لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : لطائف المعارف الجزء الاول Empty كتاب : لطائف المعارف الجزء الاول {السبت 18 يونيو - 19:33}

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم



مجلس في فضل التذكير بالله تعالى و مجالس الوعظ


خرج الإمام أحمد و الترمذي و ابن حبان في صحيحه من [ حديث أبي هريرة رضي
الله عنه قال : قلنا يا رسول الله ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا و زهدنا
في الدنيا و كنا من أهل الآخرة فإذا خرجنا من عندك فآنسنا أهلنا و شممنا
أولادنا أنكرنا أنفسنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أنكم
إذا خرجتم من عندي على حالكم ذلكم لزارتكم الملائكة في بيوتكم و لو لم
تذنبوا لجاء الله بخلق جديد حتى يذنبوا فيغفر لهم قلت يا رسول الله مم خلق
الخلق ؟ قال : من الماء قلت : الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنة من ذهب و لبنة
من فضة و ملاطها المسك الأذفر وحصباؤها الؤلؤ و الياقوت و تربتها الزعفران
من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم ]

كانت مجالس النبي صلى الله عليه و سلم مع أصحابه عامتها مجالس تذكير
بالله و ترغيب و ترهيب إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة و
الموعظة الحسنة و تعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن
يذكر و يعظ و يقص و أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة و أن
يبشر و ينذر و سماه الله { مبشرا و نذيرا * و داعيا إلى الله بإذنه و
سراجا منيرا } فقيل : سراجا للمؤمنين في الدنيا و منيرا للمذنبين يوم
القيامة بالشفاعة و سمي سراجا لأن السراج الواحد يوقد منه ألف سراج و لا
ينتقص من نوره شيء كذلك خلق الله الأنبياء من نور محمد صلى الله عليه و
سلم و لم ينقص من نوره شيء قال العلماء رضي الله عنهم : و السرج خمسة :
واحد في الدنيا و واحد في الدين و واحد في السماء و واحد في الجنة و واحد
في القلب ففي الدنيا : النار و في السماء : الشمس و في الدين : محمد صلى
الله عليه و سلم و واحد في الجنة : عمر سراج أهل الجنة و في القلب :
المعرفة و التبشير و الإنذار : هو الترغيب و الترهيب فلذلك كانت تلك
المجالس توجب لأصحابه ـ كما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه في هذا الحديث ـ
رقة القلب و الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة

الكلام في المواعظ و رقة القلب


فأما رقة القلوب فتنشأ عن الذكر فإن ذكر الله يوجب خشوع القلب و صلاحه و
رقته و يذهب بالغفلة عنه قال الله تعالى : { الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم
بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } و قال الله عز و جل : { إنما
المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم
إيمانا و على ربهم يتوكلون } و قال تعالى : { و بشر المخبتين * الذين إذا
ذكر الله وجلت قلوبهم } و قال الله تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع
قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق و لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من
قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم و كثير منهم فاسقون } و قال تعالى : {
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون
ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله }
و قال العرباض بن
سارية : و عظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم موعظة بليغة وجلت منها
القلوب و ذرفت منها العيون و قال ابن مسعود : نعم المجالس المجلس الذي
تنشر فيه الحكمة و ترجى فيه الرحمة هي مجالس الذكر و شكا رجل إلى الحسن
قساوة قلبه فقال : أدنه من الذكر و قال : مجلس الذكر محياة العلم و يحدث
في القلب الخشوع القلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر
:
( بذكر الله ترتاح القلوب ... و دنيانا بذكراه تطيب )
و أما
الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة فبما يحصل في مجالس الذكر من ذكر عيوب
الدنيا و ذمها و التزهيد فيها و ذكر فضل الجنة و مدحها و الترغيب فيها و
ذكر النار و أهوالها و الترهيب منها و في مجالس الذكر تنزل الرحمة و تغشى
السكينة و تحف الملائكة و يذكر الله أهلها فيمن عنده و هم قوم لا يشقى بهم
جليسهم فربما رحم معهم من جلس إليهم و إن كان مذنبا و ربما بكى فيهم باك
من خشية الله فوهب أهل المجلس كلهم له و هي رياض الجنة قال النبي صلى الله
عليه و سلم [ إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا : و ما رياض الجنة ؟
قال : مجالس الذكر ]

أقسام أهل الذكر


فإذا انقضى مجلس الذكر فأهله بعد ذلك على أقسام :
فمنهم من يرجع إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر و لا يزداد
هدى و لا يرتدع عن ردىء و هؤلاء أشر الأقسام و يكون ما سمعوه حجة عليهم
فتزداد به عقوبتهم و هؤلاء الظالمين لأنفسهم : { أولئك الذين طبع الله على
قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون }
و منهم من ينتفع
بما سمعه و هم على أقسام : فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات و يوجب له
التزام الواجبات و هؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين و منهم من يرتقي عن ذلك
إلى التشمير في نوافل الطاعات و التورع عن دقائق المكروهات و يشتاق إلى
إتباع آثار من سلف من السادات و هؤلاء السابقون المقربون
و ينقسم
المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس و الغفلة عنه
إلى ثلاثة أقسام : فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها
فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر من استحضار عظمة الله و
جلاله و كبريائه و وعده و وعيده و ثوابه و عقابه و هذا هو الذي شكاه
الصحابة إلى النبي صلى الله عليه و سلم و خشوا لكمال معرفتهم و شدة خوفهم
أن يكون نفاقا فأعلمهم النبي صلى الله عليه و سلم أنه ليس نفاق و في صحيح
مسلم [ عن حنظلة أنه قال : يا رسول الله نافق حنظلة قال : و ما ذاك قال :
نكون عندك تذكرنا بالجنة و النار كأنها رأي عين فإذا رجعنا من عندك عافسنا
الأزواج و الضيعة و نسينا كثيرا فقال : لو تدومون على الحال التي تقومون
بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم و في طرقكم و لكن يا حنظلة ساعة
و ساعة ] و في رواية له أيضا : [ لو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر
لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق ] و معنى هذا : أن استحضار ذكر
الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جدا و لا يقدر كثير من الناس أو
أكثرهم عليه فيكتفي منهم بذكر ذلك أحيانا و إن وقعت الغفلة عنه في حال
التلبس بمصالح الدنيا المباحة و لكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك بل يلوم
نفسه عليه و يحزنه ذلك من نفسه العارف يتأسف في وقت الكدر على زمن الصفا و
يحن إلى زمان القرب و الوصال في حال الجفا
( ما أكدر عيشنا الذي قد سلفا ... إلا وجف القلب و كم قد جفا )
( و اها لزماننا الذي كان صفا ... هل يرجع بعد فوته وا أسفا )
و قسم آخرون يستمرون على استحضار حال مجلس سماع الذكر فلا يزال تذكر ذلك
بقلوبهم ملازما لهم و هؤلاء على قسمين : أحدهما : من يشغله ذلك عن مصالح
دنياه المباحة فينقطع عن الخلق فلا يقوى على مخالطتهم و لا القيام بوفاء
حقوقهم و كان كثير من السلف على هذه الحال فمنهم من كان لا يضحك أبدا و
منهم من كان يقول : لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد و الثاني : من
يستحضر ذكر الله و عظمته و ثوابه و عقابه بقلبه و يدخل ببدنه في مصالح
دنياه من اكتساب الحلال و القيام على العيال و يخالط الخلق فيما يوصل
إليهم به النفع مما هو عبادة في نفسه كتعلم العلم و الجهاد و الأمر
بالمعروف و النهي عن المنكر و هؤلاء أشرف القسمين و هم خلفاء الرسل و هم
الذين قال فيهم علي رضي الله عنه : صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة
بالمجل الأعلى
و قد كان حال النبي صلى الله عليه و سلم عند الذكر
يتغير ثم يرجع بعد انقضائه إلى مخالطة الناس و القيام بحقوقهم ففي مسند
البزار و معجم الطبراني [ عن جابر رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله
عليه و سلم إذا نزل عليه الوحي قلت : نذير قوم فإذا سري عنه فأكثر الناس
ضحكا و أحسنهم خلقا ] و في مسند الإمام أحمد [ عن علي أو الزبير قال : كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في
وجهه و كأنه نذير جيش يصحبهم الأمر غدوة و كان إذا كان حديث عهد بجبريل لم
يتبسم ضاحكا حتى يرتفع عنه ] و في صحيح مسلم [ عن جابر : أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان إذا خطب و ذكر الساعة اشتد غضبه و علا صوته منذر جيش
يقول صبحكم و مساكم ] و في الصحيحين [ عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : اتقوا النار و أشاح ثم قال : اتقوا النار ثم أعرض و أشاح
ثلاثا حتى ظننا أنه ينظر إليها ثم قال : اتقوا النار و لو بشق تمرة فمن لم
يجد فبكلمة طيبة ] و سئلت عائشة كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
إذا خلا مع نسائه ؟ قالت : [ كان كرجل من رجالكم إلا أنه : كان أكرم الناس
و أحسن الناس خلقا و كان ضحاكا بساما ] فهذه الطبقة خلفاء الرسل عاملوا
الله بقلوبهم و عاشروا الخلق بأبدانهم كما قالت رابعة :
( و لقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... و أبحت جسمي من أراد جلوسي )
( فالجسم مني للجليس مؤانس ... و حبيب قلبي في الفؤاد أنيسي )
المواعظ سياط تضرب القلوب فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن و الضرب
لا يؤثر بعد انقضائه كتأثر في حال وجوده لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته و
ضعفه فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر كان كثير من السلف إذا
خرجوا من مجلس سماع الذكر خرجوا عليهم السكينة و الوقار
فمنهم من
كان لا يستطيع أن يأكل طعاما عقب ذلك ومنهم من كان يعمل بمقتضى ما سمعه
مدة أفضل الصدقة : تعليم جاهل أو إيقاظ غافل ما وصل المستثقل في نوم
الغفلة بأفضل من ضربه بسياط الوعظة ليستيقظ المواعظ كالسياط تقع على نياط
القلوب فمن آلمته فصاح فلا جناح و من زاد ألمه فمات فدمه مباح
( قضى الله في القتلى قصاص دمائهم ... و لكن دماء العاشقين جبار )
و عظ عبد الواحد بن زيد يوما فصاح به رجل : يا أبا عبيدة كف فقد كشفت
بالموعظة قناع قلبي فأتم عبد الواحد موعظته فمات الرجل صاح رجل في حلقة
الشبلي فمات فاستعدى أهله على الشبلي إلى الخليفة فقال الشبلي : نفس رقت
فحنت فدعيت فأجابت فما ذنب الشبلي
( فكر في أفعاله ثم صاح ... لا خير في الحب بغير افتضاح )
( قد جئتكم مستأمنا فارحموا ... لا تقتلوني قد رميت السلاح )
إنما يصلح التأديب بالسوط من صحيح البدن ثابت القلب قوي الذراعين فيؤلم
ضربه فيردع فأما من هو سقيم البدن لا قوة له فماذا ينقع تأديبه بالضرب كان
الحسن إذا خرج إلى الناس كأنه رجل عاين الآخرة ثم جاء يخبر عنها و كانوا
إذا خرجوا من عنده خرجوا و هم لا يعدون الدنيا شيئا و كان سفيان الثوري
يتعزى بمجالسه عن الدنيا و كان أحمد لا تذكر الدنيا في مجلسه و لا تذكر
عنده قال بعضهم : لا تنفع الموعظة إلا إذا خرجت من القلب فإنها تصل إلى
القلب فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى قال
بعض السلف : إن العالم إذا لم يرد بموعظة وجه الله زلت موعظته عن القلوب
كما يزل القطر عن الصفا كان يحيى بن معاذ ينشد في مجالسه :
( مواعظ الواعظ لن تقبلا ... حتى يعيها قلبه أولا )
( يا قوم من أظلم من واعظ ... قد خالف ما قاله في الملا )
( أظهر بين الناس إحسانه ... و بارز الرحمن لما خلا )
العالم الذي لا يعمل بعلمه كمثل المصباح يضيء للناس و يحرق نفسه قال أبو
العتاهية :
( وبخت غيرك بالعمى فأفدته ... بصرا و أنت محسن لعماك )
( و فتيلة المصباح تحرق نفسها ... و تضيء للأعشى و أنت كذاك )
المواعظ ذرياق الذنوب : فلا ينبغي أن يسقي الذرياق إلا طبيب حاذق معافى
فأما لذيع الهوى فهو إلى شرب الذرياق أحوج من أن يسقيه لغيره في بعض الكتب
السالفة : إذا أردت أن تعظ الناس فعظ نفسك فإن اتعظت و إلا فاستحي مني :
( و غير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس و هو سقيم )
( يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم )
( فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم )
( فهناك يقبل ما تقول و يقتدى ... بالقول منك و ينفع التعليم )
( لا تنه عن خلق و تأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم )
لما جلس عبد الواحد بن زيد للوعظ أتته امرأة من الصالحات فأنشدته :
( يا واعظا قام لاحتساب ... يزجر قوما عن الذنوب )
( تنهى و أنت المريب حقا ... هذا من المنكر العجيب )
( لو كنت أصلحت قبل هذا ... عيبك أو تبت من قريب )
( كان لما قلت يا حبيبي ... موقع صدق من القلوب )
( تنهى عن الغي و التمادي ... و أنت في النهي كالمريب )
لما حاسب المتقون أنفسهم خافوا من عاقبة الوعظ و التذكير قال رجل لابن
عباس : أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر فقال له ابن عباس : إن لم
تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل و إلا فابدأ بنفسك ثم تلا : {
أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم } و قوله تعالى : { لم تقولون ما لا
تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } قوله تعالى حكاية عن
شعيب عليه السلام : { و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } قال
النخعي كانوا يكرهون القصص لهذه الآيات الثلاث قيل لمطرف : ألا تعظ أصحابك
؟ قال : أكره أن أقول ما لا أفعل تقدم بعض التابعين ليصلي بالناس إماما
فالتفت إلى المأمومين يعدل الصفوف و قال : استووا فغشي عليه فسئل عن سبب
ذلك فقال : لما قلت لهم استقيموا فكرت في نفسي فقلت لها فأنت هل استقمت مع
الله طرفة عين
( ما كل من وصف الدوا يستعمله ... و لا كل من وصف التقى ذو تقى )
( وصفت التقى حتى كأني ذو تقى ... و ريح الخطايا من ثيابي تعبق )
و مع هذا كله فلا بد للإنسان من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الوعظ

و التذكير و لو لم يعظ إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد رسول الله صلى
الله عليه و سلم أحد لأنه لا عصمة لأحد بعده :
( لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب ... فمن يعظ العاصين بعد محمد )
و روى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كله و انهوا عن المنكر
و إن لم تتناهوا عنه كله ] و قيل للحسن : إن فلانا لا يعظ و يقول : أخاف
أن أقول مالا أفعل فقال الحسن : و أينا يفعل ما يقول ود الشيطان أنه ظفر
بهذا فلم يأمر أحد بمعروف و لم ينه عن منكر و قال مالك عن ربيعة : قال
سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر حتى لا
يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف و لا نهى عن منكر قال مالك : و صدق و من
ذا الذي ليس فيه شيء :
( من ذا الذي ما ساء قط ... و من له الحسنى فقط )
خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوما فقال في موعظته : إني لأقول هذه
المقالة و ما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي فاستغفر الله و
أتوب إليه و كتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتابا يعظه فيه و قال في
آخره : و إني لأعظك بهذا و إني لكثير الإسراف على نفسي غير محكم لكثير من
أمري و لو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذا لتواكل الخير و إذا
لرفع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إذا لاستحلت المحارم و قل
الواعظون و الساعون لله بالنصيحة في الأرض و الشيطان و أعوانه يودون أن لا
يأمر أحد بمعروف و لا ينهى عن منكر و إذا أمرهم أحد أو نهاهم عابوه بما
فيه و بما ليس فيه كما قيل :
( و أعلنت الفواحش في البوادي ... و صار الناس أعوان المريب )
( إذا ما عبتم عابوا مقالي ... لما في القوم من تلك العيوب )
( و ودوا لو كففنا فاستوينا ... فصار الناس كالشيء المشوب )
( و كنا نستطب إذا مرضنا ... فصار هلاكنا بيد الطبيب )
و كان بعض العلماء المشهورين له مجلس للوعظ فجلس يوما فنظر إلى من حوله و
هم خلق كثير و ما منهم إلا من قد رق قلبه أو دمعت عينه فقال لنفسه فيما
بينه و بينها : كيف بك إن نجا هؤلاء و هلكت أنت ثم قال في نفسه : اللهم إن
قضيت علي غدا بالعذاب فلا تعلم هؤلاء بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي لئلا
يقال : عذب من كان في الدنيا يدل عليه إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه و
سلم : اقتل ابن أبي المنافق فقال : [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه
] فامتنع من عقابه لما كان في الظاهر ينسب إليه و أنا على كل حال فإليك
أنسب زور رجل شفاعة إلى بعض الملوك على لسان بعض أكابر الدولة فاطلع
المزور عليه على الحال فسعى عند الملك في قضاء تلك الحاجة و اجتهد حتى
قضيت ثم قال للمزور عليه : ما كنا نخيب من علق أمله بنا و رجى النفع من
جهتنا إلهي فأنت أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين فلا تخيب من علق أمله و
رجاءه بك و انتسب إليك و دعا عبادك إلى بابك و إن كان متطفلا على كرمك و
لم يكن أهلا للسمسرة بينك و بين عبادك لكنه طمع في سعة جودك و كرمك فأنت
أهل الجود و الكرم و ربما استحيا الكريم من رد من تطفل على سماط كرمه
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنكم صفح عن الذنب )
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ لو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد حتى
يذنبوا فيغفر لهم ] و خرجه مسلم من وجه آخر [ عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم لجاء
بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم ] و في [ حديث أبي أيوب عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون ثم يغفر
لهم ] و في رواية له أيضا : [ لو لم يكن لكم ذنوب يغفرها الله لجاء الله
بقوم لهم ذنوب فيغفر لهم ] و المراد بهذا : أن لله تعالى حكمة في إلقاء
الغفلة على قلوب عباده أحيانا حتى تقع منهم بعض الذنوب فإنه لو استمرت لهم
اليقظة التي يكونون عليها في حال سماع الذكر لما وقع منهم ذنب

رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : لطائف المعارف الجزء الاول Empty رد: كتاب : لطائف المعارف الجزء الاول {السبت 18 يونيو - 19:36}

فائدتان عظيمتان في إيقاع الخلق في الذنوب أحيانا


و في إيقاعهم في الذنوب أحيانا فائدتان عظيمتان :
أحدهما : اعتراف المذنبين بذنوبهم و تقصيرهم في حق مولاهم و تنكيس رؤوس
عجبهم و هذا أحب إلى الله من فعل كثير من الطاعات فإن دوام الطاعات قد
توجب لصاحبها العجب و في الحديث : [ لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد
من ذلك العجب ] قال الحسن : لو أن ابن آدم كلما قال أصاب و كلما عمل أحسن
أوشك أن يجن من العجب قال بعضهم : ذنب أفتقر به أحب إلي من طاعة أدل بها
عليه أنين المذنبين أحب إليه من زجل المسبحين لأن زجل المسبحين ربما شابه
الإفتخار و أنين المذنبين يزينه الإنكسار و الإفتقار في حديث : [ إن الله
لينفع العبد بالذنب يذنبه ] قال الحسن : إن العبد ليعمل الذنب فلا ينساه و
لا يزال متخوفا منه حتى يدخل الجنة المقصود من زلل المؤمن ندمه و من تفريط
أسفه و من اعوجاجه تقويمه و من تأخره تقديمه و من زلقه في هوة الهوى أن
يؤخذ بيده فينجى إلى نجوة النجاة
( قرة عيني لا بد لي منك و إن ... أوحش بيني و بينك الزلل )
( قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل )
الفائدة الثانية : حصول المغفرة و العفو من الله لعبده فإن الله يحب أن
يعفو و يغفر و من أسمائه الغفار و العفو و التواب فلو عصم الخلق فلمن كان
العفو و المغفرة قال بعض السلف : أول ما خلق الله القلم فكتب : إني أنا
التواب أتوب على من تاب قال أبو الجلد : قال رجل من العاملين لله بالطاعة
: اللهم أصلحني صلاحا لا فساد علي بعده فأوحى الله تعالى إليه : إن عبادي
المؤمنين كلهم يسألوني مثل ما سألت فإذا أصلحت عبادي كلهم فعلى من أتفضل و
على من أعود بمغفرتي كان بعض السلف يقول : لو أعلم أحب الأعمال إلى الله
لأجهدت نفسي فيها فرأى في منامه قائلا يقول له إنك تريد مالا يكون إن الله
يحب أن يغفره قال يحيى بن معاذ : لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم
يبتل بالذنب أكرم الخلق عليه
( يا رب أنت رجائي ... و فيك حسنت ظني )
( يارب فاغفر ذنوبي ... و عافني و اعف عني )
( العفو منك إلهي ... و الذنب قد جاء مني )
( و الظن فيك جميل ... حقق بحقك ظني )

ذكر الخلق و مادته


[ و قوله صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة لما سأله : مم خلق الخلق فقال له
: من الماء يدل على أن الماء أصل جميع المخلوقات و مادتها و جميع
المخلوقات خلقت منه ]
و في المسند من وجه آخر [ عن أبي هريرة قال :
قلت يا رسول الله إذا رأيتك طابت نفسي و قرت عيني فأنبئني عن كل شيء ؟
فقال : كل شيء خلق من ماء ] و قد حكى ابن جرير و غيره عن ابن مسعود و
طائفة من السلف أن أول المخلوقات الماء و روى الجوزجاني بإسناده عن عبد
الله بن عمرو أنه سئل عن بدء الخلق ؟ فقال : من تراب و ماء و طين و من نار
و ظلمة فقيل له : فما بدء الخلق الذي ذكرت ؟ قال : من ماء من ينبوع و قد
أخبر الله تعالى في كتابه أن الماء كان موجودا قبل خلق السموات و الأرض
فقال تعالى : { و هو الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على
الماء } و في صحيح البخاري [ عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : كان الله و لم يكن شيء قبله ] و في رواية : [ معه و كان عرشه
على الماء و كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات و الأرض ] و في صحيح مسلم
[ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله قدر
مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات و الأرض بخمسين ألف سنة و كان عرشه
على الماء ] و روى ابن جرير و غيره عن ابن عباس : أن الله عز و جل كان
عرشه على الماء و لم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء فلما أراد أن يخلق
الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسمى عليه فسمى سماء ثم أيبس
الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين ثم استوى إلى السماء و
هي دخان و كان ذلك الدخان من نفس الماء حين تنفس ثم جعلها سماء واحدة ثم
فتقها فجعلها سبع سموات و عن وهب : أن العرش كان قبل أن تخلق السموات و
الأرض على الماء فلما أراد الله أن يخلق السموات و الأرض قبض من صفات
الماء قبضة ثم فتح القبضة فارتفعت دخانا ثم قضاهن سبع سموات في يومين ثم
أخذ طينة من الماء فوضعها في مكان البيت ثم دحا الأرض منها و قال بعضهم :
خلق الله الأرض أولا ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعد أن خلق السماء و قيل
: خلق الله تعالى زمردة خضراء كغلظ السموات و الأرض ثم نظر إليها نظر
العظمة فانماعت ـ يعني ذابت ـ فصارت ماء فمن ثم يرى الماء دائما يتحرك من
تلك الهيبة ثم إن الله تعالى رفع من البحر بخارا و هو الدخان الذي ذكره في
قوله : { ثم استوى إلى السماء و هي دخان } فخلق السماء من الدخان و خلق
الأرض من الماء و الجبال من موج الماء و قال وهب : أول ما خلق الله تعالى
مكانا مظلما ثم خلق جوهرة فأضاءت ذلك المكان ثم نظر إلى الجوهرة نظرة
الهيبة فصارت ماء فارتفع بخارها و زبدها فخلق من البخار السموات و من
الزبد الأرضين و [ روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه
قال : إن الله عز و جل خلق خلقه من ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه
يومئذ من ذلك النور اهتدى و من أخطأه ضل ] و قال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه لكعب الأحبار : ما أول شيء ابتدأ الله تعالى من خلقه ؟ قال كعب : كتب
الله كتابا لم يكتبه قلم و لا دواة أي مداد كتابه الزبرجد واللؤلؤ و
الياقوت : إنني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي و أن محمدا عبدي
و رسولي سبقت رحمتي غضبي قال كعب : فإذا كان يوم القيامة أخرج الله ذلك
الكتاب فيخرج من النار مثلي عدد أهل الجنة فيدخلهم الجنة و قال سلمان و
عبد الله بن عمرو : إن لله تعالى مائة رحمة كما بين السماء و الأرض فأنزل
منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الجن و الإنس و طير السماء و
حيتان الماء و ما بين الهواء و دواب الأرض و هوامها و ادخر عنده تسعة و
تسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة أنزل تلك الرحمة إلى ما عنده فيرحم بها
عباده و الآثار في هذا الباب كثيرة
و هذا كله يبين أن السموات و
الأرض خلقت من الماء و الخلاف في أن الماء هل هو أول المخلوقات أم لا ؟
مشهور و حديث أبي هريرة يدل على أن الماء مادة جميع المخلوقات و قد دل
القرآن على أن الماء مادة جميع الحيوانات قال الله تعالى : { و جعلنا من
الماء كل شيء حي } و قال تعالى : { و الله خلق كل دابة من ماء } و قول من
قال : أن المراد بالماء النطفة التي يخلق منها الحيوانات بعيد لوجهين
أحدهما : أن النطفة لا تسمى ماء مطلقا بل مقيدا لقوله تعالى : { خلق من
ماء دافق * يخرج من بين الصلب و الترائب } و قوله تعالى : { ألم نخلقكم من
ماء مهين } و الثاني : أن من الحيوانات ما يتولد من غير نطفة كدود الخل و
الفاكهة و نحو ذلك فليس كل حيوان مخلوقا من نطفة و القرآن دل على خلق جميع
ما يدب و ما فيه حياة من ماء فعلم بذلك أن أصل جميعها الماء المطلق و لا
ينافي هذا قوله تعالى : { و الجان خلقناه من قبل من نار السموم } و قول
النبي صلى الله عليه و سلم : [ خلقت الملائكة من نور ] فإن حديث أبي هريرة
دل على أن أصل النور و النار الماء كما أن أصل التراب الذي خلق منه آدم
الماء فإن آدم خلق من طين و الطين تراب مختلط بماء أو التراب خلق من الماء
كما تقدم عن ابن عباس و غيره و زعم مقاتل : أن الماء خلق من النور و هو
مردود بحديث أبي هريرة هذا و غيره و لا يستنكر خلق النار من الماء فإن
الله عز و جل جمع بقدرته بين الماء و النار في الشجر الأخضر و جعل ذلك من
أدلة القدرة على البعث و ذكر الطبائعيون أن الماء بانحداره يصير بخارا و
البخار ينقلب هواء و الهواء ينقلب نارا و الله أعلم

ذكر وصف الجنة


[ و قوله صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة حين سأله عن بناء الجنة فقال :
لبنة من ذهب و لبنة من فضة و ملاطها المسك الأذفر و حصباؤها اللؤلؤ و
الياقوت و تربتها الزعفران ] و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم
من حديث ابن عمر مرفوعا أخرجه الطبراني فهذه أربعة أشياء :
أحدها :
بناء الجنة : و يحتمل أن المراد بنيان قصورها و دورها و يحتمل أن يراد
بناء حائطها و سورها المحيط بها و هو أشبه و قد روي من وجه آخر [ عن أبي
هريرة مرفوعا و موقوفا و هو أشبه : حائط الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب
و درجها الياقوت و اللؤلؤ قال : و كنا نتحدث : أن رضراض أنهارها اللؤلؤ و
ترابها الزعفران ] و في مسند البزار [ عن أبي سعيد مرفوعا : خلق الله
الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب و ملاطها المسك فقال لها : تكلمي فقالت
قد أفلح المؤمنون فقالت الملائكة : طوبى لك منزل الملوك ] و مما يبين أن
المراد ببناء الجنة في هذه الأحاديث بناء سورها المحيط بها ما في الصحيحين
[ عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : جنتان من ذهب و آنيتهما
و ما فيهما و جنتان من فضة و آنيتهما و ما فيهما ] و [ قد روي عن أبي موسى
مرفوعا : جنتان من ذهب للمقربين و جنتان من فضة لأصحاب اليمين ] و في
الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنها جنان كثيرة ]
و قد روي : [ أن بناء بعضها من در و ياقوت ] خرج ابن لأبي الدنيا [ من
حديث أنس مرفوعا : خلق الله جنة عدن بيده لبنة بيضاء و لبنة من ياقوتة
حمراء و لبنة من زبرجد خضراء ملاطها المسك و حصباؤها اللؤلؤ و حشيشها
الزعفران ثم قال لها : انطقي قالت : قد أفلح المؤمنون قال و عزتي لا
يجاورني فيك بخيل ] و روى عطية [ عن أبي سعيد قال : إن الله خلق جنة عدن
من ياقوتة حمراء ثم قال لها : تزيني فتزينت ثم قال لها : تكلمي فقالت :
طوبى لمن رضيت عنه ثم أطبقها و علقها بالعرش فهي تفتح في كل سحر فذلك برد
السحر ] و عن ابن عباس قال : كان عرش الله على الماء ثم اتخذ دونها أخرى و
طبقهما بلؤلؤة واحدة لا تعلم الخلائق ما فيهما و هما اللتان لا تعلم نفس
ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون و ذكر صفوان بن عمرو عن
بعض مشايخه قال : الجنة مائة درجة أولها : درجة فضة أرضها فضة و مساكنها
فضة و ترابها المسك و الثانية : ذهب و أرضها ذهب و آنيتها ذهب و ترابها
المسك و الثالثة : لؤلؤ و أرضها لؤلؤ و آنيتها لؤلؤ و ترابها المسك و سبع
و تسعون بعد ذلك ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ثم تلا
{ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } و في
صحيح مسلم [ عن المغيرة بن شعبة يرفعه : سأل موسى ربه قال : يا رب ما أدنى
أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له
: ادخل الجنة فيقول : يا رب كيف و قد أخذ الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم ؟
فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول رضيت يا رب
فيقول لك ذلك و مثله و مثله و مثله فقال في الخامسة : رضيت يا رب فيقال :
هذا لك و عشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول : رضيت يا رب
قال : فأعلاهم منزلة قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت
عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال : و مصداقه في
كتاب الله : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ]
الثاني :
ملاط الجنة : و أنه المسك الأذفر و قد تقدم مثل ذلك في غير حديث و الملاط
: هو الطين و يقال : الطين الذي يبنى منه البنيان و الأذفر الخالص ففي
الصحيحين [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : دخلت الجنة فإذا
فيها جنابذ اللؤلؤ و إذا ترابها المسك ] و الجنابذ : مثل القباب و قد قيل
: إنه أراد بترابها ما خالطه الماء و هو طينها كما في صحيح البخاري [ عن
أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الكوثر : طينه المسك الأذفر
] و قد قيل في تأويل قوله تعالى : { ختامه مسك } : إن المراد بالختام : ما
يبقى في سفل الشراب من التفل و هذا يدل على أن أنهارها تجري على المسك و
لذلك يرسب منه في الإناء في آخر الشراب كما يرسب الطين في آنية الماء في
الدنيا
الثالث : حصباء الجنة : و أنه اللؤلؤ و الياقوت و الحصباء :
الحصي الصغار و هو الرضراض و في المسند [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و
سلم في ذكر الكوثر : أن رضراضه اللؤلؤ ] و في رواية : [ حصباؤه اللؤلؤ ] و
في الترمذي [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن مجراه
على الدر و الياقوت ] و في الطبراني [ من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : حاله المسك الأبيض و رضراضه الجوهر و حصباؤه
اللؤلؤ ] و في المسند [ من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : حاله المسك و رضراضه التوم ] و التوم : الجوهر و الحال : الطين قال
أبو العالية : قرأت في بعض الكتب : يا معشر الربانيين من أمة محمد انتدبوا
لدار أرضها زبرجد أخضر تجري عليها أنهار الجنة فيها الدر و اللؤلؤ و
الياقوت و سورها زبرجد أخضر متدليا عليها أشجار الجنة بثمارها
الرابع : تراب الجنة : و أنه الزعفران و قد سبق في رواية أخرى : [
الزعفران و الورس ] و قد قيل : إن المراد بالتراب ههنا : تربة الأرض التي
لا ماء عليها فأما ما كان عليه ماء فإنه مسك كما سبق و سبق أيضا في بعض
الروايات حشيشها الزعفران و هو نبات أرضها و ترابها فأما حديث ترابها
المسك : فقد قيل : إنه محمول على تراب يخالطه الماء كما تقدم و قيل : إن
المراد : أن ريح ترابها ريح مسك و لونه لون الزعفران و يشهد لهذا حديث
الكوثر : [ إن حاله المسك الأبيض ] فريحه ريح المسك و لونه مشرق لا يشبه
لون مسك الدنيا بل هو أبيض و قد يكون منه أبيض و منه أصفر و الله أعلم و
في صحيح مسلم [ من حديث أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل ابن
الصياد عن تربة الجنة : فقال : درمكة بيضاء مسك خالص فصدقه النبي صلى الله
عليه و سلم ] و رواية : أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه و سلم و صدقه
و في المسند و الترمذي [ عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : تربة الجنة درمكة ثم سأل اليهود ؟ فقالوا : خبزة فقال : الخبز من
الدرمك ] و التي تجتمع به هذه الأحاديث كلها أن تربة الجنة في لونها بيضاء
و منها ما يشبه لون الزعفران في بهجته و إشراقه و ريحها ريح المسك الأذفر
الخالص و طعمها طعم الخبز الحواري الخالص و قد يختص هذا بالأبيض منها فقد
اجتمعت لها الفضائل كلها لا حرمنا الله ذلك برحمته و كرمه
و قوله
صلى الله عليه و سلم : [ من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى
ثيابهم و لا يفنى شبابهم ] إشارة إلى بقاء الجنة و بقاء جميع ما فيها من
النعيم و إن صفات أهلها الكاملة من الشباب لا تتغير أبدا و ملابسهم التي
عليهم من الثياب لا تبلى أبدا و قد دل القرآن على مثل هذا في مواضع كثيرة
كقوله : { و جنات لهم فيها نعيم مقيم } و قوله تعالى : { أكلها دائم و
ظلها } و قوله تعالى : { خالدين فيها أبدا } في مواضع كثيرة و في صحيح
مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من يدخل الجنة
ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه و لا يفنى شبابه ] و فيه أيضا عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد أن لكم أن
تنعموا و لا تبأسوا أبدا و أن لكم أن تصحوا و تسقموا أبدا و أن لكم أن
تشبوا و لا تهرموا أبدا و نودوا أن تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم
تعملون ] و في رواية لغيره زيادة : [ و أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ] و في
الترمذي مرفوعا : [ أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم و لا تبلى
ثيابهم ] و [ عن أبي سعيد مرفوعا : يدخل أهل الجنة أبناء ثلاثين لا يزيدون
عليها أبدا ] و من حديث علي مرفوعا : [ إن في الجنة مجتمعا للحور العين
يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد و نحن
الناعمات فلا نبأس و نحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا و كنا له ] و
خرج الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا : [ إن مما يتغنين به الحور العين :
نحن الخالدات فلا نمتنه نحن الآمنات فلا نخفنه نحن المقيمات فلا نظعنه ] و
من حديث أم سلمة مرفوعا : [ أن نساء أهل الجنة يقلن : نحن الخالدات فلا
نموت و نحن الناعمات فلا نبأس أبدا و نحن المقيمات فلا نظعن أبدا و نحن
الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له و كان لنا ] و فيما ذكره صلى الله
عليه و سلم في صفة من يدخل الجنة تعريض بذم الدنيا الفانية فإنه من يدخلها
و إن نعم فيها فإنه يبأس و من أقام فيها فإنه يموت و لا يخلد و يفنى
شبابهم و تبلى ثيابهم و تبلى أجسامهم و في القرآن نظير هذا و هذا التعريض
بذم الدنيا و فنائها مع مدح الآخرة و ذكر كمالها و بقائها كما قال تعالى :
{ زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب
و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله
عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهرة و رضوان من الله و الله بصير
بالعباد } و قال الله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من
السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض
زخرفها } الآية ثم قال : { و الله يدعو إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } و قال الله تعالى : { و ما هذه الحياة
الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة } الآية و قال الله تعالى : { و
اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض
فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدرا * المال و البنون
زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير أملا } و
قال الله تعالى : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر
بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته } إلى
قوله : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض أعدت
للذين آمنوا بالله و رسله } و قال الله تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا
* و الآخرة خير و أبقى } و قال الله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من
الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } و قال الله تعالى عن
مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه : { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن
الآخرة هي دار القرار } و المتاع : هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع و
يفنى فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها و تقلب أحوالها و هو أدل دليل
على انقضائها و زوالها فتتبدل صحتها بالسقم و وجودها بالعدم و شبيبتها
بالهرم و نعيمها بالبؤس و حياتها بالموت فتفارق الأجسام النفوس و عمارتها
بالخراب و اجتماعها بفرقة الأحباب و كل ما فوق التراب تراب قال بعض السلف
في يوم عيد و قد نظر إلى كثرة الناس و زينة لباسهم : هل ترون إلا خرقا
تبلى أو لحما يأكله الدود غدا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : يا دار
تخربين و يموت سكانك و في الحديث : [ عجبا لمن رأى الدنيا و سرعة تقلبها
بأهلها كيف يطمئن إليها ] قال الحسن : إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي
لب بها فرحا و قال مطرف : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم
فالتمسوا نعيما لا موت فيه و قال يونس بن عبيد : ما ترك ذكر الموت لنا قرة
عين في أهل و لا مال و قال يزيد الهاشمي : أمن أهل الجنة الموت فطاب لهم
العيش و أمنوا الاسقام فهنيئا لهم في جوار الله طول المقام عيوب الدنيا
بادية و هي تغيرها و مواعظها منادية لكن حبها يعمي و يصم فلا يسمع محبها
نداءها و لا يرى كشفها للغير و إيذاءها
( قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع )
( كم واثق بالعمر أفنيته ... و جامع بددت ما يجمع )
كم قد تبدل نعيمها بالضر و البؤس كم أصبح من هو واثق بملكها و أمسى و هو
منها قنوط بؤوس قالت بعض بنات ملوك العرب الذين نكبوا : أصبحنا و ما في
الأرض أحد إلا و هو يحسدنا و يخشانا و أمسينا و ما في العرب أحد إلا و هو
يرحمنا دخلت أم جعفر بن يحيى البرمكي على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش
تلبسه و قالت : هجم علي مثل هذا العيد و على رأسي أربعمائة وصيفة قائمة و
أنا أزعم أن ابني جعفرا عاق لي كانت أخت أحمد بن طولون صاحب مصر كثيرة
السرف في إنفاق المال حتى أنها زوجت بعض لعبها فأنفقت على وليمة عرسها
مائة ألف دينار فما مضى إلا قليل حتى رؤيت في سوق من أسواق بغداد و هي
تسأل الناس اجتاز بعض الصالحين بدار فيها فرح و قائلة تقول في غنائها :
( ألا يا دار لا يدخلك حزن ... و لا يزري بصاحبك الزمان )
ثم اجتاز بها عن قريب و إذا الباب مسود و في الدار بكاء و صراخ فسأل عنهم
؟ فقيل : مات رب الدار فطرق الباب و قال : سمعت من هذه الدار قائلة تقول :
كذا و كذا فبكت امرأة و قالت : يا عبد الله إن الله يغير و لا يتغير و
الموت غاية كل مخلوق فانصرف من عندهم باكيا بعث أبو بكر الصديق رضي الله
عنه في خلافته وفدا إلى اليمن فاجتازوا في طريقهم بماء من مياه العرب عنده
قصور مشيدة و هناك مواش عظيمة و رقيق كثير و رأى نسوة كثيرة مجتمعات في
عرس لهن و جارية بيدها دف تقول :
( معاشر الحساد موتوا كمدا ... كذا نكون ما بقينا أبدا )
فنزلوا بقربهم فأكرمهم سيد الماء و اعتذر إليهم باشتغاله بالعرس فدعوا له
و ارتحلوا ثم إن بعض أولئك الوفد أرسلهم معاوية إلى اليمن فمروا بالقرب من
ذلك الماء فعدلوا إليه لينزلوا فيه فإذا القصور المشيدة قد خربت كلها و
ليس هناك ماء و لا أنيس و لم يبق من تلك الآثار إلا تل خراب فذهبوا إليه
فإذا عجوز عمياء تأوي إلى نقب في ذلك التل فسألوها عن أهل ذلك الماء فقالت
: هلكوا كلهم فسألوها عن ذلك العرس المتقدم فقالت : كانت العروس أختي و
أنا كنت صاحبة الدف فطلبوا أن يحملوها معهم فأبت و قالت : عزيز علي أن
أفارق هذه العظام البالية حتى أصير إلى ما صارت إليه فبينما هي تحدثهم إذ
مالت فنزعت نزعا يسيرا ثم ماتت فدفنوها و انطلقوا حمل إلى سليمان بن عبد
الملك في خلافته من خراسان ستة أحمال مسك إلى الشام فأدخلت على ابنه أيوب
و هو ولي عهده فدخل عليه الرسول بها في داره فدخل إلى دار بيضاء و فيها
غلمان عليهم ثياب بياض و حليتهم فضة ثم دخل إلى دار صفراء فيها غلمان
عليهم ثياب صفر و حليتهم الذهب ثم دخل إلى دار خضراء فيها غلمان عليهم
ثياب خضر و حليتهم الزمرد ثم دخل على أيوب و هو و جاريته على سرير فلم
يعرف أحدهما من الآخر لقرب شبههما فوضع المسك بين يديه فانتهبه كله
الغلمان ثم خرج الرسول فغاب بضعة عشر يوما ثم رجع فمر بدار أيوب و هي
بلاقع فسأل عنهم ؟ فقيل له : أصابهم الطاعون فماتوا كان يزيد بن عبد الملك
ـ و هو الذي انتهت إليه الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز ـ له جارية تسمى
حبابة و كان شديد الشغف بها و لم يقدر على تحصيلها إلا بعد جهد شديد فلما
وصلت إليه خلى بها يوما في بستان و قد طار عقله فرحا بها فبينما هو
يلاعبها و يضاحكها إذ رماها بحبة رمان أو حبة عنب و هي تضحك فدخلت في فيها
فشرقت بها فماتت فما سمحت نفسه بدفنها حتى أراحت فعوتب على ذلك فدفنها و
يقال : إنه نبشها بعد دفنها و يروى : إنه دخل بعد موتها إلى خزائنها و
مقاصيرها و معها جارية لها فتمثلت الجارية ببيت :
( كفى حزنا بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا )
فصاح و خر مغشيا عليه فلم يفق إلى أن مضى هوي من الليل ثم أفاق فبكى بقية
ليلته و من الغد فدخلوا عليه فوجدوه ميتا قال بعض السلف : ما من حبرة إلا
يتبعها عبرة * و ما كان ضحك في الدنيا إلا كان بعده بكاء * من عرف الدنيا
حق معرفتها حقرها و أبغضها كما قيل :
( أما لو بيعت الدنيا بفلس ... أنفت لعاقل أن يشتريها )
و من عرف الآخرة و عظمتها و رغب فيها عباد الله هلموا إلى دار لا يموت
سكانها و لا يخرب بنيانها و لايهرم شبابها و لا يتغير حسنها و إحسانها
هواؤها النسيم و ماؤها التسنيم يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين و
يتمتعون بالنظر إلى وجهه كل حين : { دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم
فيها سلام و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } قال عون بن عبد الله
بن عتبة : بنى ملك ممن كان قبلنا مدينة فتنوق في بنائها ثم صنع طعاما و
دعا الناس إليه و أقعد على أبوابها ناسا يسألون كل من خرج هل رأيتم عيبا ؟
فيقولون لا حتى جاء في آخر الناس قوم عليهم أكسية فسألوهم : هل رأيتم عيبا
؟ فقالوا : عيبين فأدخلوهم على الملك فقال : هل رأيتم عيبا ؟ فقالوا عيبين
قال : و ما هما ؟ قالوا : تخرب و يموت صاحبها قال : فتعلمون دار لا تخرب و
لا يموت صاحبها ؟ قالوا نعم فدعوه فاستجاب لهم و انخلع من ملكه و تعبد
معهم فحدث عون بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فوقع منه موقعا حتى هم أن
يخلع نفسه من الملك فأتاه ابن عمه مسلمة فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين
في أمة محمد فوالله لئن فعلت ليقتتلن بأسيافهم قال : ويحك يا مسلمة حملت
ما لا أطيق و جعل يرددها و مسلمة يناشده حتى سكن
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : لطائف المعارف الجزء الاول Empty رد: كتاب : لطائف المعارف الجزء الاول {السبت 18 يونيو - 19:38}

وظائف شهر الله المحرم و يشتمل على مجالس : المجلس الأول في فضل
شهر الله



المحرم و عشره الأول
خرج مسلم [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم و أفضل
الصلاة بعد الفريضة قيام الليل ] الكلام على هذا الحديث في فصلين في أفضل
التطوع : بالصيام و أفضل التطوع : بالقيام

الفصل الأول : أفضل التطوع بالصيام


و هذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر
الله المحرم و قد يحتمل أن يراد : أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملا بعد
رمضان فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم
عرفه أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال و نحو ذلك و يشهد لهذا ما خرجه
الترمذي من [ حديث علي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا
رسول الله أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه
و سلم : إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله و فيه يوم
تاب الله فيه على قوم و يتوب على آخرين ] و في اسناده مقال و لكن يقال :
أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم شهر شعبان و لم ينقل أنه كان يصوم
المحرم إنما كان يصوم عاشوراء و قوله في آخر سنة : [ لئن عشت إلى قابل
لأصومن التاسع ] يدل على أنه كان يصوم التاسع قبل ذلك و قد أجاب الناس عن
هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف و الذي ظهر لي و الله أعلم أن التطوع بالصيام
نوعان : أحدهما : التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل
التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل و الثاني : ما صيامه تبع لصيام رمضان
قبله و بعده فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان و هو
ملتحق بصيام رمضان و لهذا قيل : إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام
رمضان و يكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضا و قد روي أن أسامة
بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بصيام شوال
فترك الأشهر الحرم و صام شوالا و سنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى
فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان و صيامه أفضل التطوع مطلقا فأما التطوع
المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه أمر رجلا أن يصوم الحرم و سنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى و
أفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم و يشهد لهذا أنه صلى الله عليه و
سلم قال في هذا الحديث : [ و أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ] و
مراده بعد المكتوبة : و لو أحقها من سننها الرواتب فإن الرواتب قبل
الفرائض و بعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء لالتحاقها بالفرائض
و إنما خالف في ذلك بعض الشافعية فكذلك الصيام قبل رمضان و بعده ملتحق
برمضان و صيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم و أفضل التطوع المطلق بالصيام
صيام المحرم
و قد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن
و غيره أفضلها شهر الله المحرم و رجحه طائفة من المتأخرين و روى وهب بن
جرير عن قرة بن خالد عن الحسن قال : إن الله افتتح السنة بشهر حرام و
ختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم
و كان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه و قد روي عنه مرفوعا و مرسلا قال
آدم بن أبي إياس : [ حدثنا أبو الهلال الراسي عن الحسن قال : قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : أفضل الصلاة بعد المكتوبة في جوف الليل الأوسط
و أفضل الشهور بعد شهر رمضان المحرم و هو شهر الله الأصم ] و خرج النسائي
[ من حديث أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : أي الليل خير و
أي الأشهر أفضل ؟ فقال : خير الليل جوفه و أفضل الأشهر شهر الله الذي
تدعونه المحرم ] و اطلاقه في هذا الحديث أفضل الأشهر محمول على ما بعد
رمضان كما في رواية الحسن المرسلة و قال سعيد بن جبير و غيره : أفضل
الأشهر الحرم ذو القعدة أو ذو الحجة بل قد قيل : إنه أفضل الأشهر مطلقا و
سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى و زعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر
الحرم رجب و هو قول مردود و أفضل شهر الله المحرم عشره الأول و قد زعم
يمان بن رآب : أنه العشر الذي أقسم الله به في كتابه و لكن الصحيح أن
العشر المقسم به عشر ذي الحجة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى و قال
أبو عثمان النهدي : كانوا يعظمون ثلاث عشرات العشر الأخير من رمضان و
العشر الأول من ذي الحجة و العشر الأول من محرم و قد وقع هذا في بعض نسخ
كتاب فضائل العشر لابن أبي الدنيا [ عن أبي عثمان عن أبي ذر عن النبي صلى
الله عليه و سلم : أنه كان يعظم هذه العشرات الثلاث ] و ليس ذلك بمحفوظ و
قد قيل : إن العشر الذي أتم الله به ميقات موسى عليه السلام أربعين ليلة و
إن التكلم وقع في عاشره و روي عن وهب بن منبه قال : أوحى الله تعالى إلى
موسى عليه السلام أن مر قومك أن يتوبوا إلي في أول عشر المحرم فإذا كان
يوم العاشر فليخرجوا إلي أغفر لهم و عن قتادة أن الفجر الذي أقسم الله به
في أول سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة و لما كانت
الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقا و كان صيامها كلها مندوبا
إليه كما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم و كان بعضها ختام السنة
الهلالية و بعضها مفتاحا لها فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم
صيامها منه و صام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة و افتتحها بالطاعة فيرجى
أن تكتب له سنته كلها طاعة فإن من كان أول عمله طاعة و آخره طاعة فهو في
حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين و في حديث مرفوع : [ ما من حافظين
يرفعان إلى الله صحيفة فيرى في أولها و في آخرها خيرا إلا قال الله
لملائكته أشهدكم أني غفرت لعبدي ما بين طرفيها ] خرجه الطبراني و غيره وهو
موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي و في حديث آخر مرفوع : [ ابن آدم اذكرني من
أول النهار ساعة و من آخر النهار ساعة أغفر لك مابين ذلك إلا الكبائر أو
تتوب منها ] و قال ابن مبارك : من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكرا يشير
إلى أن الأعمال بالخواتيم فإذا كان البداءة و الختام ذكرا فهو أولى أن
يكون حكم الذكر شاملا للجميع و يتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف
من الذنوب السالفة في الأيام الخالية
( قطعت شهور العام لهوا و غفلة ... و لم تحترم فيما أتيت المحرما )
( فلا رجبا وافيت فيه بحقه ... و لا صمت شهر الصوم صوما متمما )
( و لا في ليالي عشر ذي الحجة الذي ... مضى كنت قواما و لا كنت محرما )
( فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة ... و تبكي عليها حسرة و تندما )
( و تستقبل العام الجديد بتوبة ... لعلك أن تمحو بها ما تقدما )
و قد سمى النبي صلى الله عليه و سلم المحرم شهر الله و اضافته إلى الله
تدل على شرفه و فضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته كما
نسب محمدا و إبرهيم و إسحاق و يعقوب و غيرهم من الأنبياء إلى عبوديته و
نسب إليه بيته و ناقته و لما كان هذا الشهر مختصا بإضافته إلى الله تعالى
كان الصيام من بين الأعمال مضافا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال
ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به و
هو الصيام و قد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز و جل : إنه إشارة
إلى أن تحريمه إلى الله عز و جل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه
و يحرمون مكانه صفرا فأشار إلى شهر الله الذي حرمه فليس لأحد من خلقه
تبديل ذلك و تغييره :
( شهر الحرام مبارك ميمون ... و الصوم فيه مضاعف مسنون )
( و ثواب صائمه لوجه إلهه ... في الخلد عند مليكه مخزون )
الصيام سر بين العبد و بين ربه و لهذا يقول الله تبارك و تعالى : [ كل عمل
ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به إنه ترك شهواته و طعامه و
شرابه من أجلي ] و في الجنة باب يقال له : الريان لا يدخل منه إلا
الصائمون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه غيرهم و هو جنة للعبد من النار
كجنة أحدكم من القتال و في المسند عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [
من صام يوما ابتغاء وجه الله تعالى بعده الله من نار جهنم كبعد غراب طار و
هو فرخ حتى مات هرما ] و فيه أن أبا أمامة قال للنبي صلى الله عليه و سلم
: أوصني ؟ قال : [ عليك بالصوم فإنه عدل له ] فكان أبو أمامة و أهله
يصومون فإذا رؤي في بيتهم دخان بالنهار علم أنه قد نزل بهم ضيف و ممن سرد
الصوم عمر و أبو طلحة و عائشة و غيرهم من الصحابة و خلق كثير من السلف و
ممن صام الأشهر الحرم كلها ابن عمر و الحسن البصري و غيرهما
قال
بعضهم : إنما هو غداء و عشاء فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت و قد كتبت في
ديوان الصائمين للصائم فرحتان فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه إذا وجد
ثواب صيامه مدخورا سمع بعضهم مناديا ينادي على السحور في رمضان ياما خبأنا
للصوم فانتبه لذلك و سرد الصوم و روي : أن الصائمين توضع لهم مائدة تحت
العرش فيأكلون و الناس في الحساب فيقول الناس ما بال هؤلاء يأكلون و نحن
نحاسب ؟ فيقال : كانوا يصومون و أنتم تفطرون و روي : أنهم يحكمون في ثمار
الجنة و الناس في الحساب روى ذلك ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع قال الله
تعالى : { و الصائمين و الصائمات و الحافظين فروجهم و الحافظات و الذاكرين
الله كثيرا و الذاكرات أعد الله لهم مغفرة و أجرا عظيما } و قال تعالى : {
كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } قال مجاهد و غيره :
نزلت في الصوم : من ترك لله طعامه و شرابه و شهواته عوضه الله خيرا من ذلك
طعاما و شرابا لا ينفذ و أزواجا لا تموت في التوراة : طوبى لمن جوع نفسه
ليوم الشبع الأكبر طوبى لمن ظمأ نفسه اليوم ليوم الري الأكبر طوبى لمن ترك
شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره طوبى لمن ترك طعاما ينفذ في دار لدار { أكلها
دائم و ظلها }
( من يرد ملك الجنان فليذر عنه التواني ... و ليقم في ظلمة الليل إلى نور
القرآن )
( و ليصل صوما بصوم إن هذا العيش فإني ... إنما العيش جوار الله في دار
الأمان )
كان بعض الصالحين يكثر الصوم فرأى في منامه كأنه دخل الجنة فنودي من ورائه
يا فلان تذكر أنك صمت لله يوما قط ؟ قال : إي و الله يوم و يوم و يوم فإذا
صواني النار قد أخذته يمنة و يسرة كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى و
انقطع صوته فمات فرأى بعض أصحابه في المنام فسئل عن حاله فقال :
( قد كسي حلة البهاء ... و طافت بالأباريق حوله الخدام )
( ثم حلى و قيل يا قارئي أرقه ... فلعمري لقد براك الصيام )
صام بعض التابعين حتى أسود من طول صيامه و صام الأسود بن يزيد حتى اخضر
جسمه و اصفر فكان إذا عوتب في رفقه بجسده يقول : كرامة هذا الجسد أريد و
صام بعضهم حتى وجد طعم دماغه في حلقه كان بعضهم يسرد الصوم فمرض و هو صائم
فقالوا له : افطر فقال : ليس هذا وقت ترك و قيل لآخر منهم و هو مريض :
افطر فقال : كيف و أنا أسير لا أدري ما يفعل بي مات عامر بن عبد الله بن
الزبير و هو صائم ما أفطر و دخلوا على أبي بكر بن أبي مريم و هو في النزع
و هو صائم فعرضوا عليه ماء ليفطر فقال : أغربت الشمس ؟ قالوا : لا فأبى أن
يفطر ثم أتوه بماء و قد اشتد نزعه فأومأ إليهم أغربت الشمس ؟ قالوا : نعم
فقطروا في فيه قطرة من ماء ثم مات و احتضر إبراهيم بن هانيء صاحب الإمام
أحمد و هو صائم و طلب و سأل أغربت الشمس ؟ فقالوا : لا و قالوا له : قد
رخص لك في الفرض و أنت متطوع قال : أمهل ثم قال : لمثل هذا فليعمل
العاملون ثم خرجت نفسه و ما أفطر الدنيا كلها شهر صيام المتقين وعيد فطرهم
يوم لقاء ربهم و معظم نهار الصيام قد ذهب وعيد اللقاء قد اقترب
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
و لما كان الصيام سرا بين العبد و بين ربه اجتهد المخلصون في إخفائه بكل
طريق حتى لا يطلع عليه أحد قال بعض الصالحين : بلغنا عن عيسى بن مريم عليه
السلام أنه قال : إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته و يمسح شفتيه من
دهنه حتى ينظر إليه الناظر فيظن أنه ليس بصائم و عن ابن مسعود رضي الله
عنه قال : إذا أصبح أحدكم صائما فليترجل ـ يعني يسرح شعره ـ و يدهنه و إذا
تصدق بصدقة عن يمينه فليخفها عن شماله و إذا صلى تطوعا فليصل داخل بيته و
قال أبو التياح : أدركت أبي وشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن و لبس صالح
ثيابه صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان له دكان فكان كل يوم
يأخذ من بيته رغيفين و يخرج إلى دكانه فيتصدق بهما في طريقه فيظن أهله أنه
يأكلهما في السوق و يظن أهل السوق أنه أكل في بيته قبل أن يجيء اشتهر بعض
الصالحين بكثرة الصيام فكان يقوم يوم الجمعة في مسجد الجامع فيأخذ إبريق
الماء فيضع بلبلته في فيه و يمتصها و الناس ينظرون إليه و لا يدخل حلقه
منه شيء لينفي عن نفسه ما اشتهر به من الصوم كم يستر الصادقون أحوالهم و
ريح الصدق ينم عليهم ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية
( كم اكتم حبكم عن الأغيار ... و الدمع يذيع في الهوى أسرارى )
( كم أستركم هتكتمو أسرارى ... من يخفي في الهوى لهيب النار )
ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكلما اجتهد صاحبه على إخفائه فاح
ريحه للقلوب فتستنشقه الأرواح و ربما ظهر بعد الموت و يوم القيامة
( فكاتم الحب يوم البين منهتك ... و صاحب الوجد لا تخفى سرائره )
و لما دفن عبد الله بن غالب كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك فرؤى في
المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره ؟ فقال : تلك رائحة التلاوة
و الظمأ و جاء في حديث مرفوع : يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح
صيامهم أفواههم أطيب من ريح المسك
( وهبني كتمت السر أو قلت غيره ... أتخفى على أهل القلوب السرائر )
( أبى ذاك إن السر في الوجه ناطق ... و إن ضمير القلب في العين ظاهر )

الفصل الثاني : في فضل قيام الليل


و قد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على أنه أفضل الصلاة بعد
المكتوبة وهل هو أفضل من السنن الراتبة فيه خلاف سبق ذكره و قال ابن مسعود
رضي الله عنه : فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة
العلانية و خرجه الطبراني عنه مرفوعا و المحفوظ وقفه و قال عمرو بن العاص
: ركعة بالليل خير من عشر بالنهار خرجه ابن أبي الدنيا و إنما فضلت صلاة
الليل على صلاة النهار لأنها أبلغ في الإسرار و أقرب إلى الإخلاص كان
السلف يجتهدون على إخفاء تهجدهم قال الحسن : كان الرجل يكون عنده زواره
فيقوم من الليل يصلي لا يعلم به زواره و كانوا يجتهدون في الدعاء و لا
يسمع لهم صوت و كان الرجل ينام مع امرأته على وسادة فيبكي طول ليلته و هي
لا تشعر و كان محمد بن واسع يصلي في طريق الحج طول ليله و يأمر حاديه أن
يرفع صوته ليشغل الناس عنه و كان بعضهم يقوم من وسط الليل و لا يدري به
فإذا كان قرب طلوع الفجر رفع صوته بالقرآن يوهم أنه قام تلك الساعة و لأن
صلاة الليل أشق على النفوس فإن الليل محل النوم و الراحة من التعب بالنهار
فترك النوم مع ميل النفس إليه مجاهدة عظيمة قال بعضهم : أفضل الأعمال ما
أكرهت عليه النفوس و لأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر فإنه
تنقطع الشواغل بالليل و يحضر القلب و يتواطأ هو و اللسان على الفهم كما
قال تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا } و لهذا المعنى
أمر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلا و لهذا كانت صلاة الليل تنهاه عن
الإثم كما يأتي في حديث خرجه الترمذي و في المسند [ عن أبي هريرة رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قيل له : إن فلانا يصلين الليل فإذا
أصبح سرق ؟ فقال : سينهاه ما تقول ] و لأن وقت التهجد من الليل أفضل أوقات
التطول بالصلاة و أقرب ما يكون العبد من ربه و هو وقت فتح أبواب السماء و
استجابة الدعاء و استعراض حوائج السائلين
و قد مدح الله تعالى
المستيقظين بالليل لذكره و دعائه و استغفاره و مناجاته فقال الله تعالى :
{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا و طمعا و مما رزقناهم ينفقون
* فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } و قال
الله تعالى : { و المستغفرين بالأسحار } و قال الله تعالى : { كانوا قليلا
من الليل ما يهجعون * و بالأسحار هم يستغفرون } و قال الله تعالى : { و
الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما } و قال الله تعالى : { أمن هو قانت آناء
الليل ساجدا و قائما يحذر الآخرة و يرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين
يعلمون و الذين لا يعلمون } و قال تعالى : { من أهل الكتاب أمة قائمة
يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون } و قال لنبيه صلى الله عليه و
سلم : { و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } و
قال تعالى : { و من الليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا } و قال تعالى : {
يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد
عليه } قالت عائشة رضي الله عنها لرجل : [ لا تدع قيام الليل فإن رسول
الله صلى الله عليه و سلم كان لا يدعه و كان إذا مرض أو قالت : كسل صلى
قاعدا ] و في رواية أخرى عنها قالت : بلغني عن قوم يقولون : إن أدينا
الفرائض لم نبال أن لا نزداد و لعمري لا يسألهم الله إلا عما افترض عليهم
و لكنهم قوم يخطئون بالليل و النهار و ما أنتم إلا من نبيكم و ما نبيكم
إلا منكم و الله ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم قيام الليل و نزعت
كل آية فيها قيام الليل فأشارت عائشة رضي الله عنها إلى قيام الليل فيه
فائدتان عظيمتان : الإقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و التأسي
به و قد قال الله عز و جل : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } و
تكفير الذنوب و الخطايا فإن بني آدم يخطئون بالليل و النهار فيحتاجون إلى
الإستكثار من مكفرات الخطايا و قيام الليل من أعظم المكفرات كما قال النبي
صلى الله عليه و سلم لمعاذ بن جبل : [ قيام العبد في جوف الليل يكفر
الخطيئة ثم تلا : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } الآية ] خرجه الإمام أحمد
و غيره و قد روي أن المتهجدين يدخلون الجنة بغير حساب و روي [ عن شهر بن
حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جمع الله
الأولين و الآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق سيعلم
الخلائق اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي : أين الذين كانوا لا تلهيهم
تجارة و لا بيع عن ذكر الله فيقومون و هم قليل ثم يرجع فينادي : ليقم
الذين كانوا يحمدون الله في السراء و الضراء فيقومون و هم قليل ثم يحاسب
سائر الناس ] خرجه ابن أبي الدنيا و غيره و يروى عن شهر بن حوشب عن ابن
عباس رضي الله عنهما من قوله و يروى أيضا من حديث أبي اسحاق عن عبد الله
بن عطاء عن قبة بن عامر مرفوعا و موقوفا و يروى نحوه أيضا عن عبادة بن
الصامت و ربيعة الجرشي و الحسن و كعب من قولهم قال بعض السلف : قيام الليل
يهون طول القيام يوم القيامة و إذا كان أهله يسبقون إلى الجنة بغير حساب
فقد استراح أهله من طول الموقف للحساب
و في حديث [ أبي أمامة و بلال
المرفوع : عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم و إن قيام الليل
قربة إلى الله تعالى و تكفير للسيئات و منهاة عن الإثم و مطردة للداء عن
الجسد ] خرجه الترمذي ففي هذا الحديث أن قيام الليل يوجب صحة الجسد و يطرد
عنه الداء و كذلك صيام النهار ففي الطبراني [ من حديث أبي هريرة مرفوعا :
صوموا تصحوا ] و كما أن قيام الليل يكفر السيئات فهو يرفع الدرجات و قد
ذكرنا أن أهله من السابقين إلى الجنة بغير حساب و في حديث المنام المشهور
الذي خرجه الإمام أحمد و الترمذي : [ إن الملأ الأعلى يختصمون في الدرجات
و الكفارات ] و فيه [ إن الدرجات إطعام الطعام و إفشاء السلام و الصلاة
بالليل و الناس نيام ] و في المسند و الترمذي و غيرهما عن النبي صلى الله
عليه و سلم من وجوه : [ إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها من ظاهرها
و إنها لأهل هذه الخصال الثلاثة ] و في [ حديث عبد الله بن سلام المشهور
المخرج في السنن : أنه أول ما سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول عند
قدومه المدينة : يا أيها الناس اطعموا الطعام و افشوا السلام و صلوا
الأرحام و صلوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ] و من فضائل
التهجد : أن الله تعالى يحب أهله و يباهي بهم الملائكة و يستجيب دعائهم
روى الطبراني و غيره [ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : ثلاثة يحبهم الله و يضحك إليهم و يستبشر بهم ـ فذكر
منهم الذي له له امرأة حسناء و فراش حسن فيقوم من الليل فيقول الله تعالى
: يذر شهوته فيذكرني و لو شاء رقد و الذي إذا كان في سفر و كان معه ركب
فسهروا ثم هجعوا قام من السحر في سراء و ضراء ] و خرج الإمام أحمد و
الترمذي و النسائي [ من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
و سلم قال : ثلاثة يحبهم الله ـ فذكر منهم ـ و قوم ساروا ليلهم حتى إذا
كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني و يتلو آياتي
] و صححه الترمذي و في المسند [ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه و لحافه من
بين أهله و حبه إلى صلاته فيقول ربنا تبارك و تعالى : يا ملائكتي انظروا
إلى عبدي ثار من فراشه و وطائه من بين حبه و أهله إلى صلاته رغبة فيما
عندي و شفقة مما عندي و رجل غزا في سبيل الله عز و جل و انهزم أصحابه و
علم ما عليه في الانهزام و ماله في الرجوع فرجع حتى إهريق دمه فيقول الله
عز و جل لملائكته : انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي و شفقة مما عندي
حتى إهريق دمه ] رواه أحمد و ذكر بقية الحديث و قوله ثار فيه إشارة إلى
قيامه بنشاط و عزم و يروى من حديث عطية [ عن أبي سعيد عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر رجل قام من جوف الليل فأحسن
الطهور فصلى و رجل نام و هو ساجد و رجل في كتيبة منهزمة فهو على فرس جواد
لو شاء أن يذهب لذهب ] و خرجه ابن ماجة من رواية مجالد [ عن أبي الوداك عن
أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله ليضحك إلى ثلاثة :
الصف في الصلاة و الرجل يصلي في جوف الليل و الرجل يقاتل أراه قال : خلف
الكتيبة ] و روينا من حديث أبان [ عن أنس عن ربيعة بن وقاص عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : ثلاث مواطن لا ترد فيها دعوة رجل يكون في برية حيث
لا يراه أحد فيقوم فيصلي فيقول الله لملائكته : أرى عبدي هذا يعلم أن له
ربا يغفر الذنب فانظروا ما يطلب ؟ فتقول الملائكة : إي رب رضاك و مغفرتك
فيقول : اشهدوا أني قد غفرت له و رجل يقوم من الليل فيقول الله عز و جل :
أليس قد جعلت الليل سكنا و النوم سباتا فقام عبدي هذا يصلي و يعلم أن له
ربا فيقول الله لملائكته : انظروا ما يطلب عبدي هذا ؟ فتقول الملائكة : يا
رب رضاك و مغفرتك فيقول : اشهدوا أني قد غفرت له و ذكر الثالث : الذي يكون
في فئة فيفر أصحابه و يثبت هو ] و هو مذكور أيضا في كل الأحاديث المتقدمة
و في المسند و صحيح ابن حبان [ عن عقبة عن عامر عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور و
عليه عقد فيتوضأ فإذا وضأ يديه انحلت عقدة و إذا وضأ وجهه انحلت عقدة و
إذا مسح رأسه انحلت عقدة و إذا وضأ رجليه انحلت عقدة فيقول الرب عز و جل
للذين وراء الحجاب : انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا
فهو له ] و في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ نعم الرجل
عبد الله ـ يعني ابن عمر ـ لو كان يصلي من الليل ] فكان عبد الله لا ينام
بعد ذلك من الليل إلا قليلا
كان أبو ذر رضي الله عنه يقول للناس :
أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه و يبلغه ؟
قالوا : بلى قال : فسفر طريق القيامة أبعد فخذوا له ما يصلحكم حجوا حجة
لعظائم الأمور صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور صلوا ركعتين في ظلمة
الليل لظلمة القبور تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير أين رجال الليل أين الحسن و
سفيان قال :
( يترجل الليل جدوا ... رب داع لا يرد )
( ما يقوم الليل إلا ... من له عزم و جد )
( ليس شيء كصلاة ... الليل للقبر يعد )
صلى كثير من السلف صلاة الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة و منهم من صلى كذلك
أربعين سنة قال بعضهم : منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر قال ثابت
: كابدت قيام الليل عشرين سنة و تنعمت به عشرين سنة أخرى
أفضل قيام
الليل وسطه قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل القيام قيام داود كان
ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه ] و كان رسول الله صلى الله عليه
و سلم [ إذا سمع الصارخ يقوم للصلاة ] و الصارخ : الديك و هو يصيح وسط
الليل و خرج النسائي [ عن أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم :
أي الليل خير ؟ قال : جوفه ] و خرج الإمام أحمد [ عن أبي ذر قال : سألت
النبي صلى الله عليه و سلم : أي قيام الليل أفضل ؟ قال : جوف الليل الغابر
أو نصف الليل و قليل فاعله ] و خرج ابن أبي الدنيا [ من حديث أبي أمامة أن
رجلا قال : يا رسول الله أي الصلاة أفضل ؟ قال : جوف الليل الأوسط قال :
أي الدعاء أسمع ؟ قال : دبر المكتوبات ] و خرجه الترمذي و النسائي و
لفظهما : [ أنه سأله أي الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل الأخير و دبر
الصلوات المكتوبات ] و خرج الترمذي [ من حديث عمرو بن عنبسة سمع النبي صلى
الله عليه و سلم يقول : أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل فإن
استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن ] و يروى أن داود عليه
السلام قال : يا رب أي وقت أقوم لك ؟ قال : لا تقم أول الليل و لا آخره و
لكن قم وسط الليل حتى تخلوا بي و أخلو بك و ارفع إلي حوائجك و في الأثر
المشهور : كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب خلوة
حبيبه فها أنا ذا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم
فخاطبوني على المشاهدة و كلموني على حضوري غدا أقر أعين أحبابي في جناني
( الليل لي ولأحبابي أحادثهم ... قد اصطفيتهم كي يسمعوا و يعوا )
( لهم قلوب بأسراري بها ملئت ... على ودادي و إرشادي لهم طبعوا )
( سروا فما وهنوا عجزا و لا ضعفوا ... و واصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا )
ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم هو شفاء قلوبهم و
نهاية مطلوبهم
( كتمت اسم الحبيب من العباد ... و رددت الصبابة في فؤادي )
( فيا شوقا إلى بلد خلي ... لعلى اسم من أهوى أنادي )
كان داود الطائي يقول في الليل : همك عطل علي الهموم و حالف بيني و بين
السهاد و شوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات و حال بيني و بين الشهوات و
كان عتبة الغلام يقول في مناجاته بالليل : إن تعذبني فإني لك محب و إن
ترحمني فإني لك محب
( لو أنك أبصرت أهل الهوى ... إذا غارت الأنجم الطلع )
( فهذا ينوح على ذنبه ... و هذا يصلي و ذا يركع )
من لم يشاركهم في هواهم و يذوق حلاوة نجواهم لم يدر ما الذي أبكاهم من لم
يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب
( من لم يبت و الحب حشو فؤاده ... لم يدر كيف تفتت الأكباد )
كان أبو سليمان يقول : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم و
لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وسط الليل للمحبين للخلوة بمناجاة
حبيبهم و السحر للمذنبين للإستغفار من ذنوبهم فوسط الليل خاص لخلوة الخواص
و السحر عام لرفع قصص الجميع و بروز التواقيع لأهلها بقضاء الحوائج فمن
عجز عن مسابقة المحبين في ميدان مضمارهم فلا يعجز عن مشاركة المذنبين في
استغفارهم و اعتذارهم صحائف التائبين خدودهم و مدادهم دموعهم قال بعضهم :
إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا الله بدموعهم رسائل الأسحار تحمل و لا يدري
بها الفلك و أجوبتها ترد إلى الأسرار و لا يعلم بها الملك
( صحائفنا إشارتنا ... و أكثر رسلنا الحرق )
( لأن الكتب قد تقرأ ... بغير الدمع لا تثق )
لا تزال القصص تستعرض و يوقع بقضاء حوائج أهلها إلى أن يطلع الفجر ينزل
الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : هل من تائب فأتوب عليه هل من
مستغفر فأغفر له هل من داع فأجيب دعوته إلى أن ينفجر الفجر فلذلك كانوا
يفضلون صلاة آخر الليل على أوله
( نحن الذين إذا أتانا سائل ... نوليه إحسانا و حسن تكرم )
( و نقول في الأسحار هل من تائب ... مستغفر لينال خير المغنم )
الغنيمة تقسم على كل من حضر الوقعة فيعطي منها الرجالة و الأجراء و
الغلمان مع الأمراء و الأبطال و الشجعان و الفرسان فما يطلع فجر الأجر إلا
و قد حاز القوم الغنيمة و فازوا بالفخر و حمدوا عند الصباح السرى و ما عند
أهل الغفلة و النوم خبر مما جرى كان بعض الصالحين يقوم الليل فإذا كان
السحر نادى بأعلى صوته يا أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون ألا
تقومون فترحلون فإذا سمع الناس صوته و ثبوا من فرشهم فيسمع من هنا باك و
من هنا داع و من هنا نال و من هنا متوضىء فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته
عند الصباح يحمد القوم السرى
( يا نفس قومي فقد نام الورى ... إن تصنعي الخير فذو العرش يرى )
( و أنت يا عين دعي عنك الكرى ... عند الصباح يحمد القوم السرى )
يا قوام الليل اشفعوا في النوام يا أحياء القلوب ترحموا على الأموات قيل
لابن مسعود رضي الله عنه : ما نستطيع قيام الليل ؟ قال : أقعدتكم ذنوبكم و
قيل للحسن : قد أعجزنا قيام الليل ؟ قال : قيدتكم خطاياكم و قال الفضيل بن
عياض : إذا لم تقدر على قيام الليل و صيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك
خطيئتك قال الحسن : إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل قال بعض
السلف : أذنبت ذنبا فحرمت به قيام الليل ستة أشهر ما يؤهل الملوك للخلوة
بهم إلا من أخلص في ودهم و معاملتهم فأما من كان من أهل المخالفة فلا
يؤهلونه في بعض الآثار : إن جبريل عليه السلام ينادي كل ليلة أقم فلانا و
أنم فلانا قام بعض الصالحين في ليلة باردة و عليه ثياب رثة فضربه البرد
فبكى فهتف به هاتف أقمناك و أنمناهم ثم تبكي علينا
( يا حسنهم و الليل قد جنهم ... و نورهم يفوق نور الأنجم )
( ترنموا بالذكر في ليلهم ... فعيشهم قد طاب في الترنم )
( قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منظم )
( أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ... و خلع الغفران خير القسم )
الليل منهل يرده أهل الإرادة كلهم و يختلفون فيما يردون و يريدون قد علم
كل أناس مشربهم فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه و الخائف يتضرع لطلب العفو و
يبكي على ذنوبه و الراجي يلح في سؤال مطلوبه و الغافل المسكين أحسن الله
عزاءه في حرمانه و فوات نصيبه قال النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن
عمرو رضي الله عنهما : [ لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل
] مرضت رابعة مرة فصارت تصلي وردها بالنهار فعوفيت و قد ألفت ذلك و انقطع
عنها قيام الليل فرأت ذات ليلة في نومها كأنها أدخلت إلى روضة خضراء عظيمة
و فتح لها فيها باب دار فسطع منها نور حتى كاد يخطف بصرها فخرج منها وصفاء
كأن وجوههم اللؤلؤ بأيديهم مجامر فقالت لهم امرأة كانت مع رابعة : أين
تريدون ؟ قالوا : نريد فلانا قتل شهيدا في البحر فنجمره فقالت لهم : أفلا
تجمرون هذه المرأة ـ تعني رابعة ـ فنظروا إليها و قالوا : قد كان لها حظ
في ذلك فتركته فالتفتت تلك المرأة إلى رابعة و أنشدت :
( صلاتك نور و العباد رقود ... و نومك ضد للصلاة عنيد )
كان بعض العلماء يقوم السحر فنام عن ذلك ليالي فرأى في منامه رجلين وقفا
عليه و قال أحدهما للآخر : هذا كان من المستغفرين بالأسحار فترك ذلك يا من
كان له قلب فانقلب يا من كان له وقت مع الله فذهب قيام السحر يستوجبن لك
صيام النهار يسائل عنك الوصال تعاتبك على الجهر
( تغيرتمو عنا بصحبة غيرنا ... و أظهرتم الهجران ما هكذا كنا )
( و أقسمتمو أن لا تحولوا عن الهوى ... فحلتم عن العهد القديم و ما حلنا )

( ليالي كنا نستقي من وصالكم ... و قلبي إلى تلك الليالي قد حنا )
قيل للنبي صلى الله عليه و سلم : إن فلانا نام حتى أصبح ؟ فقال : [ بال
الشيطان في أذنه ]
كان سري يقول : رأيت الفوائد ترد في ظلمة الليل ماذا فات من فاته خير
الليل لقد حصل أهل الغفلة و النوم على الحرمان و الويل كان بعض السلف يقوم
الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال له : قم فصل ثم قال له : أما علمت
أن مفاتح الجنة مع أصحاب الليل هم خزانها هم خزانها و كان آخر يقوم الليل
فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال : ما لك قصرت في الخطبة أما علمت أن
المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة : قام الخاطب إلى خطبته و رأى
بعضهم حوراء في نومه فقال لها : زوجيني نفسك قالت : اخطبني إلى ربي و
أمهرني قال : ما مهرك ؟ قالت : طول التهجد نام ليلة أبو سليمان فأيقظته
حوراء و قالت : يا أبا سليمان تنام و أنا أربي لك في الخدور من خمسمائة
عام و اشترى بعضهم من الله تعالى حوراء بصداق ثلاثين ختمة فنام ليلة قبل
أن يكمل الثلاثين فرآها في منامه تقول له :
( أتخطب مثلي و عني تنام ... و نوم المحبين عني حرام )
( لأنا خلقنا لكل امرىء ... كثير الصلاة براه الصيام )
كان النبي صلى الله عليه و سلم يطرق باب فاطمة و علي و يقول : [ ألا
تصليان ] و في الحديث : [ إذا استيقظ الرجل و أيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا
من الذاكرين الله كثيرا و الذاكرات ]
كانت امرأة حبيب توقظه بالليل
و تقول ذهب الليل و بين أيدينا طريق بعيد و زادنا قليل و قوافل الصالحين
قد سارت قدامنا و نحن قد بقينا
( يا راقد الليل كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد )
( و خذ من الليل و أوقاته ... وردا إذا ما هجع الرقد )
( من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد )
( قل لأولي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد )

الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى