صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
ص -42- هو سبب الكمال وأما أن يكون مجرد الترك الذى هو عدم محض
كمالا أو سببا للكمال فلا مثال ذلك لو ترك السجود للضم لم يكن كماله في
مجرد هذا الترك ما لم يكن يسجد لله والا فلو ترك السجود لله وللصنم لم يكن
ذلك كمالا وكذلك لو ترك تكذيب الرسول ومعاداته لم يكن بذلك مؤمنا ما لم
يفعل ضد ذلك من التصديق والحب وموالاته وطاعته فعلم أن الكمال كله في
المأمور وان المنهى ما لم يتصل به فعل المأمور لم يفد شيئا ولم يكن كمالا
فإن الرجل لو قال للرسول لا أكذبك ولا أصدقك ولا أواليك ولا أعاديك ولا
أحاربك ولا أحارب من يحاربك لكان كافرا ولم يكن مؤمنا بترك معاداته
وتكذيبه ومحاربته ما لم يأت بالفعل الوجودى الذى أمر به.
السادس عشر: ان العبد اذا أتى بالمأمور به على وجهه ترك المنهى عنه ولا بد
فالمقصود انما هو فعل المأمور ومع فعله على وجهه يتعذر فعل المنهى فالمنهى
عنه في الحقيقة هو تعريض المأمور للإضاعة فإن العبد اذا فعل ما أمر به من
العدل والعفة وامتنع من صدور الظلم والفواحش منه فنفس العدل يتضمن ترك
الظلم ونفس العفة تتضمن ترك الفواحش فدخل ترك المنهى عنه في المأمور به
ضمنا وتبعا وليس كذلك في عكسه فان ترك المحظور لا يتضمن فعل المأمور فإنه
قد يتركهما معا كما تقدم فعلم أن المقصود هو إقامة الأمر على وجهه ومع ذلك
لا يمكن ارتكاب النهى البتة وأما ترك المنهى عنه فإنه يستلزم اقامة الأمر
السابع عشر: ان الرب تعالى اذا أمر عبده بأمر ونهاه عن أمر ففعلهما جميعا
كان قد حصل محبوب الرب وبغيضه فقد تقدم له من محبوبه ما يدفع عنه شر بغيضه
ومقاومته ولا سيما اذا كان فعل ذلك المحبوب أحب اليه من ترك ذلك البغيض
فيهب له من جنايته ما فعل من هذا بطاعته ويتجاوز له عما فعل من الآخر
ونظير هذا في الشاهد أن يقتل الرجل عدوا للملك هو حريص على
ص -43- قتله وشرب مسكرا نهاه عن شربه فإنه يتجاوز له عن هذه
الزلة بل عن أمثالها في جنب ما أتى به من محبوبه وأما اذا ترك محبوبه
وبغيضه فإنه لا يقوم ترك بغيضه بمصلحة فعل محبوبه أبدا كما اذا أمر الملك
عبده بقتل عدوه ونهاه عن شرب مسكر فعصاه في قتل عدوه مع قدرته عليه وترك
شرب المسكر فإن الملك لا يهب له جرمه بترك أمره في جنب ترك ما نهاه عنه
وقد فطر الله عباده على هذا فهكذا السادات مع عبيدهم والآباء مع أولادهم
والملوك مع جندهم والزوجات مع أزواجهم ليس التارك منهم محبوب الامر
ومكروهه بمنزلة الفاعل منهم محبوب أمره ومكروهه.
يوضحه الوجه الثامن عشر: ان فاعل محبوب الرب يستحيل أن يفعل جميع مكروهه
بل يترك من مكروهه بقدر ما أتى به من محبوبه فيستحيل الاتيان بجميع مكروهه
وهو يفعل ما أحبه وأبغضه فغايته أنه اجتمع الأمران فيحبه الرب تعالى من
وجه ويبغضه من وجه أما اذا ترك المأمور به جملة فإنه لم يقم به ما يحبه
الرب عليه فإن مجرد ترك المنهى لا يكون طاعة الا باقترانه بالمأمور كما
تقدم فلا يحبه على مجرد الترك وهو سبحانه يكرهه ويبغضه على مخالفة الأمر
فصار مبغوضا للرب تعالى من كل وجه إذ ليس فيه ما يحبه الرب عليه فتأمله.
يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أن الله سبحانه لم يعلق محبته إلا بأمر وجودى
أمر به ايجابا أو استحبابا ولم يعلقها بالترك من حيث هو ترك ولا في موضع
واحد فإنه يحب التوابين ويحب المحسنين ويحب الشاكرين ويحب الصابرين ويحب
المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ويحب
المتقين ويحب الذاكرين ويحب المتصدقين فهو سبحانه انما علق محبته بأوامره
اذ هى المقصود من الخلق والأمر كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فما خلق الخلق الا لقيام أوامره وما
نهاهم الا عما يصدهم عن قيام أوامره ويعوقهم عنها.
ص -44- يوضحه الوجه العشرون: أن المنهيات لو لم تصد عن المأمورات
وتمنع وقوعها على الوجه الذى أمر الله بها لم يكن للنهى عنها معنى وانما
نهى عنها لمضادتها لأ2وامره وتعويقها لها وصدها عنها فالنهى عنها من باب
التكميل والتتمة للمأمور فهو بمنزلة تنظيف طرق الماء ليجرى في مجاريه غير
معوق فالأمر بمنزلة الماء الذى أرسل في نهر لحياة البلاد والعباد والنهى
بمنزلة تنظيف طرقه ومجراه وتنقيتها مما يعوق الماء والأمر بمنزلة القوة
والحياة والنهى بمنزلة الحمية الحافظة للقوة والداء والخادم لها
قالوا واذا تبين أن فعل المأمور أفضل فالصبر عليه أفضل أنواع الصبر وبه
يسهل عليه الصبر عن المحظور والصبر على المقدور فإن الصبر الا على يتضمن
الصبر الأدنى دون العكس وقد ظهر لك من هذا أن الأنواع الثلاثة متلازمة وكل
نوع منها يعين على النوعين الآخرين وان كان من الناس من قوة صبره على
المقدور فإذا جاء الأمر والنهى فقوة صبره هناك ضعيفة ومنهم من هو بالعكس
من ذلك ومنهم من قوة صبره في جانب الامر أقوى ومنهم من هو بالعكس والله
أعلم
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
الباب العاشر في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم
الباب العاشر: في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم
الصبر ينقسم إلى قسمين: قسم مذموم وقسم ممدوح:
فالمذموم: الصبر عن الله وارادته ومحبته وسير القلب اليه فإن هذا الصبر
يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية وتفويت ما خلق له وهذا كما أنه أقبح الصبر
فهو أعظمه وأبلغه فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذى لا حياة
له بدونه البتة كما أنه لا زهد أبلغ من زهد الزاهد فيما أعد الله لأوليائه
من كرامته مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالزهد في هذا
أعظم أنواع الزهد كما قال رجل لبعض الزاهدين وقد تعجب لزهده "ما رأيت أزهد
منك!" فقال: "أنت أزهد
ص -45- منى أنا زهدت في الدنيا وهى لا بقاء لها ولا وفاء وأنت زهدت في
الآخرة فمن أزهد منا" قال يحيى بن معاذ الرازى "صبر المحبين أعجب من صبر
الزاهدين واعجبا كيف يصبرون!" وفي هذا قيل
الصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد
ووقف رجل على الشبلى فقال: أى صبر أشد على الصابرين فقال الصبر في الله
قال لا فقال الصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله قال لا قال فإيش هو قال
الصبر عن الله فصرخ الشبلى صرخة كادت روحه تزهق.
وقيل: الصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد أجمع الناس على أن
الصبر عن المحبوب غير محمود فكيف إذا كان كمال العبد وفلاحه في محبته ولم
تزل الأحباب تعيب المحبين بالصبر عنهم كما قيل:
والصبر عنك فمذموم عواقبه والصبر في سائر الأشياء محمود
وقال آخر في الصبر عن محبوبه
إذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحب يلعب بالرجال
وكيف الصبر عمن حل منى بمنزلة اليمين مع الشمال
وشكا آخر إلى محبوبه ما يقاسي من حبه فقال: لو كنت صادقا لما صبرت عنى.
ولما شكوت الحب قالت كذبتنى ترى الصب عن محبوبه كيف يصبر
فصل: وأما الصبر المحمود فنوعان: صبر لله وصبر بالله قال الله
تعالى {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّه} وقال {وَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقد تنازع الناس أي الصبرين
أكمل فقالت طائفة الصبر له أكمل فإن ما كان لله أكمل مما كان بالله فإن ما
كان له فهو غاية وما كان به فهو وسيلة والغايات أشرف من الوسائل ولذلك وجب
الوفاء بالنذر إذا كان تبرر أو تقربا إلى الله لأنه نذر
ص -41- ضعف إلى أضعاف كثيرة وباب المحظور السيئة فيه بمثلها وهى بصدد
الزوال بالتوبة والاستغفار والحسنة الماحية والمصيبة المكفرة واستغفار
الملائكة للمؤمنين واستغفار بعضهم لبعض وغير ذلك وهذا يدل على أنه أحب إلى
الله من عدم المنهى.
الثانى عشر: ان باب المنهيات يمحوه الله سبحانه ويبطل أثره بأمور عديدة من
فعل العبد وغيره فإنه يبطله بالتوبة النصوح وبالاستغفار وبالحسنات الماحية
وبالمصائب المكفرة وباستغفار الملائكة وبدعاء المؤمنين فهذه ستة في حال
حياته وبتشديد الموت وكربه وسياقه عليه فهذا عند مفارقته الدنيا وبهول
المطلع وروعة الملكين في القبر وضغطته وعصرته له وشدة الموقف وعنائه
وصعوبته وبشفاعة الشافعين فيه وبرحمة أرحم الراحمين له فإن عجزت عنه هذه
الأمور فلا بد له من دخول النار ويكون لبثه فيها على قدر بقاء خبثه ودرنه
فإن الله حرم الجنة الا على كل طيب فما دام درنه ووسخه وخبثه فيه فهو في
كير التطهير حتى يتصفى من ذلك الوسخ والخبث وأما باب المأمورات فلا يبطله
إلا الشرك.
الثالث عشر: أن جزاء المأمورات الثواب وهو من باب الاحسان والفضل والرحمة
وجزاء المنهيات العقوبة وهى من باب الغضب والعدل ورحمته سبحانه تغلب غضبه
فما تعلق بالرحمة والفضل أحب اليه مما تعلق بالغضب والعدل وتعطيل ما تعلق
بالرحمة أكره اليه من فعل ما تعلق بالغضب.
الرابع عشر: ان باب المنهيات تسقط الآلاف المؤلفة منه الواحدة من
المأمورات وباب المأمورات لا يسقط الواحدة منه الآلاف المؤلفة من المنهيات.
الخامس عشر: ان متعلق المأمورات الفعل وهو صفة كمال بل كمال المخلوق من
فعاله فإنه فعل فكمل ومتعلق النهى الترك والترك عدم ومن حيث هو كذلك لا
يكون كمالا فإن العدم المحض ليس بكمال وانما يكون كمالا لما يتضمنه أو
يستلزمه من الفعل الوجودى الذى
الزوال بالتوبة والاستغفار والحسنة الماحية والمصيبة المكفرة واستغفار
الملائكة للمؤمنين واستغفار بعضهم لبعض وغير ذلك وهذا يدل على أنه أحب إلى
الله من عدم المنهى.
الثانى عشر: ان باب المنهيات يمحوه الله سبحانه ويبطل أثره بأمور عديدة من
فعل العبد وغيره فإنه يبطله بالتوبة النصوح وبالاستغفار وبالحسنات الماحية
وبالمصائب المكفرة وباستغفار الملائكة وبدعاء المؤمنين فهذه ستة في حال
حياته وبتشديد الموت وكربه وسياقه عليه فهذا عند مفارقته الدنيا وبهول
المطلع وروعة الملكين في القبر وضغطته وعصرته له وشدة الموقف وعنائه
وصعوبته وبشفاعة الشافعين فيه وبرحمة أرحم الراحمين له فإن عجزت عنه هذه
الأمور فلا بد له من دخول النار ويكون لبثه فيها على قدر بقاء خبثه ودرنه
فإن الله حرم الجنة الا على كل طيب فما دام درنه ووسخه وخبثه فيه فهو في
كير التطهير حتى يتصفى من ذلك الوسخ والخبث وأما باب المأمورات فلا يبطله
إلا الشرك.
الثالث عشر: أن جزاء المأمورات الثواب وهو من باب الاحسان والفضل والرحمة
وجزاء المنهيات العقوبة وهى من باب الغضب والعدل ورحمته سبحانه تغلب غضبه
فما تعلق بالرحمة والفضل أحب اليه مما تعلق بالغضب والعدل وتعطيل ما تعلق
بالرحمة أكره اليه من فعل ما تعلق بالغضب.
الرابع عشر: ان باب المنهيات تسقط الآلاف المؤلفة منه الواحدة من
المأمورات وباب المأمورات لا يسقط الواحدة منه الآلاف المؤلفة من المنهيات.
الخامس عشر: ان متعلق المأمورات الفعل وهو صفة كمال بل كمال المخلوق من
فعاله فإنه فعل فكمل ومتعلق النهى الترك والترك عدم ومن حيث هو كذلك لا
يكون كمالا فإن العدم المحض ليس بكمال وانما يكون كمالا لما يتضمنه أو
يستلزمه من الفعل الوجودى الذى
ص -42- هو سبب الكمال وأما أن يكون مجرد الترك الذى هو عدم محض
كمالا أو سببا للكمال فلا مثال ذلك لو ترك السجود للضم لم يكن كماله في
مجرد هذا الترك ما لم يكن يسجد لله والا فلو ترك السجود لله وللصنم لم يكن
ذلك كمالا وكذلك لو ترك تكذيب الرسول ومعاداته لم يكن بذلك مؤمنا ما لم
يفعل ضد ذلك من التصديق والحب وموالاته وطاعته فعلم أن الكمال كله في
المأمور وان المنهى ما لم يتصل به فعل المأمور لم يفد شيئا ولم يكن كمالا
فإن الرجل لو قال للرسول لا أكذبك ولا أصدقك ولا أواليك ولا أعاديك ولا
أحاربك ولا أحارب من يحاربك لكان كافرا ولم يكن مؤمنا بترك معاداته
وتكذيبه ومحاربته ما لم يأت بالفعل الوجودى الذى أمر به.
السادس عشر: ان العبد اذا أتى بالمأمور به على وجهه ترك المنهى عنه ولا بد
فالمقصود انما هو فعل المأمور ومع فعله على وجهه يتعذر فعل المنهى فالمنهى
عنه في الحقيقة هو تعريض المأمور للإضاعة فإن العبد اذا فعل ما أمر به من
العدل والعفة وامتنع من صدور الظلم والفواحش منه فنفس العدل يتضمن ترك
الظلم ونفس العفة تتضمن ترك الفواحش فدخل ترك المنهى عنه في المأمور به
ضمنا وتبعا وليس كذلك في عكسه فان ترك المحظور لا يتضمن فعل المأمور فإنه
قد يتركهما معا كما تقدم فعلم أن المقصود هو إقامة الأمر على وجهه ومع ذلك
لا يمكن ارتكاب النهى البتة وأما ترك المنهى عنه فإنه يستلزم اقامة الأمر
السابع عشر: ان الرب تعالى اذا أمر عبده بأمر ونهاه عن أمر ففعلهما جميعا
كان قد حصل محبوب الرب وبغيضه فقد تقدم له من محبوبه ما يدفع عنه شر بغيضه
ومقاومته ولا سيما اذا كان فعل ذلك المحبوب أحب اليه من ترك ذلك البغيض
فيهب له من جنايته ما فعل من هذا بطاعته ويتجاوز له عما فعل من الآخر
ونظير هذا في الشاهد أن يقتل الرجل عدوا للملك هو حريص على
ص -43- قتله وشرب مسكرا نهاه عن شربه فإنه يتجاوز له عن هذه
الزلة بل عن أمثالها في جنب ما أتى به من محبوبه وأما اذا ترك محبوبه
وبغيضه فإنه لا يقوم ترك بغيضه بمصلحة فعل محبوبه أبدا كما اذا أمر الملك
عبده بقتل عدوه ونهاه عن شرب مسكر فعصاه في قتل عدوه مع قدرته عليه وترك
شرب المسكر فإن الملك لا يهب له جرمه بترك أمره في جنب ترك ما نهاه عنه
وقد فطر الله عباده على هذا فهكذا السادات مع عبيدهم والآباء مع أولادهم
والملوك مع جندهم والزوجات مع أزواجهم ليس التارك منهم محبوب الامر
ومكروهه بمنزلة الفاعل منهم محبوب أمره ومكروهه.
يوضحه الوجه الثامن عشر: ان فاعل محبوب الرب يستحيل أن يفعل جميع مكروهه
بل يترك من مكروهه بقدر ما أتى به من محبوبه فيستحيل الاتيان بجميع مكروهه
وهو يفعل ما أحبه وأبغضه فغايته أنه اجتمع الأمران فيحبه الرب تعالى من
وجه ويبغضه من وجه أما اذا ترك المأمور به جملة فإنه لم يقم به ما يحبه
الرب عليه فإن مجرد ترك المنهى لا يكون طاعة الا باقترانه بالمأمور كما
تقدم فلا يحبه على مجرد الترك وهو سبحانه يكرهه ويبغضه على مخالفة الأمر
فصار مبغوضا للرب تعالى من كل وجه إذ ليس فيه ما يحبه الرب عليه فتأمله.
يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أن الله سبحانه لم يعلق محبته إلا بأمر وجودى
أمر به ايجابا أو استحبابا ولم يعلقها بالترك من حيث هو ترك ولا في موضع
واحد فإنه يحب التوابين ويحب المحسنين ويحب الشاكرين ويحب الصابرين ويحب
المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ويحب
المتقين ويحب الذاكرين ويحب المتصدقين فهو سبحانه انما علق محبته بأوامره
اذ هى المقصود من الخلق والأمر كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فما خلق الخلق الا لقيام أوامره وما
نهاهم الا عما يصدهم عن قيام أوامره ويعوقهم عنها.
ص -44- يوضحه الوجه العشرون: أن المنهيات لو لم تصد عن المأمورات
وتمنع وقوعها على الوجه الذى أمر الله بها لم يكن للنهى عنها معنى وانما
نهى عنها لمضادتها لأ2وامره وتعويقها لها وصدها عنها فالنهى عنها من باب
التكميل والتتمة للمأمور فهو بمنزلة تنظيف طرق الماء ليجرى في مجاريه غير
معوق فالأمر بمنزلة الماء الذى أرسل في نهر لحياة البلاد والعباد والنهى
بمنزلة تنظيف طرقه ومجراه وتنقيتها مما يعوق الماء والأمر بمنزلة القوة
والحياة والنهى بمنزلة الحمية الحافظة للقوة والداء والخادم لها
قالوا واذا تبين أن فعل المأمور أفضل فالصبر عليه أفضل أنواع الصبر وبه
يسهل عليه الصبر عن المحظور والصبر على المقدور فإن الصبر الا على يتضمن
الصبر الأدنى دون العكس وقد ظهر لك من هذا أن الأنواع الثلاثة متلازمة وكل
نوع منها يعين على النوعين الآخرين وان كان من الناس من قوة صبره على
المقدور فإذا جاء الأمر والنهى فقوة صبره هناك ضعيفة ومنهم من هو بالعكس
من ذلك ومنهم من قوة صبره في جانب الامر أقوى ومنهم من هو بالعكس والله
أعلم
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
الباب العاشر في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم
الباب العاشر: في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم
الصبر ينقسم إلى قسمين: قسم مذموم وقسم ممدوح:
فالمذموم: الصبر عن الله وارادته ومحبته وسير القلب اليه فإن هذا الصبر
يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية وتفويت ما خلق له وهذا كما أنه أقبح الصبر
فهو أعظمه وأبلغه فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذى لا حياة
له بدونه البتة كما أنه لا زهد أبلغ من زهد الزاهد فيما أعد الله لأوليائه
من كرامته مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالزهد في هذا
أعظم أنواع الزهد كما قال رجل لبعض الزاهدين وقد تعجب لزهده "ما رأيت أزهد
منك!" فقال: "أنت أزهد
ص -45- منى أنا زهدت في الدنيا وهى لا بقاء لها ولا وفاء وأنت زهدت في
الآخرة فمن أزهد منا" قال يحيى بن معاذ الرازى "صبر المحبين أعجب من صبر
الزاهدين واعجبا كيف يصبرون!" وفي هذا قيل
الصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد
ووقف رجل على الشبلى فقال: أى صبر أشد على الصابرين فقال الصبر في الله
قال لا فقال الصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله قال لا قال فإيش هو قال
الصبر عن الله فصرخ الشبلى صرخة كادت روحه تزهق.
وقيل: الصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد أجمع الناس على أن
الصبر عن المحبوب غير محمود فكيف إذا كان كمال العبد وفلاحه في محبته ولم
تزل الأحباب تعيب المحبين بالصبر عنهم كما قيل:
والصبر عنك فمذموم عواقبه والصبر في سائر الأشياء محمود
وقال آخر في الصبر عن محبوبه
إذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحب يلعب بالرجال
وكيف الصبر عمن حل منى بمنزلة اليمين مع الشمال
وشكا آخر إلى محبوبه ما يقاسي من حبه فقال: لو كنت صادقا لما صبرت عنى.
ولما شكوت الحب قالت كذبتنى ترى الصب عن محبوبه كيف يصبر
فصل: وأما الصبر المحمود فنوعان: صبر لله وصبر بالله قال الله
تعالى {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّه} وقال {وَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقد تنازع الناس أي الصبرين
أكمل فقالت طائفة الصبر له أكمل فإن ما كان لله أكمل مما كان بالله فإن ما
كان له فهو غاية وما كان به فهو وسيلة والغايات أشرف من الوسائل ولذلك وجب
الوفاء بالنذر إذا كان تبرر أو تقربا إلى الله لأنه نذر
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فإن
ص -71- النظر إلى وجه الأجنبية حرام وقد سأل رجل عبدالله بن عمر عن دم
البعوض فقال انظروا إلى هؤلاء يسألونى عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت
رسول الله
واتفق لى قريب من هذه الحكاية كنت في حال الإحرام فأتانى قوم من الأعراب
المعروفين بقتل النفوس والإغارة على الأموال يسألوني عن قتل المحرم القمل
فقلت يا عجبا لقوم لا يتورعون عن قتل النفس التى حرم الله قتلها ويسألون
عن قتل القملة في الاحرام
والمقصود أن اختلاف شدة الصبر في أنواع المعاصى وآحادها يكون باختلاف
داعيه إلى تلك المعصية في قوتها وضعفها ويذكر عن على رضى الله عنه أنه قال
الصبر ثلاثة فصبر على المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية فمن صبر
على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ومن صبر على
الطاعة حتى يؤديها كما أمر الله كتب الله له ستمائة درجة ومن صبر عن
المعصية خوفا من الله ورجاء ما عنده كتب الله له تسعمائة درجة
وقال ميمون بن مهران: "الصبر صبران فالصبر على المصيبة حسن وأفضل منه
الصبر عن المعصية".
وقال الفضيل في قوله تعالى: {سلام عليكم بما صبرتم} ثم قال صبروا على ما
أمروا به وصبروا عما نهوا عنه وكأنه جعل الصبر على المصيبة داخلا في قسم
المأمور به والله أعلم
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
الباب الخامس عشر في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز
الباب الخامس عشر في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين
موضعا" ونحن نذكر الأنواع التى سيق فيها الصبر وهى عدة أنواع:
ص -72- أحدها الأمر به كقوله {واصبر وما صبرك الا بالله} {واصبر لحكم ربك}
الثانى النهى عما يضاده كقوله {ولا تستعجل لهم} وقوله {ولا تهنوا ولا
تحزنوا} وقوله {ولا تكن كصاحب الحوت} وبالجملة فكل ما نهى عنه فانه يضاد
الصبر المأمور به الثالث تعليق الفلاح به كقوله {يا أيها الذين آمنوا
اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون }فعلق الفلاح بمجموع هذه
الأمور
الرابع الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره كقوله { أولئك يؤتون
أجرهم مرتين بما صبروا} وقوله {انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} قال
سليمان بن القاسم كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر قال الله تعالى {انما يوفى
الصابرون أجرهم بغير حساب} قال كالماء المنهمر
الخامس تعليق الإمامة في الدين به وباليقين قال الله تعالى {وجعلناهم أئمة
يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فبالصبر واليقين تنال
الإمامة في الدين
السادس ظفرهم بمعية الله سبحانه لهم قال تعالى ل{إن الله مع الصابرين{ قال
أبو على الدقاق فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته
السابع انه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهى الصلاة منه
عليهم ورحمته لهم وهدايته إياهم قال تعالى {وبشر الصابرين الذين اذا
أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم
ورحمة وأولئك هم المهتدون} وقال
ص -73- بعض السلف وقد عزى على مصيبة نالته فقال مالى لا أصبر وقد
وعدنى الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها
الثامن أنه سبحانه جعل الصبر عونا وعدة وأمر بالاستعانة به فقال
{واستعينوا بالصبر والصلاة} فمن لا صبر له لا عون له
التاسع أنه سبحانه علق النصر بالصبر والتقوى فقال تعالى{ بلى ان تصبروا
وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}
ولهذا قال النبي: "واعلم أن النصر مع الصبر".
العاشر أنه سبحانه جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فمن
استجن العبد من ذلك جنة أعظم منهما قال تعالى {وان تصبروا وتتقوا لا يضركم
كيدهم شيئا}
الحادي عشر انه سبحانه أخبر أن ملائكته تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما
قال {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى
الدار}
الثانى عشر انه سبحانه أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبتم به ثم أقسم قسما
مؤكدا غاية التأكيد أن صبرهم خير لهم فقال {وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما
عوقبتهم بهولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فتأمل هذا التأكيد بالقسم المدلول
عليه بالواو ثم باللام بعده ثم باللام التى في الجواب
الثالث عشر انه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح
فقال {الا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} وهؤلاء
ثنية الله من نوع الإنسان
ص -74- المذموم الموصوف باليأس والكفر عند المصيبة والفرح والفخر
عند النعمة ولا خلاص من هذا الذم الا بالصبر والعمل الصالح كما لا تنال
المغفرة والأجر الكبير الا بهما
الرابع عشر انه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور أى مما يعزم
من الأمور التى انما يعزم على أجلها وأشرفها فقال {ولمن صبر وغفر ان ذلك
لمن عزم الأمور} وقال لقمان لابنه {واءمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر
على ما أصابك ان ذلك من عزم الأمو}
الخامس عشر انه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر والظفر وهى كلمته التى سبقت
لهم وهى الكلمة الحسنى وأخبر أنه انما انالهم ذلك بالصبر فقال تعالى {وتمت
كلمة ربك الحسنى على بنى اسرائيل بما صبروا}
السادس عشر أنه سبحانه علق محبته بالصبر وجعلها لأهله فقال {وكأين من نبى
قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما
استكانوا والله يحب الصابرين}
السابع عشر انه سبحانه أخبر عن خصال الخير انه لا يلقاها الا الصابرون في
موضعين من كتابه في سورة القصص في قصة قارون وان الذين أوتوا العلم قالو
للذين تمنوا مثل ما أوتى {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا
يلقاها الا الصابرون} وفي سورة حميم السجدة حيث أمر العبد أن يدفع بالتى
هى أحسن فإذا فعل ذلك صار الذى بينه وبينه عداوة كأنه حبيب قريب ثم قال
{وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم}
الثامن عشر أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار
الشكور فقال تعالى {ولقد ارسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من
ص -75- الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله ان في ذلك لآيات لكل
صبار شكور} وقال تعالى في لقمان {ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة
الله ليريكم من آياته ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} وقال في قصة سبأ
{وجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} وقال
تعالى {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ان يشأ يسكن الريح فيظللن
رواكد على ظهره ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} فهذه أربع مواضع في القرآن
تدل على أن آيات الرب انما ينتفع بها أهل الصبر والشكر
التاسع عشر أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال {أنا
وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرا
وهذا يدل على أن من لم يصبر اذا ابتلى فإنه بئس العبد
العشرون انه سبحانه حكم بالخسران حكما عاما على كل من لم يؤمن ولم يكن من
أهل الحق والصبر وهذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال تعالى {والعصر ان
الإنسان لفي خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا
بالصبر } ولهذا قال الشافعى لو فكر الناس كلهم في هذه الاية لوسعتهم وذلك
أن العبد كماله في تكميل قوتيه قوة العلم وقوة العمل وهما الإيمان والعمل
الصالح وكما هو محتاج إلى تكميل نفسه فهو محتاج إلى تكميل غيره وهو
التواصى بالحق والتواصى بالصبر وأخية ذلك وقاعدته وساقه الذى يقوم عليه
انما هو الصبر
الحادى والعشرون أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة
الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم فقال تعالى {ثم كان من
الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -76- أصحاب الميمنة} وهذا حصر لأصحاب الميمنة فيمن قام به هذان
الوصفان والناس بالنسبة اليهما أربعة أقسام هؤلاء خير الاقسام وشرهم من لا
صبر له ولا رحمة فيه ويليه من له صبر ولا رحمة عنده ويليه القسم الرابع
وهو من له رحمة ورقة ولكن لا صبر له
الثانى والعشرون أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها
فقرنه بالصلاة كقوله {واستعينوا بالصبر والصلاة} وقرنه بالأعمال الصالحة
عموما كقوله {الا الذين صبروا وعملوا الصالحات} وجعله قرين التقوى كقوله
{إنه من يتق ويصبر} وجعله قرين الشكر كقوله {ان في ذلك لآيات لكل صبار
شكور} وجعله قرين الحق كقوله {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} وجعله قرين
الرحمة كقوله {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} وجعله قرين اليقين كقوله
{لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} وجعله قرين الصدق كقوله {والصادقين
والصادقات والصابرين والصابرات} وجعله سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن
جزائه ويكفي بعض ذلك شرفا وفضلا والله أعلم
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
الباب السادس عشر في ذكر ما ورد فيه من نصوص السنة
الباب السادس عشر: في ذكر ما ورد فيه من نصوص السنة
في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه" أن رسول الله أتى على
امرأة تبكى على صبى لها فقال لها اتقى الله واصبرى فقالت وما تبالى
بمصيبتى فلما ذهب قيل لها انه رسول الله فأخذها مثل الموت فأتت بابه فلم
تجد على بابه بوابين فقالت يا رسول لم أعرفك فقال انما الصبر عند أول
صدمة" وفي لفظ "عند الصدمة
ص -77- الاولى" وقوله الصبر عند الصدمة الاولى مثل قوله "ليس
الشديد بالصرعة انما الشديد الذى يملك نفسه وقت الغضب" فإن مفاجئات
المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها فإن صبر الصدمة الأولى
انكسر حدها وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر وأيضا فإن المصيبة ترد
على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه وهى الصدمة الأولى وأما اذا وردت عليه
بعد ذلك توطن لها وعلم انه لا بد له منها فيصير صبره شبيه الاضطرار وهذه
المرأة لما علمت ان جزعها لا يجدى عليها شيئا جاءت تعتذر إلى النبي كأنها
تقول له قد صبرت فأخبرها أن الصبر انما هو عند الصدمة الأولى
ويدل على هذا المعنى ما رواه سعيد بن زربى عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة
رضى الله عنه قال: "مر النبي على امرأة جاثمة على قبر تبكى فقال لها يا
أمة الله اتق الله واصبرى قالت يا عبد الله ثكلى قال يا أمة الله اتق الله
واصبرى قالت يا عبد الله لو كنت مصابا عذرتنى قال يا أمة الله اتق الله
واصبرى قالت يا عبد الله قد أسمعت فانصرف عنى فمضى رسول الله واتبعه رجل
من أصحابه فوقف على المرأة فقال لها ما قال لك الرجل الذاهب قالت قال لى
كذا وكذا وأجبته بكذا وكذا قال هل تعرفينه قالت لا قال ذلك رسول الله قال
فوثبت سرعة نحوه حتى انتهت اليه وهى تقول أنا أصبر أنا أصبر يا رسول الله
فقال الصبر عند الصدمة الأولى الصبر عند الصدمة الأولى".
قال ابن أبى الدنيا حدثنا بشر بن الوليد وصالح الكندى بن مالك قالا حدثنا
سعيد بن زربى فذكره فهذا السياق يبين معنى الحديث قال أبو عبيد معناه ان
كل ذى رزبة فإن قصاراه الصبر ولكنه انما يحمد على صبره عند حدة المصيبة
وحرارتها
قلت وفي الحديث أنواع من العلم أحدها وجوب الصبر على
ص -78- المصائب وأنه من التقوى التى أمر العبد بها الثانى الامر
بالمعروف والنهى عن المنكر وان سكر المصيبة وشدتها لا يسقطه عن الآمر
الناهى الثالث تكرار الامر والنهى مرة بعد مرة حتى يعذر المرء إلى ربه
الرابع احتج به على جواز زيارة النساء للقبور فانه لم ينكر عليها الزيارة
وانما أمرها بالصبر ولو كانت الزيارة حراما لبين لها حكمها وهذا كان في
آخر الامر فإن أبا هريرة انما اسلم بعد السنة السابعة وأجيب عن هذا بأنه
قد أمرها بتقوى الله والصبر وهذا انكار منه لحالها من الزيارة والبكاء
ويدل عليه أنها لما علمت أن الآمر لها من تجب طاعته انصرفت مسرعة وأيضا
فأبو هريرة لم يخبر أنه شهد هذه القصة فلا يدل الحديث على أنها بعد
السلامه ولو شهدها فلعنته لزائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج
كان بعد هذا في مرض موته وفي عدم تعريفه لها بنفسه في تلك الحال التى لا
تملك فيها نفسها شفقة منه ورحمة بها اذا عرفها بنفسه في تلك الحال فربما
لم تسمع منه فتهلك وكان معصيتها له وهى لا تعلم أنه رسول الله أخف من
معصيتها له لو علمت فهذا من كمال رأفته صلوات الله وسلامه عليه
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله يقول: "ما من مسلم تصيبه
مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا اليه راجعون اللهم اجرنى في مصيبتى
واخلف لى خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها" قالت فلما مات أبو سلمة
قلت أى المسلمين خير من أبى سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله ثم إنى قلتها
فأخلف الله لى رسوله فأرسل إلى رسول الله حاطب بن ابى بلتعة يخطبنى له
فقلت ان لى بنتا وأنا غيور فقال أما بنتها فادعو الله أن يغنيها عنها
وادعو الله أن يذهب بالغيرة فتزوجت رسول الله
وعند أبى داود في هذا الحديث عنها قالت قال رسول الله: "اذا
ص -79- أصابت أحدكم مصيبة قليقل إنا لله وإنا اليه راجعون اللهم
عندك أحتسب مصيبتى فاءجرنى فيها وابدلنى خيرا منها" فلما احتضر أبو سلمة
قال: "اللهم اخلفنى في أهلى خيرا منى" فلما قبض قالت أم سلمة: "إنا لله
وانا اليه راجعون عند الله أحتسب مصيبتى" فانظر عاقبة الصبر والاستراجاع
ومتابعة الرسول والرضاء عن الله إلى ما آلت إليه وأنالت أم سلمة نكاح أكرم
الخلق على الله
وفي جامع الترمذي ومسند الامام أحمد وصحيح ابن حبان عن ابي موسى الأشعري
قال قال رسول الله: "اذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي
فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدي
فيقولون حمدك واسترجعك فيقول ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد".
وفي صحيح البخاري من حديث أنس أن رسول الله قال: "اذا ابتليت عبدي بحبيتيه
ثم صبر عوضته عنهما الجنه" يريد عينيه وعند الترمذي في الحديث: "اذا أخذت
كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي الا الجنة" وفي الترمذي أيضا
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله: "يقول الله عز وجل من أذهبت
حبيتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة".
وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمر قال قال رسول الله: "لا يرضى
الله لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الارض واحتسبه بثواب دون الجنة"
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله: "يقول الله عز وجل
ما لعبدي المؤمن جزاء اذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه الا الجنة"
وفي صحيحه أيضا عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة
من أهل الجنة قلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي فقالت يا رسول
الله اني أصرع واني أتكشف فادع الله لي قال: "ان شئت صبرت ولك
ص -80- الجنة وان شئت دعوت الله تعالى ان يعافيك فقالت أصبر
فقالت أني أتكشف فادع الله ان لا أتكشف فدعا لها"
وفي الموطأ من حديث عطاء بن يسار أن رسول الله قال: "اذا مرض العبد بعث
اليه ملكين فقال انظرا ماذا يقول لعواده فإن هو اذ جاؤوه حمد الله وأثنى
عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم فيقول ان لعبدي علي ان توفيته ان أدخله
الجنة وان أنا شفيته أن أبدله لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وأن
أكفر عنه سيئاته" وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول
الله: "اذا جمع الله الخلائق نادى مناد أين أهل الصبر فيقوم ناس وهم
قليلون فينطلقون سراعا إلى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون انا نراكم
سراعا إلى الجنة فمن أنتم فيقولون نحن أهل الفضل فيقولون ما كان فضلكم
فيقولون كنا اذا ظلمنا صبرنا واذا أسيء الينا غفرنا واذا جهل علينا حلمنا
فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين".
وفي الصحيحين أن رسول الله قسم مالا فقال بعض الناس هذه قسمة ما أريد بها
وجه الله فأخبر بذلك رسول الله فقال "رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا
فصبر"
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال
رسول الله: "ما من مصيبة تصيب المسلم الا كفر الله بها عنه حتى الشوكة
يشاكها" وفيهما أيضا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي: "قال ما يصيب
المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها
الا كفر الله بها من خطاياه".
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة عن النبي أنه قال: "لا يصيب المؤمن من شوكة
فما فوقها الا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" وفي المسند من حديث
أبي هريرة عن النبي قال: "لا يزال
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى