صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثاني في يوم عاشوراء
في الصحيحين [ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال :
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صام يوما يتحرى فضله على الأيام
إلا هذا اليوم ـ يعني يوم عاشوراء ـ و هذا الشهر ـ ـ يعني رمضان ] يوم
عاشوراء له فضيلة عظيمة و حرمة قديمة و صومه لفضله كان معروفا بين
الأنبياء عليهم السلام و قد صامه نوح و موسى عليهما السلام كما سنذكره إن
شاء الله تعالى و روي [ عن إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يوم عاشوراء كانت تصومه
الأنبياء فصوموه أنتم ] خرجه بقي بن مخلد في مسنده و قد كان أهل الكتاب
يصومونه و كذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه قال دلهم بن صالح : قلت
لعكرمة : عاشوراء ما أمره ؟ قال : أذنبت قريش في الجاهلية ذنبا فتعاظم في
صدورهم فسألوا ما توبتهم ؟ قيل : صوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم
و كان للنبي صلى الله عليه و سلم في صيامه أربع حالات :
الحالة الأولى : أنه كان يصومه بمكة و لا يأمر الناس بالصوم ففي الصحيحين
[ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية
و كان النبي صلى الله عليه و سلم يصومه فلما قدم المدينة صامه و أمر
بصيامه فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك يوم
عاشوراء فمن شاء صامه و من شاء أفطره ] و في رواية للبخاري [ و قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : من شاء فليصمه و من شاء أفطر ]
الحالة
الثانية : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة و رأى صيام أهل
الكتاب له و تعظيمهم له و كان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه و أمر
الناس بصيامه و أكد الأمر بصيامه و الحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم
ففي الصحيحين [ عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم
المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه
و سلم : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ قالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه
موسى و قومه و أغرق فرعون و قومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : فنحن أحق و أولى بموسى منكم فصامه رسول الله
صلى الله عليه و سلم و أمر بصيامه ] و في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم بأناس من اليهود قد
صاموا عاشوراء فقال : ما هذا من الصوم ؟ ! قالوا : هذا اليوم الذي نجى
الله عز و جل موسى عليه السلام و بني إسرائيل من الغرق و غرق فيه فرعون و
هذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح و موسى عليهما السلام شكرا
لله عز و جل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أنا أحق بموسى و أحق بصوم
هذا اليوم فأمر أصحابه بالصوم [ و في الصحيحين ] عن سلمة بن الأكوع رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر رجلا من أسلم : أن أذن في
الناس : من أكل فليصم بقية يومه و من لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم
عاشوراء [ و فيهما أيضا ] عن الربيع بنت معوذ قالت : أرسل رسول الله صلى
الله عليه و سلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة : من كان
أصبح صائما فليتم صومه و من كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه [ فكنا بعد
ذلك نصومه و نصوم صبياننا الصغار منهم و نذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة
من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار و
في رواية فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة نلهيهم حتى يتموا صومهم و في
الباب أحاديث كثيرة جدا و خرج الطبراني ] بإسناد فيه جهالة أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يدعو يوم عاشوراء برضعائه و رضعاء ابنته فاطمة فيتفل
في أفواههم و يقول لأمهاتهم : لا ترضعوهم إلى الليل و كان ريقه صلى الله
عليه و سلم يجزئهم [
و قد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل كان صوم
يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجبا أم كان سنة متأكدة ؟ على قولين
مشهورين و مذهب أبي حنيفة أنه كان واجبا حينئذ و هو ظاهر كلام الإمام أحمد
و أبي بكر الأثرم و قال الشافعي رحمه الله بل كان متأكد الاستحباب فقط و
هو قول كثير من أصحابنا و غيرهم
الحالة الثالثة : أنه لما فرض صيام
شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه و سلم أمر الصحابة بصيام عاشوراء و
تأكيده فيه و قد سبق حديث عائشة في ذلك و في الصحيحين ] عن ابن عمر رضي
الله عنهما قال : صام النبي صلى الله عليه و سلم عاشوراء و أمر بصيامه
فلما فرض رمضان ترك ذلك و كان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه و في
رواية لمسلم : إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء و أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم صامه و المسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما فرض رمضان
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن
شاء صامه و من شاء تركه ] و في رواية له أيضا : [ فمن أحب منكم أن يومه
فليصمه و من كره فليدعه ] و في الصحيحين أيضا [ عن معاوية قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه و سلم يقول : هذا يوم عاشوراء و لم يكتب الله عليكم
صيامه و أنا صائم فمن شاء فليصم و من شاء فليفطر ] و في رواية لمسلم
التصريح برفع آخره و في رواية للنسائي أن آخره مدرج من قول معاوية و ليس
بمرفوع و في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال في يوم عاشوراء : هو يوم كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم يصومه قبل أن ينزل رمضان فلما نزل شهر
رمضان ترك و في رواية أنه تركه و فيه أيضا عن جابر بن سمرة قال : كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء و يحثنا عليه و
يتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا و لم ينهنا عنه و لم يتعاهدنا
عنده و خرج الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه [ من حديث قيس بن سعد قال :
أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بصيام عاشوراء قبل أن ينزل رمضان
فلما نزل رمضان لم يأمرنا و لم ينهنا ] و في رواية : و نحن نفعله فهذه
الأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجدد أمر الناس
بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن
صيامه فإن كان أمره صلى الله عليه و سلم بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان
للوجوب فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الإستحباب أم لا ؟ و
فيه اختلاف مشهور بين العلماء رضي الله عنهم و إن كان أمره للاستحباب
المؤكد فقد قيل : إنه زال التوكيد و بقي أصل الإستحباب و لهذا قال قيس بن
سعد : و نحن نفعله و قد روي عن ابن مسعود و ابن عمر رضي الله عنهما ما يدل
على أن أصل استحباب صيامه زال و قال سعيد بن المسيب : لم يصم رسول الله
صلى الله عليه و سلم عاشوراء و روي عنه عن سعد بن أبي وقاص و المرسل أصح
قال الدارقطني
و أكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد و ممن
روي عنه صيامه من الصحابة عمر و علي و عبد الرحمن بن عوف و أبو موسى و قيس
بن سعد و ابن عباس و غيرهم و يدل على بقاء استحبابه قول ابن عباس رضي الله
عنهما : لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم يوما يتحرى فضله على
الأيام إلا يوم عاشوراء و شهر رمضان و ابن عباس إنما صحب النبي صلى الله
عليه و سلم بآخرة و إنما عقل منه صلى الله عليه و سلم من آخر أمره و في
صحيح مسلم [ عن أبي قتادة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن صيام
عاشوراء ؟ فقال : أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ] و إنما سأله
عن التطوع بصيامه فإنه سأله أيضا عن صيام يوم عرفة و صيام الدهر و صيام
يوم و فطر يوم و صيام يوم و فطر يومين فعلم أنه إنما سأله عن صيام التطوع
و خرج الإمام أحمد و النسائي [ من حديث حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله
عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء و العشر
و ثلاثة أيام من كل شهر ] و خرجه أبو داود إلا أن عنده عن بعض أزواج النبي
صلى الله عليه و سلم غير مسماة
الحالة الرابعة : أن النبي صلى الله
عليه و سلم عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوما آخر
مخالفة لأهل الكتاب في صيامه ففي صحيح مسلم [ عن ابن عباس رضي الله عنهما
أنه قال حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم عاشوراء و أمر بصيامه
قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود و النصارى فقال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع ]
قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و في
رواية له أيضا [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر ] يعني عاشوراء و
خرجه الطبراني و لفظه إن عشت إلى قابل صمت التاسع مخافة أن يفوتني عاشوراء
و في مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : صوموا يوم عاشوراء و خالفوا اليهود صوموا قبله يوما و
بعده يوما ] و جاء في رواية : [ أو بعده ] فإما أن تكون [ أو ] للتخير أو
يكون شكا من الراوي : هل قال قبله أو بعده و روي هذا الحديث بلفظ آخر و هو
: [ لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله و يوم بعده ] يعني عاشوراء و في رواية
أخرى : [ لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع و لآمرن بصيام يوم قبله و يوم
بعده ] يعني عاشوراء أخرجهما الحافظ أبو موسى المديني
و قد صح هذا
عن ابن عباس من قوله من رواية ابن جريج قال : أخبرنا عطاء أنه سمع ابن
عباس يقول في يوم عاشوراء : خالفوا اليهود صوموا التاسع و العاشر قال
الإمام أحمد أنا أذهب إليه و روي عن ابن عباس : أنه صام التاسع و العاشر و
علل بخشية فوات عاشوراء و روى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن
عباس : أنه كان يصوم عاشوراء في السفر و يوالي بين اليومين خشية فواته و
كذلك روي عن ابن اسحاق أنه صام يوم عاشوراء و يوما قبله و يوما بعده و قال
: إنما فعلت ذلك خشية أن يفوتني و روي عن ابن سيرين أنه كان يصوم ثلاثة
أيام عند الإختلاف في هلال الشهر احتياطا و روي عن ابن عباس و الضحاك أن
يوم عاشوراء هو تاسع المحرم قال ابن سيرين : كانوا لا يختلفون أنه اليوم
العاشر إلا ابن عباس فإنه قال : إنه التاسع و قال الإمام أحمد في رواية
الميموني : لا أدري هو التاسع أو العاشر و لكن نصومهما فإن اختلف في
الهلال صام ثلاثة أيام احتياطا و ابن سيرين يقول ذلك و ممن رأى صيام
التاسع و العاشر : الشافعي رضي الله عنه و أحمد و اسحاق و كره أبو حنيفة
إفراد العاشر بالصوم
و روى الطبراني من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه
عن خارجة بن زيد عن أبيه قال : ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس :
إنما كان يوم تستر فيه الكعبة و تقاس فيه الحبشة عند النبي صلى الله عليه
و سلم و كان يدور في السنة فكان الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه فلما
مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه و هذا فيه إشارة إلى أن عاشوراء ليس
هو في المحرم بل يحسب بحساب السنة الشمسية كحساب أهل الكتاب و هذا خلاف ما
عليه عمل المسلمين قديما و حديثا و في صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يعد من هلال المحرم ثم يصبح يوم التاسع صائما و ابن
أبي الزناد لا يعتمد على ما ينفرد به و قد جعل الحديث كله عن زيد بن ثابت
و آخره لا يصلح أن يكون من قول زيد فلعله من قول من دونه و الله أعلم و
كان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر منهم ابن عباس و أبو اسحاق و
الزهري و قال : رمضان له عدة من أيام أخر و عاشوراء يفوت و نص أحمد على أن
يصام عاشوراء في السفر و روى عبد الرزاق في كتابه عن إسرائيل [ عن سماك بن
حرب عن معبد القرشي قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم بقديد فأتاه رجل
فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أطعمت اليوم شيئا ليوم عاشوراء ؟ قال
لا إلا أني شربت ماء قال : فلا تطعم شيئا حتى تغرب الشمس و أمر من وراءك
أن يصوموا هذا اليوم ] و لعل المأمور كان من أهل قديد و روى بإسناده عن
طاوس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر و لا يصومه في السفر
في الصحيحين [ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال :
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صام يوما يتحرى فضله على الأيام
إلا هذا اليوم ـ يعني يوم عاشوراء ـ و هذا الشهر ـ ـ يعني رمضان ] يوم
عاشوراء له فضيلة عظيمة و حرمة قديمة و صومه لفضله كان معروفا بين
الأنبياء عليهم السلام و قد صامه نوح و موسى عليهما السلام كما سنذكره إن
شاء الله تعالى و روي [ عن إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يوم عاشوراء كانت تصومه
الأنبياء فصوموه أنتم ] خرجه بقي بن مخلد في مسنده و قد كان أهل الكتاب
يصومونه و كذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه قال دلهم بن صالح : قلت
لعكرمة : عاشوراء ما أمره ؟ قال : أذنبت قريش في الجاهلية ذنبا فتعاظم في
صدورهم فسألوا ما توبتهم ؟ قيل : صوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم
و كان للنبي صلى الله عليه و سلم في صيامه أربع حالات :
الحالة الأولى : أنه كان يصومه بمكة و لا يأمر الناس بالصوم ففي الصحيحين
[ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية
و كان النبي صلى الله عليه و سلم يصومه فلما قدم المدينة صامه و أمر
بصيامه فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك يوم
عاشوراء فمن شاء صامه و من شاء أفطره ] و في رواية للبخاري [ و قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : من شاء فليصمه و من شاء أفطر ]
الحالة
الثانية : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة و رأى صيام أهل
الكتاب له و تعظيمهم له و كان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه و أمر
الناس بصيامه و أكد الأمر بصيامه و الحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم
ففي الصحيحين [ عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم
المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه
و سلم : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ قالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه
موسى و قومه و أغرق فرعون و قومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : فنحن أحق و أولى بموسى منكم فصامه رسول الله
صلى الله عليه و سلم و أمر بصيامه ] و في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم بأناس من اليهود قد
صاموا عاشوراء فقال : ما هذا من الصوم ؟ ! قالوا : هذا اليوم الذي نجى
الله عز و جل موسى عليه السلام و بني إسرائيل من الغرق و غرق فيه فرعون و
هذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح و موسى عليهما السلام شكرا
لله عز و جل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أنا أحق بموسى و أحق بصوم
هذا اليوم فأمر أصحابه بالصوم [ و في الصحيحين ] عن سلمة بن الأكوع رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر رجلا من أسلم : أن أذن في
الناس : من أكل فليصم بقية يومه و من لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم
عاشوراء [ و فيهما أيضا ] عن الربيع بنت معوذ قالت : أرسل رسول الله صلى
الله عليه و سلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة : من كان
أصبح صائما فليتم صومه و من كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه [ فكنا بعد
ذلك نصومه و نصوم صبياننا الصغار منهم و نذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة
من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار و
في رواية فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة نلهيهم حتى يتموا صومهم و في
الباب أحاديث كثيرة جدا و خرج الطبراني ] بإسناد فيه جهالة أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يدعو يوم عاشوراء برضعائه و رضعاء ابنته فاطمة فيتفل
في أفواههم و يقول لأمهاتهم : لا ترضعوهم إلى الليل و كان ريقه صلى الله
عليه و سلم يجزئهم [
و قد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل كان صوم
يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجبا أم كان سنة متأكدة ؟ على قولين
مشهورين و مذهب أبي حنيفة أنه كان واجبا حينئذ و هو ظاهر كلام الإمام أحمد
و أبي بكر الأثرم و قال الشافعي رحمه الله بل كان متأكد الاستحباب فقط و
هو قول كثير من أصحابنا و غيرهم
الحالة الثالثة : أنه لما فرض صيام
شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه و سلم أمر الصحابة بصيام عاشوراء و
تأكيده فيه و قد سبق حديث عائشة في ذلك و في الصحيحين ] عن ابن عمر رضي
الله عنهما قال : صام النبي صلى الله عليه و سلم عاشوراء و أمر بصيامه
فلما فرض رمضان ترك ذلك و كان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه و في
رواية لمسلم : إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء و أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم صامه و المسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما فرض رمضان
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن
شاء صامه و من شاء تركه ] و في رواية له أيضا : [ فمن أحب منكم أن يومه
فليصمه و من كره فليدعه ] و في الصحيحين أيضا [ عن معاوية قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه و سلم يقول : هذا يوم عاشوراء و لم يكتب الله عليكم
صيامه و أنا صائم فمن شاء فليصم و من شاء فليفطر ] و في رواية لمسلم
التصريح برفع آخره و في رواية للنسائي أن آخره مدرج من قول معاوية و ليس
بمرفوع و في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال في يوم عاشوراء : هو يوم كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم يصومه قبل أن ينزل رمضان فلما نزل شهر
رمضان ترك و في رواية أنه تركه و فيه أيضا عن جابر بن سمرة قال : كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء و يحثنا عليه و
يتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا و لم ينهنا عنه و لم يتعاهدنا
عنده و خرج الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه [ من حديث قيس بن سعد قال :
أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بصيام عاشوراء قبل أن ينزل رمضان
فلما نزل رمضان لم يأمرنا و لم ينهنا ] و في رواية : و نحن نفعله فهذه
الأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجدد أمر الناس
بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن
صيامه فإن كان أمره صلى الله عليه و سلم بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان
للوجوب فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الإستحباب أم لا ؟ و
فيه اختلاف مشهور بين العلماء رضي الله عنهم و إن كان أمره للاستحباب
المؤكد فقد قيل : إنه زال التوكيد و بقي أصل الإستحباب و لهذا قال قيس بن
سعد : و نحن نفعله و قد روي عن ابن مسعود و ابن عمر رضي الله عنهما ما يدل
على أن أصل استحباب صيامه زال و قال سعيد بن المسيب : لم يصم رسول الله
صلى الله عليه و سلم عاشوراء و روي عنه عن سعد بن أبي وقاص و المرسل أصح
قال الدارقطني
و أكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد و ممن
روي عنه صيامه من الصحابة عمر و علي و عبد الرحمن بن عوف و أبو موسى و قيس
بن سعد و ابن عباس و غيرهم و يدل على بقاء استحبابه قول ابن عباس رضي الله
عنهما : لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم يوما يتحرى فضله على
الأيام إلا يوم عاشوراء و شهر رمضان و ابن عباس إنما صحب النبي صلى الله
عليه و سلم بآخرة و إنما عقل منه صلى الله عليه و سلم من آخر أمره و في
صحيح مسلم [ عن أبي قتادة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن صيام
عاشوراء ؟ فقال : أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ] و إنما سأله
عن التطوع بصيامه فإنه سأله أيضا عن صيام يوم عرفة و صيام الدهر و صيام
يوم و فطر يوم و صيام يوم و فطر يومين فعلم أنه إنما سأله عن صيام التطوع
و خرج الإمام أحمد و النسائي [ من حديث حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله
عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء و العشر
و ثلاثة أيام من كل شهر ] و خرجه أبو داود إلا أن عنده عن بعض أزواج النبي
صلى الله عليه و سلم غير مسماة
الحالة الرابعة : أن النبي صلى الله
عليه و سلم عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوما آخر
مخالفة لأهل الكتاب في صيامه ففي صحيح مسلم [ عن ابن عباس رضي الله عنهما
أنه قال حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم عاشوراء و أمر بصيامه
قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود و النصارى فقال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع ]
قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و في
رواية له أيضا [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر ] يعني عاشوراء و
خرجه الطبراني و لفظه إن عشت إلى قابل صمت التاسع مخافة أن يفوتني عاشوراء
و في مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : صوموا يوم عاشوراء و خالفوا اليهود صوموا قبله يوما و
بعده يوما ] و جاء في رواية : [ أو بعده ] فإما أن تكون [ أو ] للتخير أو
يكون شكا من الراوي : هل قال قبله أو بعده و روي هذا الحديث بلفظ آخر و هو
: [ لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله و يوم بعده ] يعني عاشوراء و في رواية
أخرى : [ لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع و لآمرن بصيام يوم قبله و يوم
بعده ] يعني عاشوراء أخرجهما الحافظ أبو موسى المديني
و قد صح هذا
عن ابن عباس من قوله من رواية ابن جريج قال : أخبرنا عطاء أنه سمع ابن
عباس يقول في يوم عاشوراء : خالفوا اليهود صوموا التاسع و العاشر قال
الإمام أحمد أنا أذهب إليه و روي عن ابن عباس : أنه صام التاسع و العاشر و
علل بخشية فوات عاشوراء و روى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن
عباس : أنه كان يصوم عاشوراء في السفر و يوالي بين اليومين خشية فواته و
كذلك روي عن ابن اسحاق أنه صام يوم عاشوراء و يوما قبله و يوما بعده و قال
: إنما فعلت ذلك خشية أن يفوتني و روي عن ابن سيرين أنه كان يصوم ثلاثة
أيام عند الإختلاف في هلال الشهر احتياطا و روي عن ابن عباس و الضحاك أن
يوم عاشوراء هو تاسع المحرم قال ابن سيرين : كانوا لا يختلفون أنه اليوم
العاشر إلا ابن عباس فإنه قال : إنه التاسع و قال الإمام أحمد في رواية
الميموني : لا أدري هو التاسع أو العاشر و لكن نصومهما فإن اختلف في
الهلال صام ثلاثة أيام احتياطا و ابن سيرين يقول ذلك و ممن رأى صيام
التاسع و العاشر : الشافعي رضي الله عنه و أحمد و اسحاق و كره أبو حنيفة
إفراد العاشر بالصوم
و روى الطبراني من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه
عن خارجة بن زيد عن أبيه قال : ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس :
إنما كان يوم تستر فيه الكعبة و تقاس فيه الحبشة عند النبي صلى الله عليه
و سلم و كان يدور في السنة فكان الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه فلما
مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه و هذا فيه إشارة إلى أن عاشوراء ليس
هو في المحرم بل يحسب بحساب السنة الشمسية كحساب أهل الكتاب و هذا خلاف ما
عليه عمل المسلمين قديما و حديثا و في صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه و سلم كان يعد من هلال المحرم ثم يصبح يوم التاسع صائما و ابن
أبي الزناد لا يعتمد على ما ينفرد به و قد جعل الحديث كله عن زيد بن ثابت
و آخره لا يصلح أن يكون من قول زيد فلعله من قول من دونه و الله أعلم و
كان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر منهم ابن عباس و أبو اسحاق و
الزهري و قال : رمضان له عدة من أيام أخر و عاشوراء يفوت و نص أحمد على أن
يصام عاشوراء في السفر و روى عبد الرزاق في كتابه عن إسرائيل [ عن سماك بن
حرب عن معبد القرشي قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم بقديد فأتاه رجل
فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أطعمت اليوم شيئا ليوم عاشوراء ؟ قال
لا إلا أني شربت ماء قال : فلا تطعم شيئا حتى تغرب الشمس و أمر من وراءك
أن يصوموا هذا اليوم ] و لعل المأمور كان من أهل قديد و روى بإسناده عن
طاوس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر و لا يصومه في السفر
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ذكر صيام الوحش و الهوام في عاشوراء
و من أعجب ما ورد في عاشوراء أنه كان يصوم الوحش و الهوام و قد روي مرفوعا
: [ أن الصرد أول طير صام عاشوراء ] خرجه الخطيب في تاريخه و إسناده غريب
و قد روى ذلك عن أبي هريرة و روي عن فتح بن شخرف قال كنت أفت للنمل الخبز
كل يوم فلما كان عاشوراء لم يأكلوه و روي عن القادر بالله الخليفة العباسي
أنه جرى له مثل ذلك و أنه عجب منه فسأل أبا الحسن القزويني الزاهد فذكر له
أن يوم عاشوراء تصومه النمل و روى أبو موسى المديني بإسناده عن قيس بن
عباد قال : بلغني أن الوحش كانت تصوم عاشوراء و بإسناد له عن رجل أتى
البادية يوم عاشوراء فرأى قوما يذبحون ذبائح فسألهم عن ذلك فأخبروه أن
الوحوش صائمة و قالوا : اذهب بنا نرك فذهبوا به إلى روضة فأوقفوه قال :
فلما كان بعد العصر جاءت الوحوش من كل وجه فأحاطت بالروضة رافعة رؤوسها
إلى السماء ليس شيء منها يأكل حتى إذا غابت الشمس أسرعت جميعا فأكلت
و بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال : بين الهند و الصين أرض كان بها بطة
من نحاس على عمود من نحاس فإذا كمان يوم عاشوراء مدت منقارها فيفيض من
منقارها ماء يكفيهم لزروعهم و مواشيهم إلى العام المقبل و رؤي بعض العلماء
المتقدمين في المنام فسئل عن حاله فقال : غفر لي بصيام عاشوراء ستين سنة و
في رواية : [ و يوم قبله و يوم بعده ] و ذكر عبد الوهاب الخفاف في كتاب
الصيام : قال سعيد : قال قتادة : كان يقال : صوم عاشوراء كفارة لما ضيع
الرجل من زكاة ماله و قد روي : إن عاشوراء كان يوم الزينة الذي كان فيه
ميعاد موسى لفرعون و أنه كان عيدا لهم و يروى أن موسى عليه السلام كان
يلبس فيه الكتان و يكتحل فيه بالإثمد و كان اليهود من أهل المدينة و خيبر
في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخذونه عيدا و كان أهل الجاهلية
يقتدون بهم في ذلك و كانوا يسترون فيه الكعبة
و لكن شرعنا ورد بخلاف
ذلك ففي الصحيحين [ عن أبي موسى قال : كان يوم عاشوراء يوما تعظمه اليهود
و تتخذه عيدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صوموه أنتم ] و في
رواية لمسلم : كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا و يلبسون
نساءهم فيه حليهم و شارتهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فصوموه
أنتم ] و خرجه النسائي و ابن حبان و عندهما فقال رسول الله صلى الله عليه
و سلم : [ خالفوهم فصوموه ] و هذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا و على
استحباب صيام أعياد المشركين فإن الصوم ينافي اتخاذه عيدا فيوافقون في
صيامه مع صيام يوم آخر معه كما تقدم فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه
أيضا فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية و على مثل هذا يحمل ما خرجه
الإمام أحمد و النسائي و ابن حبان [ من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله
عليه و سلم كان يصوم يوم السبت و يوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام و يقول
: إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم ] فإنه إذا صام اليومين
معا خرج بذلك عن مشابهة اليهود و النصارى في تعظيم كل طائفة ليومها منفردا
و صيامه فيه مخالفة لهم في اتخاذه عيدا و يجمع بذلك بين هذا الحديث و بين
حديث النهي عن صيام يوم السبت
و كل ما روى في فضل الإكتحال في يوم
عاشوراء و الإختضاب و الإغتسال فيه فموضوع لا يصح و أما الصدقة فيه فقد
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : من صام عاشوراء فكأنما صام السنة
و من تصدق فيه كان كصدقة السنة أخرجه أبو موسى المديني
و أما
التوسعة فيه على العيال فقال حرب : سألت أحمد عن الحديث الذي جاء : [ من
وسع على أهله يوم عاشوراء ] فلم يره شيئا و قال ابن منصور : قلت لأحمد :
هل سمعت في الحديث : [ من وسع على أهله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر
السنة ] فقال : نعم رواه سفيان بن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم بن
محمد عن المنتشر و كان من أفضل أهل زمانه أنه بلغه : أنه من وسع على عياله
يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر سنته قال ابن عيينة : جربناه منذ خمسين
سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرا و قول حرب أن أحمد لم يره شيئا إنما
أراد به الحديث الذي يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإنه لا
يصح إسناده و قد روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء و ممن قال ذلك محمد
بن عبد الله بن عبد الحكم و قال العقبلي : هو غير محفوظ و قد روي عن عمر
من قوله و في إسناده مجهول لا يعرف
ذكر الرافضة في اتخاذ عاشوراء مأتما
و أما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله
عنهما فيه : فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا و هو يحسب أنه يحسن
صنعا و لم يأمر الله و لا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء و موتهم مأتما
فكيف بمن دونهم
و من فضائل يوم عاشوراء : أنه يوم تاب الله فيه على
قوم و قد سبق حديث علي الذي خرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال لرجل : [ إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإن فيه يوما تاب
الله على قوم و يتوب فيه على آخرين ]
و قد صح من حديث ابن اسحاق عن
الأسود بن يزيد قال : سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء : فقال
المحرم شهر الله الأصم : فيه يوم تيب فيه على آدم فإن استطعت أن لا يمر بك
إلا صمته كذا [ روي عن شعبة عن أبي اسحاق و رواه اسرائيل عن أبي اسحاق و
لفظه قال : إن قوما أذنبوا فتابوا فيه فتيب عليهم فإن استطعت أن لا يمر بك
إلا و أنت صائم فافعل ] و رواه يونس [ عن أبي اسحاق و لفظه قال : إن
المحرم شهر الله و هو رأس السنة تكتب فيه الكتب و يؤرخ فيه التاريخ و فيه
تضرب الورق و فيه يوم تاب فيه قوم فتاب الله عليهم فلا يمر بك إلا صمته ]
يعني يوم عاشوراء و روى أبو موسى المديني من [ حديث أبي موسى مرفوعا : هذا
يوم تاب الله فيه على قوم فاجعلوه صلاة و صوما ] يعني يوم عاشوراء و قال :
حسن غريب و ليس كما قال و روى باسناده عن علي قال : يوم عاشوراء هو اليوم
الذي تيب فيه على قوم يونس
و عن ابن عباس قال : هو اليوم الذي تيب
فيه على آدم و عن وهب : إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام : أن مر
قومك يتوبوا إلي في أول عشر المحرم فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي حتى
أغفر لهم و روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن رجل عن عكرمة قال : هو يوم تاب
الله فيه على آدم يوم عاشوراء و روى عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة
قال : كنا نتحدث اليوم الذي تيب فيه على آدم يوم عاشوراء و هبط فيه آدم
إلى الأرض يوم عاشوراء و قوله صلى الله عليه و سلم في حديث علي و يتوب فيه
على آخرين حث للناس على تجديد التوبة النصوح في يوم عاشوراء و ترجيه لقبول
التوبة فمن تاب فيه إلى الله عز و جل من ذنوبه تاب الله عليه كما تاب فيه
على من قبلهم
ذكر آدم عليه السلام فضله و إخراجه و ذريته و أن عاشوراء هو
اليوم الذي
تاب فيه الله عليه
و قد قال الله تعالى عن آدم : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو
التواب الرحيم } و أخبر عنه و عن زوجه أنهما قالا : { ربنا ظلمنا أنفسنا و
إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } كتب عمر بن عبد العزيز إلى
الأمصار كتابا قال فيه : قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام : { ربنا
ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } و قولوا كما
قال نوح : { و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين } و قولوا كما قال
موسى : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } و قولوا كما قال ذو النون : { لا
إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } و اعتراف المذنب بذنبه مع الندم
عليه توبة مقبولة قال الله عز و جل : { و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا
عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم } قال النبي صلى الله عليه
و سلم : [ إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ] و في دعاء
الإستفتاح الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يستفتح به : [ اللهم أنت
ربي لا إله إلا أنت ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب
إلا أنت ] و في الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه و سلم للصديق أن
يقوله في صلاته : [ اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا و لا يغفر الذنوب إلا
أنت فاغفر لي مغفرة من عندك و ارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ] و في حديث
شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ سيد الإستغفار أن يقول
العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و
وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي و أبوء بذنبي فاغفر
لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ]
الإعتراف يمحو الإقتراف كما قيل :
( فإن اعتراف المرء يمحو إقترافه ... كما أن إنكار الذنوب ذنوب )
لما أهبط آدم من الجنة بكى على تلك المعاهد فيما يروى ثلاثمائة عام و حق
له ذلك كان في دار لا يجوع فيها و لا يعرى و لا يظمأ فيها و لا يضحى فلما
نزل إلى الأرض أصابه ذلك كله و كان إذا رأى جبريل عليه السلام يتذكر
برؤيته تلك المعاهد فيشتد بكاؤه حتى يبكي جبريل عليه السلام لبكائه و يقول
له : ما هذا البكاء يا آدم فيقول : و كيف لا أبكي و قد أخرجت من دار
النعمة إلى دار البؤس فقال له بعض ولده : لقد آذيت أهل الأرض ببكائك فقال
إنما أبكي على أصوات الملائكة حول العرش و في رواية قال : إنما أبكي على
جوار ربي في دار تربتها طيبة أسمع فيها أصوات الملائكة و في رواية قال :
أبكي على دار لو رأيتها لزهقت نفسك شوقا إليها و روي أنه قال لولده : كنا
نسلا من نسل السماء خلقنا كخلقهم و غذينا بغذائهم فسبانا عدونا إبليس فليس
لنا فرحة و لا راحة إلا الهم و العناء حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها
( فحنى على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى و فيها المخيم )
( و لكننا سبى العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا و نسلم )
لما التقى آدم و موسى عليهما السلام عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه و
ذريته من الجنة فاحتج آدم بالقدر السابق و الإحتجاج بالقدر على المصائب
حسن كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت
كذا كان كذا و لكن قل : قدر الله و ما شاء فعل ]
( و الله لولا سابق الأقدار ... لم تبعد قط داركم عن داري )
( من قبل النأي جزية المقدار ... هل يمحو العبد ما قضاه الباري )
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له و بتعليمه
أسماء كل شيء و إخباره الملائكة بها و هم يستمعون له كاستماع المتعلم من
معلمه حتى أقروا بالعجز عن علمه و أقروا له بالفضل و أسكن هو و زوجته
الجنة ظهر الحسد من إبليس و سعى في الأذى ـ و ما زالت الفضائل إذا ظهرت
تحسد :
( لا مات حسادك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد )
( لا زلت محسودا على نعمة ... فإنما الكامل من يحسد )
فما زال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة و ما فهم الأبله أن
آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول
إنما أهلك إبليس العجب بنفسه و لذلك قال أنا خير منه و إنما كملت فضائل
آدم باعترافه على نفسه : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } كان إبليس كلما أوقد
نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم و احترق إبليس :
( و إذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود )
( لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود )
قال بعض السلف : آدم أخرج من الجنة بذنب واحد و أنتم تعلمون الذنوب و
تكثرون منها و تريدون أن تدخلوا بها بها الجنة :
( تصل الذنوب إلى الذنوب و ترتجى ... درج الجنان بها و فوز العابد )
( و نسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد )
احذروا هذا العدو الذي أخرج أباكم من الجنة فإنه ساع في منعكم من العود
إليها بكل سبيل و العداوة بينكم و بينه قديمة فإنه ما أخرج من الجنة و طرد
عن الخدمة إلا بسبب تكبره على أبيكم و امتناعه من السجود له لما أمر به و
قد أيس من الرحمة و أيس من العود إلى الجنة و تحقق خلوده في النار فهو
يجتهد على أن يخلد معه في النار بني آدم بتحسين الشرك فإن عجز قنع بما
دونه من الفسوق و العصيان و قد حذركم مولاكم منه و قد أعذر من أنذر فخذوا
حذركم : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة }
العجب ممن عرف ربه ثم عصاه و عرف الشيطان ثم أطاعه : { أفتتخذونه و ذريته
أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } :
( رعى الله من نهوى و إن كان ما رعي ... حفظنا له العهد القديم فضيعا )
( و صاحبت قوما كنت أنهاك عنهم ... و حقك ما أبقيت للصلح موضعا )
لما أهبط آدم إلى الأرض وعد العود إلى الجنة هو و من آمن من ذريته و اتبع
الرسل : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى و
أصلح فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون } فليبشر المؤمنون بالجنة هي اقطاعهم و
قد وصل منشور الإقطاع مع جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم : { و بشر
الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } إنما
خرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة فأما من تاب و آمن فالإقطاع مردود عليه
المؤمنون في دار الدنيا في سفر جهاد يجاهدون فيه النفوس و الهوى فإذا
انقضى سفر الجهاد عادوا إلى وطنهم الأول الذي كانوا فيه في صلب آدم تكفل
الله للمجاهد في سبيله أن يرده إلى وطنه بما نال من أجر أو غنيمة
وصلت إليكم معشر الأمة من أبيكم إبراهيم مع نبيكم محمد صلى الله عليه و
سلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رأيت ليلة أسري بي إبراهيم
فقال : يا محمد أقرىء أمتك السلام و أخبرهم : أن الجنة عذبة الماء طيبة
التربة و أنها قيعان و أن غراسها سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا
الله و الله أكبر ] و خرج النسائي و الترمذي [ عن جابر رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه و سلم : من قال سبحان الله العظيم و بحمده غرست له
نخلة في الجنة ] و خرج ابن ماجه [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : من
قال سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر يغرس له بكل
واحدة شجرة في الجنة ] و خرجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا و خرجه
ابن أبي الدنيا [ من حديث أبي هريرة مرفوعا : من قال سبحان الله العظيم
بني له برج في الجنة ] و روي موقوفا و عن الحسن قال : الملائكة يعملون
لبني آدم في الجنان يغرسون و يبنون فربما أمسكوا فيقال لهم : قد أمسكتم ؟
فيقولون : حتى تأتينا النفقات و قال الحسن : فأتعبوهم بأبي أنتم و أمي على
العمل و قال بعض السلف : بلغني أن دور الجنة تبنى بالذكر فإذا أمسك عن
الذكر أمسكوا عن البناء فيقال لهم : فيقولون : حتى تأتينا نفقة أرض الجنة
اليوم قيعان و الأعمال الصالحة لها عمران بها تبنى القصور و تغرس أرض
الجنان فإذا تكامل الغراس و البنيان انتقل إليه السكان رأى بعض الصالحين
في منامه قائلا يقول له : قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك و اسمها دار
السرور فأبشر و قد أمرنا بتنجيدها و تزيينها و الفراغ منها إلى سبعة أيام
فلما كان بعد سبعة أيام مات فرؤي في المنام فقال : أدخلت دار السرور فلا
تسأل عما فيها لم ير مثل الكريم إذا حل به المطيع رأى بعضهم كأنه أدخل
الجنة و عرض عليه منازله و أزواجه فلما أراد أن يخرج تعلق به أزواجه و
قالوا : بالله حسن عملك فكلما حسنت عملك ازددنا نحن حسنا العاملون اليوم
يسلفون رؤوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين إلى أجل يوم
المزيد في سوق الجنة فإذا حل الأجل دخلوا السوق فحملوا منه ما يشاؤن بغير
نقد ثمن على ما قد سلف من تعجيل رأس مال السلف لكن بغير مكيال و لا ميزان
فيا من عزم أن يسلف اليوم إلى ذلك الموسم عجل بتقبيض رأس المال فإن تأخير
التقبيض يفسد العقد فلله ذاك السوق الذي هو موعد المزيد لوفد الحب لو كنت
منهم فما شئت منه خذ بلا ثمن له فقد أسلف التجار فيه و أسلموا في الحديث :
[ إن الجنة تقول : يا رب ائتني بأهلي و بما وعدتني فقد كثر حريري و
استبرقي و سندسي و لؤلؤي و مرجاني و فضتي و ذهبي و أباريقي و خمري و عسلي
و لبني فأتني بأهلي و بما وعدتني ] و في الحديث أيضا : [ من سأل الله
الجنة شفعت له الجنة إلى ربها و قالت : اللهم أدخله الجنة ] و في الحديث
أيضا : [ إن الجنة تفتح في كل سحر و يقال لها ازدادي طيبا لأهلك فتزداد
طيبا فذلك البرد الذي يجده الناس في السحر ] قلوب العارفين تستنشق أحيانا
نسيم الجنة قال أنس بن النضر يوم أحد : واها لريح الجنة و الله إني لأجد
ريح الجنة من قبل أحد ثم تقدم فقاتل حتى قتل :
( تمر الصبا صبحا بساكن ذي الغضا ... و يصدع قلبي أن يهب هبوبها )
( قريبة عهد بالحبيب و إنما ... هوى كل نفس أين حل حبيبها )
كم لله من لطف و حكمه في إهباط آدم إلى الأرض لولا نزوله لما ظهر جهاد
المجاهدين و اجتهاد العابدين المجتهدين و لا صعدت زفرات أنفاس التائبين و
لا نزلت قطرات دموع المذنبين يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب : { فإني
قريب أجيب دعوة الداع } إن كان حصل لك بالإخراج من الجنة كسر فأنا عند
المنكسرة قلوبهم من أجلي أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين زجل
المسبحين ربما يشوبه الإفتخار و أنين المذنبين يزينه الإنكسار لو لم
تذنبوا لذهب الله بكم و جاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم سبحان من
إذا لطف بعبده في المحن قلبها منحا و إذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده
و عاد عليه وبالا لقن آدم حجته و ألقى إليه ما تقبل به توبته : { فتلقى
آدم من ربه كلمات فتاب عليه } و طرد إبليس بعد طول خدمته فصار عمله هباء
منثورا : { قال فاخرج منها فإنك رجيم * و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين }
إذا وضع عدله على عبد لم تبق له حسنة و إذا بسط فضله على عبد لم تبق له
سيئة :
( يعطي و يمنع من يشاء كما يشا ... و هباته ليست تقارنها الرشا )
لما ظهر فضل آدم على الخلائق بالعلم و كان العلم لا يكمل بدون العمل
بمقتضاه و الجنة ليست دار عمل و مجاهدة إنما دار نعيم و مشاهدة قيل له :
يا آدم اهبط إلى رباط الجهاد و صابر جنود الهوى بالجد و الاجتهاد واذرف
دموع الأسف على البعاد فكأنك بالعيش الماضي و قد عاد على أكمل من ذلك أوجه
المعتاد :
( عودوا إلى الوصل عودوا ... فالهجر صعب شديد )
( لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكاد من وجده يميد )
( قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد )
( قلت و قلبي أسير وجد ... متيم في الجفا عميد )
( أنتم لنا في الهوى موال ... و نحن في أسركم عبيد )
و من أعجب ما ورد في عاشوراء أنه كان يصوم الوحش و الهوام و قد روي مرفوعا
: [ أن الصرد أول طير صام عاشوراء ] خرجه الخطيب في تاريخه و إسناده غريب
و قد روى ذلك عن أبي هريرة و روي عن فتح بن شخرف قال كنت أفت للنمل الخبز
كل يوم فلما كان عاشوراء لم يأكلوه و روي عن القادر بالله الخليفة العباسي
أنه جرى له مثل ذلك و أنه عجب منه فسأل أبا الحسن القزويني الزاهد فذكر له
أن يوم عاشوراء تصومه النمل و روى أبو موسى المديني بإسناده عن قيس بن
عباد قال : بلغني أن الوحش كانت تصوم عاشوراء و بإسناد له عن رجل أتى
البادية يوم عاشوراء فرأى قوما يذبحون ذبائح فسألهم عن ذلك فأخبروه أن
الوحوش صائمة و قالوا : اذهب بنا نرك فذهبوا به إلى روضة فأوقفوه قال :
فلما كان بعد العصر جاءت الوحوش من كل وجه فأحاطت بالروضة رافعة رؤوسها
إلى السماء ليس شيء منها يأكل حتى إذا غابت الشمس أسرعت جميعا فأكلت
و بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال : بين الهند و الصين أرض كان بها بطة
من نحاس على عمود من نحاس فإذا كمان يوم عاشوراء مدت منقارها فيفيض من
منقارها ماء يكفيهم لزروعهم و مواشيهم إلى العام المقبل و رؤي بعض العلماء
المتقدمين في المنام فسئل عن حاله فقال : غفر لي بصيام عاشوراء ستين سنة و
في رواية : [ و يوم قبله و يوم بعده ] و ذكر عبد الوهاب الخفاف في كتاب
الصيام : قال سعيد : قال قتادة : كان يقال : صوم عاشوراء كفارة لما ضيع
الرجل من زكاة ماله و قد روي : إن عاشوراء كان يوم الزينة الذي كان فيه
ميعاد موسى لفرعون و أنه كان عيدا لهم و يروى أن موسى عليه السلام كان
يلبس فيه الكتان و يكتحل فيه بالإثمد و كان اليهود من أهل المدينة و خيبر
في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخذونه عيدا و كان أهل الجاهلية
يقتدون بهم في ذلك و كانوا يسترون فيه الكعبة
و لكن شرعنا ورد بخلاف
ذلك ففي الصحيحين [ عن أبي موسى قال : كان يوم عاشوراء يوما تعظمه اليهود
و تتخذه عيدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صوموه أنتم ] و في
رواية لمسلم : كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا و يلبسون
نساءهم فيه حليهم و شارتهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فصوموه
أنتم ] و خرجه النسائي و ابن حبان و عندهما فقال رسول الله صلى الله عليه
و سلم : [ خالفوهم فصوموه ] و هذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا و على
استحباب صيام أعياد المشركين فإن الصوم ينافي اتخاذه عيدا فيوافقون في
صيامه مع صيام يوم آخر معه كما تقدم فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه
أيضا فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية و على مثل هذا يحمل ما خرجه
الإمام أحمد و النسائي و ابن حبان [ من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله
عليه و سلم كان يصوم يوم السبت و يوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام و يقول
: إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم ] فإنه إذا صام اليومين
معا خرج بذلك عن مشابهة اليهود و النصارى في تعظيم كل طائفة ليومها منفردا
و صيامه فيه مخالفة لهم في اتخاذه عيدا و يجمع بذلك بين هذا الحديث و بين
حديث النهي عن صيام يوم السبت
و كل ما روى في فضل الإكتحال في يوم
عاشوراء و الإختضاب و الإغتسال فيه فموضوع لا يصح و أما الصدقة فيه فقد
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : من صام عاشوراء فكأنما صام السنة
و من تصدق فيه كان كصدقة السنة أخرجه أبو موسى المديني
و أما
التوسعة فيه على العيال فقال حرب : سألت أحمد عن الحديث الذي جاء : [ من
وسع على أهله يوم عاشوراء ] فلم يره شيئا و قال ابن منصور : قلت لأحمد :
هل سمعت في الحديث : [ من وسع على أهله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر
السنة ] فقال : نعم رواه سفيان بن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم بن
محمد عن المنتشر و كان من أفضل أهل زمانه أنه بلغه : أنه من وسع على عياله
يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر سنته قال ابن عيينة : جربناه منذ خمسين
سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرا و قول حرب أن أحمد لم يره شيئا إنما
أراد به الحديث الذي يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإنه لا
يصح إسناده و قد روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء و ممن قال ذلك محمد
بن عبد الله بن عبد الحكم و قال العقبلي : هو غير محفوظ و قد روي عن عمر
من قوله و في إسناده مجهول لا يعرف
و أما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله
عنهما فيه : فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا و هو يحسب أنه يحسن
صنعا و لم يأمر الله و لا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء و موتهم مأتما
فكيف بمن دونهم
و من فضائل يوم عاشوراء : أنه يوم تاب الله فيه على
قوم و قد سبق حديث علي الذي خرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال لرجل : [ إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإن فيه يوما تاب
الله على قوم و يتوب فيه على آخرين ]
و قد صح من حديث ابن اسحاق عن
الأسود بن يزيد قال : سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء : فقال
المحرم شهر الله الأصم : فيه يوم تيب فيه على آدم فإن استطعت أن لا يمر بك
إلا صمته كذا [ روي عن شعبة عن أبي اسحاق و رواه اسرائيل عن أبي اسحاق و
لفظه قال : إن قوما أذنبوا فتابوا فيه فتيب عليهم فإن استطعت أن لا يمر بك
إلا و أنت صائم فافعل ] و رواه يونس [ عن أبي اسحاق و لفظه قال : إن
المحرم شهر الله و هو رأس السنة تكتب فيه الكتب و يؤرخ فيه التاريخ و فيه
تضرب الورق و فيه يوم تاب فيه قوم فتاب الله عليهم فلا يمر بك إلا صمته ]
يعني يوم عاشوراء و روى أبو موسى المديني من [ حديث أبي موسى مرفوعا : هذا
يوم تاب الله فيه على قوم فاجعلوه صلاة و صوما ] يعني يوم عاشوراء و قال :
حسن غريب و ليس كما قال و روى باسناده عن علي قال : يوم عاشوراء هو اليوم
الذي تيب فيه على قوم يونس
و عن ابن عباس قال : هو اليوم الذي تيب
فيه على آدم و عن وهب : إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام : أن مر
قومك يتوبوا إلي في أول عشر المحرم فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي حتى
أغفر لهم و روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن رجل عن عكرمة قال : هو يوم تاب
الله فيه على آدم يوم عاشوراء و روى عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة
قال : كنا نتحدث اليوم الذي تيب فيه على آدم يوم عاشوراء و هبط فيه آدم
إلى الأرض يوم عاشوراء و قوله صلى الله عليه و سلم في حديث علي و يتوب فيه
على آخرين حث للناس على تجديد التوبة النصوح في يوم عاشوراء و ترجيه لقبول
التوبة فمن تاب فيه إلى الله عز و جل من ذنوبه تاب الله عليه كما تاب فيه
على من قبلهم
اليوم الذي
تاب فيه الله عليه
و قد قال الله تعالى عن آدم : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو
التواب الرحيم } و أخبر عنه و عن زوجه أنهما قالا : { ربنا ظلمنا أنفسنا و
إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } كتب عمر بن عبد العزيز إلى
الأمصار كتابا قال فيه : قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام : { ربنا
ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } و قولوا كما
قال نوح : { و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين } و قولوا كما قال
موسى : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } و قولوا كما قال ذو النون : { لا
إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } و اعتراف المذنب بذنبه مع الندم
عليه توبة مقبولة قال الله عز و جل : { و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا
عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم } قال النبي صلى الله عليه
و سلم : [ إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ] و في دعاء
الإستفتاح الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يستفتح به : [ اللهم أنت
ربي لا إله إلا أنت ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب
إلا أنت ] و في الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه و سلم للصديق أن
يقوله في صلاته : [ اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا و لا يغفر الذنوب إلا
أنت فاغفر لي مغفرة من عندك و ارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ] و في حديث
شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ سيد الإستغفار أن يقول
العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و
وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي و أبوء بذنبي فاغفر
لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ]
الإعتراف يمحو الإقتراف كما قيل :
( فإن اعتراف المرء يمحو إقترافه ... كما أن إنكار الذنوب ذنوب )
لما أهبط آدم من الجنة بكى على تلك المعاهد فيما يروى ثلاثمائة عام و حق
له ذلك كان في دار لا يجوع فيها و لا يعرى و لا يظمأ فيها و لا يضحى فلما
نزل إلى الأرض أصابه ذلك كله و كان إذا رأى جبريل عليه السلام يتذكر
برؤيته تلك المعاهد فيشتد بكاؤه حتى يبكي جبريل عليه السلام لبكائه و يقول
له : ما هذا البكاء يا آدم فيقول : و كيف لا أبكي و قد أخرجت من دار
النعمة إلى دار البؤس فقال له بعض ولده : لقد آذيت أهل الأرض ببكائك فقال
إنما أبكي على أصوات الملائكة حول العرش و في رواية قال : إنما أبكي على
جوار ربي في دار تربتها طيبة أسمع فيها أصوات الملائكة و في رواية قال :
أبكي على دار لو رأيتها لزهقت نفسك شوقا إليها و روي أنه قال لولده : كنا
نسلا من نسل السماء خلقنا كخلقهم و غذينا بغذائهم فسبانا عدونا إبليس فليس
لنا فرحة و لا راحة إلا الهم و العناء حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها
( فحنى على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى و فيها المخيم )
( و لكننا سبى العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا و نسلم )
لما التقى آدم و موسى عليهما السلام عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه و
ذريته من الجنة فاحتج آدم بالقدر السابق و الإحتجاج بالقدر على المصائب
حسن كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت
كذا كان كذا و لكن قل : قدر الله و ما شاء فعل ]
( و الله لولا سابق الأقدار ... لم تبعد قط داركم عن داري )
( من قبل النأي جزية المقدار ... هل يمحو العبد ما قضاه الباري )
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له و بتعليمه
أسماء كل شيء و إخباره الملائكة بها و هم يستمعون له كاستماع المتعلم من
معلمه حتى أقروا بالعجز عن علمه و أقروا له بالفضل و أسكن هو و زوجته
الجنة ظهر الحسد من إبليس و سعى في الأذى ـ و ما زالت الفضائل إذا ظهرت
تحسد :
( لا مات حسادك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد )
( لا زلت محسودا على نعمة ... فإنما الكامل من يحسد )
فما زال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة و ما فهم الأبله أن
آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول
إنما أهلك إبليس العجب بنفسه و لذلك قال أنا خير منه و إنما كملت فضائل
آدم باعترافه على نفسه : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } كان إبليس كلما أوقد
نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم و احترق إبليس :
( و إذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود )
( لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود )
قال بعض السلف : آدم أخرج من الجنة بذنب واحد و أنتم تعلمون الذنوب و
تكثرون منها و تريدون أن تدخلوا بها بها الجنة :
( تصل الذنوب إلى الذنوب و ترتجى ... درج الجنان بها و فوز العابد )
( و نسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد )
احذروا هذا العدو الذي أخرج أباكم من الجنة فإنه ساع في منعكم من العود
إليها بكل سبيل و العداوة بينكم و بينه قديمة فإنه ما أخرج من الجنة و طرد
عن الخدمة إلا بسبب تكبره على أبيكم و امتناعه من السجود له لما أمر به و
قد أيس من الرحمة و أيس من العود إلى الجنة و تحقق خلوده في النار فهو
يجتهد على أن يخلد معه في النار بني آدم بتحسين الشرك فإن عجز قنع بما
دونه من الفسوق و العصيان و قد حذركم مولاكم منه و قد أعذر من أنذر فخذوا
حذركم : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة }
العجب ممن عرف ربه ثم عصاه و عرف الشيطان ثم أطاعه : { أفتتخذونه و ذريته
أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } :
( رعى الله من نهوى و إن كان ما رعي ... حفظنا له العهد القديم فضيعا )
( و صاحبت قوما كنت أنهاك عنهم ... و حقك ما أبقيت للصلح موضعا )
لما أهبط آدم إلى الأرض وعد العود إلى الجنة هو و من آمن من ذريته و اتبع
الرسل : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى و
أصلح فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون } فليبشر المؤمنون بالجنة هي اقطاعهم و
قد وصل منشور الإقطاع مع جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم : { و بشر
الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } إنما
خرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة فأما من تاب و آمن فالإقطاع مردود عليه
المؤمنون في دار الدنيا في سفر جهاد يجاهدون فيه النفوس و الهوى فإذا
انقضى سفر الجهاد عادوا إلى وطنهم الأول الذي كانوا فيه في صلب آدم تكفل
الله للمجاهد في سبيله أن يرده إلى وطنه بما نال من أجر أو غنيمة
وصلت إليكم معشر الأمة من أبيكم إبراهيم مع نبيكم محمد صلى الله عليه و
سلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رأيت ليلة أسري بي إبراهيم
فقال : يا محمد أقرىء أمتك السلام و أخبرهم : أن الجنة عذبة الماء طيبة
التربة و أنها قيعان و أن غراسها سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا
الله و الله أكبر ] و خرج النسائي و الترمذي [ عن جابر رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه و سلم : من قال سبحان الله العظيم و بحمده غرست له
نخلة في الجنة ] و خرج ابن ماجه [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : من
قال سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر يغرس له بكل
واحدة شجرة في الجنة ] و خرجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا و خرجه
ابن أبي الدنيا [ من حديث أبي هريرة مرفوعا : من قال سبحان الله العظيم
بني له برج في الجنة ] و روي موقوفا و عن الحسن قال : الملائكة يعملون
لبني آدم في الجنان يغرسون و يبنون فربما أمسكوا فيقال لهم : قد أمسكتم ؟
فيقولون : حتى تأتينا النفقات و قال الحسن : فأتعبوهم بأبي أنتم و أمي على
العمل و قال بعض السلف : بلغني أن دور الجنة تبنى بالذكر فإذا أمسك عن
الذكر أمسكوا عن البناء فيقال لهم : فيقولون : حتى تأتينا نفقة أرض الجنة
اليوم قيعان و الأعمال الصالحة لها عمران بها تبنى القصور و تغرس أرض
الجنان فإذا تكامل الغراس و البنيان انتقل إليه السكان رأى بعض الصالحين
في منامه قائلا يقول له : قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك و اسمها دار
السرور فأبشر و قد أمرنا بتنجيدها و تزيينها و الفراغ منها إلى سبعة أيام
فلما كان بعد سبعة أيام مات فرؤي في المنام فقال : أدخلت دار السرور فلا
تسأل عما فيها لم ير مثل الكريم إذا حل به المطيع رأى بعضهم كأنه أدخل
الجنة و عرض عليه منازله و أزواجه فلما أراد أن يخرج تعلق به أزواجه و
قالوا : بالله حسن عملك فكلما حسنت عملك ازددنا نحن حسنا العاملون اليوم
يسلفون رؤوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين إلى أجل يوم
المزيد في سوق الجنة فإذا حل الأجل دخلوا السوق فحملوا منه ما يشاؤن بغير
نقد ثمن على ما قد سلف من تعجيل رأس مال السلف لكن بغير مكيال و لا ميزان
فيا من عزم أن يسلف اليوم إلى ذلك الموسم عجل بتقبيض رأس المال فإن تأخير
التقبيض يفسد العقد فلله ذاك السوق الذي هو موعد المزيد لوفد الحب لو كنت
منهم فما شئت منه خذ بلا ثمن له فقد أسلف التجار فيه و أسلموا في الحديث :
[ إن الجنة تقول : يا رب ائتني بأهلي و بما وعدتني فقد كثر حريري و
استبرقي و سندسي و لؤلؤي و مرجاني و فضتي و ذهبي و أباريقي و خمري و عسلي
و لبني فأتني بأهلي و بما وعدتني ] و في الحديث أيضا : [ من سأل الله
الجنة شفعت له الجنة إلى ربها و قالت : اللهم أدخله الجنة ] و في الحديث
أيضا : [ إن الجنة تفتح في كل سحر و يقال لها ازدادي طيبا لأهلك فتزداد
طيبا فذلك البرد الذي يجده الناس في السحر ] قلوب العارفين تستنشق أحيانا
نسيم الجنة قال أنس بن النضر يوم أحد : واها لريح الجنة و الله إني لأجد
ريح الجنة من قبل أحد ثم تقدم فقاتل حتى قتل :
( تمر الصبا صبحا بساكن ذي الغضا ... و يصدع قلبي أن يهب هبوبها )
( قريبة عهد بالحبيب و إنما ... هوى كل نفس أين حل حبيبها )
كم لله من لطف و حكمه في إهباط آدم إلى الأرض لولا نزوله لما ظهر جهاد
المجاهدين و اجتهاد العابدين المجتهدين و لا صعدت زفرات أنفاس التائبين و
لا نزلت قطرات دموع المذنبين يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب : { فإني
قريب أجيب دعوة الداع } إن كان حصل لك بالإخراج من الجنة كسر فأنا عند
المنكسرة قلوبهم من أجلي أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين زجل
المسبحين ربما يشوبه الإفتخار و أنين المذنبين يزينه الإنكسار لو لم
تذنبوا لذهب الله بكم و جاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم سبحان من
إذا لطف بعبده في المحن قلبها منحا و إذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده
و عاد عليه وبالا لقن آدم حجته و ألقى إليه ما تقبل به توبته : { فتلقى
آدم من ربه كلمات فتاب عليه } و طرد إبليس بعد طول خدمته فصار عمله هباء
منثورا : { قال فاخرج منها فإنك رجيم * و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين }
إذا وضع عدله على عبد لم تبق له حسنة و إذا بسط فضله على عبد لم تبق له
سيئة :
( يعطي و يمنع من يشاء كما يشا ... و هباته ليست تقارنها الرشا )
لما ظهر فضل آدم على الخلائق بالعلم و كان العلم لا يكمل بدون العمل
بمقتضاه و الجنة ليست دار عمل و مجاهدة إنما دار نعيم و مشاهدة قيل له :
يا آدم اهبط إلى رباط الجهاد و صابر جنود الهوى بالجد و الاجتهاد واذرف
دموع الأسف على البعاد فكأنك بالعيش الماضي و قد عاد على أكمل من ذلك أوجه
المعتاد :
( عودوا إلى الوصل عودوا ... فالهجر صعب شديد )
( لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكاد من وجده يميد )
( قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد )
( قلت و قلبي أسير وجد ... متيم في الجفا عميد )
( أنتم لنا في الهوى موال ... و نحن في أسركم عبيد )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثالث في قدوم الحاج
في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : من حج هذا البيت و لم يرفث و لم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ]
مباني الإسلام الخمس كل واحد منها يكفر الذنوب و الخطايا و يهدمها و لا
إله إلا الله لا تبقي ذنبا و لا يسبقها عمل و الصلوات الخمس و الجمعة إلى
الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر و الصدقة
تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار و الحج الذي لا رفث فيه و لا فسوق
يرجع صاحبه من ذنوبه كيوم ولدته أمه وقد استنبط معنى هذا الحديث من القرآن
طائفة من العلماء و تأولوا قول الله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه و من تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } بأن من قضى نسكه و رجع منه فإن
آثامه تسقط عنه إذا اتقى الله عز و جل في أداء نسكه و سواء نفر في اليوم
الأول من يومي النفر متعجلا أو متأخرا إلى اليوم الثاني و في مسند أبي
يعلى الموصلي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قضى نسكه و سلم
المسلمون من لسانه و يده غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ] و في
الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الحج المبرور ليس له جزاء
إلا الجنة ] و في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ الحج يهدم ما
قبله ]
فالحج المبرور : يكفر السيئات و يوجب دخول الجنات و قد روي
أنه صلى الله عليه و سلم سئل عن بر الحج ؟ فقال : [ إطعام الطعام و طيب
الكلام ] فالحج المبرور ما اجتمع فيه أعمال البر مع اجتناب أعمال الإثم
فما دعا الحاج لنفسه و لا دعا له غيره بأحسن من الدعاء بأن يكون حجه
مبرورا و لهذا يشرع للحاج إذا فرغ من أعمال حجه و شرع في التحلل من إحرامه
برمي جمرة العقبة يوم النحر أن يقول : اللهم اجعله حجا مبرورا و سعيا
مشكورا و ذنبا مغفورا و روي ذلك عن ابن مسعود و ابن عمر من قولهما و روي
عنهما مرفوعا و كذلك يدعى للقادم من الحج بأن يجعل الله حجه مبرورا و في
الأثر : أن آدم عليه السلام لما حج البيت و قضى نسكه أتته الملائكة فقالوا
له : يا آدم بر حجك لقد حججنا هذا البيت بألفي عام و كذلك كان السلف يدعون
لمن رجع من حجه لما حج خالد الحذاء و رجع قال له أبو قلابة : بر العمل
معناه جعل الله عملك مبرورا
علامات الحج المبرور
للحج المبرور علامات لا تخفى : قيل للحسن : الحج المبرور جزاؤه الجنة ؟
قال : آية ذلك : أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة و قيل له : جزاء
الحج المغفرة ؟ قال : آية ذلك : أن يدع سيء ما كان عليه من العمل الحج
المبرور مثل : حج إبراهيم بن أدهم مع رفيقه الرجل الصالح الذي صحبه من بلخ
فرجع من حجه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة و خرج عن ملكه و ماله و أهله
و عشيرته و بلاده و اختار بلاد الغربة وقنع بالأكل من عمل يده إما من
الحصاد أو من نظارة البساتين حج مرة مع جماعة من أصحابه فشرط عليهم في
ابتداء السفر أن لا يتكلم أحدهم إلا لله تعالى و لا ينظر إلا له فلما
وصلوا وطافوا بالبيت رأوا جماعة من أهل خراسان في الطواف معهم غلام جميل
قد فتن الناس بالنظر إليه فجعل إبراهيم يسارقه النظر و يبكي فقال له بعض
أصحابه : يا أبا اسحاق ألم تقل لنا : لا ننظر إلا لله تعالى ؟ فقال : ويحك
هذا ولدي و هؤلاء خدمي و حشمي :
( هجرت الخلق طرا في هواك ... و أيتمت العيال لكي أراكا )
( فلو قطعتني في الحب إربا ... لما حن الفؤاد إلى سواكا )
قال بعض السلف : استلام الحجر الأسود هو أن لا يعود إلى معصية يشير ما
قاله ابن عباس رضي الله عنهما : أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن
استلمه و صافحه فكأنما صافح الله و قبل يمينه و قال عكرمة : الحجر الأسود
يمين الله في الأرض فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسح
الركن فقد بايع الله ورسوله و ورد في حديث : [ أن الله لما استخرج من ظهر
آدم ذريته و أخذ عليهم الميثاق كتب ذلك العهد في رق ثم استودعه هذا الحجر
فمن ثم يقول : من يستلمه وفاء بعهدك فمستلم الحجر يبايع الله على اجتناب
معاصيه و القيام بحقوقه ] { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما
عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } يا معاهدينا على التوبة بيننا و
بينكم عهود أكيدة أولها : يوم { ألست بربكم } فقلتم بلى و المقصود الأعظم
من هذا العهد : أن لا تعبدوا إلا إياه و تمام العمل بمقتضاه : أن اتقوا
الله حق تقواه و ثانيهما : يوم أرسل إليكم رسوله و أنزل عليكم في كتابه :
{ و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } قال سهل التستري : من قال لا إله إلا الله
فقد بايع الله فحرام عليه إذ بايعه أن يعصيه في شيء من أمره في السر و
العلانية أو يوالي عدوه أو يعادي وليه :
( يا بني الإسلام من علمكم ... بعد إذ عاهدتم نقض العهود )
( كل شيء في الهوى مستحسن ... ما خلا الغدر و إخلاف الوعود )
و ثالثها : لمن حج إذا استلم الحجر فإنه يجدد البيعة و يلتزم الوفاء
بالعهد المتقدم : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } الحر
الكريم لا ينقض العهد القديم :
( أحسبتم أن الليالي غيرت ... عقد الهوى لا كان من يتغير )
( يفنى الزمان و ليس ننسى عهدكم ... و على محبتكم أموت و أحشر )
إذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها : معاذ الله : { إنه ربي أحسن
مثواي إنه لا يفلح الظالمون } اجتاز بعضهم على منظور مشتهى فهمت عينه أن
تمتد فصاح :
( حلفت بدين الحب لا خنت عهدكم ... و ذلك عهد لو عرفت وثيق )
تاب بعض من تقدم ثم نقض فهتف به هاتف بالليل :
( سأترك ما بيني و بينك واقفا ... فإن عدت عدنا و الوداد مقيم )
( تواصل قوما لا وفاء لعهدهم ... و تترك مثلي و الحفاظ قديم )
من تكرر منه نقض العهد أيوثق بمعاهدته دخل بعض السلف على مريض مكروب فقال
له : عاهد الله على التوبة لعله أن يقيلك صرعتك فقال : كنت كلما مرضت
عاهدت الله على التوبة فيقيلني فلما كان هذه المرة ذهبت أعاهد كما كنت
أعاهد فهتف بي هاتف من ناحية البيت : قد أقلناك مرارا فوجدناك كذابا ثم
مات عن قريب لا كان من نقض العهد من كان ما ينقض العهد إلا خوان :
( ترى الحي الالى باتوا ... على العهد كما كانوا )
( أم الدهر بهم خاننا ... و دهر المرء خوان )
( إذا عز بغير الله ... يوما معشر هانوا )
من رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه عند استلام الحجر حج بعض من
تقدم فبات بمكة مع قوم فدعته نفسه إلى معصية فسمع هاتفا يقول : ويلك ألم
تحج فعصمه الله من ذلك قبيح بمن كمل القيام بمباني الإسلام الخمس أن يشرع
في نقض ما يبني بالمعاصي في حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا : [ أن النبي
صلى الله عليه و سلم قال لرجل : يا فلان إنك تبني و تهدم ـ يعني تعمل
الحسنات و السيئات ـ فقال يا رسول الله : سوف أبني و لا أهدم :
( خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط فقد تدانى الأمر )
( أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبني كم تنقض كم ذا العذر ) ]
علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها و علامة ردها أن توصل بمعصية ما
أحسن الحسنة بعد الحسنة و أقبح السيئة بعد الحسنة ذنب بعد التوبة أقبح من
سبعين قبلها النكسة أصعب من المرض الأول ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة
ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل و غني قوم بالذنوب افتقر سلوا الله الثبات
إلى الممات و تعوذوا من الحور بعد الكور كان الإمام أحمد يدعو و يقول :
اللهم أعزني بطاعتك و لا تذلني بمعصيتك و كان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم :
اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة في بعض الآثار الإلهية يقول
الله تبارك و تعالى : أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز
( ألا إنما التقوى هي العز و الكرم ... و حبك للدنيا هو الذل و السقم )
( و ليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى و إن حاك أو حجم )
الحاج إذا كان حجه مبرورا غفر له و لمن استغفر له و شفع فيمن شفع فيه و قد
روي : [ إن الله تعالى يقول لهم يوم عرفة : أفيضوا مغفورا لكم و لمن شفعتم
فيه ] و روى الإمام أحمد بإسناده [ عن أبي موسى الأشعري قال : إن الحاج
ليشفع في أربعمائة بيت من قومه و يبارك في أربعين من أمهات البعير الذي
يحمله و يخرج من خطاياه كيوم ولدته أمه فإذا رجع من الحج المبرور رجع
وذنبه مغفور و دعاؤه مستجاب فذلك يستحب تلقيه و السلام عليه و طلب
الإستغفار منه ]
و تلقي الحاج مسنون و في صحيح مسلم [ عن عبد الله
بن جعفر قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قدم من سفر تلقى بصبيان
أهل المدينة و إنه قدم من سفر ـ فسق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد
ابني فاطمة فأردفه خلفه فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة ] و قد ورد النهي
عن ركوب ثلاثة على دابة في حديث مرسل فإن صح : حمل على ركوب ثلاثة رجال
فإن الدابة يشق عليها حملها بخلاف رجل و صغيرين و في المسند و صحيح الحاكم
[ عن عائشة قالت : أقبلنا من مكة في حج أو عمرة فتلقانا غلمان من الأنصار
كانوا يتلقون أهاليهم إذا قدموا ]
و كذلك السلام على الحاج إذا قدم
و مصافحته و طلب الدعاء منه و في المسند بإسناد فيه ضعف [ عن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا لقيت الحاج فسلم عليه و صافحه و مره
أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته فإنه مغفور له ] و فيه أيضا عن حبيب بن أبي
ثابت قال : خرجت مع أبي نتلقى الحاج و نسلم عليهم قبل أن يتدنسوا و روى
معاذ بن الحكم حدثنا موسى بن أعين عن الحسن قال : إذا خرج الحاج فشيعوهم و
زودوهم الدعاء و إذا قفلوا فالقوهم و صافحوهم قبل أن يخالطوا الذنوب فإن
البركة في أيديهم و روى أبو الشيخ الأصبهاني و غيره من رواية لبنت عن
مجاهد قال : قال عمر : يغفر للحاج و لمن استغفر له الحاج بقية ذي الحجة و
محرم و صفر و عشر من ربيع الأول و في مسند البزار و صحيح الحاكم [ من حديث
أبي هريرة مرفوعا : اللهم اغفر للحاج و لمن استغفر له الحاج ] وروى أبو
معاوية الضرير عن حجاج عن الحكم قال : قال ابن عباس : لو يعلم المقيمون ما
للحاج عليهم من الحق لأتوهم حين يقدمون حتى يقيلوا رواحلهم لأنهم وفد الله
في جميع الناس ما للمنقطع حيلة سوى التعلق بأذيال الواصلين :
( هل الدهر يوما بوصل يجود ... و أيامنا باللوى هل تعود )
( زمان تقضى و عيش مضى ... بنفس و الله تلك العهود )
( إلا قل لزوار دار الحبيب ... هنيئا لكم في الجنان الخلود )
( أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش و أنتم ورود )
أحب ما إلى المحب سؤال من قدم من ديار الحبيب :
( عارضا بي ركب الحجاز أسائله ... متى عهده بأيام سلع )
( و استملا حديث من سكن الخيف ... و لا تكتباه إلا بدمعي )
( فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي )
( من معيد أيام جمع على ما ... كان منها و أين أيام جمعي )
لقاء الأحباب لقاح الألباب و أخبار تلك الديار أحلى عند المحبين من
الأسمار :
( إذا قدم الركب بمعمعتهم ... أحيى الوجوه قدوما و وردا )
( و اسألهم عن عقيق الحمى ... و عن أرض نجد و من حل نجدا )
( حدثوني عن العقيق حديثا ... أنتم بالعقيق أقرب عهدا )
( ألا هل سمعتم ضجيج الحجيج ... على ساحة الخيف و العيس تحدا )
( فذكر المشاعر و المروتين ... و ذكر الصفا يطرد الهم طردا )
أرواح القبول تفوح من المقبولين و أنوار الوصول تلوح على الواصلين :
( تفوح أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم لقرب العهد بالدار )
( أهفو إلى الركب تعلو لي ركائبهم ... من الحمى في إسحاق و اطمار )
( يا راكبان قفا لي و اقضيا و طرى ... و حدثاني عن نجد بأخبار )
ما يؤهل للإكثار من التردد إلى تلك الآثار إلا محب مختار حج علي بن الموفق
ستين حجة قال : فلما كان بعد ذلك جلست في الحجر أفكر في حالي و كثرة
تردادي إلى ذلك المكان و لا أدري هل قبل مني حجي أم رد ثم نمت فرأيت في
منامي قائلا يقول لي : هل تدعو إلى بيتك إلا من تحب قال : فاستيقظت و قد
سري عني ما كل من حج قبل و لا كل من صلى وصل قيل لابن عمر ما أكثر الحاج ؟
قال : ما أقلهم و قال : الركب كبير و الحاج قليل حج بعض المتقدمين فتوفي
في الطريق في رجوعه فدفنه أصحابه و نسوا الفأس في قبره فنبشوه ليأخذوا
الفأس فإذا عنقه و يداه قد جمعت في حلقة الفأس فردوا عليه التراب ثم رجعوا
إلى أهله فسألوهم عن حاله ؟ فقالوا صحب رجلا فأخذ ماله فكان يحج منه :
( إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت و لكن حجت العير )
( لا يقبل الله إلا كل صالحة ... ما كل من حج بيت الله مبرور )
من حجه مبرور قليل و لكن قد يوهب المسيء للمحسن و قد روي : [ أن الله
تعالى يقول عشية عرفة : قد وهبت مسيئكم لمحسنكم ] حج بعض المتقدمين فنام
ليلة فرأى ملكين نزلا من السماء فقال أحدهما للأخر فكم حج العام ؟ قال :
ستمائة ألف فقال له : كم قبل منهم ؟ قال : ستة قال : فاستيقظ الرجل و هو
قلق مما رأى فرأى في الليلة الثانية كأنهما نزلا و أعادا القول و قال
أحدهما : إن الله وهب لكل واحد من الستة مائة ألف كان بعض السلف يقول في
دعائه : اللهم إن لم تقبلني فهبني لمن شئت من خلقك من رد عليه عمله و لم
يقبل منه فقد يعوض ما يعوض المصاب فيرحم بذلك قال بعض السلف في دعائه
بعرفة : اللهم إن كنت لم تقبل حجي و تعبي و نصبي فلا تحرمني أجر المصيبة
على تركك القبول مني و قال آخر منهم : اللهم ارحمني فإن رحمتك قريب من
المحسنين فإن لم أكن محسنا فقد قلت : { و كان بالمؤمنين رحيما } فإن لم
أكن كذلك فأنا شيء و قد قلت : { و رحمتي وسعت كل شيء } فإن لم أكن شيئا
فأنا مصاب برد عملي برد عملي و تعبي و نصبي فلا تحرمني ما وعدت المصاب من
الرحمة قال هلال بن يسار : بلغني أن المسلم إذا دعا الله فلم يستجب له كتب
له حسنة خرجه ابن أبي شيبة يعني جزاء المصيبة رده
( من كان في سخطه محسنا ... فكيف يكون إذا ما رضي )
في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : من حج هذا البيت و لم يرفث و لم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ]
مباني الإسلام الخمس كل واحد منها يكفر الذنوب و الخطايا و يهدمها و لا
إله إلا الله لا تبقي ذنبا و لا يسبقها عمل و الصلوات الخمس و الجمعة إلى
الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر و الصدقة
تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار و الحج الذي لا رفث فيه و لا فسوق
يرجع صاحبه من ذنوبه كيوم ولدته أمه وقد استنبط معنى هذا الحديث من القرآن
طائفة من العلماء و تأولوا قول الله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه و من تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } بأن من قضى نسكه و رجع منه فإن
آثامه تسقط عنه إذا اتقى الله عز و جل في أداء نسكه و سواء نفر في اليوم
الأول من يومي النفر متعجلا أو متأخرا إلى اليوم الثاني و في مسند أبي
يعلى الموصلي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قضى نسكه و سلم
المسلمون من لسانه و يده غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ] و في
الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الحج المبرور ليس له جزاء
إلا الجنة ] و في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ الحج يهدم ما
قبله ]
فالحج المبرور : يكفر السيئات و يوجب دخول الجنات و قد روي
أنه صلى الله عليه و سلم سئل عن بر الحج ؟ فقال : [ إطعام الطعام و طيب
الكلام ] فالحج المبرور ما اجتمع فيه أعمال البر مع اجتناب أعمال الإثم
فما دعا الحاج لنفسه و لا دعا له غيره بأحسن من الدعاء بأن يكون حجه
مبرورا و لهذا يشرع للحاج إذا فرغ من أعمال حجه و شرع في التحلل من إحرامه
برمي جمرة العقبة يوم النحر أن يقول : اللهم اجعله حجا مبرورا و سعيا
مشكورا و ذنبا مغفورا و روي ذلك عن ابن مسعود و ابن عمر من قولهما و روي
عنهما مرفوعا و كذلك يدعى للقادم من الحج بأن يجعل الله حجه مبرورا و في
الأثر : أن آدم عليه السلام لما حج البيت و قضى نسكه أتته الملائكة فقالوا
له : يا آدم بر حجك لقد حججنا هذا البيت بألفي عام و كذلك كان السلف يدعون
لمن رجع من حجه لما حج خالد الحذاء و رجع قال له أبو قلابة : بر العمل
معناه جعل الله عملك مبرورا
للحج المبرور علامات لا تخفى : قيل للحسن : الحج المبرور جزاؤه الجنة ؟
قال : آية ذلك : أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة و قيل له : جزاء
الحج المغفرة ؟ قال : آية ذلك : أن يدع سيء ما كان عليه من العمل الحج
المبرور مثل : حج إبراهيم بن أدهم مع رفيقه الرجل الصالح الذي صحبه من بلخ
فرجع من حجه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة و خرج عن ملكه و ماله و أهله
و عشيرته و بلاده و اختار بلاد الغربة وقنع بالأكل من عمل يده إما من
الحصاد أو من نظارة البساتين حج مرة مع جماعة من أصحابه فشرط عليهم في
ابتداء السفر أن لا يتكلم أحدهم إلا لله تعالى و لا ينظر إلا له فلما
وصلوا وطافوا بالبيت رأوا جماعة من أهل خراسان في الطواف معهم غلام جميل
قد فتن الناس بالنظر إليه فجعل إبراهيم يسارقه النظر و يبكي فقال له بعض
أصحابه : يا أبا اسحاق ألم تقل لنا : لا ننظر إلا لله تعالى ؟ فقال : ويحك
هذا ولدي و هؤلاء خدمي و حشمي :
( هجرت الخلق طرا في هواك ... و أيتمت العيال لكي أراكا )
( فلو قطعتني في الحب إربا ... لما حن الفؤاد إلى سواكا )
قال بعض السلف : استلام الحجر الأسود هو أن لا يعود إلى معصية يشير ما
قاله ابن عباس رضي الله عنهما : أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن
استلمه و صافحه فكأنما صافح الله و قبل يمينه و قال عكرمة : الحجر الأسود
يمين الله في الأرض فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسح
الركن فقد بايع الله ورسوله و ورد في حديث : [ أن الله لما استخرج من ظهر
آدم ذريته و أخذ عليهم الميثاق كتب ذلك العهد في رق ثم استودعه هذا الحجر
فمن ثم يقول : من يستلمه وفاء بعهدك فمستلم الحجر يبايع الله على اجتناب
معاصيه و القيام بحقوقه ] { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما
عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } يا معاهدينا على التوبة بيننا و
بينكم عهود أكيدة أولها : يوم { ألست بربكم } فقلتم بلى و المقصود الأعظم
من هذا العهد : أن لا تعبدوا إلا إياه و تمام العمل بمقتضاه : أن اتقوا
الله حق تقواه و ثانيهما : يوم أرسل إليكم رسوله و أنزل عليكم في كتابه :
{ و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } قال سهل التستري : من قال لا إله إلا الله
فقد بايع الله فحرام عليه إذ بايعه أن يعصيه في شيء من أمره في السر و
العلانية أو يوالي عدوه أو يعادي وليه :
( يا بني الإسلام من علمكم ... بعد إذ عاهدتم نقض العهود )
( كل شيء في الهوى مستحسن ... ما خلا الغدر و إخلاف الوعود )
و ثالثها : لمن حج إذا استلم الحجر فإنه يجدد البيعة و يلتزم الوفاء
بالعهد المتقدم : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } الحر
الكريم لا ينقض العهد القديم :
( أحسبتم أن الليالي غيرت ... عقد الهوى لا كان من يتغير )
( يفنى الزمان و ليس ننسى عهدكم ... و على محبتكم أموت و أحشر )
إذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها : معاذ الله : { إنه ربي أحسن
مثواي إنه لا يفلح الظالمون } اجتاز بعضهم على منظور مشتهى فهمت عينه أن
تمتد فصاح :
( حلفت بدين الحب لا خنت عهدكم ... و ذلك عهد لو عرفت وثيق )
تاب بعض من تقدم ثم نقض فهتف به هاتف بالليل :
( سأترك ما بيني و بينك واقفا ... فإن عدت عدنا و الوداد مقيم )
( تواصل قوما لا وفاء لعهدهم ... و تترك مثلي و الحفاظ قديم )
من تكرر منه نقض العهد أيوثق بمعاهدته دخل بعض السلف على مريض مكروب فقال
له : عاهد الله على التوبة لعله أن يقيلك صرعتك فقال : كنت كلما مرضت
عاهدت الله على التوبة فيقيلني فلما كان هذه المرة ذهبت أعاهد كما كنت
أعاهد فهتف بي هاتف من ناحية البيت : قد أقلناك مرارا فوجدناك كذابا ثم
مات عن قريب لا كان من نقض العهد من كان ما ينقض العهد إلا خوان :
( ترى الحي الالى باتوا ... على العهد كما كانوا )
( أم الدهر بهم خاننا ... و دهر المرء خوان )
( إذا عز بغير الله ... يوما معشر هانوا )
من رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه عند استلام الحجر حج بعض من
تقدم فبات بمكة مع قوم فدعته نفسه إلى معصية فسمع هاتفا يقول : ويلك ألم
تحج فعصمه الله من ذلك قبيح بمن كمل القيام بمباني الإسلام الخمس أن يشرع
في نقض ما يبني بالمعاصي في حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا : [ أن النبي
صلى الله عليه و سلم قال لرجل : يا فلان إنك تبني و تهدم ـ يعني تعمل
الحسنات و السيئات ـ فقال يا رسول الله : سوف أبني و لا أهدم :
( خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط فقد تدانى الأمر )
( أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبني كم تنقض كم ذا العذر ) ]
علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها و علامة ردها أن توصل بمعصية ما
أحسن الحسنة بعد الحسنة و أقبح السيئة بعد الحسنة ذنب بعد التوبة أقبح من
سبعين قبلها النكسة أصعب من المرض الأول ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة
ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل و غني قوم بالذنوب افتقر سلوا الله الثبات
إلى الممات و تعوذوا من الحور بعد الكور كان الإمام أحمد يدعو و يقول :
اللهم أعزني بطاعتك و لا تذلني بمعصيتك و كان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم :
اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة في بعض الآثار الإلهية يقول
الله تبارك و تعالى : أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز
( ألا إنما التقوى هي العز و الكرم ... و حبك للدنيا هو الذل و السقم )
( و ليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى و إن حاك أو حجم )
الحاج إذا كان حجه مبرورا غفر له و لمن استغفر له و شفع فيمن شفع فيه و قد
روي : [ إن الله تعالى يقول لهم يوم عرفة : أفيضوا مغفورا لكم و لمن شفعتم
فيه ] و روى الإمام أحمد بإسناده [ عن أبي موسى الأشعري قال : إن الحاج
ليشفع في أربعمائة بيت من قومه و يبارك في أربعين من أمهات البعير الذي
يحمله و يخرج من خطاياه كيوم ولدته أمه فإذا رجع من الحج المبرور رجع
وذنبه مغفور و دعاؤه مستجاب فذلك يستحب تلقيه و السلام عليه و طلب
الإستغفار منه ]
و تلقي الحاج مسنون و في صحيح مسلم [ عن عبد الله
بن جعفر قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قدم من سفر تلقى بصبيان
أهل المدينة و إنه قدم من سفر ـ فسق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد
ابني فاطمة فأردفه خلفه فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة ] و قد ورد النهي
عن ركوب ثلاثة على دابة في حديث مرسل فإن صح : حمل على ركوب ثلاثة رجال
فإن الدابة يشق عليها حملها بخلاف رجل و صغيرين و في المسند و صحيح الحاكم
[ عن عائشة قالت : أقبلنا من مكة في حج أو عمرة فتلقانا غلمان من الأنصار
كانوا يتلقون أهاليهم إذا قدموا ]
و كذلك السلام على الحاج إذا قدم
و مصافحته و طلب الدعاء منه و في المسند بإسناد فيه ضعف [ عن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا لقيت الحاج فسلم عليه و صافحه و مره
أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته فإنه مغفور له ] و فيه أيضا عن حبيب بن أبي
ثابت قال : خرجت مع أبي نتلقى الحاج و نسلم عليهم قبل أن يتدنسوا و روى
معاذ بن الحكم حدثنا موسى بن أعين عن الحسن قال : إذا خرج الحاج فشيعوهم و
زودوهم الدعاء و إذا قفلوا فالقوهم و صافحوهم قبل أن يخالطوا الذنوب فإن
البركة في أيديهم و روى أبو الشيخ الأصبهاني و غيره من رواية لبنت عن
مجاهد قال : قال عمر : يغفر للحاج و لمن استغفر له الحاج بقية ذي الحجة و
محرم و صفر و عشر من ربيع الأول و في مسند البزار و صحيح الحاكم [ من حديث
أبي هريرة مرفوعا : اللهم اغفر للحاج و لمن استغفر له الحاج ] وروى أبو
معاوية الضرير عن حجاج عن الحكم قال : قال ابن عباس : لو يعلم المقيمون ما
للحاج عليهم من الحق لأتوهم حين يقدمون حتى يقيلوا رواحلهم لأنهم وفد الله
في جميع الناس ما للمنقطع حيلة سوى التعلق بأذيال الواصلين :
( هل الدهر يوما بوصل يجود ... و أيامنا باللوى هل تعود )
( زمان تقضى و عيش مضى ... بنفس و الله تلك العهود )
( إلا قل لزوار دار الحبيب ... هنيئا لكم في الجنان الخلود )
( أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش و أنتم ورود )
أحب ما إلى المحب سؤال من قدم من ديار الحبيب :
( عارضا بي ركب الحجاز أسائله ... متى عهده بأيام سلع )
( و استملا حديث من سكن الخيف ... و لا تكتباه إلا بدمعي )
( فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي )
( من معيد أيام جمع على ما ... كان منها و أين أيام جمعي )
لقاء الأحباب لقاح الألباب و أخبار تلك الديار أحلى عند المحبين من
الأسمار :
( إذا قدم الركب بمعمعتهم ... أحيى الوجوه قدوما و وردا )
( و اسألهم عن عقيق الحمى ... و عن أرض نجد و من حل نجدا )
( حدثوني عن العقيق حديثا ... أنتم بالعقيق أقرب عهدا )
( ألا هل سمعتم ضجيج الحجيج ... على ساحة الخيف و العيس تحدا )
( فذكر المشاعر و المروتين ... و ذكر الصفا يطرد الهم طردا )
أرواح القبول تفوح من المقبولين و أنوار الوصول تلوح على الواصلين :
( تفوح أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم لقرب العهد بالدار )
( أهفو إلى الركب تعلو لي ركائبهم ... من الحمى في إسحاق و اطمار )
( يا راكبان قفا لي و اقضيا و طرى ... و حدثاني عن نجد بأخبار )
ما يؤهل للإكثار من التردد إلى تلك الآثار إلا محب مختار حج علي بن الموفق
ستين حجة قال : فلما كان بعد ذلك جلست في الحجر أفكر في حالي و كثرة
تردادي إلى ذلك المكان و لا أدري هل قبل مني حجي أم رد ثم نمت فرأيت في
منامي قائلا يقول لي : هل تدعو إلى بيتك إلا من تحب قال : فاستيقظت و قد
سري عني ما كل من حج قبل و لا كل من صلى وصل قيل لابن عمر ما أكثر الحاج ؟
قال : ما أقلهم و قال : الركب كبير و الحاج قليل حج بعض المتقدمين فتوفي
في الطريق في رجوعه فدفنه أصحابه و نسوا الفأس في قبره فنبشوه ليأخذوا
الفأس فإذا عنقه و يداه قد جمعت في حلقة الفأس فردوا عليه التراب ثم رجعوا
إلى أهله فسألوهم عن حاله ؟ فقالوا صحب رجلا فأخذ ماله فكان يحج منه :
( إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت و لكن حجت العير )
( لا يقبل الله إلا كل صالحة ... ما كل من حج بيت الله مبرور )
من حجه مبرور قليل و لكن قد يوهب المسيء للمحسن و قد روي : [ أن الله
تعالى يقول عشية عرفة : قد وهبت مسيئكم لمحسنكم ] حج بعض المتقدمين فنام
ليلة فرأى ملكين نزلا من السماء فقال أحدهما للأخر فكم حج العام ؟ قال :
ستمائة ألف فقال له : كم قبل منهم ؟ قال : ستة قال : فاستيقظ الرجل و هو
قلق مما رأى فرأى في الليلة الثانية كأنهما نزلا و أعادا القول و قال
أحدهما : إن الله وهب لكل واحد من الستة مائة ألف كان بعض السلف يقول في
دعائه : اللهم إن لم تقبلني فهبني لمن شئت من خلقك من رد عليه عمله و لم
يقبل منه فقد يعوض ما يعوض المصاب فيرحم بذلك قال بعض السلف في دعائه
بعرفة : اللهم إن كنت لم تقبل حجي و تعبي و نصبي فلا تحرمني أجر المصيبة
على تركك القبول مني و قال آخر منهم : اللهم ارحمني فإن رحمتك قريب من
المحسنين فإن لم أكن محسنا فقد قلت : { و كان بالمؤمنين رحيما } فإن لم
أكن كذلك فأنا شيء و قد قلت : { و رحمتي وسعت كل شيء } فإن لم أكن شيئا
فأنا مصاب برد عملي برد عملي و تعبي و نصبي فلا تحرمني ما وعدت المصاب من
الرحمة قال هلال بن يسار : بلغني أن المسلم إذا دعا الله فلم يستجب له كتب
له حسنة خرجه ابن أبي شيبة يعني جزاء المصيبة رده
( من كان في سخطه محسنا ... فكيف يكون إذا ما رضي )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
قدوم الحاج يذكر بالقدوم على الله تعالى
قدوم الحاج يذكر بالقدوم على الله تعالى قدم مسافر فيما مضى على أهله
فسروا به و هناك امرأة من الصالحات فبكت و قالت : أذكرني هذا بقدومه
القدوم على الله عز و جل فمن مسرور و مثبور قال بعض الملوك لأبي حازم :
كيف القدوم على الله تعالى ؟ فقال أبو حازم : أما قدوم الطائع على الله
تعالى فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه و أما قدوم العاصي فكقدوم
العبد الآبق على سيده الغضبان
( لعلك غضبان و قلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا )
في بعض الآثار الإسرائيلية يقول الله عز و جل : ألا طال شوق الأبرار إلي و
أنا إلى لقائهم أشد شوقا كم بين الذين { لا يحزنهم الفزع الأكبر و تتلقاهم
الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } و بين الذين يدعون إلى نار جهنم
دعا قال علي رضي الله عنه : تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة : { سلام
عليكم طبتم فادخلوها خالدين } و تلقى كل غلمان صاحبهم يطيفون به فعل
الولدان بالحميم جاء من الغيبة أبشر فقد أعد الله لك من الكرامة كذا و كذا
قد أعد الله لك من الكرامة كذا و كذا و ينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه
من الحور العين فيقول : هذا فلان باسمه في الدنيا فيقلن : أنت رأيته ؟
فيقول : نعم فيستخفهن الفرح حتى يخرجن إلى أسكفة الباب قال أبو سليمان
الداراني تبعث الحوراء من الحور الوصيف من وصائفها فتقول : ويحك انظر ما
فعل بولي الله ؟ فتستبطئه فتبعث وصيفا آخر فيأتي الأول فيقول : تركته عند
الميزان و يأتي الثاني فيقول : تركته عند الصراط و يأتي الثالث فيقول : قد
دخل باب الجنة فيستخفها الفرح فتقف على باب الجنة فإذا أتاها اعتنقه فيدخل
خياشيمه من ريحها ما لا يخرج أبدا
( قد أزلفت جنة النعيم فيا ... طوبى لقوم بربعها نزلوا )
( أكوابهم عسجد يطاف بها ... و الخمر و السلسبيل و العسل )
( و الحور تلقاهم و قد كشفت ... عن الوجوه بها الأستار و الكلل )
وظيفة شهر صفر
في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه قال : لا عدوى و لا هامة و لا صفر فقال أعرابي : يا رسول الله فما بال
الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه و سلم : فمن أعدى الأول ؟ ! ]
أما العدوى :
فمعناها أن المرض يتعدى من صاحبه إلى من يقارنه من الأصحاء فيمرض بذلك و
كانت العرب تعتقد ذلك في أمراض كثيرة منها الجرب و لذلك سأل الأعرابي عن
الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب ؟ فقال النبي صلى الله عليه و
سلم : [ فمن أعدى الأول ] و مراده : أن الأول لم يجرب بالعدوى بل بقضاء
الله و قدره فكذلك الثاني و ما بعده و قد وردت أحاديث أشكل على كثير من
الناس فهمها حتى ظن بعضهم أنها ناسخة لقوله : [ لا عدوى ] مثل ما في
الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
لا يورد ممرض على مصح ] و الممرض : صاحب الإبل المريضة و المصح : صاحب
الإبل الصحيحة و المراد النهي عن إيراد الإبل المريضة على الصحيحة و مثل
قوله صلى الله عليه و سلم : [ فر من المجذوم فرارك من الأسد ] و قوله صلى
الله عليه و سلم في الطاعون : [ إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها ] و دخول
النسخ في هذا كما تخيله بعضهم لا معنى له فإن قوله : [ لا عدوى ] خبر محض
لا يمكن نسخه إلا أن يقال : هو نهي عن اعتقاد العدوى لا نفي لها و لكن
يمكن أن يكون ناسخا للنهي في هذه الأحاديث الثلاثة و ما في معناها
بيان معنى لا عدوى
و الصحيح الذي عليه جمهور العلماء : أنه لا نسخ في ذلك كله و لكن اختلفوا
في معنى قوله : [ لا عدوى ] و أظهر ما قبل في ذلك : أنه نفي لما كان
يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير
الله لذلك و يدل على هذا قوله : [ فمن أعدى الأول ؟ ] يشير إلى أن الأول
إنما جرب بقضاء الله و قدره فكذلك الثاني و ما بعده خرج الإمام أحمد و
الترمذي [ من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
لا يعدي شيئا قالها ثلاثا فقال أعرابي : يا رسول الله النقبة من الجرب
تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها ؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه و سلم : فما أجرب الأول لا عدوى و لا هامة و لا صفر خلق
الله كل نفس و كتب حياتها و مصابها و رزقها ] فأخبر أن ذلك كله بقضاء الله
و قدره كما دل عليه قوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في
أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } فأما نهيه صلى الله عليه و سلم عن
إيراد الممرض على المصح و أمره بالفرار من المجذوم و نهيه عن الدخول إلى
موضع الطاعون فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى و جعلها
أسبابا للهلاك أو الأذى
و العبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان
عافية منها فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو يدخل
تحت الهدم و نحوه مما جرت العادة بأنه يهلك أو يؤذى فكذلك اجتناب مقاربة
المريض كالمجذوم أو القدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض و
التلف و الله تعالى هو خالق الأسباب و مسبباتها لا خالق غيره و لا مقدر
غيره و قد روي في حديث مرسل خرجه أبو داود في مراسيله أن النبي صلى الله
عليه و سلم : مر بحائط مائل فأسرع و قال : [ أخاف موت الفوات ] و روي
متصلا و المرسل أصح و هذه الأسباب التي جعلها الله أسبابا يخلق المسببات
بها كما دل عليه قوله تعالى : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت
فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } و قالت طائفة : إنه يخلق
المسببات عندها لا بها
و أما إذا قوي التوكل على الله تعالى و
الإيمان بقضائه و قدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا
على الله و رجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا
سيما إذا كان مصلحة عامة أو خاصة و على مثل هذا يحمل الحديث الذي خرجه أبو
داود و الترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم : أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه
في القصعة ثم قال : [ كل باسم الله ثقة بالله و توكلا عليه ] و قد أخذ به
الإمام أحمد و قد روي نحو ذلك عن عمر و ابنه عبد الله و سلمان رضي الله
عنهم و نظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه : من أكل السم و
منه : مشى سعد بن أبي وقاص و أبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر و
منه : أمر عمر رضي الله عنه لتميم حيث خرجت النار من الحرة أن يردها فدخل
إليها في الغار التي خرجت منه فهذا كله لا يصلح إلا لخواص من الناس قوي
إيمانهم بالله و قضائه و قدره و توكلهم عليه و ثقتهم به و نظير ذلك دخول
المغاور بغير زاد لمن قوي يقينه و توكله خاصة و قد نص عليه أحمد و اسحاق و
غيرهما من الأئمة و كذلك ترك التكسب و التطبب كل ذلك يجوز عند أحمد لمن
قوي توكله فإن التوكل أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع و تدفع بها
المضار كما قال الفضيل : لو علم الله إخراج المخلوقين من قلبك و تستدفع
لأعطاك كل ما تريد و بذلك فسر الإمام أحمد التوكل فقال : هو قطع الإستشراف
باليأس من المخلوقين قيل له : فما الحجة فيه ؟ قال : قول إبراهيم عليه
الصلاة و السلام لما ألقي في النار فعرض له جبريل عليه السلام فقال : ألك
حاجة ؟ قال : أما إليك فلا
فلا يشرع ترك الأسباب الظاهرة إلا لمن
تعوض عنها بالسبب الباطن و هو تحقيق التوكل عليه فإنه أقوى من الأسباب
الظاهرة لأهله و أنفع منها
فالتوكل : علم و عمل و العلم : معرفة
القلب بتوحيد الله بالنفع و الضر و عامة المؤمنين تعلم ذلك و العمل : هو
ثقة القلب بالله و فراغه من كل ما سواه و هذا عزيز و يختص به خواص
المؤمنين
و الأسباب نوعان : أحدهما : أسباب الخير : فالمشروع أنه
يفرح بها و يستبشر و لا يسكن إليها بل إلى خالقها و مسببها و ذلك هو تحقيق
التوكل على الله و الإيمان به كما قال تعالى في الإمداد بالملائكة : { و
ما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله } و
من هذا الباب الإستبشار بالفال : و هو الكلمة الصالحة يسمعها طالب الحاجة
و أكثر الناس يركن بقلبه إلى الأسباب و ينسى المسبب لها و قل من فعل ذلك
إلا وكل إليها و خذل فإن جميع النعم من الله و فضله كما قال تعالى : { ما
أصابك من حسنة فمن الله } { و ما بكم من نعمة فمن الله } :
( لا نلت خيرا ما بعيت و لا عداني الدهر شر )
( إن كنت أعا أن غير الله ينفع أو يضر )
و لا تضاف النعم إلى الأسباب بل إلى مسببها و مقدرها كما في الحديث الصحيح
عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه صلى بهم الصبح في أثر سماء ثم قال :
أتدرون ما قال ربكم الليلة ؟ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر فأما
المؤمن فقال : مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب و أما
الكافر فقال : مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ] و في
صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
: لا عدوى و لا هامة و لا نوء و لا صفر ] و هذا مما يدل على أن المراد نفي
تأثير هذه الأسباب بنفسها من غير اعتقاد أنها بتقدير الله و قضائه فمن
أضاف شيئا من النعم إلى غير الله مع اعتقاده أنه ليس من الله فهو مشرك
حقيقة و مع اعتقاد أنه من الله فهو نوع شرك خفي
النوع الثاني :
أسباب الشر : فلا تضاف إلا إلى الذنوب لأن جميع المصائب إنما هي بسبب
الذنوب كما قال تعالى : { و ما أصابك من سيئة فمن نفسك } و قال تعالى : {
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } فلا تضاف إلى شيء من الأسباب سوى
الذنوب : كالعدوى أو غيرها و المشروع : اجتناب ما ظهر منها و اتقاؤه بقدر
ما وردت به الشريعة مثل : اتقاء المجذوم و المريض و القدوم على مكان
الطاعون و أما ما خفي منها فلا يشرع اتقاؤه و اجتنابه فإن ذلك من الطيرة
المنهي عنها
بيان معنى لا طيرة
و الطيرة من
أعمال أهل الشرك و الكفر و قد حكاها الله تعالى في كتابه عن قوم فرعون و
قوم صالح و أصحاب القرية التي جاءها المرسلون و قد ثبت عن النبي صلى الله
عليه و سلم أنه قال [ لا طيرة ] و في حديث : [ من ردته الطيرة فقد قارف
الشرك ] و في حديث ابن مسعود المرفوع : [ الطيرة من الشرك و ما منا إلا و
لكن الله يذهبه بالتوكل ] و البحث عن أسباب الشر من النظر في النجوم و
نحوها من الطيرة المنهي عنها و الباحثون عن ذلك غالبا لا يشتغلون بما يدفع
البلاء من الطاعات بل يأمرون بلزوم المنزل و ترك الحركة و هذا لا يمنع
نفوذ القضاء و القدر و منهم من يشتغل بالمعاصي و هذا مما يقوي وقوع البلاء
و نفوذه و الذي جاءت به الشريعة هو ترك البحث عن ذلك و الإعراض عنه و
الإشتغال بما يدفع البلاء من الدعاء و الذكر و الصدقة و تحقيق التوكل على
الله عز و جل و الإيمان بقضائه و قدره و في مسند ابن وهب أن عبد الله بن
عمرو بن العاص التقى هو و كعب فقال عبد الله لكعب علم النجوم ؟ فقال كعب :
لا خير فيه قال عبد الله : لم قال ترى فيه ما تكره يريد الطيرة فقال كعب :
فإن مضى و قال : اللهم لا خير إلا طيرك و لا خير إلا خيرك و لا رب غيرك
فقال عبد الله : و لا حول و لا قوة إلا بك فقال كعب : جاء بها عبد الله و
الذي نفسي بيده : إنها لرأس التوكل و كنز العبد في الجنة و لا يقولهن عبد
عند ذلك ثم يمضي ألا لم يضره شيء قال عبد الله : أرأيت إن لم يمض و قعد ؟
قال : طعم قلبه طعم الإشراك و في مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه
و سلم قال : [ ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة فإذا أحس بذلك فليقل : أنا عبد
الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا يأتي بالحسنات إلا الله و لا يذهب
السيئات إلا الله أشهد أن الله على كل شيء قدير ثم يمضي لوجهه ] و في مسند
الإمام أحمد [ عن عبد الله بن عمر مرفوعا : من رجعته الطيرة من حاجته فقد
أشرك و كفارة ذلك أن يقول أحدهم : اللهم لا طير إلا طيرك و لا خير إلا
خيرك و لا إله غيرك ] و خرج الإمام أحمد و أبو داود [ من حديث عروة بن
عامر القرشي قال : ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال :
أحسنها الفال و لا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا
يأتي بالحسنات إلا أنت و لا يدفع السيئات إلا أنت و لا حول و لا قوة إلا
بك ] و خرجه أبو القاسم البغوي و عنده : [ و لا تضر مسلما ] و في صحيح ابن
حبان [ عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا طيرة و
الطيرة على من تطير ] و قال النخعي قال عبد الله بن مسعود : لا تضر الطيرة
إلا من تطير
و معنى هذا أن من تطير تطيرا منهيا عنه و هو أن يعتمد
على ما يسمعه أو يراه مما يتطير به حتى يمنعه مما يريد من حاجته فإنه قد
يصيبه ما يكرهه فأما من توكل على الله ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفا و
رجاء و قطعه عن الإلتفات إلى هذه الأسباب المخوفة و قال ما أمر به من هذه
الكلمات و مضى فإنه لا يضره ذلك و قد روي [ عن ابن عباس رضي الله عنهما
أنه كان إذا سمع نعق الغراب قال : اللهم لا طير إلا طيرك و لا خير إلا
خيرك و لذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم عند انعقاد أسباب العذاب
السماوية المخوفة كالكسوف بأعمال البر من الصلاة و الدعاء و الصدقة و
العتق حتى يكشف ذلك عن الناس ] و هذا كله مما يدل على أن الأسباب المكروهة
إذا وجدت فإن المشروع الإشتغال بما يوحي به دفع العذاب المخوف منها من
أعمال الطاعات و الدعاء و تحقيق التوكل على الله و الثقة به فإن هذه
الأسباب كلها مقتضيات لا موجبات و لها موانع تمنعها
فأعمال البر و
التقوى والدعاء والتوكل من أعظم ما يستدفع به و من كلام بعض الحكماء
المتقدمين : ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بأقنان اللغات تحلل ما عقدته
الأفلاك الدائرات و هذا على زعمهم و اعتقادهم في الأفلاك و أما اعتقاد
المسلمين : فإن الله وحده هو الفاعل لما يشاء و لكنه يعقد أسبابا للعذاب و
أسبابا للرحمة فأسباب العذاب يخوف الله بها عباده ليتوبوا إليه و يتضرعوا
إليه مثل : كسوف الشمس و القمر فإنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما
عباده لينظر من يحدث له توبة فدل على أن كسوفهما سبب يخشى منه وقوع عذاب و
قد أمرت عائشة رضي الله عنها : أن تستعيذ من شر القمر و قال : الغاسق إذا
وقب و قد أمر الله تعالى بالإستعاذة { من شر غاسق إذا وقب } و هو الليل
إذا أظلم فإنه ينتشر فيه شياطين الجن و الإنس و الإستعاذة من القمر لأنه
آية الليل و فيه إشارة إلى أن شر الليل المخوف لا يندفع بإشراف القمر فيه
و لا يصير بذلك كالنهار بل يستعاذ منه و إن كان مقمرا و خرج الطبراني [ من
حديث جابر مرفوعا : لا تسبوا الليل و لا النهار و لا الشمس و لا القمر و
لا الريح فإنها رحمة لقوم و عذاب لآخرين ] و مثل اشتداد الرياح فإن الريح
كما قاله صلى الله عليه و سلم : [ من روح الله تأتي بالرحمة و تأتي
بالعذاب و كان صلى الله عليه و سلم إذا اشتدت الريح أن يسأل الله تعالى
خيرها و خير ما أرسلت به و يستعاذ به من شرها و شر ما أرسلت به ] و قد كان
النبي صلى الله عليه و سلم إذا رأى ريحا أو غيما تغير وجهه و أقبل و أدبر
فإذا أمطرت سري عنه و يقول : [ قد عذب قوم بالريح ] و رأى قوم السحاب
فقالوا هذا عارض ممطرنا و أسباب الرحمة يرجى بها عباده مثل : الغيم الرطب
و الريح الطيبة و مثل المطر المعتاد عند الحاجة إليه و لهذا يقال عند
نزوله : اللهم سقيا رحمة و لا سقيا عذاب
و أما من اتقى أسباب الضرر
بعد انعقادها بالأسباب المنهي عنها فإنه لا ينفعه ذلك غالبا كمن ردته
الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به فإنه كثيرا ما يصاب بما خشي منه
كما قال ابن مسعود و دل عليه حديث أنس المتقدم و كمن اتقى الطاعون الواقع
في بلده بالفرار منه فإنه قل أن ينجيه ذلك و قد فر كثير من المتقدمين و
المتأخرين من الطاعون فأصابهم و لم ينفعهم الفرار و قد قال الله تعالى : {
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت فقال لهم الله
موتوا ثم أحياهم } و قد ذكر كثير من السلف : أنهم كانوا قد فروا من
الطاعون فأصابهم و فر بعض المتقدمين من طاعون وقع فيما بينما هو يسير
بالليل على حمار له إذ سمع قائلا يقول :
( إن يسبق الله على حمار ... و لا على منعة مطار )
( أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري )
فأصابه الطاعون فمات
بيان معنى لا هامة
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ لاهامه ] فهو : نفي لما كانت الجاهلية
تعتقده أن الميت إذا مات صارت روحه أو عظامه هامة : و هو طائر يطير و هو
شبيه باعتقاد أهل التناسخ : أن أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات من
غير بعث و لا نشور و كل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها و
تكذيبها و لكن الذي جاءت بها الشريعة : أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر
تأكل من ثمار الجنة و ترد من أنهار الجنة إلى أن يردها الله إلى أجسادها و
روي أيضا أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى
أجسادها يوم القيامة
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ و لاصفر ]
فاختلف في تفسيره فقال كثير من المتقدمين : الصفر : داء في البطن يقال :
إنه دود فيه كبار كالحيات و كانوا يعتقدون أنه يعدي فنفى ذلك النبي صلى
الله عليه و سلم و ممن قال هذا من العلماء : ابن عيينة و الإمام أحمد و
غيرهما و لكن لو كان كذلك لكان هذا داخلا في قوله : [ لا عدوى ] و قد يقال
: هو من باب عطف الخاص على العام و خصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى و
قالت طائفة : بل المراد بصفر شهر ثم اختلفوا في تفسيره على قولين :
أحدهما : أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء فكانوا
يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه و هذا قول مالك
و الثاني : أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يستيشمون بصفر و يقولون : إنه
شهر مشئوم فأبطل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك و هذا حكاه أبو داود عن
محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك و لعل هذا القول أشبه الأقوال و
كثير من الجهال يتشاءم بصفر و ربما ينهى عن السفر فيه و التشاؤم بصفر هو
من جنس الطيرة المنهى عنها و كذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء و قد روي
أنه : [ يوم نحس مستمر ] في حديث لا يصح بل في المسند [ عن جابر رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم : دعا على الأحزاب يوم الإثنين و
الثلاثاء و الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر و العصر ] قال
جابر : فما نزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت ذلك الوقت فدعوت الله فيه
الإجابة أو كما قال
و كذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه
خاصة و قد قيل : إن أصله أن طاعونا وقع في شوال في سنة من السنين فمات فيه
كثير من العرائس فتشائم بذلك أهل الجاهلية و قد ورد الشرع بإبطاله [ قالت
عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم في شوال و
بنى بي في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني ] و كانت عائشة تستحب أن تدخل
نساءها في شوال و تزوج النبي صلى الله عليه و سلم أم سلمة في شوال أيضا
فأما قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا عدوى و لا طيرة و الشؤم في
ثلاث في المرأة و الدار و الدابة ] خرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه و سلم فقد اختلف الناس في معناه أيضا فروي عن عائشة
رضي الله عنها أنها أنكرت هذا الحديث أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه
و سلم و قالت : إنما قال : كان أهل الجاهلية يقولون ذلك خرجه الإمام أحمد
و قال معمر سمعت من يفسر هذا الحديث يقول : شؤم المرأة : إذا كانت غير
ولود و شؤم الفرس : إذا لم يكن يغزى عليه في سبيل الله و شؤم الدار : جار
السوء و روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه لا تصح و منهم من قال قد روي عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا شؤم و إن يكن اليمن في شيء ففي
ثلاثة ] فذكر هذه الثلاثة و قال هذه الرواية أشبه بأصول الشرع كذا قاله
ابن عبد البر و لكن إسناد هذه الرواية لا يقاوم ذلك الإسناد
و
التحقيق أن يقال في إثبات الشؤم في هذه الثلاث : ما ذكرناه في النهي عن
إيراد المريض على الصحيح و الفرار من المجذوم و من أرض الطاعون إن هذه
الثلاث أسباب قدر الله تعالى بها الشؤم و اليمن و يقرنه و لهذا يشرع لمن
استعاد زوجة أو أمة أو دابة أن يسأل الله تعالى من خيرها و خير ما جلبت
عليه و يستعيذ به تعالى من شرها و شر ما جبلت عليه كما في حديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي خرجه أبو داود و
غيره و كذا ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل ذلك و قد أمر النبي صلى الله عليه
و سلم قوما سكنوا دارا فقل عددهم و قل مالهم أن يتركوها ذميمة فترك ما لا
يجد الإنسان فيه بركة من دار أو زوجة أو دابة غير منهي عنه و كذلك من أتجر
في شيء فلم يربح فيه ثلاث مرات فإنه يتحول عنه روى ذلك عمر بن الخطاب رضي
الله عنه فإنه قال : من بورك له في شيء فلا يتغير عنه ففي المسند و سنن
ابن ماجه [ عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا : إذا كان لأحدكم رزق في شيء
فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له ]
و أما تخصيص الشؤم بزمان دون
زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح و إنما الزمان كله خلق الله تعالى و فيه
تقع أفعال بني آدم فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه و
كل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤم عليه فالشؤم في الحقيقة هو معصية
الله تعالى كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا كان الشؤم في شيء ففيما
بين اللحين ـ يعني اللسان ـ و قال : ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان و
قال عدي بن حاتم : أيمن أمر بي و أشأمة بين لحييه يعني لسانه ـ و في مسند
أبي داود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ حسن الملكة نماء و سوء
الملكة شؤم و البر زيادة في العمر و الصدقة تمنع ميتة السوء ] فجعل سوء
الملكة شؤما و في حديث آخر : [ لا يدخل الجنة سيء الملكة ] و هو من يسيء
إلى مماليكه و يظلمهم
و في الحديث : [ إن الصدقة تدفع ميتة السوء ]
و روي [ من حديث علي مرفوعا : باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها ]
خرجه الطبراني و في حديث آخر : [ إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم
بالصدقة ] فالصدقة تمنع وقوع البلاء بعد انعقاد أسبابه و كذلك الدعاء و في
الحديث : [ إن البلاء و الدعاء يلتقيان بين السماء و الأرض فيعتلجان إلى
يوم القيامة ] خرجه البزار و الحاكم و خرج في الترمذي [ من حديث سلمان :
لا يرد القضاء إلا بالدعاء ] و قال ابن عباس : لا ينفع الحذر من القدر و
لكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر و عنه قال : الدعاء يدفع القدر و
هو إذا دفع القدر فهو من القدر و هذا كقول النبي صلى الله عليه و سلم لما
سئل عن الأدوية و الرقى هل ترد من قدر الله شيئا ؟ قال : [ هي من قدر الله
تعالى ] و كذلك قال عمر رضي الله عنه لما رجع من الطاعون فقال له أبو
عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : نفر من قدر الله إلى قدر الله
فإن الله تعالى قدر المقادير و يقدر ما يدفع بعضها قبل وقوعه و كذلك
الأذكار المشروعة تدفع البلاء و [ في حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه و سلم من قال حين يصبح و يمسي : بسم الله الذي لا يضر مع
اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم لم يصبه بلاء ] و في
المسند [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
الشؤم سوء الخلق ] و خرجه الخرائطي و لفظه : [ اليمن حسن الخلق ] و في
الجملة : فلا شؤم إلا المعاصي و الذنوب فإنها تسخط الله عز و جل فإذا سخط
على عبده شقي في الدنيا و الآخرة كما إنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا و
الآخرة قال بعض الصالحين و قد شكي بلاء وقع في الناس فقال : ما أرى ما
أنتم فيه إلا بشؤم الذنوب و قال أبو حازم : كل ما يشغلك عن الله من أهل أو
مال أو ولد فهو عليك مشؤم و قد قيل :
( فلا كان ما يلهي عن الله أنه ... يضر و يؤذى إنه لمشؤم )
فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله و اليمن هو طاعة الله و تقواه كما قيل :
( إن رأيا دعا إلى طاعة الله ... لرأى مبارك ميمون )
و العدوى التي تهلك من قاربها هي المعاصي فمن قاربها و خالطها و أصر عليها
هلك و كذلك مخالطة أهل المعاصي و من يحسن المعصية و يزينها و يدعو إليها
من شياطين الإنس و هم أضر من شياطين الجن قال بعض السلف : شيطان الجن
نستعيذ بالله منه فينصرف و شيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية و في
الحديث : [ يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ] و في حديث
آخر : [ لا تصحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي ] و مما يروى لعلي رضي
الله عنه :
( فلا تصحب أخا الجهـ ... ل و إياك و إياه )
( فكم من جاهل أردى ... حكيما حين آخاه )
( يقاس المرء بالمر ... ء إذا ما المرء ماشاه )
( و للشيء على الشي ... ء مقاييس و أشباه )
( و لقلب على القلـ ... ب دليل حين يلقاه )
فالعاصي مشؤم على نفسه و على غيره فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم
الناس خصوصا من لم ينكر عليه عمله فالبعد عنه متعين فإذا كثر الخبث هلك
الناس عموما و كذلك أماكن المعاصي و عقوباتها يتعين البعد عنها و الهرب
منها خشية نزول العذاب كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه لما مر
على ديار ثمود بالحجر : [ لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا
باكين خشية أن يصيبكم ما أصابهم ] و لما تاب الذي قتل مائة نفس من بني
إسرائيل و سأل العالم : هل له من توبة ؟ قال له : نعم فأمره أن ينتقل من
قرية السوء إلى القرية الصالحة فأدركه الموت بينهما فاختصم فيه ملائكة
الرحمة و ملائكة العذاب فأوحى الله إليهم أن قيسوا بينهما فإلى أيهما كان
أقرب فألحقوه بها فوجدوه إلى القرية الصالحة أقرب برمية حجر فغفر له هجران
أماكن المعاصي و أخواتها من جملة الهجرة المأمور بها فإن المهاجر من هجر
ما نهى الله عنه قال إبراهيم بن أدهم : من أراد التوبة فليخرج من المظالم
و ليدع مخالطة من كان يخالطه و إلا لم ينل ما يريد احذروا الذنوب فإنها
مشؤمة عواقبها ذميمة و عقوباتها أليمة و القلوب المحبة لها سقيمة السلامة
منها غنيمة و العافية منها ليس لها قيمة و البليه بها لا سيما بعد نزول
الشيب داهية عظيمة
( طاعة الله خير ما اكتسب العبـ ... د فكن طائعا لله لا تعصينه )
( ما هلاك النفوس إلا المعاصي ... فاجتنب ما نهاك لا تقربنه )
( إن شيئا هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه )
يا من ضاع قلبه أنشده في مجالس الذكر عسى أن تجده يا من مرض قلبه احمله
إلى مجلس الذكر لعله أن يعافى مجالس الذكر مارستان الذنوب تداوي فيها
أمراض القلوب كما تداوي أمراض الأبدان في مارستان الذكر نزه لقلوب
المؤمنين يتنزه فيها بسماع كلام الحكمة كما يتنزه أبصار أهل الدنيا في
رياضها و بساتينها مجلسنا هذا خضرة في روضة الخشوع طعامنا فيه الجوع و
شرابنا فيه الدموع و نقلنا هذا الكلام المسموع نداوي فيه أمراضا أعيت
جالينوس و يختيشوع نسقي فيه ترياق الذنوب و فاروق المعاصي فمن شرب لم يكن
له إلى المعصية رجوع كم أفاق فيه من المعصية مصروع و برىء فيه من الهوى
ملسوع و وصل فيه إلى الله مقطوع ما عيبه إلا أن الطبيب الذي له لو كان
يستعمل ما يصف للناس لكان إليه المرجوع يا ضيعة العمران نجا السامع و هلك
المسموع يا خيبة المسعى إن وصل التابع و انقطع المتبوع
( و غير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس و هو سقيم )
( يا أيها الرجل المقوم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التقويم )
( ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم )
( فهناك يقبل ما تقول و يقتدى ... بالقول منك و ينفع التعليم )
( لا تنه عن خلق و تأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم )
* * *
( كم ذا التمادي فها قد جاءنا صفر ... شهر به الفوز و التوفيق و الظفر )
( فابدأ بما شئت من فعل تسر به ... يوم المعاد ففيه الخير ينتظر )
( توبوا إلى الله فيه من ذنوبكم ... من قبل يبلغ فيكم حده العمر )
قدوم الحاج يذكر بالقدوم على الله تعالى قدم مسافر فيما مضى على أهله
فسروا به و هناك امرأة من الصالحات فبكت و قالت : أذكرني هذا بقدومه
القدوم على الله عز و جل فمن مسرور و مثبور قال بعض الملوك لأبي حازم :
كيف القدوم على الله تعالى ؟ فقال أبو حازم : أما قدوم الطائع على الله
تعالى فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه و أما قدوم العاصي فكقدوم
العبد الآبق على سيده الغضبان
( لعلك غضبان و قلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا )
في بعض الآثار الإسرائيلية يقول الله عز و جل : ألا طال شوق الأبرار إلي و
أنا إلى لقائهم أشد شوقا كم بين الذين { لا يحزنهم الفزع الأكبر و تتلقاهم
الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } و بين الذين يدعون إلى نار جهنم
دعا قال علي رضي الله عنه : تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة : { سلام
عليكم طبتم فادخلوها خالدين } و تلقى كل غلمان صاحبهم يطيفون به فعل
الولدان بالحميم جاء من الغيبة أبشر فقد أعد الله لك من الكرامة كذا و كذا
قد أعد الله لك من الكرامة كذا و كذا و ينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه
من الحور العين فيقول : هذا فلان باسمه في الدنيا فيقلن : أنت رأيته ؟
فيقول : نعم فيستخفهن الفرح حتى يخرجن إلى أسكفة الباب قال أبو سليمان
الداراني تبعث الحوراء من الحور الوصيف من وصائفها فتقول : ويحك انظر ما
فعل بولي الله ؟ فتستبطئه فتبعث وصيفا آخر فيأتي الأول فيقول : تركته عند
الميزان و يأتي الثاني فيقول : تركته عند الصراط و يأتي الثالث فيقول : قد
دخل باب الجنة فيستخفها الفرح فتقف على باب الجنة فإذا أتاها اعتنقه فيدخل
خياشيمه من ريحها ما لا يخرج أبدا
( قد أزلفت جنة النعيم فيا ... طوبى لقوم بربعها نزلوا )
( أكوابهم عسجد يطاف بها ... و الخمر و السلسبيل و العسل )
( و الحور تلقاهم و قد كشفت ... عن الوجوه بها الأستار و الكلل )
في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه قال : لا عدوى و لا هامة و لا صفر فقال أعرابي : يا رسول الله فما بال
الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه و سلم : فمن أعدى الأول ؟ ! ]
أما العدوى :
فمعناها أن المرض يتعدى من صاحبه إلى من يقارنه من الأصحاء فيمرض بذلك و
كانت العرب تعتقد ذلك في أمراض كثيرة منها الجرب و لذلك سأل الأعرابي عن
الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب ؟ فقال النبي صلى الله عليه و
سلم : [ فمن أعدى الأول ] و مراده : أن الأول لم يجرب بالعدوى بل بقضاء
الله و قدره فكذلك الثاني و ما بعده و قد وردت أحاديث أشكل على كثير من
الناس فهمها حتى ظن بعضهم أنها ناسخة لقوله : [ لا عدوى ] مثل ما في
الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
لا يورد ممرض على مصح ] و الممرض : صاحب الإبل المريضة و المصح : صاحب
الإبل الصحيحة و المراد النهي عن إيراد الإبل المريضة على الصحيحة و مثل
قوله صلى الله عليه و سلم : [ فر من المجذوم فرارك من الأسد ] و قوله صلى
الله عليه و سلم في الطاعون : [ إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها ] و دخول
النسخ في هذا كما تخيله بعضهم لا معنى له فإن قوله : [ لا عدوى ] خبر محض
لا يمكن نسخه إلا أن يقال : هو نهي عن اعتقاد العدوى لا نفي لها و لكن
يمكن أن يكون ناسخا للنهي في هذه الأحاديث الثلاثة و ما في معناها
بيان معنى لا عدوى
و الصحيح الذي عليه جمهور العلماء : أنه لا نسخ في ذلك كله و لكن اختلفوا
في معنى قوله : [ لا عدوى ] و أظهر ما قبل في ذلك : أنه نفي لما كان
يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير
الله لذلك و يدل على هذا قوله : [ فمن أعدى الأول ؟ ] يشير إلى أن الأول
إنما جرب بقضاء الله و قدره فكذلك الثاني و ما بعده خرج الإمام أحمد و
الترمذي [ من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
لا يعدي شيئا قالها ثلاثا فقال أعرابي : يا رسول الله النقبة من الجرب
تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها ؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه و سلم : فما أجرب الأول لا عدوى و لا هامة و لا صفر خلق
الله كل نفس و كتب حياتها و مصابها و رزقها ] فأخبر أن ذلك كله بقضاء الله
و قدره كما دل عليه قوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في
أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } فأما نهيه صلى الله عليه و سلم عن
إيراد الممرض على المصح و أمره بالفرار من المجذوم و نهيه عن الدخول إلى
موضع الطاعون فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى و جعلها
أسبابا للهلاك أو الأذى
و العبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان
عافية منها فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو يدخل
تحت الهدم و نحوه مما جرت العادة بأنه يهلك أو يؤذى فكذلك اجتناب مقاربة
المريض كالمجذوم أو القدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض و
التلف و الله تعالى هو خالق الأسباب و مسبباتها لا خالق غيره و لا مقدر
غيره و قد روي في حديث مرسل خرجه أبو داود في مراسيله أن النبي صلى الله
عليه و سلم : مر بحائط مائل فأسرع و قال : [ أخاف موت الفوات ] و روي
متصلا و المرسل أصح و هذه الأسباب التي جعلها الله أسبابا يخلق المسببات
بها كما دل عليه قوله تعالى : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت
فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } و قالت طائفة : إنه يخلق
المسببات عندها لا بها
و أما إذا قوي التوكل على الله تعالى و
الإيمان بقضائه و قدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا
على الله و رجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا
سيما إذا كان مصلحة عامة أو خاصة و على مثل هذا يحمل الحديث الذي خرجه أبو
داود و الترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم : أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه
في القصعة ثم قال : [ كل باسم الله ثقة بالله و توكلا عليه ] و قد أخذ به
الإمام أحمد و قد روي نحو ذلك عن عمر و ابنه عبد الله و سلمان رضي الله
عنهم و نظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه : من أكل السم و
منه : مشى سعد بن أبي وقاص و أبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر و
منه : أمر عمر رضي الله عنه لتميم حيث خرجت النار من الحرة أن يردها فدخل
إليها في الغار التي خرجت منه فهذا كله لا يصلح إلا لخواص من الناس قوي
إيمانهم بالله و قضائه و قدره و توكلهم عليه و ثقتهم به و نظير ذلك دخول
المغاور بغير زاد لمن قوي يقينه و توكله خاصة و قد نص عليه أحمد و اسحاق و
غيرهما من الأئمة و كذلك ترك التكسب و التطبب كل ذلك يجوز عند أحمد لمن
قوي توكله فإن التوكل أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع و تدفع بها
المضار كما قال الفضيل : لو علم الله إخراج المخلوقين من قلبك و تستدفع
لأعطاك كل ما تريد و بذلك فسر الإمام أحمد التوكل فقال : هو قطع الإستشراف
باليأس من المخلوقين قيل له : فما الحجة فيه ؟ قال : قول إبراهيم عليه
الصلاة و السلام لما ألقي في النار فعرض له جبريل عليه السلام فقال : ألك
حاجة ؟ قال : أما إليك فلا
فلا يشرع ترك الأسباب الظاهرة إلا لمن
تعوض عنها بالسبب الباطن و هو تحقيق التوكل عليه فإنه أقوى من الأسباب
الظاهرة لأهله و أنفع منها
فالتوكل : علم و عمل و العلم : معرفة
القلب بتوحيد الله بالنفع و الضر و عامة المؤمنين تعلم ذلك و العمل : هو
ثقة القلب بالله و فراغه من كل ما سواه و هذا عزيز و يختص به خواص
المؤمنين
و الأسباب نوعان : أحدهما : أسباب الخير : فالمشروع أنه
يفرح بها و يستبشر و لا يسكن إليها بل إلى خالقها و مسببها و ذلك هو تحقيق
التوكل على الله و الإيمان به كما قال تعالى في الإمداد بالملائكة : { و
ما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله } و
من هذا الباب الإستبشار بالفال : و هو الكلمة الصالحة يسمعها طالب الحاجة
و أكثر الناس يركن بقلبه إلى الأسباب و ينسى المسبب لها و قل من فعل ذلك
إلا وكل إليها و خذل فإن جميع النعم من الله و فضله كما قال تعالى : { ما
أصابك من حسنة فمن الله } { و ما بكم من نعمة فمن الله } :
( لا نلت خيرا ما بعيت و لا عداني الدهر شر )
( إن كنت أعا أن غير الله ينفع أو يضر )
و لا تضاف النعم إلى الأسباب بل إلى مسببها و مقدرها كما في الحديث الصحيح
عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه صلى بهم الصبح في أثر سماء ثم قال :
أتدرون ما قال ربكم الليلة ؟ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر فأما
المؤمن فقال : مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب و أما
الكافر فقال : مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ] و في
صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
: لا عدوى و لا هامة و لا نوء و لا صفر ] و هذا مما يدل على أن المراد نفي
تأثير هذه الأسباب بنفسها من غير اعتقاد أنها بتقدير الله و قضائه فمن
أضاف شيئا من النعم إلى غير الله مع اعتقاده أنه ليس من الله فهو مشرك
حقيقة و مع اعتقاد أنه من الله فهو نوع شرك خفي
النوع الثاني :
أسباب الشر : فلا تضاف إلا إلى الذنوب لأن جميع المصائب إنما هي بسبب
الذنوب كما قال تعالى : { و ما أصابك من سيئة فمن نفسك } و قال تعالى : {
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } فلا تضاف إلى شيء من الأسباب سوى
الذنوب : كالعدوى أو غيرها و المشروع : اجتناب ما ظهر منها و اتقاؤه بقدر
ما وردت به الشريعة مثل : اتقاء المجذوم و المريض و القدوم على مكان
الطاعون و أما ما خفي منها فلا يشرع اتقاؤه و اجتنابه فإن ذلك من الطيرة
المنهي عنها
بيان معنى لا طيرة
و الطيرة من
أعمال أهل الشرك و الكفر و قد حكاها الله تعالى في كتابه عن قوم فرعون و
قوم صالح و أصحاب القرية التي جاءها المرسلون و قد ثبت عن النبي صلى الله
عليه و سلم أنه قال [ لا طيرة ] و في حديث : [ من ردته الطيرة فقد قارف
الشرك ] و في حديث ابن مسعود المرفوع : [ الطيرة من الشرك و ما منا إلا و
لكن الله يذهبه بالتوكل ] و البحث عن أسباب الشر من النظر في النجوم و
نحوها من الطيرة المنهي عنها و الباحثون عن ذلك غالبا لا يشتغلون بما يدفع
البلاء من الطاعات بل يأمرون بلزوم المنزل و ترك الحركة و هذا لا يمنع
نفوذ القضاء و القدر و منهم من يشتغل بالمعاصي و هذا مما يقوي وقوع البلاء
و نفوذه و الذي جاءت به الشريعة هو ترك البحث عن ذلك و الإعراض عنه و
الإشتغال بما يدفع البلاء من الدعاء و الذكر و الصدقة و تحقيق التوكل على
الله عز و جل و الإيمان بقضائه و قدره و في مسند ابن وهب أن عبد الله بن
عمرو بن العاص التقى هو و كعب فقال عبد الله لكعب علم النجوم ؟ فقال كعب :
لا خير فيه قال عبد الله : لم قال ترى فيه ما تكره يريد الطيرة فقال كعب :
فإن مضى و قال : اللهم لا خير إلا طيرك و لا خير إلا خيرك و لا رب غيرك
فقال عبد الله : و لا حول و لا قوة إلا بك فقال كعب : جاء بها عبد الله و
الذي نفسي بيده : إنها لرأس التوكل و كنز العبد في الجنة و لا يقولهن عبد
عند ذلك ثم يمضي ألا لم يضره شيء قال عبد الله : أرأيت إن لم يمض و قعد ؟
قال : طعم قلبه طعم الإشراك و في مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه
و سلم قال : [ ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة فإذا أحس بذلك فليقل : أنا عبد
الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا يأتي بالحسنات إلا الله و لا يذهب
السيئات إلا الله أشهد أن الله على كل شيء قدير ثم يمضي لوجهه ] و في مسند
الإمام أحمد [ عن عبد الله بن عمر مرفوعا : من رجعته الطيرة من حاجته فقد
أشرك و كفارة ذلك أن يقول أحدهم : اللهم لا طير إلا طيرك و لا خير إلا
خيرك و لا إله غيرك ] و خرج الإمام أحمد و أبو داود [ من حديث عروة بن
عامر القرشي قال : ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال :
أحسنها الفال و لا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا
يأتي بالحسنات إلا أنت و لا يدفع السيئات إلا أنت و لا حول و لا قوة إلا
بك ] و خرجه أبو القاسم البغوي و عنده : [ و لا تضر مسلما ] و في صحيح ابن
حبان [ عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا طيرة و
الطيرة على من تطير ] و قال النخعي قال عبد الله بن مسعود : لا تضر الطيرة
إلا من تطير
و معنى هذا أن من تطير تطيرا منهيا عنه و هو أن يعتمد
على ما يسمعه أو يراه مما يتطير به حتى يمنعه مما يريد من حاجته فإنه قد
يصيبه ما يكرهه فأما من توكل على الله ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفا و
رجاء و قطعه عن الإلتفات إلى هذه الأسباب المخوفة و قال ما أمر به من هذه
الكلمات و مضى فإنه لا يضره ذلك و قد روي [ عن ابن عباس رضي الله عنهما
أنه كان إذا سمع نعق الغراب قال : اللهم لا طير إلا طيرك و لا خير إلا
خيرك و لذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم عند انعقاد أسباب العذاب
السماوية المخوفة كالكسوف بأعمال البر من الصلاة و الدعاء و الصدقة و
العتق حتى يكشف ذلك عن الناس ] و هذا كله مما يدل على أن الأسباب المكروهة
إذا وجدت فإن المشروع الإشتغال بما يوحي به دفع العذاب المخوف منها من
أعمال الطاعات و الدعاء و تحقيق التوكل على الله و الثقة به فإن هذه
الأسباب كلها مقتضيات لا موجبات و لها موانع تمنعها
فأعمال البر و
التقوى والدعاء والتوكل من أعظم ما يستدفع به و من كلام بعض الحكماء
المتقدمين : ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بأقنان اللغات تحلل ما عقدته
الأفلاك الدائرات و هذا على زعمهم و اعتقادهم في الأفلاك و أما اعتقاد
المسلمين : فإن الله وحده هو الفاعل لما يشاء و لكنه يعقد أسبابا للعذاب و
أسبابا للرحمة فأسباب العذاب يخوف الله بها عباده ليتوبوا إليه و يتضرعوا
إليه مثل : كسوف الشمس و القمر فإنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما
عباده لينظر من يحدث له توبة فدل على أن كسوفهما سبب يخشى منه وقوع عذاب و
قد أمرت عائشة رضي الله عنها : أن تستعيذ من شر القمر و قال : الغاسق إذا
وقب و قد أمر الله تعالى بالإستعاذة { من شر غاسق إذا وقب } و هو الليل
إذا أظلم فإنه ينتشر فيه شياطين الجن و الإنس و الإستعاذة من القمر لأنه
آية الليل و فيه إشارة إلى أن شر الليل المخوف لا يندفع بإشراف القمر فيه
و لا يصير بذلك كالنهار بل يستعاذ منه و إن كان مقمرا و خرج الطبراني [ من
حديث جابر مرفوعا : لا تسبوا الليل و لا النهار و لا الشمس و لا القمر و
لا الريح فإنها رحمة لقوم و عذاب لآخرين ] و مثل اشتداد الرياح فإن الريح
كما قاله صلى الله عليه و سلم : [ من روح الله تأتي بالرحمة و تأتي
بالعذاب و كان صلى الله عليه و سلم إذا اشتدت الريح أن يسأل الله تعالى
خيرها و خير ما أرسلت به و يستعاذ به من شرها و شر ما أرسلت به ] و قد كان
النبي صلى الله عليه و سلم إذا رأى ريحا أو غيما تغير وجهه و أقبل و أدبر
فإذا أمطرت سري عنه و يقول : [ قد عذب قوم بالريح ] و رأى قوم السحاب
فقالوا هذا عارض ممطرنا و أسباب الرحمة يرجى بها عباده مثل : الغيم الرطب
و الريح الطيبة و مثل المطر المعتاد عند الحاجة إليه و لهذا يقال عند
نزوله : اللهم سقيا رحمة و لا سقيا عذاب
و أما من اتقى أسباب الضرر
بعد انعقادها بالأسباب المنهي عنها فإنه لا ينفعه ذلك غالبا كمن ردته
الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به فإنه كثيرا ما يصاب بما خشي منه
كما قال ابن مسعود و دل عليه حديث أنس المتقدم و كمن اتقى الطاعون الواقع
في بلده بالفرار منه فإنه قل أن ينجيه ذلك و قد فر كثير من المتقدمين و
المتأخرين من الطاعون فأصابهم و لم ينفعهم الفرار و قد قال الله تعالى : {
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت فقال لهم الله
موتوا ثم أحياهم } و قد ذكر كثير من السلف : أنهم كانوا قد فروا من
الطاعون فأصابهم و فر بعض المتقدمين من طاعون وقع فيما بينما هو يسير
بالليل على حمار له إذ سمع قائلا يقول :
( إن يسبق الله على حمار ... و لا على منعة مطار )
( أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري )
فأصابه الطاعون فمات
بيان معنى لا هامة
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ لاهامه ] فهو : نفي لما كانت الجاهلية
تعتقده أن الميت إذا مات صارت روحه أو عظامه هامة : و هو طائر يطير و هو
شبيه باعتقاد أهل التناسخ : أن أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات من
غير بعث و لا نشور و كل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها و
تكذيبها و لكن الذي جاءت بها الشريعة : أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر
تأكل من ثمار الجنة و ترد من أنهار الجنة إلى أن يردها الله إلى أجسادها و
روي أيضا أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى
أجسادها يوم القيامة
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ و لاصفر ]
فاختلف في تفسيره فقال كثير من المتقدمين : الصفر : داء في البطن يقال :
إنه دود فيه كبار كالحيات و كانوا يعتقدون أنه يعدي فنفى ذلك النبي صلى
الله عليه و سلم و ممن قال هذا من العلماء : ابن عيينة و الإمام أحمد و
غيرهما و لكن لو كان كذلك لكان هذا داخلا في قوله : [ لا عدوى ] و قد يقال
: هو من باب عطف الخاص على العام و خصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى و
قالت طائفة : بل المراد بصفر شهر ثم اختلفوا في تفسيره على قولين :
أحدهما : أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء فكانوا
يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه و هذا قول مالك
و الثاني : أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يستيشمون بصفر و يقولون : إنه
شهر مشئوم فأبطل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك و هذا حكاه أبو داود عن
محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك و لعل هذا القول أشبه الأقوال و
كثير من الجهال يتشاءم بصفر و ربما ينهى عن السفر فيه و التشاؤم بصفر هو
من جنس الطيرة المنهى عنها و كذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء و قد روي
أنه : [ يوم نحس مستمر ] في حديث لا يصح بل في المسند [ عن جابر رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم : دعا على الأحزاب يوم الإثنين و
الثلاثاء و الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر و العصر ] قال
جابر : فما نزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت ذلك الوقت فدعوت الله فيه
الإجابة أو كما قال
و كذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه
خاصة و قد قيل : إن أصله أن طاعونا وقع في شوال في سنة من السنين فمات فيه
كثير من العرائس فتشائم بذلك أهل الجاهلية و قد ورد الشرع بإبطاله [ قالت
عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم في شوال و
بنى بي في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني ] و كانت عائشة تستحب أن تدخل
نساءها في شوال و تزوج النبي صلى الله عليه و سلم أم سلمة في شوال أيضا
فأما قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا عدوى و لا طيرة و الشؤم في
ثلاث في المرأة و الدار و الدابة ] خرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه و سلم فقد اختلف الناس في معناه أيضا فروي عن عائشة
رضي الله عنها أنها أنكرت هذا الحديث أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه
و سلم و قالت : إنما قال : كان أهل الجاهلية يقولون ذلك خرجه الإمام أحمد
و قال معمر سمعت من يفسر هذا الحديث يقول : شؤم المرأة : إذا كانت غير
ولود و شؤم الفرس : إذا لم يكن يغزى عليه في سبيل الله و شؤم الدار : جار
السوء و روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه لا تصح و منهم من قال قد روي عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا شؤم و إن يكن اليمن في شيء ففي
ثلاثة ] فذكر هذه الثلاثة و قال هذه الرواية أشبه بأصول الشرع كذا قاله
ابن عبد البر و لكن إسناد هذه الرواية لا يقاوم ذلك الإسناد
و
التحقيق أن يقال في إثبات الشؤم في هذه الثلاث : ما ذكرناه في النهي عن
إيراد المريض على الصحيح و الفرار من المجذوم و من أرض الطاعون إن هذه
الثلاث أسباب قدر الله تعالى بها الشؤم و اليمن و يقرنه و لهذا يشرع لمن
استعاد زوجة أو أمة أو دابة أن يسأل الله تعالى من خيرها و خير ما جلبت
عليه و يستعيذ به تعالى من شرها و شر ما جبلت عليه كما في حديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي خرجه أبو داود و
غيره و كذا ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل ذلك و قد أمر النبي صلى الله عليه
و سلم قوما سكنوا دارا فقل عددهم و قل مالهم أن يتركوها ذميمة فترك ما لا
يجد الإنسان فيه بركة من دار أو زوجة أو دابة غير منهي عنه و كذلك من أتجر
في شيء فلم يربح فيه ثلاث مرات فإنه يتحول عنه روى ذلك عمر بن الخطاب رضي
الله عنه فإنه قال : من بورك له في شيء فلا يتغير عنه ففي المسند و سنن
ابن ماجه [ عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا : إذا كان لأحدكم رزق في شيء
فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له ]
و أما تخصيص الشؤم بزمان دون
زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح و إنما الزمان كله خلق الله تعالى و فيه
تقع أفعال بني آدم فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه و
كل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤم عليه فالشؤم في الحقيقة هو معصية
الله تعالى كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا كان الشؤم في شيء ففيما
بين اللحين ـ يعني اللسان ـ و قال : ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان و
قال عدي بن حاتم : أيمن أمر بي و أشأمة بين لحييه يعني لسانه ـ و في مسند
أبي داود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ حسن الملكة نماء و سوء
الملكة شؤم و البر زيادة في العمر و الصدقة تمنع ميتة السوء ] فجعل سوء
الملكة شؤما و في حديث آخر : [ لا يدخل الجنة سيء الملكة ] و هو من يسيء
إلى مماليكه و يظلمهم
و في الحديث : [ إن الصدقة تدفع ميتة السوء ]
و روي [ من حديث علي مرفوعا : باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها ]
خرجه الطبراني و في حديث آخر : [ إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم
بالصدقة ] فالصدقة تمنع وقوع البلاء بعد انعقاد أسبابه و كذلك الدعاء و في
الحديث : [ إن البلاء و الدعاء يلتقيان بين السماء و الأرض فيعتلجان إلى
يوم القيامة ] خرجه البزار و الحاكم و خرج في الترمذي [ من حديث سلمان :
لا يرد القضاء إلا بالدعاء ] و قال ابن عباس : لا ينفع الحذر من القدر و
لكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر و عنه قال : الدعاء يدفع القدر و
هو إذا دفع القدر فهو من القدر و هذا كقول النبي صلى الله عليه و سلم لما
سئل عن الأدوية و الرقى هل ترد من قدر الله شيئا ؟ قال : [ هي من قدر الله
تعالى ] و كذلك قال عمر رضي الله عنه لما رجع من الطاعون فقال له أبو
عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : نفر من قدر الله إلى قدر الله
فإن الله تعالى قدر المقادير و يقدر ما يدفع بعضها قبل وقوعه و كذلك
الأذكار المشروعة تدفع البلاء و [ في حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه و سلم من قال حين يصبح و يمسي : بسم الله الذي لا يضر مع
اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم لم يصبه بلاء ] و في
المسند [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
الشؤم سوء الخلق ] و خرجه الخرائطي و لفظه : [ اليمن حسن الخلق ] و في
الجملة : فلا شؤم إلا المعاصي و الذنوب فإنها تسخط الله عز و جل فإذا سخط
على عبده شقي في الدنيا و الآخرة كما إنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا و
الآخرة قال بعض الصالحين و قد شكي بلاء وقع في الناس فقال : ما أرى ما
أنتم فيه إلا بشؤم الذنوب و قال أبو حازم : كل ما يشغلك عن الله من أهل أو
مال أو ولد فهو عليك مشؤم و قد قيل :
( فلا كان ما يلهي عن الله أنه ... يضر و يؤذى إنه لمشؤم )
فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله و اليمن هو طاعة الله و تقواه كما قيل :
( إن رأيا دعا إلى طاعة الله ... لرأى مبارك ميمون )
و العدوى التي تهلك من قاربها هي المعاصي فمن قاربها و خالطها و أصر عليها
هلك و كذلك مخالطة أهل المعاصي و من يحسن المعصية و يزينها و يدعو إليها
من شياطين الإنس و هم أضر من شياطين الجن قال بعض السلف : شيطان الجن
نستعيذ بالله منه فينصرف و شيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية و في
الحديث : [ يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ] و في حديث
آخر : [ لا تصحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي ] و مما يروى لعلي رضي
الله عنه :
( فلا تصحب أخا الجهـ ... ل و إياك و إياه )
( فكم من جاهل أردى ... حكيما حين آخاه )
( يقاس المرء بالمر ... ء إذا ما المرء ماشاه )
( و للشيء على الشي ... ء مقاييس و أشباه )
( و لقلب على القلـ ... ب دليل حين يلقاه )
فالعاصي مشؤم على نفسه و على غيره فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم
الناس خصوصا من لم ينكر عليه عمله فالبعد عنه متعين فإذا كثر الخبث هلك
الناس عموما و كذلك أماكن المعاصي و عقوباتها يتعين البعد عنها و الهرب
منها خشية نزول العذاب كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه لما مر
على ديار ثمود بالحجر : [ لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا
باكين خشية أن يصيبكم ما أصابهم ] و لما تاب الذي قتل مائة نفس من بني
إسرائيل و سأل العالم : هل له من توبة ؟ قال له : نعم فأمره أن ينتقل من
قرية السوء إلى القرية الصالحة فأدركه الموت بينهما فاختصم فيه ملائكة
الرحمة و ملائكة العذاب فأوحى الله إليهم أن قيسوا بينهما فإلى أيهما كان
أقرب فألحقوه بها فوجدوه إلى القرية الصالحة أقرب برمية حجر فغفر له هجران
أماكن المعاصي و أخواتها من جملة الهجرة المأمور بها فإن المهاجر من هجر
ما نهى الله عنه قال إبراهيم بن أدهم : من أراد التوبة فليخرج من المظالم
و ليدع مخالطة من كان يخالطه و إلا لم ينل ما يريد احذروا الذنوب فإنها
مشؤمة عواقبها ذميمة و عقوباتها أليمة و القلوب المحبة لها سقيمة السلامة
منها غنيمة و العافية منها ليس لها قيمة و البليه بها لا سيما بعد نزول
الشيب داهية عظيمة
( طاعة الله خير ما اكتسب العبـ ... د فكن طائعا لله لا تعصينه )
( ما هلاك النفوس إلا المعاصي ... فاجتنب ما نهاك لا تقربنه )
( إن شيئا هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه )
يا من ضاع قلبه أنشده في مجالس الذكر عسى أن تجده يا من مرض قلبه احمله
إلى مجلس الذكر لعله أن يعافى مجالس الذكر مارستان الذنوب تداوي فيها
أمراض القلوب كما تداوي أمراض الأبدان في مارستان الذكر نزه لقلوب
المؤمنين يتنزه فيها بسماع كلام الحكمة كما يتنزه أبصار أهل الدنيا في
رياضها و بساتينها مجلسنا هذا خضرة في روضة الخشوع طعامنا فيه الجوع و
شرابنا فيه الدموع و نقلنا هذا الكلام المسموع نداوي فيه أمراضا أعيت
جالينوس و يختيشوع نسقي فيه ترياق الذنوب و فاروق المعاصي فمن شرب لم يكن
له إلى المعصية رجوع كم أفاق فيه من المعصية مصروع و برىء فيه من الهوى
ملسوع و وصل فيه إلى الله مقطوع ما عيبه إلا أن الطبيب الذي له لو كان
يستعمل ما يصف للناس لكان إليه المرجوع يا ضيعة العمران نجا السامع و هلك
المسموع يا خيبة المسعى إن وصل التابع و انقطع المتبوع
( و غير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس و هو سقيم )
( يا أيها الرجل المقوم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التقويم )
( ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم )
( فهناك يقبل ما تقول و يقتدى ... بالقول منك و ينفع التعليم )
( لا تنه عن خلق و تأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم )
* * *
( كم ذا التمادي فها قد جاءنا صفر ... شهر به الفوز و التوفيق و الظفر )
( فابدأ بما شئت من فعل تسر به ... يوم المعاد ففيه الخير ينتظر )
( توبوا إلى الله فيه من ذنوبكم ... من قبل يبلغ فيكم حده العمر )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الكلام على أن النبي كان نبيا قبل أن يخلق
وظائف شهر ربيع الأول و يشتمل على مجالس :
المجلس الأول في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم :
خرج الإمام أحمد [ من حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين و إن
آدم لمنجدل في طينته و سوف أنبئكم بتأويل ذلك : دعوة أبي إبراهيم و بشارة
عيسى قومه و رؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام و
كذلك أمهات النبيين يرين ] و خرجه الحاكم و قال : صحيح الإسناد و قد روي
معناه من حديث أبي أمامة الباهلي و من وجوه أخر مرسلة المقصود من هذا
الحديث أن نبوة النبي صلى الله عليه و سلم كانت مذكورة معروفة من قبل أن
يخلقه الله و يخرجه إلى دار الدنيا حيا و أن ذلك كان مكتوبا في أم الكتاب
من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام و فسر أم الكتاب باللوح المحفوظ و
بالذكر في قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب } و
عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سأل كعبا عن أم الكتاب ؟ فقال : علم
الله ماهو خالق و ما خلقه عاملون فقال لعلمه : كن كتابا فكان كتابا و لا
ريب أن علم الله عز و جل قديم أزلي لم يزل عالما بما يحدثه من مخلوقاته ثم
إنه تعالى كتب ذلك في كتاب عنده قبل خلق السموات و الأرض كما قال تعالى :
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها
إن ذلك على الله يسير } و في صحيح البخاري [ عن عمران بن حصين رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كان الله و لا شيء قبله و كان
عرشه على الماء و كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات و الأرض ] و في صحيح
مسلم [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : إن الله كنب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات و الأرض
بخمسين ألف سنة و كان عرشه على الماء ]
و من جملة ما كتبه في هذا الذكر و هو أم الكتاب : أن محمدا خاتم النبيين
و من حيندئذ انتقلت المخلوقات من مرتبة العلم إلى مرتبة الكتابة و هو نوع
من أنواع الوجود الخارجي و لهذا قال سعيد بن راشد سألت عطاء : هل كان
النبي صلى الله عليه و سلم نبيا قبل أن يخلق ؟ قال ؟ قال : إي و الله و
قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام خرجه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة و عطاء
ـ الظاهر أنه ـ الخرساني و هذا إشارة إلى ما ذكرنا من كتابة نبوته صلى
الله عليه و سلم في أم الكتاب عند تقدير المقادير و قوله صلى الله عليه و
سلم في هذا الحديث : [ إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين و إن آدم
لمنجدل في طينته ] ليس المراد به و الله أعلم أنه حينئذ كتب في أم الكتاب
ختمه للنبيين و إنما المراد الإخبار عن كون ذلك مكتوبا في أم الكتاب في
تلك الحال قبل نفخ الروح في آدم و هو أول ما خلق من النوع الإنساني و جاء
في أحاديث أخر أنه في تلك الحال وجبت له النبوة و هذه مرتبة ثالثة و هي
انتقاله من مرتبة العلم و الكتابة إلى مرتبة الوجود العيني الخارجي فإنه
صلى الله عليه و سلم استخرج حينئذ من ظهر آدم و نبىء فصارت نبوته موجودة
في الخارج بعد كونها كانت مكتوبة مقدرة في أم الكتاب ففي [ حديث ميسرة
الفجر قال : قلت يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : و آدم بين الروح و
الجسد ] خرجه الإمام أحمد و الحاكم
قال الإمام أحمد في رواية مهنا :
و بعضهم يرويه : متى كتبت نبيا ؟ من الكتابة فإن صحت هذه الرواية حملت مع
حديث العرباض بن سارية على وجوب نبوته و ثبوتها و ظهورها في الخارج فإن
الكتابة إنما تستعمل فيما هو واجب : إما شرعا كقوله تعالى : { كتب عليكم
الصيام } أو قدرا كقوله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا و رسلي } و [ في
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنهم قالوا :
يا رسول الله متى وجبت لك النبوة ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ] خرجه
الترمذي و حسنه و في نسخه صححه و خرجه الحاكم و روى ابن سعد من [ رواية
جابر الجعفي عن الشعبي قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم : متى
استنبئت ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد حيث أخذ مني الميثاق ] و هذه
الرواية تدل على أنه صلى الله عليه و سلم حينئذ استخرج من ظهر آدم و نبىء
و أخذ ميثاقه فيحتمل أن يكون ذلك دليلا على أن استخراج ذرية آدم من ظهره و
أخذ الميثاق منهم كان قبل نفخ الروح في آدم و قد روي هذا عن سلمان الفارسي
و غيره من السلف و يستدل له أيضا بظاهر قوله تعالى : { و لقد خلقناكم ثم
صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } على ما فسره به مجاهد و غيره : أن
المراد : إخراج ذرية آدم من ظهره قبل أمر الملائكة بالسجود له و لكن أكثر
السلف على أن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه و على هذا يدل
أكثر الأحاديث فتحمل على هذا أن يكون محمد صلى الله عليه و سلم خص
باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح فيه فإن محمدا صلى الله عليه و سلم هو
المقصود من خلق النوع الإنساني و هو عينه و خلاصته و واسطة عقده فلا يبعد
أن يكون أخرج من ظهر آدم عند خلقه قبل نفخ الروح فيه
ذكر فضل النبي صلى الله عليه و سلم من لدن آدم عليه السلام
و قد روي : أن آدم عليه الصلاة و السلام رأى اسم محمد صلى الله عليه و سلم
مكتوبا على العرش و أن الله عز و جل قال لآدم : [ لولا محمد ما خلقتك ] و
قد خرجه الحاكم في صحيحه فيكون حينئذ من حين صور آدم طينا استخرج منه محمد
صلى الله عليه و سلم و نبىء و أخذ منه الميثاق ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى
خرج في وقت خروجه الذي قدر الله خروجه فيه و يشهد لذلك ما روي [ عن قتادة
أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنت أول النبيين في الخلق و آخرهم في
البعث ] و في رواية : [ أول الناس في الخلق ] خرجه ابن سعد و غيره و خرجه
الطبراني من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا و المرسل أشبه و في
رواية عن قتادة مرسلة : ثم تلا : { و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و
من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ابن مريم } فبدأ به قبل نوح الذي هو أول
الرسل فمحمد صلى الله عليه و سلم أول الرسل خلقا و آخرهم بعثا فإنه استخرج
من ظهر آدم لما صور و نبىء حينئذ و أخذ ميثاقه ثم أعيد إلى ظهره و لا يقال
: فقد خلق آدم قبله لأن آدم حينئذ كان مواتا لا روح فيه و محمد صلى الله
عليه و سلم كان حيا حين استخراج و نبىء و أخذ ميثاقه فهو أول النبيين خلقا
و آخرهم بعثا فهو خاتم النبيين باعتبار أن زمانه تأخر عنهم فهو : المقفى و
العاقب الذي جاء عقب الأنبياء و يقفوهم قال تعالى : { ما كان محمد أبا أحد
من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين } و في الصحيحين [ عن جابر رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : مثلي و مثل الأنبياء كمثل
رجل بنى دارا فأكملها و أحسنها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها و
يعجبون منها و يقولون لولا موضع اللبنة ] زاد مسلم قال : [ فجئت فختمت
الأنبياء ] و فيهما أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم معناه و فيه : فجعل الناس يطوفون به و يقولون : هلا وضعت
اللبنة ؟ فأنا اللبنة و أنا خاتم النبيين ]
و قد استدل الإمام أحمد
بحديث العرباض بن سارية هذا على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل على
التوحيد منذ نشأ و رد بذلك على من زعم غير ذلك بل قد يستدل بهذا الحديث
على أنه صلى الله عليه و سلم ولد نبيا فإن نبوته وجبت له من حين أخذ
الميثاق منه حين استخرج من صلب آدم فكان نبيا من حينئذ لكن كانت مدة خروجه
إلى الدنيا متأخرة عن ذلك و ذلك لا يمنع كونه نبيا قبل خروجه كمن يولى
ولاية و يؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل فحكم الولاية ثابت له من حين
ولايته و إن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجيء الوقت قال حنبل : قلت لأبي عبد
الله يعني أحمد : من زعم أن النبي كان على دين قومه قبل أن يبعث ؟ قال :
هذا قول سوء ينبغي لصاحب هذه المقالة أن يحذر كلامه و لا يجالس قلت له :
إن جارنا الناقد أبا العباس يقول هذه المقالة ؟ قال : قاتله الله و أي شيء
أبقى إذا زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على دين قومه و هم يعبدون
الأصنام قال الله تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام : { و مبشرا برسول يأتي
من بعدي اسمه أحمد } قلت له : و زعم أن خديجة كانت على ذلك حين تزوجها
النبي صلى الله عليه و سلم في الجاهلية قال : أما خديجة فلا أقول شيئا قد
كانت أول من آمن به من النساء ثم قال : ماذا يحدث الناس من الكلام ! !
هؤلاء أصحاب الكلام لم يفلح ـ سبحان الله ـ لهذا القول و احتج في ذلك
بكلام لم أحفظه
ذكر رؤيا أمه صلى الله عليه و سلم حين ولادته
و ذكر أن أمه حين ولدت رأت نورا أضاء له قصور الشام أو ليس هذا عندما ولدت
رأت هذا و قبل أن يبعث كان طاهرا مطهرا من الأوثان أوليس كان لا يأكل لما
ذبح على النصب ثم قال : [ احذروا الكلام فإن أصحاب الكلام أمرهم لا يؤول
إلى خير ] خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب السنة و مراد الإمام
أحمد الإستدلال بتقدم البشارة بنبوته من الأنبياء الذين قبله و بما شوهد
عند ولادته من الآيات على أنه كان نبيا من قبل خروجه إلى الدنيا و ولادته
و هذا هو الذي يدل عليه حديث العرباض بن سارية هذا فإنه صلى الله عليه و
سلم ذكر فيه أن نبوته كانت حاصلة من حين آدم منجدلا في طينته و المراد
بالمنجدل : الطريح الملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه و يقال للقتيل :
إنه منجدل لذلك ثم استدل صلى الله عليه و سلم على سبق ذكره و التنويه
باسمه و نبوته و شرف قدره لخروجه إلى الدنيا بثلاث دلائل
ثلاث دلائل على سبق ذكر النبي صلى الله عليه و سلم و التنويه
باسمه و
نبوته
الدليل الأول : دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام و أشار إلى ما قص الله في
كتابه عن إبراهيم و إسماعيل لأنهما قالا عند بناء البيت الذي بمكة : {
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من
ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم *
ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و
يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } فاستجاب الله دعاءهما و بعث في أهل مكة
منهم رسولا بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما
السلام بهذا الدعاء و قد امتن الله تعالى على المؤمنين ببعثه لهذا النبي
منهم على هذه الصفة التي دعا بها إبراهيم و إسماعيل قال تعالى : { لقد من
الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم
و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } و قال سبحانه
: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و
يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * و آخرين منهم
لما يلحقوا بهم و هو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله
ذو الفضل العظيم } و معلوم أنه لم يبعث من مكة رسول فيهم بهذه الصفة غير
محمد صلى الله عليه و سلم و هو ولد إسماعيل كما أن أنبياء بني إسرائيل من
ولد اسحاق و ذكر تعالى : أنه من على المؤمنين بهذه الرسالة فليس لله نعمة
أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه و سلم يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم
و قوله في الأميين و المراد بهم العرب : تنبيه لهم على قدر هذه النعمة و
عظمها حيث كانوا أميين لا كتاب لهم و ليس عندهم شيء من آثار النبوات كما
كان عند أهل الكتاب فمن الله عليهم بهذا الرسول و بهذا الكتاب حتى صاروا
أفضل الأمم و أعلمهم و عرفوا ضلالة من ضل من الأمم قبلهم
و في كونه منهم فائدتان :
إحداهما : أن هذا الرسول كان أيضا أميا كأمته المبعوث إليهم لم يقرأ كتابا
قط و لم يخطه بيمينه كما قال تعالى : { و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و
لا تخطه بيمينك } الآيات و لا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم
منهم شيئا بل لم يزل أميا بين أمة أمية لا يكتب و لا يقرأ حتى كمل
الأربعين من عمره ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين و هذه الشريعة
الباهرة و هذا الدين القيم الذي اعترف حذاق أهل الأرض و نظارهم أنه لم
يقرع العالم ناموس أعظم منه و في هذا برهان ظاهر على صدقه
و الفائدة
الثانية : التنبيه على أن المبعوث منهم ـ و هم الأميون خصوصا أهل مكة ـ
يعرفون نسبه و شرفه و صدقه و أمانته و عفته و أنه نشأ بينهم معروفا بذلك
كله و أنه لم يكذب قط فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفتري الكذب على
الله عز و جل فهذا هو الباطل و لذلك سأل هرقل عن هذه الأوصاف و استدل بها
على صدقه فيما ادعاه من النبوة و الرسالة
و قوله تعالى : { يتلو
عليهم آياته } يعني يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من آياته المتلوة و هو
القرآن و هو أعظم الكتب السماوية و قد تضمن من العلوم و الحكم و المواعظ و
القصص و الترغيب و الترهيب و ذكر أخبار من سبق و أخبار ما يأتي من البعث و
النشور و الجنة و النار ما لم يشتمل عليه كتاب غيره حتى قال بعض العلماء
لو أن هذا الكتاب وجد مكتوبا في مصحف في فلاة من الأرض و لم يعلم من وضعه
هناك لشهدت العقول السليمة أنه منزل من عند الله و أن البشر لا قدرة لهم
على تأليف ذلك فكيف إذا جاء على يدي أصدق الخلق و أبرهم و أتقاهم و قال
إنه كلام الله و تحدى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا فيه فكيف مع
هذا شك و لهذا قال تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } و قال : { أولم
يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } فلو لم يكن لمحمد صلى الله
عليه و سلم من المعجزات الدالة على صدقه غير هذا الكتاب لكفاه فكيف و له
من المعجزات الأرضية و السماوية مالا يحصى
و قوله : { و يزكيهم } :
يعني إنه يزكي قلوبهم و يطهرها من أدناس الشرك و الفجور و الضلال فإن
النفوس تزكوا إذا طهرت من ذلك كله و من زكت نفسه فقد أفلح كما قال تعالى :
{ قد أفلح من زكاها } و قال : { قد أفلح من تزكى } و قوله : { و يعلمهم
الكتاب و الحكمة } : يعني بالكتاب : القرآن و المراد و يعلمهم تلاوة
ألفاظه و يعني بالحكمة : فهم معاني القرآن و العمل بما فيه فالحكمة هي :
فهم القرآن و العمل به فلا يكفي بتلاوة ألفاظ الكتاب حتى يعلم معناه و
يعمل بمقتضاه فمن جمع له ذلك كله فقد أوتي الحكمة قال تعالى : { يؤتي
الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } قال الفضيل :
العلماء كثير و الحكماء قليل و قال : الحكماء ورثة الأنبياء فالحكمة هي
العلم النافع الذي يتبعه العمل الصالح و هو نور يقذف في القلب يفهم بها
معنى العلم المنزل من السماء و يحض على اتباعه و العمل به و من قال الحكمة
: السنة فقوله الحق لأن السنة تفسر القرآن و تبين معانيه و تحض على اتباعه
و العمل به فالحكيم هو العالم المستنبط لدقائق العلم المنتفع بعلمه بالعمل
به و لأبي العتاهية :
( و كيف تحب أن تدعى حكيما ... و أنت لكل ما تهوى ركوب )
( و تضحك دائبا ظهرا لبطن ... و تذكر ما عملت فلا تتوب )
قوله تعال : { و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } إشارة إلى ما كان الناس
عليه قبل إنزال هذا الكتاب من الضلال فإن الله نظر حينئذ إلى أهل الأرض
فمقتهم عربهم و عجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب تمسكوا بدينهم الذي لم يبدل
و لم يغير و كانوا قليلا جدا فأما عامة أهل الكتاب فكانوا قد بدلوا كتبهم
و غيروها و حرفوها و أدخلوا في دينهم ما ليس منه فضلوا و أضلوا و أما غير
أهل الكاتب فكانوا على ضلال بين فالأميون أهل شرك يعبدون الأوثان و المجوس
يعبدون النيران و يقولون بإلهين اثنين و كذلك غيرهم من أهل الأرض منهم من
كان يعبد النجوم و منهم من كان يعبد الشمس أو القمر فهدى الله المؤمنين
بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم إلى ما جاء به من الهدى و الدين الحق و
أظهر الله دينه حتى بلغ مشارق الأرض و مغاربها فظهرت فيها كلمة التوحيد و
العمل بالعدل بعد أن كانت الأرض كلها ممتلئة من الشرك و الظلم فالأميون هم
العرب و الآخرون الذي لم يلحقوا بهم هم أهل فارس و الروم فكانت أهل فارس
مجوسا و الروم نصارى فهدى الله جميع هؤلاء برسالة محمد صلى الله عليه و
سلم إلى التوحيد و قد رؤي الإمام بعد موته في المنام فسئل عن حاله فقال :
لولا النبي لكنا مجوسا قال : فإن أهل العراق لولا رسالة محمد صلى الله
عليه و سلم لكانوا مجوسا و أهل الشام و مصر و الروم لولا رسالة محمد صلى
الله عليه و سلم لكانوا نصارى و أهل جزيرة العرب لولا رسالة محمد صلى الله
عليه و سلم لكانوا مشركين عباد أوثان و لكن رحم الله عباده بإرسال محمد
صلى الله عليه و سلم فأنقذهم من الضلال كما قال تعالى : { و ما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين } و لهذا قال تعالى : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و
الله ذو الفضل العظيم } فمن حصل له نصيب من دين الإسلام فقد حصل له الفضل
العظيم و قد عظمت عليه نعمة الله فما أحوجه إلى القيام بشكر هذه النعمة و
سؤاله دوامها و الثبات عليها إلى الممات و الموت عليها فبذلك تتم النعمة
فإبراهيم عليه الصلاة و السلام هو إمام الحنفاء المأمور محمد صلى الله
عليه و سلم و من قبله من الأنبياء و الاقتداء به و هو الذي جعله للناس
إماما و قد دعا هو و ابنه إسماعيل بأن يبعث الله في أهل مكة رسولا منهم
موصوفا بهذه الأوصاف فاستجاب الله لهما و جعل هذا النبي مبعوثا فيهم من
ولد إسماعيل بن إبراهيم كما دعيا بذلك و هو النبي الذي أظهر دين إبراهيم
الحنيف بعد اضمحلاله و خفائه على أهل الأرض فلهذا كان أولى الناس بإبراهيم
كما قال تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و
الذين آمنوا } و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن لكل نبي وليا من المؤمنين
و أنا ولي إبراهيم ] ثم تلا هذه الآية و كان صلى الله عليه و سلم أشبه ولد
إبراهيم به صورة و معنى حتى إنه أشبهه في خلة الله تعالى فقال : [ إن الله
اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ]
و الثاني بشارة عيسى به : و
عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل و قد قال تعالى : { و إذ قال عيسى ابن مريم
يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا
برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } و قد كان المسيح عليه الصلاة و السلام يحض
على اتباعه و يقول : إنه يبعث السيف فلا يمنعنكم ذلك منه و روي عنه أنه
قال : سوف أذهب أنا و يأتي الذي بعدي لا يتحمدكم بدعواه و لكن يسل السيف
فتدخلونه طوعا و كرها و في المسند [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل أوحى إلى عيسى عليه السلام أني
باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا و شكروا و إن أصابهم ما يكرهون
احتسبوا و صبروا و لا حلم و لا علم قال : يا رب كيف هذا و لا حلم و لا علم
؟ قال : أعطيهم من حلمي و علمي ] قال ابن اسحاق حدثني بعض أهل العلم : أن
عيسى بن مريم عليه السلام قال : إن أحب الأمم إلى الله عز و جل لأمة أحمد
قيل له : و ما فضلهم الذي تذكر ؟ قال : لم تذلل لا إله إلا الله على ألسن
أمة من الأمم تذليلها على ألسنتهم
الثالث : مما دل على نبوته قبل
ظهوره : رؤيا أمه التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام و ذكر أن
أمهات النبيين كذلك يرين و الرؤيا هنا إن أريد بها رؤيا المنام فقد روي أن
آمنة بنت وهب رأت في أول حملها بالنبي صلى الله عليه و سلم أنها بشرت بأنه
يخرج منها عند ولادتها نور يضيء له قصور الشام وروى الطبراني بإسناده [ عن
أبي مريم الكندي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل : أي شيء كان أول
من أمر نبوتك ؟ قال : أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم و
تلا : { و منك و من نوح } الآية و بشرى المسيح عيسى بن مريم و رأت أم رسول
الله صلى الله عليه و سلم في منامها أنه خرج من بين يديها سراج أضاءت لها
من قصور الشام ثم قال : و وراء ذلك قريتين أو ثلاثا ] و إن أريد بها رؤية
عين كما قال ابن عباس في قول الله عز و جل : { و ما جعلنا الرؤيا التي
أريناك إلا فتنة للناس } إنها رؤية عين أريها النبي صلى الله عليه و سلم
ليلة أسري به فقد روى أن أمه رأت ذلك عند ولادة النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن اسحاق : كانت آمنة بنت وهب تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله
صلى الله عليه و سلم فقيل لها إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض
فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد و آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور
بصرى من أرض الشام فإذا وقع فسميه محمدا فإن اسمه في التوراة أحمد يحمده
أهل السماء و أهل الأرض و اسمه في الإنجيل أحمد يحمده أهل السماء و أهل
الأرض و اسمه في القرآن محمد و ذكر ابن سعد عن الواقدي بأسانيد له متعددة
: أن آمنة بنت وهب قالت : لقد علقت به تعني النبي صلى الله عليه و سلم فما
وجدت له مشقة حتى وضعته فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق و
المغرب ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها و
رفع رأسه إلى السماء و في حديث بعضهم : وقع جاثيا على ركبتيه و خرج معه
نور أضاءت له قصور الشام و أسواقها حتى رأت أعناق الإبل ببصرى رافعا رأسه
إلى السماء و روى البيهقي بإسناده [ عن عثمان بن أبي العاص حدثتني أمي
أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة ولدته
قالت : فما شيء أنظر إليه إلا نور و إني أنظر إلى النجوم تدنو حتى أني
لأقول ليقعن علي ]
و خرج الإمام أحمد [ من حديث عتبة بن عبد السلمي
عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن أمه قالت : إني رأيت خرج مني نور أضاءت
منه قصور الشام ] و روى ابن اسحاق [ عن جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن
جعفر عمن حدث عن سليمة أم النبي صلى الله عليه و سلم التي أرضعته أن آمنة
بنت وهب حدثتها أنها قالت : إني حملت به فلم أر حملا قط كان أخف علي منه و
لا أعظم بركة منه لقد رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت له
أعناق الإبل ببصرى ] و خروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من
النور الذي اهتدى به أهل الأرض و زال به ظلمة الشرك منها كما قال تعالى :
{ قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم } و
قال تعالى : { فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل
معه أولئك هم المفلحون } و في هذا المعنى يقول العباس في أبياته المشهورة
السائرة :
( و أنت لما ولدت أشرقت الأرض ... و ضاءت بنورك الأفق )
( فنحن في ذلك الضياء و في النـ ... ور و سبل الرشاد نخترق )
و أما إضاءة قصور بصرى بالنور الذي خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من
نور نبوته بأنها دار ملكه كما ذكر كعب أن في الكتب السابقة محمد رسول الله
مولده بمكة و مهاجره يثرب و ملكه بالشام فمن مكة بدئت نبوة محمد صلى الله
عليه و سلم و إلى الشام ينتهي ملكه و لهذا أسري به صلى الله عليه و سلم
إلى الشام إلى بيت المقدس كما هاجر إبراهيم عليه الصلاة و السلام من قبله
إلى الشام قال بعض السلف : ما بعث الله نبيا إلا من الشام فإن لم يبعثه
منها هاجر إليها و في آخر الزمان يستقر العلم و الإيمان بالشام فيكون نور
النبوة فيها أظهر منه في سائر بلاد الإسلام
و خرج الإمام أحمد من
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص و أبي الدرداء و خرج الحاكم من حديث عبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
: رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو عمود ساطع
عمد به إلى الشام ألا و إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام ]
و في
المسند و الترمذي و غيرهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ستكون
هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم يعني الشام و بالشام
ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان و هو المبشر بمحمد صلى الله
عليه و سلم و يحكم به و لا يقبل من أحد غير دينه فيكسر الصليب و يقتل
الخنزير و يضع الجزية و يصلي خلف إمام المسلمين و يقول : إن هذه الأمة
أئمة بعضهم لبعض ] إشارة إلى أنه متبع لدينهم غير ناسخ له و الشام هي في
آخر الزمان أرض المحشر و المنشر فيحشر الناس إليهم قبل القيامة من أقطار
الأرض فيهاجر خيار أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم و هي أرض الشام طوعا كما
تقدم أن خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم و قال صلى الله عليه و سلم :
[ عليكم بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده ]
خرجه الإمام أحمد و أبو داود و ابن حبان و الحاكم في صحيحهما و قال أبو
أمامة : لا تقوم الساعة حتى ينتقل خيار أهل العراق إلى الشام و شرار أهل
الشام إلى العراق و خرجه الإمام أحمد
و قد ثبت في الصحيحين [ عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض
الحجاز فتضيء لها أعناق الإبل ببصرى ] و قد خرجت هذه النار بالحجاز بقرب
المدينة و رؤيت أعناق الإبل من ضوءها ببصرى في سنة أربع و خمسين و ستمائة
و عقيبها جرت واقعة بغداد و قتل بها الخليفة و عامة من كان ببغداد و تكامل
خراب أهل العراق على أيدي التتار و هاجر خيار أهلها إلى الشام من حينئذ
فأما شرار الناس فتخرج نار في آخر الزمان تسوقهم إلى الشام قهرا حتى تجتمع
الناس كلها بالشام قبل قيام الساعة
و في سنن أبي داود [ عن أبي
الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن فسطاط
المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن
الشام ] و خرجه الحاكم و لفظه : [ خير منازل المسلمين يومئذ ]
وظائف شهر ربيع الأول و يشتمل على مجالس :
المجلس الأول في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم :
خرج الإمام أحمد [ من حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين و إن
آدم لمنجدل في طينته و سوف أنبئكم بتأويل ذلك : دعوة أبي إبراهيم و بشارة
عيسى قومه و رؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام و
كذلك أمهات النبيين يرين ] و خرجه الحاكم و قال : صحيح الإسناد و قد روي
معناه من حديث أبي أمامة الباهلي و من وجوه أخر مرسلة المقصود من هذا
الحديث أن نبوة النبي صلى الله عليه و سلم كانت مذكورة معروفة من قبل أن
يخلقه الله و يخرجه إلى دار الدنيا حيا و أن ذلك كان مكتوبا في أم الكتاب
من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام و فسر أم الكتاب باللوح المحفوظ و
بالذكر في قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب } و
عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سأل كعبا عن أم الكتاب ؟ فقال : علم
الله ماهو خالق و ما خلقه عاملون فقال لعلمه : كن كتابا فكان كتابا و لا
ريب أن علم الله عز و جل قديم أزلي لم يزل عالما بما يحدثه من مخلوقاته ثم
إنه تعالى كتب ذلك في كتاب عنده قبل خلق السموات و الأرض كما قال تعالى :
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها
إن ذلك على الله يسير } و في صحيح البخاري [ عن عمران بن حصين رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كان الله و لا شيء قبله و كان
عرشه على الماء و كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات و الأرض ] و في صحيح
مسلم [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : إن الله كنب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات و الأرض
بخمسين ألف سنة و كان عرشه على الماء ]
و من جملة ما كتبه في هذا الذكر و هو أم الكتاب : أن محمدا خاتم النبيين
و من حيندئذ انتقلت المخلوقات من مرتبة العلم إلى مرتبة الكتابة و هو نوع
من أنواع الوجود الخارجي و لهذا قال سعيد بن راشد سألت عطاء : هل كان
النبي صلى الله عليه و سلم نبيا قبل أن يخلق ؟ قال ؟ قال : إي و الله و
قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام خرجه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة و عطاء
ـ الظاهر أنه ـ الخرساني و هذا إشارة إلى ما ذكرنا من كتابة نبوته صلى
الله عليه و سلم في أم الكتاب عند تقدير المقادير و قوله صلى الله عليه و
سلم في هذا الحديث : [ إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين و إن آدم
لمنجدل في طينته ] ليس المراد به و الله أعلم أنه حينئذ كتب في أم الكتاب
ختمه للنبيين و إنما المراد الإخبار عن كون ذلك مكتوبا في أم الكتاب في
تلك الحال قبل نفخ الروح في آدم و هو أول ما خلق من النوع الإنساني و جاء
في أحاديث أخر أنه في تلك الحال وجبت له النبوة و هذه مرتبة ثالثة و هي
انتقاله من مرتبة العلم و الكتابة إلى مرتبة الوجود العيني الخارجي فإنه
صلى الله عليه و سلم استخرج حينئذ من ظهر آدم و نبىء فصارت نبوته موجودة
في الخارج بعد كونها كانت مكتوبة مقدرة في أم الكتاب ففي [ حديث ميسرة
الفجر قال : قلت يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : و آدم بين الروح و
الجسد ] خرجه الإمام أحمد و الحاكم
قال الإمام أحمد في رواية مهنا :
و بعضهم يرويه : متى كتبت نبيا ؟ من الكتابة فإن صحت هذه الرواية حملت مع
حديث العرباض بن سارية على وجوب نبوته و ثبوتها و ظهورها في الخارج فإن
الكتابة إنما تستعمل فيما هو واجب : إما شرعا كقوله تعالى : { كتب عليكم
الصيام } أو قدرا كقوله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا و رسلي } و [ في
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنهم قالوا :
يا رسول الله متى وجبت لك النبوة ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ] خرجه
الترمذي و حسنه و في نسخه صححه و خرجه الحاكم و روى ابن سعد من [ رواية
جابر الجعفي عن الشعبي قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم : متى
استنبئت ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد حيث أخذ مني الميثاق ] و هذه
الرواية تدل على أنه صلى الله عليه و سلم حينئذ استخرج من ظهر آدم و نبىء
و أخذ ميثاقه فيحتمل أن يكون ذلك دليلا على أن استخراج ذرية آدم من ظهره و
أخذ الميثاق منهم كان قبل نفخ الروح في آدم و قد روي هذا عن سلمان الفارسي
و غيره من السلف و يستدل له أيضا بظاهر قوله تعالى : { و لقد خلقناكم ثم
صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } على ما فسره به مجاهد و غيره : أن
المراد : إخراج ذرية آدم من ظهره قبل أمر الملائكة بالسجود له و لكن أكثر
السلف على أن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه و على هذا يدل
أكثر الأحاديث فتحمل على هذا أن يكون محمد صلى الله عليه و سلم خص
باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح فيه فإن محمدا صلى الله عليه و سلم هو
المقصود من خلق النوع الإنساني و هو عينه و خلاصته و واسطة عقده فلا يبعد
أن يكون أخرج من ظهر آدم عند خلقه قبل نفخ الروح فيه
و قد روي : أن آدم عليه الصلاة و السلام رأى اسم محمد صلى الله عليه و سلم
مكتوبا على العرش و أن الله عز و جل قال لآدم : [ لولا محمد ما خلقتك ] و
قد خرجه الحاكم في صحيحه فيكون حينئذ من حين صور آدم طينا استخرج منه محمد
صلى الله عليه و سلم و نبىء و أخذ منه الميثاق ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى
خرج في وقت خروجه الذي قدر الله خروجه فيه و يشهد لذلك ما روي [ عن قتادة
أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنت أول النبيين في الخلق و آخرهم في
البعث ] و في رواية : [ أول الناس في الخلق ] خرجه ابن سعد و غيره و خرجه
الطبراني من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا و المرسل أشبه و في
رواية عن قتادة مرسلة : ثم تلا : { و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و
من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ابن مريم } فبدأ به قبل نوح الذي هو أول
الرسل فمحمد صلى الله عليه و سلم أول الرسل خلقا و آخرهم بعثا فإنه استخرج
من ظهر آدم لما صور و نبىء حينئذ و أخذ ميثاقه ثم أعيد إلى ظهره و لا يقال
: فقد خلق آدم قبله لأن آدم حينئذ كان مواتا لا روح فيه و محمد صلى الله
عليه و سلم كان حيا حين استخراج و نبىء و أخذ ميثاقه فهو أول النبيين خلقا
و آخرهم بعثا فهو خاتم النبيين باعتبار أن زمانه تأخر عنهم فهو : المقفى و
العاقب الذي جاء عقب الأنبياء و يقفوهم قال تعالى : { ما كان محمد أبا أحد
من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين } و في الصحيحين [ عن جابر رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : مثلي و مثل الأنبياء كمثل
رجل بنى دارا فأكملها و أحسنها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها و
يعجبون منها و يقولون لولا موضع اللبنة ] زاد مسلم قال : [ فجئت فختمت
الأنبياء ] و فيهما أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم معناه و فيه : فجعل الناس يطوفون به و يقولون : هلا وضعت
اللبنة ؟ فأنا اللبنة و أنا خاتم النبيين ]
و قد استدل الإمام أحمد
بحديث العرباض بن سارية هذا على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل على
التوحيد منذ نشأ و رد بذلك على من زعم غير ذلك بل قد يستدل بهذا الحديث
على أنه صلى الله عليه و سلم ولد نبيا فإن نبوته وجبت له من حين أخذ
الميثاق منه حين استخرج من صلب آدم فكان نبيا من حينئذ لكن كانت مدة خروجه
إلى الدنيا متأخرة عن ذلك و ذلك لا يمنع كونه نبيا قبل خروجه كمن يولى
ولاية و يؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل فحكم الولاية ثابت له من حين
ولايته و إن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجيء الوقت قال حنبل : قلت لأبي عبد
الله يعني أحمد : من زعم أن النبي كان على دين قومه قبل أن يبعث ؟ قال :
هذا قول سوء ينبغي لصاحب هذه المقالة أن يحذر كلامه و لا يجالس قلت له :
إن جارنا الناقد أبا العباس يقول هذه المقالة ؟ قال : قاتله الله و أي شيء
أبقى إذا زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على دين قومه و هم يعبدون
الأصنام قال الله تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام : { و مبشرا برسول يأتي
من بعدي اسمه أحمد } قلت له : و زعم أن خديجة كانت على ذلك حين تزوجها
النبي صلى الله عليه و سلم في الجاهلية قال : أما خديجة فلا أقول شيئا قد
كانت أول من آمن به من النساء ثم قال : ماذا يحدث الناس من الكلام ! !
هؤلاء أصحاب الكلام لم يفلح ـ سبحان الله ـ لهذا القول و احتج في ذلك
بكلام لم أحفظه
و ذكر أن أمه حين ولدت رأت نورا أضاء له قصور الشام أو ليس هذا عندما ولدت
رأت هذا و قبل أن يبعث كان طاهرا مطهرا من الأوثان أوليس كان لا يأكل لما
ذبح على النصب ثم قال : [ احذروا الكلام فإن أصحاب الكلام أمرهم لا يؤول
إلى خير ] خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب السنة و مراد الإمام
أحمد الإستدلال بتقدم البشارة بنبوته من الأنبياء الذين قبله و بما شوهد
عند ولادته من الآيات على أنه كان نبيا من قبل خروجه إلى الدنيا و ولادته
و هذا هو الذي يدل عليه حديث العرباض بن سارية هذا فإنه صلى الله عليه و
سلم ذكر فيه أن نبوته كانت حاصلة من حين آدم منجدلا في طينته و المراد
بالمنجدل : الطريح الملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه و يقال للقتيل :
إنه منجدل لذلك ثم استدل صلى الله عليه و سلم على سبق ذكره و التنويه
باسمه و نبوته و شرف قدره لخروجه إلى الدنيا بثلاث دلائل
باسمه و
نبوته
الدليل الأول : دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام و أشار إلى ما قص الله في
كتابه عن إبراهيم و إسماعيل لأنهما قالا عند بناء البيت الذي بمكة : {
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من
ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم *
ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و
يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } فاستجاب الله دعاءهما و بعث في أهل مكة
منهم رسولا بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما
السلام بهذا الدعاء و قد امتن الله تعالى على المؤمنين ببعثه لهذا النبي
منهم على هذه الصفة التي دعا بها إبراهيم و إسماعيل قال تعالى : { لقد من
الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم
و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } و قال سبحانه
: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و
يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * و آخرين منهم
لما يلحقوا بهم و هو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله
ذو الفضل العظيم } و معلوم أنه لم يبعث من مكة رسول فيهم بهذه الصفة غير
محمد صلى الله عليه و سلم و هو ولد إسماعيل كما أن أنبياء بني إسرائيل من
ولد اسحاق و ذكر تعالى : أنه من على المؤمنين بهذه الرسالة فليس لله نعمة
أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه و سلم يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم
و قوله في الأميين و المراد بهم العرب : تنبيه لهم على قدر هذه النعمة و
عظمها حيث كانوا أميين لا كتاب لهم و ليس عندهم شيء من آثار النبوات كما
كان عند أهل الكتاب فمن الله عليهم بهذا الرسول و بهذا الكتاب حتى صاروا
أفضل الأمم و أعلمهم و عرفوا ضلالة من ضل من الأمم قبلهم
و في كونه منهم فائدتان :
إحداهما : أن هذا الرسول كان أيضا أميا كأمته المبعوث إليهم لم يقرأ كتابا
قط و لم يخطه بيمينه كما قال تعالى : { و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و
لا تخطه بيمينك } الآيات و لا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم
منهم شيئا بل لم يزل أميا بين أمة أمية لا يكتب و لا يقرأ حتى كمل
الأربعين من عمره ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين و هذه الشريعة
الباهرة و هذا الدين القيم الذي اعترف حذاق أهل الأرض و نظارهم أنه لم
يقرع العالم ناموس أعظم منه و في هذا برهان ظاهر على صدقه
و الفائدة
الثانية : التنبيه على أن المبعوث منهم ـ و هم الأميون خصوصا أهل مكة ـ
يعرفون نسبه و شرفه و صدقه و أمانته و عفته و أنه نشأ بينهم معروفا بذلك
كله و أنه لم يكذب قط فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفتري الكذب على
الله عز و جل فهذا هو الباطل و لذلك سأل هرقل عن هذه الأوصاف و استدل بها
على صدقه فيما ادعاه من النبوة و الرسالة
و قوله تعالى : { يتلو
عليهم آياته } يعني يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من آياته المتلوة و هو
القرآن و هو أعظم الكتب السماوية و قد تضمن من العلوم و الحكم و المواعظ و
القصص و الترغيب و الترهيب و ذكر أخبار من سبق و أخبار ما يأتي من البعث و
النشور و الجنة و النار ما لم يشتمل عليه كتاب غيره حتى قال بعض العلماء
لو أن هذا الكتاب وجد مكتوبا في مصحف في فلاة من الأرض و لم يعلم من وضعه
هناك لشهدت العقول السليمة أنه منزل من عند الله و أن البشر لا قدرة لهم
على تأليف ذلك فكيف إذا جاء على يدي أصدق الخلق و أبرهم و أتقاهم و قال
إنه كلام الله و تحدى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا فيه فكيف مع
هذا شك و لهذا قال تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } و قال : { أولم
يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } فلو لم يكن لمحمد صلى الله
عليه و سلم من المعجزات الدالة على صدقه غير هذا الكتاب لكفاه فكيف و له
من المعجزات الأرضية و السماوية مالا يحصى
و قوله : { و يزكيهم } :
يعني إنه يزكي قلوبهم و يطهرها من أدناس الشرك و الفجور و الضلال فإن
النفوس تزكوا إذا طهرت من ذلك كله و من زكت نفسه فقد أفلح كما قال تعالى :
{ قد أفلح من زكاها } و قال : { قد أفلح من تزكى } و قوله : { و يعلمهم
الكتاب و الحكمة } : يعني بالكتاب : القرآن و المراد و يعلمهم تلاوة
ألفاظه و يعني بالحكمة : فهم معاني القرآن و العمل بما فيه فالحكمة هي :
فهم القرآن و العمل به فلا يكفي بتلاوة ألفاظ الكتاب حتى يعلم معناه و
يعمل بمقتضاه فمن جمع له ذلك كله فقد أوتي الحكمة قال تعالى : { يؤتي
الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } قال الفضيل :
العلماء كثير و الحكماء قليل و قال : الحكماء ورثة الأنبياء فالحكمة هي
العلم النافع الذي يتبعه العمل الصالح و هو نور يقذف في القلب يفهم بها
معنى العلم المنزل من السماء و يحض على اتباعه و العمل به و من قال الحكمة
: السنة فقوله الحق لأن السنة تفسر القرآن و تبين معانيه و تحض على اتباعه
و العمل به فالحكيم هو العالم المستنبط لدقائق العلم المنتفع بعلمه بالعمل
به و لأبي العتاهية :
( و كيف تحب أن تدعى حكيما ... و أنت لكل ما تهوى ركوب )
( و تضحك دائبا ظهرا لبطن ... و تذكر ما عملت فلا تتوب )
قوله تعال : { و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } إشارة إلى ما كان الناس
عليه قبل إنزال هذا الكتاب من الضلال فإن الله نظر حينئذ إلى أهل الأرض
فمقتهم عربهم و عجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب تمسكوا بدينهم الذي لم يبدل
و لم يغير و كانوا قليلا جدا فأما عامة أهل الكتاب فكانوا قد بدلوا كتبهم
و غيروها و حرفوها و أدخلوا في دينهم ما ليس منه فضلوا و أضلوا و أما غير
أهل الكاتب فكانوا على ضلال بين فالأميون أهل شرك يعبدون الأوثان و المجوس
يعبدون النيران و يقولون بإلهين اثنين و كذلك غيرهم من أهل الأرض منهم من
كان يعبد النجوم و منهم من كان يعبد الشمس أو القمر فهدى الله المؤمنين
بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم إلى ما جاء به من الهدى و الدين الحق و
أظهر الله دينه حتى بلغ مشارق الأرض و مغاربها فظهرت فيها كلمة التوحيد و
العمل بالعدل بعد أن كانت الأرض كلها ممتلئة من الشرك و الظلم فالأميون هم
العرب و الآخرون الذي لم يلحقوا بهم هم أهل فارس و الروم فكانت أهل فارس
مجوسا و الروم نصارى فهدى الله جميع هؤلاء برسالة محمد صلى الله عليه و
سلم إلى التوحيد و قد رؤي الإمام بعد موته في المنام فسئل عن حاله فقال :
لولا النبي لكنا مجوسا قال : فإن أهل العراق لولا رسالة محمد صلى الله
عليه و سلم لكانوا مجوسا و أهل الشام و مصر و الروم لولا رسالة محمد صلى
الله عليه و سلم لكانوا نصارى و أهل جزيرة العرب لولا رسالة محمد صلى الله
عليه و سلم لكانوا مشركين عباد أوثان و لكن رحم الله عباده بإرسال محمد
صلى الله عليه و سلم فأنقذهم من الضلال كما قال تعالى : { و ما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين } و لهذا قال تعالى : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و
الله ذو الفضل العظيم } فمن حصل له نصيب من دين الإسلام فقد حصل له الفضل
العظيم و قد عظمت عليه نعمة الله فما أحوجه إلى القيام بشكر هذه النعمة و
سؤاله دوامها و الثبات عليها إلى الممات و الموت عليها فبذلك تتم النعمة
فإبراهيم عليه الصلاة و السلام هو إمام الحنفاء المأمور محمد صلى الله
عليه و سلم و من قبله من الأنبياء و الاقتداء به و هو الذي جعله للناس
إماما و قد دعا هو و ابنه إسماعيل بأن يبعث الله في أهل مكة رسولا منهم
موصوفا بهذه الأوصاف فاستجاب الله لهما و جعل هذا النبي مبعوثا فيهم من
ولد إسماعيل بن إبراهيم كما دعيا بذلك و هو النبي الذي أظهر دين إبراهيم
الحنيف بعد اضمحلاله و خفائه على أهل الأرض فلهذا كان أولى الناس بإبراهيم
كما قال تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و
الذين آمنوا } و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن لكل نبي وليا من المؤمنين
و أنا ولي إبراهيم ] ثم تلا هذه الآية و كان صلى الله عليه و سلم أشبه ولد
إبراهيم به صورة و معنى حتى إنه أشبهه في خلة الله تعالى فقال : [ إن الله
اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ]
و الثاني بشارة عيسى به : و
عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل و قد قال تعالى : { و إذ قال عيسى ابن مريم
يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا
برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } و قد كان المسيح عليه الصلاة و السلام يحض
على اتباعه و يقول : إنه يبعث السيف فلا يمنعنكم ذلك منه و روي عنه أنه
قال : سوف أذهب أنا و يأتي الذي بعدي لا يتحمدكم بدعواه و لكن يسل السيف
فتدخلونه طوعا و كرها و في المسند [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل أوحى إلى عيسى عليه السلام أني
باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا و شكروا و إن أصابهم ما يكرهون
احتسبوا و صبروا و لا حلم و لا علم قال : يا رب كيف هذا و لا حلم و لا علم
؟ قال : أعطيهم من حلمي و علمي ] قال ابن اسحاق حدثني بعض أهل العلم : أن
عيسى بن مريم عليه السلام قال : إن أحب الأمم إلى الله عز و جل لأمة أحمد
قيل له : و ما فضلهم الذي تذكر ؟ قال : لم تذلل لا إله إلا الله على ألسن
أمة من الأمم تذليلها على ألسنتهم
الثالث : مما دل على نبوته قبل
ظهوره : رؤيا أمه التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام و ذكر أن
أمهات النبيين كذلك يرين و الرؤيا هنا إن أريد بها رؤيا المنام فقد روي أن
آمنة بنت وهب رأت في أول حملها بالنبي صلى الله عليه و سلم أنها بشرت بأنه
يخرج منها عند ولادتها نور يضيء له قصور الشام وروى الطبراني بإسناده [ عن
أبي مريم الكندي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل : أي شيء كان أول
من أمر نبوتك ؟ قال : أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم و
تلا : { و منك و من نوح } الآية و بشرى المسيح عيسى بن مريم و رأت أم رسول
الله صلى الله عليه و سلم في منامها أنه خرج من بين يديها سراج أضاءت لها
من قصور الشام ثم قال : و وراء ذلك قريتين أو ثلاثا ] و إن أريد بها رؤية
عين كما قال ابن عباس في قول الله عز و جل : { و ما جعلنا الرؤيا التي
أريناك إلا فتنة للناس } إنها رؤية عين أريها النبي صلى الله عليه و سلم
ليلة أسري به فقد روى أن أمه رأت ذلك عند ولادة النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن اسحاق : كانت آمنة بنت وهب تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله
صلى الله عليه و سلم فقيل لها إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض
فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد و آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور
بصرى من أرض الشام فإذا وقع فسميه محمدا فإن اسمه في التوراة أحمد يحمده
أهل السماء و أهل الأرض و اسمه في الإنجيل أحمد يحمده أهل السماء و أهل
الأرض و اسمه في القرآن محمد و ذكر ابن سعد عن الواقدي بأسانيد له متعددة
: أن آمنة بنت وهب قالت : لقد علقت به تعني النبي صلى الله عليه و سلم فما
وجدت له مشقة حتى وضعته فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق و
المغرب ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها و
رفع رأسه إلى السماء و في حديث بعضهم : وقع جاثيا على ركبتيه و خرج معه
نور أضاءت له قصور الشام و أسواقها حتى رأت أعناق الإبل ببصرى رافعا رأسه
إلى السماء و روى البيهقي بإسناده [ عن عثمان بن أبي العاص حدثتني أمي
أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة ولدته
قالت : فما شيء أنظر إليه إلا نور و إني أنظر إلى النجوم تدنو حتى أني
لأقول ليقعن علي ]
و خرج الإمام أحمد [ من حديث عتبة بن عبد السلمي
عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن أمه قالت : إني رأيت خرج مني نور أضاءت
منه قصور الشام ] و روى ابن اسحاق [ عن جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن
جعفر عمن حدث عن سليمة أم النبي صلى الله عليه و سلم التي أرضعته أن آمنة
بنت وهب حدثتها أنها قالت : إني حملت به فلم أر حملا قط كان أخف علي منه و
لا أعظم بركة منه لقد رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت له
أعناق الإبل ببصرى ] و خروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من
النور الذي اهتدى به أهل الأرض و زال به ظلمة الشرك منها كما قال تعالى :
{ قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم } و
قال تعالى : { فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل
معه أولئك هم المفلحون } و في هذا المعنى يقول العباس في أبياته المشهورة
السائرة :
( و أنت لما ولدت أشرقت الأرض ... و ضاءت بنورك الأفق )
( فنحن في ذلك الضياء و في النـ ... ور و سبل الرشاد نخترق )
و أما إضاءة قصور بصرى بالنور الذي خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من
نور نبوته بأنها دار ملكه كما ذكر كعب أن في الكتب السابقة محمد رسول الله
مولده بمكة و مهاجره يثرب و ملكه بالشام فمن مكة بدئت نبوة محمد صلى الله
عليه و سلم و إلى الشام ينتهي ملكه و لهذا أسري به صلى الله عليه و سلم
إلى الشام إلى بيت المقدس كما هاجر إبراهيم عليه الصلاة و السلام من قبله
إلى الشام قال بعض السلف : ما بعث الله نبيا إلا من الشام فإن لم يبعثه
منها هاجر إليها و في آخر الزمان يستقر العلم و الإيمان بالشام فيكون نور
النبوة فيها أظهر منه في سائر بلاد الإسلام
و خرج الإمام أحمد من
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص و أبي الدرداء و خرج الحاكم من حديث عبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
: رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو عمود ساطع
عمد به إلى الشام ألا و إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام ]
و في
المسند و الترمذي و غيرهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ستكون
هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم يعني الشام و بالشام
ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان و هو المبشر بمحمد صلى الله
عليه و سلم و يحكم به و لا يقبل من أحد غير دينه فيكسر الصليب و يقتل
الخنزير و يضع الجزية و يصلي خلف إمام المسلمين و يقول : إن هذه الأمة
أئمة بعضهم لبعض ] إشارة إلى أنه متبع لدينهم غير ناسخ له و الشام هي في
آخر الزمان أرض المحشر و المنشر فيحشر الناس إليهم قبل القيامة من أقطار
الأرض فيهاجر خيار أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم و هي أرض الشام طوعا كما
تقدم أن خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم و قال صلى الله عليه و سلم :
[ عليكم بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده ]
خرجه الإمام أحمد و أبو داود و ابن حبان و الحاكم في صحيحهما و قال أبو
أمامة : لا تقوم الساعة حتى ينتقل خيار أهل العراق إلى الشام و شرار أهل
الشام إلى العراق و خرجه الإمام أحمد
و قد ثبت في الصحيحين [ عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض
الحجاز فتضيء لها أعناق الإبل ببصرى ] و قد خرجت هذه النار بالحجاز بقرب
المدينة و رؤيت أعناق الإبل من ضوءها ببصرى في سنة أربع و خمسين و ستمائة
و عقيبها جرت واقعة بغداد و قتل بها الخليفة و عامة من كان ببغداد و تكامل
خراب أهل العراق على أيدي التتار و هاجر خيار أهلها إلى الشام من حينئذ
فأما شرار الناس فتخرج نار في آخر الزمان تسوقهم إلى الشام قهرا حتى تجتمع
الناس كلها بالشام قبل قيام الساعة
و في سنن أبي داود [ عن أبي
الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن فسطاط
المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن
الشام ] و خرجه الحاكم و لفظه : [ خير منازل المسلمين يومئذ ]
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى