لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى Empty كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى {السبت 4 يونيو - 16:20}

ص -41- ضعف إلى أضعاف كثيرة وباب المحظور السيئة فيه بمثلها وهى بصدد
الزوال بالتوبة والاستغفار والحسنة الماحية والمصيبة المكفرة واستغفار
الملائكة للمؤمنين واستغفار بعضهم لبعض وغير ذلك وهذا يدل على أنه أحب إلى
الله من عدم المنهى.
الثانى عشر: ان باب المنهيات يمحوه الله سبحانه ويبطل أثره بأمور عديدة من
فعل العبد وغيره فإنه يبطله بالتوبة النصوح وبالاستغفار وبالحسنات الماحية
وبالمصائب المكفرة وباستغفار الملائكة وبدعاء المؤمنين فهذه ستة في حال
حياته وبتشديد الموت وكربه وسياقه عليه فهذا عند مفارقته الدنيا وبهول
المطلع وروعة الملكين في القبر وضغطته وعصرته له وشدة الموقف وعنائه
وصعوبته وبشفاعة الشافعين فيه وبرحمة أرحم الراحمين له فإن عجزت عنه هذه
الأمور فلا بد له من دخول النار ويكون لبثه فيها على قدر بقاء خبثه ودرنه
فإن الله حرم الجنة الا على كل طيب فما دام درنه ووسخه وخبثه فيه فهو في
كير التطهير حتى يتصفى من ذلك الوسخ والخبث وأما باب المأمورات فلا يبطله
إلا الشرك.
الثالث عشر: أن جزاء المأمورات الثواب وهو من باب الاحسان والفضل والرحمة
وجزاء المنهيات العقوبة وهى من باب الغضب والعدل ورحمته سبحانه تغلب غضبه
فما تعلق بالرحمة والفضل أحب اليه مما تعلق بالغضب والعدل وتعطيل ما تعلق
بالرحمة أكره اليه من فعل ما تعلق بالغضب.
الرابع عشر: ان باب المنهيات تسقط الآلاف المؤلفة منه الواحدة من
المأمورات وباب المأمورات لا يسقط الواحدة منه الآلاف المؤلفة من المنهيات.
الخامس عشر: ان متعلق المأمورات الفعل وهو صفة كمال بل كمال المخلوق من
فعاله فإنه فعل فكمل ومتعلق النهى الترك والترك عدم ومن حيث هو كذلك لا
يكون كمالا فإن العدم المحض ليس بكمال وانما يكون كمالا لما يتضمنه أو
يستلزمه من الفعل الوجودى الذى


ص -42- هو سبب الكمال وأما أن يكون مجرد الترك الذى هو عدم محض
كمالا أو سببا للكمال فلا مثال ذلك لو ترك السجود للضم لم يكن كماله في
مجرد هذا الترك ما لم يكن يسجد لله والا فلو ترك السجود لله وللصنم لم يكن
ذلك كمالا وكذلك لو ترك تكذيب الرسول ومعاداته لم يكن بذلك مؤمنا ما لم
يفعل ضد ذلك من التصديق والحب وموالاته وطاعته فعلم أن الكمال كله في
المأمور وان المنهى ما لم يتصل به فعل المأمور لم يفد شيئا ولم يكن كمالا
فإن الرجل لو قال للرسول لا أكذبك ولا أصدقك ولا أواليك ولا أعاديك ولا
أحاربك ولا أحارب من يحاربك لكان كافرا ولم يكن مؤمنا بترك معاداته
وتكذيبه ومحاربته ما لم يأت بالفعل الوجودى الذى أمر به.
السادس عشر: ان العبد اذا أتى بالمأمور به على وجهه ترك المنهى عنه ولا بد
فالمقصود انما هو فعل المأمور ومع فعله على وجهه يتعذر فعل المنهى فالمنهى
عنه في الحقيقة هو تعريض المأمور للإضاعة فإن العبد اذا فعل ما أمر به من
العدل والعفة وامتنع من صدور الظلم والفواحش منه فنفس العدل يتضمن ترك
الظلم ونفس العفة تتضمن ترك الفواحش فدخل ترك المنهى عنه في المأمور به
ضمنا وتبعا وليس كذلك في عكسه فان ترك المحظور لا يتضمن فعل المأمور فإنه
قد يتركهما معا كما تقدم فعلم أن المقصود هو إقامة الأمر على وجهه ومع ذلك
لا يمكن ارتكاب النهى البتة وأما ترك المنهى عنه فإنه يستلزم اقامة الأمر
السابع عشر: ان الرب تعالى اذا أمر عبده بأمر ونهاه عن أمر ففعلهما جميعا
كان قد حصل محبوب الرب وبغيضه فقد تقدم له من محبوبه ما يدفع عنه شر بغيضه
ومقاومته ولا سيما اذا كان فعل ذلك المحبوب أحب اليه من ترك ذلك البغيض
فيهب له من جنايته ما فعل من هذا بطاعته ويتجاوز له عما فعل من الآخر
ونظير هذا في الشاهد أن يقتل الرجل عدوا للملك هو حريص على



ص -43- قتله وشرب مسكرا نهاه عن شربه فإنه يتجاوز له عن هذه
الزلة بل عن أمثالها في جنب ما أتى به من محبوبه وأما اذا ترك محبوبه
وبغيضه فإنه لا يقوم ترك بغيضه بمصلحة فعل محبوبه أبدا كما اذا أمر الملك
عبده بقتل عدوه ونهاه عن شرب مسكر فعصاه في قتل عدوه مع قدرته عليه وترك
شرب المسكر فإن الملك لا يهب له جرمه بترك أمره في جنب ترك ما نهاه عنه
وقد فطر الله عباده على هذا فهكذا السادات مع عبيدهم والآباء مع أولادهم
والملوك مع جندهم والزوجات مع أزواجهم ليس التارك منهم محبوب الامر
ومكروهه بمنزلة الفاعل منهم محبوب أمره ومكروهه.
يوضحه الوجه الثامن عشر: ان فاعل محبوب الرب يستحيل أن يفعل جميع مكروهه
بل يترك من مكروهه بقدر ما أتى به من محبوبه فيستحيل الاتيان بجميع مكروهه
وهو يفعل ما أحبه وأبغضه فغايته أنه اجتمع الأمران فيحبه الرب تعالى من
وجه ويبغضه من وجه أما اذا ترك المأمور به جملة فإنه لم يقم به ما يحبه
الرب عليه فإن مجرد ترك المنهى لا يكون طاعة الا باقترانه بالمأمور كما
تقدم فلا يحبه على مجرد الترك وهو سبحانه يكرهه ويبغضه على مخالفة الأمر
فصار مبغوضا للرب تعالى من كل وجه إذ ليس فيه ما يحبه الرب عليه فتأمله.
يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أن الله سبحانه لم يعلق محبته إلا بأمر وجودى
أمر به ايجابا أو استحبابا ولم يعلقها بالترك من حيث هو ترك ولا في موضع
واحد فإنه يحب التوابين ويحب المحسنين ويحب الشاكرين ويحب الصابرين ويحب
المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ويحب
المتقين ويحب الذاكرين ويحب المتصدقين فهو سبحانه انما علق محبته بأوامره
اذ هى المقصود من الخلق والأمر كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فما خلق الخلق الا لقيام أوامره وما
نهاهم الا عما يصدهم عن قيام أوامره ويعوقهم عنها.



ص -44- يوضحه الوجه العشرون: أن المنهيات لو لم تصد عن المأمورات
وتمنع وقوعها على الوجه الذى أمر الله بها لم يكن للنهى عنها معنى وانما
نهى عنها لمضادتها لأ2وامره وتعويقها لها وصدها عنها فالنهى عنها من باب
التكميل والتتمة للمأمور فهو بمنزلة تنظيف طرق الماء ليجرى في مجاريه غير
معوق فالأمر بمنزلة الماء الذى أرسل في نهر لحياة البلاد والعباد والنهى
بمنزلة تنظيف طرقه ومجراه وتنقيتها مما يعوق الماء والأمر بمنزلة القوة
والحياة والنهى بمنزلة الحمية الحافظة للقوة والداء والخادم لها
قالوا واذا تبين أن فعل المأمور أفضل فالصبر عليه أفضل أنواع الصبر وبه
يسهل عليه الصبر عن المحظور والصبر على المقدور فإن الصبر الا على يتضمن
الصبر الأدنى دون العكس وقد ظهر لك من هذا أن الأنواع الثلاثة متلازمة وكل
نوع منها يعين على النوعين الآخرين وان كان من الناس من قوة صبره على
المقدور فإذا جاء الأمر والنهى فقوة صبره هناك ضعيفة ومنهم من هو بالعكس
من ذلك ومنهم من قوة صبره في جانب الامر أقوى ومنهم من هو بالعكس والله
أعلم



عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب العاشر في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم


الباب العاشر: في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم
الصبر ينقسم إلى قسمين: قسم مذموم وقسم ممدوح:
فالمذموم: الصبر عن الله وارادته ومحبته وسير القلب اليه فإن هذا الصبر
يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية وتفويت ما خلق له وهذا كما أنه أقبح الصبر
فهو أعظمه وأبلغه فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذى لا حياة
له بدونه البتة كما أنه لا زهد أبلغ من زهد الزاهد فيما أعد الله لأوليائه
من كرامته مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالزهد في هذا
أعظم أنواع الزهد كما قال رجل لبعض الزاهدين وقد تعجب لزهده "ما رأيت أزهد
منك!" فقال: "أنت أزهد

ص -45- منى أنا زهدت في الدنيا وهى لا بقاء لها ولا وفاء وأنت زهدت في
الآخرة فمن أزهد منا" قال يحيى بن معاذ الرازى "صبر المحبين أعجب من صبر
الزاهدين واعجبا كيف يصبرون!" وفي هذا قيل


الصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد
ووقف رجل على الشبلى فقال: أى صبر أشد على الصابرين فقال الصبر في الله
قال لا فقال الصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله قال لا قال فإيش هو قال
الصبر عن الله فصرخ الشبلى صرخة كادت روحه تزهق.
وقيل: الصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد أجمع الناس على أن
الصبر عن المحبوب غير محمود فكيف إذا كان كمال العبد وفلاحه في محبته ولم
تزل الأحباب تعيب المحبين بالصبر عنهم كما قيل:
والصبر عنك فمذموم عواقبه والصبر في سائر الأشياء محمود
وقال آخر في الصبر عن محبوبه
إذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحب يلعب بالرجال
وكيف الصبر عمن حل منى بمنزلة اليمين مع الشمال
وشكا آخر إلى محبوبه ما يقاسي من حبه فقال: لو كنت صادقا لما صبرت عنى.
ولما شكوت الحب قالت كذبتنى ترى الصب عن محبوبه كيف يصبر

فصل: وأما الصبر المحمود فنوعان: صبر لله وصبر بالله قال الله
تعالى {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّه} وقال {وَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقد تنازع الناس أي الصبرين
أكمل فقالت طائفة الصبر له أكمل فإن ما كان لله أكمل مما كان بالله فإن ما
كان له فهو غاية وما كان به فهو وسيلة والغايات أشرف من الوسائل ولذلك وجب
الوفاء بالنذر إذا كان تبرر أو تقربا إلى الله لأنه نذر

رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى Empty رد: كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى {السبت 4 يونيو - 16:21}

ص -46- له ولم يجب الوفاء به إذا خرج مخرج اليمين لأنه حلف به فما كان له
سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق
بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجى من
الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله
وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو
عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته.
وقالت طائفة: الصبر بالله أكمل بل لا يمكن الصبر له إلا بالصبر به كما قال
تعالى { وَاصْبِرْ } فأمره بالصبر والمأمور به هو الذى يفعل لأجله ثم قال
{ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } فهذه جملة خبرية غير الجملة الطلبية
التى تقدمتها أخبر فيها انه لا يمكنه الصبر الا به وذلك يتضمن أمرين
الاستعانة به والمعية الخاصة التى تدل عليها باء المصاحبة كقوله فبي يسمع
وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى وليس المراد بهذه الباء الاستعانة فإن هذا أمر
مشترك بين المطيع والعاصى فإن مالا يكون بالله لا يكون بل هى باء المصاحبة
والمعية التى صرح بمضمونها في قوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
وهى المعية الحاصلة لعبده الذى تقرب اليه بالنوافل حتى صار محبوبا له فبه
يسمع وبه يبصر وكذلك به يصبر فلا يتحرك ولا يسكن ولا يدرك إلا والله معه
ومن كان كذلك أمكنه الصبر له وتحمل الأثقال لأجله كما في الأثر الإلهى
يعنى "وما يتحمل المتحملون من


أجلى" فدل قوله { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } على انه من
لم يكن الله معه لم يمكنه الصبر وكيف يصبر على الحكم الأمرى امتثالا
وتنفيذا وتبليغا وعلى الحكم القدرى احتمالا له واضطلاعا به من لم يكن الله
معه فلا يطمع في درجة الصبر المحمود عواقبه من لم يكن صبره بالله كما لا
يطمع في درجة التقرب المحبوب من لم يكن سمعه وبصره وبطشه ومشيه بالله
وهذا هو المراد من قوله: "كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده
التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها" ليس المراد انى كنت



ص -47- نفس هذه الاعضاء والقوى كما يظنه أعداء الله أهل الوحدة
وان ذات العبد هى ذات الرب تعالى الله عن قول اخوان النصارى علوا كبيرا
ولو كان كما يظنون لم يكن فرق بين هذا العبد وغيره ولا بين حالتى تقربه
إلى ربه بالنوافل وتمقته اليه بالمعاصى بل لم يكن هناك متقرب ومتقرب اليه
ولا عبد ولا معبود ولا محب ولا محبوب فالحديث كله مكذب لدعواهم الباطلة من
نحو ثلاثين وجها تعرف بالتأمل الظاهر وقد فسر المراد من قوله: "كنت سمعه
وبصره ويده ورجله" بقوله: "فبي يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى" فعبر عن
هذه المصاحبة التى حصلت بالتقرب اليه بمحابه بألطف عبارة وأحسنها تدل على
تأكد المصاحبة ولزومها حتى صار له بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله
ونظير هذا قوله:"الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما
صافح الله وقبل يمينه".
ومثل هذا سائغ في الاستعمال أن ينزل إلى منزلة ما يصاحبه ويقارنه حتى يقول
المحب للمحبوب أنت روحى وسمعى وبصرى وفي ذلك معنيان أحدهما أنه صار منه
بمنزلة روحه وقلبه وسمعه وبصره والثانى أن محبته وذكره لما استولي على
قلبه وروحه صار معه وجليسه كما في الحديث "يقول الله تعالى: أنا جليس من
ذكرنى" وفي الحديث الآخر "أنا مع عبدى ما ذكرنى وتحركت بى شفتاه" وفي
الحديث "فإذا أحببت عبدى كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا" ولا يعبر عن هذا
المعنى بأتم من هذه العبارة ولا أحسن ولا ألطف منها وإيضاح هذه العبارة
مما يزيدها جفاء وخفاء.
والمقصود انما هو ذكر الصبر بالله وأن العبد بحسب نصيبه من معية الله له
يكون صبره واذا كان الله معه أمكن أن يأتى من الصبر بما لا يأتى به غيره
قال أبو على فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته قال
تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.



ص -48- وها هنا سر بديع وهو أن من تعلق بصفة من صفات الرب تعالى
أدخلته تلك الصفة عليه وأوصلته اليه والرب تعالى هو الصبور بل لا أحد أصبر
على أذى سمعه منه وقد قيل ان الله سبحانه أوحى إلى داود "تخلق بأخلاق فإن
من أخلاقى انى أنا الصبور" والرب تعالى يحب أسماءه وصفاته ويحب مقتضى
صفاته وظهور آثارها في العبد فإنه جميل يحب الجمال عفو يحب أهل العفو كريم
يحب أهل الكرم عليم يحب أهل العلم وتر يحب أهل الوتر قوى والمؤمن القوى
أحب إليه من المؤمن الضعيف صبور يحب الصابرين شكور يحب الشاكرين واذا كان
سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف
فهذه المعية الخاصة عبر عنها بقوله "كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا".
فصل: وزاد بعضهم قسما ثالثا من أقسام الصبر وهو الصبر مع الله وجعلوه أعلى
أنواع الصبر وقالوا هو الوفاء ولو سئل هذا عن حقيقة الصبر مع الله لما
أمكنه أن يفسره بغير الأنواع الثلاثة التى ذكرت وهى الصبر على أقضيته
والصبر على أوامره والصبر عن نواهيه فإن زعم أن الصبر مع الله هو الثبات
معه على أحكامه يدور معها حيث دارت فيكون دائما مع الله لا مع نفسه فهو مع
الله بالمحبة والموافقة فهذا المعنى حق ولكن مداره على الصبر على الأنواع
المتقدمة وإن زعم أن الصبر مع الله هو الجامع لأنواع الصبر فهذا حق ولكن
جعله قسما رابعا من أقسام الصبر غير مستقيم.
واعلم أن حقيقة الصبر مع الله هو ثبات القلب بالاستقامة معه وهو أن لا
يروغ عنه روغان الثعالب ها هنا وها هنا فحقيقة هذا هو الاستقامة اليه
وعكوف القلب عليه وزاد بعضهم قسما آخر من اقسامه وسماه الصبر فيه وهذا
أيضا غير خارج عن أقسام الصبر المذكورة ولا يعقل من الصبر فيه معنى غير
الصبر له وهذا كما يقال فعلت هذا في الله وله كما قال خبيب:



ص -49- وقد قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وقال {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} وفي حديث
جابر: "ان الله تعالى لما أحيا أباه وقال له تمن قال يا رب أن ترجعنى إلى
الدنيا حتى أقتل فيك مرة ثانية" وقال "ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد"
وهذا يفهم منه معنيان أحدهما أن ذلك في مرضاته وطاعته وسبيله وهذا فيما
يفعله الإنسان باختياره كما في الحديث "تعلمت فيك العلم" والثاني انه
بسببه وبجهته حصل ذلك وهذا فيما يصيبه بغير اختياره وغالب ما يأتى قولهم
"ذلك في الله" في هذا المعنى فتأمل قوله "ولقد أوذيت في الله" وقول خبيب
وذلك "في ذات الإله" وقول عبد الله بن حزام "حتى أقتل فيك" وكذلك قوله
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} فإنه يترتب عليه الأذى فيه سبحانه.
وليست في ها هنا للظرفية ولا لمجرد السببية وان كانت السببية هي أصلها
فانظر إلى قوله "في نفس المؤمن مائة من الإبل" وقوله "دخلت امرأة النار في
هرة" كيف تجد فيه معنى زائدا على السببية وليست في للوعاء في جميع معانيها
فقولك "فعلت هذا في مرضاتك" فيه معنى زيد على قولك "فعلته لمرضاتك" وأنت
اذا قلت "أوذيت في الله" لا يقوم مقام هذا اللفظ كقولك "أوذيت لله" ولا
"بسبب الله" وإذا فهم المعنى طوى حكم العبارة والمقصود ان الصبر في الله
ان أريد به هذا المعنى فهو حق وان أريد به معنى خارج عن الصبر على أقضيته
وعلى أوامره وعن نواهيه وله وبه لم يحصل فالصابر في الله كالمجاهد في الله
والجهاد فيه لا يخرج عن معنى الجهاد به وله والله الموفق.
وأما قول بعضهم"الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر في



ص -50- الله بلاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء"
فكلام لا يجب التسليم لقائله لأنه ذكر ما سنح له وتصوره وانما يجب التسليم
للنقل المصدق عن القائل المعصوم ونحن نشرح هذه الكلمات.
أما قوله"الصبر لله غناء" فإن الصبر لله بترك حظوظ النفس ومرادها لمراد
الله وهذا أشق شيء على النفس وأصعبه فإن قطع المفازة التي بين النفس وبين
الله بحيث يسير منها إلى الله شديد جدا على النفس بخلاف السفر إلى الآخرة
فإنه سهل كما قال الجنيد"السير من الدنيا إلى الآخرة سهل يعنى على المؤمن
وهجران الخلق في جنب الحق شديد والسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر
مع الله أشد"
وأما قوله:"والصبر بالله بقاء" فلأن العبد اذا كان بالله هان عليه كل شيء
ويتحمل الأثقال ولم يجد لها ثقلا فإنه اذا كان بالله لا بالخلق ولا بنفسه
كان لقلبه وروحه وجود آخر وشأن آخر غير شأنه اذا كان بنفسه وبالخلق وبهذا
الحال لا يجد عناء الصبر ولا مرارته وتنقلب مشاق التكليف له نعيما وقرة
عين كما قال بعض الزهاد عالجت قيام الليل سنة وتنعمت به عشرين سنة ومن
كانت قرة عينه في الصلاة لم يجد لها مشقة وكلفة.
وأما قوله:"والصبر في الله بلاء" فالبلاء فوق العناء والصبر فيه فوق الصبر
له وأخص منه كما تقدم فإن الصبر فيه بمنزلة الجهاد فيه وهو أشق من الجهاد
له فكل مجاهد في الله وصابر في الله مجاهد له وصابر له من غير عكس فإن
الرجل قد يجاهد ويصبر لله مرة ليقع عليه اسم من فعل ذلك لله ولا يقع عليه
اسم من فعل ذلك في الله وإنما يقع على من انغمس في الجهاد والصبر ودخل
الجنة.
وأما قوله:"والصبر مع الله وفاء" فلأن الصبر معه هو الثبات معه على أحكامه
ولا يزيغ القلب عن الإنابة ولا الجوارح عن الطاعة فتعطى
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى Empty رد: كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى {السبت 4 يونيو - 16:21}


ص -51- المعية حقها من التوفية كما قال تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى} أى وفي ما أمر به بصبره مع الله على أوامره.
وأما قوله:"والصبر عن الله جفاء" فلا جفاء أعظم ممن صبر عن معبوده وإلهه
ومولاه الذى لا مولى له سواه ولا حياة له ولا صلاح ولا نعيم إلا بمحبته
والقرب منه وايثار مرضاته على كل شيء فأي جفاء أعظم من الصبر عنه وهذا
معنى قول من قال الصبر على ضد بين صبر العابدين وصبر المحبين فصبر
العابدين أحسنه أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه أن يكون مرفوضا كما قيل:
يبين يوم البين ان اعتزامه على الصبر من احدى الظنون الكواذب
وقال الآخر:
ولما دعوت الصبر بعدك والبكا أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
قالوا: ويدل عليه أن يعقوب صلوات الله وسلامه عليه قال فصبر جميل ورسول
الله اذا وعد وفى ثم حمله الوجد على يوسف والشوق اليه أن قال {يا أسفا على
يوسف} فلم يكن عدم صبره عنه منافيا لقوله {فصبر جميل} فإن الصبر الجميل هو
الذي لا شكوى معه ولا تنافيه الشكوى إلى الله سبحانه وتعالى فإنه قد قال
{إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} والله تعالى أمر رسوله بالصبر الجميل وقد
امتثل ما أمر به وقال "اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي" الحديث وأما
قول بعضهم إن الصبر الجميل ان يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو
فهذا من الصبر الجميل لأن من فقده فقد الصبر الجميل فإن ظهور اثر المصيبة
على العبد مما لا يمكن دفعه البتة وبالله التوفيق
وزاد بعضهم في الصبر قسما آخر وسماه الصبر على الصبر وقال هو ان يستغرق في
الصبر حتى يعجزالصبر عن الصبر كما قيل:
صابر الصبر فاستغاث به الصبر فصاح المحب بالصبر صبرا

ص -52- وليس هذا خارجا عن أقسام الصبر وإنما هو المرابطة على الصبر
والثبات عليه والله أعلم



عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الحادي عشر في الفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام


الباب الحادي عشر: في الفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام
كل أحد لا بد أن يصبر على بعض ما يكره إما اختيارا وإما اضطرارا فالكريم
يصبر اختيارا لعلمه بحسن عاقبة الصبر وأنه يحمد عليه ويذم على الجزع وأنه
ان لم يصبر لم يرد الجزع عليه فائتا ولم ينتزع عنه مكروها وان المقدور لا
حيلة في دفعه وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله فالجزع ضره أقرب من نفعه قال
بعض العقلاء: "العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر" كما
قيل
وأن الأمر يفضى إلى آخر فيصير آخره أولا
فإذا كان آخر الأمر الصبر والعبد غير محمود فما أحسن به أن يستقبل الأمر
في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره وقال بعض العقلاء من لم يصبر صبر
الكرام سلا سلو البهائم فالكريم ينظر إلى المصيبة فإن رأى الجزع يردها
ويدفعها فهذا قد ينفعه الجزع وان كان الجزع لا ينفعه فإنه يجعل المصيبة
مصيبتين.
فصل: وأما اللئيم فإنه يصبر اضطرارا فإنه يحوم حول ساحة الجزع فلا يراها
تجدى عليه شيئا فيصبر صبر الموثق للضرب وأيضا فالكريم يصبر في طاعة الرحمن
واللئيم يصبر في طاعة الشيطان فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم
وشهواتهم وأقل الناس صبرا في طاعة ربهم فيصبر على البذل في طاعة الشيطان
أتم صبر ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء ويصبر في تحمل
المشاق لهوى نفسه في مرضاة عدوه ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة ربه
ويصبر على ما يقال في عرضه



ص -53- في المعصية ولا يصبر على ما يقال في عرضه اذا أوذى في
الله بل يفر من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر خشية أن يتكلم في عرضه في
ذات الله ويبذل عرضه في هوى نفسه ومرضاته صابرا على ما يقال فيه وكذلك
يصبر على التبذل بنفسه وجاهه في هوى نفسه ومراده ولا يصبر على التبذل لله
في مرضاته وطاعته فهو أصبر شيء على التبذل في طاعة الشيطان ومراد النفس
وأعجز شيء عن الصبر على ذلك في الله وهذا أعظم اللؤم ولا يكون صاحبه كريما
عند الله ولا يقوم مع أهل الكرم اذا نودى بهم يوم القيامة على رءوس
الاشهاد ليعلم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم أين المتقون



عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثاني عشر في الأسباب التي تعين على الصبر


الباب الثاني عشر: في الأسباب التى تعين على الصبر
لما كان الصبر مأمورا به جعل الله سبحانه له أسبابا تعين عليه وتوصل اليه
وكذلك ماأمر الله سبحانه بالأمر إلا أعان عليه ونصب له أسبابا تمده وتعين
عليه كما أنه ما قدر داءا الا وقدر له دواء او ضمن الشفاء باستعماله
فالصبر وان كان شاقا كريها على النفوس فتحصيله ممكن وهو يتركب من مفردين
العلم والعمل فمنهما تركب جميع الادوية التى تداوى بها القلوب والأبدان
فلا بد من جزء علمي وجزء عملى فمنها يركب هذا الدواء الذى هو أنفع الادوية
فأما الجزء العلمي فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة
والكمال وإدراك ما في المحظور من الشر والضر والنقص فإذا أدرك هذين
العلمين كما ينبغى أضاف اليهما العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة
والمروءة الإنسانية وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء فمتى فعل ذلك حصل له
الصبر وهانت عليه مشاقه وحلت له مرارته وانقلب ألمه لذة وقد تقدم أن الصبر
مصارعة باعث العقل والدين لباعث الهوى والنفس وكل متضارعين أراد أن يتغلب
أحدهما على الآخر فالطريق فيه تقوية من أراد أن تكون الغلبة له ويضعف
الآخر كالحال مع



ص -54- القوة والمرض سواء فإذا قوى باعث شهوة الوقاع المحرم وغلب
بحيث لا يملك معها فرجه أو يملكه ولكن لا يملك طرفه أو يملكه ولكن لا يملك
قلبه بل لا يزال يحدثه بما هناك ويعده ويمنيه ويصرفه عن حقائق الذكر
والتفكر فيما ينفعه في دنياه وآخرته فإذا عزم على التداوى ومقاومة هذا
الداء فليضعفه أولا بأمور:
أحدهما أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة فيحدها من الاغذية المحركة للشهوة إما
بنوعها أو بكميتها وكثرتها ليحسم هذه المادة بتقليلها فإن لم تنحسم
فليبادر إلى الصوم فإنه يضعف مجارى الشهوة ويكسر حدتها ولا سيما إذا كان
أكله وقت الفطر معتدلا
الثانى: أن يجتذب محرك الطلب وهو النظر فليقصر لجام طرفه ما أمكنه فإن
داعى الإرادة والشهوة انما يهيج بالنظر والنظر يحرك القلب بالشهوة وفي
المسند عنه: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس" وهذا السهم يشرده إبليس نحو
القلب ولا يصادف جنة دونه وليست الجنة الا غض الطرف أو التحيز والانحراف
عن جهة الرمى فإنه انما يرمى هذا السهم عن قوس الصور فاذا لم تقف على
طريقها أخطأ السهم وان نصبت قلبك غرضا فيوشك أن يقتله سهم من تلك السهام
المسمومة.
الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام فإن كل ما يشتهيه الطبع
ففيهما أباحه الله سبحانه غنية عنه وهذا هو الدواء النافع في حق أكثر
الناس كما أرشد اليه النبي فالدواء الأول يشبه قطع العلف عن الدابة الجموح
وعن الكلب الضارى لإضعاف قوتهما والدواء الثانى يشبه تغييب اللحم عن الكلب
والشعير عن البهيمة لئلا تتحرك قوتهما له عند المشاهدة والدواء الثالث
يشبه إعطائهما من الغذاء ما يميل اليه طبعهما



ص -55- بحسب الحاجة لتبقى معه القوة فتطيع صاحبهما ولا تغلب
باعطائها الزيادة على ذلك
الرابع: التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر فانه لو
لم يكن جنة ولا نار لكان في المفاسد الدنيوية ما ينهى عن إجابة هذا الداعى
ولو تكلفنا عدها لفاقت الحصر ولكن عين الهوى عمياء.
الخامس الفكرة في مقابح الصورة التى تدعوه نفسه اليها إن كانت معروفة
بالإجابة له ولغيره فيعز نفسه أن يشرب من حوض ترده الكلاب والذئاب كما قيل:
سأترك وصلكم شرفا وعزا لخسة سائر الشركاء فيه
وقال آخر
إذ كثر الذباب على طعام رفعت يدى ونفسى تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب يلغن فيه
وليذكر مخالطة ريقه لريق كل خبيث ريقه الداء الدوى فان ريق الفاسق داء كما
قيل:
تسل يا قلب عن سمح بمهجته مبذل كل من يلقاه يقرفه
كالماء أى صيد يأتيه ينهله والغصن أى نسيم من يعطفه
وان حلا ريق فاذكر مرارته في فم أبخر يحفيه ويرشفه
ومن له أدنى مروءة ونخوة يأنف لنفسه من مواصلة من هذا شأنه فإن لم تجبه
نفسه إلى الإعراض ورضى بالمشاركة فلينظر إلى ما وراء هذا اللون والجمال
الظاهر من القبائح الباطنة فإن من مكن نفسه من فعل القبائح فنفسه أقبح من
نفوس البهائم فإنه لا يرضى لنفسه بذلك حيوان من الحيوانات أصلا الا ما
يحكى عن الخنزير وأنه ليس في البهائم لوطى سواه فقد رضى هذا الممكن من
نفسه انه يكون بمنزلة الخنزير وهذا



ص -56- القبح يغطى كل جمال وملاحة في الوجه والبدن غير أن حبك
الشيء عمى ويصم وان كانت الصورة أنثى فقد خانت الله ورسوله وأهلها وبعلها
ونفسها وأورثت ذلك لمن بعدها من ذريتها فلها نصيب من وزرهم وعارهم ولا
نسبة لجمال صورتها إلى هذا القبح البتة وإذا أردت معرفة ذلك فانظر إلى
القبح الذى يعلو وجه أحدهما في كبره وكيف يقلب الله سبحانه تلك المحاسن
مقابح حتى تعلو الوحشة والقبح وجهه كما قيل شعرا:
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذى يسبيه لم يسبه
وتفصيل هذه الوجوه يطول جدا فيكفي ذكر أصولها.
فصل: أما تقوية باعث الدين فإنه يكون بأمور:
أحدهما: إجلال الله تبارك وتعالى أن يعصى وهو يرى ويسمع ومن قام بقلبه
مشهد إجلاله لم يطاوعه قلبه لذلك البتة.
الثاني: مشهد محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له فإن المحب لمن يحب مطيع
وأفضل الترك ترك المحبين كما أن أفضل الطاعة طاعة المحبين فبين ترك المحب
وطاعته وترك من يخاف العذاب وطاعته بون بعيد.
الثالث: مشهد النعمة والإحسان فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه
وإنما يفعل هذا لئام الناس فليمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن
معصيته حياء منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلا اليه ومخالفاته ومعاصيه
وقبائحه صاعدة إلى ربه فملك ينزل بهذا وملك يعرج بذاك فأقبح بها من مقابلة.
الرابع: مشهد الغضب والانتقام فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته
غضب وإذا غضب لم يقم لغضبه شيء فضلا عن هذا العبد الضعيف.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى Empty رد: كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى {السبت 4 يونيو - 16:22}


ص -57- الخامس: مشهد الفوات وهو ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا
والآخرة وما يحدث له بها من كل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا ويزول عنه من
الأسماء الممدوحة شرعا وعقلا وعرفا ويكفي في هذا المشهد مشهد فوات الإيمان
الذي أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا وما فيها أضعافا مضاعفة فكيف أن
يبيعه بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعتها تذهب الشهوة وتبقى الشقوة وقد صح عن
النبي أنه قال: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن" قال بعض الصحابة ينزع
منه الإيمان حتى يبقى على رأسه مثل الظلة فإن تاب رجع اليه وقال بعض
التابعين ينزع عنه الإيمان كما ينزع القميص فإن تاب لبسه ولهذا روى عن
النبي في الحديث الذى رواه البخارى: "الزناة في التنور عراة" لأنهم تعروا
من لباس الإيمان وعاد تنور الشهوة الذى كان في قلوبهم تنورا ظاهرا يحمى
عليه في النار.
السادس: مشهد القهر والظفر فان قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة
وفرحة عند من ذاق ذلك أعظم من الظفر بعدوه من الآدميين وأحلى موقعا وأتم
فرحة وأما عاقبته فأحمد عاقبة وهو كعاقبة شرب الدواء النافع الذى أزال داء
الجسد وأعاده إلى صحته واعتداله.
السابع: مشهد العوض وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله
ونهى نفسه عن هواها وليوازنه بين العوض المعوض فأيهما كان أولى بالإيثار
اختاره وارتضاه لنفسه.
الثامن: مشهد المعية وهو نوعان معية عامة ومعية خاصة فالعامة اطلاع الرب
عليه وكونه بعينه لا تخفي عليه حاله وقد تقدم هذا والمقصود هنا المعية
الخاصة كقوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقوله {إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقوله {وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فهذه المعية الخاصة خير وأنفع في دنياه
وآخرته ممن فضى وطره ونيل شهوته على التمام من أول عمره إلى آخره فكيف
يؤثر عليها لذة



ص -58- منغصة منكدة في مدة يسيرة من العمر انما هى كأحلام نائم
أو كظل زائل.
التاسع: مشهد المغافصة والمعاجلة وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل فيأخذه الله
على غرة فيحال بينه وبين ما يشتهى من لذات الآخرة فيا لها من حسرة ما
أمرها وما أصعبها لكن ما يعرفها الا من جربها وفي بعض الكتب القديمة يامن
لا يأمن على نفسه طرفة عين ولا يتم له سرور يوم الحذر الحذر.
العاشر: مشهد البلاء والعافية فان البلاء في الحقيقة ليس الا الذنوب
وعواقبها والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها فأهل البلاء هم أهل
المعصية وان عوفيت أبدانهم وأهل العافية هم أهل الطاعة وان مرضت أبدانهم
وقال بعض أهل العلم في الأثر المروى إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله
العافية فإن أهل البلاء المبتلون بمعاصى الله والأعراض والغفلة عنه وهذا
وإن كان أعظم البلاء فاللفظ يتناول انواع المبتلين في أبدانهم وأديانهم
والله أعلم.
الحادي عشر: أن يعود باعث الدين ودواعيه مصارعة داعى الهوى ومقاومته على
التدريج قليلا قليلا حتى يدرك لذة الظفر فتقوى حينئذ همته فإن من ذاق لذة
شئ قويت همته في تحصيله والاعتياد لممارسة الأعمال الشاقة تزيد القوى التى
تصدر عنها تلك الأعمال ولذلك تجد قوى الحمالين وأرباب الصنائع الشاقة
تتزايد بخلاف البزاز والخياط ونحوهما ومن ترك المجاهدة بالكلية ضعف فيه
باعث الدين وقوى فيه باعث الشهوة ومتى عود نفسه مخالفة الهوى غلبه متى
أراد.
الثانى عشر: كف الباطل عن حديث النفس واذا مرت به الخواطر نفاها ولا
يؤويها ويساكنها فإنها تصير أمانى وهى رءوس أموال المفاليس،



ص -59- ومتى ساكن الخواطر صارت أمانى ثم تقوى فتصير هموما ثم
تقوى فتصير ارادات ثم تقوى فتصير عزما يقترن به المراد فدفع الخاطر الأول
أسهل وأيسر من دفع أثر المقدور بعد وقوعه وترك معاودته.
الثالث عشر: قطع العلائق والأسباب التى تدعوه إلى موافقة الهوى وليس
المراد أن لا يكون له هوى بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه ويستعمله
في تنفيذ مراد الرب تعالى فإن ذلك يدفع عنه شر استعماله في معاصيه فإن كل
شيء من الانسان يستعمله لله فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان وما
لا يستعمله لله استعمله لنفسه وهواه ولا بد فالعلم ان لم يكن لله كان
للنفس والهوى والعمل ان لم يكن لله كان للرياء والنفاق والمال ان لم ينفق
في طاعة الله أنفق في طاعة الشيطان والهوى والجاه ان لم يستعمله لله
استعمله صاحبه في هواه وحظوظه والقوة ان لم يستعملها في أمر الله استعملته
في معصيته فمن عود نفسه العمل لله لم يكن عليه أشق من العمل لغيره ومن عود
نفسه العمل لهواه وحظه لم يكن عليه أشق من الاخلاص والعمل لله وهذا في
جميع أبواب الأعمال فليس شيء أشق على المنفق لله من الإنفاق لغيره وكذا
بالعكس.
الرابع عشر: صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التى ندب عباده إلى التفكر
فيها وهى آياته المتلوة وآياته المجلوة فإذا استولى ذلك على قلبه دفع عنه
محاظرة الشيطان ومحادثته ووسواسه وما أعظم غبن من أمكنه أن لا يزال محاظرا
للرحمن وكتابه ورسوله والصحابة فرغب عن ذلك إلى محاظرة الشيطان من الانس
والجن فلا غبن بعد هذا الغبن والله المستعان.
الخامس عشر: التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب انقضائها فلا يرضى لنفسه
ان يتزود منها إلى دار بقائه وخلوده أخس ما فيها وأقله نفعا إلا ساقط
الهمة دنيء المروءة ميت القلب فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده
وتبين له عدم نفعه له فكيف اذا كان ترك تزود ما ينفعه إلى زاد



ص -60- يعذب به ويناله بسببه غاية الألم بل اذا تزود ما ينفعه
وترك ما هو أنفع منه له كان ذلك حسرة عليه وغبنا.
السادس عشر: تعرضه إلى من القلوب بين أصبعيه وأزمة الأمور بيديه وانتهاء
كل شيء اليه على الدوام فلعله أن يصادف أوقات النفحات كما في الأثر
المعروف: "ان لله في أيام دهره نفحات فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن
يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم" ولعله في كثرة تعرضه أن يصادف ساعة من
الساعات التى لا يسأل الله فيها شيئا الا أعطاه فمن أعطى منشور الدعاء
أعطى الاجابة فإنه لو لم يرد اجابته لما ألهمه الدعاء كما قيل:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفك ما عودتنى الطلبا
ولا يستوحش من ظاهر الحال فإن الله سبحانه يعامل عبده معاملة من ليس كمثله
شيء في أفعاله كما ليس كمثله شيء في صفاته فإنه ما حرمه الا ليعطيه ولا
أمرضه الا ليشفيه ولا أفقره الا ليغنيه ولا أماته الا ليحييه وما أخرج
أبويه من الجنة الا ليعيدهما اليها على أكمل حال كما قيل:"يا آدم لا تجزع
من قولى لك واخرج منها فلك خلقتها وسأعيدك اليها".
فالرب تعالى ينعم على عبده بابتلائه ويعطيه بحرمانه ويصحبه بسقمه فلا
يستوحش عبده من حالة تسوؤه أصلا الا اذا كانت تغضبه عليه وتبعده منه.
السابع عشر: أن يعلم العبد بأن فيه جاذبين متضادين ومحنته بين الجاذبين
جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى من أهل عليين وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين
فكلما انقاد مع الجاذب الأعلى صعد درجة حتى ينتهى إلى حيث يليق به من
المحل الأعلى وكلما انقاد إلى الجاذب الاسفل نزل درجة حتى ينتهى إلى موضعه
من سجين ومتى أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق



ص -61- الأعلى أو الأسفل فلينظر أين روحه في هذا العالم فإنها
اذا فارقت البدن تكون في الرفيق الأعلى الذى كانت تجذبه اليه في الدنيا
فهو أولى بها فالمرء مع من أحب طبعا وعقلا وجزءا وكل مهتم بشئ فهو منجذب
اليه وإلى أهله بالطبع وكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه وقد قال تعالى {قُلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه} فالنفوس العلوية تنجذب بذاتها وهمها
وأعمالها إلى أعلى والنفوس السافلة إلى أسفل.
الثامن عشر: أن يعلم العبد أن تفريغ المحل شرط لنزول غيث الرحمة وتنقيته
من الدغل شرط لكمال الزرع فمتى لم يفرغ المحل لم يصادف غيث الرحمة محلا
قابلا ينزل فيه وان فرغه حتى أصابه غيث الرحمة ولكنه لم ينقه من الدغل لم
يكن الزرع زرعا كاملا بل ربما غلب الدغل على الزرع فكان الحكم له وهذا
كالذى يصلح أرضه ويهيئها لقبول الزرع ويودع فيها البذور وينتظر نزول الغيث
فإذا طهر العبد قلبه وفرغه من ارادة السوء وخواطره وبذر فيه بذر الذكر
والفكر والمحبة والإخلاص وعرضه لمهاب رياح الرحمة وانتظر نزول غيث الرحمة
في أوانه كان جديرا بحصول المغل وكما يقوى الرجاء لنزول الغيث في وقته
كذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة
والأحوال الشريفة ولا سيما اذا اجتمعت الهمم وتساعدت القلوب وعظم الجمع
كجمع عرفة وجمع الاستسقاء وجمع أهل الجمعة فإن اجتماع الهمم والأنفاس
أسباب نصبها الله تعالى مقتضية لحصول الخير ونزول الرحمة كما نصب سائر
الأسباب مقتضية إلى مسبباتها بل هذه الأسباب في حصول الرحمة أقوى من
الأسباب الحسية في حصول مسبباتها ولكن العبد بجهله يغلب عليه الشاهد على
الغائب الحسن وبظلمه يؤثر ما يحكم به هذا ويقتضيه على ما يحكم به الآخر
ويقتضيه ولو فرغ العبد المحل وهيأه وأصلحه لرأى العجائب فإن فضل الله لا
يرده الا المانع الذى في العبد فلو زال ذلك المانع لسارع اليه الفضل من كل
صوب فتأمل حال نهر



ص -62- عظيم يسقى كل أرض يمر عليها فحصل بينه وبين بعض الأرض
المعطشة المجدية سكر وسد كثيف فصاحبها يشكو الجدب والنهر إلى جانب أرضه.
التاسع عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لافناء له ولعز لا
ذل معه وأمن لا خوف فيه وغناء لا فقر معه ولذة لا ألم معها وكمال لا نقص
فيه وأمتحنه في هذه الدار بالبقاء الذى يسرع اليه الفناء والعز الذى
يقارنه الذل ويعقبه الذل والأمن الذى معه الخوف وبعده الخوف وكذلك الغناء
واللذة والفرح والسرور والنعيم الذى هنا مشوب بضده لأنه يتعقبه ضده وهو
سريع الزوال فغلط أكثر الخلق في هذا المقام إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز
والملك والجاه في غير محله ففاتهم في محله وأكثرهم لم يظفر بماطليه ! من
ذلك والذى ظفر به انما هو متاع قليل والزوال قريب فإنه سريع الزوال عنه
والرسل صلوات الله وسلامه عليهم انما جاءوا بالدعوة إلى النعيم المقيم
والملك الكبير فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه فكان عيشه فيها
أطيب من عيش الملوك فمن دونهم فإن الزهد في الدنيا ملك حاضر والشيطان يحسد
المؤمن عليه أعظم حسد فيحرص كل الحرص على أن لا يصل اليه فإن العبد اذا
ملك شهوته وغضبه فانقادا معه لداعى الدين فهو الملك حقا لأن صاحب هذا
الملك حر والملك المنقاد لشهوته وغضبه عبد شهوته وغضبه فهو مسخر مملوك في
زى مالك يقوده زمام الشهوة والغضب كما يقاد البعير فالمغرور المخدوع يقطع
نظره على الملك الظاهر الذى صورته ملك وباطنه رق وعلى الشهوة التى أولها
لذة وآخرها حسرة والبصير الموفق يعير نظره من الاوائل إلى الأواخر ومن
المبادئ إلى العواقب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
العشرون: أن لا يغتر العبد باعتقاده أن مجرد العلم بما ذكرنا كاف في حصول
المقصود بل لا بد أن يضيف اليه بذل الجهد في استعماله واستفراغ الوسع
والطاقة فيه وملاك ذلك الخروج عن العوائد فإنها أعداء



ص -63- الكمال والفلاح فلا أفلح من استمر مع عوائده أبدا ويستعين
على الخروج عن العوايد بالهرب عن مظان الفتنة والبعد عنها ما أمكنه وقد
قال النبي: "من سمع بالدجال فلينا عنه" فما استعين على التخلص من الشر
بمثل البعد عن أسبابه ومظانه.
وههنا لطيفة للشيطان لا يتخلص منها إلا حاذق وهى أن يظهر له في مظان الشر
بعض شيء من الخير ويدعوه إلى تحصيله فإذا قرب منه ألقاه في الشبكة والله
أعلم.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى Empty رد: كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين الجزءالجزء الثانى {السبت 4 يونيو - 16:23}


عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثالث عشر في بيان أن الإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال


الباب الثالث عشر: في بيان أن الإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من
الأحوال
فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه ونهى يجب عليه اجتنابه وتركه وقدر
يجرى عليه اتفاقا ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها واذا كانت هذه الأحوال
لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا
يخلو من نوعين أحدهما يوافق هواه ومراده والآخر يخالفه وهو محتاج إلى
الصبر في كل منهما أما النوع الموافق لغرضه فكالصحة والسلامة والجاه
والمال وأنواع الملاذ المباحة وهو أحوج شئ إلى الصبر فيها من وجوه:
أحدها: أن لا يركن اليها ولا يغتر بها ولا تحمله على البطر والأشر والفرح
المذموم الذى لا يحب الله أهله.
الثاني: أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها فانها تنقلب إلى
اضدادها فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده وحرم الأكل
والشرب والجماع.
الثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها ولا يضيعه فيسلبها.
الرابع: أن يصبر عن صرفها في الحرام فلا يمكن نفسه من كل ما



ص -64- تريده منها فإنها توقعه في الحرام فإن احترز كل الاحتراز
أوقعته في المكروه ولا يصبر على السراء الا الصديقون.
قال بعض السلف: البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر ولا يصبر على العافية إلا
الصديقون وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه: "ابتلينا بالضراء فصبرنا
وابتلينا بالسراء فلم نصبر" ولذلك حذر الله عباده من فتنة المال والأزواج
والأولاد فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وقال تعالى {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ
عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} وليس المراد من هذه العداوة ما يفهمه
كثير من الناس أنها عداوة البغضاء والمحادة بل إنما هى عداوة المحبة
الصادة للآباء عن الهجرة والجهاد وتعلم العلم والصدقة وغير ذلك من أمور
الدين وأعمال البر كما في جامع الترمذى من حديث اسرائيل حدثنا سماك عن
عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عن هذه الآية يا أيها الذين آمنوا ان من
أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم قال هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة
فأرادوا أن يأتو النبي فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا رسول
الله فلما أتوا رسول الله ورأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم
فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ}الآية قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح وما
أكثر ما فات العبد من الكمال والفلاح بسبب زوجته وولده وفي الحديث: "الولد
مبخلة مجبنة" وقال الإمام أحمد حدثنا زيد بن الحباب قال حدثني زيد بن واقد
قال حدثنى عبد الله بن بريدة قال سمعت أبى يقول: "كان رسول الله يخطبنا
فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله
عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال صدق الله {انما أموالكم
وأولادكم فتنة} نظرت إلى هذين



الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثى ورفعتهما" وهذا
من كمال رحمته ولطفه بالصغار وشفقتة

ص -65- عليهم وهو تعليم منه للأمة الرحمة والشفقة واللطف بالصغار


فصل وانما كان الصبر على السراء شديدا لأنه مقرون بالقدرة والجائع عند
غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره وكذلك الشبق عند غيبة المرأة
أصبر منه عند حضورها. فصل وأما النوع الثانى المخالف للهوى فلا يخلو اما
أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصى أو لا ترتبط أوله باختياره
كالمصائب أو يرتبط أوله باختياره ولكن لا اختيار له في ازالته بعد الدخول
فيه فهاهنا ثلاثة أقسام: أحدها ما يرتبط باختياره وهو جميع أفعاله التى
توصف بكونها طاعة أو معصية فأما الطاعة فالعبد محتاج إلى الصبر عليها لأن
النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية أما في الصلاة فلما في طبعها من
الكسل وايثار الراحة ولا سيما إذا اتفق مع ذلك قسوة القلب ورين الذنب
والميل إلى الشهوات ومخالطة أهل الغفلة فلا يكاد العبد مع هذه الأمور
وغيرها أن يفعلها وان فعلها مع ذلك كان متكلفا غائب القلب ذاهلا عنها
طالبا لفراقها كالجالس إلى الجيفة
وأما الزكاة فلما في طبعها اى النفس من الشح والبخل وكذلك الحج والجهاد
للأمرين جميعا ويحتاج العبد ها هنا إلى الصبر في ثلاثة أحوال أحدها قبل
الشروع فيها بتصحيح النية والاخلاص وتجنب دواعى الرياء والسمعة وعقد العزم
على توفية المأمورية حقها
الحالة الثانية الصبر حال العمل فيلازم العبد الصبر عن دواعى التقصير فيه
والتفريط ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية وعلى حضور القلب بين يدى
المعبود وأن لا ينساه في أمره فليس الشأن في فعل المأمور بل الشأن كل
الشأن أن لا ينسى الا مرحال الإتيان بأمره بل يكون مستصحبا لذكره في أمره
فهذه عبادة العبيد المخلصين لله فهو يحتاج إلى الصبر على توفية العبادة
حقها بالقيام بأدائها وأركانها وواجباتها وسننها وإلى



ص -66- الصبر على استصحاب ذكر المعبود فيها ولا يشتغل عنه
بعبادته فلا يعطله حضوره مع الله بقلبه عن قيام جوارحه بعبوديته ولا يعطله
قيام الجوارح بالعبودية عن حضور قلبه بين يديه سبحانه
الحالة الثالثة الصبر بعد الفراغ من العمل وذلك من وجوه
أحدها أن يصبر نفسه عن الإتيان بما يبطل عمله قال تعالى يا أيها الذين
آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فليس الشأن الإتيان بالطاعة انما
الشأن في حفظها مما يبطلها
الثانى أن يصبر عن رؤيتها والعجب بها والتكبر والتعظم بها فإن هذا أضر
عليه من كثير من المعاصى الظاهرة
الثالث أن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية فإن العبد يعمل
العمل سرا بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السر فإن تحدث به نقل إلى
ديوان العلانيه فلا يظن أن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل
فصل وأما الصبر عن المعاصى فأمره ظاهر وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات
ومفارقة الأعوان عليها في المجالسة والمحادثة وقطع العوائد فإن العادة
طبيعة خاصة فاذا انضافت الشهوة إلى العادة تظاهر جندان من جند الشيطان فلا
يقوى باعث الدين على قهرهما.
فصل القسم الثانى ما لا يدخل تحت الإختيار وليس للعبد حيلة في دفعه
كالمصائب التى لا صنع للعبد فيها كموت من يعز عليه وسرقة ماله ومرضه ونحو
ذلك وهذا نوعان أحدهما ما لا صنع للعبد الآدمى فيه والثانى ما أصابه من
جهة آدمى مثله كالسب والضرب وغيرهما فالنوع الأول للعبد فيه أربع مقامات
أحدها مقام العجز وهو مقام الجزع والشكوى والسخط وهذا ما لا يفعله إلا أقل
الناس عقلا ودينا ومروءة وهو أعظم المصيبتين



ص -67- المقام الثانى: مقام الصبر إما لله وإما للمروءة الإنسانية
المقام الثالث: مقام الرضا وهو أعلى من مقام الصبر وفي وجوبه نزاع والسير
متفق على وجوبه
المقام الرابع مقام الشكر وهو أعلى من مقام الرضا فإنه يشهد البلية نعمة
فيشكر المبتلى عليها
وأما النوع الثانى وهو ما أصابه من قبل الناس فله فيه هذه المقامات ويضاف
اليها أربعة أخر أحدها مقام العفو والصفح والثانى مقام سلامة القلب من
ارادة التشفي والانتقام وفراغه من ألم مطالعة الجناية كل وقت وضيقه بها
الثالث مقام شهود القدر وانه وان كان ظالما بإيصال هذا الأذى اليك فالذى
قدره عليك وأجراه على يد هذا الظالم ليس بظالم وأذى الناس مثل الحر والبرد
لا حيلة في دفعه فالمنسخط من أذى الحر والبرد غير حازم والكل جار بالقدر
وان اختلفت طرقه وأسبابه
المقام الرابع مقام الإسحان إلى المسيء ومقابلة اساءته بإحسانك وفي هذا
المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمه الا الله فإن فات العبد هذا
المقام العالى فلا يرضى لنفسه بأخس المقامات وأسفلها
فصل القسم الثالث ما يكون وروده باختياره فإذا تمكن لم يكن له اختيار ولا
حيلة في دفعه وهذا كالعشق أوله اختيار وآخره اضطرار وكالتعرض لأسباب
الأمراض والآلام التى لا حيلة في دفعها بعد مباشرة أسبابها كما لا حيلة في
دفع السكر بعد تناول المسكر فهذا كان فرضه الصبر عنه في أوله فلما فاته
بقى فرضه الصبر عليه في آخره وأن لا يطيع داعى هواه ونفسه وللشيطان ها هنا
دسيسة عجيبة وهى أن يخيل اليه أن ينل بعض ما منع قد يتعين عليه أو يباح له
على سبيل التداوى وغايته أن يكون كالتداوى بالخمر والنجاسة وقد أجازه كثير
من الفقهاء وهذا من أعظم الجهل فإن هذا التداوى لا يزيل الداء بل يزيده
ويقويه وكم ممن



ص -68- تداوى بذلك فكان هلاك دينه ودنياه في هذا الدواء بل
الدواء النافع لهذا الداء الصبر والتقوى كما قال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وقال {إِنَّهُ مَنْ
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
فالصبر والتقوى دواء كل داء من أدواء الدين ولا يستغنى أحدهما عن صاحبه
فإن قيل فهل يثاب على الصبر في هذا القسم اذا كان عاصيا مفرطا يتعاطى
أسبابه وهل يكون معاقبا على ما تولد منه وهو غير اختيارى له
قيل نعم اذا صبر لله تعالى وندم على ما تعاطاه من السبب المحظور أثيب على
صبره لأنه جهاد منه لنفسه وهو عمل صالح والله لا يضيع أجر من أحسن عملا
وأما عقوبته على ما تولد منه فإنه يستحق العقوبة على السبب وما تولد منه
كما يعاقب السكران على ما جناه في حال سكره فإذا كان السبب محظورا لم يكن
السكران معذورا فإن الله سبحانه يعاقب على الأسباب المحرمة وعلى ما تولد
منها كما يثيب على الأسباب المأمور بها وعلى ما يتولد منها ولذا كان من
دعا إلى بدعة وضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه لأن اتباعهم له
تولد عن فعله ولذلك كان على ابن آدم القاتل لأخيه كفل من ذنب كل قاتل إلى
يوم القيامة وقد قال تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار
الذين يضلونهم بغير علم }وقال تعالى {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}
فإن قيل فكيف التوبة من هذا المتولد وليس من فعله والإنسان انما يتوب
عما يتعلق با ختياره قبل التوبة منه بالندم عليه وعدم اجابة دواعيه
وموجباته وحبس النفس عن ذلك فإن كان المتولد متعلقا بالغير فتوبته مع ذلك
برفعه عن الغير بحسب الإمكان ولهذا كان من توبة الداعى إلى



ص -69- البدعة ان يبين أن ما كان يدعو اليه بدعة وضلالة وان
الهدى في ضده كما شرط تعالى في توبة أهل الكتاب الذين كان ذنبهم كتمان
ماأنزل الله من البينات والهدى ليضلوا الناس بذلك أن يصلحوا العمل في
نفوسهم ويبينوا للناس ما كانوا يكتمونهم اياه فقال {ان الذين يكتمون ما
انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم
الله ويلعنهم اللاعنون الا الذين تابوا واصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم
وأنا التواب الرحيم}
وهذا كما شرط في توبة المنافقين الذين كان ذنبهم افساد قلوب ضعفاء
المؤمنين وتحيزهم واعتصامهم باليهود والمشركين أعداء الرسول وإظهارهم
الإسلام رياء وسمعة أن يصلحوا بدل افسادهم وأن يعتصموا بالله بدل اعتصامهم
بالكفار من أهل الكتاب والمشركين وأن يخلصوا دينهم لله بدل إضهارهم رياء
وسمعة فهكذا تفهم شرائط التوبة وحقيقتها والله المستعان



عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الرابع عشر في بيان اشق الصبر على النفوس


الباب الرابع عشر: في بيان أشق الصبر على النفوس
مشقة الصبر بحسب قوة الداعى إلى الفعل وسهولته على العبد فإذا اجتمع في
الفعل هذان الأمرن كان الصبر عنه أشق شىء على الصابر وان فقدا معا سهل
الصبر عنه وان وجد احدهما وفقد الآخر سهل الصبر من وجه صعب من وجه فمن
لاداعى له إلى القتل والسرقة وشرب المسكر وأنواع الفواحش ولا هو سهل عليه
فصبره عنه من أيسر شيء عليه وأسهله ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه فعله
فصبره عنه أشق شيء عليه ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم وصبر الشباب عن
الفاحشة وحبد الغنى عن تناول اللذات والشهوات عند الله بمكان
وفي المسند وغيره عن النبي: "عجب ربك من شاب ليست له



ص -70- صبوة" ولذلك استحق السبعة المذكورين في الحديث الذين
يظلهم الله في ظل عرشه لكمال صبرهم ومشقته فإن صبر الإمام المتسلط على
العدل في قسمه وحكمه ورضاه وغضبه وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه
وصبر الرجل على ملازمة المسجد وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حتى عن بعضه
وصبر المدعو إلى الفاحشة مع كمال جمال الداعى ومنصبه وصبر المتحابين في
الله على ذلك في حال اجتماعهما وافتراقهما وصبر الباكى من خشية الله على
كتمان ذلك وعدم اظهاره للناس من أشق الصبر ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزانى
والملك الكذاب والفقير المختال أشد العقوبة لسهولة الصبر عن هذه الأشياء
المحرمات عليهم لضعف دواعيها في حقهم فكان تركهم الصبر عنها مع سهولته
عليهم دليلا على تمردهم على الله وعتوهم عليه
ولهذا كان الصبر عن معاصى اللسان والفرج من اصعب أنواع الصبر لشدة الداعى
اليهما وسهولتهما فإن معاصى اللسان فاكهة الإنسان كالنميمة والغيبة والكذب
والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا وحكاية كلام الناس والطعن على
من يبغضه ومدح من يحبه ونحو ذلك فتتفق قوة الداعى وتيسر حركة اللسان فيضعف
الصبر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "امسك عليك لسانك" فقال "وانا
لمؤاخذون بما نتكلم به" فقال صلى الله عليه وسلم "وهل يكب الناس في النار
على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم" ولا سيما اذا صارت المعاصى اللسانية
معتادة للعبد فإنه يعز عليه الصبر عنها ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم
النهار ويتورع من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة ويطلق لسانه في
الغيبة والنميمة والمفكه ! في أعراض الخلق وربما رخص أهل الصلاح والعلم
بالله والدين والقول على الله ما لا يعلم وكثير ممن تجده يتورع عن الدقائق
من الحرام والقطرة من الخمر ومثل رأس الإبرة من النجاسة ولا يبالى بارتكاب
الفرج الحرام كما يحكى أن رجلا خلا بامرأة أجنبية فلما اراد مواقعتها قال
يا هذه غطى وجهك
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى