صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم
في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم جلس على المنبر فقال : إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من
زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر و قال : يا
رسول الله فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فعجبنا و قال الناس : انظروا
إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خيره الله بين
أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عند الله و هو يقول : فديناك
بآبائنا و أمهاتنا قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخير و
كان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من آمن
الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو اتخذت من أهل الأرض خليلا لاتخذت
أبا بكر خليلا و لكن إخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا
خوخة أبي بكر رضي الله عنه ] الموت مكتوب على كل حي الأنبياء و الرسل و
غيرهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { إنك ميت و إنهم ميتون
} و قال : { و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس
ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون } و قال : { و ما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
} الآيتين
خلق الله تعالى آدم من تراب الأرض و نفخ فيه من روحه
فكانت روحه في جسده و أرواح ذريته في أجسادهم في هذه الدار عارية و قضى
عليه و على ذريته أنه لا بد من أن يسترد أرواحهم من هذه الأجساد و يعيد
أجسادهم إلى ما خلقت منه و هو التراب و وعد أن يعيد الأجساد من الأرض مرة
ثانية ثم يرد إليها الأرواح مرة ثانية تمليكا دائما لا رجعة فيه في دار
البقاء قال الله تعالى : { قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون }
و قال : { منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى } و قال :
{ و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا } و
أرانا دليلا في هذه الدار على إعادة الأجساد من التراب بإنبات الزرع من
الأرض و إحياء الأرض بعد موتها بالمطر و دليلا على إعادة الأرواح إلى
أجسادها بعد المفارقة بقبض أرواح العباد في منامهم و ردها إليهم في يقظتهم
كما قال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها
فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون } و في مسند البزار [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال لهم لما ناموا عن الصلاة : إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد
فيقبضها إذا شاء و يرسلها إذا شاء ]
( استعدي للموت يا نفس واسعي ... للنجاة فالحازم المستعد )
( قد تيقنت أنه ليس للحي ... خلود و لا من الموت بد )
( إنما أنت مستعيرة ما سـ ... وف تردين و العواري ترد )
* * *
( فما أهل الحياة لنا بأهل ... و لا دار الحياة لنا بدار )
( و ما أموالنا و الأهل فيها ... و لا أولادنا إلا عواري )
( و أنفسنا إلى أجل قريب ... سيأخذها المعير من المعار )
مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح و الجسد جميعا
فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد و ألفته و اشتدت إلفتها له و امتزاجها به و
دخولها فيه حتى صارا كالشيء الواحد فلا يتفارقان إلا بجهد شديد و ألم عظيم
و لم يذق ابن آدم حياته ألما مثله و إلى ذلك الإشارة بقول الله عز و جل :
{ كل نفس ذائقة الموت } قال الربيع بن خثيم أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم
تذوقوا قبله مثله و يتزايد الألم بمعرفة المحتضر فإن جسده إذا فارقته
الروح صار جيفة مستقذرة يأكله الهوام و يبليه التراب حتى يعود ترابا و إن
الروح المارقة له لا تدري أين مستقرها هل هو في الجنة أو في النار فإن كان
عاصيا مصرا على المعصية إلى الموت فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى
النار فتتضاعف بذلك حسرته و ألمه و ربما كشفت له مع ذلك عن مقعده من النار
فرآه أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت و ألمه العظيم معرفته بسوء
مصيره و هذا المراد بقول الله عز و جل : { و التفت الساق بالساق } على ما
فسر به كثير من السلف فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت فلا يسأل عن
سوء حاله و قد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه
يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا قال الله تعالى : { و جاءت سكرة الموت بالحق
} :
( ألا الموت كأس أي كأس ... و أنت لكائسه لا بد حاسي )
( إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي )
و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بكثرة ذكر الموت فقال : [ أكثروا ذكر
هادم اللذات الموت ] و في حديث مرسل أنه صلى الله عليه و سلم مر بمجلس قد
استعلاه الضحك فقال [ شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات الموت ] و في الإكثار
من ذكر الموت فوائد منها : أنه يحث على الإستعداد له قبل نزوله و يقصر
الأمل و يرضى بالقليل من الرزق و يزهد في الدنيا و يرغب في الآخرة و يهون
مصائب الدنيا و يمنع من الأشر و البطر و التوسع في لذات الدنيا و [ في
حديث أبي ذر المرفوع الذي خرجه ابن حبان في صحيحه و غيره : أن صحف موسى
كانت عبرا كلها ] عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبت لمن أيقن بالنار كيف
يضحك عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبت لمن رأى الدنيا و سرعة تقبلها
كيف يطمئن إليها و قد رزي أن الكنز الذي كان للغلامين كان لوحا من ذهب
مكتوب فيه هذا أيضا قال الحسن : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم
نعيمهم فالتمسوا عيشا لا موت فيه و قال : فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب
بها فرحا و قال غيره : ذهب الموت بلذاذة كل عيش و سرور كل نعيم ثم بكى و
قال : واها لدار لا موت فيها
( اذكر الموت هادم اللذات ... و تهيأ لمصرع سوف يأتي غيره )
( يا غافل القلب عن ذكر المنيات ... عما قليل ستلقى بين أموات )
( فاذكر محلك من قبل الحلول به ... و تب إلى الله من لهو و لذات )
( إن الحمام له وقت إلى أجل ... فاذكر مصائب أيام و ساعات )
( لا تطمئن إلى الدنيا و زينتها ... قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي )
قال بعض السلف : شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا : ذكر الموت و الوقوف بين
يدي الله عز و جل
( كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن المنايا بغتة ستعاجله )
( و كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن إله الخلق لا بد سائله )
قال أبو الدرداء : كفى بالموت واعظا و كفى بالدهر مفرقا اليوم في الدور و
غدا في القبور
( اذكر الموت و داوم ذكره ... إن في الموت لذي اللب عبر )
( و كفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر )
غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له منه من العجب و الموجب له طول
الأمل
( كلنا في غفلة و المـ ... وت يغدو و يروح )
( لبنى الدنيا من المـ ... وت غبوق و صبوح )
( سيصير المرء يوما ... جسدا ما فيه روح )
( بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح )
( نح على نفسك يا مسكـ ... ين إن كنت تنوح )
( لتموتن و لو عمـ ... رت ما عمر نوح )
لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة و المشقة العظيمة لم يمت
نبي من الأنبياء حتى يخير و لذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن كما [ في
حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : يقول الله عز و جل : و ما
ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و أكره
مساءته و لا بد له منه ] كما رواه البخاري قال ابن أبي المليكة : [ لما
قبض إبراهيم عليه السلام قال الله عز و جل له : كيف وجدت الموت ؟ قال : يا
رب كأن نفسي تنزع بالبلى فقال : هذا و قد هونا عليك الموت ] و قال أبو
إسحاق : قيل لموسى عليه السلام : كيف وجدت طعم الموت قال : وجدته كسفود
أدخل في صوف فاجتذب قال : هذا و قد هونا عليك الموت و يروى أن عيسى عليه
السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما و كان يقول للحواريين : ادعوا
الله أن يخفف عني الموت فلقد خفت الموت خوفا أوقفني مخافة الموت على الموت
كيف يطمع في البقاء و ما من الأنبياء إلا من مات أم كيف يؤمن هجوم المنايا
و لم يسلم الأصفياء و الأحباء هيهات هيهات
( قد مات كل نبي ... و مات كل بنيه )
( و مات كل شريف ... و عاقل و سيفه )
( لا يوحشنك طريق ... كل الخلائق فيه )
أول ما أعلم النبي صلى الله عليه و سلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول
سورة : { إذا جاء نصر الله و الفتح } و قيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل
كان يعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم متى يموت ؟ قال : نعم قيل : و من
أين ؟ قال : إن الله تعالى جعل علامة موته هذه السورة : { إذا جاء نصر
الله و الفتح } يعني فتح مكة { و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا }
ذلك علامة موته و قد كان نعى نفسه إلى فاطمة عليها السلام فإن المراد من
هذه السورة : أنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد و دخل الناس في دينك
الذي دعوتهم إليه أفواجا فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد و
الإستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة و التبليغ و
ما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا قال ابن عباس : لما نزلت
هذه السورة نعيت لرسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه فأخذ في أشد ما كان
اجتهادا في أمر الآخرة و روي في حديث : [ إنه تعبد حتى صار كالشن البالي ]
[ و كان يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة فعرضه ذلك العام مرتين ] [ و
كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فيه ذلك العام عشرين ] [
و أكثر من الذكر و الإستغفار ] قالت أم سلمة : [ كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجيء إلا قال
سبحان الله و بحمده فذكرت ذلك له فقال : إني أمرت بذلك ] و تلا هذه السورة
و قالت عائشة رضي الله عنها : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر
أن يقول قبل موته : سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فقلت له :
إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم ؟ قال : إن ربي أخبرني أنني سأرى
علما في أمتي و إني إذا رأيته أن أسبح بحمده و أستغفره و قد رأيته ثم تلا
هذه السورة ] إذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى فكيف
يكون حال المذنب المسيء المتلوث بالذنوب المحتاج إلى التطهير من لم ينذره
باقتراب أجله و حي أنذره الشيب و سلب أقرانه بالموت
( كفى مؤذنا باقتراب الأجل ... شباب تولى و شيب نزل )
( و موت الأقران و هل بعده ... بقاء يؤمله من عقل )
( إذا ارتحلت قرناء الفتى ... على حكم ريب المنون ارتحل )
قال وهب بن الورد : إم لله ملكا ينادي في السماء كل يوم و ليلة أبناء
الخمسين : زرع دنا حصاده أبناء الستين : هلموا إلى الحساب أبناء السبعين :
ماذا قدمتم و ماذا أخرتم أبناء الثمانين : لا عذر لكم و عن وهب قال :
ينادي مناد : أبناء الستين : عدوا أنفسكم في الموتى و في صحيح البخاري [
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر صلى الله عليه و
سلم إلى من بلغه ستين من عمره ] و في حديث آخر : [ إذا كان يوم القيامة
نودي أين أبناء الستين و هو العمر الذي قال الله فيه : { أولم نعمركم ما
يتذكر فيه من تذكر } ] و في الترمذي عنه صلى الله عليه و سلم قال : [
أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين و أقلهم من يجوز ذلك ] و في حديث آخر :
[ معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين ] و في حديث آخر : [ إن لكل
شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ] و في هذا المعترك قبض
النبي صلى الله عليه و سلم قال سفيان الثوري : من بلغ سن رسول الله صلى
الله عليه و سلم فليتخذ لنفسه كفنا
( و إن أمر قد سار ستين حجة ... إلى منهل من و لقريب )
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت من ستين سنة
تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ فقال الرجل : إنا لله و إنا إليه راجعون فقال
فضيل : من علم أنه لله عبد و أنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف و أنه مسؤول
فليعد للمسألة جوابا فقال له الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة قال : ماهي
؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى
و ما بقى
( خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط قد تدانى الأمر )
( أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبنى كم تنقض كم ذا الغدر )
و ما زال صلى الله عليه و سلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره فإنه لما خطب
في حجة الوداع قال للناس : [ خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي
هذا ] و طفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع فلما رجع من حجته إلى
المدينة جمع الناس بماء يدعى خما في طريقه بين مكة و المدينة فخطبهم و قال
: [ أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم حض على
التمسك بكتاب الله و وصى بأهل بيته ] ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خير بين
لقاء الله و بين زهرة الدنيا و البقاء فيها ما شاء الله فاختار لقاء الله
و خطب الناس و أشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح
و كان ابتداء
مرضه في أواخر شهر صفر و كان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور و قيل :
أربعة عشر يوما و قيل : اثنا عشر يوما و قيل : عشرة أيام و هو غريب و كانت
خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء
مرض ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري قال : خرج إلينا
رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه الذي مات فيه و هو معصوب الرأس
فقام على المنبر فقال : إن عبدا عرضت عليه الدنيا و زينتها فاختار الآخرة
قال : فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر فقال : بأبي و أمي بل نفديك
بأموالنا و أنفسنا و أولادنا قال : ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى
الساعة ]
و في المسند [ عن أبي مويهبة : أن النبي صلى الله عليه و
سلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع و قال : ليهنكم ما أصبحتم
فيه مما أصبح فيه الناس أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا
يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم قال : يا أبا موهبة إني قد أعطيت
خزائن الدنيا و الخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك و بين لقاء ربي فاخترت لقاء
ربي و الجنة ثم انصرف فابتدأه وجعه الذي قبضه الله فيه ] لما قويت معرفة
الرسول صلى الله عليه و سلم بربه ازداد حبه له و شوقه إلى لقائه فلما خير
بين البقاء في الدنيا و بين لقاء ربه اختار لقاءه على خزائن الدنيا و
البقاء فيها سئل الشبلي هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته فأنشد :
( و الله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق )
( و لو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد و من قد بقي )
( و قلت لي : لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي )
لما عرض الرسول صلى الله عليه و سلم على المنبر باختياره اللقاء على
البقاء و لم يصرح خفي المعنى على كثير ممن سمع و لم يفهم المقصود غير
صاحبه الخصيص به ثاني اثنين إذ هما في الغار و كان أعلم الأمة بمقاصد
الرسول صلى الله عليه و سلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى و قال :
بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا فسكن الرسول صلى الله عليه و سلم
جزعه و أخذ في مدحه و الثناء عليه على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله و لا
يقع عليه اختلاف في خلافته فقال : [ إن من أمن الناس علي في صحبته و ماله
أبو بكر ] و في رواية أخرى أنه قال : [ ما لأحد عندنا يد إلا و قد كافأناه
ما خلا أبو بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله يوم القيامة بها و ما نفعني
مال أحد قط ما نفعي مال أبي بكر ] خرجه الترمذي ثم قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و
لكن إخوة الإسلام ] لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم خليل الله لم
يصلح له أن يخالل مخلوقا فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح و
لا يصلح هذا لبشر كما قيل :
( قد تخللت مسلك الروح مني ... و بذا سمي الخليل خليلا )
و لهذا المعنى قيل : إن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده و لم
يكن المقصود غراقة دم الولد بل تفريغ محل الخلة لمن لا يصلح أن يزاحمه
فيها أحد
( أروح و قد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا )
( فلو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراك )
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة
أبي بكر ]
و في رواية : [ سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر ] و
في هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى
المسجد و الإستطراق فيه بخلاف غيره و ذلك من مصالح المسلمين المصلين في
المسجد ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلي بالناس أبو بكر فروجع في
ذلك فغضب و قال : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] فولاه إمامة الصلاة دون
غيره و أبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة و سد استطراق غيره و في ذلك
إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمة دون غيره و لهذا قالت الصحابة عند
بيعة أبي بكر : رضيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا فكيف لا نرضاه
لدنيانا و لما قال أبو بكر : قد أقلتكم بيعتي قال علي : لا نقيلك و
نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذا يؤخرك لما انطوى بساط
النبوة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه و سلم لم يبق على وجه الأرض
أكمل من درجة الصديقية و أبو بكر رأس الصديقين فلهذا استحق خلافة الرسول و
القيام مقامه و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عزم على أن يكتب لأبي
بكر كتابا لئلا يختلف عليه ثم أعرض عن ذلك لعلمه أنه لا يقع غيره و قال :
[ يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و ربما كان ترك ذلك لئلا يتوهم
متوهم أن نصه على خلافته كانت مكافأة ليده التي كانت له و الولايات كلها
لا يقصد بها مصلحة المولى بل مصلحة المسلمين عامة
و كان أول ما
ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من مرضه وجع رأسه و لهذا خطب و
قد عصب رأسه بعصابة دسماء و كان صداع الرأس و الشقيقة يعتريه كثيرا في
حياته و يتألم منه أياما و صداع الرأس من علامات أهل الإيمان و أهل الجنة
و قد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه وصف أهل النار فقال : هم
الذين لا يألمون رؤوسهم ] و دخل عليه أعرابي فقال له : [ يا أعرابي هل
أخذك هذا الصداع ؟ فقال : و ما الصداع ؟ قال : عروق تضرب على الإنسان في
رأسه فقال : ما وجدت هذا فلما ولى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه و سلم
: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ] خرجه الإمام أحمد
و النسائي و قال كعب : أجد في التوراة لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت
الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا و في المسند [ عن عائشة رضي الله عنها
قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليوم الذي بدأ فيه فقلت
: وارأساه فقال : وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك و دفنتك فقلت : غيراء
كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك فقال : أنا وارأساه ادعو لي أباك و
أخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل و يتمنى متمن و يأبى
الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و خرجه البخاري بمعناه و لفظه : [ أن عائشة
رضي الله عنها قالت : وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذاك
لو كان و أنا حي فأستغفر و أدعو لك قالت عائشة : واثكلاه و الله إني لأظنك
تحب موتي و لو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى
الله عليه و سلم : بل أنا وارأساه ] و ذكر بقية الحديث و في المسند أيضا [
عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مر ببابي كثيرا ما يلقي
الكلمة ينفع الله بها فمر ذات يوم فلم يقل شيئا مرتين أو ثلاثا قلت : يا
جارية ضعي لي وسادة على الباب وعصبت رأسي فمر بي و قال : يا عائشة ما شأنك
؟ فقلت : أشتكي رأسي فقال : أنا وارأساه فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء
به محمولا في كساء فدخل علي فبعث إلى النساء و قال : إني اشتكيت أني لا
أستطيع أن أدور بينكن فأذن لي فلأكن عند عائشة ] و فيه أيضا عنها قالت : [
رجع إلي النبي صلى الله عليه و سلم ذات يوم من جنازة بالبقيع و أنا أجد
صداعا في رأسي و أنا أقول وارأساه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك و
كفنتك ثم صليت عليك و دفنتك فقلت : لكأني بك و الله لو فعلت ذلك لقد رجعت
إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم
بدأ في وجعه الذي مات فيه ]
[ فقد تبين أن أول مرضه كان صداع الرأس
و الظاهر أنه كان مع حمى فإن الحمى اشتدت به في مرضه فكان يجلس في مخضب و
يصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرد بذلك و كان عليه قطيفة
فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك ؟ فقال :
إنا كذلك يشدد علينا البلاء و يضاعف لنا الأجر و قال : إني أوعك كما يوعك
رجلان منكم و من شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق و حصل له ذلك غير
مرة فأغمي عليه مرة و ظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه فلما أفاق أنكر ذلك و
أمر أن يلد من ولده و قال : إن الله لم يكن ليسلطها علي يعني ذات الجنب و
لكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر يعني : أنه نقض عليه سم الشاة التي
أهدتها له اليهودية فأكل منها يومئذ فكان ذلك يثور عليه أحيانا فقال في
مرض موته : ما زالت أكلة خيبر تعاودني فيها أوان انقطاع أبهري و كان ابن
مسعود و غيره يقولون : إنه مات شهيدا من السم و قالت عائشة : ما رأيت أحدا
كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان عنده في مرضه
سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا
بها فوضعها في كفه يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا
بها فوضعها في كفه و قال : ما ظن محمد بربه لو لقي الله و عنده هذه ثم
تصدق بها كلها فكيف يكون حال من لقي الله و عنده دماء المسلمين و أموالهم
المحرمة و ما ظنه بربه ]
و لم يكن عندهم في مرضه دهن للمصباح يوقد
فيه فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من
النساء فقالت قطري لنا في مصباحنا من عكة السمن فإن رسول الله صلى الله
عليه و سلم أمسى في جديد الموت و كان عند عائشة إزار غليظ مما صنع باليمن
و كساء من الملبدة فكانت تقسم بالله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض
فيهما و دخلت عليه فاطمة عليها السلام في مرضه فسارها رسول الله بشيء فبكت
ثم سارها فضحكت فسئلت عن ذلك ؟ فقالت : لا أفشي سر رسول الله صلى الله
عليه و سلم فلما توفي سئلت ؟ فقالت : أخبرني أنه يموت في مرضه فبكيت ثم
أخبرني أني أول أهله لحوقا به و أني سيدة نساء العالمين فضحكت فلما احتضر
صلى الله عليه و سلم اشتد به الأمر [ فقالت عائشة : ما أغبط أحدا يهون
عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت
: و كان عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء و يقول :
اللهم أعني على سكرات الموت قالت : و جعل يقول : لا إله إلا الله إن للموت
لسكرات ] و في حديث مرسل أنه قال : [ اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب و
القصب و الأنامل اللهم فأعني على الموت و هونه علي ] و لما ثقل النبي صلى
الله عليه و سلم جعل يتغشاه الكرب قالت فاطمة عليها السلام : واكرب أبتاه
فقال لها : [ لا كرب على أبيك بعد اليوم ] و في حديث خرجه ابن ماجه : أنه
صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : [ إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك
منه أحد الموافاة يوم القيامة ]
ولم يقبض صلى الله عليه و سلم حتى
خير مرة أخرى بين الدنيا و الآخرة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه و
سلم يقول : [ إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير ] فلما نزل
به و رأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم
قال : [ اللهم الرفيق الأعلى ] فقلت : الآن لا يختارنا و علمت أنه الحديث
الذي كان يحدثناه وهو صحيح فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها و في رواية أنه
قال : [ اللهم اغفر لي و ارحمني و ألحقني بالرفيق الأعلى ] و في رواية [
أنه أصابه بحة شديدة فسمعته يقول : { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا } قالت : فظننت أنه
خير ]
و هذه الروايات مخرجة في صحيح البخاري و غيره و قد روي ما يدل
على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير : ففي المسند
[ عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
ما من نبي إلا يقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه
أو يلحق ] فكنت قد حفطت ذلك منه فإني لمسندته إلى صدري فنظرت إليه حتى
مالت عنقه فقلت : قد قضى قالت : فعرفت الذي قال : فنظرت إليه حتى ارتفع و
نظر فقالت : إذا و الله لا يختارنا فقال : مع الرفيق الأعلى في الجنة { مع
الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين } إلى
آخر الآية و في صحيح ابن حبان عنها قالت : [ أغمي على رسول الله صلى الله
عليه و سلم و رأسه في حجري فجعلت أمسحه و أدعو له بالشفاء فلما أفاق قال :
لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل و إسرافيل ] و فيه و في
المسند عنها : [ أنها كانت ترقيه في مرضه الذي مات فيه فقال : ارفعي يدك
فإنها كانت تنفعني في المدة ] قال الحسن لما كرهت الأنبياء الموت هون الله
عليهم بلقاء الله و بكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة حتى أن نفس أحدهم لتنزع
من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له وفي المسند [ عن عائشة رضي الله
عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه ليهون علي الموت إني رأيت
بياض كف عائشة في الجنة ] وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا انه قال صلى الله
عليه و سلم : [ لقد أريتها في الجنة ليهون بذلك علي موتي كأني أرى كفيها ]
يعني عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب عائشة رضي الله عنها حبا
شديدا حتى لا يكاد يصبر عناه فمثلت له بين يديه في الجنة ليهون عليه موته
فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة و قد سأله رجل : أي النساء أحب إليك ؟
فقال : [ عائشة فقال له فمن الرجال ؟ قال : أبوها ] و لهذا قال لها في
ابتداء مرضه لما قالت : وارأساه : وددت أن ذلك كان و أنا حي فأصلي عليك و
أدفنك فعظم ذلك عليها و ظنت أنه يحب فراقها و إنما كان يريد تعجيلها بين
يديه ليقرب اجتماعهما و قد كانت عائشة مضغت له صلى الله عليه و سلم سواكا
و طيبته بريقها ثم دفعته إليه فاستن به أحسن استنان ثم ذهب يتناوله فضعفت
يده عنه فسقط من يده فكانت عائشة تقول : جمع الله بي ريقي وريقه في أخر
يوم من الدنيا و أول يوم من الآخرة و الحديث مخرج في الصحيحين
في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم جلس على المنبر فقال : إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من
زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر و قال : يا
رسول الله فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فعجبنا و قال الناس : انظروا
إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خيره الله بين
أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عند الله و هو يقول : فديناك
بآبائنا و أمهاتنا قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخير و
كان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من آمن
الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو اتخذت من أهل الأرض خليلا لاتخذت
أبا بكر خليلا و لكن إخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا
خوخة أبي بكر رضي الله عنه ] الموت مكتوب على كل حي الأنبياء و الرسل و
غيرهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { إنك ميت و إنهم ميتون
} و قال : { و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس
ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون } و قال : { و ما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
} الآيتين
خلق الله تعالى آدم من تراب الأرض و نفخ فيه من روحه
فكانت روحه في جسده و أرواح ذريته في أجسادهم في هذه الدار عارية و قضى
عليه و على ذريته أنه لا بد من أن يسترد أرواحهم من هذه الأجساد و يعيد
أجسادهم إلى ما خلقت منه و هو التراب و وعد أن يعيد الأجساد من الأرض مرة
ثانية ثم يرد إليها الأرواح مرة ثانية تمليكا دائما لا رجعة فيه في دار
البقاء قال الله تعالى : { قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون }
و قال : { منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى } و قال :
{ و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا } و
أرانا دليلا في هذه الدار على إعادة الأجساد من التراب بإنبات الزرع من
الأرض و إحياء الأرض بعد موتها بالمطر و دليلا على إعادة الأرواح إلى
أجسادها بعد المفارقة بقبض أرواح العباد في منامهم و ردها إليهم في يقظتهم
كما قال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها
فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون } و في مسند البزار [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال لهم لما ناموا عن الصلاة : إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد
فيقبضها إذا شاء و يرسلها إذا شاء ]
( استعدي للموت يا نفس واسعي ... للنجاة فالحازم المستعد )
( قد تيقنت أنه ليس للحي ... خلود و لا من الموت بد )
( إنما أنت مستعيرة ما سـ ... وف تردين و العواري ترد )
* * *
( فما أهل الحياة لنا بأهل ... و لا دار الحياة لنا بدار )
( و ما أموالنا و الأهل فيها ... و لا أولادنا إلا عواري )
( و أنفسنا إلى أجل قريب ... سيأخذها المعير من المعار )
مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح و الجسد جميعا
فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد و ألفته و اشتدت إلفتها له و امتزاجها به و
دخولها فيه حتى صارا كالشيء الواحد فلا يتفارقان إلا بجهد شديد و ألم عظيم
و لم يذق ابن آدم حياته ألما مثله و إلى ذلك الإشارة بقول الله عز و جل :
{ كل نفس ذائقة الموت } قال الربيع بن خثيم أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم
تذوقوا قبله مثله و يتزايد الألم بمعرفة المحتضر فإن جسده إذا فارقته
الروح صار جيفة مستقذرة يأكله الهوام و يبليه التراب حتى يعود ترابا و إن
الروح المارقة له لا تدري أين مستقرها هل هو في الجنة أو في النار فإن كان
عاصيا مصرا على المعصية إلى الموت فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى
النار فتتضاعف بذلك حسرته و ألمه و ربما كشفت له مع ذلك عن مقعده من النار
فرآه أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت و ألمه العظيم معرفته بسوء
مصيره و هذا المراد بقول الله عز و جل : { و التفت الساق بالساق } على ما
فسر به كثير من السلف فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت فلا يسأل عن
سوء حاله و قد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه
يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا قال الله تعالى : { و جاءت سكرة الموت بالحق
} :
( ألا الموت كأس أي كأس ... و أنت لكائسه لا بد حاسي )
( إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي )
و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بكثرة ذكر الموت فقال : [ أكثروا ذكر
هادم اللذات الموت ] و في حديث مرسل أنه صلى الله عليه و سلم مر بمجلس قد
استعلاه الضحك فقال [ شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات الموت ] و في الإكثار
من ذكر الموت فوائد منها : أنه يحث على الإستعداد له قبل نزوله و يقصر
الأمل و يرضى بالقليل من الرزق و يزهد في الدنيا و يرغب في الآخرة و يهون
مصائب الدنيا و يمنع من الأشر و البطر و التوسع في لذات الدنيا و [ في
حديث أبي ذر المرفوع الذي خرجه ابن حبان في صحيحه و غيره : أن صحف موسى
كانت عبرا كلها ] عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبت لمن أيقن بالنار كيف
يضحك عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبت لمن رأى الدنيا و سرعة تقبلها
كيف يطمئن إليها و قد رزي أن الكنز الذي كان للغلامين كان لوحا من ذهب
مكتوب فيه هذا أيضا قال الحسن : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم
نعيمهم فالتمسوا عيشا لا موت فيه و قال : فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب
بها فرحا و قال غيره : ذهب الموت بلذاذة كل عيش و سرور كل نعيم ثم بكى و
قال : واها لدار لا موت فيها
( اذكر الموت هادم اللذات ... و تهيأ لمصرع سوف يأتي غيره )
( يا غافل القلب عن ذكر المنيات ... عما قليل ستلقى بين أموات )
( فاذكر محلك من قبل الحلول به ... و تب إلى الله من لهو و لذات )
( إن الحمام له وقت إلى أجل ... فاذكر مصائب أيام و ساعات )
( لا تطمئن إلى الدنيا و زينتها ... قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي )
قال بعض السلف : شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا : ذكر الموت و الوقوف بين
يدي الله عز و جل
( كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن المنايا بغتة ستعاجله )
( و كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن إله الخلق لا بد سائله )
قال أبو الدرداء : كفى بالموت واعظا و كفى بالدهر مفرقا اليوم في الدور و
غدا في القبور
( اذكر الموت و داوم ذكره ... إن في الموت لذي اللب عبر )
( و كفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر )
غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له منه من العجب و الموجب له طول
الأمل
( كلنا في غفلة و المـ ... وت يغدو و يروح )
( لبنى الدنيا من المـ ... وت غبوق و صبوح )
( سيصير المرء يوما ... جسدا ما فيه روح )
( بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح )
( نح على نفسك يا مسكـ ... ين إن كنت تنوح )
( لتموتن و لو عمـ ... رت ما عمر نوح )
لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة و المشقة العظيمة لم يمت
نبي من الأنبياء حتى يخير و لذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن كما [ في
حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : يقول الله عز و جل : و ما
ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و أكره
مساءته و لا بد له منه ] كما رواه البخاري قال ابن أبي المليكة : [ لما
قبض إبراهيم عليه السلام قال الله عز و جل له : كيف وجدت الموت ؟ قال : يا
رب كأن نفسي تنزع بالبلى فقال : هذا و قد هونا عليك الموت ] و قال أبو
إسحاق : قيل لموسى عليه السلام : كيف وجدت طعم الموت قال : وجدته كسفود
أدخل في صوف فاجتذب قال : هذا و قد هونا عليك الموت و يروى أن عيسى عليه
السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما و كان يقول للحواريين : ادعوا
الله أن يخفف عني الموت فلقد خفت الموت خوفا أوقفني مخافة الموت على الموت
كيف يطمع في البقاء و ما من الأنبياء إلا من مات أم كيف يؤمن هجوم المنايا
و لم يسلم الأصفياء و الأحباء هيهات هيهات
( قد مات كل نبي ... و مات كل بنيه )
( و مات كل شريف ... و عاقل و سيفه )
( لا يوحشنك طريق ... كل الخلائق فيه )
أول ما أعلم النبي صلى الله عليه و سلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول
سورة : { إذا جاء نصر الله و الفتح } و قيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل
كان يعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم متى يموت ؟ قال : نعم قيل : و من
أين ؟ قال : إن الله تعالى جعل علامة موته هذه السورة : { إذا جاء نصر
الله و الفتح } يعني فتح مكة { و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا }
ذلك علامة موته و قد كان نعى نفسه إلى فاطمة عليها السلام فإن المراد من
هذه السورة : أنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد و دخل الناس في دينك
الذي دعوتهم إليه أفواجا فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد و
الإستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة و التبليغ و
ما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا قال ابن عباس : لما نزلت
هذه السورة نعيت لرسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه فأخذ في أشد ما كان
اجتهادا في أمر الآخرة و روي في حديث : [ إنه تعبد حتى صار كالشن البالي ]
[ و كان يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة فعرضه ذلك العام مرتين ] [ و
كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فيه ذلك العام عشرين ] [
و أكثر من الذكر و الإستغفار ] قالت أم سلمة : [ كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجيء إلا قال
سبحان الله و بحمده فذكرت ذلك له فقال : إني أمرت بذلك ] و تلا هذه السورة
و قالت عائشة رضي الله عنها : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر
أن يقول قبل موته : سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فقلت له :
إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم ؟ قال : إن ربي أخبرني أنني سأرى
علما في أمتي و إني إذا رأيته أن أسبح بحمده و أستغفره و قد رأيته ثم تلا
هذه السورة ] إذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى فكيف
يكون حال المذنب المسيء المتلوث بالذنوب المحتاج إلى التطهير من لم ينذره
باقتراب أجله و حي أنذره الشيب و سلب أقرانه بالموت
( كفى مؤذنا باقتراب الأجل ... شباب تولى و شيب نزل )
( و موت الأقران و هل بعده ... بقاء يؤمله من عقل )
( إذا ارتحلت قرناء الفتى ... على حكم ريب المنون ارتحل )
قال وهب بن الورد : إم لله ملكا ينادي في السماء كل يوم و ليلة أبناء
الخمسين : زرع دنا حصاده أبناء الستين : هلموا إلى الحساب أبناء السبعين :
ماذا قدمتم و ماذا أخرتم أبناء الثمانين : لا عذر لكم و عن وهب قال :
ينادي مناد : أبناء الستين : عدوا أنفسكم في الموتى و في صحيح البخاري [
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر صلى الله عليه و
سلم إلى من بلغه ستين من عمره ] و في حديث آخر : [ إذا كان يوم القيامة
نودي أين أبناء الستين و هو العمر الذي قال الله فيه : { أولم نعمركم ما
يتذكر فيه من تذكر } ] و في الترمذي عنه صلى الله عليه و سلم قال : [
أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين و أقلهم من يجوز ذلك ] و في حديث آخر :
[ معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين ] و في حديث آخر : [ إن لكل
شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ] و في هذا المعترك قبض
النبي صلى الله عليه و سلم قال سفيان الثوري : من بلغ سن رسول الله صلى
الله عليه و سلم فليتخذ لنفسه كفنا
( و إن أمر قد سار ستين حجة ... إلى منهل من و لقريب )
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت من ستين سنة
تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ فقال الرجل : إنا لله و إنا إليه راجعون فقال
فضيل : من علم أنه لله عبد و أنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف و أنه مسؤول
فليعد للمسألة جوابا فقال له الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة قال : ماهي
؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى
و ما بقى
( خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط قد تدانى الأمر )
( أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبنى كم تنقض كم ذا الغدر )
و ما زال صلى الله عليه و سلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره فإنه لما خطب
في حجة الوداع قال للناس : [ خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي
هذا ] و طفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع فلما رجع من حجته إلى
المدينة جمع الناس بماء يدعى خما في طريقه بين مكة و المدينة فخطبهم و قال
: [ أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم حض على
التمسك بكتاب الله و وصى بأهل بيته ] ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خير بين
لقاء الله و بين زهرة الدنيا و البقاء فيها ما شاء الله فاختار لقاء الله
و خطب الناس و أشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح
و كان ابتداء
مرضه في أواخر شهر صفر و كان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور و قيل :
أربعة عشر يوما و قيل : اثنا عشر يوما و قيل : عشرة أيام و هو غريب و كانت
خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء
مرض ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري قال : خرج إلينا
رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه الذي مات فيه و هو معصوب الرأس
فقام على المنبر فقال : إن عبدا عرضت عليه الدنيا و زينتها فاختار الآخرة
قال : فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر فقال : بأبي و أمي بل نفديك
بأموالنا و أنفسنا و أولادنا قال : ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى
الساعة ]
و في المسند [ عن أبي مويهبة : أن النبي صلى الله عليه و
سلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع و قال : ليهنكم ما أصبحتم
فيه مما أصبح فيه الناس أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا
يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم قال : يا أبا موهبة إني قد أعطيت
خزائن الدنيا و الخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك و بين لقاء ربي فاخترت لقاء
ربي و الجنة ثم انصرف فابتدأه وجعه الذي قبضه الله فيه ] لما قويت معرفة
الرسول صلى الله عليه و سلم بربه ازداد حبه له و شوقه إلى لقائه فلما خير
بين البقاء في الدنيا و بين لقاء ربه اختار لقاءه على خزائن الدنيا و
البقاء فيها سئل الشبلي هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته فأنشد :
( و الله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق )
( و لو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد و من قد بقي )
( و قلت لي : لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي )
لما عرض الرسول صلى الله عليه و سلم على المنبر باختياره اللقاء على
البقاء و لم يصرح خفي المعنى على كثير ممن سمع و لم يفهم المقصود غير
صاحبه الخصيص به ثاني اثنين إذ هما في الغار و كان أعلم الأمة بمقاصد
الرسول صلى الله عليه و سلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى و قال :
بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا فسكن الرسول صلى الله عليه و سلم
جزعه و أخذ في مدحه و الثناء عليه على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله و لا
يقع عليه اختلاف في خلافته فقال : [ إن من أمن الناس علي في صحبته و ماله
أبو بكر ] و في رواية أخرى أنه قال : [ ما لأحد عندنا يد إلا و قد كافأناه
ما خلا أبو بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله يوم القيامة بها و ما نفعني
مال أحد قط ما نفعي مال أبي بكر ] خرجه الترمذي ثم قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و
لكن إخوة الإسلام ] لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم خليل الله لم
يصلح له أن يخالل مخلوقا فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح و
لا يصلح هذا لبشر كما قيل :
( قد تخللت مسلك الروح مني ... و بذا سمي الخليل خليلا )
و لهذا المعنى قيل : إن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده و لم
يكن المقصود غراقة دم الولد بل تفريغ محل الخلة لمن لا يصلح أن يزاحمه
فيها أحد
( أروح و قد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا )
( فلو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراك )
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة
أبي بكر ]
و في رواية : [ سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر ] و
في هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى
المسجد و الإستطراق فيه بخلاف غيره و ذلك من مصالح المسلمين المصلين في
المسجد ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلي بالناس أبو بكر فروجع في
ذلك فغضب و قال : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] فولاه إمامة الصلاة دون
غيره و أبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة و سد استطراق غيره و في ذلك
إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمة دون غيره و لهذا قالت الصحابة عند
بيعة أبي بكر : رضيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا فكيف لا نرضاه
لدنيانا و لما قال أبو بكر : قد أقلتكم بيعتي قال علي : لا نقيلك و
نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذا يؤخرك لما انطوى بساط
النبوة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه و سلم لم يبق على وجه الأرض
أكمل من درجة الصديقية و أبو بكر رأس الصديقين فلهذا استحق خلافة الرسول و
القيام مقامه و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عزم على أن يكتب لأبي
بكر كتابا لئلا يختلف عليه ثم أعرض عن ذلك لعلمه أنه لا يقع غيره و قال :
[ يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و ربما كان ترك ذلك لئلا يتوهم
متوهم أن نصه على خلافته كانت مكافأة ليده التي كانت له و الولايات كلها
لا يقصد بها مصلحة المولى بل مصلحة المسلمين عامة
و كان أول ما
ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من مرضه وجع رأسه و لهذا خطب و
قد عصب رأسه بعصابة دسماء و كان صداع الرأس و الشقيقة يعتريه كثيرا في
حياته و يتألم منه أياما و صداع الرأس من علامات أهل الإيمان و أهل الجنة
و قد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه وصف أهل النار فقال : هم
الذين لا يألمون رؤوسهم ] و دخل عليه أعرابي فقال له : [ يا أعرابي هل
أخذك هذا الصداع ؟ فقال : و ما الصداع ؟ قال : عروق تضرب على الإنسان في
رأسه فقال : ما وجدت هذا فلما ولى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه و سلم
: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ] خرجه الإمام أحمد
و النسائي و قال كعب : أجد في التوراة لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت
الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا و في المسند [ عن عائشة رضي الله عنها
قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليوم الذي بدأ فيه فقلت
: وارأساه فقال : وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك و دفنتك فقلت : غيراء
كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك فقال : أنا وارأساه ادعو لي أباك و
أخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل و يتمنى متمن و يأبى
الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و خرجه البخاري بمعناه و لفظه : [ أن عائشة
رضي الله عنها قالت : وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذاك
لو كان و أنا حي فأستغفر و أدعو لك قالت عائشة : واثكلاه و الله إني لأظنك
تحب موتي و لو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى
الله عليه و سلم : بل أنا وارأساه ] و ذكر بقية الحديث و في المسند أيضا [
عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مر ببابي كثيرا ما يلقي
الكلمة ينفع الله بها فمر ذات يوم فلم يقل شيئا مرتين أو ثلاثا قلت : يا
جارية ضعي لي وسادة على الباب وعصبت رأسي فمر بي و قال : يا عائشة ما شأنك
؟ فقلت : أشتكي رأسي فقال : أنا وارأساه فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء
به محمولا في كساء فدخل علي فبعث إلى النساء و قال : إني اشتكيت أني لا
أستطيع أن أدور بينكن فأذن لي فلأكن عند عائشة ] و فيه أيضا عنها قالت : [
رجع إلي النبي صلى الله عليه و سلم ذات يوم من جنازة بالبقيع و أنا أجد
صداعا في رأسي و أنا أقول وارأساه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك و
كفنتك ثم صليت عليك و دفنتك فقلت : لكأني بك و الله لو فعلت ذلك لقد رجعت
إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم
بدأ في وجعه الذي مات فيه ]
[ فقد تبين أن أول مرضه كان صداع الرأس
و الظاهر أنه كان مع حمى فإن الحمى اشتدت به في مرضه فكان يجلس في مخضب و
يصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرد بذلك و كان عليه قطيفة
فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك ؟ فقال :
إنا كذلك يشدد علينا البلاء و يضاعف لنا الأجر و قال : إني أوعك كما يوعك
رجلان منكم و من شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق و حصل له ذلك غير
مرة فأغمي عليه مرة و ظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه فلما أفاق أنكر ذلك و
أمر أن يلد من ولده و قال : إن الله لم يكن ليسلطها علي يعني ذات الجنب و
لكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر يعني : أنه نقض عليه سم الشاة التي
أهدتها له اليهودية فأكل منها يومئذ فكان ذلك يثور عليه أحيانا فقال في
مرض موته : ما زالت أكلة خيبر تعاودني فيها أوان انقطاع أبهري و كان ابن
مسعود و غيره يقولون : إنه مات شهيدا من السم و قالت عائشة : ما رأيت أحدا
كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان عنده في مرضه
سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا
بها فوضعها في كفه يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا
بها فوضعها في كفه و قال : ما ظن محمد بربه لو لقي الله و عنده هذه ثم
تصدق بها كلها فكيف يكون حال من لقي الله و عنده دماء المسلمين و أموالهم
المحرمة و ما ظنه بربه ]
و لم يكن عندهم في مرضه دهن للمصباح يوقد
فيه فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من
النساء فقالت قطري لنا في مصباحنا من عكة السمن فإن رسول الله صلى الله
عليه و سلم أمسى في جديد الموت و كان عند عائشة إزار غليظ مما صنع باليمن
و كساء من الملبدة فكانت تقسم بالله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض
فيهما و دخلت عليه فاطمة عليها السلام في مرضه فسارها رسول الله بشيء فبكت
ثم سارها فضحكت فسئلت عن ذلك ؟ فقالت : لا أفشي سر رسول الله صلى الله
عليه و سلم فلما توفي سئلت ؟ فقالت : أخبرني أنه يموت في مرضه فبكيت ثم
أخبرني أني أول أهله لحوقا به و أني سيدة نساء العالمين فضحكت فلما احتضر
صلى الله عليه و سلم اشتد به الأمر [ فقالت عائشة : ما أغبط أحدا يهون
عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت
: و كان عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء و يقول :
اللهم أعني على سكرات الموت قالت : و جعل يقول : لا إله إلا الله إن للموت
لسكرات ] و في حديث مرسل أنه قال : [ اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب و
القصب و الأنامل اللهم فأعني على الموت و هونه علي ] و لما ثقل النبي صلى
الله عليه و سلم جعل يتغشاه الكرب قالت فاطمة عليها السلام : واكرب أبتاه
فقال لها : [ لا كرب على أبيك بعد اليوم ] و في حديث خرجه ابن ماجه : أنه
صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : [ إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك
منه أحد الموافاة يوم القيامة ]
ولم يقبض صلى الله عليه و سلم حتى
خير مرة أخرى بين الدنيا و الآخرة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه و
سلم يقول : [ إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير ] فلما نزل
به و رأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم
قال : [ اللهم الرفيق الأعلى ] فقلت : الآن لا يختارنا و علمت أنه الحديث
الذي كان يحدثناه وهو صحيح فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها و في رواية أنه
قال : [ اللهم اغفر لي و ارحمني و ألحقني بالرفيق الأعلى ] و في رواية [
أنه أصابه بحة شديدة فسمعته يقول : { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا } قالت : فظننت أنه
خير ]
و هذه الروايات مخرجة في صحيح البخاري و غيره و قد روي ما يدل
على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير : ففي المسند
[ عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
ما من نبي إلا يقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه
أو يلحق ] فكنت قد حفطت ذلك منه فإني لمسندته إلى صدري فنظرت إليه حتى
مالت عنقه فقلت : قد قضى قالت : فعرفت الذي قال : فنظرت إليه حتى ارتفع و
نظر فقالت : إذا و الله لا يختارنا فقال : مع الرفيق الأعلى في الجنة { مع
الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين } إلى
آخر الآية و في صحيح ابن حبان عنها قالت : [ أغمي على رسول الله صلى الله
عليه و سلم و رأسه في حجري فجعلت أمسحه و أدعو له بالشفاء فلما أفاق قال :
لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل و إسرافيل ] و فيه و في
المسند عنها : [ أنها كانت ترقيه في مرضه الذي مات فيه فقال : ارفعي يدك
فإنها كانت تنفعني في المدة ] قال الحسن لما كرهت الأنبياء الموت هون الله
عليهم بلقاء الله و بكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة حتى أن نفس أحدهم لتنزع
من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له وفي المسند [ عن عائشة رضي الله
عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه ليهون علي الموت إني رأيت
بياض كف عائشة في الجنة ] وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا انه قال صلى الله
عليه و سلم : [ لقد أريتها في الجنة ليهون بذلك علي موتي كأني أرى كفيها ]
يعني عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب عائشة رضي الله عنها حبا
شديدا حتى لا يكاد يصبر عناه فمثلت له بين يديه في الجنة ليهون عليه موته
فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة و قد سأله رجل : أي النساء أحب إليك ؟
فقال : [ عائشة فقال له فمن الرجال ؟ قال : أبوها ] و لهذا قال لها في
ابتداء مرضه لما قالت : وارأساه : وددت أن ذلك كان و أنا حي فأصلي عليك و
أدفنك فعظم ذلك عليها و ظنت أنه يحب فراقها و إنما كان يريد تعجيلها بين
يديه ليقرب اجتماعهما و قد كانت عائشة مضغت له صلى الله عليه و سلم سواكا
و طيبته بريقها ثم دفعته إليه فاستن به أحسن استنان ثم ذهب يتناوله فضعفت
يده عنه فسقط من يده فكانت عائشة تقول : جمع الله بي ريقي وريقه في أخر
يوم من الدنيا و أول يوم من الآخرة و الحديث مخرج في الصحيحين
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
نزول جبريل في الثلاثة أيام الأخيرة لوفاة الرسول
و في حديث خرجه العقيلي أنه صلى الله عليه و سلم قال لها في مرضه : [
ائتيني بسواك رطب امضغيه ثم ائتيني به أمضغه لكي يختلط ريقي بريقك لكي
يوهن به عند الموت قال جعفر بن محمد عن أبيه لما بقي من أجل رسول الله صلى
الله عليه و سلم ثلاث نزل عليه جبريل عليه السلام فقال : يا أحمد إن الله
قد أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا لك و خاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك
يقول لك : كيف تجدك ؟ فقال : أجدني يا جبريل مغموما و أجدني يا جبريل
مكروبا ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك ثم أتاه في اليوم الثالث
فقال له مثل ذلك ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل : يا أحمد هذا ملك
الموت يستأذن عليك و لم يستأذن على آدمي كان قبلك و لا يستأذن على آدمي
بعدك قال : ائذن له فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال : يا رسول الله يا
أحمد إن الله أرسلني إليك و أمرني أن أطيعك في كل ما تأمر إن أمرتني أن
أقبض نفسك قبضتها و إن أمرتني أن أتركها تركتها ؟ قال : و تفعل ذلك يا ملك
الموت قال : بذلك أمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني به فقال جبريل : يا أحمد
إن الله قد اشتاق إليك قال : فامض يا ملك الموت لما أمرت به فقال جبريل
عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله هذا آخر موطيء من الأرض إنما كنت
حاجتي من الدنيا و جاءت التعزية يسمعون الصوت و الحس و لا يرون الشخص :
السلام عليكم يا أهل البيت و رحمة الله وبركاته : { كل نفس ذائقة الموت و
إنما توفون أجوركم يوم القيامة } إن في الله عزاء من كل مصيبة و خلفا من
كل هالك و دركا من كل فائت فبالله فاتقوا و إياه فارجوا إنما المصاب من
حرم الثواب والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته ]
و كانت وفاته صلى
الله عليه و سلم في يوم الإثنين في شهر ربيع الأول بغير خلاف وكان قد كشف
الستر في ذلك اليوم و الناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر فهم المسلمون أن
يفتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه و سلم حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة
مصحف و ظنوا أنه يخرج للصلاة فأشار إليهم أن مكانكم ثم أرخى الستر و توفى
صلى الله عليه و سلم من ذلك اليوم و ظن المسلمون أنه صلى الله عليه و سلم
قد برئ من مرضه لما أصبح يوم الإثنين مفيقا فخرج أبو بكر إلى منزله بالسنح
خارج المدينة فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم توفي رسول الله صلى الله عليه
و سلم و قيل توفي حين زاغت الشمس و الأول أصح و أنه توفي حين اشتد الضحى
من يوم الإثنين في مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة حين هاجر إليها
و
اختلفوا في تعيين ذلك اليوم من الشهر فقيل : كان أوله و قيل : ثانية و قيل
ثاني عشرة و قيل : ثالث عشرة و قيل : خامس عشرة و المشهور بين الناس : إنه
كان ثاني عشر ربيع الأول و قد رد ذلك السهيلي و غيره بأن وقفة حجة الوداع
في السنة العاشرة كانت الجمعة كان أول ذي الحجة فيها الخميس و متى كان
كذلك لم يصح أن يكون يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول سواء حسبت الشهور
الثلاثة أعني : ذا الحجة و محرما و صفرا كلها كاملة أو ناقصة أو بعضها
كاملة و بعضها ناقصة و لكن أجيب عن هذا بجواب حسن و هو أن ابن اسحاق ذكر
أن النبي صلى الله عليه و سلم توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول و هذا
ممكن فإن العرب تؤرخ بالليالي دون الأيام و لكن لا تؤرخ إلا بليلة مضى
يومها فيكون اليوم تبعا لليلة و كل ليلة لم يمض يومها لم يعتد بها كذلك
إذا ذكروا الليالي في عدد فإنهم يريدون بها الليالي مع أيامها فإذا قالوا
عشر ليال فمرادهم بأيامها و من هنا يتبين صحة قول الجمهور في أن عدة
الوفاة أربعة أشهر و عشر ليال بأيامها و أن اليوم العاشر من جملة تمام
العدة خلافا للأوزاعي و كذلك قال الجمهور في أشهر الحج : إنها شوال و ذو
القعدة وعشر من ذي الحجة و أن يوم النحر داخل فيها لهذا المعنى خلافا
للشافعي وحينئذ فيوم الإثنين الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه و سلم كان
: ثالث عشر الشهر لكن لما لم يكن يومه قد مضى لم يؤرخ بليلته إنما أرخوا
بليلة الأحد و يومها و هو الثاني عشر فلذلك قال ابن إسحاق توفي لاثنتي
عشرة ليلة مضت من ربيع الأول و الله أعلم
و اختلفوا في وقت دفنه
فقيل : دفن من ساعته و فيه بعد و قيل : من ليلة الثلاثاء و قيل : ليلة
الأربعاء و لما توفي صلى الله عليه و سلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش
فخربط و منهم من أقعد فلم يطق القيام و منهم من اعتقل لسانه فلم ينطق
الكلام و منهم من أنكر موته بالكلية و قال : إنما بعث إليه كما بعث إلى
موسى و كان من هؤلاء عمر و بلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعا حتى دخل بيت
عائشة و رسول الله صلى الله عليه و سلم مسجى فكشف عن وجهه الثوب و أكب
عليه و قبل جبهته مرارا و هو يبكي و هو يقول : وانبياه واخليلاه واصفياه و
قال : إنالله و إنا إليه راجعون مات و الله رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قال : و الله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتب الله عليك
فقدمتها ثم دخل المسجد و عمر يكلم الناس و هم مجتمعون عليه فتكلم أبو بكر
و تشهد و حمد الله فأقبل الناس إليه و تركوا عمر فقال : من كان يعبد محمدا
فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت و تلا : { و ما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
} الآية فاستيقن الناس كلهم بموته و كأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن
يتلوها أبو بكر فتلقاها الناس منه فما يسمع أحد إلا يتلوها و قالت فاطمة
عليها السلام : يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا
أبتاه إلى جبريل أنعاه يا أبتاه من ربه ما أدناه و عاشت بعده ستة أشهر فما
ضحكت في تلك المدة و حق لها ذلك
( على مثل ليلى يقتل المرء نفسه و إن كان من ليلى على الهجر طاويا ... )
كل المصائب تهون عند هذه المصيبة في سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه و سلم
قال في مرضه : [ يا أيها الناس إن أحد من الناس أو المؤمنين أصيب بمصيبة
فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب
بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ] قال أبو الجوزاء : كان الرجل من أهل
المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه و يقول : يا عبد الله اتق الله
فإن في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة
( اصبر لكل مصيبة و تجلد ... و اعلم بأن المرء غير مخلد )
( و اصبر كما صبر الكرام فإنها نوب تنوب اليوم تكشف في غد )
( و إذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد )
و لبعضهم :
( تذكرت لما فوق الدهر بيننا فعزيت نفسي بالنبي محمد )
( و قلت لها إن المنايا سبيلنا فمن لم يمت في يومه مات في الغد )
كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول صلى الله عليه و سلم فكيف بقلوب
المؤمنين لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه و
صاح كما يصيح الصبي فنزل إليه فاعتنقه فجعل يهدي كما يهدي الصبي الذي يسكن
عند بكائه فقال : لو لم أعتنقه لحن إلي يوم القيامة كان الحسن إذا حدث
بهذا الحديث بكى و قال : هذه خشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه و وري أن بلالا كان يؤذن بعد وفاة النبي صلى
الله عليه و سلم قبل دفنه فإذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد
بالبكاء و النحيب فلما دفن ترك بلال الأذان ما أمر عيش من فارق الأحباب
خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب
( لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكاد من وجده يميد )
( قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد )
لما دفن رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت فاطمة : كيف طابت أنفسكم أن
تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أنس : لما كان اليوم
الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أضاء منها كل شيء
فلما كان اليوم الذي دفن فيه أظلم منها كل شيء و ما نفضنا عن رسول الله
صلى الله عليه و سلم التراب و إنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا
( ليبك رسول الله من كان باكيافلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا )
( جزى الله عنا كل خير محمدافقد كان مهديا و قد كان هاديا )
( و كان رسول الله روحا و رحمة و نورا و برهانا من الله باديا )
( و كان رسول الله بالخير آمرا و كان عن الفحشاء و السوء ناهيا )
( و كان رسول الله بالقسط قائما و كان لما استرعاه مولاه راعيا )
( و كان رسول الله يدعو إلى الهدى قلبي رسول الله لبيه داعيا )
( أينسى أبر الناس بالناس كلهم و أكرمهم بيتا و شعبا و واديا )
( أينسى رسول الله أكرم من مشى و آثاره بالمسجدين كما هيا )
( تكدر من بدع النبي محمد عليه السلام كل مل كان صافيا )
( و كنا إلى الدنيا الدنية بعده و كشفت الأطماع منا مساويا )
( و كم من منار كان أوضحه لنا و من علم أمسى و أصبح عافيا )
( إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا و إن كان كاسيا )
( وخير خصال المرء طاعة ربه و لاخير فيمن كان الله عاصيا )
و في حديث خرجه العقيلي أنه صلى الله عليه و سلم قال لها في مرضه : [
ائتيني بسواك رطب امضغيه ثم ائتيني به أمضغه لكي يختلط ريقي بريقك لكي
يوهن به عند الموت قال جعفر بن محمد عن أبيه لما بقي من أجل رسول الله صلى
الله عليه و سلم ثلاث نزل عليه جبريل عليه السلام فقال : يا أحمد إن الله
قد أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا لك و خاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك
يقول لك : كيف تجدك ؟ فقال : أجدني يا جبريل مغموما و أجدني يا جبريل
مكروبا ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك ثم أتاه في اليوم الثالث
فقال له مثل ذلك ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل : يا أحمد هذا ملك
الموت يستأذن عليك و لم يستأذن على آدمي كان قبلك و لا يستأذن على آدمي
بعدك قال : ائذن له فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال : يا رسول الله يا
أحمد إن الله أرسلني إليك و أمرني أن أطيعك في كل ما تأمر إن أمرتني أن
أقبض نفسك قبضتها و إن أمرتني أن أتركها تركتها ؟ قال : و تفعل ذلك يا ملك
الموت قال : بذلك أمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني به فقال جبريل : يا أحمد
إن الله قد اشتاق إليك قال : فامض يا ملك الموت لما أمرت به فقال جبريل
عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله هذا آخر موطيء من الأرض إنما كنت
حاجتي من الدنيا و جاءت التعزية يسمعون الصوت و الحس و لا يرون الشخص :
السلام عليكم يا أهل البيت و رحمة الله وبركاته : { كل نفس ذائقة الموت و
إنما توفون أجوركم يوم القيامة } إن في الله عزاء من كل مصيبة و خلفا من
كل هالك و دركا من كل فائت فبالله فاتقوا و إياه فارجوا إنما المصاب من
حرم الثواب والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته ]
و كانت وفاته صلى
الله عليه و سلم في يوم الإثنين في شهر ربيع الأول بغير خلاف وكان قد كشف
الستر في ذلك اليوم و الناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر فهم المسلمون أن
يفتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه و سلم حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة
مصحف و ظنوا أنه يخرج للصلاة فأشار إليهم أن مكانكم ثم أرخى الستر و توفى
صلى الله عليه و سلم من ذلك اليوم و ظن المسلمون أنه صلى الله عليه و سلم
قد برئ من مرضه لما أصبح يوم الإثنين مفيقا فخرج أبو بكر إلى منزله بالسنح
خارج المدينة فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم توفي رسول الله صلى الله عليه
و سلم و قيل توفي حين زاغت الشمس و الأول أصح و أنه توفي حين اشتد الضحى
من يوم الإثنين في مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة حين هاجر إليها
و
اختلفوا في تعيين ذلك اليوم من الشهر فقيل : كان أوله و قيل : ثانية و قيل
ثاني عشرة و قيل : ثالث عشرة و قيل : خامس عشرة و المشهور بين الناس : إنه
كان ثاني عشر ربيع الأول و قد رد ذلك السهيلي و غيره بأن وقفة حجة الوداع
في السنة العاشرة كانت الجمعة كان أول ذي الحجة فيها الخميس و متى كان
كذلك لم يصح أن يكون يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول سواء حسبت الشهور
الثلاثة أعني : ذا الحجة و محرما و صفرا كلها كاملة أو ناقصة أو بعضها
كاملة و بعضها ناقصة و لكن أجيب عن هذا بجواب حسن و هو أن ابن اسحاق ذكر
أن النبي صلى الله عليه و سلم توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول و هذا
ممكن فإن العرب تؤرخ بالليالي دون الأيام و لكن لا تؤرخ إلا بليلة مضى
يومها فيكون اليوم تبعا لليلة و كل ليلة لم يمض يومها لم يعتد بها كذلك
إذا ذكروا الليالي في عدد فإنهم يريدون بها الليالي مع أيامها فإذا قالوا
عشر ليال فمرادهم بأيامها و من هنا يتبين صحة قول الجمهور في أن عدة
الوفاة أربعة أشهر و عشر ليال بأيامها و أن اليوم العاشر من جملة تمام
العدة خلافا للأوزاعي و كذلك قال الجمهور في أشهر الحج : إنها شوال و ذو
القعدة وعشر من ذي الحجة و أن يوم النحر داخل فيها لهذا المعنى خلافا
للشافعي وحينئذ فيوم الإثنين الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه و سلم كان
: ثالث عشر الشهر لكن لما لم يكن يومه قد مضى لم يؤرخ بليلته إنما أرخوا
بليلة الأحد و يومها و هو الثاني عشر فلذلك قال ابن إسحاق توفي لاثنتي
عشرة ليلة مضت من ربيع الأول و الله أعلم
و اختلفوا في وقت دفنه
فقيل : دفن من ساعته و فيه بعد و قيل : من ليلة الثلاثاء و قيل : ليلة
الأربعاء و لما توفي صلى الله عليه و سلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش
فخربط و منهم من أقعد فلم يطق القيام و منهم من اعتقل لسانه فلم ينطق
الكلام و منهم من أنكر موته بالكلية و قال : إنما بعث إليه كما بعث إلى
موسى و كان من هؤلاء عمر و بلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعا حتى دخل بيت
عائشة و رسول الله صلى الله عليه و سلم مسجى فكشف عن وجهه الثوب و أكب
عليه و قبل جبهته مرارا و هو يبكي و هو يقول : وانبياه واخليلاه واصفياه و
قال : إنالله و إنا إليه راجعون مات و الله رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قال : و الله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتب الله عليك
فقدمتها ثم دخل المسجد و عمر يكلم الناس و هم مجتمعون عليه فتكلم أبو بكر
و تشهد و حمد الله فأقبل الناس إليه و تركوا عمر فقال : من كان يعبد محمدا
فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت و تلا : { و ما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
} الآية فاستيقن الناس كلهم بموته و كأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن
يتلوها أبو بكر فتلقاها الناس منه فما يسمع أحد إلا يتلوها و قالت فاطمة
عليها السلام : يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا
أبتاه إلى جبريل أنعاه يا أبتاه من ربه ما أدناه و عاشت بعده ستة أشهر فما
ضحكت في تلك المدة و حق لها ذلك
( على مثل ليلى يقتل المرء نفسه و إن كان من ليلى على الهجر طاويا ... )
كل المصائب تهون عند هذه المصيبة في سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه و سلم
قال في مرضه : [ يا أيها الناس إن أحد من الناس أو المؤمنين أصيب بمصيبة
فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب
بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ] قال أبو الجوزاء : كان الرجل من أهل
المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه و يقول : يا عبد الله اتق الله
فإن في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة
( اصبر لكل مصيبة و تجلد ... و اعلم بأن المرء غير مخلد )
( و اصبر كما صبر الكرام فإنها نوب تنوب اليوم تكشف في غد )
( و إذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد )
و لبعضهم :
( تذكرت لما فوق الدهر بيننا فعزيت نفسي بالنبي محمد )
( و قلت لها إن المنايا سبيلنا فمن لم يمت في يومه مات في الغد )
كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول صلى الله عليه و سلم فكيف بقلوب
المؤمنين لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه و
صاح كما يصيح الصبي فنزل إليه فاعتنقه فجعل يهدي كما يهدي الصبي الذي يسكن
عند بكائه فقال : لو لم أعتنقه لحن إلي يوم القيامة كان الحسن إذا حدث
بهذا الحديث بكى و قال : هذه خشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه و وري أن بلالا كان يؤذن بعد وفاة النبي صلى
الله عليه و سلم قبل دفنه فإذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد
بالبكاء و النحيب فلما دفن ترك بلال الأذان ما أمر عيش من فارق الأحباب
خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب
( لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكاد من وجده يميد )
( قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد )
لما دفن رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت فاطمة : كيف طابت أنفسكم أن
تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أنس : لما كان اليوم
الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أضاء منها كل شيء
فلما كان اليوم الذي دفن فيه أظلم منها كل شيء و ما نفضنا عن رسول الله
صلى الله عليه و سلم التراب و إنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا
( ليبك رسول الله من كان باكيافلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا )
( جزى الله عنا كل خير محمدافقد كان مهديا و قد كان هاديا )
( و كان رسول الله روحا و رحمة و نورا و برهانا من الله باديا )
( و كان رسول الله بالخير آمرا و كان عن الفحشاء و السوء ناهيا )
( و كان رسول الله بالقسط قائما و كان لما استرعاه مولاه راعيا )
( و كان رسول الله يدعو إلى الهدى قلبي رسول الله لبيه داعيا )
( أينسى أبر الناس بالناس كلهم و أكرمهم بيتا و شعبا و واديا )
( أينسى رسول الله أكرم من مشى و آثاره بالمسجدين كما هيا )
( تكدر من بدع النبي محمد عليه السلام كل مل كان صافيا )
( و كنا إلى الدنيا الدنية بعده و كشفت الأطماع منا مساويا )
( و كم من منار كان أوضحه لنا و من علم أمسى و أصبح عافيا )
( إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا و إن كان كاسيا )
( وخير خصال المرء طاعة ربه و لاخير فيمن كان الله عاصيا )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وظيفة شهر رجب
خرج من الصحيحين [ من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب في
حجة الوداع فقال في خطبته : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله
السماوات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات : ذو
القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب مضر الذي بين جمادى و شعبان ] و ذكر
الحديث
قال الله عز و جل : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا
في كتاب الله يوم خلق السماوات و الأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم
فلا تظلموا فيهن أنفسكم } فأخبر سبحانه أنه منذ خلق السماوات و الأرض و
خلق الليل والنهار يدوران في الفلك و خلق ما في السماء من الشمس و القمر و
النجوم و جعل الشمس و القمر يسبحان في الفلك و ينشأ منهما ظلمة الليل و
بياض النهار فمن حينئذ جعل السنة اثني عشر شهرا بحسب الهلال فالسنة في
الشرع مقدرة بسير القمر و طلوعه لا بسير الشمس و انتقالها كما يفعله أهل
الكتاب و جعل الله تعالى من هذه الأشهر أربعة أشهر حرما و قد فسرها النبي
صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث و ذكر أنها ثلاثة متواليات : ذو القعدة
و ذو الحجة و المحرم و واحد فرد و هو شهر رجب و هذا قد يستدل به من يقول
أنها من سنتين و قد روي من حديث ابن عمر مرفوعا : [ أولهن رجب ] و في
إسناده موسى بن عبيدة و فيه ضعف شديد من قبل حفظه و قد حكى أهل عن المدينة
أنهم جعلوها من سنتين و أن أولها ذو القعدة ثم ذو الحجة ثم المحرم ثم رجب
فيكون رجب آخرها و عن بعض المدنيين : أن أولها رجب ثم ذو القعدة ثم ذو
الحجة ثم المحرم و عن بعض أهل الكوفة : أنها من سنة واحدة أولها المحرم ثم
رجب ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة و اختلف في أي هذه الأشهر الحرم أفضل ؟ فقيل
: رجب قاله بعض الشافعية و ضعفه النووي و غيره و قيل : قال الحسن و رجحه
الحسن و رجحه النووي و قيل : ذو الحجة روي عن سعيد بن جبير و غيره و هو
أظهر و الله أعلم
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن الزمان قد
استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا ] مراده
بذلك إبطال ما كانت الجاهلية تفعله من النسيء كما قال تعالى : { إنما
النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما
ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } و قد اختلف في تفسير
النسيء فقالت طائفة : كانوا يبدلون بعض الأشهر الحرم بغيرها من الأشهر
فيحرمونها بدلها و يحلون ما أرادوا تحليله من الأشهر الحرم إذا احتاجوا
إلى ذلك و لكن لا يزيدون في عدد الأشهر الهلالية شيئا ثم من أهل هذه
المقالة من قال : كانوا يحلون المحرم فيستحلون القتال فيه لطول مدة
التحريم عليهم بتوالي ثلاثة أشهر محرمة ثم يحرمون صفر مكانه فكأنهم
يقترضونه ثم يوفونه و منهم من قال : كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام و
يسمونها صفرين ثم يحرمونهما من عام قابل و يسمونهما محرمين قاله ابن زيد
بن أسلم و هو ضعيف و زيد بن أسلم ثقة و هو من رجال الصحيح و قيل : بل
كانوا ربما احتاجوا إلى صفر أيضا فأحلوه و جعلوا مكانه ربيعا ثم يدور كذلك
التحريم و التحليل و التأخير إلى أن جاء الإسلام و وافق حجة الوداع صار
رجوع التحريم إلى محرم الحقيقي و هذا هو الذي رجحه أبو عبيدة و على هذا
فالتغير إنما وقع في عين الأشهر الحرم خاصة و قالت طائفة أخرى : بل كانوا
يزيدون في عدد شهور السنة و ظاهر الآية يشعر بذلك حيث قال الله تعالى : {
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } فذكر هذا توطئة لهدم النسيء و
إبطاله ثم من هؤلاء من قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا قاله
مجاهد و أبو مالك قال أبو مالك : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا و
يجعلون المحرم صفرا و قال مجاهد : كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون : صفرين
لصفر و ربيع الأول و ربيع الآخر ثم يقولون : شهرا ربيع ثم يقولون : لرمضان
شعبان و لشوال رمضان و لذي القعدة شوال و لذي الحجة ذو القعدة على وجه ما
ابتدأوا و للمحرم ذو الحجة فيعدون ما ناسؤا على مستقبله على وجه ما
ابتدأوا و عنه قال : كانت الجاهلية يحجون في كل شهر من شهور السنة عامين
فوافق حج رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذي الحجة فقال : [ هذا يوم
استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض ] و من هؤلاء من قال :
كانت الجاهلية يجعلون الشهور اثني عشر شهرا و خمسة أيام قاله إياس بن
معاوية و هذا العدد قريب من عدد السنة الرومية و لهذا جاء في مراسيل عكرمة
بن خالد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في خطبته يوم النحر : [ و الشهر
هكذا و هكذا و هكذا و خنس إبهامه في الثالثة : و هكذا و هكذا و هكذا يعني
ثلاثين فأشار إلى أن الشهر هلالي ثم تارة ينقص و تارة يتم ] و لعل أهل
النسيء كانوا يتمون الشهور كلها و يزيدون عليها و الله أعلم و قد قيل : إن
ربيعة و مضر كانوا يحرمون أربعة أشهر من السنة مع اختلافهم في تعيين رجب
منها كما سنذكره إن شاء الله تعالى و كانت بنو عوف بن لؤي يحرمون من السنة
ثمانية أشهر و هذا مبالغة في الزيادة على ما حرم الله
و اختلفوا في
أي عام عاد الحج إلى ذي الحجة على وجهه و استدار الزمان فيه كهيئته :
فقالت طائفة : إنما عاد على وجهه في حجة الوداع و أما حجة أبي بكر الصديق
فكانت قد وقعت في ذي القعدة هذا قول مجاهد و عكرمة بن خالد و غيرهما و قد
قيل : أنه اجتمع في ذلك العام حج الأمم كلها في وقت واحد فلذلك سمي يوم
الحج الأكبر و قالت طائفة : بل وقعت حجة الصديق في ذي الحجة قاله الإمام
أحمد و أنكر قول مجاهد و استدل : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر عليا
فنادى يوم النحر لا يحج بعد العام مشرك ] و في رواية [ و اليوم يوم الحج
الأكبر ] و قد قال الله تعالى { و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم
الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين و رسوله } فسماه يوم الحج الأكبر و
هذا يدل على أن النداء وقع في ذي الحجة و خرج الطبراني في أوسطه من حديث
عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان العرب يحلون عاما شهرا و عاما شهرين
و لا يصيبون الحج إلا في كل ستة و عشرين سنة مرة واحدة : و هو النسيء الذي
ذكره الله في كتابه فلما كان عام حج أبي بكر الصديق بالناس وافق في ذلك
العام الحج فسماه الله يوم الحج الأكبر ثم حج النبي صلى الله عليه و سلم
في العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
: [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض ] و قيل بل
استدارة الزمان كهيئته كان من عام الفتح و خرج البزار في مسنده من [ حديث
سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم يوم الفتح : إن
هذا العام الحج الأكبر قد اجتمع حج المسلمين و حج المشركين في ثلاثة أيام
متتابعات و اجتمع حج اليهود و النصارى في ستة أيام متتابعات و لم يجتمع
منذ خلق الله السموات و الأرض و لا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة ] و
في إسناده يوسف السمتي و هو ضعيف جدا
و اختلفوا لم سميت هذه الأشهر
الأربعة حرما ؟ فقيل : لعظم حرمتها و حرمة الذنب فيها قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس : اختص الله أربعة أشهر جعلهن حرما و عظم حرماتهن و جعل الذنب
فيهن أعظم و جعل العمل الصالح و الأجر أعظم قال كعب : اختار الله الزمان
فأحبه إلى الله الأشهر الحرم و قد روي مرفوعا و لا يصح رفعه و قد قيل : في
قوله تعالى : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } أن المراد في الأشهر الحرم و قيل
: بل في جميع شهور السنة و قيل : إنما سميت حرما لتحريم القتال فيها و كان
ذلك معروفا في الجاهلية و قيل : إنه كان من عهد إبراهيم عليه السلام و قيل
: إن سبب تحريم هذه الأشهر الأربعة بين العرب لأجل التمكن من الحج و
العمرة فحرم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه و حرم معه شهر ذي القعدة للسير
فيه إلى الحج و شهر المحرم للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من
حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه و حرم شهر رجب للإعتمار فيه في وسط
السنة فيعتمر فيه من كان قريبا من مكة و قد شرع الله في أول الإسلام تحريم
القتال في الشهر الحرام قال تعالى : { لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر
الحرام } و قال تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه
كبير و صد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام و إخراج أهله منه أكبر
عند الله و الفتنة أكبر من القتل } و خرج ابن أبي حاتم بإسناده [ عن جندب
بن عبد الله : إن النبي صلى الله عليه و سلم بعث رهطا و بعث عليهم عبد
الله بن جحش فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه و لم يدروا أن ذلك من رجب أو من
جمادى فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام فأنزل الله عز و جل
: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } الآية ] و روى
السدي عن أبي مالك و عن أبي صالح عن ابن عباس و عن مرة عن ابن مسعود في
هذه الآية فذكروا هذه القصة مبسوطة و قالوا فيها : فقال المشركون : يزعم
محمد أنه يتبع طاعة الله و هو أول من استحل الشهر الحرام ؟ فقال المسلمون
: إنما قتلناه في جمادى و قيل في أول رجب و آخر ليلة من جمادى و أغمد
المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب و أنزل الله تعالى تعييرا لأهل مكة : {
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } لا يحل و ما صنعتم
أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله و
صددتم عن محمد و أصحابه و إخراج أهل المسجد الحرام حين أخرجوا منه محمدا
أكبر من القتل عند الله و قد روي عن ابن عباس هذا المعنى من رواية العوفي
عنه و من رواية أبي سعد البقال عن عكرمة عنه و من رواية الكلبي عن أبي
صالح عنه و ذكر ابن اسحاق أن ذلك كان في آخر يوم من رجب و أنهم خافوا إن
أخروا القتال أن يسبقهم المشركون فيدخلوا الحرم فيأمنوا و إنهم لما قدموا
على النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم : [ ما أمرتكم في الشهر الحرم و لم
يأخذ من غنيمتهم شيئا ] و قالت قريش : قد استحل محمد و أصحابه الشهر
الحرام فقال من بمكة من المسلمين : إنما قتلوهم في شعبان فلما أكثر الناس
في ذلك قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } الآية و روي
نحو هذا السياق عن عروة و الزهري و غيرهما و قيل بأنها كانت أول غنيمة
غنمها المسلمون و قال عبد الله بن جحش في ذلك و قيل : إنها لأبي بكر
الصديق رضي الله عنه
( تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... و أعظم منه لو يرى الرشد راشد )
( صددوكم عما يقول محمد ... و كفر به و الله راء و شاهد )
( و إخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد )
و قد اختلف العلماء في حكم القتال في الأشهر الحرم هل تحريمه باق أو نسخ
فالجمهور : على أنه نسخ تحريمه و نص على نسخه الإمام أحمد و غيره من
الأئمة و ذهبت طائفة من السلف : منهم عطاء : إلى بقاء تحريمه و رجحه بعض
المتأخرين و استدلوا بآية المائدة و المائدة من آخر ما نزل من القرآن و قد
روي : [ أحلوا حلالها و حرموا حرامها ] و قيل ليس فيها منسوخ و في المسند
: [ أن عائشة رضي الله عنه قالت : هي آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من
حلال فاستحلوه و ما وجدتم فيها حرام فحرموه ] و روى الإمام أحمد في مسنده
[ حدثنا اسحاق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال : لم
يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى و
يغزو فإذا حضره أقام حتى ينسلخ ] و ذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه و
سلم حاصر الطائف في شوال فلما دخل ذو القعدة لم يقاتل بل صابرهم ثم رجع و
كذلك في عمرة الحديبية لم يقاتل حتى بلغه أن عثمان قتل فبايع على القتال
ثم لما بلغه أن ذلك لا حقيقة له كف و استدل الجمهور بأن الصحابة اشتغلوا
بعد النبي صلى الله عليه و سلم بفتح البلاد و مواصلة القتال و الجهاد و لم
ينقل عن أحد منهم أنه توقف عن القتال و هو طالب له في شيء من الأشهر الحرم
و هذا يدل على إجماعهم على نسخ ذلك و الله علم
و من عجائب الأشهر
الحرم ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص : إنه ذكر عجائب الدنيا فعد
منها بأرض عاد عمود نحاس عليه شجرة من نحاس فإذا كان في الأشهر الحرم قطر
منها الماء فملؤا منه حياضهم و سقوا مواشيهم و زروعهم فإذا ذهب الأشهر
الحرم انقطع الماء
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ و رجب مضر ] سمي
رجب رجبا لأنه كان يرجب : أي يعظم كذا قال الأصمعي و المفضل و الفراء و
قيل : لأن الملائكة تترجب للتسبيح و التحميد فيه و في ذلك حديث مرفوع إلا
أنه موضوع و أما إضافته إلى مضر فقيل : لأن مضر كانت تزيد في تعظيمه و
احترامه فنسب إليهم لذلك و قيل : بل كانت ربيعة تحرم رمضان و تحرم مضر
رجبا فلذلك سماه رجب مضر رجبا فلذلك سماه رجب مضر و حقق ذلك بقوله الذي
بين جمادى و شعبان و ذكر بعضهم أن لشهر رجب أربعة عشر اسما : شهر الله و
رجب و رجب مضر و منصل الأسنة و الأصم و الأصب و منفس و مطهر و معلي و مقيم
و هرم و مقشقش و مبريء و فرد و ذكر غيره : أن له سبعة عشر اسما فزاد : رجم
بالميم و منصل الآلة و هي الحربة و منزع الأسنة
خرج من الصحيحين [ من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب في
حجة الوداع فقال في خطبته : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله
السماوات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات : ذو
القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب مضر الذي بين جمادى و شعبان ] و ذكر
الحديث
قال الله عز و جل : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا
في كتاب الله يوم خلق السماوات و الأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم
فلا تظلموا فيهن أنفسكم } فأخبر سبحانه أنه منذ خلق السماوات و الأرض و
خلق الليل والنهار يدوران في الفلك و خلق ما في السماء من الشمس و القمر و
النجوم و جعل الشمس و القمر يسبحان في الفلك و ينشأ منهما ظلمة الليل و
بياض النهار فمن حينئذ جعل السنة اثني عشر شهرا بحسب الهلال فالسنة في
الشرع مقدرة بسير القمر و طلوعه لا بسير الشمس و انتقالها كما يفعله أهل
الكتاب و جعل الله تعالى من هذه الأشهر أربعة أشهر حرما و قد فسرها النبي
صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث و ذكر أنها ثلاثة متواليات : ذو القعدة
و ذو الحجة و المحرم و واحد فرد و هو شهر رجب و هذا قد يستدل به من يقول
أنها من سنتين و قد روي من حديث ابن عمر مرفوعا : [ أولهن رجب ] و في
إسناده موسى بن عبيدة و فيه ضعف شديد من قبل حفظه و قد حكى أهل عن المدينة
أنهم جعلوها من سنتين و أن أولها ذو القعدة ثم ذو الحجة ثم المحرم ثم رجب
فيكون رجب آخرها و عن بعض المدنيين : أن أولها رجب ثم ذو القعدة ثم ذو
الحجة ثم المحرم و عن بعض أهل الكوفة : أنها من سنة واحدة أولها المحرم ثم
رجب ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة و اختلف في أي هذه الأشهر الحرم أفضل ؟ فقيل
: رجب قاله بعض الشافعية و ضعفه النووي و غيره و قيل : قال الحسن و رجحه
الحسن و رجحه النووي و قيل : ذو الحجة روي عن سعيد بن جبير و غيره و هو
أظهر و الله أعلم
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن الزمان قد
استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا ] مراده
بذلك إبطال ما كانت الجاهلية تفعله من النسيء كما قال تعالى : { إنما
النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما
ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } و قد اختلف في تفسير
النسيء فقالت طائفة : كانوا يبدلون بعض الأشهر الحرم بغيرها من الأشهر
فيحرمونها بدلها و يحلون ما أرادوا تحليله من الأشهر الحرم إذا احتاجوا
إلى ذلك و لكن لا يزيدون في عدد الأشهر الهلالية شيئا ثم من أهل هذه
المقالة من قال : كانوا يحلون المحرم فيستحلون القتال فيه لطول مدة
التحريم عليهم بتوالي ثلاثة أشهر محرمة ثم يحرمون صفر مكانه فكأنهم
يقترضونه ثم يوفونه و منهم من قال : كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام و
يسمونها صفرين ثم يحرمونهما من عام قابل و يسمونهما محرمين قاله ابن زيد
بن أسلم و هو ضعيف و زيد بن أسلم ثقة و هو من رجال الصحيح و قيل : بل
كانوا ربما احتاجوا إلى صفر أيضا فأحلوه و جعلوا مكانه ربيعا ثم يدور كذلك
التحريم و التحليل و التأخير إلى أن جاء الإسلام و وافق حجة الوداع صار
رجوع التحريم إلى محرم الحقيقي و هذا هو الذي رجحه أبو عبيدة و على هذا
فالتغير إنما وقع في عين الأشهر الحرم خاصة و قالت طائفة أخرى : بل كانوا
يزيدون في عدد شهور السنة و ظاهر الآية يشعر بذلك حيث قال الله تعالى : {
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } فذكر هذا توطئة لهدم النسيء و
إبطاله ثم من هؤلاء من قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا قاله
مجاهد و أبو مالك قال أبو مالك : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا و
يجعلون المحرم صفرا و قال مجاهد : كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون : صفرين
لصفر و ربيع الأول و ربيع الآخر ثم يقولون : شهرا ربيع ثم يقولون : لرمضان
شعبان و لشوال رمضان و لذي القعدة شوال و لذي الحجة ذو القعدة على وجه ما
ابتدأوا و للمحرم ذو الحجة فيعدون ما ناسؤا على مستقبله على وجه ما
ابتدأوا و عنه قال : كانت الجاهلية يحجون في كل شهر من شهور السنة عامين
فوافق حج رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذي الحجة فقال : [ هذا يوم
استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض ] و من هؤلاء من قال :
كانت الجاهلية يجعلون الشهور اثني عشر شهرا و خمسة أيام قاله إياس بن
معاوية و هذا العدد قريب من عدد السنة الرومية و لهذا جاء في مراسيل عكرمة
بن خالد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في خطبته يوم النحر : [ و الشهر
هكذا و هكذا و هكذا و خنس إبهامه في الثالثة : و هكذا و هكذا و هكذا يعني
ثلاثين فأشار إلى أن الشهر هلالي ثم تارة ينقص و تارة يتم ] و لعل أهل
النسيء كانوا يتمون الشهور كلها و يزيدون عليها و الله أعلم و قد قيل : إن
ربيعة و مضر كانوا يحرمون أربعة أشهر من السنة مع اختلافهم في تعيين رجب
منها كما سنذكره إن شاء الله تعالى و كانت بنو عوف بن لؤي يحرمون من السنة
ثمانية أشهر و هذا مبالغة في الزيادة على ما حرم الله
و اختلفوا في
أي عام عاد الحج إلى ذي الحجة على وجهه و استدار الزمان فيه كهيئته :
فقالت طائفة : إنما عاد على وجهه في حجة الوداع و أما حجة أبي بكر الصديق
فكانت قد وقعت في ذي القعدة هذا قول مجاهد و عكرمة بن خالد و غيرهما و قد
قيل : أنه اجتمع في ذلك العام حج الأمم كلها في وقت واحد فلذلك سمي يوم
الحج الأكبر و قالت طائفة : بل وقعت حجة الصديق في ذي الحجة قاله الإمام
أحمد و أنكر قول مجاهد و استدل : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر عليا
فنادى يوم النحر لا يحج بعد العام مشرك ] و في رواية [ و اليوم يوم الحج
الأكبر ] و قد قال الله تعالى { و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم
الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين و رسوله } فسماه يوم الحج الأكبر و
هذا يدل على أن النداء وقع في ذي الحجة و خرج الطبراني في أوسطه من حديث
عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان العرب يحلون عاما شهرا و عاما شهرين
و لا يصيبون الحج إلا في كل ستة و عشرين سنة مرة واحدة : و هو النسيء الذي
ذكره الله في كتابه فلما كان عام حج أبي بكر الصديق بالناس وافق في ذلك
العام الحج فسماه الله يوم الحج الأكبر ثم حج النبي صلى الله عليه و سلم
في العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
: [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض ] و قيل بل
استدارة الزمان كهيئته كان من عام الفتح و خرج البزار في مسنده من [ حديث
سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم يوم الفتح : إن
هذا العام الحج الأكبر قد اجتمع حج المسلمين و حج المشركين في ثلاثة أيام
متتابعات و اجتمع حج اليهود و النصارى في ستة أيام متتابعات و لم يجتمع
منذ خلق الله السموات و الأرض و لا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة ] و
في إسناده يوسف السمتي و هو ضعيف جدا
و اختلفوا لم سميت هذه الأشهر
الأربعة حرما ؟ فقيل : لعظم حرمتها و حرمة الذنب فيها قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس : اختص الله أربعة أشهر جعلهن حرما و عظم حرماتهن و جعل الذنب
فيهن أعظم و جعل العمل الصالح و الأجر أعظم قال كعب : اختار الله الزمان
فأحبه إلى الله الأشهر الحرم و قد روي مرفوعا و لا يصح رفعه و قد قيل : في
قوله تعالى : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } أن المراد في الأشهر الحرم و قيل
: بل في جميع شهور السنة و قيل : إنما سميت حرما لتحريم القتال فيها و كان
ذلك معروفا في الجاهلية و قيل : إنه كان من عهد إبراهيم عليه السلام و قيل
: إن سبب تحريم هذه الأشهر الأربعة بين العرب لأجل التمكن من الحج و
العمرة فحرم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه و حرم معه شهر ذي القعدة للسير
فيه إلى الحج و شهر المحرم للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من
حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه و حرم شهر رجب للإعتمار فيه في وسط
السنة فيعتمر فيه من كان قريبا من مكة و قد شرع الله في أول الإسلام تحريم
القتال في الشهر الحرام قال تعالى : { لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر
الحرام } و قال تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه
كبير و صد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام و إخراج أهله منه أكبر
عند الله و الفتنة أكبر من القتل } و خرج ابن أبي حاتم بإسناده [ عن جندب
بن عبد الله : إن النبي صلى الله عليه و سلم بعث رهطا و بعث عليهم عبد
الله بن جحش فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه و لم يدروا أن ذلك من رجب أو من
جمادى فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام فأنزل الله عز و جل
: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } الآية ] و روى
السدي عن أبي مالك و عن أبي صالح عن ابن عباس و عن مرة عن ابن مسعود في
هذه الآية فذكروا هذه القصة مبسوطة و قالوا فيها : فقال المشركون : يزعم
محمد أنه يتبع طاعة الله و هو أول من استحل الشهر الحرام ؟ فقال المسلمون
: إنما قتلناه في جمادى و قيل في أول رجب و آخر ليلة من جمادى و أغمد
المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب و أنزل الله تعالى تعييرا لأهل مكة : {
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } لا يحل و ما صنعتم
أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله و
صددتم عن محمد و أصحابه و إخراج أهل المسجد الحرام حين أخرجوا منه محمدا
أكبر من القتل عند الله و قد روي عن ابن عباس هذا المعنى من رواية العوفي
عنه و من رواية أبي سعد البقال عن عكرمة عنه و من رواية الكلبي عن أبي
صالح عنه و ذكر ابن اسحاق أن ذلك كان في آخر يوم من رجب و أنهم خافوا إن
أخروا القتال أن يسبقهم المشركون فيدخلوا الحرم فيأمنوا و إنهم لما قدموا
على النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم : [ ما أمرتكم في الشهر الحرم و لم
يأخذ من غنيمتهم شيئا ] و قالت قريش : قد استحل محمد و أصحابه الشهر
الحرام فقال من بمكة من المسلمين : إنما قتلوهم في شعبان فلما أكثر الناس
في ذلك قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } الآية و روي
نحو هذا السياق عن عروة و الزهري و غيرهما و قيل بأنها كانت أول غنيمة
غنمها المسلمون و قال عبد الله بن جحش في ذلك و قيل : إنها لأبي بكر
الصديق رضي الله عنه
( تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... و أعظم منه لو يرى الرشد راشد )
( صددوكم عما يقول محمد ... و كفر به و الله راء و شاهد )
( و إخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد )
و قد اختلف العلماء في حكم القتال في الأشهر الحرم هل تحريمه باق أو نسخ
فالجمهور : على أنه نسخ تحريمه و نص على نسخه الإمام أحمد و غيره من
الأئمة و ذهبت طائفة من السلف : منهم عطاء : إلى بقاء تحريمه و رجحه بعض
المتأخرين و استدلوا بآية المائدة و المائدة من آخر ما نزل من القرآن و قد
روي : [ أحلوا حلالها و حرموا حرامها ] و قيل ليس فيها منسوخ و في المسند
: [ أن عائشة رضي الله عنه قالت : هي آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من
حلال فاستحلوه و ما وجدتم فيها حرام فحرموه ] و روى الإمام أحمد في مسنده
[ حدثنا اسحاق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال : لم
يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى و
يغزو فإذا حضره أقام حتى ينسلخ ] و ذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه و
سلم حاصر الطائف في شوال فلما دخل ذو القعدة لم يقاتل بل صابرهم ثم رجع و
كذلك في عمرة الحديبية لم يقاتل حتى بلغه أن عثمان قتل فبايع على القتال
ثم لما بلغه أن ذلك لا حقيقة له كف و استدل الجمهور بأن الصحابة اشتغلوا
بعد النبي صلى الله عليه و سلم بفتح البلاد و مواصلة القتال و الجهاد و لم
ينقل عن أحد منهم أنه توقف عن القتال و هو طالب له في شيء من الأشهر الحرم
و هذا يدل على إجماعهم على نسخ ذلك و الله علم
و من عجائب الأشهر
الحرم ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص : إنه ذكر عجائب الدنيا فعد
منها بأرض عاد عمود نحاس عليه شجرة من نحاس فإذا كان في الأشهر الحرم قطر
منها الماء فملؤا منه حياضهم و سقوا مواشيهم و زروعهم فإذا ذهب الأشهر
الحرم انقطع الماء
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ و رجب مضر ] سمي
رجب رجبا لأنه كان يرجب : أي يعظم كذا قال الأصمعي و المفضل و الفراء و
قيل : لأن الملائكة تترجب للتسبيح و التحميد فيه و في ذلك حديث مرفوع إلا
أنه موضوع و أما إضافته إلى مضر فقيل : لأن مضر كانت تزيد في تعظيمه و
احترامه فنسب إليهم لذلك و قيل : بل كانت ربيعة تحرم رمضان و تحرم مضر
رجبا فلذلك سماه رجب مضر رجبا فلذلك سماه رجب مضر و حقق ذلك بقوله الذي
بين جمادى و شعبان و ذكر بعضهم أن لشهر رجب أربعة عشر اسما : شهر الله و
رجب و رجب مضر و منصل الأسنة و الأصم و الأصب و منفس و مطهر و معلي و مقيم
و هرم و مقشقش و مبريء و فرد و ذكر غيره : أن له سبعة عشر اسما فزاد : رجم
بالميم و منصل الآلة و هي الحربة و منزع الأسنة
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ذكر ما يتعلق برجب من أحكام
و يتعلق بشهر رجب أحكام كثيرة فمنها ما كان في الجاهلية و اختلف العلماء
في استمراره في الإسلام كالقتال و قد سبق ذكره و كالذبائح فإنهم كانوا في
الجاهلية يذبحون ذبيحة يسمونها العتيرة و اختلف العلماء في حكمها في
الإسلام فالأكثرون على أن الإسلام أبطلها و في الصحيحين [ عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا فرع و لا عتيرة ] و
منهم من قال : بل هي مستحبة منهم ابن سيرين و حكاه الإمام أحمد عن أهل
البصرة و رجحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين و نقل حنبل عن أحمد نحوه و
في سنن أبي داود و النسائي و ابن ماجة [ عن خنف بن سليم الغامدي أن النبي
صلى الله عليه و سلم قال بعرفة : إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية أو
عتيرة ] و هي التي يسمونها الرجبية و في النسائي [ عن نبيشة أنهم قالوا :
يا رسول الله إنا كنا نعتر في الجاهلية يعني في رجب ؟ قال : اذبحوا لله في
أي شهر كان و بروا لله و أطعموا ] و روى الحرث بن عمرو : [ أن النبي صلى
الله عليه و سلم سئل عن الفرع و العتائر ؟ فقال : من شاء فرع و من شاء لم
يفرع و من شاء عتر و من شاء لم يعتر ] و في حديث آخر قال : [ العتيرة حق ]
و في النسائي [ عن أبي رزين قال : قلت يا رسول الله كنا نذبح ذبائح في
الجاهلية يعني في رجب فنأكل و نطعم من جاءنا ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : لا بأس به ] و خرج الطبراني بإسناده [ عن ابن عباس قال :
استأذنت قريش رسول الله صلى الله عليه و سلم في العتيرة ؟ فقال : اعتر
كعتر الجاهلية و لكن من أحب منكم أن يذبح لله فيأكل و يتصدق فليفعل ]
وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث و بين حديث : [ لا فرع و لا عتيرة ] بأن
المنهي عنه هو ما كان يفعله أهل الجاهلية من الذبح لغير الله و حمله سفيان
بن عيينة على أن المراد به نفي الوجوب و من العلماء من قال : حديث أبي
هريرة أصح من هذه الأحاديث و أثبت فيكون العمل عليها دونها و هذه طريقة
الإمام أحمد و روى مبارك بن فضالة عن الحسن قال : ليس في الإسلام عتيرة
إنما كانت العتيرة في الجاهلية كان أحدهم يصوم رجب و يعتر فيه و يشبه
الذبح في رجب اتخاذه موسما و عيدا كأكل الحلوى و نحوها و قد روي عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره أن يتخذ رجب عيدا و روى عبد الرزاق [ عن
ابن جريج عن عطاء قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم ينهى عن صيام رجب
كله لئلا يتخذ عيدا ] و [ عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : لا تتخذوا شهرا عيدا و لا يوما عيدا ] و أصل
هذا : أنه لا يشرع أن يتخذ المسلمون عيدا إلا ما جاءت الشريعة باتخاذه
عيدا و هو يوم الفطر و يوم الأضحى و أيام التشريق و هي أعياد العام و يوم
الجمعة و هو عيد الأسبوع و ما عدا ذلك فاتخاذه عيدا و موسما بدعة لا أصل
له في الشريعة
و من أحكام رجب ما ورد فيه من الصلاة و الزكاة و
الصيام و الإعتمار فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به و
الأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب و
باطل لا تصح و هذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء و من ذكر ذلك من أعيان
العلماء المتأخرين من الحفاظ أبو إسماعيل الأنصاري و أبو بكر بن السمعاني
و أبو الفضل بن ناصر و أبو الفرج بن الجوزي و غيرهم إنما لم يذكرها
المتقدمون لأنها أحدثت بعدهم و أول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم
يعرفها المتقدمون و لم يتكلموا فيها و أما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب
بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و لكن روي عن أبي
قلابة قال : في الجنة قصر لصوام رجب قال البيهقي : أبو قلابة من كبار
التابعين لا يقول مثله إلا عن بلاغ و إنما ورد في صيام الأشهر الحرم كلها
[ حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها : أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال له : صم من الحرم و اترك قالها ثلاثا ] خرجه أبو داود و غيره و خرجه
ابن ماجة و عنده : [ صم أشهر الحرم ] و قد كان بعض السلف يصوم الأشهر
الحرم كلها منهم ابن عمر و الحسن البصري و أبو اسحاق السبيعي و قال الثوري
: الأشهر الحرم أحب إلي أن أصوم فيها و جاء في حديث خرجه ابن ماجة [ أن
أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه و
سلم : صم شوالا ] فترك أشهر الحرم و صام شوالا حتى مات و في إسناده انقطاع
و خرج ابن ماجة أيضا بإسناد فيه ضعف [ عن ابن عباس : أن النبي صلى الله
عليه و سلم نهى عن صيام رجب ] و الصحيح وقفه على ابن عباس و رواه عطاء عن
النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا و قد سبق لفظه و روى عبد الرزاق في كتابه
[ عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم : ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم
قوم يصومون رجبا فقال : أين هم من شعبان ] و روى أزهر بن سعيد الجمحي عن
أمه أنها سألت عائشة عن صوم رجب فقالت : إن كنت صائمة فعليك بشعبان و روي
مرفوعا و وقفه أصح و روي عن عمر رضي الله عنه : أنه كان يضرب أكف الرجال
في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام و يقول : ما رجب ؟ إن رجبا كان يعظمه أهل
الجاهلية فلما كان الإسلام ترك و في رواية كره أن يكون صيامه سنة و عن أبي
بكرة : أنه رأى أهله يتهيأون لصيام رجب فقال لهم أجعلتم رجب كرمضان و ألقى
السلال و كسر الكيزان
و عن ابن عباس : أنه كره أن يصام رجب كله و عن
ابن عمر و ابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياما و كرهه أنس أيضا و
سعيد بن جبير و كره صيام رجب كله يحيى بن سعيد الأنصاري و الإمام أحمد و
قال : يفطر منه يوما أو يومين و حكاه عن ابن عمر و ابن عباس و قال الشافعي
في القديم : أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان و احتج
بحديث عائشة : [ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل شهرا قط
إلا رمضان ] قال : و كذلك يوما من بين الأيام و قال : إنما كرهته أن لا
يتأسى رجل جاهل فيظن أن ذلك واجب و إن فعل فحسن و تزول كراهة إفراد رجب
بالصوم بأن يصوم معه شهر آخر تطوعا عند بعض أصحابنا مثل أن يصوم الأشهر
الحرم أو يصوم رجب و شعبان و قد تقدم عن ابن عمر و غيره صيام الأشهر الحرم
و المنصوص عن أحمد أنه
لا يصومه بتمامه إلا من صام الدهر و روي عن
ابن عمر ما يدل عليه فإنه بلغه أن قوما أنكروا عليه أنه حرم صوم رجب فقال
: كيف بمن يصوم الدهر و هذا يدل على : أنه لا يصام رجب إلا مع صوم الدهر و
روى يوسف بن عطية [ عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عائشة : أن النبي صلى
الله عليه و سلم لم يصم بعد رمضان إلا رجبا و شعبان ]
و يوسف ضعيف
جدا و روى أبو يوسف القاضي [ عن ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن
بن أبي ليلى عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر
ثلاثة أيام و ربما أخر ذلك حتى يقضيه في رجب و شعبان ] ورواه عمرو بن أبي
قيس عن ابن أبي ليلى فلم يذكر فيه رجبا و هو أصح
و أما الزكاة فقد
اعتاد أهل هذه البلاد إخراج الزكاة في شهر رجب و لا أصل لذلك في السنة و
لا عرف عن أحد من السلف و لكن روي عن عثمان أنه خطب الناس على المنبر فقال
: إن هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه و ليزك ما بقي خرجه مالك
في الموطأ و قد قيل : إن ذلك الشهر الذي كانوا يخرجون فيه زكاتهم نسي و لم
يعرف و قيل : بل كان شهر المحرم لأنه رأس الحول و قد ذكر الفقهاء من
أصحابنا و غيرهم أن الإمام يبعث سعاته لأخذ الزكاة في المحرم و قيل بل كان
شهر رمضان لفضله و فضل الصدقة فيه و بكل حال فإنما تجب الزكاة إذا تم
الحول على النصاب فكل أحد له حول يخصه بحسب وقت ملكه للنصاب فإذا تم حوله
وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان فإن عجل زكاته قبل الحول أجزأه عند
جمهور العلماء و سواء كان تعجيله لاغتنام زمان فاضل أو لاغتنام الصدقة على
من لا يجد مثله في الحاجة أو كان لمشقة إخراج الزكاة عليه عند تمام الحول
جملة فيكون التفريق في طول الحول أرفق به و قد صرح مجاهد بجواز التعجيل
على هذا الوجه و هو مقتضى إطلاق الأكثرين و خالف في هذه الصورة اسحاق نقله
عنه ابن منصور و أما إذا حال الحول فليس له التأخير بعد ذلك عند الأكثرين
و عن أحمد يجوز تأخيرها لانتظار قوم لا يجد مثلهم في الحاجة و أجاز مالك و
أحمد في رواية نقلها إلى بلد فاضل فعلى قياس هذا لا يبعد جواز تأخيرها إلى
زمان فاضل لا يوجد مثله كرمضان و نحوه و روى يزيد الرقاشي عن أنس : أن
المسلمين كانوا يخرجون زكاتهم في شعبان تقوية على الإستعداد لرمضان و في
الإسناد ضعف
و أما الإعتمار في رجب فقد [ روى ابن عمر رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم اعتمر في رجب فأنكرت ذلك عائشة عليه و
هو يسمع فسكت ] و استحب الإعتمار في رجب عمر بن الخطاب و غيره و كانت
عائشة تفعله و ابن عمر أيضا و نقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه
فإن أفضل الانساك أن يؤتى بالحج في سفرة و العمرة في سفرة أخرى في غير
أشهر الحج و ذلك جملة إتمام الحج و العمرة المأمور به كذلك قاله جمهور
الصحابة : كعمر و عثمان و علي و غيرهم
و قد روي : أنه في شهر رجب
حوادث عظيمة و لم يصح شيء من ذلك فروي : أن النبي صلى الله عليه و سلم ولد
في أول ليلة منه و أنه بعث في السابع و العشرين منه و قيل : في الخامس و
العشرين و لا يصح شيء من ذلك و روى بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد : أن
الإسراء بالنبي صلى الله عليه و سلم كان في سابع و عشرين من رجب و انكر
ذلك إبراهيم الحربي و غيره و روي عن قيس بن عباد قال : في اليوم العاشر من
رجب : { يمحو الله ما يشاء و يثبت } و كان أهل الجاهلية يتحرون الدعاء فيه
على الظالم و كان يستجاب لهم و لهم في ذلك أخبار مشهورة قد ذكرها ابن أبي
الدنيا في كتاب مجاب الدعوة و غيره و قد ذكر ذلك لعمر بن الخطاب فقال عمر
: إن الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض و إن الله جعل الساعة
موعدهم و الساعة أدهى و أمر و روى زائدة بن أبي الرقاد [ عن زياد التميمي
عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل رجب قال : اللهم
بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان ] و روي عن أبي إسماعيل الأنصاري
أنه قال : لم يصح في فضل رجب غير هذا الحديث و في قوله نظر فإن هذا
الإسناد فيه ضعف و في هذا الحديث دليل على استحباب الدعاء بالبقاء إلى
الأزمان الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها فإن المؤمن لا يزيده عمره
إلا خيرا و خير الناس من طال عمره و حسن عمله و كان السلف يستحبون أن
يموتوا عقب عمل صالح من صوم رمضان أو رجوع من حج و كان يقال : من مات كذلك
غفر له كان بعض العلماء الصالحين قد مرض قبل شهر رجب فقال : إني دعوت الله
أن يؤخر وفاتي إلى شهر رجب فإنه بلغني أن لله فيه عتقاء فبلغه الله ذلك و
مات في شهر رجب
شهر رجب مفتاح أشهر الخير و البركة قال أبو بكر
الوراق البلخي : شهر رجب شهر للزرع و شعبان شهر السقي للزرع و رمضان شهر
حصاد الزرع و عنه قال : مثل شهر رجب مثل الريح و مثل شعبان مثل الغيم و
مثل رمضان مثل القطر و قال بعضهم : السنة مثل الشجرة و شهر رجب أيام
توريقها و شعبان أيام تفريعها و رمضان أيام قطفها و المؤمنون قطافها جدير
بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر و بمن ضيع عمره في
البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر
( بيض صحيفتك السوداء في رجب ... بصالح العمل المنجي من اللهب )
( شهر حرام أتي من أشهر حرم ... إذا دعا الله داع فيه لم يخب )
( طوبى لعبد زكى فيه له عمل ... فكف فيه عن الفحشاء و الريب )
انتهاز الفرصة بالعمل في هذا الشهر غنيمة و اغتنام أوقاته بالطاعات له
فضيلة عظيمة
( يا عبد أقبل منيبا و اغتنم رجبا ... فإن عفوي عمن تاب قد وجبا )
( في هذه الأشهر الأبواب قد فتحت ... للتائبين فكل نحونا هربا )
( حطوا الركائب في أبواب رحمتنا ... بحسن ظن فكل نال ما طلبا )
( و قد نثرنا عليهم من تعطفنا ... نثار حسن قبول فاز من نهبا )
وظائف شهر شعبان و يشتمل على مجالس ـ المجلس الأول في صيامه
خرج الإمام أحمد و النسائي [ من حديث أسامة بن زيد قال : كان رسول الله
صلى الله عليه و سلم يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر و يفطر الأيام حتى
لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه و إلا صامهما و لم يكن
يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان فقلت يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد
تفطر و تفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك و إلا صمتهما ؟
قال : أي يومين قلت : يوم الإثنين و يوم الخميس قال : ذانك يومان تعرض
فيهما الأعمال على رب العالمين و أحب أن يعرض عملي و أنا صائم قلت : و لم
أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال : ذاك شهر يغفل الناس عنه بين
رجب و رمضان و هو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز و جل فأحب أن
يرفع عملي و أنا صائم ] قد تضمن هذا الحديث ذكر صيام رسول الله صلى الله
عليه و سلم من جميع السنة و صيامه من أيام الأسبوع و صيامه من شهور السنة
فأما صيامه من السنة فكان يسرد الصوم أحيانا و الفطر أحيانا فيصوم حتى
يقال : لا يفطر و يفطر حتى يقال : لا يصوم
و قد روي ذلك أيضا عن
عائشة و ابن عباس و أنس و غيرهم ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها
قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم حتى نقول لا يفطر و يفطر
حتى نقول لا يصوم ] و فيهما [ عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم يصوم إذا صام حتى يقول القائل : لا و الله لا يفطر و يفطر إذا
فطر حتى يقول القائل : لا و الله لا يصوم ] و فيهما [ عن أنس أنه سئل عن
صيام النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما
إلا رأيته و لا مفطرا إلا رأيته و لا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما
إلا رأيته ] و لمسلم [ عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم
حتى يقال : قد صام قد صام و يفطر حتى يقال : قد أفطر قد أفطر ]
و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ينكر على من يسرد صوم الدهر و
لا يفطر منه و يخبر عن نفسه : أنه لا يفعل ذلك ]
ففي الصحيحين [ عن عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
له : أتصوم النهار و تقوم الليل ؟ قال : نعم فقال النبي صلى الله عليه و
سلم : لكني أصوم و أفطر و أصلي و أنام و أمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس
مني ]
و فيهما [ عن أنس : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و
سلم قال بعضهم : لا أتزوج النساء و قال بعضهم : لا آكل اللحم و قال بعضهم
: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فخطب و قال : ما
بال أقوام يقولون كذا و كذا لكني أصلي و أنام و أصوم و أفطر و أتزوج
النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] و خرجه النسائي و زاد فيه : و قال
بعضهم : أصوم و لا أفطر و في مسند الإمام أحمد [ عن رجل من الصحابة قال :
ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم مولاة لبني عبد المطلب فقيل : إنها
قامت الليل و تصوم النهار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لكني أنا أنام
و أصلي و أصوم و أفطر فمن اقتدى بي فهو مني و من رغب عن سنتي فليس مني إن
لكل عمل شدة و فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل و من كانت فترته إلى
سنة فقد اهتدى ] و في المسند و سنن أبي داود [ عن عائشة رضي الله عنها أن
عثمان بن مظعون أراد التبتل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم :
أترغب عن سنتي ؟ قال : لا و الله و لكن سنتك أريد قال : فإني أنام و أصلي
و أصوم و أفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا و إن
لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم و افطر وصل و نم ]
و قد قال
عكرمة و غيره : إن عثمان بن مظعون و علي بن أبي طالب و المقداد و سالما
مولى أبي حذيفة في جماعة تبتلوا فجلسوا في البيوت و اعتزلوا النساء و
حرموا طيبات الطعام و اللباس إلا ما يأكل و يلبس أهل السياحة من بني
إسرائيل و هموا بالإختصاء و أجمعوا لقيام الليل و صيام النهار فنزلت فيهم
: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا إن
الله لا يحب المعتدين }
و في صحيح البخاري [ أن سلمان زار أبا
الدرداء و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد آخى بينهما فرأى أم الدرداء
متبذلة فقال : ما شأنك متبذلة ؟ فقالت : إن أخاك أبا الدرداء لا حاجة له
في الدنيا فلما جاء أبو الدرداء قرب له طعاما قال له : كل فقال إني صائم
فقال : ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم
فقال له سلمان : نم ثم ذهب ليقوم فقال له : نم فلما كان من آخر الليل قال
سلمان : قم الآن فقاما فصليا فقال سلمان : إن لنفسك عليك حقا و إن لضيفك
عليك حقا و إن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتيا النبي صلى الله
عليه و سلم فذكروا ذلك له فقال : صدق سلمان ] و في رواية في غير الصحيح
قال : [ ثكلت سلمان أمه لقد أشبع من العلم ] و هكذا قال النبي صلى الله
عليه و سلم لعبد الله بن عمرو بن العاص لما كان يصوم الدهر فنهاه و أمره
أن يصوم صوم داود يصوم يوما و يفطر يوما و قال له : لا أفضل من ذلك و قد
ورد النهي عن صيام الدهر و التشديد فيه و هذا كله يدل على أن أفضل الصيام
أن لا يستدام بل يعاقب بينه و بين الفطر و هذا هو الصحيح من قولي العلماء
و هو مذهب أحمد و غيره و قيل لعمر : إن فلانا يصوم الدهر فجعل يقرع رأسه
بقناة معه و يقول : كل يا دهر كل يا دهر خرجه عبد الرزاق
و يتعلق بشهر رجب أحكام كثيرة فمنها ما كان في الجاهلية و اختلف العلماء
في استمراره في الإسلام كالقتال و قد سبق ذكره و كالذبائح فإنهم كانوا في
الجاهلية يذبحون ذبيحة يسمونها العتيرة و اختلف العلماء في حكمها في
الإسلام فالأكثرون على أن الإسلام أبطلها و في الصحيحين [ عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا فرع و لا عتيرة ] و
منهم من قال : بل هي مستحبة منهم ابن سيرين و حكاه الإمام أحمد عن أهل
البصرة و رجحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين و نقل حنبل عن أحمد نحوه و
في سنن أبي داود و النسائي و ابن ماجة [ عن خنف بن سليم الغامدي أن النبي
صلى الله عليه و سلم قال بعرفة : إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية أو
عتيرة ] و هي التي يسمونها الرجبية و في النسائي [ عن نبيشة أنهم قالوا :
يا رسول الله إنا كنا نعتر في الجاهلية يعني في رجب ؟ قال : اذبحوا لله في
أي شهر كان و بروا لله و أطعموا ] و روى الحرث بن عمرو : [ أن النبي صلى
الله عليه و سلم سئل عن الفرع و العتائر ؟ فقال : من شاء فرع و من شاء لم
يفرع و من شاء عتر و من شاء لم يعتر ] و في حديث آخر قال : [ العتيرة حق ]
و في النسائي [ عن أبي رزين قال : قلت يا رسول الله كنا نذبح ذبائح في
الجاهلية يعني في رجب فنأكل و نطعم من جاءنا ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : لا بأس به ] و خرج الطبراني بإسناده [ عن ابن عباس قال :
استأذنت قريش رسول الله صلى الله عليه و سلم في العتيرة ؟ فقال : اعتر
كعتر الجاهلية و لكن من أحب منكم أن يذبح لله فيأكل و يتصدق فليفعل ]
وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث و بين حديث : [ لا فرع و لا عتيرة ] بأن
المنهي عنه هو ما كان يفعله أهل الجاهلية من الذبح لغير الله و حمله سفيان
بن عيينة على أن المراد به نفي الوجوب و من العلماء من قال : حديث أبي
هريرة أصح من هذه الأحاديث و أثبت فيكون العمل عليها دونها و هذه طريقة
الإمام أحمد و روى مبارك بن فضالة عن الحسن قال : ليس في الإسلام عتيرة
إنما كانت العتيرة في الجاهلية كان أحدهم يصوم رجب و يعتر فيه و يشبه
الذبح في رجب اتخاذه موسما و عيدا كأكل الحلوى و نحوها و قد روي عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره أن يتخذ رجب عيدا و روى عبد الرزاق [ عن
ابن جريج عن عطاء قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم ينهى عن صيام رجب
كله لئلا يتخذ عيدا ] و [ عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : لا تتخذوا شهرا عيدا و لا يوما عيدا ] و أصل
هذا : أنه لا يشرع أن يتخذ المسلمون عيدا إلا ما جاءت الشريعة باتخاذه
عيدا و هو يوم الفطر و يوم الأضحى و أيام التشريق و هي أعياد العام و يوم
الجمعة و هو عيد الأسبوع و ما عدا ذلك فاتخاذه عيدا و موسما بدعة لا أصل
له في الشريعة
و من أحكام رجب ما ورد فيه من الصلاة و الزكاة و
الصيام و الإعتمار فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به و
الأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب و
باطل لا تصح و هذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء و من ذكر ذلك من أعيان
العلماء المتأخرين من الحفاظ أبو إسماعيل الأنصاري و أبو بكر بن السمعاني
و أبو الفضل بن ناصر و أبو الفرج بن الجوزي و غيرهم إنما لم يذكرها
المتقدمون لأنها أحدثت بعدهم و أول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم
يعرفها المتقدمون و لم يتكلموا فيها و أما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب
بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و لكن روي عن أبي
قلابة قال : في الجنة قصر لصوام رجب قال البيهقي : أبو قلابة من كبار
التابعين لا يقول مثله إلا عن بلاغ و إنما ورد في صيام الأشهر الحرم كلها
[ حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها : أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال له : صم من الحرم و اترك قالها ثلاثا ] خرجه أبو داود و غيره و خرجه
ابن ماجة و عنده : [ صم أشهر الحرم ] و قد كان بعض السلف يصوم الأشهر
الحرم كلها منهم ابن عمر و الحسن البصري و أبو اسحاق السبيعي و قال الثوري
: الأشهر الحرم أحب إلي أن أصوم فيها و جاء في حديث خرجه ابن ماجة [ أن
أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه و
سلم : صم شوالا ] فترك أشهر الحرم و صام شوالا حتى مات و في إسناده انقطاع
و خرج ابن ماجة أيضا بإسناد فيه ضعف [ عن ابن عباس : أن النبي صلى الله
عليه و سلم نهى عن صيام رجب ] و الصحيح وقفه على ابن عباس و رواه عطاء عن
النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا و قد سبق لفظه و روى عبد الرزاق في كتابه
[ عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم : ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم
قوم يصومون رجبا فقال : أين هم من شعبان ] و روى أزهر بن سعيد الجمحي عن
أمه أنها سألت عائشة عن صوم رجب فقالت : إن كنت صائمة فعليك بشعبان و روي
مرفوعا و وقفه أصح و روي عن عمر رضي الله عنه : أنه كان يضرب أكف الرجال
في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام و يقول : ما رجب ؟ إن رجبا كان يعظمه أهل
الجاهلية فلما كان الإسلام ترك و في رواية كره أن يكون صيامه سنة و عن أبي
بكرة : أنه رأى أهله يتهيأون لصيام رجب فقال لهم أجعلتم رجب كرمضان و ألقى
السلال و كسر الكيزان
و عن ابن عباس : أنه كره أن يصام رجب كله و عن
ابن عمر و ابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياما و كرهه أنس أيضا و
سعيد بن جبير و كره صيام رجب كله يحيى بن سعيد الأنصاري و الإمام أحمد و
قال : يفطر منه يوما أو يومين و حكاه عن ابن عمر و ابن عباس و قال الشافعي
في القديم : أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان و احتج
بحديث عائشة : [ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل شهرا قط
إلا رمضان ] قال : و كذلك يوما من بين الأيام و قال : إنما كرهته أن لا
يتأسى رجل جاهل فيظن أن ذلك واجب و إن فعل فحسن و تزول كراهة إفراد رجب
بالصوم بأن يصوم معه شهر آخر تطوعا عند بعض أصحابنا مثل أن يصوم الأشهر
الحرم أو يصوم رجب و شعبان و قد تقدم عن ابن عمر و غيره صيام الأشهر الحرم
و المنصوص عن أحمد أنه
لا يصومه بتمامه إلا من صام الدهر و روي عن
ابن عمر ما يدل عليه فإنه بلغه أن قوما أنكروا عليه أنه حرم صوم رجب فقال
: كيف بمن يصوم الدهر و هذا يدل على : أنه لا يصام رجب إلا مع صوم الدهر و
روى يوسف بن عطية [ عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عائشة : أن النبي صلى
الله عليه و سلم لم يصم بعد رمضان إلا رجبا و شعبان ]
و يوسف ضعيف
جدا و روى أبو يوسف القاضي [ عن ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن
بن أبي ليلى عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر
ثلاثة أيام و ربما أخر ذلك حتى يقضيه في رجب و شعبان ] ورواه عمرو بن أبي
قيس عن ابن أبي ليلى فلم يذكر فيه رجبا و هو أصح
و أما الزكاة فقد
اعتاد أهل هذه البلاد إخراج الزكاة في شهر رجب و لا أصل لذلك في السنة و
لا عرف عن أحد من السلف و لكن روي عن عثمان أنه خطب الناس على المنبر فقال
: إن هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه و ليزك ما بقي خرجه مالك
في الموطأ و قد قيل : إن ذلك الشهر الذي كانوا يخرجون فيه زكاتهم نسي و لم
يعرف و قيل : بل كان شهر المحرم لأنه رأس الحول و قد ذكر الفقهاء من
أصحابنا و غيرهم أن الإمام يبعث سعاته لأخذ الزكاة في المحرم و قيل بل كان
شهر رمضان لفضله و فضل الصدقة فيه و بكل حال فإنما تجب الزكاة إذا تم
الحول على النصاب فكل أحد له حول يخصه بحسب وقت ملكه للنصاب فإذا تم حوله
وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان فإن عجل زكاته قبل الحول أجزأه عند
جمهور العلماء و سواء كان تعجيله لاغتنام زمان فاضل أو لاغتنام الصدقة على
من لا يجد مثله في الحاجة أو كان لمشقة إخراج الزكاة عليه عند تمام الحول
جملة فيكون التفريق في طول الحول أرفق به و قد صرح مجاهد بجواز التعجيل
على هذا الوجه و هو مقتضى إطلاق الأكثرين و خالف في هذه الصورة اسحاق نقله
عنه ابن منصور و أما إذا حال الحول فليس له التأخير بعد ذلك عند الأكثرين
و عن أحمد يجوز تأخيرها لانتظار قوم لا يجد مثلهم في الحاجة و أجاز مالك و
أحمد في رواية نقلها إلى بلد فاضل فعلى قياس هذا لا يبعد جواز تأخيرها إلى
زمان فاضل لا يوجد مثله كرمضان و نحوه و روى يزيد الرقاشي عن أنس : أن
المسلمين كانوا يخرجون زكاتهم في شعبان تقوية على الإستعداد لرمضان و في
الإسناد ضعف
و أما الإعتمار في رجب فقد [ روى ابن عمر رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم اعتمر في رجب فأنكرت ذلك عائشة عليه و
هو يسمع فسكت ] و استحب الإعتمار في رجب عمر بن الخطاب و غيره و كانت
عائشة تفعله و ابن عمر أيضا و نقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه
فإن أفضل الانساك أن يؤتى بالحج في سفرة و العمرة في سفرة أخرى في غير
أشهر الحج و ذلك جملة إتمام الحج و العمرة المأمور به كذلك قاله جمهور
الصحابة : كعمر و عثمان و علي و غيرهم
و قد روي : أنه في شهر رجب
حوادث عظيمة و لم يصح شيء من ذلك فروي : أن النبي صلى الله عليه و سلم ولد
في أول ليلة منه و أنه بعث في السابع و العشرين منه و قيل : في الخامس و
العشرين و لا يصح شيء من ذلك و روى بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد : أن
الإسراء بالنبي صلى الله عليه و سلم كان في سابع و عشرين من رجب و انكر
ذلك إبراهيم الحربي و غيره و روي عن قيس بن عباد قال : في اليوم العاشر من
رجب : { يمحو الله ما يشاء و يثبت } و كان أهل الجاهلية يتحرون الدعاء فيه
على الظالم و كان يستجاب لهم و لهم في ذلك أخبار مشهورة قد ذكرها ابن أبي
الدنيا في كتاب مجاب الدعوة و غيره و قد ذكر ذلك لعمر بن الخطاب فقال عمر
: إن الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض و إن الله جعل الساعة
موعدهم و الساعة أدهى و أمر و روى زائدة بن أبي الرقاد [ عن زياد التميمي
عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل رجب قال : اللهم
بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان ] و روي عن أبي إسماعيل الأنصاري
أنه قال : لم يصح في فضل رجب غير هذا الحديث و في قوله نظر فإن هذا
الإسناد فيه ضعف و في هذا الحديث دليل على استحباب الدعاء بالبقاء إلى
الأزمان الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها فإن المؤمن لا يزيده عمره
إلا خيرا و خير الناس من طال عمره و حسن عمله و كان السلف يستحبون أن
يموتوا عقب عمل صالح من صوم رمضان أو رجوع من حج و كان يقال : من مات كذلك
غفر له كان بعض العلماء الصالحين قد مرض قبل شهر رجب فقال : إني دعوت الله
أن يؤخر وفاتي إلى شهر رجب فإنه بلغني أن لله فيه عتقاء فبلغه الله ذلك و
مات في شهر رجب
شهر رجب مفتاح أشهر الخير و البركة قال أبو بكر
الوراق البلخي : شهر رجب شهر للزرع و شعبان شهر السقي للزرع و رمضان شهر
حصاد الزرع و عنه قال : مثل شهر رجب مثل الريح و مثل شعبان مثل الغيم و
مثل رمضان مثل القطر و قال بعضهم : السنة مثل الشجرة و شهر رجب أيام
توريقها و شعبان أيام تفريعها و رمضان أيام قطفها و المؤمنون قطافها جدير
بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر و بمن ضيع عمره في
البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر
( بيض صحيفتك السوداء في رجب ... بصالح العمل المنجي من اللهب )
( شهر حرام أتي من أشهر حرم ... إذا دعا الله داع فيه لم يخب )
( طوبى لعبد زكى فيه له عمل ... فكف فيه عن الفحشاء و الريب )
انتهاز الفرصة بالعمل في هذا الشهر غنيمة و اغتنام أوقاته بالطاعات له
فضيلة عظيمة
( يا عبد أقبل منيبا و اغتنم رجبا ... فإن عفوي عمن تاب قد وجبا )
( في هذه الأشهر الأبواب قد فتحت ... للتائبين فكل نحونا هربا )
( حطوا الركائب في أبواب رحمتنا ... بحسن ظن فكل نال ما طلبا )
( و قد نثرنا عليهم من تعطفنا ... نثار حسن قبول فاز من نهبا )
خرج الإمام أحمد و النسائي [ من حديث أسامة بن زيد قال : كان رسول الله
صلى الله عليه و سلم يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر و يفطر الأيام حتى
لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه و إلا صامهما و لم يكن
يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان فقلت يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد
تفطر و تفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك و إلا صمتهما ؟
قال : أي يومين قلت : يوم الإثنين و يوم الخميس قال : ذانك يومان تعرض
فيهما الأعمال على رب العالمين و أحب أن يعرض عملي و أنا صائم قلت : و لم
أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال : ذاك شهر يغفل الناس عنه بين
رجب و رمضان و هو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز و جل فأحب أن
يرفع عملي و أنا صائم ] قد تضمن هذا الحديث ذكر صيام رسول الله صلى الله
عليه و سلم من جميع السنة و صيامه من أيام الأسبوع و صيامه من شهور السنة
فأما صيامه من السنة فكان يسرد الصوم أحيانا و الفطر أحيانا فيصوم حتى
يقال : لا يفطر و يفطر حتى يقال : لا يصوم
و قد روي ذلك أيضا عن
عائشة و ابن عباس و أنس و غيرهم ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها
قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم حتى نقول لا يفطر و يفطر
حتى نقول لا يصوم ] و فيهما [ عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم يصوم إذا صام حتى يقول القائل : لا و الله لا يفطر و يفطر إذا
فطر حتى يقول القائل : لا و الله لا يصوم ] و فيهما [ عن أنس أنه سئل عن
صيام النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما
إلا رأيته و لا مفطرا إلا رأيته و لا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما
إلا رأيته ] و لمسلم [ عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم
حتى يقال : قد صام قد صام و يفطر حتى يقال : قد أفطر قد أفطر ]
و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ينكر على من يسرد صوم الدهر و
لا يفطر منه و يخبر عن نفسه : أنه لا يفعل ذلك ]
ففي الصحيحين [ عن عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
له : أتصوم النهار و تقوم الليل ؟ قال : نعم فقال النبي صلى الله عليه و
سلم : لكني أصوم و أفطر و أصلي و أنام و أمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس
مني ]
و فيهما [ عن أنس : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و
سلم قال بعضهم : لا أتزوج النساء و قال بعضهم : لا آكل اللحم و قال بعضهم
: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فخطب و قال : ما
بال أقوام يقولون كذا و كذا لكني أصلي و أنام و أصوم و أفطر و أتزوج
النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] و خرجه النسائي و زاد فيه : و قال
بعضهم : أصوم و لا أفطر و في مسند الإمام أحمد [ عن رجل من الصحابة قال :
ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم مولاة لبني عبد المطلب فقيل : إنها
قامت الليل و تصوم النهار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لكني أنا أنام
و أصلي و أصوم و أفطر فمن اقتدى بي فهو مني و من رغب عن سنتي فليس مني إن
لكل عمل شدة و فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل و من كانت فترته إلى
سنة فقد اهتدى ] و في المسند و سنن أبي داود [ عن عائشة رضي الله عنها أن
عثمان بن مظعون أراد التبتل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم :
أترغب عن سنتي ؟ قال : لا و الله و لكن سنتك أريد قال : فإني أنام و أصلي
و أصوم و أفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا و إن
لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم و افطر وصل و نم ]
و قد قال
عكرمة و غيره : إن عثمان بن مظعون و علي بن أبي طالب و المقداد و سالما
مولى أبي حذيفة في جماعة تبتلوا فجلسوا في البيوت و اعتزلوا النساء و
حرموا طيبات الطعام و اللباس إلا ما يأكل و يلبس أهل السياحة من بني
إسرائيل و هموا بالإختصاء و أجمعوا لقيام الليل و صيام النهار فنزلت فيهم
: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا إن
الله لا يحب المعتدين }
و في صحيح البخاري [ أن سلمان زار أبا
الدرداء و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد آخى بينهما فرأى أم الدرداء
متبذلة فقال : ما شأنك متبذلة ؟ فقالت : إن أخاك أبا الدرداء لا حاجة له
في الدنيا فلما جاء أبو الدرداء قرب له طعاما قال له : كل فقال إني صائم
فقال : ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم
فقال له سلمان : نم ثم ذهب ليقوم فقال له : نم فلما كان من آخر الليل قال
سلمان : قم الآن فقاما فصليا فقال سلمان : إن لنفسك عليك حقا و إن لضيفك
عليك حقا و إن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتيا النبي صلى الله
عليه و سلم فذكروا ذلك له فقال : صدق سلمان ] و في رواية في غير الصحيح
قال : [ ثكلت سلمان أمه لقد أشبع من العلم ] و هكذا قال النبي صلى الله
عليه و سلم لعبد الله بن عمرو بن العاص لما كان يصوم الدهر فنهاه و أمره
أن يصوم صوم داود يصوم يوما و يفطر يوما و قال له : لا أفضل من ذلك و قد
ورد النهي عن صيام الدهر و التشديد فيه و هذا كله يدل على أن أفضل الصيام
أن لا يستدام بل يعاقب بينه و بين الفطر و هذا هو الصحيح من قولي العلماء
و هو مذهب أحمد و غيره و قيل لعمر : إن فلانا يصوم الدهر فجعل يقرع رأسه
بقناة معه و يقول : كل يا دهر كل يا دهر خرجه عبد الرزاق
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الحكمة في النهي عن صيام الدهر
و قد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى الحكمة في ذلك من وجوه : منها :
قوله صلى الله عليه و سلم في صيام الدهر : [ لا صام و لا أفطر ] يعني أنه
لا يجد مشقة الصيام و لا فقد الطعام و الشراب و الشهوة لأنه صار الصيام له
عادة مألوفة فربما تضرر بتركه فإذا صام تارة و أفطر أخرى حصل له بالصيام
مقصوده بترك هذه الشهوات و في نفسه داعية إليها و ذلك أفضل من أن يتركها و
نفسه لا تتوق إليها و منها قوله صلى الله عليه و سلم في حق داود عليه
السلام : [ كان يصوم يوما و يفطر يوما و لا يفر إذا لاقى ] يشير إلى أنه
كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه و مجاهدته في سبيل الله و لهذا روي عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأصحابه يوم الفتح و كان في رمضان : [
إن هذا يوم قتال فافطروا ] و كان عمر إذا بعث سرية قال لهم : لا تصوموا
فإن التقوى على الجهاد أفضل من الصوم
فأفضل الصيام أن لا يضعف البدن
حتى يعجز عما هو أفضل منه من القيام بحقوق الله تعالى أو حقوق عباده
اللازمة فإن أضعف عن شيء من ذلك مما هو أفضل منه كان تركه أفضل فالأول :
مثل أن يضعف الصيام عن الصلاة أو عن الذكر أو عن العلم كما قيل في النهي
عن صيام الجمعة و يوم عرفة بعرفة أنه يضعف عن الذكر و الدعاء في هذين
اليومين و كان ابن مسعود يقل الصوم و يقول : إنه يمنعني من قراءة القرآن و
قراءة القرآن أحب إلي فقراءة القرآن أفضل من الصيام نص عليه سفيان الثوري
و غيره من الأئمة و كذلك تعلم العلم النافع و تعليمه أفضل من الصيام و قد
نص الأئمة الأربعة على أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة و الصلاة أفضل
من الصيام المتطوع به فيكون العلم أفضل من الصيام بطريق الأولى فإن العلم
مصباح يستضاء به في ظلمة الجهل و الهوى فمن سار في طريق على غير مصباح لم
يأمن أن يقع في بئر بوار فيعطب قال ابن سيرين : إن قوما تركوا العلم و
اتخذوا محاريب فصلوا و صاموا بغير علم و الله ما عمل أحد بغير علم إلا كان
ما يفسد أكثر مما يصلح و الثاني : مثل أن يضعف الصيام عن الكسب للعيال أو
القيام بحقوق الزوجات فيكون تركه أفضل و إليه الإشارة بقوله صلى الله عليه
و سلم : [ إن لأهلك عليك حقا ]
و منها : ما أشار إليه صلى الله عليه
و سلم بقوله : [ إن لنفسك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه ] يشير إلى أن النفس
وديعة لله عند ابن آدم و هو مأمور أن يقوم بحقها و من حقها اللطف بها حتى
توصل صاحبها إلى المنزل قال الحسن : نفوسكم مطاياكم إلى ربكم فأصلحوا
مطاياكم توصلكم إلى ربكم فمن وفى نفسه حظها من المباح بنية التقوى به على
تقويتها على أعمال الطاعات كان مأجورا في ذلك كما قال معاذ بن جبل : إني
أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي و من قصر في حقها حتى ضعفت و تضررت كان ظالما
و إلى هذا أشار النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لعبد الله بن عمرو بن
العاص : [ إنك إذا فعلت ذلك نفهت له النفس و هجمت له العين ] و معنى نفهت
: كلت و أعيت و معنى هجمت العين : غارت و قال لأعرابي جاءه فأسلم ثم أتاه
من عام قابل و قد تغير فلم يعرفه فلما عرفه سأله عن حاله ؟ قال : [ ما
أكلت بعدك طعاما بنهار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و من أمرك أن
تعذب نفسك ؟ ! ] فمن عذب نفسه بأن حملها ما لا تطيقه من الصيام و نحوه
فربما أثر ذلك في ضعف بدنه و عقله فيفوته من الطاعات الفاضلة أكثر مما
حصله بتعذيبه نفسه بالصيام
و كان النبي صلى الله عليه و سلم : [
يتوسط في إعطاء نفسه حقها و يعدل فيها غاية العدل فيصوم و يفطر و يقوم و
ينام و ينكح النساء و يأكل ما يجد من الطيبات كالحلواء و العسل و لحم
الدجاج و تارة يجوع يربط على بطنه الحجر و قال : عرض علي ربي أن يجعل لي
بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب و لكن أجوع يوما و أشبع يوما فإذا جعت
تضرعت إليك و ذكرتك و إذا شبعت حمدتك و شكرتك ] فاختار لنفسه أفضل الأحوال
ليجمع بين مقامي الشكر و الصبر و الرضا و منها ما أشار إليه بقوله صلى
الله عليه و سلم لعبد الله بن عمر : [ و لعله أن يطول بك حياة ] يعني : أن
من تكلف الإجتهاد في العبادة فقد تحمله قوة الشباب ما دامت باقية فإذا ذهب
الشباب و جاء المشيب و الكبر عجز عن حمل ذلك فإن صابره و جاهد و استمر
فربما هلك بدنه و إن قطع فقد فاته أحب الأعمال إلى الله تعالى و هو
المداومة على العمل و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اكلفوا من
العمل ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا ] و قال صلى الله عليه و
سلم : [ أحب العمل إلى الله أدومه و إن قل ]
فمن عمل عملا يقوى عليه
بدنه في طول عمره في قوته و ضعفه استقام سيره و من حمل ما لا يطيق فإنه قد
يحدث له مرض يمنعه من العمل بالكلية و قد يسأم و يضجر فيقطع العمل فيصير
كالمنبت لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى و أما صيام النبي صلى الله عليه و سلم
من الأيام أعني أيام الأسبوع فكان يتحرى صيام الاثنين و الخميس و كذا روي
[ عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى صيام
الإثنين و الخميس ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه و الترمذي و
حسنه و خرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و
سلم يصوم الإثنين و الخميس فقيل له : يا رسول الله إنك تصوم الإثنين و
الخميس ؟ فقال : إن يوم الإثنين و الخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا
مهتجرين فيقول : دعوهما حتى يصطلحا ] و خرجه الإمام أحمد و عنده : [ أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أكثر ما يصوم الإثنين و الخميس فقيل له
؟ : قال : إن الأعمال تعرض كل اثنين و خميس فيغفر لكل مسلم أو لكل مؤمن
إلا المتهاجرين فيقول : أخرهما ] و خرجه الترمذي و لفظه قال : [ تعرض
الأعمال يوم الإثنين و يوم الخميس فأحب أن يعرض عملي و أنا صائم ] و روي
موقوفا على أبي هريرة و رجح بعضهم وقفه و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة
مرفوعا : تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين و يوم الخميس فيغفر لكل عبد لا
يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه و بين أخيه شحناء يقول : انظروا هذين
حتى يصطلحا ] و يروى بإسناد فيه ضعف [ عن أبي أمامة مرفوعا ترفع الأعمال
يوم الإثنين و يوم الخميس فيغفر للمستغفرين و يترك أهل الحقد بحقدهم ] و
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز و جل : { ما يلفظ من قول إلا
لديه رقيب عتيد } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير و شر حتى أنه ليكتب
قوله : أكلت و شربت و ذهبت و جئت و رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله
و عمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر و ألقى سائره فذلك قوله تعالى :
{ يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب } خرجه ابن أبي حاتم و غيره
فهذا يدل على اختصاص يوم الخميس بعرض الأعمال لا يوجد في غيره و كان
إبراهيم النخعي يبكي إلى امرأته يوم الخميس و تبكي إليه و يقول : اليوم
تعرض أعمالنا على الله عز و جل فهذا عرض خاص في هذين اليومين غير العرض
العام كل يوم فإن ذلك عرض دائم بكرة و عشيا و يدل على ذلك ما في الصحيحين
[ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يتعاقبون فيكم ملائكة
بالليل و ملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح و صلاة العصر فيسأل الذين
باتوا فيكم و هو أعلم : كيف تركتم عبادي فيقولون : أتيناهم و هم يصلون و
تركناهم و هم يصلون ] و في صحيح مسلم [ عن أبي موسى الأشعري قال : قام
فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس كلمات فقال : إن الله لا ينام و
لا ينبغي له أن ينام يخفض القسط و يرفعه يرفع الله عمل الليل قبل النهار و
عمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى
إليه بصره من خلقه ] و يروى عن ابن مسعود قال : إن مقدار كل يوم من أيامكم
عند ربكم اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم
فينظر فيها ثلاث ساعات و ذكر باقيه كان الضحاك يبكي آخر النهار و يقول :
لا أدري ما رفع من عملي يا من عمله معروض على من يعلم السر و أخفى لا
تبهرج فإن الناقد بصير
( السقم على الجسم له ترداد ... و العمر ينقص و الذنوب تزاد )
( ما أبعد شقتي و مالي زاد ... ما أكثر بهرجي و لي نقاد )
و حديث أسامة فيه : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا سرد الفطر
يصوم الإثنين و الخميس ] فدل على مواظبة النبي صلى الله عليه و سلم على
صيامهما و قد كان أسامة يصومهما حضرا و سفرا لهذا و في مسند الإمام أحمد و
سنن النسائي [ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره أن
يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال له : إني أقوى على أكثر من ذلك قال : فصم
من الجمعة يوم الإثنين و الخميس قال : إني أقوى على أكثر من ذلك قال : فصم
صيام داود ]
و في مسند الإمام أحمد من رواية عثمان بن رشيد حدثني
أنس بن سيرين قال : أتينا أنس بن مالك في يوم خميس فدعا بمائدة فدعاهم إلى
الغداء فتغذى بعض القوم و أمسك بعض ثم أتوه يوم الخميس ففعل مثلها فقال
أنس : لعلكم أثنائيون لعلكم خميسيون كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
يصوم حتى يقال : لا يفطر و يفطر حتى يقال : لا يصوم و ظاهر هذا الحديث
يخالف حديث أسامة و أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما كان يصوم الإثنين و
الخميس إذا دخلا في صيامه و لم يكن يتحرى صيامهما في أيام سرد فطره و لكن
عثمان بن رشيد ضعيف ضعفه ابن معين و غيره و حديث أسامة أصح منه و قد روي [
من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة
أيام أول خميس و الإثنين و الإثنين ] و في رواية بالعكس الإثنين و الخميس
و الخميس و أكثر العلماء على استحباب صيام الإثنين و الخميس و روي كراهته
عن أنس بن مالك من غير وجه عنه و كان مجاهد يفعله ثم يتركه و كرهه و كره
أبو جعفر محمد بن علي صيام الإثنين و كرهت طائفة صيام يوم معين كلما مر
بالإنسان روي عن عمران بن حصين و ابن عباس و الشعبي و النخعي ونقله ابن
القاسم عن مالك و قال الشافعي في القديم أكره ذلك قال : و إنما كرهته لئلا
يتأسى جاهل فيظن أن ذلك واجب قال : فإن فعل فحسن يعني على غير اعتقاد
الوجوب
و إنما صيام النبي صلى الله عليه و سلم من أشهر السنة فكان
يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور و في الصحيحين [ عن عائشة رضي
الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل صيام شهر
قط إلا رمضان و ما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان ] زاد البخاري في
رواية : [ كان يصوم شعبان كله ] و لمسلم في رواية : [ كان يصوم شعبان كله
كان يصوم شعبان إلا قليلا ] و في رواية النسائي [ عن عائشة قالت : كان أحب
الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يصوم شعبان كان يصله برمضان
] و عنها و عن أم سلمة قالتا : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم
شعبان إلا قليلا بل كان يصومه كله ] و عن أم سلمة قالت : [ ما رأيت رسول
الله صلى الله عليه و سلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان و رمضان ] و قد
رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك و غيره : أن النبي صلى الله عليه و
سلم لم يستكمل صيام شعبان و إنما كان يصوم أكثره و يشهد له ما في صحيح
مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما علمته تعني النبي صلى الله عليه
و سلم صام شهرا كله إلا رمضان ] و في رواية له أيضا عنها قالت : [ ما
رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان ] و في رواية له
أيضا : أنها قالت : [ لا أعلم نبي الله صلى الله عليه و سلم قرأ القرآن
كله في ليلة و لا صام شهرا كاملا غير رمضان ] و في رواية له أيضا قالت : [
ما رأيته قام ليلة حتى الصباح و لا صام شهرا متتابعا إلا رمضان ] و في
الصحيحين [ عن ابن عباس قال : ما صام رسول الله صلى الله عليه و سلم شهرا
كاملا غير رمضان ] و كان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان و
روى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس بنهى عن
صيام الشهر كاملا و يقول : ليصمه إلا أياما و كان ينهي عن إفراد اليوم
كلما مر به و عن صيام الأيام المعلومة و كان يقول : لا تصم أياما معلومة
فإن قيل : فكيف كان النبي صلى الله عليه و سلم يخص شعبان بصيام التطوع فيه
مع أنه قال : [ أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ؟ ] فالجواب :
أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية لاعتقادهم أن صيام
المحرم و الأشهر الحرم أفضل من شعبان كما صرح به الشافعية و غيرهم و
الأظهر خلاف ذلك و أن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم و يدل على ذلك
ما خرجه الترمذي [ من حديث أنس سئل النبي صلى الله عليه و سلم : أي الصيام
أفضل بعد رمضان ؟ قال : شعبان تعظيما لرمضان ] و في إسناده مقال و في سنن
ابن ماجة : [ أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله
عليه و سلم : صم شوالا ] فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالا حتى مات و في
إسناده إرسال و قد روي من وجه آخر يعضده فهذا نص في تفضيل صيام شوال على
صيام الأشهر الحرم و إنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده كما أن شعبان
يليه من قبله و شعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه و سلم له دون شوال
فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق
الأولى فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله و بعده و ذلك
يلتحق بصيام رمضان لقربه منه و تكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن
الرواتب مع الفرائض قبلها و بعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل و هي تكملة
لنقص الفرائض و كذلك صيام ما قبل رمضان و بعده فكما أن السنن الرواتب أفضل
من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك صيام ما قبل رمضان و بعده أفضل من صيام ما
بعد منه و يكون قوله صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام بعد رمضان
المحرم ] : محمولا على التطوع المطلق بالصيام فأما ما قبل رمضان و بعده
فإن يلتحق في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث [ و أفضل الصلاة بعد
المكتوبة : قيام الليل ] إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق
دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية و الله أعلم فإن
قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام صيام داود كان
يصوم يوما و يفطر يوما ] و لم يصم كذلك بل كان يصوم سردا و يفطر سردا و
يصوم شعبان و كل اثنين و خميس ؟ قيل : صيام داود الذي فضله النبي صلى الله
عليه و سلم على الصيام قد فسره النبي صلى الله عليه و سلم في حديث آخر
بأنه صوم شطر الدهر و كان صيام النبي صلى الله عليه و سلم إذا جمع يبلغ
نصف الدهر أو يزيد عليه و قد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع
ذي الحجة و إنما كان يفرق صيامه و لا يصوم يوما و يفطر يوما لأنه كان
يتحرى صيام الأوقات الفاضلة و لا يضر تفريق الصيام و الفطر أكثر من يوم و
يوم إذا كان القصد به التقوى على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة و
تبليغها و الجهاد عليها و القيام بحقوقها فكان صيام يوم و فطر يوم يضعفه
عن ذلك و لهذا سئل النبي صلى الله عليه و سلم في [ حديث أبي قتادة عمن
يصوم يوما و يفطر يومين ؟ قال : وددت أني طوقت ذلك ] و قد كان عبد الله بن
عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام ثم يعود
فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي صلى الله عليه و سلم من صيام
شطر الدهر فحصل للنبي صلى الله عليه و سلم أجر صيام شطر الدهر و أزيد منه
بصيامه المتفرق و حصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك و إنما عاقه عنه
الإشتغال بما هو أهم منه و أفضل و الله أعلم و قد ظهر بما ذكرناه وجه صيام
النبي صلى الله عليه و سلم لشعبان دون غيره من الشهور و فيه معان أخر : و
قد ذكر منها النبي في [ حديث أسامة معنيين : أحدهما : أنه شهر يغفل الناس
عنه بين رجب و رمضان ] يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام
و شهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه و كثير من الناس يظن
أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام و ليس كذلك و روى ابن وهب قال :
[ حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت : ذكر لرسول
الله ناس يصومون رجبا ؟ فقال : فأين هم عن شعبان ] و في قوله : [ يغفل
الناس عنه بين رجب و رمضان ] إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان
أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا
يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه و يفوتون تحصيل فضيلة ما ليس
بمشهور عندهم و فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة و أن
ذلك محبوب لله عز و جل كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين
العشاءين بالصلاة و يقولون : هي ساعة غفلة و لذلك فضل القيام في وسط الليل
المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر و قد قال النبي صلى الله عليه و
سلم : [ إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن ] و لهذا
المعنى كان النبي صلى الله عليه و سلم يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل
و إنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس و لما خرج على أصحابه و هم
ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم : [ ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم ] و
في هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه
ذاكر له و لهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع و
الآثار الموقوفة حتى قال أبو صالح : إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق و
سبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة و في [ حديث أبي ذر
المرفوع : ثلاثة يحبهم الله قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم
مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام أحدهم يتملقني و يتلو آياتي و قوم كانوا
في سرية فانهزموا فتقدم أحدهم فلقي العدو فصبر حتى قتل و ذكر أيضا قوما
جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه فانفرد أحدهم حتى أعطاه سرا ] فهؤلاء الثلاثة
انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سرا بينهم و بينه فأحبهم الله فكذلك من
يذكر الله في غفلة الناس أو من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام
و
في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد : منها : أنه يكون أخفى و إخفاء
النوافل و إسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد و ربه و لهذا
قيل : إنه ليس فيه رياء و قد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان
يخرج من بيته إلى سوقه و معه رغيفان فيتصدق بهما و يصوم فيظن أهله أنه
أكلهما و يظن أهل السوق أنه أكل في بيته و كانوا يستحبون لمن صام أن يظهر
ما يخفي به صيامه فعن ابن مسعود : أنه قال : إذا أصبحتم صياما فأصبحوا
مدهنين و قال قتادة : يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام و
قال أبو التياح : أدركت أبي و مشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن و لبس صالح
ثيابه و يروى أن عيسى بن مريم عليه السلام قال : ( إذا كان يوم صوم أحدكم
فليدهن لحيته و ليمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر الناظر إليه فيرى أنه ليس
بصائم ) اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يجتهد في إظهار فطره للناس
حتى كان يقوم يوم الجمعة و الناس مجتمعون في مسجد الجامع فيأخذ إبريقا
فيضع بلبلته في فيه و يمصه و لا يزدرد منه شيئا و يبقى ساعة كذلك ينظر
الناس إليه فيظنون أنه يشرب الماء و ما دخل إلى حلقه منه شيء كم ستر
الصادقون أحوالهم و ريح الصدق ينم علهيم ريح الصيام أطيب من ريح المسك
تستنشقه قلوب المؤمنين و إن خفي و كلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه
( كم أكتم حبكم عن الأغيار ... و الدمع يذيع في الهوى أسراري )
( كم أستركم هتكتموا أسراري ... من يخفي في الهوى لهيب النار )
ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه رداءها علانية
( وهبني كتمت السرا و قلت غيره ... أتخفي على أهل القلوب السرائر )
( أبى ذاك أن السر في الوجه ناطق ... و إن بضمير القلب في العين ظاهر )
و منها : أنه أشق على النفوس : و أفضل الأعمال أشقها على النفوس و سبب ذلك
أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس و
طاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات و إذا كثرت
الغفلات و أهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم
لقلة من يقتدون بهم فيها و لهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه و سلم [
للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعوانا و لا يجدون ]
و قال : [ بدأ الإسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ] و في
رواية قيل : [ و من الغرباء : قال الذين يصلحون إذا فسد الناس ] و في صحيح
مسلم [ من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : العباد
في الهرج كالهجرة إلي ] و خرجه الإمام أحمد و لفظه : [ العباد في الفتنة
كالهجرة إلي ] و سبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم و لا
يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من
يتمسك بدينه و يعبد ربه و يتبع مراضيه و يجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر
من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤمنا به متبعا
لأوامره مجتنبا لنواهيه و منها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي و الغفلة
قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم و يدافع عنهم و في حديث ابن
عمر الذي رويناه في جزء ابن عرفة مرفوعا : [ ذاكر الله في الغافلين كالذي
يقاتل عن الفارين و ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر
الذي تحات ورقه من الصرير ـ و الصرير : البرد الشديد ـ و ذاكر الله في
الغافلين يغفر له بعدد كل رطب و يابس و ذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده
في الجنة ] قال بعض السلف : ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة
المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس رأى جماعة من
المتقدمين في منامهم كأن ملائكة نزلت إلى بلاد شتى فقال بعضهم لبعض :
اخسفوا بهذه القرية فقال بعضهم : كيف نخسف بها و فلان قائم يصلي و رأى بعض
المتقدمين في منامه من ينشد و يقول :
( لولا الذين لهم ورد يصلونا ... و آخرون لهم سرد يصومونا )
( لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا ... لأنكم قوم سوء ما تطيعونا )
و في مسند البزار عن أبي هريرة مرفوعا : [ مهلا عن الله مهلا فلولا عباد
ركع و أطفال رضع و بهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا ] و لبعضهم في المعنى :
( لولا عباد للإله ركع ... و صبية من اليتامى رضع )
( و مهملات في الفلاة رتع ... صب عليكم العذاب الموجع )
و قد قيل في تأويل قوله تعالى : { و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الأرض } أنه يدخل فيها دفعة عن العصاة بأهل الطاعة و جاء في الأثر : أن
الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله و ولده و ذريته و من حوله و في بعض
الآثار يقول الله عز و جل : [ أحب العباد إلي المتحابون بجلالي المشاؤن في
الأرض بالنصيحة الماشون على أقدامهم إلى الجمعات ] و في رواية : [
المتعلقة قلوبهم بالمساجد و المستغفرون بالأسحار فإذا أردت إنزال عذاب
بأهل الأرض فنظرت إليهم صرفت العذاب عن الناس ] و قال مكحول : ما دام في
الناس خمسة عشر يستغفر كل منهم كل يوم خمسا و عشرين مرة لم يهلكوا بعذاب
عامة و الآثار في هذا المعنى كثيرة جدا
و قد روي في صيام النبي صلى
الله عليه و سلم شعبان معنى آخر و هو أنه تنسخ فيه الآجال فروي بإسناد فيه
ضعف [ عن عائشة قالت : كان أكثر صيام رسول الله صلى الله عليه و سلم في
شعبان فقلت : يا رسول الله أرى أكثر صيامك في شعبان ؟ قال : إن هذا الشهر
يكتب فيه لملك الموت من يقبض فأنا لا أحب أن ينسخ اسمي إلا و أنا صائم ] و
قد روي مرسلا و قيل : إنه أصح و في حديث آخر مرسل : [ تقطع الآجال من
شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح و يولد له و لقد خرج اسمه في الموتى ]
و روي في ذلك معنى آخر و هو : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان
يصوم من كل شهر ثلاثة أيام و ربما أخر ذلك حتى يقضيه بصوم شعبان ] رواه
ابن أبي ليلة عن أخيه عيسى عن أبيهما عن عائشة رضي الله عنها خرجه
الطبراني و رواه غيره و زاد : قالت عائشة : فربما أردت أن أصوم فلم أطق
حتى إذا صام صمت معه و قد يشكل على هذا ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت : [
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي من
أية كان ] و فيه أيضا عنها قالت : [ ما علمته ـ تعني النبي صلى الله عليه
و سلم ـ صام شهرا كاملا إلا رمضان و لا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى
لسبيله ] و قد يجمع بينهما بأنه قد يكون صومه في بعض الشهور لا يبلغ ثلاثة
أيام فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان أو أنه صلى الله عليه و سلم كان يصوم
من كل شهر ثلاثة أيام مع الاثنين و الخميس فيؤخر الثلاثة خاصة حتى يقضيها
في شعبان مع صومه الإثنين و الخميس
و بكل حال فكان صلى الله عليه و
سلم عمله ديمة و كان إذا فاته من نوافله قضاه كما كان يقضي ما فاته من سنن
الصلاة و ما فاته من قيام الليل بالنهار فكان إذا دخل شعبان و عليه بقية
من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله قبل دخول رمضان
فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ
لفطرها فيه بالحيض و كانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي صلى الله عليه
و سلم فإن المرأة لا تصوم و بعلها شاهد إلا بإذنه فمن دخل عليه شعبان و قد
بقي عليه من نوافل صيامه في العام استحب له قضاؤها فيه حتى يكمل نوافل
صيامه بين الرمضانين و من كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع
القدرة و لا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة فإن فعل ذلك
و كان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني و
لا شيء عليه مع القضاء و إن كان ذلك لغير عذر فقيل : يقضي و يطعم مع
القضاء لكل يوم مسكينا و هو قول مالك و الشافعي و أحمد اتباعا لآثار وردت
بذلك و قيل : يقضي و لا إطعام عليه و هو قول أبي حنيفة و قيل : يطعم و لا
يقضي و هو ضعيف
و قد قيل : في صوم شعبان معنى آخر : أن صيامه
كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة و كلفة بل قد
تمرن على الصيام و اعتاده و وجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام و لذته
فيدخل في صيام رمضان بقوة و نشاط و لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه
ما يشرع في رمضان من الصيام و قراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان و
ترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن روينا بإسناد ضعيف عن أنس قال : كان
المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها و أخرجوا زكاة أموالهم
تقوية للضعيف و المسكين على صيام رمضان و قال سلمة بن كهيل : كان يقال شهر
شعبان شهر القراء و كان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال : هذا شهر
القراء و كان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته و تفرغ
لقراءة القرآن قال الحسن بن سهل : قال شعبان : يا رب جعلتني بين شهرين
عظيمين فما لي ؟ قال : جعلت فيك قراءة القرآن يا من فرط في الأوقات
الشريفة و ضيعها و أودعها الأعمال السيئة و بئس ما استودعها
( مضى رجب و ما أحسنت فيه ... و هذا شهر شعبان المبارك )
( فيا من ضيع الأوقات جهلا ... بحرمتها أفق و احذر بوارك )
( فسوف تفارق اللذات قسرا ... و يخلي الموت كرها منك دارك )
( تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مخلص و اجعل مدارك )
( على طلب السلامة من جحيم ... فخير ذوي الجرائم من تدارك )
و قد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى الحكمة في ذلك من وجوه : منها :
قوله صلى الله عليه و سلم في صيام الدهر : [ لا صام و لا أفطر ] يعني أنه
لا يجد مشقة الصيام و لا فقد الطعام و الشراب و الشهوة لأنه صار الصيام له
عادة مألوفة فربما تضرر بتركه فإذا صام تارة و أفطر أخرى حصل له بالصيام
مقصوده بترك هذه الشهوات و في نفسه داعية إليها و ذلك أفضل من أن يتركها و
نفسه لا تتوق إليها و منها قوله صلى الله عليه و سلم في حق داود عليه
السلام : [ كان يصوم يوما و يفطر يوما و لا يفر إذا لاقى ] يشير إلى أنه
كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه و مجاهدته في سبيل الله و لهذا روي عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأصحابه يوم الفتح و كان في رمضان : [
إن هذا يوم قتال فافطروا ] و كان عمر إذا بعث سرية قال لهم : لا تصوموا
فإن التقوى على الجهاد أفضل من الصوم
فأفضل الصيام أن لا يضعف البدن
حتى يعجز عما هو أفضل منه من القيام بحقوق الله تعالى أو حقوق عباده
اللازمة فإن أضعف عن شيء من ذلك مما هو أفضل منه كان تركه أفضل فالأول :
مثل أن يضعف الصيام عن الصلاة أو عن الذكر أو عن العلم كما قيل في النهي
عن صيام الجمعة و يوم عرفة بعرفة أنه يضعف عن الذكر و الدعاء في هذين
اليومين و كان ابن مسعود يقل الصوم و يقول : إنه يمنعني من قراءة القرآن و
قراءة القرآن أحب إلي فقراءة القرآن أفضل من الصيام نص عليه سفيان الثوري
و غيره من الأئمة و كذلك تعلم العلم النافع و تعليمه أفضل من الصيام و قد
نص الأئمة الأربعة على أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة و الصلاة أفضل
من الصيام المتطوع به فيكون العلم أفضل من الصيام بطريق الأولى فإن العلم
مصباح يستضاء به في ظلمة الجهل و الهوى فمن سار في طريق على غير مصباح لم
يأمن أن يقع في بئر بوار فيعطب قال ابن سيرين : إن قوما تركوا العلم و
اتخذوا محاريب فصلوا و صاموا بغير علم و الله ما عمل أحد بغير علم إلا كان
ما يفسد أكثر مما يصلح و الثاني : مثل أن يضعف الصيام عن الكسب للعيال أو
القيام بحقوق الزوجات فيكون تركه أفضل و إليه الإشارة بقوله صلى الله عليه
و سلم : [ إن لأهلك عليك حقا ]
و منها : ما أشار إليه صلى الله عليه
و سلم بقوله : [ إن لنفسك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه ] يشير إلى أن النفس
وديعة لله عند ابن آدم و هو مأمور أن يقوم بحقها و من حقها اللطف بها حتى
توصل صاحبها إلى المنزل قال الحسن : نفوسكم مطاياكم إلى ربكم فأصلحوا
مطاياكم توصلكم إلى ربكم فمن وفى نفسه حظها من المباح بنية التقوى به على
تقويتها على أعمال الطاعات كان مأجورا في ذلك كما قال معاذ بن جبل : إني
أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي و من قصر في حقها حتى ضعفت و تضررت كان ظالما
و إلى هذا أشار النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لعبد الله بن عمرو بن
العاص : [ إنك إذا فعلت ذلك نفهت له النفس و هجمت له العين ] و معنى نفهت
: كلت و أعيت و معنى هجمت العين : غارت و قال لأعرابي جاءه فأسلم ثم أتاه
من عام قابل و قد تغير فلم يعرفه فلما عرفه سأله عن حاله ؟ قال : [ ما
أكلت بعدك طعاما بنهار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و من أمرك أن
تعذب نفسك ؟ ! ] فمن عذب نفسه بأن حملها ما لا تطيقه من الصيام و نحوه
فربما أثر ذلك في ضعف بدنه و عقله فيفوته من الطاعات الفاضلة أكثر مما
حصله بتعذيبه نفسه بالصيام
و كان النبي صلى الله عليه و سلم : [
يتوسط في إعطاء نفسه حقها و يعدل فيها غاية العدل فيصوم و يفطر و يقوم و
ينام و ينكح النساء و يأكل ما يجد من الطيبات كالحلواء و العسل و لحم
الدجاج و تارة يجوع يربط على بطنه الحجر و قال : عرض علي ربي أن يجعل لي
بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب و لكن أجوع يوما و أشبع يوما فإذا جعت
تضرعت إليك و ذكرتك و إذا شبعت حمدتك و شكرتك ] فاختار لنفسه أفضل الأحوال
ليجمع بين مقامي الشكر و الصبر و الرضا و منها ما أشار إليه بقوله صلى
الله عليه و سلم لعبد الله بن عمر : [ و لعله أن يطول بك حياة ] يعني : أن
من تكلف الإجتهاد في العبادة فقد تحمله قوة الشباب ما دامت باقية فإذا ذهب
الشباب و جاء المشيب و الكبر عجز عن حمل ذلك فإن صابره و جاهد و استمر
فربما هلك بدنه و إن قطع فقد فاته أحب الأعمال إلى الله تعالى و هو
المداومة على العمل و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اكلفوا من
العمل ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا ] و قال صلى الله عليه و
سلم : [ أحب العمل إلى الله أدومه و إن قل ]
فمن عمل عملا يقوى عليه
بدنه في طول عمره في قوته و ضعفه استقام سيره و من حمل ما لا يطيق فإنه قد
يحدث له مرض يمنعه من العمل بالكلية و قد يسأم و يضجر فيقطع العمل فيصير
كالمنبت لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى و أما صيام النبي صلى الله عليه و سلم
من الأيام أعني أيام الأسبوع فكان يتحرى صيام الاثنين و الخميس و كذا روي
[ عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى صيام
الإثنين و الخميس ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه و الترمذي و
حسنه و خرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و
سلم يصوم الإثنين و الخميس فقيل له : يا رسول الله إنك تصوم الإثنين و
الخميس ؟ فقال : إن يوم الإثنين و الخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا
مهتجرين فيقول : دعوهما حتى يصطلحا ] و خرجه الإمام أحمد و عنده : [ أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أكثر ما يصوم الإثنين و الخميس فقيل له
؟ : قال : إن الأعمال تعرض كل اثنين و خميس فيغفر لكل مسلم أو لكل مؤمن
إلا المتهاجرين فيقول : أخرهما ] و خرجه الترمذي و لفظه قال : [ تعرض
الأعمال يوم الإثنين و يوم الخميس فأحب أن يعرض عملي و أنا صائم ] و روي
موقوفا على أبي هريرة و رجح بعضهم وقفه و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة
مرفوعا : تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين و يوم الخميس فيغفر لكل عبد لا
يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه و بين أخيه شحناء يقول : انظروا هذين
حتى يصطلحا ] و يروى بإسناد فيه ضعف [ عن أبي أمامة مرفوعا ترفع الأعمال
يوم الإثنين و يوم الخميس فيغفر للمستغفرين و يترك أهل الحقد بحقدهم ] و
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز و جل : { ما يلفظ من قول إلا
لديه رقيب عتيد } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير و شر حتى أنه ليكتب
قوله : أكلت و شربت و ذهبت و جئت و رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله
و عمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر و ألقى سائره فذلك قوله تعالى :
{ يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب } خرجه ابن أبي حاتم و غيره
فهذا يدل على اختصاص يوم الخميس بعرض الأعمال لا يوجد في غيره و كان
إبراهيم النخعي يبكي إلى امرأته يوم الخميس و تبكي إليه و يقول : اليوم
تعرض أعمالنا على الله عز و جل فهذا عرض خاص في هذين اليومين غير العرض
العام كل يوم فإن ذلك عرض دائم بكرة و عشيا و يدل على ذلك ما في الصحيحين
[ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يتعاقبون فيكم ملائكة
بالليل و ملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح و صلاة العصر فيسأل الذين
باتوا فيكم و هو أعلم : كيف تركتم عبادي فيقولون : أتيناهم و هم يصلون و
تركناهم و هم يصلون ] و في صحيح مسلم [ عن أبي موسى الأشعري قال : قام
فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس كلمات فقال : إن الله لا ينام و
لا ينبغي له أن ينام يخفض القسط و يرفعه يرفع الله عمل الليل قبل النهار و
عمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى
إليه بصره من خلقه ] و يروى عن ابن مسعود قال : إن مقدار كل يوم من أيامكم
عند ربكم اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم
فينظر فيها ثلاث ساعات و ذكر باقيه كان الضحاك يبكي آخر النهار و يقول :
لا أدري ما رفع من عملي يا من عمله معروض على من يعلم السر و أخفى لا
تبهرج فإن الناقد بصير
( السقم على الجسم له ترداد ... و العمر ينقص و الذنوب تزاد )
( ما أبعد شقتي و مالي زاد ... ما أكثر بهرجي و لي نقاد )
و حديث أسامة فيه : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا سرد الفطر
يصوم الإثنين و الخميس ] فدل على مواظبة النبي صلى الله عليه و سلم على
صيامهما و قد كان أسامة يصومهما حضرا و سفرا لهذا و في مسند الإمام أحمد و
سنن النسائي [ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره أن
يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال له : إني أقوى على أكثر من ذلك قال : فصم
من الجمعة يوم الإثنين و الخميس قال : إني أقوى على أكثر من ذلك قال : فصم
صيام داود ]
و في مسند الإمام أحمد من رواية عثمان بن رشيد حدثني
أنس بن سيرين قال : أتينا أنس بن مالك في يوم خميس فدعا بمائدة فدعاهم إلى
الغداء فتغذى بعض القوم و أمسك بعض ثم أتوه يوم الخميس ففعل مثلها فقال
أنس : لعلكم أثنائيون لعلكم خميسيون كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
يصوم حتى يقال : لا يفطر و يفطر حتى يقال : لا يصوم و ظاهر هذا الحديث
يخالف حديث أسامة و أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما كان يصوم الإثنين و
الخميس إذا دخلا في صيامه و لم يكن يتحرى صيامهما في أيام سرد فطره و لكن
عثمان بن رشيد ضعيف ضعفه ابن معين و غيره و حديث أسامة أصح منه و قد روي [
من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة
أيام أول خميس و الإثنين و الإثنين ] و في رواية بالعكس الإثنين و الخميس
و الخميس و أكثر العلماء على استحباب صيام الإثنين و الخميس و روي كراهته
عن أنس بن مالك من غير وجه عنه و كان مجاهد يفعله ثم يتركه و كرهه و كره
أبو جعفر محمد بن علي صيام الإثنين و كرهت طائفة صيام يوم معين كلما مر
بالإنسان روي عن عمران بن حصين و ابن عباس و الشعبي و النخعي ونقله ابن
القاسم عن مالك و قال الشافعي في القديم أكره ذلك قال : و إنما كرهته لئلا
يتأسى جاهل فيظن أن ذلك واجب قال : فإن فعل فحسن يعني على غير اعتقاد
الوجوب
و إنما صيام النبي صلى الله عليه و سلم من أشهر السنة فكان
يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور و في الصحيحين [ عن عائشة رضي
الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل صيام شهر
قط إلا رمضان و ما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان ] زاد البخاري في
رواية : [ كان يصوم شعبان كله ] و لمسلم في رواية : [ كان يصوم شعبان كله
كان يصوم شعبان إلا قليلا ] و في رواية النسائي [ عن عائشة قالت : كان أحب
الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يصوم شعبان كان يصله برمضان
] و عنها و عن أم سلمة قالتا : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم
شعبان إلا قليلا بل كان يصومه كله ] و عن أم سلمة قالت : [ ما رأيت رسول
الله صلى الله عليه و سلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان و رمضان ] و قد
رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك و غيره : أن النبي صلى الله عليه و
سلم لم يستكمل صيام شعبان و إنما كان يصوم أكثره و يشهد له ما في صحيح
مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما علمته تعني النبي صلى الله عليه
و سلم صام شهرا كله إلا رمضان ] و في رواية له أيضا عنها قالت : [ ما
رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان ] و في رواية له
أيضا : أنها قالت : [ لا أعلم نبي الله صلى الله عليه و سلم قرأ القرآن
كله في ليلة و لا صام شهرا كاملا غير رمضان ] و في رواية له أيضا قالت : [
ما رأيته قام ليلة حتى الصباح و لا صام شهرا متتابعا إلا رمضان ] و في
الصحيحين [ عن ابن عباس قال : ما صام رسول الله صلى الله عليه و سلم شهرا
كاملا غير رمضان ] و كان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان و
روى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس بنهى عن
صيام الشهر كاملا و يقول : ليصمه إلا أياما و كان ينهي عن إفراد اليوم
كلما مر به و عن صيام الأيام المعلومة و كان يقول : لا تصم أياما معلومة
فإن قيل : فكيف كان النبي صلى الله عليه و سلم يخص شعبان بصيام التطوع فيه
مع أنه قال : [ أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ؟ ] فالجواب :
أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية لاعتقادهم أن صيام
المحرم و الأشهر الحرم أفضل من شعبان كما صرح به الشافعية و غيرهم و
الأظهر خلاف ذلك و أن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم و يدل على ذلك
ما خرجه الترمذي [ من حديث أنس سئل النبي صلى الله عليه و سلم : أي الصيام
أفضل بعد رمضان ؟ قال : شعبان تعظيما لرمضان ] و في إسناده مقال و في سنن
ابن ماجة : [ أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله
عليه و سلم : صم شوالا ] فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالا حتى مات و في
إسناده إرسال و قد روي من وجه آخر يعضده فهذا نص في تفضيل صيام شوال على
صيام الأشهر الحرم و إنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده كما أن شعبان
يليه من قبله و شعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه و سلم له دون شوال
فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق
الأولى فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله و بعده و ذلك
يلتحق بصيام رمضان لقربه منه و تكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن
الرواتب مع الفرائض قبلها و بعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل و هي تكملة
لنقص الفرائض و كذلك صيام ما قبل رمضان و بعده فكما أن السنن الرواتب أفضل
من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك صيام ما قبل رمضان و بعده أفضل من صيام ما
بعد منه و يكون قوله صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام بعد رمضان
المحرم ] : محمولا على التطوع المطلق بالصيام فأما ما قبل رمضان و بعده
فإن يلتحق في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث [ و أفضل الصلاة بعد
المكتوبة : قيام الليل ] إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق
دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية و الله أعلم فإن
قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام صيام داود كان
يصوم يوما و يفطر يوما ] و لم يصم كذلك بل كان يصوم سردا و يفطر سردا و
يصوم شعبان و كل اثنين و خميس ؟ قيل : صيام داود الذي فضله النبي صلى الله
عليه و سلم على الصيام قد فسره النبي صلى الله عليه و سلم في حديث آخر
بأنه صوم شطر الدهر و كان صيام النبي صلى الله عليه و سلم إذا جمع يبلغ
نصف الدهر أو يزيد عليه و قد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع
ذي الحجة و إنما كان يفرق صيامه و لا يصوم يوما و يفطر يوما لأنه كان
يتحرى صيام الأوقات الفاضلة و لا يضر تفريق الصيام و الفطر أكثر من يوم و
يوم إذا كان القصد به التقوى على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة و
تبليغها و الجهاد عليها و القيام بحقوقها فكان صيام يوم و فطر يوم يضعفه
عن ذلك و لهذا سئل النبي صلى الله عليه و سلم في [ حديث أبي قتادة عمن
يصوم يوما و يفطر يومين ؟ قال : وددت أني طوقت ذلك ] و قد كان عبد الله بن
عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام ثم يعود
فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي صلى الله عليه و سلم من صيام
شطر الدهر فحصل للنبي صلى الله عليه و سلم أجر صيام شطر الدهر و أزيد منه
بصيامه المتفرق و حصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك و إنما عاقه عنه
الإشتغال بما هو أهم منه و أفضل و الله أعلم و قد ظهر بما ذكرناه وجه صيام
النبي صلى الله عليه و سلم لشعبان دون غيره من الشهور و فيه معان أخر : و
قد ذكر منها النبي في [ حديث أسامة معنيين : أحدهما : أنه شهر يغفل الناس
عنه بين رجب و رمضان ] يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام
و شهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه و كثير من الناس يظن
أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام و ليس كذلك و روى ابن وهب قال :
[ حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت : ذكر لرسول
الله ناس يصومون رجبا ؟ فقال : فأين هم عن شعبان ] و في قوله : [ يغفل
الناس عنه بين رجب و رمضان ] إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان
أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا
يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه و يفوتون تحصيل فضيلة ما ليس
بمشهور عندهم و فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة و أن
ذلك محبوب لله عز و جل كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين
العشاءين بالصلاة و يقولون : هي ساعة غفلة و لذلك فضل القيام في وسط الليل
المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر و قد قال النبي صلى الله عليه و
سلم : [ إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن ] و لهذا
المعنى كان النبي صلى الله عليه و سلم يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل
و إنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس و لما خرج على أصحابه و هم
ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم : [ ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم ] و
في هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه
ذاكر له و لهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع و
الآثار الموقوفة حتى قال أبو صالح : إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق و
سبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة و في [ حديث أبي ذر
المرفوع : ثلاثة يحبهم الله قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم
مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام أحدهم يتملقني و يتلو آياتي و قوم كانوا
في سرية فانهزموا فتقدم أحدهم فلقي العدو فصبر حتى قتل و ذكر أيضا قوما
جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه فانفرد أحدهم حتى أعطاه سرا ] فهؤلاء الثلاثة
انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سرا بينهم و بينه فأحبهم الله فكذلك من
يذكر الله في غفلة الناس أو من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام
و
في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد : منها : أنه يكون أخفى و إخفاء
النوافل و إسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد و ربه و لهذا
قيل : إنه ليس فيه رياء و قد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان
يخرج من بيته إلى سوقه و معه رغيفان فيتصدق بهما و يصوم فيظن أهله أنه
أكلهما و يظن أهل السوق أنه أكل في بيته و كانوا يستحبون لمن صام أن يظهر
ما يخفي به صيامه فعن ابن مسعود : أنه قال : إذا أصبحتم صياما فأصبحوا
مدهنين و قال قتادة : يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام و
قال أبو التياح : أدركت أبي و مشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن و لبس صالح
ثيابه و يروى أن عيسى بن مريم عليه السلام قال : ( إذا كان يوم صوم أحدكم
فليدهن لحيته و ليمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر الناظر إليه فيرى أنه ليس
بصائم ) اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يجتهد في إظهار فطره للناس
حتى كان يقوم يوم الجمعة و الناس مجتمعون في مسجد الجامع فيأخذ إبريقا
فيضع بلبلته في فيه و يمصه و لا يزدرد منه شيئا و يبقى ساعة كذلك ينظر
الناس إليه فيظنون أنه يشرب الماء و ما دخل إلى حلقه منه شيء كم ستر
الصادقون أحوالهم و ريح الصدق ينم علهيم ريح الصيام أطيب من ريح المسك
تستنشقه قلوب المؤمنين و إن خفي و كلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه
( كم أكتم حبكم عن الأغيار ... و الدمع يذيع في الهوى أسراري )
( كم أستركم هتكتموا أسراري ... من يخفي في الهوى لهيب النار )
ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه رداءها علانية
( وهبني كتمت السرا و قلت غيره ... أتخفي على أهل القلوب السرائر )
( أبى ذاك أن السر في الوجه ناطق ... و إن بضمير القلب في العين ظاهر )
و منها : أنه أشق على النفوس : و أفضل الأعمال أشقها على النفوس و سبب ذلك
أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس و
طاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات و إذا كثرت
الغفلات و أهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم
لقلة من يقتدون بهم فيها و لهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه و سلم [
للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعوانا و لا يجدون ]
و قال : [ بدأ الإسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ] و في
رواية قيل : [ و من الغرباء : قال الذين يصلحون إذا فسد الناس ] و في صحيح
مسلم [ من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : العباد
في الهرج كالهجرة إلي ] و خرجه الإمام أحمد و لفظه : [ العباد في الفتنة
كالهجرة إلي ] و سبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم و لا
يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من
يتمسك بدينه و يعبد ربه و يتبع مراضيه و يجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر
من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤمنا به متبعا
لأوامره مجتنبا لنواهيه و منها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي و الغفلة
قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم و يدافع عنهم و في حديث ابن
عمر الذي رويناه في جزء ابن عرفة مرفوعا : [ ذاكر الله في الغافلين كالذي
يقاتل عن الفارين و ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر
الذي تحات ورقه من الصرير ـ و الصرير : البرد الشديد ـ و ذاكر الله في
الغافلين يغفر له بعدد كل رطب و يابس و ذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده
في الجنة ] قال بعض السلف : ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة
المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس رأى جماعة من
المتقدمين في منامهم كأن ملائكة نزلت إلى بلاد شتى فقال بعضهم لبعض :
اخسفوا بهذه القرية فقال بعضهم : كيف نخسف بها و فلان قائم يصلي و رأى بعض
المتقدمين في منامه من ينشد و يقول :
( لولا الذين لهم ورد يصلونا ... و آخرون لهم سرد يصومونا )
( لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا ... لأنكم قوم سوء ما تطيعونا )
و في مسند البزار عن أبي هريرة مرفوعا : [ مهلا عن الله مهلا فلولا عباد
ركع و أطفال رضع و بهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا ] و لبعضهم في المعنى :
( لولا عباد للإله ركع ... و صبية من اليتامى رضع )
( و مهملات في الفلاة رتع ... صب عليكم العذاب الموجع )
و قد قيل في تأويل قوله تعالى : { و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الأرض } أنه يدخل فيها دفعة عن العصاة بأهل الطاعة و جاء في الأثر : أن
الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله و ولده و ذريته و من حوله و في بعض
الآثار يقول الله عز و جل : [ أحب العباد إلي المتحابون بجلالي المشاؤن في
الأرض بالنصيحة الماشون على أقدامهم إلى الجمعات ] و في رواية : [
المتعلقة قلوبهم بالمساجد و المستغفرون بالأسحار فإذا أردت إنزال عذاب
بأهل الأرض فنظرت إليهم صرفت العذاب عن الناس ] و قال مكحول : ما دام في
الناس خمسة عشر يستغفر كل منهم كل يوم خمسا و عشرين مرة لم يهلكوا بعذاب
عامة و الآثار في هذا المعنى كثيرة جدا
و قد روي في صيام النبي صلى
الله عليه و سلم شعبان معنى آخر و هو أنه تنسخ فيه الآجال فروي بإسناد فيه
ضعف [ عن عائشة قالت : كان أكثر صيام رسول الله صلى الله عليه و سلم في
شعبان فقلت : يا رسول الله أرى أكثر صيامك في شعبان ؟ قال : إن هذا الشهر
يكتب فيه لملك الموت من يقبض فأنا لا أحب أن ينسخ اسمي إلا و أنا صائم ] و
قد روي مرسلا و قيل : إنه أصح و في حديث آخر مرسل : [ تقطع الآجال من
شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح و يولد له و لقد خرج اسمه في الموتى ]
و روي في ذلك معنى آخر و هو : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان
يصوم من كل شهر ثلاثة أيام و ربما أخر ذلك حتى يقضيه بصوم شعبان ] رواه
ابن أبي ليلة عن أخيه عيسى عن أبيهما عن عائشة رضي الله عنها خرجه
الطبراني و رواه غيره و زاد : قالت عائشة : فربما أردت أن أصوم فلم أطق
حتى إذا صام صمت معه و قد يشكل على هذا ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت : [
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي من
أية كان ] و فيه أيضا عنها قالت : [ ما علمته ـ تعني النبي صلى الله عليه
و سلم ـ صام شهرا كاملا إلا رمضان و لا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى
لسبيله ] و قد يجمع بينهما بأنه قد يكون صومه في بعض الشهور لا يبلغ ثلاثة
أيام فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان أو أنه صلى الله عليه و سلم كان يصوم
من كل شهر ثلاثة أيام مع الاثنين و الخميس فيؤخر الثلاثة خاصة حتى يقضيها
في شعبان مع صومه الإثنين و الخميس
و بكل حال فكان صلى الله عليه و
سلم عمله ديمة و كان إذا فاته من نوافله قضاه كما كان يقضي ما فاته من سنن
الصلاة و ما فاته من قيام الليل بالنهار فكان إذا دخل شعبان و عليه بقية
من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله قبل دخول رمضان
فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ
لفطرها فيه بالحيض و كانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي صلى الله عليه
و سلم فإن المرأة لا تصوم و بعلها شاهد إلا بإذنه فمن دخل عليه شعبان و قد
بقي عليه من نوافل صيامه في العام استحب له قضاؤها فيه حتى يكمل نوافل
صيامه بين الرمضانين و من كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع
القدرة و لا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة فإن فعل ذلك
و كان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني و
لا شيء عليه مع القضاء و إن كان ذلك لغير عذر فقيل : يقضي و يطعم مع
القضاء لكل يوم مسكينا و هو قول مالك و الشافعي و أحمد اتباعا لآثار وردت
بذلك و قيل : يقضي و لا إطعام عليه و هو قول أبي حنيفة و قيل : يطعم و لا
يقضي و هو ضعيف
و قد قيل : في صوم شعبان معنى آخر : أن صيامه
كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة و كلفة بل قد
تمرن على الصيام و اعتاده و وجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام و لذته
فيدخل في صيام رمضان بقوة و نشاط و لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه
ما يشرع في رمضان من الصيام و قراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان و
ترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن روينا بإسناد ضعيف عن أنس قال : كان
المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها و أخرجوا زكاة أموالهم
تقوية للضعيف و المسكين على صيام رمضان و قال سلمة بن كهيل : كان يقال شهر
شعبان شهر القراء و كان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال : هذا شهر
القراء و كان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته و تفرغ
لقراءة القرآن قال الحسن بن سهل : قال شعبان : يا رب جعلتني بين شهرين
عظيمين فما لي ؟ قال : جعلت فيك قراءة القرآن يا من فرط في الأوقات
الشريفة و ضيعها و أودعها الأعمال السيئة و بئس ما استودعها
( مضى رجب و ما أحسنت فيه ... و هذا شهر شعبان المبارك )
( فيا من ضيع الأوقات جهلا ... بحرمتها أفق و احذر بوارك )
( فسوف تفارق اللذات قسرا ... و يخلي الموت كرها منك دارك )
( تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مخلص و اجعل مدارك )
( على طلب السلامة من جحيم ... فخير ذوي الجرائم من تدارك )
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى