صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم
في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم جلس على المنبر فقال : إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من
زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر و قال : يا
رسول الله فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فعجبنا و قال الناس : انظروا
إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خيره الله بين
أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عند الله و هو يقول : فديناك
بآبائنا و أمهاتنا قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخير و
كان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من آمن
الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو اتخذت من أهل الأرض خليلا لاتخذت
أبا بكر خليلا و لكن إخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا
خوخة أبي بكر رضي الله عنه ] الموت مكتوب على كل حي الأنبياء و الرسل و
غيرهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { إنك ميت و إنهم ميتون
} و قال : { و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس
ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون } و قال : { و ما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
} الآيتين
خلق الله تعالى آدم من تراب الأرض و نفخ فيه من روحه
فكانت روحه في جسده و أرواح ذريته في أجسادهم في هذه الدار عارية و قضى
عليه و على ذريته أنه لا بد من أن يسترد أرواحهم من هذه الأجساد و يعيد
أجسادهم إلى ما خلقت منه و هو التراب و وعد أن يعيد الأجساد من الأرض مرة
ثانية ثم يرد إليها الأرواح مرة ثانية تمليكا دائما لا رجعة فيه في دار
البقاء قال الله تعالى : { قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون }
و قال : { منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى } و قال :
{ و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا } و
أرانا دليلا في هذه الدار على إعادة الأجساد من التراب بإنبات الزرع من
الأرض و إحياء الأرض بعد موتها بالمطر و دليلا على إعادة الأرواح إلى
أجسادها بعد المفارقة بقبض أرواح العباد في منامهم و ردها إليهم في يقظتهم
كما قال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها
فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون } و في مسند البزار [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال لهم لما ناموا عن الصلاة : إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد
فيقبضها إذا شاء و يرسلها إذا شاء ]
( استعدي للموت يا نفس واسعي ... للنجاة فالحازم المستعد )
( قد تيقنت أنه ليس للحي ... خلود و لا من الموت بد )
( إنما أنت مستعيرة ما سـ ... وف تردين و العواري ترد )
* * *
( فما أهل الحياة لنا بأهل ... و لا دار الحياة لنا بدار )
( و ما أموالنا و الأهل فيها ... و لا أولادنا إلا عواري )
( و أنفسنا إلى أجل قريب ... سيأخذها المعير من المعار )
مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح و الجسد جميعا
فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد و ألفته و اشتدت إلفتها له و امتزاجها به و
دخولها فيه حتى صارا كالشيء الواحد فلا يتفارقان إلا بجهد شديد و ألم عظيم
و لم يذق ابن آدم حياته ألما مثله و إلى ذلك الإشارة بقول الله عز و جل :
{ كل نفس ذائقة الموت } قال الربيع بن خثيم أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم
تذوقوا قبله مثله و يتزايد الألم بمعرفة المحتضر فإن جسده إذا فارقته
الروح صار جيفة مستقذرة يأكله الهوام و يبليه التراب حتى يعود ترابا و إن
الروح المارقة له لا تدري أين مستقرها هل هو في الجنة أو في النار فإن كان
عاصيا مصرا على المعصية إلى الموت فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى
النار فتتضاعف بذلك حسرته و ألمه و ربما كشفت له مع ذلك عن مقعده من النار
فرآه أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت و ألمه العظيم معرفته بسوء
مصيره و هذا المراد بقول الله عز و جل : { و التفت الساق بالساق } على ما
فسر به كثير من السلف فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت فلا يسأل عن
سوء حاله و قد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه
يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا قال الله تعالى : { و جاءت سكرة الموت بالحق
} :
( ألا الموت كأس أي كأس ... و أنت لكائسه لا بد حاسي )
( إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي )
و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بكثرة ذكر الموت فقال : [ أكثروا ذكر
هادم اللذات الموت ] و في حديث مرسل أنه صلى الله عليه و سلم مر بمجلس قد
استعلاه الضحك فقال [ شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات الموت ] و في الإكثار
من ذكر الموت فوائد منها : أنه يحث على الإستعداد له قبل نزوله و يقصر
الأمل و يرضى بالقليل من الرزق و يزهد في الدنيا و يرغب في الآخرة و يهون
مصائب الدنيا و يمنع من الأشر و البطر و التوسع في لذات الدنيا و [ في
حديث أبي ذر المرفوع الذي خرجه ابن حبان في صحيحه و غيره : أن صحف موسى
كانت عبرا كلها ] عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبت لمن أيقن بالنار كيف
يضحك عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبت لمن رأى الدنيا و سرعة تقبلها
كيف يطمئن إليها و قد رزي أن الكنز الذي كان للغلامين كان لوحا من ذهب
مكتوب فيه هذا أيضا قال الحسن : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم
نعيمهم فالتمسوا عيشا لا موت فيه و قال : فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب
بها فرحا و قال غيره : ذهب الموت بلذاذة كل عيش و سرور كل نعيم ثم بكى و
قال : واها لدار لا موت فيها
( اذكر الموت هادم اللذات ... و تهيأ لمصرع سوف يأتي غيره )
( يا غافل القلب عن ذكر المنيات ... عما قليل ستلقى بين أموات )
( فاذكر محلك من قبل الحلول به ... و تب إلى الله من لهو و لذات )
( إن الحمام له وقت إلى أجل ... فاذكر مصائب أيام و ساعات )
( لا تطمئن إلى الدنيا و زينتها ... قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي )
قال بعض السلف : شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا : ذكر الموت و الوقوف بين
يدي الله عز و جل
( كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن المنايا بغتة ستعاجله )
( و كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن إله الخلق لا بد سائله )
قال أبو الدرداء : كفى بالموت واعظا و كفى بالدهر مفرقا اليوم في الدور و
غدا في القبور
( اذكر الموت و داوم ذكره ... إن في الموت لذي اللب عبر )
( و كفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر )
غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له منه من العجب و الموجب له طول
الأمل
( كلنا في غفلة و المـ ... وت يغدو و يروح )
( لبنى الدنيا من المـ ... وت غبوق و صبوح )
( سيصير المرء يوما ... جسدا ما فيه روح )
( بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح )
( نح على نفسك يا مسكـ ... ين إن كنت تنوح )
( لتموتن و لو عمـ ... رت ما عمر نوح )
لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة و المشقة العظيمة لم يمت
نبي من الأنبياء حتى يخير و لذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن كما [ في
حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : يقول الله عز و جل : و ما
ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و أكره
مساءته و لا بد له منه ] كما رواه البخاري قال ابن أبي المليكة : [ لما
قبض إبراهيم عليه السلام قال الله عز و جل له : كيف وجدت الموت ؟ قال : يا
رب كأن نفسي تنزع بالبلى فقال : هذا و قد هونا عليك الموت ] و قال أبو
إسحاق : قيل لموسى عليه السلام : كيف وجدت طعم الموت قال : وجدته كسفود
أدخل في صوف فاجتذب قال : هذا و قد هونا عليك الموت و يروى أن عيسى عليه
السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما و كان يقول للحواريين : ادعوا
الله أن يخفف عني الموت فلقد خفت الموت خوفا أوقفني مخافة الموت على الموت
كيف يطمع في البقاء و ما من الأنبياء إلا من مات أم كيف يؤمن هجوم المنايا
و لم يسلم الأصفياء و الأحباء هيهات هيهات
( قد مات كل نبي ... و مات كل بنيه )
( و مات كل شريف ... و عاقل و سيفه )
( لا يوحشنك طريق ... كل الخلائق فيه )
أول ما أعلم النبي صلى الله عليه و سلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول
سورة : { إذا جاء نصر الله و الفتح } و قيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل
كان يعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم متى يموت ؟ قال : نعم قيل : و من
أين ؟ قال : إن الله تعالى جعل علامة موته هذه السورة : { إذا جاء نصر
الله و الفتح } يعني فتح مكة { و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا }
ذلك علامة موته و قد كان نعى نفسه إلى فاطمة عليها السلام فإن المراد من
هذه السورة : أنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد و دخل الناس في دينك
الذي دعوتهم إليه أفواجا فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد و
الإستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة و التبليغ و
ما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا قال ابن عباس : لما نزلت
هذه السورة نعيت لرسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه فأخذ في أشد ما كان
اجتهادا في أمر الآخرة و روي في حديث : [ إنه تعبد حتى صار كالشن البالي ]
[ و كان يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة فعرضه ذلك العام مرتين ] [ و
كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فيه ذلك العام عشرين ] [
و أكثر من الذكر و الإستغفار ] قالت أم سلمة : [ كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجيء إلا قال
سبحان الله و بحمده فذكرت ذلك له فقال : إني أمرت بذلك ] و تلا هذه السورة
و قالت عائشة رضي الله عنها : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر
أن يقول قبل موته : سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فقلت له :
إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم ؟ قال : إن ربي أخبرني أنني سأرى
علما في أمتي و إني إذا رأيته أن أسبح بحمده و أستغفره و قد رأيته ثم تلا
هذه السورة ] إذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى فكيف
يكون حال المذنب المسيء المتلوث بالذنوب المحتاج إلى التطهير من لم ينذره
باقتراب أجله و حي أنذره الشيب و سلب أقرانه بالموت
( كفى مؤذنا باقتراب الأجل ... شباب تولى و شيب نزل )
( و موت الأقران و هل بعده ... بقاء يؤمله من عقل )
( إذا ارتحلت قرناء الفتى ... على حكم ريب المنون ارتحل )
قال وهب بن الورد : إم لله ملكا ينادي في السماء كل يوم و ليلة أبناء
الخمسين : زرع دنا حصاده أبناء الستين : هلموا إلى الحساب أبناء السبعين :
ماذا قدمتم و ماذا أخرتم أبناء الثمانين : لا عذر لكم و عن وهب قال :
ينادي مناد : أبناء الستين : عدوا أنفسكم في الموتى و في صحيح البخاري [
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر صلى الله عليه و
سلم إلى من بلغه ستين من عمره ] و في حديث آخر : [ إذا كان يوم القيامة
نودي أين أبناء الستين و هو العمر الذي قال الله فيه : { أولم نعمركم ما
يتذكر فيه من تذكر } ] و في الترمذي عنه صلى الله عليه و سلم قال : [
أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين و أقلهم من يجوز ذلك ] و في حديث آخر :
[ معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين ] و في حديث آخر : [ إن لكل
شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ] و في هذا المعترك قبض
النبي صلى الله عليه و سلم قال سفيان الثوري : من بلغ سن رسول الله صلى
الله عليه و سلم فليتخذ لنفسه كفنا
( و إن أمر قد سار ستين حجة ... إلى منهل من و لقريب )
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت من ستين سنة
تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ فقال الرجل : إنا لله و إنا إليه راجعون فقال
فضيل : من علم أنه لله عبد و أنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف و أنه مسؤول
فليعد للمسألة جوابا فقال له الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة قال : ماهي
؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى
و ما بقى
( خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط قد تدانى الأمر )
( أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبنى كم تنقض كم ذا الغدر )
و ما زال صلى الله عليه و سلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره فإنه لما خطب
في حجة الوداع قال للناس : [ خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي
هذا ] و طفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع فلما رجع من حجته إلى
المدينة جمع الناس بماء يدعى خما في طريقه بين مكة و المدينة فخطبهم و قال
: [ أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم حض على
التمسك بكتاب الله و وصى بأهل بيته ] ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خير بين
لقاء الله و بين زهرة الدنيا و البقاء فيها ما شاء الله فاختار لقاء الله
و خطب الناس و أشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح
و كان ابتداء
مرضه في أواخر شهر صفر و كان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور و قيل :
أربعة عشر يوما و قيل : اثنا عشر يوما و قيل : عشرة أيام و هو غريب و كانت
خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء
مرض ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري قال : خرج إلينا
رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه الذي مات فيه و هو معصوب الرأس
فقام على المنبر فقال : إن عبدا عرضت عليه الدنيا و زينتها فاختار الآخرة
قال : فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر فقال : بأبي و أمي بل نفديك
بأموالنا و أنفسنا و أولادنا قال : ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى
الساعة ]
و في المسند [ عن أبي مويهبة : أن النبي صلى الله عليه و
سلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع و قال : ليهنكم ما أصبحتم
فيه مما أصبح فيه الناس أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا
يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم قال : يا أبا موهبة إني قد أعطيت
خزائن الدنيا و الخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك و بين لقاء ربي فاخترت لقاء
ربي و الجنة ثم انصرف فابتدأه وجعه الذي قبضه الله فيه ] لما قويت معرفة
الرسول صلى الله عليه و سلم بربه ازداد حبه له و شوقه إلى لقائه فلما خير
بين البقاء في الدنيا و بين لقاء ربه اختار لقاءه على خزائن الدنيا و
البقاء فيها سئل الشبلي هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته فأنشد :
( و الله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق )
( و لو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد و من قد بقي )
( و قلت لي : لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي )
لما عرض الرسول صلى الله عليه و سلم على المنبر باختياره اللقاء على
البقاء و لم يصرح خفي المعنى على كثير ممن سمع و لم يفهم المقصود غير
صاحبه الخصيص به ثاني اثنين إذ هما في الغار و كان أعلم الأمة بمقاصد
الرسول صلى الله عليه و سلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى و قال :
بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا فسكن الرسول صلى الله عليه و سلم
جزعه و أخذ في مدحه و الثناء عليه على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله و لا
يقع عليه اختلاف في خلافته فقال : [ إن من أمن الناس علي في صحبته و ماله
أبو بكر ] و في رواية أخرى أنه قال : [ ما لأحد عندنا يد إلا و قد كافأناه
ما خلا أبو بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله يوم القيامة بها و ما نفعني
مال أحد قط ما نفعي مال أبي بكر ] خرجه الترمذي ثم قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و
لكن إخوة الإسلام ] لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم خليل الله لم
يصلح له أن يخالل مخلوقا فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح و
لا يصلح هذا لبشر كما قيل :
( قد تخللت مسلك الروح مني ... و بذا سمي الخليل خليلا )
و لهذا المعنى قيل : إن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده و لم
يكن المقصود غراقة دم الولد بل تفريغ محل الخلة لمن لا يصلح أن يزاحمه
فيها أحد
( أروح و قد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا )
( فلو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراك )
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة
أبي بكر ]
و في رواية : [ سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر ] و
في هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى
المسجد و الإستطراق فيه بخلاف غيره و ذلك من مصالح المسلمين المصلين في
المسجد ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلي بالناس أبو بكر فروجع في
ذلك فغضب و قال : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] فولاه إمامة الصلاة دون
غيره و أبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة و سد استطراق غيره و في ذلك
إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمة دون غيره و لهذا قالت الصحابة عند
بيعة أبي بكر : رضيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا فكيف لا نرضاه
لدنيانا و لما قال أبو بكر : قد أقلتكم بيعتي قال علي : لا نقيلك و
نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذا يؤخرك لما انطوى بساط
النبوة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه و سلم لم يبق على وجه الأرض
أكمل من درجة الصديقية و أبو بكر رأس الصديقين فلهذا استحق خلافة الرسول و
القيام مقامه و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عزم على أن يكتب لأبي
بكر كتابا لئلا يختلف عليه ثم أعرض عن ذلك لعلمه أنه لا يقع غيره و قال :
[ يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و ربما كان ترك ذلك لئلا يتوهم
متوهم أن نصه على خلافته كانت مكافأة ليده التي كانت له و الولايات كلها
لا يقصد بها مصلحة المولى بل مصلحة المسلمين عامة
و كان أول ما
ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من مرضه وجع رأسه و لهذا خطب و
قد عصب رأسه بعصابة دسماء و كان صداع الرأس و الشقيقة يعتريه كثيرا في
حياته و يتألم منه أياما و صداع الرأس من علامات أهل الإيمان و أهل الجنة
و قد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه وصف أهل النار فقال : هم
الذين لا يألمون رؤوسهم ] و دخل عليه أعرابي فقال له : [ يا أعرابي هل
أخذك هذا الصداع ؟ فقال : و ما الصداع ؟ قال : عروق تضرب على الإنسان في
رأسه فقال : ما وجدت هذا فلما ولى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه و سلم
: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ] خرجه الإمام أحمد
و النسائي و قال كعب : أجد في التوراة لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت
الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا و في المسند [ عن عائشة رضي الله عنها
قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليوم الذي بدأ فيه فقلت
: وارأساه فقال : وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك و دفنتك فقلت : غيراء
كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك فقال : أنا وارأساه ادعو لي أباك و
أخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل و يتمنى متمن و يأبى
الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و خرجه البخاري بمعناه و لفظه : [ أن عائشة
رضي الله عنها قالت : وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذاك
لو كان و أنا حي فأستغفر و أدعو لك قالت عائشة : واثكلاه و الله إني لأظنك
تحب موتي و لو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى
الله عليه و سلم : بل أنا وارأساه ] و ذكر بقية الحديث و في المسند أيضا [
عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مر ببابي كثيرا ما يلقي
الكلمة ينفع الله بها فمر ذات يوم فلم يقل شيئا مرتين أو ثلاثا قلت : يا
جارية ضعي لي وسادة على الباب وعصبت رأسي فمر بي و قال : يا عائشة ما شأنك
؟ فقلت : أشتكي رأسي فقال : أنا وارأساه فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء
به محمولا في كساء فدخل علي فبعث إلى النساء و قال : إني اشتكيت أني لا
أستطيع أن أدور بينكن فأذن لي فلأكن عند عائشة ] و فيه أيضا عنها قالت : [
رجع إلي النبي صلى الله عليه و سلم ذات يوم من جنازة بالبقيع و أنا أجد
صداعا في رأسي و أنا أقول وارأساه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك و
كفنتك ثم صليت عليك و دفنتك فقلت : لكأني بك و الله لو فعلت ذلك لقد رجعت
إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم
بدأ في وجعه الذي مات فيه ]
[ فقد تبين أن أول مرضه كان صداع الرأس
و الظاهر أنه كان مع حمى فإن الحمى اشتدت به في مرضه فكان يجلس في مخضب و
يصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرد بذلك و كان عليه قطيفة
فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك ؟ فقال :
إنا كذلك يشدد علينا البلاء و يضاعف لنا الأجر و قال : إني أوعك كما يوعك
رجلان منكم و من شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق و حصل له ذلك غير
مرة فأغمي عليه مرة و ظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه فلما أفاق أنكر ذلك و
أمر أن يلد من ولده و قال : إن الله لم يكن ليسلطها علي يعني ذات الجنب و
لكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر يعني : أنه نقض عليه سم الشاة التي
أهدتها له اليهودية فأكل منها يومئذ فكان ذلك يثور عليه أحيانا فقال في
مرض موته : ما زالت أكلة خيبر تعاودني فيها أوان انقطاع أبهري و كان ابن
مسعود و غيره يقولون : إنه مات شهيدا من السم و قالت عائشة : ما رأيت أحدا
كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان عنده في مرضه
سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا
بها فوضعها في كفه يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا
بها فوضعها في كفه و قال : ما ظن محمد بربه لو لقي الله و عنده هذه ثم
تصدق بها كلها فكيف يكون حال من لقي الله و عنده دماء المسلمين و أموالهم
المحرمة و ما ظنه بربه ]
و لم يكن عندهم في مرضه دهن للمصباح يوقد
فيه فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من
النساء فقالت قطري لنا في مصباحنا من عكة السمن فإن رسول الله صلى الله
عليه و سلم أمسى في جديد الموت و كان عند عائشة إزار غليظ مما صنع باليمن
و كساء من الملبدة فكانت تقسم بالله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض
فيهما و دخلت عليه فاطمة عليها السلام في مرضه فسارها رسول الله بشيء فبكت
ثم سارها فضحكت فسئلت عن ذلك ؟ فقالت : لا أفشي سر رسول الله صلى الله
عليه و سلم فلما توفي سئلت ؟ فقالت : أخبرني أنه يموت في مرضه فبكيت ثم
أخبرني أني أول أهله لحوقا به و أني سيدة نساء العالمين فضحكت فلما احتضر
صلى الله عليه و سلم اشتد به الأمر [ فقالت عائشة : ما أغبط أحدا يهون
عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت
: و كان عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء و يقول :
اللهم أعني على سكرات الموت قالت : و جعل يقول : لا إله إلا الله إن للموت
لسكرات ] و في حديث مرسل أنه قال : [ اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب و
القصب و الأنامل اللهم فأعني على الموت و هونه علي ] و لما ثقل النبي صلى
الله عليه و سلم جعل يتغشاه الكرب قالت فاطمة عليها السلام : واكرب أبتاه
فقال لها : [ لا كرب على أبيك بعد اليوم ] و في حديث خرجه ابن ماجه : أنه
صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : [ إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك
منه أحد الموافاة يوم القيامة ]
ولم يقبض صلى الله عليه و سلم حتى
خير مرة أخرى بين الدنيا و الآخرة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه و
سلم يقول : [ إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير ] فلما نزل
به و رأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم
قال : [ اللهم الرفيق الأعلى ] فقلت : الآن لا يختارنا و علمت أنه الحديث
الذي كان يحدثناه وهو صحيح فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها و في رواية أنه
قال : [ اللهم اغفر لي و ارحمني و ألحقني بالرفيق الأعلى ] و في رواية [
أنه أصابه بحة شديدة فسمعته يقول : { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا } قالت : فظننت أنه
خير ]
و هذه الروايات مخرجة في صحيح البخاري و غيره و قد روي ما يدل
على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير : ففي المسند
[ عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
ما من نبي إلا يقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه
أو يلحق ] فكنت قد حفطت ذلك منه فإني لمسندته إلى صدري فنظرت إليه حتى
مالت عنقه فقلت : قد قضى قالت : فعرفت الذي قال : فنظرت إليه حتى ارتفع و
نظر فقالت : إذا و الله لا يختارنا فقال : مع الرفيق الأعلى في الجنة { مع
الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين } إلى
آخر الآية و في صحيح ابن حبان عنها قالت : [ أغمي على رسول الله صلى الله
عليه و سلم و رأسه في حجري فجعلت أمسحه و أدعو له بالشفاء فلما أفاق قال :
لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل و إسرافيل ] و فيه و في
المسند عنها : [ أنها كانت ترقيه في مرضه الذي مات فيه فقال : ارفعي يدك
فإنها كانت تنفعني في المدة ] قال الحسن لما كرهت الأنبياء الموت هون الله
عليهم بلقاء الله و بكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة حتى أن نفس أحدهم لتنزع
من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له وفي المسند [ عن عائشة رضي الله
عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه ليهون علي الموت إني رأيت
بياض كف عائشة في الجنة ] وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا انه قال صلى الله
عليه و سلم : [ لقد أريتها في الجنة ليهون بذلك علي موتي كأني أرى كفيها ]
يعني عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب عائشة رضي الله عنها حبا
شديدا حتى لا يكاد يصبر عناه فمثلت له بين يديه في الجنة ليهون عليه موته
فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة و قد سأله رجل : أي النساء أحب إليك ؟
فقال : [ عائشة فقال له فمن الرجال ؟ قال : أبوها ] و لهذا قال لها في
ابتداء مرضه لما قالت : وارأساه : وددت أن ذلك كان و أنا حي فأصلي عليك و
أدفنك فعظم ذلك عليها و ظنت أنه يحب فراقها و إنما كان يريد تعجيلها بين
يديه ليقرب اجتماعهما و قد كانت عائشة مضغت له صلى الله عليه و سلم سواكا
و طيبته بريقها ثم دفعته إليه فاستن به أحسن استنان ثم ذهب يتناوله فضعفت
يده عنه فسقط من يده فكانت عائشة تقول : جمع الله بي ريقي وريقه في أخر
يوم من الدنيا و أول يوم من الآخرة و الحديث مخرج في الصحيحين
المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم
في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم جلس على المنبر فقال : إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من
زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر و قال : يا
رسول الله فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فعجبنا و قال الناس : انظروا
إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خيره الله بين
أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عند الله و هو يقول : فديناك
بآبائنا و أمهاتنا قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخير و
كان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من آمن
الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو اتخذت من أهل الأرض خليلا لاتخذت
أبا بكر خليلا و لكن إخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا
خوخة أبي بكر رضي الله عنه ] الموت مكتوب على كل حي الأنبياء و الرسل و
غيرهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { إنك ميت و إنهم ميتون
} و قال : { و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس
ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون } و قال : { و ما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
} الآيتين
خلق الله تعالى آدم من تراب الأرض و نفخ فيه من روحه
فكانت روحه في جسده و أرواح ذريته في أجسادهم في هذه الدار عارية و قضى
عليه و على ذريته أنه لا بد من أن يسترد أرواحهم من هذه الأجساد و يعيد
أجسادهم إلى ما خلقت منه و هو التراب و وعد أن يعيد الأجساد من الأرض مرة
ثانية ثم يرد إليها الأرواح مرة ثانية تمليكا دائما لا رجعة فيه في دار
البقاء قال الله تعالى : { قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون }
و قال : { منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى } و قال :
{ و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا } و
أرانا دليلا في هذه الدار على إعادة الأجساد من التراب بإنبات الزرع من
الأرض و إحياء الأرض بعد موتها بالمطر و دليلا على إعادة الأرواح إلى
أجسادها بعد المفارقة بقبض أرواح العباد في منامهم و ردها إليهم في يقظتهم
كما قال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها
فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون } و في مسند البزار [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال لهم لما ناموا عن الصلاة : إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد
فيقبضها إذا شاء و يرسلها إذا شاء ]
( استعدي للموت يا نفس واسعي ... للنجاة فالحازم المستعد )
( قد تيقنت أنه ليس للحي ... خلود و لا من الموت بد )
( إنما أنت مستعيرة ما سـ ... وف تردين و العواري ترد )
* * *
( فما أهل الحياة لنا بأهل ... و لا دار الحياة لنا بدار )
( و ما أموالنا و الأهل فيها ... و لا أولادنا إلا عواري )
( و أنفسنا إلى أجل قريب ... سيأخذها المعير من المعار )
مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح و الجسد جميعا
فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد و ألفته و اشتدت إلفتها له و امتزاجها به و
دخولها فيه حتى صارا كالشيء الواحد فلا يتفارقان إلا بجهد شديد و ألم عظيم
و لم يذق ابن آدم حياته ألما مثله و إلى ذلك الإشارة بقول الله عز و جل :
{ كل نفس ذائقة الموت } قال الربيع بن خثيم أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم
تذوقوا قبله مثله و يتزايد الألم بمعرفة المحتضر فإن جسده إذا فارقته
الروح صار جيفة مستقذرة يأكله الهوام و يبليه التراب حتى يعود ترابا و إن
الروح المارقة له لا تدري أين مستقرها هل هو في الجنة أو في النار فإن كان
عاصيا مصرا على المعصية إلى الموت فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى
النار فتتضاعف بذلك حسرته و ألمه و ربما كشفت له مع ذلك عن مقعده من النار
فرآه أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت و ألمه العظيم معرفته بسوء
مصيره و هذا المراد بقول الله عز و جل : { و التفت الساق بالساق } على ما
فسر به كثير من السلف فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت فلا يسأل عن
سوء حاله و قد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه
يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا قال الله تعالى : { و جاءت سكرة الموت بالحق
} :
( ألا الموت كأس أي كأس ... و أنت لكائسه لا بد حاسي )
( إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي )
و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بكثرة ذكر الموت فقال : [ أكثروا ذكر
هادم اللذات الموت ] و في حديث مرسل أنه صلى الله عليه و سلم مر بمجلس قد
استعلاه الضحك فقال [ شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات الموت ] و في الإكثار
من ذكر الموت فوائد منها : أنه يحث على الإستعداد له قبل نزوله و يقصر
الأمل و يرضى بالقليل من الرزق و يزهد في الدنيا و يرغب في الآخرة و يهون
مصائب الدنيا و يمنع من الأشر و البطر و التوسع في لذات الدنيا و [ في
حديث أبي ذر المرفوع الذي خرجه ابن حبان في صحيحه و غيره : أن صحف موسى
كانت عبرا كلها ] عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبت لمن أيقن بالنار كيف
يضحك عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبت لمن رأى الدنيا و سرعة تقبلها
كيف يطمئن إليها و قد رزي أن الكنز الذي كان للغلامين كان لوحا من ذهب
مكتوب فيه هذا أيضا قال الحسن : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم
نعيمهم فالتمسوا عيشا لا موت فيه و قال : فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب
بها فرحا و قال غيره : ذهب الموت بلذاذة كل عيش و سرور كل نعيم ثم بكى و
قال : واها لدار لا موت فيها
( اذكر الموت هادم اللذات ... و تهيأ لمصرع سوف يأتي غيره )
( يا غافل القلب عن ذكر المنيات ... عما قليل ستلقى بين أموات )
( فاذكر محلك من قبل الحلول به ... و تب إلى الله من لهو و لذات )
( إن الحمام له وقت إلى أجل ... فاذكر مصائب أيام و ساعات )
( لا تطمئن إلى الدنيا و زينتها ... قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي )
قال بعض السلف : شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا : ذكر الموت و الوقوف بين
يدي الله عز و جل
( كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن المنايا بغتة ستعاجله )
( و كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن إله الخلق لا بد سائله )
قال أبو الدرداء : كفى بالموت واعظا و كفى بالدهر مفرقا اليوم في الدور و
غدا في القبور
( اذكر الموت و داوم ذكره ... إن في الموت لذي اللب عبر )
( و كفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر )
غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له منه من العجب و الموجب له طول
الأمل
( كلنا في غفلة و المـ ... وت يغدو و يروح )
( لبنى الدنيا من المـ ... وت غبوق و صبوح )
( سيصير المرء يوما ... جسدا ما فيه روح )
( بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح )
( نح على نفسك يا مسكـ ... ين إن كنت تنوح )
( لتموتن و لو عمـ ... رت ما عمر نوح )
لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة و المشقة العظيمة لم يمت
نبي من الأنبياء حتى يخير و لذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن كما [ في
حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : يقول الله عز و جل : و ما
ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و أكره
مساءته و لا بد له منه ] كما رواه البخاري قال ابن أبي المليكة : [ لما
قبض إبراهيم عليه السلام قال الله عز و جل له : كيف وجدت الموت ؟ قال : يا
رب كأن نفسي تنزع بالبلى فقال : هذا و قد هونا عليك الموت ] و قال أبو
إسحاق : قيل لموسى عليه السلام : كيف وجدت طعم الموت قال : وجدته كسفود
أدخل في صوف فاجتذب قال : هذا و قد هونا عليك الموت و يروى أن عيسى عليه
السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما و كان يقول للحواريين : ادعوا
الله أن يخفف عني الموت فلقد خفت الموت خوفا أوقفني مخافة الموت على الموت
كيف يطمع في البقاء و ما من الأنبياء إلا من مات أم كيف يؤمن هجوم المنايا
و لم يسلم الأصفياء و الأحباء هيهات هيهات
( قد مات كل نبي ... و مات كل بنيه )
( و مات كل شريف ... و عاقل و سيفه )
( لا يوحشنك طريق ... كل الخلائق فيه )
أول ما أعلم النبي صلى الله عليه و سلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول
سورة : { إذا جاء نصر الله و الفتح } و قيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل
كان يعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم متى يموت ؟ قال : نعم قيل : و من
أين ؟ قال : إن الله تعالى جعل علامة موته هذه السورة : { إذا جاء نصر
الله و الفتح } يعني فتح مكة { و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا }
ذلك علامة موته و قد كان نعى نفسه إلى فاطمة عليها السلام فإن المراد من
هذه السورة : أنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد و دخل الناس في دينك
الذي دعوتهم إليه أفواجا فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد و
الإستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة و التبليغ و
ما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا قال ابن عباس : لما نزلت
هذه السورة نعيت لرسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه فأخذ في أشد ما كان
اجتهادا في أمر الآخرة و روي في حديث : [ إنه تعبد حتى صار كالشن البالي ]
[ و كان يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة فعرضه ذلك العام مرتين ] [ و
كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فيه ذلك العام عشرين ] [
و أكثر من الذكر و الإستغفار ] قالت أم سلمة : [ كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجيء إلا قال
سبحان الله و بحمده فذكرت ذلك له فقال : إني أمرت بذلك ] و تلا هذه السورة
و قالت عائشة رضي الله عنها : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر
أن يقول قبل موته : سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فقلت له :
إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم ؟ قال : إن ربي أخبرني أنني سأرى
علما في أمتي و إني إذا رأيته أن أسبح بحمده و أستغفره و قد رأيته ثم تلا
هذه السورة ] إذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى فكيف
يكون حال المذنب المسيء المتلوث بالذنوب المحتاج إلى التطهير من لم ينذره
باقتراب أجله و حي أنذره الشيب و سلب أقرانه بالموت
( كفى مؤذنا باقتراب الأجل ... شباب تولى و شيب نزل )
( و موت الأقران و هل بعده ... بقاء يؤمله من عقل )
( إذا ارتحلت قرناء الفتى ... على حكم ريب المنون ارتحل )
قال وهب بن الورد : إم لله ملكا ينادي في السماء كل يوم و ليلة أبناء
الخمسين : زرع دنا حصاده أبناء الستين : هلموا إلى الحساب أبناء السبعين :
ماذا قدمتم و ماذا أخرتم أبناء الثمانين : لا عذر لكم و عن وهب قال :
ينادي مناد : أبناء الستين : عدوا أنفسكم في الموتى و في صحيح البخاري [
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر صلى الله عليه و
سلم إلى من بلغه ستين من عمره ] و في حديث آخر : [ إذا كان يوم القيامة
نودي أين أبناء الستين و هو العمر الذي قال الله فيه : { أولم نعمركم ما
يتذكر فيه من تذكر } ] و في الترمذي عنه صلى الله عليه و سلم قال : [
أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين و أقلهم من يجوز ذلك ] و في حديث آخر :
[ معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين ] و في حديث آخر : [ إن لكل
شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ] و في هذا المعترك قبض
النبي صلى الله عليه و سلم قال سفيان الثوري : من بلغ سن رسول الله صلى
الله عليه و سلم فليتخذ لنفسه كفنا
( و إن أمر قد سار ستين حجة ... إلى منهل من و لقريب )
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت من ستين سنة
تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ فقال الرجل : إنا لله و إنا إليه راجعون فقال
فضيل : من علم أنه لله عبد و أنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف و أنه مسؤول
فليعد للمسألة جوابا فقال له الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة قال : ماهي
؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى
و ما بقى
( خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط قد تدانى الأمر )
( أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبنى كم تنقض كم ذا الغدر )
و ما زال صلى الله عليه و سلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره فإنه لما خطب
في حجة الوداع قال للناس : [ خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي
هذا ] و طفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع فلما رجع من حجته إلى
المدينة جمع الناس بماء يدعى خما في طريقه بين مكة و المدينة فخطبهم و قال
: [ أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم حض على
التمسك بكتاب الله و وصى بأهل بيته ] ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خير بين
لقاء الله و بين زهرة الدنيا و البقاء فيها ما شاء الله فاختار لقاء الله
و خطب الناس و أشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح
و كان ابتداء
مرضه في أواخر شهر صفر و كان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور و قيل :
أربعة عشر يوما و قيل : اثنا عشر يوما و قيل : عشرة أيام و هو غريب و كانت
خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء
مرض ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري قال : خرج إلينا
رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه الذي مات فيه و هو معصوب الرأس
فقام على المنبر فقال : إن عبدا عرضت عليه الدنيا و زينتها فاختار الآخرة
قال : فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر فقال : بأبي و أمي بل نفديك
بأموالنا و أنفسنا و أولادنا قال : ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى
الساعة ]
و في المسند [ عن أبي مويهبة : أن النبي صلى الله عليه و
سلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع و قال : ليهنكم ما أصبحتم
فيه مما أصبح فيه الناس أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا
يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم قال : يا أبا موهبة إني قد أعطيت
خزائن الدنيا و الخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك و بين لقاء ربي فاخترت لقاء
ربي و الجنة ثم انصرف فابتدأه وجعه الذي قبضه الله فيه ] لما قويت معرفة
الرسول صلى الله عليه و سلم بربه ازداد حبه له و شوقه إلى لقائه فلما خير
بين البقاء في الدنيا و بين لقاء ربه اختار لقاءه على خزائن الدنيا و
البقاء فيها سئل الشبلي هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته فأنشد :
( و الله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق )
( و لو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد و من قد بقي )
( و قلت لي : لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي )
لما عرض الرسول صلى الله عليه و سلم على المنبر باختياره اللقاء على
البقاء و لم يصرح خفي المعنى على كثير ممن سمع و لم يفهم المقصود غير
صاحبه الخصيص به ثاني اثنين إذ هما في الغار و كان أعلم الأمة بمقاصد
الرسول صلى الله عليه و سلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى و قال :
بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا فسكن الرسول صلى الله عليه و سلم
جزعه و أخذ في مدحه و الثناء عليه على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله و لا
يقع عليه اختلاف في خلافته فقال : [ إن من أمن الناس علي في صحبته و ماله
أبو بكر ] و في رواية أخرى أنه قال : [ ما لأحد عندنا يد إلا و قد كافأناه
ما خلا أبو بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله يوم القيامة بها و ما نفعني
مال أحد قط ما نفعي مال أبي بكر ] خرجه الترمذي ثم قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و
لكن إخوة الإسلام ] لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم خليل الله لم
يصلح له أن يخالل مخلوقا فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح و
لا يصلح هذا لبشر كما قيل :
( قد تخللت مسلك الروح مني ... و بذا سمي الخليل خليلا )
و لهذا المعنى قيل : إن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده و لم
يكن المقصود غراقة دم الولد بل تفريغ محل الخلة لمن لا يصلح أن يزاحمه
فيها أحد
( أروح و قد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا )
( فلو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراك )
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة
أبي بكر ]
و في رواية : [ سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر ] و
في هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى
المسجد و الإستطراق فيه بخلاف غيره و ذلك من مصالح المسلمين المصلين في
المسجد ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلي بالناس أبو بكر فروجع في
ذلك فغضب و قال : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] فولاه إمامة الصلاة دون
غيره و أبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة و سد استطراق غيره و في ذلك
إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمة دون غيره و لهذا قالت الصحابة عند
بيعة أبي بكر : رضيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا فكيف لا نرضاه
لدنيانا و لما قال أبو بكر : قد أقلتكم بيعتي قال علي : لا نقيلك و
نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذا يؤخرك لما انطوى بساط
النبوة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه و سلم لم يبق على وجه الأرض
أكمل من درجة الصديقية و أبو بكر رأس الصديقين فلهذا استحق خلافة الرسول و
القيام مقامه و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عزم على أن يكتب لأبي
بكر كتابا لئلا يختلف عليه ثم أعرض عن ذلك لعلمه أنه لا يقع غيره و قال :
[ يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و ربما كان ترك ذلك لئلا يتوهم
متوهم أن نصه على خلافته كانت مكافأة ليده التي كانت له و الولايات كلها
لا يقصد بها مصلحة المولى بل مصلحة المسلمين عامة
و كان أول ما
ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من مرضه وجع رأسه و لهذا خطب و
قد عصب رأسه بعصابة دسماء و كان صداع الرأس و الشقيقة يعتريه كثيرا في
حياته و يتألم منه أياما و صداع الرأس من علامات أهل الإيمان و أهل الجنة
و قد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه وصف أهل النار فقال : هم
الذين لا يألمون رؤوسهم ] و دخل عليه أعرابي فقال له : [ يا أعرابي هل
أخذك هذا الصداع ؟ فقال : و ما الصداع ؟ قال : عروق تضرب على الإنسان في
رأسه فقال : ما وجدت هذا فلما ولى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه و سلم
: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ] خرجه الإمام أحمد
و النسائي و قال كعب : أجد في التوراة لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت
الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا و في المسند [ عن عائشة رضي الله عنها
قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليوم الذي بدأ فيه فقلت
: وارأساه فقال : وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك و دفنتك فقلت : غيراء
كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك فقال : أنا وارأساه ادعو لي أباك و
أخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل و يتمنى متمن و يأبى
الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و خرجه البخاري بمعناه و لفظه : [ أن عائشة
رضي الله عنها قالت : وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذاك
لو كان و أنا حي فأستغفر و أدعو لك قالت عائشة : واثكلاه و الله إني لأظنك
تحب موتي و لو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى
الله عليه و سلم : بل أنا وارأساه ] و ذكر بقية الحديث و في المسند أيضا [
عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مر ببابي كثيرا ما يلقي
الكلمة ينفع الله بها فمر ذات يوم فلم يقل شيئا مرتين أو ثلاثا قلت : يا
جارية ضعي لي وسادة على الباب وعصبت رأسي فمر بي و قال : يا عائشة ما شأنك
؟ فقلت : أشتكي رأسي فقال : أنا وارأساه فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء
به محمولا في كساء فدخل علي فبعث إلى النساء و قال : إني اشتكيت أني لا
أستطيع أن أدور بينكن فأذن لي فلأكن عند عائشة ] و فيه أيضا عنها قالت : [
رجع إلي النبي صلى الله عليه و سلم ذات يوم من جنازة بالبقيع و أنا أجد
صداعا في رأسي و أنا أقول وارأساه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك و
كفنتك ثم صليت عليك و دفنتك فقلت : لكأني بك و الله لو فعلت ذلك لقد رجعت
إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم
بدأ في وجعه الذي مات فيه ]
[ فقد تبين أن أول مرضه كان صداع الرأس
و الظاهر أنه كان مع حمى فإن الحمى اشتدت به في مرضه فكان يجلس في مخضب و
يصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرد بذلك و كان عليه قطيفة
فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك ؟ فقال :
إنا كذلك يشدد علينا البلاء و يضاعف لنا الأجر و قال : إني أوعك كما يوعك
رجلان منكم و من شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق و حصل له ذلك غير
مرة فأغمي عليه مرة و ظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه فلما أفاق أنكر ذلك و
أمر أن يلد من ولده و قال : إن الله لم يكن ليسلطها علي يعني ذات الجنب و
لكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر يعني : أنه نقض عليه سم الشاة التي
أهدتها له اليهودية فأكل منها يومئذ فكان ذلك يثور عليه أحيانا فقال في
مرض موته : ما زالت أكلة خيبر تعاودني فيها أوان انقطاع أبهري و كان ابن
مسعود و غيره يقولون : إنه مات شهيدا من السم و قالت عائشة : ما رأيت أحدا
كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان عنده في مرضه
سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا
بها فوضعها في كفه يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا
بها فوضعها في كفه و قال : ما ظن محمد بربه لو لقي الله و عنده هذه ثم
تصدق بها كلها فكيف يكون حال من لقي الله و عنده دماء المسلمين و أموالهم
المحرمة و ما ظنه بربه ]
و لم يكن عندهم في مرضه دهن للمصباح يوقد
فيه فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من
النساء فقالت قطري لنا في مصباحنا من عكة السمن فإن رسول الله صلى الله
عليه و سلم أمسى في جديد الموت و كان عند عائشة إزار غليظ مما صنع باليمن
و كساء من الملبدة فكانت تقسم بالله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض
فيهما و دخلت عليه فاطمة عليها السلام في مرضه فسارها رسول الله بشيء فبكت
ثم سارها فضحكت فسئلت عن ذلك ؟ فقالت : لا أفشي سر رسول الله صلى الله
عليه و سلم فلما توفي سئلت ؟ فقالت : أخبرني أنه يموت في مرضه فبكيت ثم
أخبرني أني أول أهله لحوقا به و أني سيدة نساء العالمين فضحكت فلما احتضر
صلى الله عليه و سلم اشتد به الأمر [ فقالت عائشة : ما أغبط أحدا يهون
عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت
: و كان عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء و يقول :
اللهم أعني على سكرات الموت قالت : و جعل يقول : لا إله إلا الله إن للموت
لسكرات ] و في حديث مرسل أنه قال : [ اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب و
القصب و الأنامل اللهم فأعني على الموت و هونه علي ] و لما ثقل النبي صلى
الله عليه و سلم جعل يتغشاه الكرب قالت فاطمة عليها السلام : واكرب أبتاه
فقال لها : [ لا كرب على أبيك بعد اليوم ] و في حديث خرجه ابن ماجه : أنه
صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : [ إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك
منه أحد الموافاة يوم القيامة ]
ولم يقبض صلى الله عليه و سلم حتى
خير مرة أخرى بين الدنيا و الآخرة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه و
سلم يقول : [ إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير ] فلما نزل
به و رأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم
قال : [ اللهم الرفيق الأعلى ] فقلت : الآن لا يختارنا و علمت أنه الحديث
الذي كان يحدثناه وهو صحيح فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها و في رواية أنه
قال : [ اللهم اغفر لي و ارحمني و ألحقني بالرفيق الأعلى ] و في رواية [
أنه أصابه بحة شديدة فسمعته يقول : { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا } قالت : فظننت أنه
خير ]
و هذه الروايات مخرجة في صحيح البخاري و غيره و قد روي ما يدل
على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير : ففي المسند
[ عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
ما من نبي إلا يقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه
أو يلحق ] فكنت قد حفطت ذلك منه فإني لمسندته إلى صدري فنظرت إليه حتى
مالت عنقه فقلت : قد قضى قالت : فعرفت الذي قال : فنظرت إليه حتى ارتفع و
نظر فقالت : إذا و الله لا يختارنا فقال : مع الرفيق الأعلى في الجنة { مع
الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين } إلى
آخر الآية و في صحيح ابن حبان عنها قالت : [ أغمي على رسول الله صلى الله
عليه و سلم و رأسه في حجري فجعلت أمسحه و أدعو له بالشفاء فلما أفاق قال :
لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل و إسرافيل ] و فيه و في
المسند عنها : [ أنها كانت ترقيه في مرضه الذي مات فيه فقال : ارفعي يدك
فإنها كانت تنفعني في المدة ] قال الحسن لما كرهت الأنبياء الموت هون الله
عليهم بلقاء الله و بكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة حتى أن نفس أحدهم لتنزع
من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له وفي المسند [ عن عائشة رضي الله
عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه ليهون علي الموت إني رأيت
بياض كف عائشة في الجنة ] وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا انه قال صلى الله
عليه و سلم : [ لقد أريتها في الجنة ليهون بذلك علي موتي كأني أرى كفيها ]
يعني عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب عائشة رضي الله عنها حبا
شديدا حتى لا يكاد يصبر عناه فمثلت له بين يديه في الجنة ليهون عليه موته
فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة و قد سأله رجل : أي النساء أحب إليك ؟
فقال : [ عائشة فقال له فمن الرجال ؟ قال : أبوها ] و لهذا قال لها في
ابتداء مرضه لما قالت : وارأساه : وددت أن ذلك كان و أنا حي فأصلي عليك و
أدفنك فعظم ذلك عليها و ظنت أنه يحب فراقها و إنما كان يريد تعجيلها بين
يديه ليقرب اجتماعهما و قد كانت عائشة مضغت له صلى الله عليه و سلم سواكا
و طيبته بريقها ثم دفعته إليه فاستن به أحسن استنان ثم ذهب يتناوله فضعفت
يده عنه فسقط من يده فكانت عائشة تقول : جمع الله بي ريقي وريقه في أخر
يوم من الدنيا و أول يوم من الآخرة و الحديث مخرج في الصحيحين
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثاني في نصف شعبان
خرج الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و ابن حبان في
صحيحه و الحاكم [ من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان ]
و صححه الترمذي و غيره و اختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به
: فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي و ابن حبان و الحاكم و الطحاوي
و ابن عبد البر و تكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء و أعلم و قالوا : هو حديث
منكر منهم الرحمن بن المهدي و الإمام أحمد و أبو زرعة الرازي و الأثرم و
قال الإمام أحمد : لم يرو العلاء حديثا أنكر منه و رده بحديث : [ لا
تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ] فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين
و قال الأثرم الأحاديث كلها تخالفه يشير كلها تخالفه يشير إلى أحاديث صيام
النبي صلى الله عليه و سلم شعبان كله و وصله برمضان و نهيه عن التقدم على
رمضان بيومين فصار الحديث حينئذ شاذا مخالفا للأحاديث الصحيحة و قال
الطحاوي هو منسوخ و حكى الإجماع على ترك العمل به و أكثر العلماء على أنه
لا يعمل به و قد أخذ آخرون منهم الشافعي و أصحابه و نهو عن ابتداء التطوع
بالصيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة و وافقهم بعض المتأخرين من أصحابنا
ثم اختلفوا في علة النهي فمنهم من قال : خشية أن يزاد في شهر رمضان ما ليس
منه و هذا بعيد جدا فيما بعد النصف و إنما يحتمل هذا في التقديم بيوم أو
يومين و منهم من قال : النهي للتقوى على صيام رمضان شفقة أن يضعفه ذلك عن
صيام رمضان و روي ذلك عن وكيع و يرد هذا صيام النبي صلى الله عليه و سلم
شعبان كله أو أكثره و وصله برمضان هذا كله بالصيام بعد نصف شعبان
و
أما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر
المندوب إلى صيامها من كل شهر و قد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه ففي
سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف [ عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم : إذا
كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها و صوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها
لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول : ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق
فأرزقه ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر ] و في فضل ليلة
نصف شعبان أحاديث أخر متعددة و قد اختلف فيها فضعفها الأكثرون و صحح ابن
حبان بعضها و خرجه في صحيحه و من أمثلها [ حديث عائشة قال : فقدت النبي
صلى الله عليه و سلم فخرجت فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال :
أكنت تخافين أن يحيف الله عليك و رسوله فقلت يا رسول الله ظننت أنك أتيت
بعض نسائك فقال : إن الله تبارك و تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى
السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب ] خرجه الإمام أحمد و
الترمذي الإمام أحمد ابن ماجه و ذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه و خرج
ابن ماجه من حديث [ أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله
ليطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ] و خرج
الإمام أحمد من [ حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
: إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين
مشاحن أو قاتل نفس ] و خرجه ابن حبان في صحيحه من حديث معاذ مرفوعا
و يروى من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعا : [ إذا كان ليلة النصف من
شعبان نادى مناد : هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه فلا يسأل أحد
شيئا إلا أعطيه إلا زانية بفرجها أو مشركا ] و في الباب أحاديث أخر فيها
ضعف و يروى عن نوف البكالي أن عليا خرج ليلة النصف من شعبان فأكثر الخروج
فيها ينظر إلى السماء فقال : إن داود عليه السلام خرج ذات ليلة في مثل هذه
الساعة فنظر إلى السماء فقال إن هذه الساعة ما دعى الله أحد إلا أجابه و
لا استغفره أحد من هذه الليلة إلا غفر له ما لم يكن عشارا أو ساحرا أو
شاعرا أو كاهنا أو عريفا أو شرطيا أو جابيا أو صاحب كوبة أو غرطبة قال نوف
: الكوبة الطبل و الغرطبة : الطنبور اللهم رب داود اغفر لمن دعاك في هذه
الليلة و لمن استغفرك فيها و ليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل
الشام كخالد بن معدان ومكحول و لقمان بن عامر و غيرهم يعظمونها و يجتهدون
فيها في العبادة و عنهم أخذ الناس فضلها و تعظيمها و قد قيل أنه بلغهم في
ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك
فمنهم من قبله منهم وافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة و
غيرهم و أنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء و ابن أبي مليكة و نقله عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة و هو قول أصحاب مالك و غيرهم
و قالوا : ذلك كله بدعة
و اختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على
قولين : أحدهما : أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد كان خالد بن معدان و
لقمان بن عامر و غيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم و يتبخرون و يكتحلون و
يقومون في المسجد ليلتهم تلك و وافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك و قال في
قيامها في المساجد جماعة : ليس ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله و
الثاني : أنه يكره الإجتماع فيها في المساجد للصلاة و القصص و الدعاء و لا
يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه و هذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام و
فقيههم و عالمهم و هذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى و قد روي عن عمر بن
عبد العزيز أنه كتب إلى عامله إلى البصرة عليك بأربع ليال من السنة فإن
الله يفرغ فيهن الرحمة إفراغا أول ليلة من رجب و ليلة النصف من شعبان و
ليلة الفطر و ليلة الأضحى و في صحته عنه نظر و قال الشافعي رضي الله عنه :
بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال : ليلة الجمعة و العيدين و أول رجب و
نصف شعبان قال : و أستحب كل ما حكيت في هذه الليالي و لا يعرف للإمام أحمد
كلام في ليلة نصف شعبان و يتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من
الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة
لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و استحبها في رواية
لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود و هو من التابعين فكذلك قيام ليلة
النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و
ثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام و روي عن كعب قال
: إن الله تعالى يبعث ليلة النصف من شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنة
فيأمرها أن تتزين و يقول : إن الله تعالى قد اعتق في ليلتك هذه عدد نجوم
السماء و عدد أيام الدنيا و لياليها و عدد ورق الشجر وزنة الجبال و عدد
الرمال و روى سعيد بن منصور حدثنا أبو معشر عن أبي حازم و محمد بن قيس عن
عطاء بن يسار قال : ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من ليلة
النصف من شعبان ينزل الله تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده
كلهم إلا لمشرك أو مشاحن او قاطع رحم فيا من أعتق فيها من النار هنيئا لك
المنحة الجسيمة و يا أيها المردود فيها جبر الله مصيبتك هذه فإنها مصيبة
عظيمة
( بكيت على نفسي و حق لي البكا ... و ما انا من تضييع في شك )
( لئن قلت أني في صنيعي محسن ... فإني في قولي لذلك ذو إفك )
( ليالي شعبان و ليلة نصفه ... بأية حال قد تنزل لي صكي )
( و حق لعمري أن أديم تضرعي ... لعل إله الخلق يسمح بالفك )
فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى و دعائه بغفران
الذنوب و ستر العيوب و تفريج الكروب و أن يقدم على ذلك التوبة فإن الله
تعالى يتوب فيها على من يتوب
( فقم ليلة النصف الشريف مصليا ... فأشرف هذا الشهر ليلة نصفه )
( فكم من فتى قد بات في النصف آمنا ... و قد نسخت فيه صحيفة حتفه )
( فبادر بفعل الخير قبل انقضائه ... و حاذر هجوم الموت فيه بصرفه )
( و صم يومها لله و أحسن رجاءه ... لتظفر عند الكرب منه بلطفه )
و يتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة و قبول الدعاء
في تلك الليلة و قد روي : أنها : الشرك و قتل النفس و الزنا و هذه الثلاثة
أعظم الذنوب عند الله كما في [ حديث ابن مسعود المتفق على صحته أنه سأل
النبي صلى الله عليه و سلم : أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندا و هو
خلقك قال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال : ثم أي ؟
قال : أن تزاني حليلة جارك ] فأنزل الله تعالى ذلك : { و الذين لا يدعون
مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون }
الآية و من الذنوب المانعة من المغفرة أيضا الشحناء و هي حقد المسلم على
أخيه بغضا له لهوى نفسه و ذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة
و الرحمة كما في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : تفتح
أبواب الجنة يوم الإثنين و الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا
رجلا كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال : انظروا هذين حتى يصطلحا ] و قد
فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى
الله عليه و سلم و لا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران
بعضهم بعضا و عن الأوزاعي أنه قال المشاحن كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة
و كذا قال ابن ثوبان : المشاحن هو التارك لسنة النبي صلى الله عليه و سلم
الطاعن على أمته السافك دماءهم و هذا الشحناء أعني شحناء البدعة توجب
الطعن على جماعة المسلمين و استحلال دمائهم و أموالهم و أعراضهم كبدع
الخوارج و الروافض و نحوهم
فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع
الشحناء كلها و أفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء و البدع التي تقتضي
الطعن على سلف الأمة و بغضهم و الحقد عليهم و اعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم و
تضليلهم ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين و إرادة الخير
لهم و نصيحتهم و أن يحب لهم ما يحب لنفسه و قد وصف الله تعالى المؤمنين
عموما بأنهم يقولون : { ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و
لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } و في المسند [ عن
أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : ثلاثة أيام يطلع عليكم
الآن رجل من أهل الجنة فيطلع رجل واحد فاستضافه عبد الله بن عمرو فنام
عنده ثلاثا لينظر عمله فلم ير له في بيته كبير عمل فأخبره بالحال فقال له
هو ما ترى إلا أني أبيت و ليس في قلبي شيء على أحد من المسلمين فقال عبد
الله : بهذا بلغ ما بلغ ] و في سنن ابن ماجه [ عن عبد الله بن عمرو قال :
قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : مخموم القلب صدوق اللسان نعرفه
فما مخموم القلب ؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا غل
و لا حسد ] قال بعض السلف : أفضل الأعمال سلامة الصدور و سخاوة النفوس و
النصحة للأمة و بهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الإجتهاد في الصوم و
الصلاة إخواني اجتنبوا الذنوب التي تحرم العبد مغفرة مولاه الغفار في
مواسم الرحمة و التوبة و الإستغفار أما الشرك : { إنه من يشرك بالله فقد
حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار } و أما القتل
فلو اجتمع أهل السموات و أهل الأرض على قتل رجل مسلم بغير حق لأكبهم الله
جميعا في النار و أما الزنا فحذار حذار من التعرض لسخط الجبار الخلق كلهم
عبيد الله و إماؤه و الله يغار لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني
أمته فمن أجل ذلك حرم الفواحش و أمر بغض الأبصار و أما الشحناء فيا من
أضمر لأخيه السوء و قصد له الإضرار : { لا تحسبن الله غافلا عما يعمل
الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار }
يكفيك حرمان المغفرة في أوقات مغفرة الأوزار
( خاب عبد بارز المو ... لى بأسباب المعاصي )
( ويحه مما جناه ... لم يخف يوم القصاص )
( يوم فيه ترعد الأقد ... ام من شيب النواصي )
( لي ذنوب في ازدياد ... و حياة في انتقاص )
( فمتى أعمل ما أعلم ... لي فيه خلاصي )
و قد روي عن عكرمة و غيره من المفسرين في قوله تعالى : { فيها يفرق كل أمر
حكيم } أنها ليلة النصف من شعبان و الجمهور على أنها ليلة القدر و هو
الصحيح و قال عطاء بن يسار : إذا كان ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك
الموت صحيفة فيقال : اقبض من في هذه الصحيفة فإن العبد ليغرس الغراس و
ينكح الأزواج و يبني البنيان و أن اسمه قد نسخ في الموتى ما ينتظر به ملك
الموت إلا أن يؤمر به فيقبضه يا مغرورا بطول الأمل يا مسرورا بسوء العمل
كن من الموت على وجل فما تدري متى يهجم الأجل
( كل امرىء مصبح في أهله ... و الموت أدنى من شراك نعله )
قال بعض السلف : كم من مستقبل يوما لا يستكمله و من مؤمل غدا لا يدركه
إنكم لو رأيتم الأجل و مسيره لأبغضتم الأمل و غروره
( أؤمل أن أخلد و المنايا ... تدور علي من كل النواحي )
( و ما أدري و إن أمسيت يوما ... لعلي لا أعيش إلى الصباح )
( كم ممن راح في طلب الدنيا أو غدا أصبح من سكان القبور غدا )
( كأنك بالمضي إلى سبيلك ... و قد جد المجهز في رحيلك )
( و جيء بغاسل فاستعجلوه ... بقولهم له أفرغ من غسيلك )
( و لم تحمل سوى كفن و قطن ... إليهم من كثيرك أو قليلك )
( و قد مد الرجال إليك نعشا ... فأنت عليه ممدود بطولك )
( وصلوا ثم إنهم تداعوا ... لحملك من بكورك أو أصيلك )
( فلما أسلموك نزلت قبرا ... و من لك بالسلامة في نزولك )
( أعانك يوم تدخله رحيم ... رؤوف بالعباد على دخولك )
( فسوف تجاور الموتى طويلا ... فذرني من قصيرك أو طويلك )
( أخي لقد نصحتك فاسمع لي ... و بالله استعنت على قبولك )
( ألست ترى المنايا كل حين ... تصيبك في أخيك و في خليلك )
خرج الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و ابن حبان في
صحيحه و الحاكم [ من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان ]
و صححه الترمذي و غيره و اختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به
: فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي و ابن حبان و الحاكم و الطحاوي
و ابن عبد البر و تكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء و أعلم و قالوا : هو حديث
منكر منهم الرحمن بن المهدي و الإمام أحمد و أبو زرعة الرازي و الأثرم و
قال الإمام أحمد : لم يرو العلاء حديثا أنكر منه و رده بحديث : [ لا
تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ] فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين
و قال الأثرم الأحاديث كلها تخالفه يشير كلها تخالفه يشير إلى أحاديث صيام
النبي صلى الله عليه و سلم شعبان كله و وصله برمضان و نهيه عن التقدم على
رمضان بيومين فصار الحديث حينئذ شاذا مخالفا للأحاديث الصحيحة و قال
الطحاوي هو منسوخ و حكى الإجماع على ترك العمل به و أكثر العلماء على أنه
لا يعمل به و قد أخذ آخرون منهم الشافعي و أصحابه و نهو عن ابتداء التطوع
بالصيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة و وافقهم بعض المتأخرين من أصحابنا
ثم اختلفوا في علة النهي فمنهم من قال : خشية أن يزاد في شهر رمضان ما ليس
منه و هذا بعيد جدا فيما بعد النصف و إنما يحتمل هذا في التقديم بيوم أو
يومين و منهم من قال : النهي للتقوى على صيام رمضان شفقة أن يضعفه ذلك عن
صيام رمضان و روي ذلك عن وكيع و يرد هذا صيام النبي صلى الله عليه و سلم
شعبان كله أو أكثره و وصله برمضان هذا كله بالصيام بعد نصف شعبان
و
أما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر
المندوب إلى صيامها من كل شهر و قد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه ففي
سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف [ عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم : إذا
كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها و صوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها
لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول : ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق
فأرزقه ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر ] و في فضل ليلة
نصف شعبان أحاديث أخر متعددة و قد اختلف فيها فضعفها الأكثرون و صحح ابن
حبان بعضها و خرجه في صحيحه و من أمثلها [ حديث عائشة قال : فقدت النبي
صلى الله عليه و سلم فخرجت فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال :
أكنت تخافين أن يحيف الله عليك و رسوله فقلت يا رسول الله ظننت أنك أتيت
بعض نسائك فقال : إن الله تبارك و تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى
السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب ] خرجه الإمام أحمد و
الترمذي الإمام أحمد ابن ماجه و ذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه و خرج
ابن ماجه من حديث [ أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله
ليطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ] و خرج
الإمام أحمد من [ حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
: إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين
مشاحن أو قاتل نفس ] و خرجه ابن حبان في صحيحه من حديث معاذ مرفوعا
و يروى من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعا : [ إذا كان ليلة النصف من
شعبان نادى مناد : هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه فلا يسأل أحد
شيئا إلا أعطيه إلا زانية بفرجها أو مشركا ] و في الباب أحاديث أخر فيها
ضعف و يروى عن نوف البكالي أن عليا خرج ليلة النصف من شعبان فأكثر الخروج
فيها ينظر إلى السماء فقال : إن داود عليه السلام خرج ذات ليلة في مثل هذه
الساعة فنظر إلى السماء فقال إن هذه الساعة ما دعى الله أحد إلا أجابه و
لا استغفره أحد من هذه الليلة إلا غفر له ما لم يكن عشارا أو ساحرا أو
شاعرا أو كاهنا أو عريفا أو شرطيا أو جابيا أو صاحب كوبة أو غرطبة قال نوف
: الكوبة الطبل و الغرطبة : الطنبور اللهم رب داود اغفر لمن دعاك في هذه
الليلة و لمن استغفرك فيها و ليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل
الشام كخالد بن معدان ومكحول و لقمان بن عامر و غيرهم يعظمونها و يجتهدون
فيها في العبادة و عنهم أخذ الناس فضلها و تعظيمها و قد قيل أنه بلغهم في
ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك
فمنهم من قبله منهم وافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة و
غيرهم و أنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء و ابن أبي مليكة و نقله عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة و هو قول أصحاب مالك و غيرهم
و قالوا : ذلك كله بدعة
و اختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على
قولين : أحدهما : أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد كان خالد بن معدان و
لقمان بن عامر و غيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم و يتبخرون و يكتحلون و
يقومون في المسجد ليلتهم تلك و وافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك و قال في
قيامها في المساجد جماعة : ليس ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله و
الثاني : أنه يكره الإجتماع فيها في المساجد للصلاة و القصص و الدعاء و لا
يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه و هذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام و
فقيههم و عالمهم و هذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى و قد روي عن عمر بن
عبد العزيز أنه كتب إلى عامله إلى البصرة عليك بأربع ليال من السنة فإن
الله يفرغ فيهن الرحمة إفراغا أول ليلة من رجب و ليلة النصف من شعبان و
ليلة الفطر و ليلة الأضحى و في صحته عنه نظر و قال الشافعي رضي الله عنه :
بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال : ليلة الجمعة و العيدين و أول رجب و
نصف شعبان قال : و أستحب كل ما حكيت في هذه الليالي و لا يعرف للإمام أحمد
كلام في ليلة نصف شعبان و يتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من
الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة
لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و استحبها في رواية
لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود و هو من التابعين فكذلك قيام ليلة
النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و
ثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام و روي عن كعب قال
: إن الله تعالى يبعث ليلة النصف من شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنة
فيأمرها أن تتزين و يقول : إن الله تعالى قد اعتق في ليلتك هذه عدد نجوم
السماء و عدد أيام الدنيا و لياليها و عدد ورق الشجر وزنة الجبال و عدد
الرمال و روى سعيد بن منصور حدثنا أبو معشر عن أبي حازم و محمد بن قيس عن
عطاء بن يسار قال : ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من ليلة
النصف من شعبان ينزل الله تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده
كلهم إلا لمشرك أو مشاحن او قاطع رحم فيا من أعتق فيها من النار هنيئا لك
المنحة الجسيمة و يا أيها المردود فيها جبر الله مصيبتك هذه فإنها مصيبة
عظيمة
( بكيت على نفسي و حق لي البكا ... و ما انا من تضييع في شك )
( لئن قلت أني في صنيعي محسن ... فإني في قولي لذلك ذو إفك )
( ليالي شعبان و ليلة نصفه ... بأية حال قد تنزل لي صكي )
( و حق لعمري أن أديم تضرعي ... لعل إله الخلق يسمح بالفك )
فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى و دعائه بغفران
الذنوب و ستر العيوب و تفريج الكروب و أن يقدم على ذلك التوبة فإن الله
تعالى يتوب فيها على من يتوب
( فقم ليلة النصف الشريف مصليا ... فأشرف هذا الشهر ليلة نصفه )
( فكم من فتى قد بات في النصف آمنا ... و قد نسخت فيه صحيفة حتفه )
( فبادر بفعل الخير قبل انقضائه ... و حاذر هجوم الموت فيه بصرفه )
( و صم يومها لله و أحسن رجاءه ... لتظفر عند الكرب منه بلطفه )
و يتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة و قبول الدعاء
في تلك الليلة و قد روي : أنها : الشرك و قتل النفس و الزنا و هذه الثلاثة
أعظم الذنوب عند الله كما في [ حديث ابن مسعود المتفق على صحته أنه سأل
النبي صلى الله عليه و سلم : أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندا و هو
خلقك قال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال : ثم أي ؟
قال : أن تزاني حليلة جارك ] فأنزل الله تعالى ذلك : { و الذين لا يدعون
مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون }
الآية و من الذنوب المانعة من المغفرة أيضا الشحناء و هي حقد المسلم على
أخيه بغضا له لهوى نفسه و ذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة
و الرحمة كما في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : تفتح
أبواب الجنة يوم الإثنين و الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا
رجلا كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال : انظروا هذين حتى يصطلحا ] و قد
فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى
الله عليه و سلم و لا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران
بعضهم بعضا و عن الأوزاعي أنه قال المشاحن كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة
و كذا قال ابن ثوبان : المشاحن هو التارك لسنة النبي صلى الله عليه و سلم
الطاعن على أمته السافك دماءهم و هذا الشحناء أعني شحناء البدعة توجب
الطعن على جماعة المسلمين و استحلال دمائهم و أموالهم و أعراضهم كبدع
الخوارج و الروافض و نحوهم
فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع
الشحناء كلها و أفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء و البدع التي تقتضي
الطعن على سلف الأمة و بغضهم و الحقد عليهم و اعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم و
تضليلهم ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين و إرادة الخير
لهم و نصيحتهم و أن يحب لهم ما يحب لنفسه و قد وصف الله تعالى المؤمنين
عموما بأنهم يقولون : { ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و
لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } و في المسند [ عن
أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : ثلاثة أيام يطلع عليكم
الآن رجل من أهل الجنة فيطلع رجل واحد فاستضافه عبد الله بن عمرو فنام
عنده ثلاثا لينظر عمله فلم ير له في بيته كبير عمل فأخبره بالحال فقال له
هو ما ترى إلا أني أبيت و ليس في قلبي شيء على أحد من المسلمين فقال عبد
الله : بهذا بلغ ما بلغ ] و في سنن ابن ماجه [ عن عبد الله بن عمرو قال :
قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : مخموم القلب صدوق اللسان نعرفه
فما مخموم القلب ؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا غل
و لا حسد ] قال بعض السلف : أفضل الأعمال سلامة الصدور و سخاوة النفوس و
النصحة للأمة و بهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الإجتهاد في الصوم و
الصلاة إخواني اجتنبوا الذنوب التي تحرم العبد مغفرة مولاه الغفار في
مواسم الرحمة و التوبة و الإستغفار أما الشرك : { إنه من يشرك بالله فقد
حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار } و أما القتل
فلو اجتمع أهل السموات و أهل الأرض على قتل رجل مسلم بغير حق لأكبهم الله
جميعا في النار و أما الزنا فحذار حذار من التعرض لسخط الجبار الخلق كلهم
عبيد الله و إماؤه و الله يغار لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني
أمته فمن أجل ذلك حرم الفواحش و أمر بغض الأبصار و أما الشحناء فيا من
أضمر لأخيه السوء و قصد له الإضرار : { لا تحسبن الله غافلا عما يعمل
الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار }
يكفيك حرمان المغفرة في أوقات مغفرة الأوزار
( خاب عبد بارز المو ... لى بأسباب المعاصي )
( ويحه مما جناه ... لم يخف يوم القصاص )
( يوم فيه ترعد الأقد ... ام من شيب النواصي )
( لي ذنوب في ازدياد ... و حياة في انتقاص )
( فمتى أعمل ما أعلم ... لي فيه خلاصي )
و قد روي عن عكرمة و غيره من المفسرين في قوله تعالى : { فيها يفرق كل أمر
حكيم } أنها ليلة النصف من شعبان و الجمهور على أنها ليلة القدر و هو
الصحيح و قال عطاء بن يسار : إذا كان ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك
الموت صحيفة فيقال : اقبض من في هذه الصحيفة فإن العبد ليغرس الغراس و
ينكح الأزواج و يبني البنيان و أن اسمه قد نسخ في الموتى ما ينتظر به ملك
الموت إلا أن يؤمر به فيقبضه يا مغرورا بطول الأمل يا مسرورا بسوء العمل
كن من الموت على وجل فما تدري متى يهجم الأجل
( كل امرىء مصبح في أهله ... و الموت أدنى من شراك نعله )
قال بعض السلف : كم من مستقبل يوما لا يستكمله و من مؤمل غدا لا يدركه
إنكم لو رأيتم الأجل و مسيره لأبغضتم الأمل و غروره
( أؤمل أن أخلد و المنايا ... تدور علي من كل النواحي )
( و ما أدري و إن أمسيت يوما ... لعلي لا أعيش إلى الصباح )
( كم ممن راح في طلب الدنيا أو غدا أصبح من سكان القبور غدا )
( كأنك بالمضي إلى سبيلك ... و قد جد المجهز في رحيلك )
( و جيء بغاسل فاستعجلوه ... بقولهم له أفرغ من غسيلك )
( و لم تحمل سوى كفن و قطن ... إليهم من كثيرك أو قليلك )
( و قد مد الرجال إليك نعشا ... فأنت عليه ممدود بطولك )
( وصلوا ثم إنهم تداعوا ... لحملك من بكورك أو أصيلك )
( فلما أسلموك نزلت قبرا ... و من لك بالسلامة في نزولك )
( أعانك يوم تدخله رحيم ... رؤوف بالعباد على دخولك )
( فسوف تجاور الموتى طويلا ... فذرني من قصيرك أو طويلك )
( أخي لقد نصحتك فاسمع لي ... و بالله استعنت على قبولك )
( ألست ترى المنايا كل حين ... تصيبك في أخيك و في خليلك )
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى