صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
المجلس الثالث في صيام آخر شعبان
ثبت في الصحيحين [ عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
لرجل : هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ؟ قال : لا قال : فإذا أفطرت فصم
يومين ] و في رواية للبخاري أظنه يعني رمضان و في رواية لمسلم و علقها
البخاري : [ هل صمت من سرر شعبان شيئا ] و في رواية : [ فإذا أفطرت من
رمضان فصم يومين مكانه ] و في رواية : [ يوما أو يومين ] شك شعبة و روي :
[ من سرار الشهر ] و قد اختلف في تفسير السرار و المشهور إنه آخر الشهر
يقال : سرار الشهر و سراره بكسر السين و فتحها ذكره ابن السكيت و غيره و
قيل : إن الفتح أفصح قاله الفراء و سمي آخر الشهر سرارا : لاسترار القمر
فيه و ممن فسر السرار بآخر الشهر أبو عبيد و غيره من الأئمة و كذلك بوب
عليه البخاري صيام آخر الشهر و أشكل هذا على كثير من العلماء في الصحيحين
أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا
تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] فقال كثير من
العلماء كأبي عبيد و من تابعه كالخطابي و أكثر شراح الحديث : أن هذا الرجل
الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان يعلم أن له عادة بصيامه أو كان
قد نذره فلذلك أمره بقضائه و قالت طائفة : حديث عمران يدل على أنه يجوز
صيام يوم الشك و آخر شعبان مطلقا سواء وافق عادة أو لم يوافق و إنما ينهى
عنه إذا صامه بنية الرمضانية احتياطا و هذا مذهب مالك و ذكر أنه القول
الذي أدرك عليه أهل العلم حتى قال محمد بن مسلمة من أصحابه : يكره الأمر
بفطره لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده و حكى ابن عبد البر
هذا القول عن أكثر علماء الأمصار و ذكر محمد بن ناصر الحافظ : إن هذا هو
مذهب أحمد أيضا و غلط في نقله هذا عن أحمد و لكن يشكل على هذا الحديث [
أبي هريرة رضي الله عنه و قوله : إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] و قد ذكر
الشافعي في كتاب مختلف الحديث احتمالا في معنى قوله : [ إلا من كان يصوم
صوما فليصمه ] و في رواية : [ إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم ] أن
المراد بموافقة العادة صيامه على عادة الناس في التطوع بالصيام دون صيامه
بنية الرمضانية للاحتياط
و قالت طائفة : سر الشهر : أوله و خرج أبو
داود في باب تقدم رمضان من [ حديث معاوية أنه قال : إني متقدم الشهر فمن
شاء فليتقدم فسئل عن ذلك فقال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول :
صوموا الشهر و سره ] ثم حكى أبو داود عن الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز :
أن سر الشهر : أوله قال أبو داود : و قال بعضهم : سره وسطه و فرق الأزهري
بين سرار الشهر و سره فقال : سراره و سرره آخره و سره وسطه و هي أيام
البيض و سر كل شيء جوفه و في رواية لمسلم في [ حديث عمران بن حصين المذكور
: هل صمت من سرة هذا الشهر ] و فسر ذلك : بأيام البيض قلت : لا يصح أن
يفسر سرر الشهر و سراره بأوله لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال و يرى من
أول الليل و لذلك سمى الشهر شهرا لاشتهاره و ظهوره فتسمية ليالي الإشتهار
ليالي السرار قلب للغة و العرف و قد أنكر العلماء ما حكاه أبو داود عن
الأوزاعي منهم الخطابي و روى بإسناده عن الوليد عن الأوزاعي قال : سر
الشهر : آخره و قال الهروي : المعروف أن سر الشهر آخره و فسر الخطابي حديث
معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] بأن المراد بالشهر الهلال فيكون المنى
صوموا أول الشهر و آخره فلذلك أمر معاوية بصيام آخر الشهر قلت : لما روى
معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] و صام آخر الشهر علم أنه فسر السر بالآخر
و الأظهر أن المراد بالشهر شهر رمضان كله و المراد بسره آخر شعبان كما في
رواية البخاري في حديث عمران أظنه يعني رمضان و أضاف السرر إلى رمضان و إن
لم يكن منه كما سمى رمضان شهر عيد و إن كان العيد ليس منه لكنه يعقبه فدل
حديث عمران و حديث معاوية على استحباب صيام آخر شعبان و إنما أمر بقضائه
في أول شوال لأن كلا من الوقتين صيام يلي شهر رمضان فهو ملتحق برمضان في
الفضل فمن فاته ما قبله صامه فيما بعده كما كان النبي صلى الله عليه و سلم
يصوم شعبان و ندب إلى صيام شوال
و إنما يشكل على هذا حديث أبي هريرة
رضي الله عنه في نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن تقدم رمضان بيوم أو
يومين إلا من له عادة أو من كان يصوم صوما و أكثر العلماء على أنه نهى عن
التقدم إلا من كانت له عادة بالتطوع فيه و هو ظاهر الحديث و لم يذكر أكثر
العلماء في تفسيره بذلك اختلافا و هو الذي اختاره الشافعي في تفسيره و لم
يرجح ذلك الإحتمال المتقدم و على هذا فيرجح حديث أبي هريرة على حديث عمران
فإن حديث أبي هريرة فيه نهي عام للأمة عموما فهو تشريع عام للأمة فيعمل به
و أما حديث عمران فهي قضية عين في حق رجل معين فيتعين حمله على صورة صيام
لا ينهى عن التقدم به جمعا بين الحدثين و أحسن ما حمل عليه : أن هذا الرجل
الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان قد علم منه صلى الله عليه و سلم
أنه كان يصوم شعبان أو أكثره موافقة لصيام النبي صلى الله عليه و سلم و
كان قد أفطر فيه بعضه فسأله عن صيام آخره فلما أخبره أنه لم يصم آخره أمره
بأن يصوم بدله بعد يوم الفطر لأن صيام أول شوال كصيام آخر شعبان و كلاهما
حريم لرمضان و فيه دليل على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام و أن
يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل و فيه دليل على
أنه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما
فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يصوم بنية الرمضانية احتياطا لرمضان فهذا منهي عنه و قد فعله
بعض الصحابة و كأنهم لم يبلغهم النهي عنه و فرق ابن عمر بين يوم الغيم و
الصحو في يوم الثلاثين من شعبان و تبعه الإمام أحمد
و الثاني : أن
يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة و نحو ذلك فجوزه الجمهور و
نهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان بفطر يوم مطلقا و هم طائفة من
السلف و حكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة و الشافعي و فيه نظر
و الثالث
: أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان
بالفطر منهم الحسن و إن وافق صوما كان يصومه و رخص فيه مالك و من وافقه و
فرق الشافعي و الأوزاعى و أحمد و غيرهم بين أن يوافق عادة أو لا و كذلك
يفرق بين صيامه بأكثر من يومين و وصله برمضان فلا يكره أيضا إلا عند من
كره الإبتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدىء
الصيام قبل النصف ثم يصله برمضان و في الجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول
به في هذا الباب عند كثير من العلماء و انه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع
بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة و لا سبق منه صيام قبل ذلك في
شعبان متصلا بآخره
و لكراهة التقدم ثلاثة معان : أحدها : أنه على
وجه الإحتياط لرمضان فينهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس
منه كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب
في صيامهم فزادوا فيه بآرائهم و أهوائهم و خرج الطبراني و غيره عن عائشة
رضي الله عنه قالت : إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى
الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا
بين يدي الله و رسوله } قالت عائشة : إنما الصوم صوم الناس و الفطر فطر
الناس و مع هذا فكان من السلف من يتقدم للإحتياط و الحديث حجة عليه و لهذا
نهي عن صيام يوم الشك قال عمار : من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله
عليه و سلم و يوم الشك هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو غيره فكان
من المتقدمين من يصومه احتياطا و رخص فيه بعض الحنفية للعلماء في أنفسهم
خاصة دون العامة لئلا يعتقدوا وجوبه بناء على أصلهم في أن صوم رمضان يجزىء
بنية الصيام المطلق و النفل و يوم الشك هو الذي تحدث فيه برؤيته من لم
يقبل قوله فأما يوم الغيم فمن العلماء من جعله يوم شك و نهى عن صيامه و هو
قول الأكثرين و منهم من صامه احتياطا و هو قول ابن عمر و كان الإمام أحمد
يتابعه على ذلك و عنه في صيامه ثلاث روايات مشهورات ثالثها لا يصام إلا مع
الإمام و جماعة المسلمين لئلا يقع الإفتيات عليهم و الإنفراد عنهم و قال
اسحاق : لا يصام يوم الغيم و لكم يتلوم بالأكل فيه إلى ضحوة النهار خشية
أن يشهد برؤيته بخلاف حال الصحو فإنه يأكل فيه من غدوة
و المعنى
الثاني : الفصل بين صيام الفرض و النفل فإن جنس الفصل بين الفرائض و
النوافل مشروع و لهذا حرم صيام يوم العيد و نهى النبي صلى الله عليه و سلم
أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام و خصوصا سنة
الفجر قبلها فإنه يشرع الفصل بينها و بين الفريضة و لهذا يشرع صلاتها في
البيت و الإضطجاع بعدها و لما رأى النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يصلي و
قد أقيمت صلاة الفجر : [ الصبح أربعا ] و في المسند : أنه صلى الله عليه و
سلم قال : [ افصلوا بينها و بين المكتوبة و لا تجعلوها كصلاة الظهر ] و في
سنن أبي داود : [ إن رجلا صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما سلم قام
يشفع فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبيه فهزه ثم قال : اجلس فإنه لم يهلك أهل
الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل فرفع النبي صلى الله عليه و سلم بصره
فقال : أصاب الله بك يا ابن الخطاب ] و من علل بهذا
فمنهم من كره
وصل صوم شعبان برمضان مطلقا و روي عن ابن عمر قال : لو صمت الدهر كله
لأفطرت الذي بينهما و روي فيه حديث مرفوع لا يصح و الجمهور على جواز صيام
ما وافق عادة لأن الزيادة إنما تخشى إذا لم يعرف سبب الصيام
و
المعنى الثالث : إنه أمر بذلك للتقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصيام قد
تضعف عن صيام الفرض فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى
التقوي على صيام رمضان و في هذا التعليل نظر فإنه لا يكره التقدم بأكثر من
ذلك و لا لمن صام الشهر كله و هو أبلغ في معنى الضعف لكن الفطر بنية
التقوي لصيام رمضان حسن لمن أضعفه مواصلة الصيام كما كان عبد الله بن عمرو
بن العاص يسرد الفطر أحيانا ثم يسرد الصوم ليتقوى بفطره على صومه و منه
قول بعض الصحابة إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي و في الحديث المرفوع : [
الطاعم الشاكر كالصائم الصابر ] خرجه الترمذي و غيره و لربما ظن بعض
الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من
الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام و لهذا يقولون هي أيام توديع للأكل و
تسمى تنحيسا و اشتقاقه من الأيام النحسات و من قال : هو تنهيس بالهاء فهو
خطأ منه ذكره ابن درستويه النحوي و ذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى فإنهم
يفعلونه عند قرب صيامهم و هذا كله خطأ و جهل ممن ظنه و ربما لم يقتصر كثير
منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات و هذا هو الخسران
المبين و أنشد لبعضهم :
( إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار )
( و لا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار )
و قال آخر
( جاء شعبان منذرا بالصيام ... فاسقياني راحا بماء الغمام )
و من كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه و له نصيب من قوله تعالى : { و لقد
ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } الآية و ربما
كره كثير منهم صيام رمضان حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه و كان
للرشيد ابن سفيه فقال مرة :
( دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... و لا صمت شهرا بعده آخر الدهر )
( فلو كان يعديني الأنام بقدرة ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر )
فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة و مات قبل أن يدركه
رمضان آخر و هؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من
الصلاة و الصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام و
كثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه و يشق على نفسه
مفارقتها لمألوفها فهو يعد الأيام و الليالي ليعودوا إلى المعصية و هؤلاء
مصرون على ما فعلوا و هم يعلمون فهم هلكى و منهم من لا يصبر على المعاصي
فهو يواقعها في رمضان و حكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة و قد رويت من
وجوه و هو أنه كان مصرا على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان و هو
سكران فعاتبته أمه و هي تسجر تنورا فحملها فألقاها في التنور فاحترقت و
كان بعد ذلك قد تاب و تعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم
سواه فمن أراد الله به خيرا حبب إليه الإيمان و زينه في قلبه و كره إليه
الكفر و الفسوق و العصيان فصار من الراشدين و من أراد به شر خلى بينه و
بين نفسه فاتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر و الفسوق و العصيان فكان من
الغاوين الحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم و كم جلبت من نقم و كم
خربت من ديار و كم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديار كم أخذت من
العصاة بالثار كم محت لهم من آثار
( يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى و هي تنتظر )
( فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... و ليس للخلق من ديانهم وزر )
أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام و نهارهم
صيام باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له و
يستعدون بالأطعمة و غيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت : و
أنتم لا تصومون إلا رمضان لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم
باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم : يا أهل الدار
الصلاة الصلاة قالوا : طلع الفجر ؟ قالت : أنتم لا تصلون إلا المكتوبة ثم
جاءت الحسن فقالت : بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني
قال بعض السلف : صم الدنيا و اجعل فطرك الموت الدنيا كلها شهر صيام
المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر
صيامهم و استهلوا عيد فطرهم
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته و من تعجل ما حرم عليه قبل
وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة و فواته و شاهد ذلك قوله تعالى : { أذهبتم
طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها } الآية و قول النبي صلى الله
عليه و سلم : [ من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس
الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ]
( أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك )
( و اجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك )
( و ليكن فطرك عند اللـ ... ه في يوم وفاتك )
في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا : [ لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت
أمتي أن يكون رمضان السنة كلها ] و كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر
أصحابه بقدوم رمضان كما خرجه الإمام أحمد و النسائي [ عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر أصحابه يقول : قد
جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان و
تغلق فيه أبواب الجحيم و تغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم
خيرها فقد حرم ] قال بعض العلماء : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم
بعضا بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب
بغلق أبواب النيران كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين من أين يشبه
هذا الزمان زمان و في حديث آخر : [ أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحبا به و
أهلا ] جاء شهر الصيام بالبركات فأكرم به من زائر هو آت و روي : [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل رجب يقول :
اللهم بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان ] خرجه الطبراني و غيره من
حديث أنس قال معلى بن الفضل : كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم
رمضان يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم و قال يحيى بن أبي كثير كان من
دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان و سلم لي رمضان و تسلمه مني متقبلا بلوغ
شهر رمضان و صيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه و يدل عليه [ حديث
الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما فرؤي في
المنام سابقا لهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أليس صلى بعدهما كذا
و كذا صلاة و أدرك رمضان فصامه ؟ ! فوالذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما
بين السماء و الأرض ] خرجه الإمام أحمد و غيره من رحم في رمضان فهو
المرحوم و من حرم خيره فهو المحروم و من لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم
( أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد )
( فأد حقوقه قولا و فعلا ... و زادك فاتخذه للمعاد )
( فمن زرع الحبوب و ما سقاها ... تأوه نادما يوم الحصاد )
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة يا من دامت خسارته قد أقبلت
أيام التجارة الرابحة من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح من لم يقرب
فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح
( أناس أعرضوا عنا ... بلا جرم و لا معنى )
( أساؤا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا )
( فإن عادوا لنا عدنا ... و إن خانوا فما خنا )
( فإن كانوا قد استغنوا ... فإنا عنهم أغنا )
كم ينادي حي على الفلاح و أنت خاسر كم تدعى إلى الصلاح و أنت على الفساد
مثابر
( إذا رمضان أتى مقبلا ... فاقبل فبالخير يستقبل )
( لعلك تخطئه قابلا ... و تأتي بعذر فلا يقبل )
كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر كم من
مستقبل يوما لا يستكمله و مؤمل غدا لا يدركه إنكم لو أبصرتم الأجل و مسيره
لأبغضتم الأمل و غروره خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها :
إنكم لم تخلقوا عبثا و لن تتركوا سدى و إن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل
بين عباده فقد خاب و خسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء و حرم جنة
عرضها السموات و الأرض ألا ترون إنكم في أسلاب الهالكين و سيرتها بعدكم
الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين و في كل يوم تشيعون غاديا و رائحا
إلى الله قد قضى نحبه و انقضى أجله فتودعونه و تدعونه في صدع من الأرض غير
موسد و لا ممهد قد خلع الأسباب و فارق الأحباب و سكن التراب و واجه الحساب
غنيا عما خلف فقيرا إلى ما أسلف فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت و
انقضاء مواقيته و إني لأقول لكم هذه المقالة و ما أعلم عند أحد من الذنوب
أكثر مما أعلم عندي و لكن أستغفر الله و أتوب إليه ثم رفع طرف ردائه و بكى
حتى شهق ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه
( يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان )
( لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان )
( و اتل القرآن و سبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح و قرآن )
( فاحمل على جسد ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران )
( كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل و جيران و إخوان )
( أفناهم الموت و استبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني )
( و معجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان )
( حتى يعمر الإنسان مسكنه ... مصير مسكنه قبر لإنسان )
المجلس الثالث في صيام آخر شعبان
ثبت في الصحيحين [ عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
لرجل : هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ؟ قال : لا قال : فإذا أفطرت فصم
يومين ] و في رواية للبخاري أظنه يعني رمضان و في رواية لمسلم و علقها
البخاري : [ هل صمت من سرر شعبان شيئا ] و في رواية : [ فإذا أفطرت من
رمضان فصم يومين مكانه ] و في رواية : [ يوما أو يومين ] شك شعبة و روي :
[ من سرار الشهر ] و قد اختلف في تفسير السرار و المشهور إنه آخر الشهر
يقال : سرار الشهر و سراره بكسر السين و فتحها ذكره ابن السكيت و غيره و
قيل : إن الفتح أفصح قاله الفراء و سمي آخر الشهر سرارا : لاسترار القمر
فيه و ممن فسر السرار بآخر الشهر أبو عبيد و غيره من الأئمة و كذلك بوب
عليه البخاري صيام آخر الشهر و أشكل هذا على كثير من العلماء في الصحيحين
أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا
تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] فقال كثير من
العلماء كأبي عبيد و من تابعه كالخطابي و أكثر شراح الحديث : أن هذا الرجل
الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان يعلم أن له عادة بصيامه أو كان
قد نذره فلذلك أمره بقضائه و قالت طائفة : حديث عمران يدل على أنه يجوز
صيام يوم الشك و آخر شعبان مطلقا سواء وافق عادة أو لم يوافق و إنما ينهى
عنه إذا صامه بنية الرمضانية احتياطا و هذا مذهب مالك و ذكر أنه القول
الذي أدرك عليه أهل العلم حتى قال محمد بن مسلمة من أصحابه : يكره الأمر
بفطره لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده و حكى ابن عبد البر
هذا القول عن أكثر علماء الأمصار و ذكر محمد بن ناصر الحافظ : إن هذا هو
مذهب أحمد أيضا و غلط في نقله هذا عن أحمد و لكن يشكل على هذا الحديث [
أبي هريرة رضي الله عنه و قوله : إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] و قد ذكر
الشافعي في كتاب مختلف الحديث احتمالا في معنى قوله : [ إلا من كان يصوم
صوما فليصمه ] و في رواية : [ إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم ] أن
المراد بموافقة العادة صيامه على عادة الناس في التطوع بالصيام دون صيامه
بنية الرمضانية للاحتياط
و قالت طائفة : سر الشهر : أوله و خرج أبو
داود في باب تقدم رمضان من [ حديث معاوية أنه قال : إني متقدم الشهر فمن
شاء فليتقدم فسئل عن ذلك فقال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول :
صوموا الشهر و سره ] ثم حكى أبو داود عن الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز :
أن سر الشهر : أوله قال أبو داود : و قال بعضهم : سره وسطه و فرق الأزهري
بين سرار الشهر و سره فقال : سراره و سرره آخره و سره وسطه و هي أيام
البيض و سر كل شيء جوفه و في رواية لمسلم في [ حديث عمران بن حصين المذكور
: هل صمت من سرة هذا الشهر ] و فسر ذلك : بأيام البيض قلت : لا يصح أن
يفسر سرر الشهر و سراره بأوله لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال و يرى من
أول الليل و لذلك سمى الشهر شهرا لاشتهاره و ظهوره فتسمية ليالي الإشتهار
ليالي السرار قلب للغة و العرف و قد أنكر العلماء ما حكاه أبو داود عن
الأوزاعي منهم الخطابي و روى بإسناده عن الوليد عن الأوزاعي قال : سر
الشهر : آخره و قال الهروي : المعروف أن سر الشهر آخره و فسر الخطابي حديث
معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] بأن المراد بالشهر الهلال فيكون المنى
صوموا أول الشهر و آخره فلذلك أمر معاوية بصيام آخر الشهر قلت : لما روى
معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] و صام آخر الشهر علم أنه فسر السر بالآخر
و الأظهر أن المراد بالشهر شهر رمضان كله و المراد بسره آخر شعبان كما في
رواية البخاري في حديث عمران أظنه يعني رمضان و أضاف السرر إلى رمضان و إن
لم يكن منه كما سمى رمضان شهر عيد و إن كان العيد ليس منه لكنه يعقبه فدل
حديث عمران و حديث معاوية على استحباب صيام آخر شعبان و إنما أمر بقضائه
في أول شوال لأن كلا من الوقتين صيام يلي شهر رمضان فهو ملتحق برمضان في
الفضل فمن فاته ما قبله صامه فيما بعده كما كان النبي صلى الله عليه و سلم
يصوم شعبان و ندب إلى صيام شوال
و إنما يشكل على هذا حديث أبي هريرة
رضي الله عنه في نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن تقدم رمضان بيوم أو
يومين إلا من له عادة أو من كان يصوم صوما و أكثر العلماء على أنه نهى عن
التقدم إلا من كانت له عادة بالتطوع فيه و هو ظاهر الحديث و لم يذكر أكثر
العلماء في تفسيره بذلك اختلافا و هو الذي اختاره الشافعي في تفسيره و لم
يرجح ذلك الإحتمال المتقدم و على هذا فيرجح حديث أبي هريرة على حديث عمران
فإن حديث أبي هريرة فيه نهي عام للأمة عموما فهو تشريع عام للأمة فيعمل به
و أما حديث عمران فهي قضية عين في حق رجل معين فيتعين حمله على صورة صيام
لا ينهى عن التقدم به جمعا بين الحدثين و أحسن ما حمل عليه : أن هذا الرجل
الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان قد علم منه صلى الله عليه و سلم
أنه كان يصوم شعبان أو أكثره موافقة لصيام النبي صلى الله عليه و سلم و
كان قد أفطر فيه بعضه فسأله عن صيام آخره فلما أخبره أنه لم يصم آخره أمره
بأن يصوم بدله بعد يوم الفطر لأن صيام أول شوال كصيام آخر شعبان و كلاهما
حريم لرمضان و فيه دليل على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام و أن
يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل و فيه دليل على
أنه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما
فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يصوم بنية الرمضانية احتياطا لرمضان فهذا منهي عنه و قد فعله
بعض الصحابة و كأنهم لم يبلغهم النهي عنه و فرق ابن عمر بين يوم الغيم و
الصحو في يوم الثلاثين من شعبان و تبعه الإمام أحمد
و الثاني : أن
يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة و نحو ذلك فجوزه الجمهور و
نهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان بفطر يوم مطلقا و هم طائفة من
السلف و حكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة و الشافعي و فيه نظر
و الثالث
: أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان
بالفطر منهم الحسن و إن وافق صوما كان يصومه و رخص فيه مالك و من وافقه و
فرق الشافعي و الأوزاعى و أحمد و غيرهم بين أن يوافق عادة أو لا و كذلك
يفرق بين صيامه بأكثر من يومين و وصله برمضان فلا يكره أيضا إلا عند من
كره الإبتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدىء
الصيام قبل النصف ثم يصله برمضان و في الجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول
به في هذا الباب عند كثير من العلماء و انه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع
بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة و لا سبق منه صيام قبل ذلك في
شعبان متصلا بآخره
و لكراهة التقدم ثلاثة معان : أحدها : أنه على
وجه الإحتياط لرمضان فينهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس
منه كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب
في صيامهم فزادوا فيه بآرائهم و أهوائهم و خرج الطبراني و غيره عن عائشة
رضي الله عنه قالت : إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى
الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا
بين يدي الله و رسوله } قالت عائشة : إنما الصوم صوم الناس و الفطر فطر
الناس و مع هذا فكان من السلف من يتقدم للإحتياط و الحديث حجة عليه و لهذا
نهي عن صيام يوم الشك قال عمار : من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله
عليه و سلم و يوم الشك هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو غيره فكان
من المتقدمين من يصومه احتياطا و رخص فيه بعض الحنفية للعلماء في أنفسهم
خاصة دون العامة لئلا يعتقدوا وجوبه بناء على أصلهم في أن صوم رمضان يجزىء
بنية الصيام المطلق و النفل و يوم الشك هو الذي تحدث فيه برؤيته من لم
يقبل قوله فأما يوم الغيم فمن العلماء من جعله يوم شك و نهى عن صيامه و هو
قول الأكثرين و منهم من صامه احتياطا و هو قول ابن عمر و كان الإمام أحمد
يتابعه على ذلك و عنه في صيامه ثلاث روايات مشهورات ثالثها لا يصام إلا مع
الإمام و جماعة المسلمين لئلا يقع الإفتيات عليهم و الإنفراد عنهم و قال
اسحاق : لا يصام يوم الغيم و لكم يتلوم بالأكل فيه إلى ضحوة النهار خشية
أن يشهد برؤيته بخلاف حال الصحو فإنه يأكل فيه من غدوة
و المعنى
الثاني : الفصل بين صيام الفرض و النفل فإن جنس الفصل بين الفرائض و
النوافل مشروع و لهذا حرم صيام يوم العيد و نهى النبي صلى الله عليه و سلم
أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام و خصوصا سنة
الفجر قبلها فإنه يشرع الفصل بينها و بين الفريضة و لهذا يشرع صلاتها في
البيت و الإضطجاع بعدها و لما رأى النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يصلي و
قد أقيمت صلاة الفجر : [ الصبح أربعا ] و في المسند : أنه صلى الله عليه و
سلم قال : [ افصلوا بينها و بين المكتوبة و لا تجعلوها كصلاة الظهر ] و في
سنن أبي داود : [ إن رجلا صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما سلم قام
يشفع فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبيه فهزه ثم قال : اجلس فإنه لم يهلك أهل
الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل فرفع النبي صلى الله عليه و سلم بصره
فقال : أصاب الله بك يا ابن الخطاب ] و من علل بهذا
فمنهم من كره
وصل صوم شعبان برمضان مطلقا و روي عن ابن عمر قال : لو صمت الدهر كله
لأفطرت الذي بينهما و روي فيه حديث مرفوع لا يصح و الجمهور على جواز صيام
ما وافق عادة لأن الزيادة إنما تخشى إذا لم يعرف سبب الصيام
و
المعنى الثالث : إنه أمر بذلك للتقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصيام قد
تضعف عن صيام الفرض فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى
التقوي على صيام رمضان و في هذا التعليل نظر فإنه لا يكره التقدم بأكثر من
ذلك و لا لمن صام الشهر كله و هو أبلغ في معنى الضعف لكن الفطر بنية
التقوي لصيام رمضان حسن لمن أضعفه مواصلة الصيام كما كان عبد الله بن عمرو
بن العاص يسرد الفطر أحيانا ثم يسرد الصوم ليتقوى بفطره على صومه و منه
قول بعض الصحابة إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي و في الحديث المرفوع : [
الطاعم الشاكر كالصائم الصابر ] خرجه الترمذي و غيره و لربما ظن بعض
الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من
الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام و لهذا يقولون هي أيام توديع للأكل و
تسمى تنحيسا و اشتقاقه من الأيام النحسات و من قال : هو تنهيس بالهاء فهو
خطأ منه ذكره ابن درستويه النحوي و ذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى فإنهم
يفعلونه عند قرب صيامهم و هذا كله خطأ و جهل ممن ظنه و ربما لم يقتصر كثير
منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات و هذا هو الخسران
المبين و أنشد لبعضهم :
( إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار )
( و لا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار )
و قال آخر
( جاء شعبان منذرا بالصيام ... فاسقياني راحا بماء الغمام )
و من كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه و له نصيب من قوله تعالى : { و لقد
ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } الآية و ربما
كره كثير منهم صيام رمضان حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه و كان
للرشيد ابن سفيه فقال مرة :
( دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... و لا صمت شهرا بعده آخر الدهر )
( فلو كان يعديني الأنام بقدرة ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر )
فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة و مات قبل أن يدركه
رمضان آخر و هؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من
الصلاة و الصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام و
كثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه و يشق على نفسه
مفارقتها لمألوفها فهو يعد الأيام و الليالي ليعودوا إلى المعصية و هؤلاء
مصرون على ما فعلوا و هم يعلمون فهم هلكى و منهم من لا يصبر على المعاصي
فهو يواقعها في رمضان و حكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة و قد رويت من
وجوه و هو أنه كان مصرا على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان و هو
سكران فعاتبته أمه و هي تسجر تنورا فحملها فألقاها في التنور فاحترقت و
كان بعد ذلك قد تاب و تعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم
سواه فمن أراد الله به خيرا حبب إليه الإيمان و زينه في قلبه و كره إليه
الكفر و الفسوق و العصيان فصار من الراشدين و من أراد به شر خلى بينه و
بين نفسه فاتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر و الفسوق و العصيان فكان من
الغاوين الحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم و كم جلبت من نقم و كم
خربت من ديار و كم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديار كم أخذت من
العصاة بالثار كم محت لهم من آثار
( يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى و هي تنتظر )
( فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... و ليس للخلق من ديانهم وزر )
أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام و نهارهم
صيام باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له و
يستعدون بالأطعمة و غيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت : و
أنتم لا تصومون إلا رمضان لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم
باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم : يا أهل الدار
الصلاة الصلاة قالوا : طلع الفجر ؟ قالت : أنتم لا تصلون إلا المكتوبة ثم
جاءت الحسن فقالت : بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني
قال بعض السلف : صم الدنيا و اجعل فطرك الموت الدنيا كلها شهر صيام
المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر
صيامهم و استهلوا عيد فطرهم
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته و من تعجل ما حرم عليه قبل
وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة و فواته و شاهد ذلك قوله تعالى : { أذهبتم
طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها } الآية و قول النبي صلى الله
عليه و سلم : [ من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس
الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ]
( أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك )
( و اجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك )
( و ليكن فطرك عند اللـ ... ه في يوم وفاتك )
في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا : [ لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت
أمتي أن يكون رمضان السنة كلها ] و كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر
أصحابه بقدوم رمضان كما خرجه الإمام أحمد و النسائي [ عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر أصحابه يقول : قد
جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان و
تغلق فيه أبواب الجحيم و تغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم
خيرها فقد حرم ] قال بعض العلماء : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم
بعضا بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب
بغلق أبواب النيران كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين من أين يشبه
هذا الزمان زمان و في حديث آخر : [ أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحبا به و
أهلا ] جاء شهر الصيام بالبركات فأكرم به من زائر هو آت و روي : [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل رجب يقول :
اللهم بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان ] خرجه الطبراني و غيره من
حديث أنس قال معلى بن الفضل : كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم
رمضان يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم و قال يحيى بن أبي كثير كان من
دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان و سلم لي رمضان و تسلمه مني متقبلا بلوغ
شهر رمضان و صيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه و يدل عليه [ حديث
الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما فرؤي في
المنام سابقا لهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أليس صلى بعدهما كذا
و كذا صلاة و أدرك رمضان فصامه ؟ ! فوالذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما
بين السماء و الأرض ] خرجه الإمام أحمد و غيره من رحم في رمضان فهو
المرحوم و من حرم خيره فهو المحروم و من لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم
( أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد )
( فأد حقوقه قولا و فعلا ... و زادك فاتخذه للمعاد )
( فمن زرع الحبوب و ما سقاها ... تأوه نادما يوم الحصاد )
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة يا من دامت خسارته قد أقبلت
أيام التجارة الرابحة من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح من لم يقرب
فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح
( أناس أعرضوا عنا ... بلا جرم و لا معنى )
( أساؤا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا )
( فإن عادوا لنا عدنا ... و إن خانوا فما خنا )
( فإن كانوا قد استغنوا ... فإنا عنهم أغنا )
كم ينادي حي على الفلاح و أنت خاسر كم تدعى إلى الصلاح و أنت على الفساد
مثابر
( إذا رمضان أتى مقبلا ... فاقبل فبالخير يستقبل )
( لعلك تخطئه قابلا ... و تأتي بعذر فلا يقبل )
كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر كم من
مستقبل يوما لا يستكمله و مؤمل غدا لا يدركه إنكم لو أبصرتم الأجل و مسيره
لأبغضتم الأمل و غروره خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها :
إنكم لم تخلقوا عبثا و لن تتركوا سدى و إن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل
بين عباده فقد خاب و خسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء و حرم جنة
عرضها السموات و الأرض ألا ترون إنكم في أسلاب الهالكين و سيرتها بعدكم
الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين و في كل يوم تشيعون غاديا و رائحا
إلى الله قد قضى نحبه و انقضى أجله فتودعونه و تدعونه في صدع من الأرض غير
موسد و لا ممهد قد خلع الأسباب و فارق الأحباب و سكن التراب و واجه الحساب
غنيا عما خلف فقيرا إلى ما أسلف فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت و
انقضاء مواقيته و إني لأقول لكم هذه المقالة و ما أعلم عند أحد من الذنوب
أكثر مما أعلم عندي و لكن أستغفر الله و أتوب إليه ثم رفع طرف ردائه و بكى
حتى شهق ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه
( يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان )
( لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان )
( و اتل القرآن و سبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح و قرآن )
( فاحمل على جسد ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران )
( كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل و جيران و إخوان )
( أفناهم الموت و استبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني )
( و معجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان )
( حتى يعمر الإنسان مسكنه ... مصير مسكنه قبر لإنسان )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان
في الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه
و سلم إذا دخل العشر شد مئزره و أحيا ليله و أيقظ أهله ] هذا لفظ البخاري
و لفظ مسلم : [ أحيا الليل و أيقظ أهله و شد المئزر ] و في رواية لمسلم
عنها قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجتهد في العشر الأواخر
مالا يجتهد في غيره ] كان النبي صلى الله عليه و سلم يخص العشر الأواخر من
رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر فمنها :
إحياء الليل : فيحتمل
أن المراد إحياء الليل كله و قد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ :
[ و أحيا الليل كله ] و في المسند من وجه آخر عنها قالت : [ كان النبي صلى
الله عليه و سلم يخلط العشرين بصلاة و نوم فإذا كان العشر ـ يعني الأخير ـ
شمر و شد المئزر ] و خرج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس قال : [
كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا شهد رمضان قام و نام فإذا كان أربعا و
عشرين لم يذق غمضا و يحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه و قد روي عن
بعض المتقدمين من بني هاشم ظنه الراوي أبا جعفر بن علي أنه فسر ذلك بإحياء
نصف الليل و قال : من أحيا نصف الليل فقد أحيا الليل ] و قد سبق مثل هذا
في قول عائشة رضي الله عنها : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يصوم شعبان
كله كان يصوم شعبان إلا قليلا ] و يؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت :
ما أعلمه صلى الله عليه و سلم قام ليلة حتى الصباح و ذكر بعض الشافعية في
إحياء ليلتي العيدين أنه تحصل فضيلة الإحياء بمعظم الليل قال : و قيل :
تحصل بساعة و قد نقل الشافعي في الأم عن جماعة من خيار أهل المدينة ما
يؤيده و نقل بعض أصحابهم عن ابن عباس أن إحياءها يحصل بأن يصلي العشاء في
جماعة و يعزم على أن يصلي الصبح في جماعة و قال مالك في الموطأ بلغني أن
ابن المسيب قال : من شهد ليلة القدر ـ يعني في جماعة ـ فقد أخذ بحظه منها
و كذا قال الشافعي في القديم : من شهد العشاء و الصبح ليلة القدر فقد أخذ
بحظه منها و قد روي هذا [ من حديث أبي هريرة مرفوعا : من صلى العشاء
الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر ] خرجه أبو الشيخ الأصبهاني
و من طريقه أبو موسى المديني و ذكر أنه روي من وجه آخر عن أبي هريرة نحوه
و يروى من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا لكن إسناده ضعيف جدا و يروى [ من
حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلا : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من
أتى عليه رمضان صحيحا مسلما صام نهاره و صلى وردا من ليله و غض بصره و حفظ
فرجه و لسانه و يده و حافظ على صلاته في الجماعة و بكر إلى جمعة فقد صام
الشهر و استكمل الأجر و أدرك ليلة القدر و فاز بجائزة الرب عز و جل ] قال
أبو جعفر : جائزة لا تشبه جوائز الأمراء خرجه ابن أبي الدنيا
و لو
نذر قيام ليلة القدر لزمه أن يقوم من ليالي شهر رمضان ما يتيقن به قيامها
فمن قال من العلماء : إنها في جميع الشهر يقول : يلزمه قيام جميع ليالي
الشهر و من قال : هي في النصف الآخر من الشهر قال : يلزمه قيام ليالي
النصف الأخير منه و من قال : هي في العشر الأواخر من الشهر قال : يلزمه
قيام ليالي العشر كلها و هو قول أصحابنا و إن كان نذره كذلك و قد مضى بعض
ليالي العشر فإن قلنا : إنها لا تنتقل في العشر أجزأه في نذره أن يقوم ما
بقي من ليالي العشر و يقوم من عام قابل من أول العشر إلى وقت نذره و إن
قلنا إنها تنتقل في العشر لم يخرج من نذره بدون قيام ليالي العشر كلها بعد
عام نذره و لو نذر قيام ليلة غير معينة لزمه قيام ليلة تامة فإن قام نصف
ليلة ثم نام أجزأه أن يقوم من ليلة أخرى نصفها قاله الأوزعي نقله عنه
الوليد بن مسلم في كتاب النذور و هو شبيه بقول من قال من أصحابنا و غيرهم
: أن الكفارة يجزىء فيها أن يعتق نصفي رقبتين
و منها : أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي
و في حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قام بهم ليلة ثلاث و
عشرين و خمس و عشرين ذكر أنه دعا أهله و نساءه ليلة سبع و عشرين خاصة و
هذا يدل على انه يتأكد إيقاظهم في أكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر
و خرج الطبراني [ من حديث علي : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوقظ
أهله في العشر الأواخر من رمضان و كل صغير و كبير يطيق الصلاة ] قال سفيان
الثوري : أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل و يجتهد فيه و
ينهض أهله و ولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك و قد صح عن النبي صلى الله
عليه و سلم [ أنه كان يطرق فاطمة و عليا ليلا فيقول لهما ألا تقومان
فتصليان و كان يوقظ عائشة بالليل ] إذا قضى تهجده و أراد أن يوتر و ورد
الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة و نضح الماء في وجهه و في
الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي حتى إذا
كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم : الصلاة الصلاة و يتلو هذه
الآية : { و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها } الآية كانت امرأة حبيب أبي
محمد تقول له بالليل : قد ذهب الليل و بين أيدينا طريق بعيد و زاد قليل و
قوافل الصالحين قد سارت قدامنا و نحن قد بقينا
( يا نائم الليل كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد )
( و خذ من الليل و أوقاته ... وردا إذا ما هجع الرقد )
( من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد )
( قل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد )
و منها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يشد المئزر و اختلفوا في
تفسيره فمنهم من قال : هو كناية عن شدة جده و اجتهاده في العبادة كما يقال
فلان يشد وسطه و يسعى في كذا و هذا فيه نظر فإنها قالت : جد و شد المئزر
فعطفت شد المئزر على جده و الصحيح : أن المراد : اعتزاله النساء و بذلك
فسره السلف و الأئمة المتقدمون منهم : سفيان الثوري و قد ورد ذلك صريحا من
حديث عائشة و أنس و ورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان و
في حديث أنس و طوى فراشه و اعتزل النساء و قد كان النبي صلى الله عليه و
سلم غالبا يعتكف العشر الأواخر و المعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص و
الإجماع و قد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى : { فالآن باشروهن
و ابتغوا ما كتب الله لكم } إنه طلب ليلة القدر و المعنى في ذلك : أن الله
تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض
من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر لئلا يشتغل المسلمون في طول
ليالي الشهر بالإستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر فأمر مع ذلك بطلب
ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصا في الليالي المرجو فيها ليلة القدر فمن
ههنا كان النبي صلى الله عليه و سلم يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم
يعتزل نساءه و يتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر و منها تأخيره
للفطور إلى السحور و روي عنه من حديث [ عائشة و أنس أنه صلى الله عليه و
سلم كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا ] و لفظ حديث عائشة : [ كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم إذا كان رمضان قام و نام فإذا دخل العشر شد
المئزر و اجتنب النساء و اغتسل بين الأذانين و جعل العشاء سحورا ] أخرجه
ابن أبي عاصم و إسناده مقارب و حديث أنس خرجه الطبراني و لفظه : [ كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه
و اعتزل النساء و جعل عشاءه سحورا ] و في إسناده حفص بن واقد قال ابن عدي
: هذا الحديث من أنكر ما رأيت له و روي أيضا نحوه من حديث جابر خرجه أبو
بكر الخطيب و في إسناده من لا يعرف حاله و في الصحيحين ما يشهد لهذه
الروايات ففيهما [ عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم
عن الوصال في الصوم ] فقال له رجل من المسلمين : إنك تواصل يا رسول الله ؟
فقال : و أيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني فلما أبو أن ينتهو
عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : [ لو تأخر لزدتكم
] كالتنكيل لهم حين أبو أن ينتهو فهذا يدل على أنه واصل بالناس في آخر
الشهر و روى [ عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال : ما واصل النبي صلى
الله عليه و سلم وصالكم قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحور ] و إسناده لا
بأس به و خرج الإمام أحمد من [ حديث علي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان
يواصل إلى السحر ] و خرجه الطبراني من حديث جابر أيضا و خرج ابن جرير
الطبري من [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم
كان يواصل إلى السحر ففعل ذلك بعض أصحابه فنهاه فقال : أنت تفعل ذلك ؟
فقال : إنكم لستم مثلي إني أظل عند ربي يطعمني و يسقيني ] و زعم ابن جرير
: أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يواصل في صيامه إلا إلى السحر خاصة
و إن ذلك يجوز لمن قوي عليه و يكره لغيره و أنكر أن يكون استدامة الصيام
في الليل كله طاعة عند أحد من العلماء و قال : إنما كان يمسك بعضهم لمعنى
آخر غير الصيام إما ليكون أنشط له على العبادة أو إيثارا بطعامه على نفسه
أو لخوف مقلق منعه طعامه أو نحو ذلك فمقتضى كلامه : أن من واصل و لم يفطر
ليكون أنشط له على العبادة من غيره أن يعتقد أن إمساك الليل قربة أنه جائز
و إن أمسك تعبدا بالمواصلة فإن كان إلى السحر و قوي عليه لم يكره و إلا
كره و لذلك قال أحمد و إسحاق لا يكره الوصال إلى السحر و في صحيح البخاري
[ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تواصلوا
فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ؟
قال : إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني و ساق يسقيني ] و ظاهر هذا
يدل على أنه صلى الله عليه و سلم كان يواصل الليل كله و قد يكون صلى الله
عليه و سلم إنما فعل ذلك لأنه رآه أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر و
لم يكن ذلك مضعفا له عن العمل فإن الله كان يطعمه و يسقيه
و اختلف
في معنى إطعامه فقيل : إنه كان يؤتى بطعام من الجنة يأكله و في هذا نظر
فإنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا و قد أقرهم على قولهم له إنك تواصل لكن
روى عبد الرزاق في كتابه [ عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن النبي صلى
الله عليه و سلم نهى عن الوصال قالوا : فإنك تواصل ؟ قال : و ما يدريكم
لعل ربي يطعمني و يسقيني ] و هذا مرسل و في رواية لمسلم [ من حديث أنس :
إني أظل يطعمني ربي و يسقيني ] و إنما يقال : ظل يفعل كذا إذا كان نهارا و
لو كان أكلا حقيقيا لكان منافيا للصيام و الصحيح : أنه إشارة إلى ما كان
الله يفتحه عليه في صيامه و خلوته بربه لمناجاته و ذكره من مواد أنسه و
نفحات قدسه فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية و المنح الربانية
ما يغذيه و يغنيه عن الطعام و الشراب كما قيل :
( لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الطعام و تلهيها عن الزاد )
( لها بوجهك نور تستضيء به ... وقت المسير في أعقابها حادي )
( إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد )
الذكر قوت قلوب العارفين يغنيهم عن الطعام و الشراب كما قيل :
( أنت ربي إذا ظمئت إلى الماء ... و قوتي إذا أردت الطعاما )
لما جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة فأف لمن باع لذة المناجاة بفضل
لقمة
( يا من لحشا المحب بالشوق حشا ... ذا سر سراك في الدجا كيف فشا )
( هذا المولى إلى المماليك مشى ... لا كان عيشا أورث القلب غشا )
و يتأكد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر قال ذر بن حبيش
: في ليلة سبع و عشرين من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل و ليفطر على
ضياح لبن : و رواه بعضهم عن أبي بن كعب مرفوعا و لا يصح و ضياح اللبن : و
روي : ضيح ـ الضاد المعجمة و الياء آخر الحروف ـ هو اللبن الخاثر الممزوج
بالماء و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن علي قال : إن وافق ليلة
القدر و هو يأكل أورثه داء لا يفارقه حتى يموت و خرجه من طريقه أبو موسى
المديني و كأنه يريد إذا وافق دخولها أكله و الله أعلم
و منها :
اغتساله بين العشاءين : و قد تقدم من حديث عائشة و اغتسل بين الأذانين و
المراد أذان المغرب و العشاء و روي من [ حديث علي أن النبي صلى الله عليه
و سلم كان يغتسل بين العشاءين كل ليلة يعني من العشر الأواخر ] و في
إسناده ضعف و روي [ عن حذيفة أنه قام مع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة
من رمضان فاغتسل النبي صلى الله عليه و سلم و ستره حذيفة و بقيت فضلة
فاغتسل بها حذيفة و ستره النبي صلى الله عليه و سلم ] خرجه ابن أبي عاصم و
في رواية أخرى [ عن حذيفة قال : نام النبي صلى الله عليه و سلم ذات ليلة
من رمضان في حجرة من جريد النخل فصب عليه دلو من ماء ] و قال ابن جرير :
كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر و كان النخعي
يغتسل في العشر كل ليلة و منهم من كان يغتسل و يتطيب في الليالي التي تكون
أرجى لليلة القدر فأمر ذر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع و عشرين من رمضان و
روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أنه إذا كان ليلة أربع و عشرين اغتسل و
تطيب و لبس حلة إزار أو رداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من
قابل و كان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث و عشرين و أربع و عشرين و يلبس
ثوبين جديدين و يستجمر و يقول : ليلة ثلاث و عشرين هي ليلة أهل المدينة و
التي تليها ليلتنا يعني البصريين و قال حماد بن سلمة : كان ثابت البناني و
حميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما و يتطيبان و يطيبون المسجد بالنضوح و
الدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر و قال ثابت : كان لتميم
الداري حلة اشتراها بألف درهم و كان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة
القدر فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف
و التزين و التطيب بالغسل و الطيب و اللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجمع و
الأعياد و كذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات كما قال تعالى :
{ خذوا زينتكم عند كل مسجد } و قال ابن عمر : الله أحق أن يتزين له و روي
عنه مرفوعا : [ و لا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن ] بالتوبة و
الإنابة إلى الله تعالى و تطهيره من أدناس الذنوب و أوضارها فإن زينة
الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئا قال الله تعالى : { يا بني آدم قد
أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم و ريشا و لباس التقوى ذلك خير }
( إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عريانا و إن كان كاسيا )
لا يصلح لمناجاة الملك في الخلوات إلا من زين ظاهره و باطنه و طهرهما
خصوصا لملك الملوك الذي يعلم السر و أخفى و هو لا ينظر إلى صوركم و إنما
ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس و
باطنه بلباس التقوى أنشد الشبلي :
( قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حبه جوعا )
( فقر و صبرهما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفه الأعياد و الجمعا )
( أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزاور فبالثوب الذي خلعا )
( الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... و العيد ما كنت لي مرأى و مستمتعا )
و منها : الإعتكاف : ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ]
و في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى
الله عليه و سلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه
اعتكف عشرين ] و إنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه و سلم في هذا العشر
التي يطلب فيها ليلة القدر قطعا لإشغاله و تفريغا للياليه و تخليا لمناجاة
ربه و ذكره و دعائه و كان يحتجر حصيرا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم و
لا يشتغل بهم و لهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة
الناس حتى و لا لتعلم علم و إقراء قرآن بل الأفضل له الإنفراد بنفسه و
التخلي بمناجاة ربه و ذكره و دعائه و هذا الإعتكاف هو الخلوة الشرعية و
إنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع و الجماعات فإن الخلوة القاطعة
عن الجمع و الجماعات منهي عنها سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار و يقوم
الليل و لا يشهد الجمعة و الجماعة قال : هو في النار فالخلوة المشروعة
لهذه الأمة هي الإعتكاف في المساجد خصوصا في شهر رمضان خصوصا في العشر
الأواخر منه كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله فالمعتكف قد حبس
نفسه على طاعة الله و ذكره و قطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه و عكف بقلبه و
قالبه على ربه و ما يقربه منه فما بقي له هم سوى الله و ما يرضيه عنه كما
كان داود الطائي يقول في ليله : همك عطل على الهموم و حالف بيني و بين
السهاد و شوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات و حال بيني و بين الشهوات
( مالي شغل سواه مالي شغل ... ما يصرف عن قلبي هواه عذل )
( ما أصنع أجفان و خاب الأمل ... مني بدل و منه مالي بدل )
فمعنى الإعتكاف و حقيقته : قطع العلائق عن الخلائق للإتصال بخدمة الخالق و
كلما قويت المعرفة بالله و المحبة له و الأنس به أورثت صاحبها الإنقطاع
إلى الله تعالى بالكلية على كل حال كان بعضهم لا يزال منفردا في بيته
خاليا بربه فقيل له : أما تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش و هو يقول : أنا جليس
من ذكرني
( أوحشتني خلواتي ... بك من كل أنيسي )
( و تفردت فعاينـ ... تك بالغيب جليسي )
يا ليلة القدر للعابدين اشهدي يا أقدم القانتين اركعي لربك و اسجدي يا
ألسنة السائلين جدي في المسألة و اجتهدي
( يا رجال الليل جدوا ... رب داع لا يرد )
( ما يقوم الليل إلا ... من له عزم و جد )
ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم و قربه و إنما يفرون من
ليالي البعد و الهجر كان ببغداد موضعان يقال لأحدهما : دار الملك و الأخرى
: القطيعة فجاز بعض العارفين بملاح في سفينة فقال له : احملني معك إلى دار
الملك فقال له : الملاح ما أقصد إلا القطيعة فصاح العارف لا بالله لا
بالله منها أفر :
( و ليلة بت بأكفانها ... تعدل عندي ليلة القدر )
( كانت سلاما لسروري بها ... بالوصل حتى مطلع الفجر )
يا من ضاع عمره لا شيء استدرك ما فاتك في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر
( و ليلة وصل بات منجز وعده ... سميري فيها بعد طول مطال )
( شفيت بها قلبا أطيل غليله ... زمانا فكانت ليلة بليالي )
قال الله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر * و ما أدراك ما ليلة القدر
* ليلة القدر خير من ألف شهر } و اختلف في ليلة القدر و الحكمة في نزول
الملائكة في هذه الليلة : إن الملوك و السادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد
حتى يزينون دارهم بالفرش و البسط و يزينوا عبيدهم بالثياب و الأسلحة فإذا
كان ليلة القدر أمر الرب تبارك و تعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض لأن
العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم و الصلاة في ليالي رمضان و مساجدهم
بالقناديل و المصابيح فيقول الرب تعالى : أنتم طعنتم في بني آدم و قلتم :
{ أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية فقلت لكم : { إني أعلم ما لا تعلمون }
اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين لتعلموا أني
اخترتهم على علم على العالمين قال مالك : بلغني : [ أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم رأى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار
أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله
ليلة القدر خيرا من ألف شهر ] و روي عن مجاهد : أن النبي صلى الله عليه و
سلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك
فأنزل الله هذه السورة { ليلة القدر خير من ألف شهر } الذي لبس فيها ذلك
الرجل في سبيل الله ألف شهر و قال النخعي : العمل فيها خير من العمل في
ألف شهر و في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من
ذنبه ] و في المسند [ عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ]
و في المسند و النسائي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم أنه قال في شهر رمضان : فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها
فقد حرم ] قال جويبر : قلت للضحاك : أرأيت النفساء و الحائض و المسافر و
النائم لهم في ليلة القدر نصيب ؟ قال : نعم كل من تقبل الله عمله سيعطيه
نصيبه من ليلة القدر إخواني المعول على القبول لا على الاجتهاد و الاعتبار
ببر القلوب لا بعمل الأبدان رب قائم حظه من قيامه السهر كم من قائم محروم
و كم من نائم مرحوم نام و قلبه ذاكر و هذا قام و قلبه فاجر
( إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت النائم بالقائم )
لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات و الاجتهاد في الأعمال الصالحات
و كل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة و أما أهل
الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة : { فأما من أعطى و اتقى * و صدق
بالحسنى * فسنيسره لليسرى * و أما من بخل و استغنى * و كذب بالحسنى *
فسنيسره للعسرى } فالمبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر فعسى أن
يستدرك به ما فات من ضياع العمر
( تولى العمر في سهو و في لهو و في خسر ... فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام
من عمري )
( و مالي في الذي ضيعت من عمري من عذر ... فما أغفلنا من واجبات الحمد و
الشكر )
( أما قد خصنا الله بشهر أيما شهر ... بشهر أنزل الرحمن فيه أشرف الذكر )
( و هل يشبه شهر و فيه ليلة القدر ... فكم من خبر صح بما فيها من الخير )
( روينا عن ثقات أنها تطلب في الوتر ... فطوبى لامرىء يطلبها في هذه العشر
)
( ففيها تنزل الأملاك بالأنوار و البر ... قد قال { سلام هي حتى مطلع
الفجر } )
( ألا فادخرها إنها من أنفس الذخر ... فكم من معلق فيها من النار و لا
يدري )
في الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه
و سلم إذا دخل العشر شد مئزره و أحيا ليله و أيقظ أهله ] هذا لفظ البخاري
و لفظ مسلم : [ أحيا الليل و أيقظ أهله و شد المئزر ] و في رواية لمسلم
عنها قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجتهد في العشر الأواخر
مالا يجتهد في غيره ] كان النبي صلى الله عليه و سلم يخص العشر الأواخر من
رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر فمنها :
إحياء الليل : فيحتمل
أن المراد إحياء الليل كله و قد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ :
[ و أحيا الليل كله ] و في المسند من وجه آخر عنها قالت : [ كان النبي صلى
الله عليه و سلم يخلط العشرين بصلاة و نوم فإذا كان العشر ـ يعني الأخير ـ
شمر و شد المئزر ] و خرج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس قال : [
كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا شهد رمضان قام و نام فإذا كان أربعا و
عشرين لم يذق غمضا و يحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه و قد روي عن
بعض المتقدمين من بني هاشم ظنه الراوي أبا جعفر بن علي أنه فسر ذلك بإحياء
نصف الليل و قال : من أحيا نصف الليل فقد أحيا الليل ] و قد سبق مثل هذا
في قول عائشة رضي الله عنها : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يصوم شعبان
كله كان يصوم شعبان إلا قليلا ] و يؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت :
ما أعلمه صلى الله عليه و سلم قام ليلة حتى الصباح و ذكر بعض الشافعية في
إحياء ليلتي العيدين أنه تحصل فضيلة الإحياء بمعظم الليل قال : و قيل :
تحصل بساعة و قد نقل الشافعي في الأم عن جماعة من خيار أهل المدينة ما
يؤيده و نقل بعض أصحابهم عن ابن عباس أن إحياءها يحصل بأن يصلي العشاء في
جماعة و يعزم على أن يصلي الصبح في جماعة و قال مالك في الموطأ بلغني أن
ابن المسيب قال : من شهد ليلة القدر ـ يعني في جماعة ـ فقد أخذ بحظه منها
و كذا قال الشافعي في القديم : من شهد العشاء و الصبح ليلة القدر فقد أخذ
بحظه منها و قد روي هذا [ من حديث أبي هريرة مرفوعا : من صلى العشاء
الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر ] خرجه أبو الشيخ الأصبهاني
و من طريقه أبو موسى المديني و ذكر أنه روي من وجه آخر عن أبي هريرة نحوه
و يروى من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا لكن إسناده ضعيف جدا و يروى [ من
حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلا : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من
أتى عليه رمضان صحيحا مسلما صام نهاره و صلى وردا من ليله و غض بصره و حفظ
فرجه و لسانه و يده و حافظ على صلاته في الجماعة و بكر إلى جمعة فقد صام
الشهر و استكمل الأجر و أدرك ليلة القدر و فاز بجائزة الرب عز و جل ] قال
أبو جعفر : جائزة لا تشبه جوائز الأمراء خرجه ابن أبي الدنيا
و لو
نذر قيام ليلة القدر لزمه أن يقوم من ليالي شهر رمضان ما يتيقن به قيامها
فمن قال من العلماء : إنها في جميع الشهر يقول : يلزمه قيام جميع ليالي
الشهر و من قال : هي في النصف الآخر من الشهر قال : يلزمه قيام ليالي
النصف الأخير منه و من قال : هي في العشر الأواخر من الشهر قال : يلزمه
قيام ليالي العشر كلها و هو قول أصحابنا و إن كان نذره كذلك و قد مضى بعض
ليالي العشر فإن قلنا : إنها لا تنتقل في العشر أجزأه في نذره أن يقوم ما
بقي من ليالي العشر و يقوم من عام قابل من أول العشر إلى وقت نذره و إن
قلنا إنها تنتقل في العشر لم يخرج من نذره بدون قيام ليالي العشر كلها بعد
عام نذره و لو نذر قيام ليلة غير معينة لزمه قيام ليلة تامة فإن قام نصف
ليلة ثم نام أجزأه أن يقوم من ليلة أخرى نصفها قاله الأوزعي نقله عنه
الوليد بن مسلم في كتاب النذور و هو شبيه بقول من قال من أصحابنا و غيرهم
: أن الكفارة يجزىء فيها أن يعتق نصفي رقبتين
و منها : أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي
و في حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قام بهم ليلة ثلاث و
عشرين و خمس و عشرين ذكر أنه دعا أهله و نساءه ليلة سبع و عشرين خاصة و
هذا يدل على انه يتأكد إيقاظهم في أكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر
و خرج الطبراني [ من حديث علي : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوقظ
أهله في العشر الأواخر من رمضان و كل صغير و كبير يطيق الصلاة ] قال سفيان
الثوري : أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل و يجتهد فيه و
ينهض أهله و ولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك و قد صح عن النبي صلى الله
عليه و سلم [ أنه كان يطرق فاطمة و عليا ليلا فيقول لهما ألا تقومان
فتصليان و كان يوقظ عائشة بالليل ] إذا قضى تهجده و أراد أن يوتر و ورد
الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة و نضح الماء في وجهه و في
الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي حتى إذا
كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم : الصلاة الصلاة و يتلو هذه
الآية : { و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها } الآية كانت امرأة حبيب أبي
محمد تقول له بالليل : قد ذهب الليل و بين أيدينا طريق بعيد و زاد قليل و
قوافل الصالحين قد سارت قدامنا و نحن قد بقينا
( يا نائم الليل كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد )
( و خذ من الليل و أوقاته ... وردا إذا ما هجع الرقد )
( من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد )
( قل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد )
و منها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يشد المئزر و اختلفوا في
تفسيره فمنهم من قال : هو كناية عن شدة جده و اجتهاده في العبادة كما يقال
فلان يشد وسطه و يسعى في كذا و هذا فيه نظر فإنها قالت : جد و شد المئزر
فعطفت شد المئزر على جده و الصحيح : أن المراد : اعتزاله النساء و بذلك
فسره السلف و الأئمة المتقدمون منهم : سفيان الثوري و قد ورد ذلك صريحا من
حديث عائشة و أنس و ورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان و
في حديث أنس و طوى فراشه و اعتزل النساء و قد كان النبي صلى الله عليه و
سلم غالبا يعتكف العشر الأواخر و المعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص و
الإجماع و قد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى : { فالآن باشروهن
و ابتغوا ما كتب الله لكم } إنه طلب ليلة القدر و المعنى في ذلك : أن الله
تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض
من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر لئلا يشتغل المسلمون في طول
ليالي الشهر بالإستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر فأمر مع ذلك بطلب
ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصا في الليالي المرجو فيها ليلة القدر فمن
ههنا كان النبي صلى الله عليه و سلم يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم
يعتزل نساءه و يتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر و منها تأخيره
للفطور إلى السحور و روي عنه من حديث [ عائشة و أنس أنه صلى الله عليه و
سلم كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا ] و لفظ حديث عائشة : [ كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم إذا كان رمضان قام و نام فإذا دخل العشر شد
المئزر و اجتنب النساء و اغتسل بين الأذانين و جعل العشاء سحورا ] أخرجه
ابن أبي عاصم و إسناده مقارب و حديث أنس خرجه الطبراني و لفظه : [ كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه
و اعتزل النساء و جعل عشاءه سحورا ] و في إسناده حفص بن واقد قال ابن عدي
: هذا الحديث من أنكر ما رأيت له و روي أيضا نحوه من حديث جابر خرجه أبو
بكر الخطيب و في إسناده من لا يعرف حاله و في الصحيحين ما يشهد لهذه
الروايات ففيهما [ عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم
عن الوصال في الصوم ] فقال له رجل من المسلمين : إنك تواصل يا رسول الله ؟
فقال : و أيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني فلما أبو أن ينتهو
عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : [ لو تأخر لزدتكم
] كالتنكيل لهم حين أبو أن ينتهو فهذا يدل على أنه واصل بالناس في آخر
الشهر و روى [ عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال : ما واصل النبي صلى
الله عليه و سلم وصالكم قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحور ] و إسناده لا
بأس به و خرج الإمام أحمد من [ حديث علي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان
يواصل إلى السحر ] و خرجه الطبراني من حديث جابر أيضا و خرج ابن جرير
الطبري من [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم
كان يواصل إلى السحر ففعل ذلك بعض أصحابه فنهاه فقال : أنت تفعل ذلك ؟
فقال : إنكم لستم مثلي إني أظل عند ربي يطعمني و يسقيني ] و زعم ابن جرير
: أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يواصل في صيامه إلا إلى السحر خاصة
و إن ذلك يجوز لمن قوي عليه و يكره لغيره و أنكر أن يكون استدامة الصيام
في الليل كله طاعة عند أحد من العلماء و قال : إنما كان يمسك بعضهم لمعنى
آخر غير الصيام إما ليكون أنشط له على العبادة أو إيثارا بطعامه على نفسه
أو لخوف مقلق منعه طعامه أو نحو ذلك فمقتضى كلامه : أن من واصل و لم يفطر
ليكون أنشط له على العبادة من غيره أن يعتقد أن إمساك الليل قربة أنه جائز
و إن أمسك تعبدا بالمواصلة فإن كان إلى السحر و قوي عليه لم يكره و إلا
كره و لذلك قال أحمد و إسحاق لا يكره الوصال إلى السحر و في صحيح البخاري
[ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تواصلوا
فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ؟
قال : إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني و ساق يسقيني ] و ظاهر هذا
يدل على أنه صلى الله عليه و سلم كان يواصل الليل كله و قد يكون صلى الله
عليه و سلم إنما فعل ذلك لأنه رآه أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر و
لم يكن ذلك مضعفا له عن العمل فإن الله كان يطعمه و يسقيه
و اختلف
في معنى إطعامه فقيل : إنه كان يؤتى بطعام من الجنة يأكله و في هذا نظر
فإنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا و قد أقرهم على قولهم له إنك تواصل لكن
روى عبد الرزاق في كتابه [ عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن النبي صلى
الله عليه و سلم نهى عن الوصال قالوا : فإنك تواصل ؟ قال : و ما يدريكم
لعل ربي يطعمني و يسقيني ] و هذا مرسل و في رواية لمسلم [ من حديث أنس :
إني أظل يطعمني ربي و يسقيني ] و إنما يقال : ظل يفعل كذا إذا كان نهارا و
لو كان أكلا حقيقيا لكان منافيا للصيام و الصحيح : أنه إشارة إلى ما كان
الله يفتحه عليه في صيامه و خلوته بربه لمناجاته و ذكره من مواد أنسه و
نفحات قدسه فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية و المنح الربانية
ما يغذيه و يغنيه عن الطعام و الشراب كما قيل :
( لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الطعام و تلهيها عن الزاد )
( لها بوجهك نور تستضيء به ... وقت المسير في أعقابها حادي )
( إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد )
الذكر قوت قلوب العارفين يغنيهم عن الطعام و الشراب كما قيل :
( أنت ربي إذا ظمئت إلى الماء ... و قوتي إذا أردت الطعاما )
لما جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة فأف لمن باع لذة المناجاة بفضل
لقمة
( يا من لحشا المحب بالشوق حشا ... ذا سر سراك في الدجا كيف فشا )
( هذا المولى إلى المماليك مشى ... لا كان عيشا أورث القلب غشا )
و يتأكد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر قال ذر بن حبيش
: في ليلة سبع و عشرين من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل و ليفطر على
ضياح لبن : و رواه بعضهم عن أبي بن كعب مرفوعا و لا يصح و ضياح اللبن : و
روي : ضيح ـ الضاد المعجمة و الياء آخر الحروف ـ هو اللبن الخاثر الممزوج
بالماء و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن علي قال : إن وافق ليلة
القدر و هو يأكل أورثه داء لا يفارقه حتى يموت و خرجه من طريقه أبو موسى
المديني و كأنه يريد إذا وافق دخولها أكله و الله أعلم
و منها :
اغتساله بين العشاءين : و قد تقدم من حديث عائشة و اغتسل بين الأذانين و
المراد أذان المغرب و العشاء و روي من [ حديث علي أن النبي صلى الله عليه
و سلم كان يغتسل بين العشاءين كل ليلة يعني من العشر الأواخر ] و في
إسناده ضعف و روي [ عن حذيفة أنه قام مع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة
من رمضان فاغتسل النبي صلى الله عليه و سلم و ستره حذيفة و بقيت فضلة
فاغتسل بها حذيفة و ستره النبي صلى الله عليه و سلم ] خرجه ابن أبي عاصم و
في رواية أخرى [ عن حذيفة قال : نام النبي صلى الله عليه و سلم ذات ليلة
من رمضان في حجرة من جريد النخل فصب عليه دلو من ماء ] و قال ابن جرير :
كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر و كان النخعي
يغتسل في العشر كل ليلة و منهم من كان يغتسل و يتطيب في الليالي التي تكون
أرجى لليلة القدر فأمر ذر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع و عشرين من رمضان و
روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أنه إذا كان ليلة أربع و عشرين اغتسل و
تطيب و لبس حلة إزار أو رداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من
قابل و كان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث و عشرين و أربع و عشرين و يلبس
ثوبين جديدين و يستجمر و يقول : ليلة ثلاث و عشرين هي ليلة أهل المدينة و
التي تليها ليلتنا يعني البصريين و قال حماد بن سلمة : كان ثابت البناني و
حميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما و يتطيبان و يطيبون المسجد بالنضوح و
الدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر و قال ثابت : كان لتميم
الداري حلة اشتراها بألف درهم و كان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة
القدر فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف
و التزين و التطيب بالغسل و الطيب و اللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجمع و
الأعياد و كذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات كما قال تعالى :
{ خذوا زينتكم عند كل مسجد } و قال ابن عمر : الله أحق أن يتزين له و روي
عنه مرفوعا : [ و لا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن ] بالتوبة و
الإنابة إلى الله تعالى و تطهيره من أدناس الذنوب و أوضارها فإن زينة
الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئا قال الله تعالى : { يا بني آدم قد
أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم و ريشا و لباس التقوى ذلك خير }
( إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عريانا و إن كان كاسيا )
لا يصلح لمناجاة الملك في الخلوات إلا من زين ظاهره و باطنه و طهرهما
خصوصا لملك الملوك الذي يعلم السر و أخفى و هو لا ينظر إلى صوركم و إنما
ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس و
باطنه بلباس التقوى أنشد الشبلي :
( قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حبه جوعا )
( فقر و صبرهما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفه الأعياد و الجمعا )
( أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزاور فبالثوب الذي خلعا )
( الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... و العيد ما كنت لي مرأى و مستمتعا )
و منها : الإعتكاف : ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ]
و في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى
الله عليه و سلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه
اعتكف عشرين ] و إنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه و سلم في هذا العشر
التي يطلب فيها ليلة القدر قطعا لإشغاله و تفريغا للياليه و تخليا لمناجاة
ربه و ذكره و دعائه و كان يحتجر حصيرا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم و
لا يشتغل بهم و لهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة
الناس حتى و لا لتعلم علم و إقراء قرآن بل الأفضل له الإنفراد بنفسه و
التخلي بمناجاة ربه و ذكره و دعائه و هذا الإعتكاف هو الخلوة الشرعية و
إنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع و الجماعات فإن الخلوة القاطعة
عن الجمع و الجماعات منهي عنها سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار و يقوم
الليل و لا يشهد الجمعة و الجماعة قال : هو في النار فالخلوة المشروعة
لهذه الأمة هي الإعتكاف في المساجد خصوصا في شهر رمضان خصوصا في العشر
الأواخر منه كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله فالمعتكف قد حبس
نفسه على طاعة الله و ذكره و قطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه و عكف بقلبه و
قالبه على ربه و ما يقربه منه فما بقي له هم سوى الله و ما يرضيه عنه كما
كان داود الطائي يقول في ليله : همك عطل على الهموم و حالف بيني و بين
السهاد و شوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات و حال بيني و بين الشهوات
( مالي شغل سواه مالي شغل ... ما يصرف عن قلبي هواه عذل )
( ما أصنع أجفان و خاب الأمل ... مني بدل و منه مالي بدل )
فمعنى الإعتكاف و حقيقته : قطع العلائق عن الخلائق للإتصال بخدمة الخالق و
كلما قويت المعرفة بالله و المحبة له و الأنس به أورثت صاحبها الإنقطاع
إلى الله تعالى بالكلية على كل حال كان بعضهم لا يزال منفردا في بيته
خاليا بربه فقيل له : أما تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش و هو يقول : أنا جليس
من ذكرني
( أوحشتني خلواتي ... بك من كل أنيسي )
( و تفردت فعاينـ ... تك بالغيب جليسي )
يا ليلة القدر للعابدين اشهدي يا أقدم القانتين اركعي لربك و اسجدي يا
ألسنة السائلين جدي في المسألة و اجتهدي
( يا رجال الليل جدوا ... رب داع لا يرد )
( ما يقوم الليل إلا ... من له عزم و جد )
ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم و قربه و إنما يفرون من
ليالي البعد و الهجر كان ببغداد موضعان يقال لأحدهما : دار الملك و الأخرى
: القطيعة فجاز بعض العارفين بملاح في سفينة فقال له : احملني معك إلى دار
الملك فقال له : الملاح ما أقصد إلا القطيعة فصاح العارف لا بالله لا
بالله منها أفر :
( و ليلة بت بأكفانها ... تعدل عندي ليلة القدر )
( كانت سلاما لسروري بها ... بالوصل حتى مطلع الفجر )
يا من ضاع عمره لا شيء استدرك ما فاتك في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر
( و ليلة وصل بات منجز وعده ... سميري فيها بعد طول مطال )
( شفيت بها قلبا أطيل غليله ... زمانا فكانت ليلة بليالي )
قال الله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر * و ما أدراك ما ليلة القدر
* ليلة القدر خير من ألف شهر } و اختلف في ليلة القدر و الحكمة في نزول
الملائكة في هذه الليلة : إن الملوك و السادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد
حتى يزينون دارهم بالفرش و البسط و يزينوا عبيدهم بالثياب و الأسلحة فإذا
كان ليلة القدر أمر الرب تبارك و تعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض لأن
العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم و الصلاة في ليالي رمضان و مساجدهم
بالقناديل و المصابيح فيقول الرب تعالى : أنتم طعنتم في بني آدم و قلتم :
{ أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية فقلت لكم : { إني أعلم ما لا تعلمون }
اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين لتعلموا أني
اخترتهم على علم على العالمين قال مالك : بلغني : [ أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم رأى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار
أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله
ليلة القدر خيرا من ألف شهر ] و روي عن مجاهد : أن النبي صلى الله عليه و
سلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك
فأنزل الله هذه السورة { ليلة القدر خير من ألف شهر } الذي لبس فيها ذلك
الرجل في سبيل الله ألف شهر و قال النخعي : العمل فيها خير من العمل في
ألف شهر و في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من
ذنبه ] و في المسند [ عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ]
و في المسند و النسائي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم أنه قال في شهر رمضان : فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها
فقد حرم ] قال جويبر : قلت للضحاك : أرأيت النفساء و الحائض و المسافر و
النائم لهم في ليلة القدر نصيب ؟ قال : نعم كل من تقبل الله عمله سيعطيه
نصيبه من ليلة القدر إخواني المعول على القبول لا على الاجتهاد و الاعتبار
ببر القلوب لا بعمل الأبدان رب قائم حظه من قيامه السهر كم من قائم محروم
و كم من نائم مرحوم نام و قلبه ذاكر و هذا قام و قلبه فاجر
( إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت النائم بالقائم )
لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات و الاجتهاد في الأعمال الصالحات
و كل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة و أما أهل
الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة : { فأما من أعطى و اتقى * و صدق
بالحسنى * فسنيسره لليسرى * و أما من بخل و استغنى * و كذب بالحسنى *
فسنيسره للعسرى } فالمبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر فعسى أن
يستدرك به ما فات من ضياع العمر
( تولى العمر في سهو و في لهو و في خسر ... فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام
من عمري )
( و مالي في الذي ضيعت من عمري من عذر ... فما أغفلنا من واجبات الحمد و
الشكر )
( أما قد خصنا الله بشهر أيما شهر ... بشهر أنزل الرحمن فيه أشرف الذكر )
( و هل يشبه شهر و فيه ليلة القدر ... فكم من خبر صح بما فيها من الخير )
( روينا عن ثقات أنها تطلب في الوتر ... فطوبى لامرىء يطلبها في هذه العشر
)
( ففيها تنزل الأملاك بالأنوار و البر ... قد قال { سلام هي حتى مطلع
الفجر } )
( ألا فادخرها إنها من أنفس الذخر ... فكم من معلق فيها من النار و لا
يدري )
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى