أنه ينادي فيه مناديا يا باغي الخير هلم و يا
باغي الشر أقصر ] و لله عتقاء من النار و ذلك في كل ليلة و لما كان الله
عز و جل قد جب نبيه صلى الله عليه و سلم على أكمل الأخلاق و أشرفها كما في
[ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنما بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق ] و ذكره مالك في الموطأ بلاغا : [ فكان رسول الله صلى الله
عليه و سلم أجود الناس كلهم ] و خرج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من [ حديث أنس
مرفوعا : ألا أخبركم بالأجود الأجود الله الأجود الأجود و أنا أجود بني
آدم و أجودهم من بعدي رجل علم علما فنشر علمه يبعث يوم القيامة أمة وحده و
رجل جاد بنفسه في سبيل الله ] فدلك هذا على أنه صلى الله عليه و سلم أجود
بني آدم على الإطلاق كما أنه أفضلهم و أعلمهم و أشجعهم و أكملهم في جميع
الأوصاف الحميدة و كان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم و المال و بذل
نفسه لله تعالى في إظهار دينه و هداية عباده و إيصال النفع إليهم بكل طريق
من إطعام جائعهم و وعظ جاهلهم و قضاء حوائجهم و تحمل أثقالهم و لم يزل صلى
الله عليه و سلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ و لهذا قالت له خديجة في
أول مبعثه : و الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم و تقري الضيف و
تحمل الكل و تكسب المعدوم و تعين على نوائب الحق ثم تزايدت هذه الخصال فيه
بعد البعثة و تضاعفت أضعافا كثيرة و في الصحيحين [ عن أنس قال : كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم أحسن الناس و أشجع الناس و أجود الناس ] و في
صحيح مسلم [ عنه قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام
شيئا إلا أعطاه فجاء رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال : يا
قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ] و في رواية : [ أن
رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه
فقال : يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء ما يخاف الفقر ] قال أنس : إن
كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه
من الدنيا و ما عليها و فيه أيضا [ عن صفوان بن أمية قال : لقد أعطاني
رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أعطاني و أنه لمن أبغض الناس إلي فما
برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي ] قال ابن شهاب : أعطاه يوم حنين مائة
من النعم ثم مائة ثم مائة و في مغازي الواقدي : أن النبي صلى الله عليه و
سلم أعطى صفوان يومئذ واديا مملوء إبلا و نعما فقال صفوان : أشهد ما طابت
بهذا إلا نفس نبي و في الصحيحين [ عن جبير بن مطعم : أن الأعراب علقوا
بالنبي صلى الله عليه و سلم مرجعه من حنين يسألونه أن يقسم بينهم فقال :
لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا و لا
كذوبا و لا جبانا ] و فيهما [ عن جابر قال : ما سئل رسول الله صلى الله
عليه و سلم شيئا فقال : لا و إنه قال لجابر : لو جاءنا مال البحرين لقد
أعطيتك هكذا و هكذا و هكذا و قال : بيديه جميعا ] و خرج البخاري [ من حديث
سهل بن سعد : إن شملة أهديت للنبي صلى الله عليه و سلم فلبسها و هو محتاج
إليها فسأله إياها رجل فأعطاه فلامه الناس و قالوا : كان محتاجا إليها و
قد علمت أنه لا يرد سائلا فقال : إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه ] و
كان جوده صلى الله عليه و سلم كله لله و في ابتغاء مرضاته فإنه كان يبذل
المال إما لفقير أو محتاج أو ينفقه في سبيل الله أو يتألف به على الإسلام
من يقوي الإسلام بإسلامه و كان يؤثر على نفسه و أهله و أولاده فيعطي عطاء
يعجز عنه الملوك مثل كسرى و قيصر و يعيش في نفسه عيش الفقراء فيأتي عليه
الشهر و الشهران لا يوقد في بيته نار و ربما ربط على بطنه الحجر من الجوع
و كان قد أتاه صبي مرة فشكت إليه فاطمة ما تلقي من خدمة البيت و طلبت منه
خادما يكفيها مؤنة بيتها فأمرها أن تستعين بالتسبيح و التكبير و التحميد
عند نومها و قال : [ لا أعطيك و أدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع ] و
كان جوده صلى الله عليه و سلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور كما
أن جود ربه تضاعف فيه أيضا فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة
و كان على ذلك من قبل البعثة و ذكر ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عن عبيد بن
عمير قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاور في حراء من كل سنة
شهرا يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما
أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها و ذلك الشهر شهر رمضان خرج إلى
حراء كما يخرج لجواره معه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى
برسالته و رحم العباد بها جاءه جبريل من الله عز و جل ثم كان بعد الرسالة
جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك فإنه كان يلتقي هو و جبريل عليه
السلام و هو أفضل الملائكة و أكرمهم و يدارسه الكتاب الذي جاء به إليه و
هو أشرف الكتب و أفضلها و هو يحث على الإحسان و مكارم الأخلاق و قد كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الكتاب له خلقا بحيث يرضى لرضاه و يسخط
لسخطه و يسارع إلى ما حث عليه و يمتنع مما زجر عنه فلهذا كان يتضاعف جوده
و إفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام و كثرة
مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم و الجود و لا شك إن
المخالطة تؤثر و تورث أخلاقا من المخالطة كان بعض الشعراء قد امتدح ملكا
جوادا فأعطاه جائزة سنية فخرج بها من عنده و فرقها كلها على الناس فأنشد :
( لمست بكفي كفه أبتغي الغنا ... و لم أدر أن الجود من كفه يعدي )
فبلغ ذلك الملك فأضعف له الجائزة و قد قال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجواد
و لا يصلح أن يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم
( تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله )
( تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله )
( هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف و الجود ساحله )
( و لو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله )
سمع الشبلي قائلا يقول : يا الله يا جواد فتأوه و صاح و قال : كيف يمكنني
أن أصف الحق بالجود و مخلوق يقول في شكله فذكر هذه الأبيات ثم بكى و قال :
بلى يا جواد فإنك أوجدت تلك الجوارح و بسطت تلك الهمم فأنت الجواد كل
الجود فإنهم يعطون عن محدود و عطائك لأحد له و لا صفة فيا جوادا يعلو كل
جواد و به جاد كل من جاد
و في تضاعف جوده صلى الله عليه و سلم في
شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة : منها : شرف الزمان و مضاعفة أجر العمل فيه
و في الترمذي [ عن أنس مرفوعا : أفضل الصدقة صدقة رمضان ]
و منها
إعانة الصائمين و القائمين و الذاكرين على طاعتهم فيستوجب المعين لهم مثل
أجرهم كما أن من جهز غازيا فقد غزا و من خلفه في أهله فقط غزا و في [ حديث
زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من فطر صائما فله مثل
أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و
الترمذي و ابن ماجه و خرجه الطبراني من [ حديث عائشة و زاد : و ما عمل
الصائم من أعمال البر إلا كان لصاحب الطعام ما دام قوة الطعام فيه ] و خرج
ابن خزيمة في صحيحه من [ حديث سلمان مرفوعا حديثا في فضل شهر رمضان و فيه
: و هو شهر المواساة و شهر يزاد فيه في رزق المؤمن من فطر فيه صائما كان
مغفرة لذنوبه و عتق رقبته من النار و كان له مثل أجره من غير أن ينقص من
أجره شيء قالوا : يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم ؟ قال : يعطي
الله هذا الثواب لمن فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء و من
أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة ]
و منها : أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة و المغفرة و
العتق من النار لا سيما في ليلة القدر و الله تعالى يرحم من عباده الرحماء
كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إنما يرحم الله من عباده الرحماء ] فمن
جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء و الفضل و الجزاء من جنس العمل
و منها : أن الجمع بين الصيام و الصدقة من موجبات الجنة كما في [ حديث علي
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة غرفا الجنة
غرفا يرى ظهورها من بطونها من ظهورها قالوا : لمن هي يا رسول الله ؟ قال :
لمن طيب الكلام و أطعم الطعام و أدام الصيام و صلى بالليل و الناس نيام ]
و هذه الخصال كلها تكون في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن الصيام و القيام و
الصدقة و طيب الكلام فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو و الرفث و الصيام و
الصلاة و الصدقة توصل صاحبها إلى الله عز و جل قال بعض السلف : الصلاة
توصل صاحبها إلى نصف الطريق و الصيام يوصله إلى باب الملك و الصدقة تأخذ
بيده فتدخله على الملك و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو
بكر : أنا قال : من تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : من
تصدق بصدقة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : فمن عاد منكم مريضا ؟ قال أبو بكر :
أنا قال : ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة ]
و منها : أن الجمع
بين الصيام و الصدقة أبلغ في تفكير الخطايا و اتقاء جهنم و المباعدة عنها
و خصوصا إن ضم إلى ذلك قيام الليل فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و
سلم أنه قال : [ الصيام جنة ] و في رواية : [ جنة أحدكم من النار كجنته من
القتال ] و في [ حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصدقة
تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار و قيام الرجل من جوف الليل يعني أنه
يطفىء الخطيئة ] أيضا و قد صرح بذلك في رواية الإمام أحمد و في الحديث
الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اتقوا النار و لو بشق تمرة ]
كان أبو الدرداء يقول : صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور صوموا
يوما شديدا حره لحر يوم النشور تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير
و منها :
أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص و تكفير الصيام للذنوب مشروط
بالتحفظ مما نبغي التحفظ منه كما ورد ذلك في حديث خرجه ابن حبان في صحيحه
و عامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي و لهذا نهى أن يقول
الرجل : صمت رمضان كله أو قمته كله فالصدقة تجبر ما فيه من النقص و الخلل
و لهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث و
الصيام و الصدقة لهما مدخل في كفارات الإيمان و محظورات الإحرام و كفارة
الوطء في رمضان و لهذا كان الله تعالى قد خير المسلمين في ابتداء الأمر
بين الصيام و إطعام المسكين ثم نسخ ذلك و بقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام
لكبره و من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يقضيه و يضم إليه
إطعام مسكين لكل يوم تقوية له عند أكثر العلماء كما أفتى به الصحابة و
كذلك من أفطر لأجل غيره كالحامل و المرضع على قول طائفة من العلماء
و منها : أن الصائم يدع طعامه و شرابه لله فإذا أعان الصائمين على التقوي
على طعامهم و شرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله و آثر بها أو واسى منها و
لهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر لأن الطعام يكون محبوبا له حينئذ
فيواسي منه حتى يكون من أطعم الطعام على حبه و يكون في ذلك شكر لله على
نعمة إباحة الطعام و الشراب له و رده عليه بعد منعه إياه فإن هذه النعمة
إنما عرف قدرها عند المنع منها و سئل بعض السلف : لم شرع الصيام ؟ قال :
ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع و هذا من بعض حكم الصوم و فوائده و
قد ذكرنا فيما تقدم حديث سلمان و فيه : [ و هو شهر المواساة ] فمن لم يقدر
فيه على درجة الإيثار على نفسه فلا يعجز عن درجة أهل المواساة كان كثير من
السلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به و يطوون كان ابن عمر يصوم و لا يفطر
إلا مع المساكين فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة و كان إذا جاءه
سائل و هو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام و قام فأعطاه السائل فيرجع و قد
أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائما و لم يأكل شيئا و اشتهى بعض
الصالحين من السلف طعاما و كان صائما فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلا
يقول : من يقرض الملي الوفي الغني ؟ فقال عبده المعدم من الحسنات فقام
فأخذ الصحفة فخرج بها إليه و بات طاويا و جاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع
إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم طوى و أصبح صائما و كان الحسن يطعم
إخوانه و هو صائم تطوعا و يجلس يروحهم و هم يأكلون و كان ابن المبارك يطعم
إخوانه في السفر الألوان من الحلواء و غيرها و هو صائم سلام الله على تلك
الأرواح رحمة الله على تلك الأشباح لم يبق إلا أخبار و آثار كم بين من
يمنع الحق الواجب عليه و بين أهل الإيثار
( لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد )
و له فوائد أخر قال الشافعي رضي الله عنه : أحب للرجل الزيادة في الجود في
شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم و لحاجة الناس فيه إلى
مصالحهم و لتشاغل كثير منهم بالصوم و الصلاة عن مكاسبهم و كذا قال القاضي
أبو يعلى و غيره من أصحابنا أيضا و دل الحديث أيضا على استحباب دراسة
القرآن في رمضان و الإجتماع على ذلك و عرض القرآن على من هو أحفظ له و فيه
دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان و في [ حديث فاطمة
عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه و سلم : أنه أخبرها أن جبريل عليه
كان يعارضه القرآن كل عام مرة و أنه عارضه في عام وفاته مرتين ] و في حديث
ابن عباس أن المدارسة بينه و بين جبريل كان ليلا يدل على استحباب الإكثار
من التلاوة في رمضان ليلا فإن الليل تنقطع فيه الشواغل و يجتمع فيه الهم و
يتواطأ فيه القلب و اللسان على التدبر كما قال تعالى : { إن ناشئة الليل
هي أشد وطئا و أقوم قيلا } و شهر رمضان له خصوصية بالقرآن كما قال تعالى :
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } و قد قال ابن عباس رضي الله عنهما :
إنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر و يشهد
لذلك قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } و قوله : { إنا أنزلناه
في ليلة مباركة } و قد سبق [ عن عبيد بن عمير : أن النبي صلى الله عليه و
سلم بدىء بالوحي و نزول القرآن عليه في شهر رمضان ] و في المسند [ عن
واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه قال : نزلت صحف
إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان و أنزلت التوراة لست مضين من رمضان و
أنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان و أنزل القرآن لأربع و عشرين خلت من
رمضان ] و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم : [ يطيل القراءة في قيام
رمضان بالليل أكثر من غيره و قد صلى معه حذيفة ليلة في رمضان قال : فقرأ
بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران لا يمر بآية تخويف إلا وقف و سأل فما صلى
الركعتين حتى جاءه بلال فأذنه بالصلاة ] خرجه الإمام أحمد و خرجه النسائي
و عنده أنه ما صلى إلا أربع ركعات و كان عمر قد أمر أبي بن كعب و تميما
الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارىء يقرأ بالمائتين في ركعة
حتى كانوا يعتمدون على العصى من طول القيام و ما كانوا ينصرفون إلا عند
الفجر و في رواية : أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها
و روي أن عمر جمع ثلاثة قراء فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين و
أوسطهم بخمس و عشرين و أبطأهم بعشرين ثم كان في زمن التابعين يقرؤون
بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا
أنه قد خفف قال ابن منصور : سئل إسحاق بن راهوية كم يقرأ في قيام شهر
رمضان فلم يرخص في دون عشر آيات فقيل له : إنهم لا يرضون ؟ فقال : لا رضوا
فلا تؤمنهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من البقرة ثم إذا صرت إلى الآيات
الخفاف فبقدر عشر آيات من البقرة يعني في كل ركعة و كذلك كره مالك أن يقرأ
دون عشر آيات و سئل الإمام أحمد عما روي عن عمر كما تقدم ذكره في السريع
القراءة و البطيء فقال : في هذا مشقة على الناس و لا سيما في هذه الليالي
القصار و إنما الأمر على ما يحتمله الناس و قال أحمد لبعض أصحابه و كان
يصلي بهم في رمضان : هؤلاء قوم ضعفى اقرأ خمسا ستا سبعا قال : فقرأت فختمت
ليلة سبع و عشرين و قد روى الحسن : أن الذي أمره عمر أن يصلي بالناس كان
يقرأ خمس آيات ست آيات و كلام الإمام أحمد يدل على أنه يراعي في القراءة
حال المأمومين فلا يشق عليهم و قاله أيضا غيره من الفقهاء من أصحاب أبي
حنيفة و غيرهم و قد روي [ عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قام بهم
ليلة ثلاث و عشرين إلى ثلث الليل و ليلة خمس و عشرين إلى نصف الليل فقالوا
له : لو نفلتنا بقية ليلتنا فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف
كتب له بقية ليلته ] خرجه أهل السنن و حسنه الترمذي و هذا يدل على أن قيام
ثلث الليل و نصفه يكتب به قيام ليلة لكن مع الإمام و كان الإمام أحمد يأخذ
بهذا الحديث و يصلي مع الإمام حتى ينصرف و لا ينصرف حتى ينصرف الإمام و
قال بعض السلف : من قام نصف الليل فقد قام الليل و في سنن أبي داود [ عن
عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قام بعشر آيات لم
يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية
كتب من المقنطرين ] ـ يعني أنه كتب له قنطار من الأجر ـ و يروى من [ حديث
تميم و أنس مرفوعا : من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قيام ليلة ] و في
إسنادهما ضعف
و روي حديث تميم موقوفا عليه و هو أصح و عن ابن مسعود
قال : من قرأ ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين و من قرأ بمائة آية كتب
من القانتين و من قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار و من أراد أن يزيد في
القراءة و يطيل و كان يصلي لنفسه فليطول ما شاء كما قاله النبي صلى الله
عليه و سلم و كذلك من صلى بجماعة يرضون بصلاته و كان بعض السلف يختم في
قيام رمضان في كل ثلاث ليال و بعضهم في كل سبع منهم قتادة و بعضهم في كل
عشرة منهم أبو رجاء العطاردي وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في
الصلاة و غيرها كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان و كان النخعي يفعل
ذلك في العشر الأواخر منه خاصة و في بقية الشهر في ثلاث و كان قتادة يختم
في كل سبع دائما و في رمضان في كل ثلاث و في العشر الأواخر كل ليلة و كان
للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة و عن أبي حنيفة نحوه و
كان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان و كان الزهري إذا دخل رمضان قال :
فإنما هو تلاوة القرآن و إطعام الطعام قال ابن عبد الحكم : كان مالك إذا
دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة أهل العلم و أقبل على تلاوة
القرآن من المصحف قال عبد الرزاق : كان سفيان الثوري : إذا دخل رمضان ترك
جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن و كانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في
المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت و قال سفيان : كان
زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف و جمع إليه أصحابه و إنما ورد
النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في
الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو
في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من
تلاوة القرآن اغتناما للزمان و المكان و هو قول أحمد و إسحاق و غيرهما من
الأئمة و عليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره و اعلم أن المؤمن يجتمع له في
شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام و جهاد بالليل على
القيام فمن جمع بين هذين الجهادين و وفى بحقوقهما و صبر عليهما و فى أجره
بغير حساب قال كعب ينادي يوم القيامة مناد بأن كل حارث يعطى بحرثه و يزاد
غير أهل القرآن و الصيام يعطون أجورهم بغير حساب و يشفعان له أيضا عند
الله عز و جل كما في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه
و سلم قال : الصيام و القيام يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام : أي
رب منعته الطعام و الشراب بالنهار و يقول بالقرآن : منعته النوم بالنهار
فشفعني فيه فيشفعان ] فالصيام يشفع لمن منعه الطعام و الشهوات المحرمة
كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام و الشراب و النكاح و
مقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم و النظر المحرم و السماع
المحرم و الكسب المحرم فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع
له عند الله يوم القيامة و يقول : يا رب منعته شهواته فشفعني فيه فهذا لمن
حفظ صيامه و منعه من شهواته فأما من ضيع صيامه و لم يمنعه مما حرمه الله
عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه و يقول له : ضيعك الله كما ضيعتني
كما ورد مثل ذلك في الصلاة قال بعض السلف : إذا احتضر المؤمن يقال للملك :
شم رأسه قال : أجد في رأسه القرآن فيقال شم قلبه فيقول : أجد في قلبه
الصيام فيقال : شم قدميه فيقول : أجد في قدميه القيام فيقال : حفظ نفسه
حفظه الله عز و جل و كذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل فأما
من قرأ القرآن و قام به فقد قام بحقه فيشفع له و قد ذكر النبي صلى الله
عليه و سلم رجلا فقال : ذاك لا يتوسد القرآن ـ يعني لا ينام عليه فيصير له
كالوسادة ـ و خرج الإمام أحمد من [ حديث بريدة مرفوعا : أن القرآن يلقى
صاحبه يوم القيامة حتى ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول : هل تعرفني أنا
صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر و أسهرت ليلك و كل تاجر من وراء تجارته
فيعطي الملك بيمينه و الخلد بشماله و يوضع على رأسه تاج الوقار ثم يقال له
: اقرأ و اصعد في درج الجنة و غرفها فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو
ترتيلا ] و في [ حديث عبادة بن الصامت الطويل : إن القرآن يأتي صاحبه في
القبر فيقول له : أنا الذي كنت أسهر ليلك و أظمىء نهارك و أمنعك شهوتك و
سمعك و بصرك فستجدني من الأخلاء خليل صدق ثم يصعد فيسأل له فراشا و دثارا
فيؤمر له بفراش من الجنة و قنديل من الجنة و ياسمين من الجنة ثم يدفع
القرآن في قبلة القبر فيوسع عليه ما شاء الله من ذلك ] قال ابن مسعود :
ينبغي لقارىء القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون و نهاره إذا الناس
يفطرون و ببكائه إذا الناس يضحكون و بورعه إذا الناس يخلطون و بصمته إذا
الناس يخوضون و بخشوعه إذا الناس يختالون و بحزنه إذا الناس يفرحون قال
محمد بن كعب : كنا نعرف قارىء القرآن بصفرة لونه يشير إلى سهره و طول
تهجده قال وهيب بن الورد : قيل لرجل ألا تنام ؟ قال : إن عجائب القرآن
أطرن نومي و صحب رجل رجلا شهرين فلم يره نائما فقال : مالي لا أراك نائما
قال : إن عجائب القرآن أطرن نومي ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في أخرى قال
أحمد أبي الحواري : إني لأقرا القرآن و أنظر في آيه فيحير عقلي بها و أعجب
من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم و يسعهم أن يشغلوا بشيء من الدنيا و هم
يتلون كلام الله و أما إنهم لو فهموا ما يتلون و عرفوا حقه و تلذذوا به و
استحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما قد رزقوا أنشد ذو النون
المصري :
( منع القرآن بوعده و وعيده ... مقل العيون بليلها لا تهجع )
( فهموا عن الملك العظيم كلامه ... فهما تذل له الرقاب و تخضع )
فأما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل به بالنهار فإنه ينتصب
القرآن خصما له يطالبه بحقوقه التي ضيعها و خرج الإمام أحمد [ من حديث
سمرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى في منامه رجلا مستلقيا على قفاه
و رجل قائم بيده فهر أو صخرة فيشدخ به رأسه فيتدهده الحجر فإذا ذهب ليأخذه
عاد رأسه كما كان فيصنع به مثل ذلك فسأل عنه ؟ فقيل له : هذا رجل آتاه
الله القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل به بالنهار فهو يفعل به ذلك إلى
يوم القيامة ] و قد خرجه البخاري بغير هذا اللفظ و في [ حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم : يمثل القرآن يوم القيامة
رجلا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيتمثل له خصما فيقول : يا رب حملته
إياي فبئس حامل تعدى حدودي و ضيع فرائضي و ركب معصيتي و ترك طاعتي فما
يزال يقذف عليه الحجج حتى يقال شأنك به فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على
منخره في النار و يؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله و حفظ أمره فيتمثل خصما
دونه فيقول : يا رب حملته إياي فخير حامل حفظ حدودي و عمل بفرائضي و اجتنب
معصيتي و اتبع طاعتي فلا يزال يقذف له بالحجج حتى يقال : شأنك به فيأخذه
بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق و يعقد عليه تاج الملك و يسقيه كأس
الخمر ] يا من ضيع عمره في غير الطاعة يا من فرط في شهره بل في دهره و
أضاعه يا من بضاعته التسويف و التفريط و بئست البضاعة يا من جعل خصمه
القرآن و شهر رمضان كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة
( ويل لمن شفعاؤه خصماؤه ... و الصور في يوم القيامة ينفخ )
رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و قائم حظه من قيامه السهر كل قيام لا
ينهى عن الفحشاء و المنكر لا يزيده صاحبه إلا بعدا و كل صيام لا يصان عن
قول الزور و العمل به لا يورث صاحبه إلا مقتا و ردا يا قوم أين آثار
الصيام أين أنوار القيام
( إن كنت تنوح يا حمام البان ... للبين فأين شاهد الأحزان )
( أجفانك للدموع أم أجفاني ... لا يقبل مدع بلا برهان )
هذا عباد الله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن و في بقيته للعابدين مستمتع
و هذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم و يسمع و هو القرآن الذي لو أنزل على
جبل لرأيته خاشعا يتصدع و مع هذا فلا قلب يخشع و لا عين تدمع و لا صيام
يصان عن الحرام فينفع و لا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع قلوب خلت
من التقوى فهي خراب بلقع و تراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر و لا
تسمع كم تتلى علينا آيات القرآن و قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة و كم
يتوالى علينا شهر رمضان و حالنا فيه كحال أهل الشقوة لا الشاب منا ينتهي
عن الصبوة و لا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة أين نحن من قوم إذا
سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة و إذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم
جلوة و إذا صاموا صامت منه الألسنة و الأسماع و الأبصار أفما لنا فيهم
أسوة ؟ كما بيننا و بين حال الصفا أبعد مما بيننا و بين الصفا و المروة
كلما حسنت منا الأقوال ساءت الأعمال فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي
العظيم و حسبنا الله
( يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... و أبصروا الحق و قلبي قد عمي )
( يا حسنهم و الليل قد جنهم ... و نورهم يفوق نور الأنجم )
( ترنموا بالذكر في ليلهم ... فعيشهم قد طاب بالترنم )
( قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منتظم )
( أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ... و خلع الغفران خير القسم )
( ويحك يا نفس ألا تيقظ ... ينفع قبل أن تزل قدمي )
( مضى الزمان في ثوان و هوى ... فاستدركي ما قد بقي و اغتنمي )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان و ذكر نصف
الشهر الأخير
في الصحيحين [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى
الله عليه و سلم يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت
ليلة إحدى و عشرين و هي التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال : من كان
اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر و قد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها و قد
رأيتني أسجد في ماء و طين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر و
التمسوها في كل وتر فمطرت السماء تلك الليلة و كان المسجد على عريش فوكف
المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه و سلم على جبهته أثر الماء و
الطين من صبح إحدى و عشرين ]
هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله
عليه و سلم كان يعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان لابتغاء ليلة القدر فيه و
هذا السياق يقتضي أن ذلك تكرر منه و في رواية في الصحيحين في هذا الحديث :
أنه اعتكف العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط ثم قال : [ إني أتيت فقيل لي
: إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ] فاعتكف الناس
معه و هذا يدل على أن ذلك كان منه قبل أن يتبين له أنها في العشر الأواخر
ثم لما تبين له ذلك اعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله عز و جل كما رواه
عنه عائشة و أبو هريرة و غيرهما و روي أن عمر جمع جماعة من الصحابة فسألهم
عن ليلة القدر فقال بعضهم : كنا نراها في العشر الأوسط ثم بلغنا أنها في
العشر الأواخر و سيأتي الحديث بتمامه في موضع آخر إن شاء الله و خرج ابن
أبي عاصم في كتاب الصيام و غيره من [ حديث خالد بن محدوج عن أنس أن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في أول ليلة أو في تسع أو في أربع
عشرة ] و خالد هذا فيه ضعف و هذا يدل على : أنها تطلب في ليلتين من العشر
الأول و في ليلة من العشر الأوسط و هي أربع عشرة و قد سبق من حديث واثلة
بن الأسقع مرفوعا : [ أن الإنجيل أنزل لثلاث عشرة من رمضان ] و قد ورد
الأمر بطلب ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان و في أفراد ما بقي من
العشر الأوسط من هذا النصف و هما ليلتان ليلة سبع عشرة و ليلة تسع عشرة
أما الأول : فخرجه الطبراني [ من حديث عبد الله بن أنيس أنه سأل النبي صلى
الله عليه و سلم عن ليلة القدر فقال : رأيتها و نسيتها فتحرها في النصف
الأواخر ثم عاد فسأله فقال : التمسها في ليلة ثلاث و عشرين تمضي من الشهر
] و لهذا المعنى و الله أعلم كان أبي بن كعب يقنت في الوتر في ليالي النصف
الأواخر لأنه يرجى فيه ليلة القدر و أيضا فكل زمان فاضل من ليل أو نهار
فإن آخره أفضل من أوله كيوم عرفة و يوم الجمعة و كذلك الليل و النهار
عموما آخره أفضل من أوله و لذلك كانت الصلاة الوسطى صلاة العصر كما دلت
الأحاديث الصحيحة عليه و آثار السلف الكثيرة تدل عليه و كذلك عشر ذي الحجة
و المحرم آخرهما أفضل من أولهما
و أما الثاني : ففي سنن أبي داود [
عن ابن مسعود مرفوعا : اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان و ليلة إحدى و
عشرين و ليلة ثلاث و عشرين ثم سكت ]
و في رواية ليلة تسع عشرة و قيل
: إن الصحيح وقفه على ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال : [ تحروا ليلة القدر
ليلة سبع عشرة صباحية بدرا و إحدى عشرين ] و في رواية عنه قال : [ ليلة
سبع عشرة فإن لم يكن ففي تسع عشرة ] و خرج الطبراني من رواية أبي المهزم و
هو ضعيف [ عن أبي هريرة مرفوعا قال : التمسوا ليلة القدر في سبع عشرة أو
تسع عشرة أو إحدى و عشرين أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين أو سبع و عشرين
أو تسع و عشرين ] ففي الحديث التماسها في إفراد النصف الثاني كلها و يروى
من [ حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا كان ليلة تسع
عشرة من رمضان شد المئزر و هجر الفراش حتى يفطر ] قال البخاري تفرد به عمر
بن مسكين و لا يتابع عليه و قد روي عن طائفة من الصحابة أنها تطلب ليلة
سبع عشرة و قالوا : إن صبيحتها كان يوم بدر روي عن علي و ابن مسعود و زيد
بن أرقم و زيد بن ثابت و عمرو بن حريث و منهم من روي عنه أنها ليلة تسع
عشرة روي عن علي و ابن مسعود و زيد بن أرقم و المشهور عند أهل السير و
المغازي : أن ليلة بدر كانت ليلة سبع عشرة و كانت ليلة جمعة و روي ذلك عن
علي و ابن عباس و غيرهما و عن ابن عباس رواية ضعيفة أنها كانت ليلة
الإثنين و كان زيد بن ثابت لا يحيى ليلة من رمضان كما يحيى ليلة سبع عشرة
و يقول : إن الله فرق في صبيحتها بين الحق و الباطل و أذل في صبيحتها أئمة
الكفر و حكى الإمام أحمد هذا القول عن أهل المدينة : أن ليلة القدر تطلب
ليلة سبع عشرة قال في رواية أبي داود فيمن قال لامرأته : أنت طالق ليلة
القدر قال : يعتزلها إذا أدخل العشر و قيل العشر أهل المدينة يرونها في
السبع عشرة إلا أن المثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في العشر الأواخر
و حكي عن عامر بن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل ليلة سبع عشرة و عن
أهل مكة أنهم كانوا لا ينامون فيها و يعتمرون و حكي عن أبي يوسف و محمد
صاحبي أبي حنيفة أن ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان من غير تعيين
لها بليلة و إن كانت في نفس الأمر عند الله معينة و روي عن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام قال : ليلة القدر ليلة سبع عشرة ليلة جمعة خرجه ابن أبي
شيبة و ظاهره : أنها إنما تكون ليلة القدر إذا كانت ليلة جمعة لتوافق ليلة
بدر و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناد جيد عن الحسن قال : إن غلاما لعثمان
بن أبي العاص قال له يا سيدي إن البحر يعذب في الشهر في ليلة القدر قال :
فإذا كانت تلك الليلة فأعلمني قال : فلما كانت تلك الليلة أذنه فنظروا
فوجدوه عذبا فإذا هي ليلة سبع عشرة و روي من [ حديث جابر قال : كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم يأتي قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان أي يوم كان ]
خرجه أبو موسى المديني
و قد قيل : إن المعراج كان فيها أيضا ذكر ابن
سعد عن الواقدي عن أشياخه أن المعراج كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من
رمضان قبل الهجرة إلى السماء و أن الإسراء كان ليلة سبع عشرة من ربيع
الأول قبل الهجرة بسنة إلى بيت المقدس و هذا على قول من فرق بين المعراج و
الإسراء فجعل المعراج إلى السماء كما ذكر في سورة النجم و الإسراء إلى بيت
المقدس خاصة كما ذكر في سورة سبحان و قد قيل : إن ابتداء نبوة النبي صلى
الله عليه و سلم كان في سابع عشر رمضان قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر :
نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة السبت و ليلة الأحد ثم
ظهر له بحراء برسالة الله عز و جل يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان و
أصح ما روي في الحوادث في هذه الليلة أنها ليلة بدر كما سبق أنها كانت
ليلة سبع عشرة و قيل تسع عشر و المشهور أنها كانت ليلة سبع عشرة كما تقدم
و صبيحتها هو يوم الفرقان لأن الله تعالى فرق فيه بين الحق و الباطل و
أظهر الحق و أهله على الباطل و حزبه و علت كلمة الله و توحيده و ذل أعداؤه
من المشركين و أهل الكتاب و كان ذلك في السنة الثانية من الهجرة فإن النبي
صلى الله عليه و سلم قدم المدينة في ربيع الأول في أول سنة من سني الهجرة
و لم يفرض رمضان في ذلك العام ثم صام عاشوراء و فرض عليه رمضان في ثان سنة
فهو أول رمضان صامه و صامه المسلمون معه ثم خرج النبي صلى الله عليه و سلم
لطلب عير من قريش قدمت من الشام إلى المدينة في يوم السبت لاثنتي عشرة
ليلة خلت من رمضان و أفطر في خروجه إليها قال ابن المسيب قال عمر : غزونا
مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوتين في رمضان يوم بدر و يوم الفتح و
أفطرنا فيهما
و كان سبب خروجه حاجة أصحابه خصوصا المهاجرين : {
الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون
الله و رسوله أولئك هم الصادقون } و كانت هذه العير معها أموال كثيرة
لأعدائهم الكفار الذين أخرجوهم من ديارهم و أموالهم ظلما و عدوانا كما قال
الله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير
* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } الآية فقصد
النبي صلى الله عليه و سلم أن يأخذ أموال هؤلاء الظالمين المعتدين على
أولياء الله و حزبه و جنده فيردها على أولياء الله و حزبه المظلومين
المخرجين من ديارهم و أموالهم ليتقوا بها على عبادة الله و طاعته و جهاد
أعدائه و هذا مما أحله الله لهذه الأمة فإنه أحل لهم الغنائم و لم تحل
لأحد قبلهم و كان عدة أصحاب بدر رضي الله عنهم ثلاثمائة و بضعة عشر و
كانوا على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر و ما جاوزه معه إلا
مؤمن و في سنن أبي داود من [ حديث عبد الله بن عمرو قال : خرج رسول الله
صلى الله عليه و سلم يوم بدر في ثلاثمائة و خمسة عشر من المقاتلة كما خرج
طالوت فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خرجوا فقال : اللهم
إنهم حفاة فاحملهم و إنهم عراة فاكسهم و إنهم جياع فأشبعهم ] ففتح الله
يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا و ما فيهم رجل إلا و قد رجع بجمل أو جملين و
اكتسوا و شبعوا و كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم حين خرجوا على غاية
من قلة الظهر و الزاد فإنهم لم يخرجوا مستعدين لحرب و لا لقتال إنما خرجوا
لطلب العير فكان معهم نحو سبعين بعيرا يعتقبونها بينهم كل ثلاثة على بعير
و كان للنبي صلى الله عليه و سلم زميلان فكانوا يعتقبون على بعير واحد
فكان زميلاه يقولان له اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك فيقول : [ ما أنتما
بأقوى على المشي مني و قالا أنا بأغنى عن الأجر منكما ] و لم يكن معهما
إلا فرسان و قيل ثلاثة و قيل : فرس واحد للمقداد و بلغ المشركين خروج
النبي صلى الله عليه و سلم لطلب العير فأخذ أبو سفيان بالعير نحو الساحل و
بعث إلى مكة يخبرهم الخبر و يطلب منهم أن ينفروا لحماية عيرهم فخرجوا
مستصرخين و خرج أشرافهم و رؤساؤهم و ساروا نحو بدر و استشار النبي صلى
الله عليه و سلم المسلمين في القتال فتكلم المهاجرون فسكت عنهم و إنما كان
قصده الأنصار لأنه ظن أنهم لم يبايعوه إلا على نصرته على من قصده في
ديارهم فقام سعد بن عبادة فقال : إيانا تريد ـ يعني الأنصار ـ و الذي نفسي
بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها و لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى
برك الغماد لفعلنا و قال له المقداد : لا نقول لك كما قال بني إسرائيل
لموسى : { اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } و لكن نقاتل عن يمينك
و شمالك و بين يديك و من خلفك فسر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك و أجمع
على القتال و بات تلك الليلة ليلة الجمعة سابع عشر رمضان قائما يصلي و
يبكي و يدعو الله و يستنصره على أعدائه و في المسند [ عن علي بن أبي طالب
قال : لقد رأيتنا و ما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم
تحت شجرة يصلي و يبكي حتى أصبح ] و فيه [ عنه أيضا قال : أصابنا طش من مطر
يعني ليلة بدر فانطلقنا تحت الشجر و الحجف نستظل بها من المطر و بات رسول
الله صلى الله عليه و سلم يدعو ربه و يقول : إن تهلك هذه الفئة لا تعبد ]
فلما طلع الفجر نادى الصلاة عباد الله فجاء الناس من تحت الشجر و الحجف
فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و حث على القتال و أمد الله تعالى
نبيه و لمؤمنين بنصر من عنده و بجند من جنده كما قال تعالى : { إذ
تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * و ما جعله
الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله } و في صحيح
البخاري [ : أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و سلم : ما تعدون أهل بدر
فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال : و كذلك من شهد بدرا من
الملائكة ] و قال الله تعالى : { و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة } و
قال : { فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى }
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما رآهم قال : [ اللهم إن هؤلاء
قريش قد جاءت بخيلائها يكذبون رسولك فأنجز لي ما وعدتني فأتاه جبريل فقال
: خذ قبضة من تراب فارمهم بها فأخذ قبضة من حصباء الوادي فرمى بها نحوهم و
قال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه و منخره و فمه شيء ثم كانت
الهزيمة ] و قال حكيم بن حزام : سمعنا يوم بدر صوتا وقع من السماء كأنه
صوت حصاة على طست فرمى رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الرمية فانهزمنا
و لما قدم الخبر على أهل مكة قالوا لمن أتاهم بالخبر : كيف حال الناس قال
: لا شيء و الله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلونا و
يأسرونا كيف شاؤا و أيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا على خيل بلق
بين السماء و الأرض ما يقوم لها شيء
و قتل الله صناديد كفار قريش
يومئذ منهم عتبة بن ربيعة و شيبة و الوليد بن عتبة و أبو جهل و أسروا منهم
سبعين و قصة بدر يطول استقصاؤها و هي مشهورة في التفسير و كتب الصحاح و
السنن و المسانيد و المغازي و التواريخ و غيرها و إنما المقصود ههنا
التنبيه على بعض مقاصدها و كان عدو الله إبليس قد جاء إلى المشركين في
صورة سراقة بن مالك و كانت يده في يد الحارث بن هشام و جعل يشجعهم و يعدهم
و يمنيهم فلما رأى الملائكة هرب و ألقى نفسه في البحر و قد أخبر الله عن
ذلك بقوله تعالى : { و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم
اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إني
بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله و الله شديد العقاب } و في
الموطأ حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما رؤي الشيطان
أحقر و لا أدحر و لا أصغر من يوم عرفة إلا ما رأى يوم بدر قيل : ما رأى
يوم بدر ؟ قال : رأى جبريل يزع الملائكة ]
فإبليس عدو الله يسعى في
إطفاء نور الله و توحيده و يغري بذلك أولياءه من الكفار و المنافقين فلما
عجز عن ذلك بنصر الله نبيه و إظهار دينه على الدين كله رضي بإلقاء الفتن
بين المسلمين و اجتزى منهم بمحقرات الذنوب حيث عجز عن ردهم عن دينهم كما
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في
جزيرة العرب و لكن في التحريش بينهم ] خرجه مسلم من حديث جابر و خرج
الإمام أحمد و النسائي و الترمذي و ابن ماجه [ من حديث عمرو بن الأحوص قال
: سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول في حجة الوداع : ألا إن الشيطان قد
أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا و لكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من
أعمالكم فيرضى بها ] و في صحيح الحاكم [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه و سلم خطب في حجة الوداع فقال : إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم و
لكنه يرضى أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحاقرون من أعمالكم فيرضى بها
فاحذروا يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا
كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم ] و لم يعظم على إبليس شيء أكبر
من بعثة محمد صلى الله عليه و سلم و انتشار دعوته في مشارق الأرض و
مغاربها فإنه أيس أن تعود أمته كلهم إلى الشرك الأكبر قال سعيد بن جبير :
[ لما رأى إبليس النبي صلى الله عليه و سلم قائما بمكة يصلي رن و لما
افتتح النبي صلى الله عليه و سلم مكة رن رنة أخرى اجتمعت إليه ذريته فقال
: آيسوا أن تردوا أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى الشرك بعد يومكم هذا و
لكن افتنوهم في دينهم و افشوا فيهم النوح و الشعر ] خرجه ابن أبي الدنيا و
خرج الطبراني بإسناده عن مجاهد عن أبي هريرة قال : إن إبليس رن لما أنزلت
فاتحة الكتاب و أنزلت بالمدينة و المعروف هذا عن هذا عن مجاهد من قوله قال
: رن إبليس أربع رنات حين لعن و حين أهبط من الجنة و حين بعث محمد و حين
أنزلت فاتحة الكتاب و أنزلت بالمدينة خرجه وكيع و غيره و قال بعض التابعين
لما أنزلت هذه الآية : { و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا
الله فاستغفروا لذنوبهم } الآية بكى إبليس يشير إلى شدة حزنه بنزولها لما
فيها من الفرح لأهل الذنوب فهو لا يزال في هم و غم و حزن منذ بعث النبي
صلى الله عليه و سلم لما رأى منه و من أمته ما يهمه و يغيظه قال ثابت :
لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم قال إبليس لشياطينه : لقد حدث أمر
فانظروا ما هو فانطلقوا ثم جاؤوه فقالوا : ما ندري ؟ قال إبليس : أنا
أنبئكم بالخبر فذهب و جاء بالخبر فذهب و جاء قال : قد بعث محمد صلى الله
عليه و سلم فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فيجيؤا
بصحفهم ليس فيها شيء فقال : ما لكم لا تصيبون منهم شيئا ؟ قالوا : ما
صحبنا قوما قط مثل هؤلاء نصيب منهم ثم يقومون إلى الصلاة فيمحى ذلك قال :
رويدا إنهم عسى أن يفتح الله لهم الدنيا هنالك تصيبون حاجتكم منهم : و عن
الحسن قال : قال إبليس سولت لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالإستغفار
فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون منها ـ يعني الأهواء ـ و لا يزال إبليس يرى
في مواسم المغفرة و العتق من النار ما يسؤه فيوم عرفة لا يرى أصغر و لا
أحقر و لا أدحر فيه منه لما يرى من تنزل الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب
العظام إلا ما رؤي يوم بدر و روي إنه لما رأى نزول المغفرة للأمة في حجة
الوداع يوم النحر بالمزدلفة أهوى يحثي على رأسه التراب و يدعو بالويل و
الثبور فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم مما رأى من جزع الخبيث و في شهر
رمضان يلطف الله بأمة محمد فيغل فيه الشياطين و مردة الجن حتى لا يقدروا
على ما كانوا يقدرون عليه في غيره من تسويل الذنوب و لهذا تقل المعاصي في
شهر رمضان في الأمة لذلك ففي الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء و غلقت
أبواب جهنم و سلسلت الشياطين ] و لمسلم : [ فتحت أبواب الرحمة ] و له أيضا
[ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جاء
رمضان فتحت أبواب الجنة و أغلقت أبواب النار و صفدت الشياطين ] و خرج منه
البخاري ذكر فتح أبواب الجنة و للترمذي و ابن ماجه [ عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين و
مردة الجن و غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب و فتحت أبواب الجنة فلم
يغلق منها باب و ينادي مناد يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر و لله
عتقاء من النار و ذلك كل ليلة ] و في رواية للنسائي : [ تغل فيه مردة
الشياطين ] و للإمام أحمد [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم تعطه أمة قبلهم خلوف فم
الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا و
يزين الله كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة
و الأذى و يصيروا إليك و تصفد مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا
يخلصون إليه في غيره يغفر لهم في آخر ليلة قيل : يا رسول الله أهي ليلة
القدر ؟ قال : لا و لكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله ]
و في
ليلة القدر تنتشر الملائكة في الأرض فيبطل سلطان الشياطين كما قال الله
تعالى : { تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى
مطلع الفجر } و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه قال : و الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى ] و في صحيح
ابن حبان [ عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : في
ليلة القدر لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها ]
و في المسند [ من حديث
عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : في ليلة القدر لا
يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح و إن أمارتها أن الشمس تخرج صبيحتها مستوية
ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ ] و
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا
ليلة القدر و ذلك أنها تطلع لا شعاع لها و قال مجاهد في قوله تعالى : {
سلام هي حتى مطلع الفجر } قال : سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان
العمل فيها و عنه قال : ليلة القدر ليلة سالمة لا يحدث فيها داء و لا يرسل
فيها شيطان و عنه قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا و
لا يحدث فيها أذى و عن الضحاك عن ابن عباس قال : في تلك الليلة تصفد مردة
الجن و تغل عفاريت الجن و تفتح فيها أبواب السماء كلها و يقبل الله فيها
التوبة لكل تائب فلذلك قال : { سلام هي حتى مطلع الفجر } و يروى عن أبي بن
كعب رضي الله عنه قال : لا يستطيع الشيطان أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء
أو ضرب من ضروب الفساد و لا ينفذ فيها سحر ساحر و يروى بإسناد ضعيف [ عن
أنس مرفوعا أنه لا تسري نجومها و لا تنبح كلابها ] و كل هذا يدل على كف
الشياطين فيها عن انتشارهم في الأرض و منعهم من استراق السمع فيها من
السماء
ابن آدم لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي أنت المختار من
المخلوقات و لك أعدت الجنة إن اتقيت فهي إقطاع المتقين و الدنيا إقطاع
إبليس فهو فيها من المنظرين فكيف رضيت لنفسك بالإعراض عن إقطاعك و مزاحمة
إبليس على إقطاعه و أن تكون غدا معه في النار من جملة أتباعه إنما طردناه
عن السماء لأجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك و طلبنا قربك لتكون من خاصتنا و
حزبنا فعاديتنا و واليت عدونا : { أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم
لكم عدو بئس للظالمين بدلا }
( رعى الله من نهوى و إن كان ما رعى ... حفظنا له العهد القديم فضيعا )
( و صاحبت قوما كنت أنهاك عنهم ... و حقك ما أبقيت للصلح موضعا )
أبشروا يا معاشر المسلمين فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم
قد فتحت و نسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت و أبواب الجحيم كلها لأجلكم
مغلقة و أقدام إبليس و ذريته من أجلكم موثقة ففي هذا الشهر يؤخذ من إبليس
بالثأر و تستخلص العصاة من أسره فما يبقى لهم عنده آثار كانوا فراخه قد
غذاهم بالشهوات في أوكاره فهجروا اليوم تلك الأوكار نقضوا معاقل حصونه
بمعاول التوبة و الإستغفار خرجوا من سجنه إلى حصن التقوى و الإيمان فأمنوا
من عذاب النار قصموا ظهره بكلمة التوحيد فهو يشكو ألم الإنكسار في كل موسم
من مواسم الفضل يحزن ففي هذا الشهر يدعو بالويل لما يرى تنزل الرحمة و
مغفرة الأوزار غلب حزب الرحمن حزب الشياطين فما بقي له سلطان إلا على
الكفار عزل سلطان الهوى و صارت الدولة لسلطان التقوى : { فاعتبروا يا أولي
الأبصار }
( يا نداماى صحا القلب صحا ... فاطردوا عني الصبا و المرحا )
( هزم العقل جنودا للهوى ... فاسدي لا تعجبوا أن صلحا )
( زجر الحق فؤادي فارعوى ... و أفاق القلب مني و صحا )
( بادروا التوبة من قبل الردى ... فمناديه ينادينا الوحا )
عباد الله شهر رمضان قد انتصف فمن منكم حاسب نفسه فيه لله و انتصف من منكم
قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني
له فيها غرفا من فوقها غرفا ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في
العمل فكأنكم به و قد انصرف فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف و أما شهر رمضان
فمن أين لكم منه خلف
( تنصف الشهر و الهفاه و انهدما ... و اختص بالفوز بالجنات من خدما )
( و أصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرم )
( من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهم و الندما )
( طوبى لمن كانت التقوى بضاعته ... في شهره و بحبل الله معتصما )
الشهر الأخير
في الصحيحين [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى
الله عليه و سلم يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت
ليلة إحدى و عشرين و هي التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال : من كان
اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر و قد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها و قد
رأيتني أسجد في ماء و طين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر و
التمسوها في كل وتر فمطرت السماء تلك الليلة و كان المسجد على عريش فوكف
المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه و سلم على جبهته أثر الماء و
الطين من صبح إحدى و عشرين ]
هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله
عليه و سلم كان يعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان لابتغاء ليلة القدر فيه و
هذا السياق يقتضي أن ذلك تكرر منه و في رواية في الصحيحين في هذا الحديث :
أنه اعتكف العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط ثم قال : [ إني أتيت فقيل لي
: إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ] فاعتكف الناس
معه و هذا يدل على أن ذلك كان منه قبل أن يتبين له أنها في العشر الأواخر
ثم لما تبين له ذلك اعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله عز و جل كما رواه
عنه عائشة و أبو هريرة و غيرهما و روي أن عمر جمع جماعة من الصحابة فسألهم
عن ليلة القدر فقال بعضهم : كنا نراها في العشر الأوسط ثم بلغنا أنها في
العشر الأواخر و سيأتي الحديث بتمامه في موضع آخر إن شاء الله و خرج ابن
أبي عاصم في كتاب الصيام و غيره من [ حديث خالد بن محدوج عن أنس أن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في أول ليلة أو في تسع أو في أربع
عشرة ] و خالد هذا فيه ضعف و هذا يدل على : أنها تطلب في ليلتين من العشر
الأول و في ليلة من العشر الأوسط و هي أربع عشرة و قد سبق من حديث واثلة
بن الأسقع مرفوعا : [ أن الإنجيل أنزل لثلاث عشرة من رمضان ] و قد ورد
الأمر بطلب ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان و في أفراد ما بقي من
العشر الأوسط من هذا النصف و هما ليلتان ليلة سبع عشرة و ليلة تسع عشرة
أما الأول : فخرجه الطبراني [ من حديث عبد الله بن أنيس أنه سأل النبي صلى
الله عليه و سلم عن ليلة القدر فقال : رأيتها و نسيتها فتحرها في النصف
الأواخر ثم عاد فسأله فقال : التمسها في ليلة ثلاث و عشرين تمضي من الشهر
] و لهذا المعنى و الله أعلم كان أبي بن كعب يقنت في الوتر في ليالي النصف
الأواخر لأنه يرجى فيه ليلة القدر و أيضا فكل زمان فاضل من ليل أو نهار
فإن آخره أفضل من أوله كيوم عرفة و يوم الجمعة و كذلك الليل و النهار
عموما آخره أفضل من أوله و لذلك كانت الصلاة الوسطى صلاة العصر كما دلت
الأحاديث الصحيحة عليه و آثار السلف الكثيرة تدل عليه و كذلك عشر ذي الحجة
و المحرم آخرهما أفضل من أولهما
و أما الثاني : ففي سنن أبي داود [
عن ابن مسعود مرفوعا : اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان و ليلة إحدى و
عشرين و ليلة ثلاث و عشرين ثم سكت ]
و في رواية ليلة تسع عشرة و قيل
: إن الصحيح وقفه على ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال : [ تحروا ليلة القدر
ليلة سبع عشرة صباحية بدرا و إحدى عشرين ] و في رواية عنه قال : [ ليلة
سبع عشرة فإن لم يكن ففي تسع عشرة ] و خرج الطبراني من رواية أبي المهزم و
هو ضعيف [ عن أبي هريرة مرفوعا قال : التمسوا ليلة القدر في سبع عشرة أو
تسع عشرة أو إحدى و عشرين أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين أو سبع و عشرين
أو تسع و عشرين ] ففي الحديث التماسها في إفراد النصف الثاني كلها و يروى
من [ حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا كان ليلة تسع
عشرة من رمضان شد المئزر و هجر الفراش حتى يفطر ] قال البخاري تفرد به عمر
بن مسكين و لا يتابع عليه و قد روي عن طائفة من الصحابة أنها تطلب ليلة
سبع عشرة و قالوا : إن صبيحتها كان يوم بدر روي عن علي و ابن مسعود و زيد
بن أرقم و زيد بن ثابت و عمرو بن حريث و منهم من روي عنه أنها ليلة تسع
عشرة روي عن علي و ابن مسعود و زيد بن أرقم و المشهور عند أهل السير و
المغازي : أن ليلة بدر كانت ليلة سبع عشرة و كانت ليلة جمعة و روي ذلك عن
علي و ابن عباس و غيرهما و عن ابن عباس رواية ضعيفة أنها كانت ليلة
الإثنين و كان زيد بن ثابت لا يحيى ليلة من رمضان كما يحيى ليلة سبع عشرة
و يقول : إن الله فرق في صبيحتها بين الحق و الباطل و أذل في صبيحتها أئمة
الكفر و حكى الإمام أحمد هذا القول عن أهل المدينة : أن ليلة القدر تطلب
ليلة سبع عشرة قال في رواية أبي داود فيمن قال لامرأته : أنت طالق ليلة
القدر قال : يعتزلها إذا أدخل العشر و قيل العشر أهل المدينة يرونها في
السبع عشرة إلا أن المثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في العشر الأواخر
و حكي عن عامر بن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل ليلة سبع عشرة و عن
أهل مكة أنهم كانوا لا ينامون فيها و يعتمرون و حكي عن أبي يوسف و محمد
صاحبي أبي حنيفة أن ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان من غير تعيين
لها بليلة و إن كانت في نفس الأمر عند الله معينة و روي عن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام قال : ليلة القدر ليلة سبع عشرة ليلة جمعة خرجه ابن أبي
شيبة و ظاهره : أنها إنما تكون ليلة القدر إذا كانت ليلة جمعة لتوافق ليلة
بدر و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناد جيد عن الحسن قال : إن غلاما لعثمان
بن أبي العاص قال له يا سيدي إن البحر يعذب في الشهر في ليلة القدر قال :
فإذا كانت تلك الليلة فأعلمني قال : فلما كانت تلك الليلة أذنه فنظروا
فوجدوه عذبا فإذا هي ليلة سبع عشرة و روي من [ حديث جابر قال : كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم يأتي قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان أي يوم كان ]
خرجه أبو موسى المديني
و قد قيل : إن المعراج كان فيها أيضا ذكر ابن
سعد عن الواقدي عن أشياخه أن المعراج كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من
رمضان قبل الهجرة إلى السماء و أن الإسراء كان ليلة سبع عشرة من ربيع
الأول قبل الهجرة بسنة إلى بيت المقدس و هذا على قول من فرق بين المعراج و
الإسراء فجعل المعراج إلى السماء كما ذكر في سورة النجم و الإسراء إلى بيت
المقدس خاصة كما ذكر في سورة سبحان و قد قيل : إن ابتداء نبوة النبي صلى
الله عليه و سلم كان في سابع عشر رمضان قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر :
نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة السبت و ليلة الأحد ثم
ظهر له بحراء برسالة الله عز و جل يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان و
أصح ما روي في الحوادث في هذه الليلة أنها ليلة بدر كما سبق أنها كانت
ليلة سبع عشرة و قيل تسع عشر و المشهور أنها كانت ليلة سبع عشرة كما تقدم
و صبيحتها هو يوم الفرقان لأن الله تعالى فرق فيه بين الحق و الباطل و
أظهر الحق و أهله على الباطل و حزبه و علت كلمة الله و توحيده و ذل أعداؤه
من المشركين و أهل الكتاب و كان ذلك في السنة الثانية من الهجرة فإن النبي
صلى الله عليه و سلم قدم المدينة في ربيع الأول في أول سنة من سني الهجرة
و لم يفرض رمضان في ذلك العام ثم صام عاشوراء و فرض عليه رمضان في ثان سنة
فهو أول رمضان صامه و صامه المسلمون معه ثم خرج النبي صلى الله عليه و سلم
لطلب عير من قريش قدمت من الشام إلى المدينة في يوم السبت لاثنتي عشرة
ليلة خلت من رمضان و أفطر في خروجه إليها قال ابن المسيب قال عمر : غزونا
مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوتين في رمضان يوم بدر و يوم الفتح و
أفطرنا فيهما
و كان سبب خروجه حاجة أصحابه خصوصا المهاجرين : {
الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون
الله و رسوله أولئك هم الصادقون } و كانت هذه العير معها أموال كثيرة
لأعدائهم الكفار الذين أخرجوهم من ديارهم و أموالهم ظلما و عدوانا كما قال
الله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير
* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } الآية فقصد
النبي صلى الله عليه و سلم أن يأخذ أموال هؤلاء الظالمين المعتدين على
أولياء الله و حزبه و جنده فيردها على أولياء الله و حزبه المظلومين
المخرجين من ديارهم و أموالهم ليتقوا بها على عبادة الله و طاعته و جهاد
أعدائه و هذا مما أحله الله لهذه الأمة فإنه أحل لهم الغنائم و لم تحل
لأحد قبلهم و كان عدة أصحاب بدر رضي الله عنهم ثلاثمائة و بضعة عشر و
كانوا على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر و ما جاوزه معه إلا
مؤمن و في سنن أبي داود من [ حديث عبد الله بن عمرو قال : خرج رسول الله
صلى الله عليه و سلم يوم بدر في ثلاثمائة و خمسة عشر من المقاتلة كما خرج
طالوت فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خرجوا فقال : اللهم
إنهم حفاة فاحملهم و إنهم عراة فاكسهم و إنهم جياع فأشبعهم ] ففتح الله
يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا و ما فيهم رجل إلا و قد رجع بجمل أو جملين و
اكتسوا و شبعوا و كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم حين خرجوا على غاية
من قلة الظهر و الزاد فإنهم لم يخرجوا مستعدين لحرب و لا لقتال إنما خرجوا
لطلب العير فكان معهم نحو سبعين بعيرا يعتقبونها بينهم كل ثلاثة على بعير
و كان للنبي صلى الله عليه و سلم زميلان فكانوا يعتقبون على بعير واحد
فكان زميلاه يقولان له اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك فيقول : [ ما أنتما
بأقوى على المشي مني و قالا أنا بأغنى عن الأجر منكما ] و لم يكن معهما
إلا فرسان و قيل ثلاثة و قيل : فرس واحد للمقداد و بلغ المشركين خروج
النبي صلى الله عليه و سلم لطلب العير فأخذ أبو سفيان بالعير نحو الساحل و
بعث إلى مكة يخبرهم الخبر و يطلب منهم أن ينفروا لحماية عيرهم فخرجوا
مستصرخين و خرج أشرافهم و رؤساؤهم و ساروا نحو بدر و استشار النبي صلى
الله عليه و سلم المسلمين في القتال فتكلم المهاجرون فسكت عنهم و إنما كان
قصده الأنصار لأنه ظن أنهم لم يبايعوه إلا على نصرته على من قصده في
ديارهم فقام سعد بن عبادة فقال : إيانا تريد ـ يعني الأنصار ـ و الذي نفسي
بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها و لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى
برك الغماد لفعلنا و قال له المقداد : لا نقول لك كما قال بني إسرائيل
لموسى : { اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } و لكن نقاتل عن يمينك
و شمالك و بين يديك و من خلفك فسر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك و أجمع
على القتال و بات تلك الليلة ليلة الجمعة سابع عشر رمضان قائما يصلي و
يبكي و يدعو الله و يستنصره على أعدائه و في المسند [ عن علي بن أبي طالب
قال : لقد رأيتنا و ما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم
تحت شجرة يصلي و يبكي حتى أصبح ] و فيه [ عنه أيضا قال : أصابنا طش من مطر
يعني ليلة بدر فانطلقنا تحت الشجر و الحجف نستظل بها من المطر و بات رسول
الله صلى الله عليه و سلم يدعو ربه و يقول : إن تهلك هذه الفئة لا تعبد ]
فلما طلع الفجر نادى الصلاة عباد الله فجاء الناس من تحت الشجر و الحجف
فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و حث على القتال و أمد الله تعالى
نبيه و لمؤمنين بنصر من عنده و بجند من جنده كما قال تعالى : { إذ
تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * و ما جعله
الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله } و في صحيح
البخاري [ : أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و سلم : ما تعدون أهل بدر
فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال : و كذلك من شهد بدرا من
الملائكة ] و قال الله تعالى : { و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة } و
قال : { فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى }
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما رآهم قال : [ اللهم إن هؤلاء
قريش قد جاءت بخيلائها يكذبون رسولك فأنجز لي ما وعدتني فأتاه جبريل فقال
: خذ قبضة من تراب فارمهم بها فأخذ قبضة من حصباء الوادي فرمى بها نحوهم و
قال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه و منخره و فمه شيء ثم كانت
الهزيمة ] و قال حكيم بن حزام : سمعنا يوم بدر صوتا وقع من السماء كأنه
صوت حصاة على طست فرمى رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الرمية فانهزمنا
و لما قدم الخبر على أهل مكة قالوا لمن أتاهم بالخبر : كيف حال الناس قال
: لا شيء و الله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلونا و
يأسرونا كيف شاؤا و أيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا على خيل بلق
بين السماء و الأرض ما يقوم لها شيء
و قتل الله صناديد كفار قريش
يومئذ منهم عتبة بن ربيعة و شيبة و الوليد بن عتبة و أبو جهل و أسروا منهم
سبعين و قصة بدر يطول استقصاؤها و هي مشهورة في التفسير و كتب الصحاح و
السنن و المسانيد و المغازي و التواريخ و غيرها و إنما المقصود ههنا
التنبيه على بعض مقاصدها و كان عدو الله إبليس قد جاء إلى المشركين في
صورة سراقة بن مالك و كانت يده في يد الحارث بن هشام و جعل يشجعهم و يعدهم
و يمنيهم فلما رأى الملائكة هرب و ألقى نفسه في البحر و قد أخبر الله عن
ذلك بقوله تعالى : { و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم
اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إني
بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله و الله شديد العقاب } و في
الموطأ حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما رؤي الشيطان
أحقر و لا أدحر و لا أصغر من يوم عرفة إلا ما رأى يوم بدر قيل : ما رأى
يوم بدر ؟ قال : رأى جبريل يزع الملائكة ]
فإبليس عدو الله يسعى في
إطفاء نور الله و توحيده و يغري بذلك أولياءه من الكفار و المنافقين فلما
عجز عن ذلك بنصر الله نبيه و إظهار دينه على الدين كله رضي بإلقاء الفتن
بين المسلمين و اجتزى منهم بمحقرات الذنوب حيث عجز عن ردهم عن دينهم كما
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في
جزيرة العرب و لكن في التحريش بينهم ] خرجه مسلم من حديث جابر و خرج
الإمام أحمد و النسائي و الترمذي و ابن ماجه [ من حديث عمرو بن الأحوص قال
: سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول في حجة الوداع : ألا إن الشيطان قد
أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا و لكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من
أعمالكم فيرضى بها ] و في صحيح الحاكم [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه و سلم خطب في حجة الوداع فقال : إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم و
لكنه يرضى أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحاقرون من أعمالكم فيرضى بها
فاحذروا يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا
كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم ] و لم يعظم على إبليس شيء أكبر
من بعثة محمد صلى الله عليه و سلم و انتشار دعوته في مشارق الأرض و
مغاربها فإنه أيس أن تعود أمته كلهم إلى الشرك الأكبر قال سعيد بن جبير :
[ لما رأى إبليس النبي صلى الله عليه و سلم قائما بمكة يصلي رن و لما
افتتح النبي صلى الله عليه و سلم مكة رن رنة أخرى اجتمعت إليه ذريته فقال
: آيسوا أن تردوا أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى الشرك بعد يومكم هذا و
لكن افتنوهم في دينهم و افشوا فيهم النوح و الشعر ] خرجه ابن أبي الدنيا و
خرج الطبراني بإسناده عن مجاهد عن أبي هريرة قال : إن إبليس رن لما أنزلت
فاتحة الكتاب و أنزلت بالمدينة و المعروف هذا عن هذا عن مجاهد من قوله قال
: رن إبليس أربع رنات حين لعن و حين أهبط من الجنة و حين بعث محمد و حين
أنزلت فاتحة الكتاب و أنزلت بالمدينة خرجه وكيع و غيره و قال بعض التابعين
لما أنزلت هذه الآية : { و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا
الله فاستغفروا لذنوبهم } الآية بكى إبليس يشير إلى شدة حزنه بنزولها لما
فيها من الفرح لأهل الذنوب فهو لا يزال في هم و غم و حزن منذ بعث النبي
صلى الله عليه و سلم لما رأى منه و من أمته ما يهمه و يغيظه قال ثابت :
لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم قال إبليس لشياطينه : لقد حدث أمر
فانظروا ما هو فانطلقوا ثم جاؤوه فقالوا : ما ندري ؟ قال إبليس : أنا
أنبئكم بالخبر فذهب و جاء بالخبر فذهب و جاء قال : قد بعث محمد صلى الله
عليه و سلم فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فيجيؤا
بصحفهم ليس فيها شيء فقال : ما لكم لا تصيبون منهم شيئا ؟ قالوا : ما
صحبنا قوما قط مثل هؤلاء نصيب منهم ثم يقومون إلى الصلاة فيمحى ذلك قال :
رويدا إنهم عسى أن يفتح الله لهم الدنيا هنالك تصيبون حاجتكم منهم : و عن
الحسن قال : قال إبليس سولت لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالإستغفار
فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون منها ـ يعني الأهواء ـ و لا يزال إبليس يرى
في مواسم المغفرة و العتق من النار ما يسؤه فيوم عرفة لا يرى أصغر و لا
أحقر و لا أدحر فيه منه لما يرى من تنزل الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب
العظام إلا ما رؤي يوم بدر و روي إنه لما رأى نزول المغفرة للأمة في حجة
الوداع يوم النحر بالمزدلفة أهوى يحثي على رأسه التراب و يدعو بالويل و
الثبور فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم مما رأى من جزع الخبيث و في شهر
رمضان يلطف الله بأمة محمد فيغل فيه الشياطين و مردة الجن حتى لا يقدروا
على ما كانوا يقدرون عليه في غيره من تسويل الذنوب و لهذا تقل المعاصي في
شهر رمضان في الأمة لذلك ففي الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء و غلقت
أبواب جهنم و سلسلت الشياطين ] و لمسلم : [ فتحت أبواب الرحمة ] و له أيضا
[ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جاء
رمضان فتحت أبواب الجنة و أغلقت أبواب النار و صفدت الشياطين ] و خرج منه
البخاري ذكر فتح أبواب الجنة و للترمذي و ابن ماجه [ عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين و
مردة الجن و غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب و فتحت أبواب الجنة فلم
يغلق منها باب و ينادي مناد يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر و لله
عتقاء من النار و ذلك كل ليلة ] و في رواية للنسائي : [ تغل فيه مردة
الشياطين ] و للإمام أحمد [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم تعطه أمة قبلهم خلوف فم
الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا و
يزين الله كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة
و الأذى و يصيروا إليك و تصفد مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا
يخلصون إليه في غيره يغفر لهم في آخر ليلة قيل : يا رسول الله أهي ليلة
القدر ؟ قال : لا و لكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله ]
و في
ليلة القدر تنتشر الملائكة في الأرض فيبطل سلطان الشياطين كما قال الله
تعالى : { تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى
مطلع الفجر } و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه قال : و الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى ] و في صحيح
ابن حبان [ عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : في
ليلة القدر لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها ]
و في المسند [ من حديث
عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : في ليلة القدر لا
يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح و إن أمارتها أن الشمس تخرج صبيحتها مستوية
ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ ] و
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا
ليلة القدر و ذلك أنها تطلع لا شعاع لها و قال مجاهد في قوله تعالى : {
سلام هي حتى مطلع الفجر } قال : سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان
العمل فيها و عنه قال : ليلة القدر ليلة سالمة لا يحدث فيها داء و لا يرسل
فيها شيطان و عنه قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا و
لا يحدث فيها أذى و عن الضحاك عن ابن عباس قال : في تلك الليلة تصفد مردة
الجن و تغل عفاريت الجن و تفتح فيها أبواب السماء كلها و يقبل الله فيها
التوبة لكل تائب فلذلك قال : { سلام هي حتى مطلع الفجر } و يروى عن أبي بن
كعب رضي الله عنه قال : لا يستطيع الشيطان أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء
أو ضرب من ضروب الفساد و لا ينفذ فيها سحر ساحر و يروى بإسناد ضعيف [ عن
أنس مرفوعا أنه لا تسري نجومها و لا تنبح كلابها ] و كل هذا يدل على كف
الشياطين فيها عن انتشارهم في الأرض و منعهم من استراق السمع فيها من
السماء
ابن آدم لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي أنت المختار من
المخلوقات و لك أعدت الجنة إن اتقيت فهي إقطاع المتقين و الدنيا إقطاع
إبليس فهو فيها من المنظرين فكيف رضيت لنفسك بالإعراض عن إقطاعك و مزاحمة
إبليس على إقطاعه و أن تكون غدا معه في النار من جملة أتباعه إنما طردناه
عن السماء لأجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك و طلبنا قربك لتكون من خاصتنا و
حزبنا فعاديتنا و واليت عدونا : { أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم
لكم عدو بئس للظالمين بدلا }
( رعى الله من نهوى و إن كان ما رعى ... حفظنا له العهد القديم فضيعا )
( و صاحبت قوما كنت أنهاك عنهم ... و حقك ما أبقيت للصلح موضعا )
أبشروا يا معاشر المسلمين فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم
قد فتحت و نسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت و أبواب الجحيم كلها لأجلكم
مغلقة و أقدام إبليس و ذريته من أجلكم موثقة ففي هذا الشهر يؤخذ من إبليس
بالثأر و تستخلص العصاة من أسره فما يبقى لهم عنده آثار كانوا فراخه قد
غذاهم بالشهوات في أوكاره فهجروا اليوم تلك الأوكار نقضوا معاقل حصونه
بمعاول التوبة و الإستغفار خرجوا من سجنه إلى حصن التقوى و الإيمان فأمنوا
من عذاب النار قصموا ظهره بكلمة التوحيد فهو يشكو ألم الإنكسار في كل موسم
من مواسم الفضل يحزن ففي هذا الشهر يدعو بالويل لما يرى تنزل الرحمة و
مغفرة الأوزار غلب حزب الرحمن حزب الشياطين فما بقي له سلطان إلا على
الكفار عزل سلطان الهوى و صارت الدولة لسلطان التقوى : { فاعتبروا يا أولي
الأبصار }
( يا نداماى صحا القلب صحا ... فاطردوا عني الصبا و المرحا )
( هزم العقل جنودا للهوى ... فاسدي لا تعجبوا أن صلحا )
( زجر الحق فؤادي فارعوى ... و أفاق القلب مني و صحا )
( بادروا التوبة من قبل الردى ... فمناديه ينادينا الوحا )
عباد الله شهر رمضان قد انتصف فمن منكم حاسب نفسه فيه لله و انتصف من منكم
قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني
له فيها غرفا من فوقها غرفا ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في
العمل فكأنكم به و قد انصرف فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف و أما شهر رمضان
فمن أين لكم منه خلف
( تنصف الشهر و الهفاه و انهدما ... و اختص بالفوز بالجنات من خدما )
( و أصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرم )
( من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهم و الندما )
( طوبى لمن كانت التقوى بضاعته ... في شهره و بحبل الله معتصما )
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى