صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الفصل الثاني : في فضل عشر ذي الحجة على غيره من أعشار الشهور
قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ ما من أيام أعظم عند الله و لا أحب إليه
العمل فيهن من هذه الأيام العشر ] و في صحيح ابن حيان [ عن جابر عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة
] و قد تقدم و رويناه من وجه آخر بزيادة و هي : [ و لا ليالي أفضل من
ليالهين قيل : يا رسول الله هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله ؟ قال :
هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله إلا من عفر وجهه تعفيرا و ما من يوم
أفضل من يوم عرفة ] خرجه الحافظ أبو موسى المديني من جهة أبي نعيم الحافظ
بالإسناد الذي خرجه به ابن حبان و خرج البزار و غيره [ من حديث جابر أيضا
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل أيام الدنيا أيم العشر قالوا :
يا رسول الله و لا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : و لا مثلهن في سبيل الله
إلا من عفر وجهه بالتراب ] و روي مرسلا و قيل : إنه أصح و قد سبق ما روي
عن ابن عمر قال : ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ليس العشر و يدل
على أن أيام العشر أفضل من أيام الجمعة الذي هو أفضل الأيام و قال سهيل بن
أبي صالح عن أبيه عن كعب قال : اختار الله الزمان و أحب الزمان إلى الله
الأشهر الحرم و أحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة و أحب ذي الحجة إلى
الله العشر الأول و رواه بعضهم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة و رفعه و لا
يصح ذلك و قال مسروق في قوله تعالى : { و ليال عشر } هي أفضل أيام السنة
خرجه عبد الرزاق و غيره و أيضا فأيام هذا العشر يشتمل على يوم عرفة و قد
روي أنه أفضل أيام الدنيا كما جاء في حديث جابر الذي ذكرناه و فيه يوم
النحر و في حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ] خرجه الإمام أحمد و أبو
دواد و غيرهما و هذا كله يدل على أن عشر ذي الحجة أفضل من غيره من الأيام
من غير استثناء هذا في أيامه فأما لياليه فمن المتأخرين من زعم أن ليالي
عشر رمضان أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر و هذا بعيد جدا و احتج
بعضهم بحديث عائشة فيمن أرسل بهديه مع غيره و أقام في بلده و كان ابن عمر
إذا ضحى يوم النحر حلق رأسه و نص أحمد على ذلك و اختلف العلماء في التعريف
بالأمصار عشية عرفة و كان الإمام أحمد لا يفعله و لا ينكر على من فعله
لأنه روي عن ابن عباس و غيره من الصحابة و أما مشاركتهم لهم في الذاكرة في
الأيام المعلومات فإنه يشرع للناس كلهم الإكثار من ذكر الله في أيام العشر
خصوصا و قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ فأكثروا فيهن من التهليل و
التكبير و التحميد ] و اختلف العلماء هل يشرع إظهار التكبير و الجهر به في
الأسواق في العشر ؟ فأنكره طائفة و استحبه أحمد و الشافعي لكن الشافعي خصه
بحال رؤية بهيمة الأنعام و أحمد يستحبه مطلقا و قد ذكر البخاري في صحيحه
عن ابن عمر و أبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران و
يكبر الناس بتكبيرهما و رواه أبو داود حدثنا سلام أبو المنذر عن حميد
الأعرج عن مجاهد قال كان أبي هريرة و ابن عمر يأتيان السوق أيام العشر
فيكبران و يكبر الناس معهما و لا يأتيان لشيء إلا لذلك و روى جعفر
الفريابي في كتاب العيدين : حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن يزيد بن
أبي زياد قال رأيت سعيد بن جبير و مجاهدا و عبد الرحمن بن أبي ليلى أو
اثنين من هؤلاء الثلاثة و ما رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر :
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر و
لله الحمد لما كان الله سبحانه و تعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى
مشاهدة بيته الحرام و ليس كل أحد قادرا على مشاهدته في كل عام فرض على
المستطيع الحج مرة واحدة في عمره و جعل موسم العشر مشتركا بين السائرين و
القاعدين فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون
أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج
( ليالي العشر أوقات الإجابة ... فبادر رغبة تلحق ثوابه )
( ألا لا وقت للعمال فيه ... ثواب الخير أقرب للإصابة )
( من أوقات الليالي العشر حقا ... فشمر واطلبن فيها الإنابة )
احذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة وروى المروذي في كتاب
الورع بإسناده عن عبد الملك بن عمير عن رجل ـ إما من الصحابة أو من
التابعين ـ : أن آتيا أتاه في منامه في العشر من ذي الحجة فقال : ما من
مسلم إلا يغفر له في هذه الأيام كل يوم خمس مرارا إلا أصحاب الشاء يقولون
: مات ما موته يعني أصحاب الشطرنج فإذا كان اللعب بالشطرنج مانعا من
المغفرة فما الظن بالإصرار على الكبائر المجمع عليها
( طاعة الله خير ما لزم العبـ ... د فكن طائعا و لا تعصينه )
( ما هلاك النفوس إلا المعاصي ... فاجتنب ما نهاك لا تقربنه )
( إن شيئا هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه )
المعاصي سبب البعد و الطرد كما أن الطاعات أسباب القرب و الود
( أيضمن لي فتى ترك المعاصي ... و أرهنه الكفالة بالخلاص )
( أطاع الله قوم فاستراحوا ... و لم يتجرعوا غصص المعاصي )
إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام و قصدوا البيت الحرام و ملؤا
الفضاء بالتلبية و التكبير و التهليل و التحميد و الإعظام لقد ساروا و
قعدنا و قربوا و بعدنا فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا
( أتراكم في النقا و المنحنى ... أهل سلع تذكرونا ذكرنا )
( انقطعنا و وصلتم فاعلموا ... و اشكروا المنعم يا أهل منى )
( قد خسرنا و ربحتم فصلوا ... بفضول الريح من قد غبنا )
( سار قلبي خلف أحمالكم ... غير أن العذر عاق البدنا )
( ما قطعتم واديا إلا وقد ... جئته أسعى بأقدام المنى )
( أنا مذ غبتم على تذكاركم ... أترى عندكمو ما عندنا )
القاعد لعذر شريك للسائر و ربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم رأى
بعضهم في المنام عشية عرفة في الموقف قائلا يقول له : أترى هذا الزحام على
هذا الموقف فإنه لم يحج منهم أحد إلا رجل تخلف عن الموقف فحج بهمته فوهب
له أهل الموقف
( يا سائرين إلى البيت العتيق ... لقد سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة فما منها عوض و لا
لها قيمة المبادرة المبادرة بالعمل و العجل العجل قبل هجوم الأجل قبل أن
يندم المفرط على ما فعل قبل أن يسأل الرجعة فيعمل صالحا فلا يجاب إلى ما
سأل قبل أن يحول الموت بين المؤمل و بلوغ الأمل قبل أن يصير المرء مرتهنا
في حفرته بما قدم من عمل
( ليس للميت في قبره ... فطر و لا أضحى و لا عشر )
( ناء عن الأهل على قربه ... كذاك من مسكنه القبر )
يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر
سنين حتى بلغ الخمسين يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين و السبعين
ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين يا من ذنوبه بعدد الشفع و
الوتر أما تستحي من الكرام الكاتبين ؟ أم أنت ممن يكذب بيوم الدين ؟ يا من
ظلمة قلبه كالليل إذا يسري أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين تعرض لنفحات
مولاك في هذا العشر فإن فيه لله نفحات يصيب بها من يشاء فمن أصابته سعد
بها آخر الدهر
المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر
في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود له : يا
أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا اليهود
نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا فقال : أي آية : قال : { اليوم أكملت لكم
دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا } فقال عمر : إني
لأعلم اليوم الذي نزلت فيه و المكان الذي نزلت فيه : نزلت و رسول الله صلى
الله عليه و سلم قائم بعرفة يوم الجمعة و خرج الترمذي عن ابن عباس نحوه و
قال فيه : نزلت في يوم عيد من يوم جمعة و يوم عرفة و العيد هو موسم الفرح
و السرور و أفراح المؤمنين و سرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا
بإكمال طاعته و حازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله و
مغفرته كما قال تعالى : { قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير
مما يجمعون } قال بعض العارفين : ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله
فالغافل يفرح بلهوه و هواه و العاقل يفرح بمولاه و أنشد سمنون في هذا
المعنى :
( و كان فؤادي خاليا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو و يمرح )
( فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح )
( رميت ببعد منك إن كنت كاذبا ... و إن كنت في الدنيا بغيرك أفراح )
( و إن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني لعيني يملح )
( فإن شئت و اصلني و إن شئت لا تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح )
لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما
فقال : [ إن الله قد أبدلكم يومين خيرا منهما يوم الفطر و الأضحى ] فأبدل
الله هذه الأمة بيومي اللعب و اللهو يومي الذكر و الشكر و المغفرة و العفو
ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد عيد يتكرر فهو يوم الجمعة و هو عيد
الأسبوع و هو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات فإن الله عز و جل فرض على
المؤمنين في كل يوم و ليلة خمس صلوات و أيام الدنيا تدور على سبعة أيام
فكلما دور أسبوع من أيام الدنيا و استكمل المسلمون صلواتهم فيه شرع لهم في
يوم استكمالهم و هو اليوم الذي كمل فيه الخلق و فيه خلق آدم و أدخل الجنة
و أخرج منها و فيه ينتهي أمد الدنيا فتزول و تقوم الساعة فالجمعة من
الإجتماع على سماع الذكر و الموعظة و صلاة الجمعة و جعل ذلك لهم عيدا و
لهذا نهى عن إفراده بالصيام و في شهود الجمعة شبه من الحج و روي : أنها حج
المساكين و قال سعيد بن المسيب : شهود الجمعة أحب إلي من حجة نافلة و
التبكير إليها يقوم مقام الهدي على قدر السبق فأولهم كالمهدي بدنة ثم بقرة
ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة
الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أن الحج المبرور يكفر ذنوب
تلك السنة إلى الحجة الأخرى و قد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام و روي
أن الله تعالى يغفر يوم الجمعة لكل مسلم و في الحديث الصحيح عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال : [ ما طلعت الشمس و لا غربت على يوم أفضل من يوم
الجمعة ] و في المسند [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في يوم الجمعة :
هو أفضل عند الله من يوم الفطر و يوم الأضحى ] فهذا عيد الأسبوع و هو
متعلق بإكمال الصلوات المكتوبة و هي أعظم أركان الإسلام و مبانيه بعد
الشهادتين
و أما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام و إنما يأتي
قال واحد منهما في العام مرة و احدة فأحدهما : عيد الفطر من صوم رمضان و
هو مترتب على إكمال صيام رمضان و هو الركن الثالث من أركان الإسلام و
مبانيه فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم و استوجبوا من الله
والمغفر و العتق من النار فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب و آخره
عتق من النار يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه فشرع الله تعالى لهم
عقب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله و ذكره و تكبيره على
ما هداهم له و شرع لهم في ذلك العيد الصلاة و الصدقة و هو يوم الجوائز
يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم و يرجعون من عيدهم بالمغفرة و العيد
الثاني : عيد النحر و هو أكبر العيدين و أفضلهما و هو مترتب على إكمال
الحج و هو الركن الرابع من أركان الإسلام و مبانيه فإذا أكمل المسلمون
حجهم غفر لهم و إنما يكمل الحج بيوم عرفة و الوقوف بعرفة فإنه ركن الحج
الأعظم كما قال صلى الله عليه و سلم : [ الحج عرفة و يوم عرفة هو يوم
العتق من النار ] فيعتق الله من النار من وقف بعرفة و من لم يقف بها من
أهل الأمصار من المسلمين فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين
في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم و من لم يشهده لا شتراكهم في العتق و
المغفرة يوم عرفة و إنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام رحمة من
الله و تخفيفا على عباده فإنه جعل الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام و
إنما هو في كل عام فرض كفاية بخلاف الصيام فإنه فريضة كل عام على كل مسلم
فإذا كمل يوم عرفة و أعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون
كلهم في العيد عقب ذلك و شرع للجميع التقرب إليه بالنسك و هو إراقة دماء
القرابين فأهل الموسم يرمون الجمرة فيشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج و
يقضون تفثهم و يوفون نذورهم و يقربون قرابينهم من الهدايا ثم يطوفون
بالبيت العتيق و أهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله و تكبيره و الصلاة له
قال مخنف بن سليم و هو معدود من الصحابة : الخروج يوم الفطر يعدل عمرة و
الخروج يوم الأضحى يعدل حجة ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم و يقربون قرابينهم
بإراقة دماء ضحاياهم فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم و الصلاة و النحر
الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة و الصدقة الذي في عيد الفطر لهذا
أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر
أن يصلي لربه و ينحر و قيل له قل : { إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله
رب العالمين } و لهذا ورد الأمر بتلاوة هذه الآية عند ذبح الأضاحي و
الأضاحي سنة إبراهيم عليه السلام و محمد صلى الله عليه و سلم فإن الله
شرعها لإبراهيم حين فدى ولده الذي أمره بذبحه بذبح عظيم و في حديث زيد بن
أرقم قيل : يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال : [ سنة إبراهيم قيل له : فما
لنا بها ؟ قال : بكل شعرة حسنة قيل : فالصوف ؟ قال : بكل شعرة من الصوف
حسنة ] خرجه ابن ماجه و غيره فهذه أعياد المسلمين في الدنيا و كلها عند
إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب و حيازتهم لما وعدهم من الأجر و الثواب مر
قوم براهب في دير فقالوا له : متى عيد أهل هذا الدير ؟ قال : يوم يغفر
لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن
تجمل باللباس و الركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق
خلق العتق و المغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد و إلا فهو
مطرود بعيد كان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات :
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف علي ألا تجود )
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد )
( فإن كنت اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود )
و أنشد غيره :
( للناس عشر وعيد ... ونا فقير وحيد )
( يا غايتي و مناي ... قد لذ لي ما تريد )
و أنشد الشبلي :
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان )
( إنما العيد أن تكون لدى الحـ ... ب كريما مقربا في أمان )
و أنشد :
( إذا ما كنت لي عيدا ... فما أصنع بالعيد )
( جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود )
و أنشد :
( قالوا غدا العيد أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حسنة برعا )
( صبر رهقرقهما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفه الأعياد و الجمعا )
( أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزوار في الثواب الذي خلعا )
( الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... و العيد ما كنت لي أمرا و مستمعا )
و أما أعياد المؤمنين في الحنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز و جل فيزورونه و
يكرمهم غاية الكرامة و يتجلى لهم و ينظرون إليه فما أعطاهم شيئا هو أحب
إليهم من ذلك و هو الزيادة التي قال الله تعالى فيها : { للذين أحسنوا
الحسنى و زيادة } ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيد ليس لي عيد سواه )
كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه
على زيارة ربهم و يتجلى لهم فيه و يوم الجمعة يدعى في الجنة : يوم المزيد
و يوم الفطر و الأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة و روي أنه يشارك
النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة فهذا
لعموم أهل الجنة فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين
بكرة و عشيا الخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعيادا فصارت أيامهم في
الآخرة كلها أعيادا قال الحسن : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد كل يوم
يقطعه المؤمن في طاعة مولاه و ذكره و شكره فهو له عيد أركان الإسلام التي
بني الإسلام عليها خمسة : الشهادتان و الصلاة و الزكاة و صيام رمضان و
الحج فأعياد عموم المسلمين في الدنيا عند إكمال دور الصلاة و إكمال الصيام
و الحج يجتمعون عند ذلك اجتماعا عاما فأما الزكاة فليس لها وقت معين ليتخذ
عيدا بل كل من ملم نصابا فحوله بحسب ملكه و أما الشهادتان فإكمالها يحصل
بتحقيقهما و القيام بحقوقها و خواص المؤمنين يجتهدون على ذلك في كل وقت
فلذلك كانت أوقاتهم كلها أعيادا لهم في الدنيا و الآخرة كما أنشد الشبلي :
( عيدي مقيم و عيد الناس منصرف ... و القلب مني عن اللذات منحرف )
( و لي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين و عين دمعها يكف )
و لما كان عيد النحر أكبر العيدين و أفضلهما و يجتمع فيه شرف المكان و
الزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله و بعده فقبله و بعده
فقبله يوم عرفة و بعده أيام التشريق و كل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم
كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يوم عرفة
و يوم النحر و أيام التشريق عيدنا أهل الإسلام و هي أيام أكل و شرب ] خرجه
أهل السنن و صححه الترمذي و لهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة لأنه
أول أعيادهم و أكبر مجامعهم و قد أفطره النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة و
الناس ينظرون إليه و روي أنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفة و روي عن سفيان بن
عيينة : أنه سئل عن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة ؟ فقال : لأنهم زوار
الله و أضيافه و لا ينبغي للكريم أن يجوع أضيافه و هذا المعنى يوجد في
العيدين و أيام التشريق أيضا فإن الناس كلهم في ضيافه الله عز و جل لا
سيما عيد النحر فإن الناس يأكلون من لحوم نسكهم أهل الموقف و غيرهم و أيام
التشريق الثلاثة هي أيام عيد أيضا و لهذا بعث النبي صلى الله عليه و سلم
من ينادي بمكة : [ أنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل فلا يصومن أحد
] و قد يجتمع في يوم واحد عيدان كما إذا اجتمع يوم الجمعة مع يوم عرفة أو
يوم النحر فيزداد ذلك اليوم حرمة و فضلا لإجتماع عيدين فيه و قد كان ذلك
اجتمع للنبي صلى الله عليه و سلم في حجته يوم عرفة فكان يوم الجمعة و فيه
نزلت هذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم
الإسلام دينا }
و إكمال الدين في ذلك اليوم حصل من وجوه : منها : أن
المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك و لا أحد منهم
هذا قول أكثر العلماء أو كثير منهم فيكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان
الإسلام كلها و منها : أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه
السلام و نفى الشرك و أهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد
قال الشعبي : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف
بعرفة حين وقف موقف إبراهيم و اضمحل الشرك و هدمت منار الجاهلية و لم يطف
بالبيت عريان و كذا قال قتادة و غيره و قد قيل : إنه لم ينزل بعدها تحليل
و لا ترحيم قاله أبو بكر بن عياش و أما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة
فلا تتم النعمة بدونها كما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ليغفر لك
الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما }
و قال تعالى في آية الوضوء : { و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم } و
من هنا استنبط محمد بن كعب القرظي بأن الوضوء يكفر الذنوب كما وردت السنة
بذلك صريحا و يشهد له أيضا : أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يدعو
و يقول : أسألك تمام النعمة فقال له : [ تمام النعمة النجاة من النار و
دخول الجنة ] فهذه الآية تشهد لما روي في يوم عرفة أنه يوم المغفرة و
العتق من النار فيوم عرفة له فضائل متعددة منها : أنه يوم إكمال الدين و
إتمام النعمة و منها : أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب و ابن
عباس فإن ابن عباس قال : نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة و يوم عرفة و روي
عن عمر أنه قال : و كلاهما بحمد الله لنا عيد خرجه ابن جرير في تفسيره و
يشهد له حديث عقبة بن عامر المتقدم لكنه عيد لأهل الموقف خاصة و يشرع
صيامه لأهل الأمصار عند جمهور العلماء و إن خالف فيه بعض السلف و منها :
أنها قد قيل : إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه و أن الوتر يوم النحر
و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث جابر خرجه الإمام أحمد
و النسائي في تفسيره و قيل : إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه فقال
تعالى : { و شاهد و مشهود } و في المسند [ عن أبي هريرة مرفوعا و موقوفا :
الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم الجمعة ] و خرجه الترمذي مرفوعا و روي ذلك
عن علي من قوله و خرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا : [
الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة ] و على هذا فإذا وقع يوم عرفة في
يوم الجمعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهد و مشهود و منها : أنه روي أنه
أفضل الأيام خرجه ابن حبان في صحيحه من [ حديث جابر عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : أفضل الأيام يوم عرفة ] و ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء
و منهم من قال : يوم النحر أفضل الأيام لحديث عبد الله بن قرط [ عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ]
خرجه الإمام أحمد و أبو دواد و النسائي و ابن حبان في صحيحه و لفظه : [
أفضل الأيام ] و منها : أنه روي عن أنس بن مالك أنه قال : كان يقال : يوم
عرفة بعشرة آلاف يوم يعني في الفضل و قد ذكرناه في فضل العشر و روي عن
عطاء قال : من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم و منها : أنه يوم الحج
الأكبر عند جماعة من السلف منهم عمر و غيره و خالفهم آخرون و قالوا : يوم
الحج الأكبر يوم النحر و روي ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم و منها :
أن صيامه كفارة سنتين و سنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
و منها : أنه يوم مغفرة الذنوب و التجاوز عنها و العتق من النار و
المباهاة بأهل الموقف كما في صحيح مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من
النار من يوم عرفة و إنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد
هؤلاء ؟ ] و في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول : انظروا إلى
عبادي أتوني شعثا غبرا ] و فيه [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : إن الله يباهي بأهل عرفات يقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا
غبرا ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و خرج فيه أيضا من حديث جابر [ عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله
تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول :
انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي و لم
يروا عذابي فلم ير أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و خرجه ابن منده في
كتاب التوحيد و لفظه : [ إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى سماء الدنيا
فيباهي بهم الملائكة فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج
عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة : يا رب فلان مرهق فيقول : قد
غفرت لهم فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و قال : إسناد حسن
متصل انتهى و رويناه من وجه آخر بزيادة فيه و هي : [ أشهدكم يا عبادي أني
قد غفرت لمحسنهم و تجاوزت عن مسيئهم ] و رويناه من رواية إسماعيل بن رافع
ـ و فيه مقال ـ [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يهبط الله
إلى السماء الدنيا عشية عرفة ثم يباهي بكم الملائكة فيقول : هؤلاء عبادي
جاؤوني شعثا من كل فج عميق يرجون رحمتي و مغفرتي فلو كانت ذنوبهم كعدد
الرمل لغفرتها أفيضوا عبادي مغفورا لكم و لمن شفعتم فيه ] و خرجه البزار
في مسنده بمعناه من حديث مجاهد [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم
و قال : لا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق ] و خرجه الطبراني و غيره من
حديث عبد الله بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم مختصرا و رويناه من
طريق الوليد بن مسلم قال : أخبرني أبو بكر بن أبي مريم [ عن الأشياخ أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يدنو إلى السماء الدنيا
عشية فيقبل على ملائكته فيقول : ألا إن لكل وفد جائزةو هؤلاء وفدي شعثا
غبرا أعطوهم ما سألوا و اخلفوا لهم ما أنفقوا حتى إذا كان عند غروب الشمس
أقبل عليهم فقال : ألا إني قد وهبت مسيئكم لمحسنكم و أعطيت محسنكم ما سأل
أفيضوا بسم الله ] و روى إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي حدثنا فرقد
قال : إن أبواب السماء تفتح كل ليلة ثلاث مرات و في ليلة الجمعة سبع مرات
و في ليلة عرفة تسع مرات و روينا من طريق نفيع أبي دواد [ عن ابن عمر
مرفوعا و موقوفا : إذا كان يوم عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال ذرة من
إيمان إلا غفر له قيل له : أللمعروف خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل للناس
عامة ] و خرج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر و لا
أدحر و لا أحقر و لا أغيظ منه يوم عرفة و ما ذاك إلا لما يرى من تنزل
الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر ]
قيل : و
ما رأى يوم بدر [ قال : رأى جبريل عليه السلام و هو يزع الملائكة ] و روى
أبو عثمان الصابوني بإسناد له عن رجل كان أسيرا ببلاد الروم فهرب من بعض
الحصون قال : فكنت أسير بالليل و أكمن بالنهار فبينا أنا ذات ليلة أمشي
بين جبال و أشجار إذا أنا بحس فراعني ذلك فنظرت فإذا راكب بعير فازددت
رعبا و ذلك لأنه لا يكون ببلاد الروم بعير فقلت : سبحان الله في بلاد
الروم راكب بعير إن هذا لعجب فلما انته إلي قلت : يا عبد الله من أنت ؟
قال : لا تسأل قلت : إني أرى عجبا ! فأخبرني ؟ فقال : لا تسأل فأبيت عليه
فقال : أنا إبليس و هذا وجهي من عرفات رافقتهم عشية اليوم اطلع عليهم
فنزلت عليهم المغفرة و وهب بعضهم لبعض فداخلني اللهم و الحزن و الكآبة و
هذا وجهي إلى قسطنطينية انفرج بما
أسمع من الشرك بالله وادعاء أن له
ولدا فقلت : أعوذ بالله منك فلما قلت : هذا الكلمات لم أر أحدا و يشهد
لهذه الحكاية حديث عباس بن مرداس الذي خرجه أحمد و ابن ماجه في دعاء النبي
صلى الله عليه و سلم لأمته عشية عرفة ثم بالمزدلفة فأجيب فضحك صلى الله
عليه و سلم و قال : [ إن إبليس حين علم أن الله قد غفر لأمتي و استجاب
دعائي أهوى يحثي التراب على رأسه و يدعو بالويل و الثبور فضحكت من الخبيث
من جزعه ] و يروى عن علي بن موفق أنه وقف بعرفة في بعض حجاته فرأى كثرة
الناس فقال : اللهم إن كنت لم تتقبل منهم أحدا فقد وهبته حجي فرأى رب
العزة في منامه و قال له : يا ابن الموفق أتسخى علي قد غفرت لأهل الموقف و
لأمثالهم و شفعت كل واحد منهم في أهل بيته و ذريته و عشيرته و أنا أهل
التقوى و أنا أهل المغفرة و يروى نحوه عن غيره أيضا من الشيوخ
فمن
طمع في العتق من النار و مغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب
التى يرجى بها العتق و المغفرة فمنها : صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم [ عن
أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام يوم عرفة أحتسب على
الله أن يكفر السنة التي قبله و التي بعده ] و منها : حفظ جوراحه عن
المحرمات في ذاك اليوم ففي مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال : يوم عرفة هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره و
لسانه غفر له ] و منها : الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص و صدق فإنها أصل
دين الإسلام الذي أكلمه الله تعالى في ذلك اليوم و أساسه و في المسند [ عن
عبد الله بن عمر قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة
: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد بيده الخير و هو
على كل شيء قدير ] و خرجه الترمذي و لفظه : [ خير الدعاء دعاء يوم عرفة و
خير ما قلت أنا و النبيون من قلبي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير ] و خرجه الطبراني من حديث علي و
ابن عمر مرفوعا أيضا و خرج الإمام أحمد من حديث الزبير بن العوام قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بعرفة يقرأ هذه الآية : { شهد الله
أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم } الآية و يقول : [ و أنا على
ذلك من الشاهدين يا رب ] و يروى من حديث عبادة قال شهدت النبي صلى الله
عليه و سلم يوم عرفة فكان أكثر قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو }
الآية ثم قال : [ أي رب و أنا أشهد ] فتحقيق كلمة التوحيد يوجب عتق الرقاب
و عتق الرقاب يوجب العتق من النار كما ثبت في الصحيح : [ أن من قالها مائة
مرة كان له عدل عشر رقاب ] و ثبت أيضا : [ أن من قالها عشر مرات كان كمن
اعتق أربعة من ولد إسماعيل ] و في سنن أبي دواد و غيره [ عن أنس عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : من قال حين يصبح أو يمسي : اللهم أني أصبحت
أشهدك و أشهد حملة عرشك و ملائكتك و جميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا
أنت و أن محمدا عبدك و رسولك أعتق الله ربعه من النار و من قالها مرتين
أعتق الله نصفه من النار و من قالها ثلاث مرات أعتق ثلاثة أرباعه و من
قالها أربع مرار أعتقه الله من النار ] و يروى من مراسيل الزهري : [ من
قال في يوم : عشرة آلاف مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعتقه الله
من النار كما أنه لو جاء بدية من قتله عشرة آلاف قبلت منه ] و منها : أن
يعتق رقبة إن أمكنه فإن من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا
منه من النار كان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة و معه مائة بدنة
مقلدة و مائة رقبة فيعتق رقيقه فيضج الناس بالبكاء و الدعاء و يقولون :
ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده و نحن عبيدك فاعتقنا و جرى للناس مرة مع
الرشيد نحو هذا و كان أبو قلابة يعتق جارية في عيد الفطر يرجو أن يعتق
بذلك من النار و منها : كثرة الدعاء بالمغفرة و العتق فإنه يرجى إجابة
الدعاء فيه روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال : ليس في الأرض يوم إلا
لله فيه عتقاء من النار و ليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة فأكثر
فيه أن تقول : اللهم أعتق رقبتي من النار و أوسع لي من الرزق الحلال و
اصرف عني فسقة الجن و الإنس فإنه عامة دعائي اليوم
و ليحذر من
الذنوب التي تمنع المغفرة فيه و العتق : فمنها : الإختيال روينا [ من حديث
جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما يري يوم أكثر عتيقا و لا
عتيقة من يوم عرفة لا يغفر الله فيه لمختال ] و خرجه البزار و الطبراني و
غيرهما و المختال هو المتعاظم في نفسه المتكبر قال الله تعالى : { و الله
لا يحب كل مختال فخور } و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا
ينظر إلى جر ثوبه خيلاء ] و منها : الإصرار على الكبائر روى جعفر السراج
بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى أنه حج سنة فرأى أمير الحاج في منامه : أن
الله قد غفر لأهل الموسم سوى رجل فسق بغلام فأمر بالنداء بذلك في الموسم و
روى ابن أبي الدنيا و غيره أن رجلا رأى في منامه أن الله قد غفر لأهل
الموقف كلهم إلا رجلا من أهل بلخ فسأل عنه حتى وقع عليه فسأله عن حاله
فذكر أنه كان مدمنا لشرب الخمر ليلة و هو سكران فعاتبته أمه و هي تسجر
تنور فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت يا من يطمع في العتق من النار ثم
يمنع نفسه الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم و الأوزار تالله نصحت نفسك و
لا وقف في طريقك غيرك توبق نفسك بالمعاصي فإذا حرمت المغفرة قلت : إني هذا
: { قل هو من عند أنفسكم }
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار )
إن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله { إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل
في افتكاكها من النار اشترى بعض السلف نفسه من الله ثلاث مرار أو أربعا
يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضة و اشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من
الله بدية ست مرات تصدق بها و اشترى حبيب نفسه من الله بأربعين ألف درهم
تصدق بها و كان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يفتك
بذلك نفسه
( بدم الحبيب يباع وصلهم ... فمن الذي يبتاع في الثمن )
من عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل ويحك قد رضينا منك في فكاك نفسك
بالندم و قنعنا منك في ثمنها بالتوبة و الحزن و في هذا الموسم قد رخص
السعر من ملك سمعه و بصره و لسانه غفر له مد إليه يد الإعتذار و قم على
بابه بالذل و الإنكسار و ارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع
و الغزار و قل : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من
الخاسرين } قال يحيى بن معاذ : العبد يوحش ما بينه و بين سيده بالمخالفات
و لا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم و أنشأ يقول :
( قرة عيني لا بد لي منك و إن ... أوحش بيني و بينك الزلل )
( قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل )
قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ ما من أيام أعظم عند الله و لا أحب إليه
العمل فيهن من هذه الأيام العشر ] و في صحيح ابن حيان [ عن جابر عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة
] و قد تقدم و رويناه من وجه آخر بزيادة و هي : [ و لا ليالي أفضل من
ليالهين قيل : يا رسول الله هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله ؟ قال :
هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله إلا من عفر وجهه تعفيرا و ما من يوم
أفضل من يوم عرفة ] خرجه الحافظ أبو موسى المديني من جهة أبي نعيم الحافظ
بالإسناد الذي خرجه به ابن حبان و خرج البزار و غيره [ من حديث جابر أيضا
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل أيام الدنيا أيم العشر قالوا :
يا رسول الله و لا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : و لا مثلهن في سبيل الله
إلا من عفر وجهه بالتراب ] و روي مرسلا و قيل : إنه أصح و قد سبق ما روي
عن ابن عمر قال : ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ليس العشر و يدل
على أن أيام العشر أفضل من أيام الجمعة الذي هو أفضل الأيام و قال سهيل بن
أبي صالح عن أبيه عن كعب قال : اختار الله الزمان و أحب الزمان إلى الله
الأشهر الحرم و أحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة و أحب ذي الحجة إلى
الله العشر الأول و رواه بعضهم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة و رفعه و لا
يصح ذلك و قال مسروق في قوله تعالى : { و ليال عشر } هي أفضل أيام السنة
خرجه عبد الرزاق و غيره و أيضا فأيام هذا العشر يشتمل على يوم عرفة و قد
روي أنه أفضل أيام الدنيا كما جاء في حديث جابر الذي ذكرناه و فيه يوم
النحر و في حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ] خرجه الإمام أحمد و أبو
دواد و غيرهما و هذا كله يدل على أن عشر ذي الحجة أفضل من غيره من الأيام
من غير استثناء هذا في أيامه فأما لياليه فمن المتأخرين من زعم أن ليالي
عشر رمضان أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر و هذا بعيد جدا و احتج
بعضهم بحديث عائشة فيمن أرسل بهديه مع غيره و أقام في بلده و كان ابن عمر
إذا ضحى يوم النحر حلق رأسه و نص أحمد على ذلك و اختلف العلماء في التعريف
بالأمصار عشية عرفة و كان الإمام أحمد لا يفعله و لا ينكر على من فعله
لأنه روي عن ابن عباس و غيره من الصحابة و أما مشاركتهم لهم في الذاكرة في
الأيام المعلومات فإنه يشرع للناس كلهم الإكثار من ذكر الله في أيام العشر
خصوصا و قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ فأكثروا فيهن من التهليل و
التكبير و التحميد ] و اختلف العلماء هل يشرع إظهار التكبير و الجهر به في
الأسواق في العشر ؟ فأنكره طائفة و استحبه أحمد و الشافعي لكن الشافعي خصه
بحال رؤية بهيمة الأنعام و أحمد يستحبه مطلقا و قد ذكر البخاري في صحيحه
عن ابن عمر و أبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران و
يكبر الناس بتكبيرهما و رواه أبو داود حدثنا سلام أبو المنذر عن حميد
الأعرج عن مجاهد قال كان أبي هريرة و ابن عمر يأتيان السوق أيام العشر
فيكبران و يكبر الناس معهما و لا يأتيان لشيء إلا لذلك و روى جعفر
الفريابي في كتاب العيدين : حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن يزيد بن
أبي زياد قال رأيت سعيد بن جبير و مجاهدا و عبد الرحمن بن أبي ليلى أو
اثنين من هؤلاء الثلاثة و ما رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر :
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر و
لله الحمد لما كان الله سبحانه و تعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى
مشاهدة بيته الحرام و ليس كل أحد قادرا على مشاهدته في كل عام فرض على
المستطيع الحج مرة واحدة في عمره و جعل موسم العشر مشتركا بين السائرين و
القاعدين فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون
أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج
( ليالي العشر أوقات الإجابة ... فبادر رغبة تلحق ثوابه )
( ألا لا وقت للعمال فيه ... ثواب الخير أقرب للإصابة )
( من أوقات الليالي العشر حقا ... فشمر واطلبن فيها الإنابة )
احذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة وروى المروذي في كتاب
الورع بإسناده عن عبد الملك بن عمير عن رجل ـ إما من الصحابة أو من
التابعين ـ : أن آتيا أتاه في منامه في العشر من ذي الحجة فقال : ما من
مسلم إلا يغفر له في هذه الأيام كل يوم خمس مرارا إلا أصحاب الشاء يقولون
: مات ما موته يعني أصحاب الشطرنج فإذا كان اللعب بالشطرنج مانعا من
المغفرة فما الظن بالإصرار على الكبائر المجمع عليها
( طاعة الله خير ما لزم العبـ ... د فكن طائعا و لا تعصينه )
( ما هلاك النفوس إلا المعاصي ... فاجتنب ما نهاك لا تقربنه )
( إن شيئا هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه )
المعاصي سبب البعد و الطرد كما أن الطاعات أسباب القرب و الود
( أيضمن لي فتى ترك المعاصي ... و أرهنه الكفالة بالخلاص )
( أطاع الله قوم فاستراحوا ... و لم يتجرعوا غصص المعاصي )
إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام و قصدوا البيت الحرام و ملؤا
الفضاء بالتلبية و التكبير و التهليل و التحميد و الإعظام لقد ساروا و
قعدنا و قربوا و بعدنا فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا
( أتراكم في النقا و المنحنى ... أهل سلع تذكرونا ذكرنا )
( انقطعنا و وصلتم فاعلموا ... و اشكروا المنعم يا أهل منى )
( قد خسرنا و ربحتم فصلوا ... بفضول الريح من قد غبنا )
( سار قلبي خلف أحمالكم ... غير أن العذر عاق البدنا )
( ما قطعتم واديا إلا وقد ... جئته أسعى بأقدام المنى )
( أنا مذ غبتم على تذكاركم ... أترى عندكمو ما عندنا )
القاعد لعذر شريك للسائر و ربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم رأى
بعضهم في المنام عشية عرفة في الموقف قائلا يقول له : أترى هذا الزحام على
هذا الموقف فإنه لم يحج منهم أحد إلا رجل تخلف عن الموقف فحج بهمته فوهب
له أهل الموقف
( يا سائرين إلى البيت العتيق ... لقد سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة فما منها عوض و لا
لها قيمة المبادرة المبادرة بالعمل و العجل العجل قبل هجوم الأجل قبل أن
يندم المفرط على ما فعل قبل أن يسأل الرجعة فيعمل صالحا فلا يجاب إلى ما
سأل قبل أن يحول الموت بين المؤمل و بلوغ الأمل قبل أن يصير المرء مرتهنا
في حفرته بما قدم من عمل
( ليس للميت في قبره ... فطر و لا أضحى و لا عشر )
( ناء عن الأهل على قربه ... كذاك من مسكنه القبر )
يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر
سنين حتى بلغ الخمسين يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين و السبعين
ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين يا من ذنوبه بعدد الشفع و
الوتر أما تستحي من الكرام الكاتبين ؟ أم أنت ممن يكذب بيوم الدين ؟ يا من
ظلمة قلبه كالليل إذا يسري أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين تعرض لنفحات
مولاك في هذا العشر فإن فيه لله نفحات يصيب بها من يشاء فمن أصابته سعد
بها آخر الدهر
في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود له : يا
أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا اليهود
نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا فقال : أي آية : قال : { اليوم أكملت لكم
دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا } فقال عمر : إني
لأعلم اليوم الذي نزلت فيه و المكان الذي نزلت فيه : نزلت و رسول الله صلى
الله عليه و سلم قائم بعرفة يوم الجمعة و خرج الترمذي عن ابن عباس نحوه و
قال فيه : نزلت في يوم عيد من يوم جمعة و يوم عرفة و العيد هو موسم الفرح
و السرور و أفراح المؤمنين و سرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا
بإكمال طاعته و حازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله و
مغفرته كما قال تعالى : { قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير
مما يجمعون } قال بعض العارفين : ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله
فالغافل يفرح بلهوه و هواه و العاقل يفرح بمولاه و أنشد سمنون في هذا
المعنى :
( و كان فؤادي خاليا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو و يمرح )
( فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح )
( رميت ببعد منك إن كنت كاذبا ... و إن كنت في الدنيا بغيرك أفراح )
( و إن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني لعيني يملح )
( فإن شئت و اصلني و إن شئت لا تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح )
لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما
فقال : [ إن الله قد أبدلكم يومين خيرا منهما يوم الفطر و الأضحى ] فأبدل
الله هذه الأمة بيومي اللعب و اللهو يومي الذكر و الشكر و المغفرة و العفو
ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد عيد يتكرر فهو يوم الجمعة و هو عيد
الأسبوع و هو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات فإن الله عز و جل فرض على
المؤمنين في كل يوم و ليلة خمس صلوات و أيام الدنيا تدور على سبعة أيام
فكلما دور أسبوع من أيام الدنيا و استكمل المسلمون صلواتهم فيه شرع لهم في
يوم استكمالهم و هو اليوم الذي كمل فيه الخلق و فيه خلق آدم و أدخل الجنة
و أخرج منها و فيه ينتهي أمد الدنيا فتزول و تقوم الساعة فالجمعة من
الإجتماع على سماع الذكر و الموعظة و صلاة الجمعة و جعل ذلك لهم عيدا و
لهذا نهى عن إفراده بالصيام و في شهود الجمعة شبه من الحج و روي : أنها حج
المساكين و قال سعيد بن المسيب : شهود الجمعة أحب إلي من حجة نافلة و
التبكير إليها يقوم مقام الهدي على قدر السبق فأولهم كالمهدي بدنة ثم بقرة
ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة
الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أن الحج المبرور يكفر ذنوب
تلك السنة إلى الحجة الأخرى و قد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام و روي
أن الله تعالى يغفر يوم الجمعة لكل مسلم و في الحديث الصحيح عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال : [ ما طلعت الشمس و لا غربت على يوم أفضل من يوم
الجمعة ] و في المسند [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في يوم الجمعة :
هو أفضل عند الله من يوم الفطر و يوم الأضحى ] فهذا عيد الأسبوع و هو
متعلق بإكمال الصلوات المكتوبة و هي أعظم أركان الإسلام و مبانيه بعد
الشهادتين
و أما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام و إنما يأتي
قال واحد منهما في العام مرة و احدة فأحدهما : عيد الفطر من صوم رمضان و
هو مترتب على إكمال صيام رمضان و هو الركن الثالث من أركان الإسلام و
مبانيه فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم و استوجبوا من الله
والمغفر و العتق من النار فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب و آخره
عتق من النار يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه فشرع الله تعالى لهم
عقب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله و ذكره و تكبيره على
ما هداهم له و شرع لهم في ذلك العيد الصلاة و الصدقة و هو يوم الجوائز
يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم و يرجعون من عيدهم بالمغفرة و العيد
الثاني : عيد النحر و هو أكبر العيدين و أفضلهما و هو مترتب على إكمال
الحج و هو الركن الرابع من أركان الإسلام و مبانيه فإذا أكمل المسلمون
حجهم غفر لهم و إنما يكمل الحج بيوم عرفة و الوقوف بعرفة فإنه ركن الحج
الأعظم كما قال صلى الله عليه و سلم : [ الحج عرفة و يوم عرفة هو يوم
العتق من النار ] فيعتق الله من النار من وقف بعرفة و من لم يقف بها من
أهل الأمصار من المسلمين فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين
في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم و من لم يشهده لا شتراكهم في العتق و
المغفرة يوم عرفة و إنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام رحمة من
الله و تخفيفا على عباده فإنه جعل الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام و
إنما هو في كل عام فرض كفاية بخلاف الصيام فإنه فريضة كل عام على كل مسلم
فإذا كمل يوم عرفة و أعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون
كلهم في العيد عقب ذلك و شرع للجميع التقرب إليه بالنسك و هو إراقة دماء
القرابين فأهل الموسم يرمون الجمرة فيشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج و
يقضون تفثهم و يوفون نذورهم و يقربون قرابينهم من الهدايا ثم يطوفون
بالبيت العتيق و أهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله و تكبيره و الصلاة له
قال مخنف بن سليم و هو معدود من الصحابة : الخروج يوم الفطر يعدل عمرة و
الخروج يوم الأضحى يعدل حجة ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم و يقربون قرابينهم
بإراقة دماء ضحاياهم فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم و الصلاة و النحر
الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة و الصدقة الذي في عيد الفطر لهذا
أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر
أن يصلي لربه و ينحر و قيل له قل : { إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله
رب العالمين } و لهذا ورد الأمر بتلاوة هذه الآية عند ذبح الأضاحي و
الأضاحي سنة إبراهيم عليه السلام و محمد صلى الله عليه و سلم فإن الله
شرعها لإبراهيم حين فدى ولده الذي أمره بذبحه بذبح عظيم و في حديث زيد بن
أرقم قيل : يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال : [ سنة إبراهيم قيل له : فما
لنا بها ؟ قال : بكل شعرة حسنة قيل : فالصوف ؟ قال : بكل شعرة من الصوف
حسنة ] خرجه ابن ماجه و غيره فهذه أعياد المسلمين في الدنيا و كلها عند
إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب و حيازتهم لما وعدهم من الأجر و الثواب مر
قوم براهب في دير فقالوا له : متى عيد أهل هذا الدير ؟ قال : يوم يغفر
لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن
تجمل باللباس و الركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق
خلق العتق و المغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد و إلا فهو
مطرود بعيد كان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات :
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف علي ألا تجود )
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد )
( فإن كنت اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود )
و أنشد غيره :
( للناس عشر وعيد ... ونا فقير وحيد )
( يا غايتي و مناي ... قد لذ لي ما تريد )
و أنشد الشبلي :
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان )
( إنما العيد أن تكون لدى الحـ ... ب كريما مقربا في أمان )
و أنشد :
( إذا ما كنت لي عيدا ... فما أصنع بالعيد )
( جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود )
و أنشد :
( قالوا غدا العيد أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حسنة برعا )
( صبر رهقرقهما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفه الأعياد و الجمعا )
( أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزوار في الثواب الذي خلعا )
( الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... و العيد ما كنت لي أمرا و مستمعا )
و أما أعياد المؤمنين في الحنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز و جل فيزورونه و
يكرمهم غاية الكرامة و يتجلى لهم و ينظرون إليه فما أعطاهم شيئا هو أحب
إليهم من ذلك و هو الزيادة التي قال الله تعالى فيها : { للذين أحسنوا
الحسنى و زيادة } ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيد ليس لي عيد سواه )
كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه
على زيارة ربهم و يتجلى لهم فيه و يوم الجمعة يدعى في الجنة : يوم المزيد
و يوم الفطر و الأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة و روي أنه يشارك
النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة فهذا
لعموم أهل الجنة فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين
بكرة و عشيا الخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعيادا فصارت أيامهم في
الآخرة كلها أعيادا قال الحسن : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد كل يوم
يقطعه المؤمن في طاعة مولاه و ذكره و شكره فهو له عيد أركان الإسلام التي
بني الإسلام عليها خمسة : الشهادتان و الصلاة و الزكاة و صيام رمضان و
الحج فأعياد عموم المسلمين في الدنيا عند إكمال دور الصلاة و إكمال الصيام
و الحج يجتمعون عند ذلك اجتماعا عاما فأما الزكاة فليس لها وقت معين ليتخذ
عيدا بل كل من ملم نصابا فحوله بحسب ملكه و أما الشهادتان فإكمالها يحصل
بتحقيقهما و القيام بحقوقها و خواص المؤمنين يجتهدون على ذلك في كل وقت
فلذلك كانت أوقاتهم كلها أعيادا لهم في الدنيا و الآخرة كما أنشد الشبلي :
( عيدي مقيم و عيد الناس منصرف ... و القلب مني عن اللذات منحرف )
( و لي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين و عين دمعها يكف )
و لما كان عيد النحر أكبر العيدين و أفضلهما و يجتمع فيه شرف المكان و
الزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله و بعده فقبله و بعده
فقبله يوم عرفة و بعده أيام التشريق و كل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم
كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يوم عرفة
و يوم النحر و أيام التشريق عيدنا أهل الإسلام و هي أيام أكل و شرب ] خرجه
أهل السنن و صححه الترمذي و لهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة لأنه
أول أعيادهم و أكبر مجامعهم و قد أفطره النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة و
الناس ينظرون إليه و روي أنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفة و روي عن سفيان بن
عيينة : أنه سئل عن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة ؟ فقال : لأنهم زوار
الله و أضيافه و لا ينبغي للكريم أن يجوع أضيافه و هذا المعنى يوجد في
العيدين و أيام التشريق أيضا فإن الناس كلهم في ضيافه الله عز و جل لا
سيما عيد النحر فإن الناس يأكلون من لحوم نسكهم أهل الموقف و غيرهم و أيام
التشريق الثلاثة هي أيام عيد أيضا و لهذا بعث النبي صلى الله عليه و سلم
من ينادي بمكة : [ أنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل فلا يصومن أحد
] و قد يجتمع في يوم واحد عيدان كما إذا اجتمع يوم الجمعة مع يوم عرفة أو
يوم النحر فيزداد ذلك اليوم حرمة و فضلا لإجتماع عيدين فيه و قد كان ذلك
اجتمع للنبي صلى الله عليه و سلم في حجته يوم عرفة فكان يوم الجمعة و فيه
نزلت هذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم
الإسلام دينا }
و إكمال الدين في ذلك اليوم حصل من وجوه : منها : أن
المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك و لا أحد منهم
هذا قول أكثر العلماء أو كثير منهم فيكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان
الإسلام كلها و منها : أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه
السلام و نفى الشرك و أهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد
قال الشعبي : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف
بعرفة حين وقف موقف إبراهيم و اضمحل الشرك و هدمت منار الجاهلية و لم يطف
بالبيت عريان و كذا قال قتادة و غيره و قد قيل : إنه لم ينزل بعدها تحليل
و لا ترحيم قاله أبو بكر بن عياش و أما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة
فلا تتم النعمة بدونها كما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ليغفر لك
الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما }
و قال تعالى في آية الوضوء : { و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم } و
من هنا استنبط محمد بن كعب القرظي بأن الوضوء يكفر الذنوب كما وردت السنة
بذلك صريحا و يشهد له أيضا : أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يدعو
و يقول : أسألك تمام النعمة فقال له : [ تمام النعمة النجاة من النار و
دخول الجنة ] فهذه الآية تشهد لما روي في يوم عرفة أنه يوم المغفرة و
العتق من النار فيوم عرفة له فضائل متعددة منها : أنه يوم إكمال الدين و
إتمام النعمة و منها : أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب و ابن
عباس فإن ابن عباس قال : نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة و يوم عرفة و روي
عن عمر أنه قال : و كلاهما بحمد الله لنا عيد خرجه ابن جرير في تفسيره و
يشهد له حديث عقبة بن عامر المتقدم لكنه عيد لأهل الموقف خاصة و يشرع
صيامه لأهل الأمصار عند جمهور العلماء و إن خالف فيه بعض السلف و منها :
أنها قد قيل : إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه و أن الوتر يوم النحر
و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث جابر خرجه الإمام أحمد
و النسائي في تفسيره و قيل : إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه فقال
تعالى : { و شاهد و مشهود } و في المسند [ عن أبي هريرة مرفوعا و موقوفا :
الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم الجمعة ] و خرجه الترمذي مرفوعا و روي ذلك
عن علي من قوله و خرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا : [
الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة ] و على هذا فإذا وقع يوم عرفة في
يوم الجمعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهد و مشهود و منها : أنه روي أنه
أفضل الأيام خرجه ابن حبان في صحيحه من [ حديث جابر عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : أفضل الأيام يوم عرفة ] و ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء
و منهم من قال : يوم النحر أفضل الأيام لحديث عبد الله بن قرط [ عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ]
خرجه الإمام أحمد و أبو دواد و النسائي و ابن حبان في صحيحه و لفظه : [
أفضل الأيام ] و منها : أنه روي عن أنس بن مالك أنه قال : كان يقال : يوم
عرفة بعشرة آلاف يوم يعني في الفضل و قد ذكرناه في فضل العشر و روي عن
عطاء قال : من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم و منها : أنه يوم الحج
الأكبر عند جماعة من السلف منهم عمر و غيره و خالفهم آخرون و قالوا : يوم
الحج الأكبر يوم النحر و روي ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم و منها :
أن صيامه كفارة سنتين و سنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
و منها : أنه يوم مغفرة الذنوب و التجاوز عنها و العتق من النار و
المباهاة بأهل الموقف كما في صحيح مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من
النار من يوم عرفة و إنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد
هؤلاء ؟ ] و في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول : انظروا إلى
عبادي أتوني شعثا غبرا ] و فيه [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : إن الله يباهي بأهل عرفات يقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا
غبرا ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و خرج فيه أيضا من حديث جابر [ عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله
تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول :
انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي و لم
يروا عذابي فلم ير أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و خرجه ابن منده في
كتاب التوحيد و لفظه : [ إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى سماء الدنيا
فيباهي بهم الملائكة فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج
عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة : يا رب فلان مرهق فيقول : قد
غفرت لهم فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و قال : إسناد حسن
متصل انتهى و رويناه من وجه آخر بزيادة فيه و هي : [ أشهدكم يا عبادي أني
قد غفرت لمحسنهم و تجاوزت عن مسيئهم ] و رويناه من رواية إسماعيل بن رافع
ـ و فيه مقال ـ [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يهبط الله
إلى السماء الدنيا عشية عرفة ثم يباهي بكم الملائكة فيقول : هؤلاء عبادي
جاؤوني شعثا من كل فج عميق يرجون رحمتي و مغفرتي فلو كانت ذنوبهم كعدد
الرمل لغفرتها أفيضوا عبادي مغفورا لكم و لمن شفعتم فيه ] و خرجه البزار
في مسنده بمعناه من حديث مجاهد [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم
و قال : لا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق ] و خرجه الطبراني و غيره من
حديث عبد الله بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم مختصرا و رويناه من
طريق الوليد بن مسلم قال : أخبرني أبو بكر بن أبي مريم [ عن الأشياخ أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يدنو إلى السماء الدنيا
عشية فيقبل على ملائكته فيقول : ألا إن لكل وفد جائزةو هؤلاء وفدي شعثا
غبرا أعطوهم ما سألوا و اخلفوا لهم ما أنفقوا حتى إذا كان عند غروب الشمس
أقبل عليهم فقال : ألا إني قد وهبت مسيئكم لمحسنكم و أعطيت محسنكم ما سأل
أفيضوا بسم الله ] و روى إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي حدثنا فرقد
قال : إن أبواب السماء تفتح كل ليلة ثلاث مرات و في ليلة الجمعة سبع مرات
و في ليلة عرفة تسع مرات و روينا من طريق نفيع أبي دواد [ عن ابن عمر
مرفوعا و موقوفا : إذا كان يوم عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال ذرة من
إيمان إلا غفر له قيل له : أللمعروف خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل للناس
عامة ] و خرج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر و لا
أدحر و لا أحقر و لا أغيظ منه يوم عرفة و ما ذاك إلا لما يرى من تنزل
الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر ]
قيل : و
ما رأى يوم بدر [ قال : رأى جبريل عليه السلام و هو يزع الملائكة ] و روى
أبو عثمان الصابوني بإسناد له عن رجل كان أسيرا ببلاد الروم فهرب من بعض
الحصون قال : فكنت أسير بالليل و أكمن بالنهار فبينا أنا ذات ليلة أمشي
بين جبال و أشجار إذا أنا بحس فراعني ذلك فنظرت فإذا راكب بعير فازددت
رعبا و ذلك لأنه لا يكون ببلاد الروم بعير فقلت : سبحان الله في بلاد
الروم راكب بعير إن هذا لعجب فلما انته إلي قلت : يا عبد الله من أنت ؟
قال : لا تسأل قلت : إني أرى عجبا ! فأخبرني ؟ فقال : لا تسأل فأبيت عليه
فقال : أنا إبليس و هذا وجهي من عرفات رافقتهم عشية اليوم اطلع عليهم
فنزلت عليهم المغفرة و وهب بعضهم لبعض فداخلني اللهم و الحزن و الكآبة و
هذا وجهي إلى قسطنطينية انفرج بما
أسمع من الشرك بالله وادعاء أن له
ولدا فقلت : أعوذ بالله منك فلما قلت : هذا الكلمات لم أر أحدا و يشهد
لهذه الحكاية حديث عباس بن مرداس الذي خرجه أحمد و ابن ماجه في دعاء النبي
صلى الله عليه و سلم لأمته عشية عرفة ثم بالمزدلفة فأجيب فضحك صلى الله
عليه و سلم و قال : [ إن إبليس حين علم أن الله قد غفر لأمتي و استجاب
دعائي أهوى يحثي التراب على رأسه و يدعو بالويل و الثبور فضحكت من الخبيث
من جزعه ] و يروى عن علي بن موفق أنه وقف بعرفة في بعض حجاته فرأى كثرة
الناس فقال : اللهم إن كنت لم تتقبل منهم أحدا فقد وهبته حجي فرأى رب
العزة في منامه و قال له : يا ابن الموفق أتسخى علي قد غفرت لأهل الموقف و
لأمثالهم و شفعت كل واحد منهم في أهل بيته و ذريته و عشيرته و أنا أهل
التقوى و أنا أهل المغفرة و يروى نحوه عن غيره أيضا من الشيوخ
فمن
طمع في العتق من النار و مغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب
التى يرجى بها العتق و المغفرة فمنها : صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم [ عن
أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام يوم عرفة أحتسب على
الله أن يكفر السنة التي قبله و التي بعده ] و منها : حفظ جوراحه عن
المحرمات في ذاك اليوم ففي مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال : يوم عرفة هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره و
لسانه غفر له ] و منها : الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص و صدق فإنها أصل
دين الإسلام الذي أكلمه الله تعالى في ذلك اليوم و أساسه و في المسند [ عن
عبد الله بن عمر قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة
: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد بيده الخير و هو
على كل شيء قدير ] و خرجه الترمذي و لفظه : [ خير الدعاء دعاء يوم عرفة و
خير ما قلت أنا و النبيون من قلبي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير ] و خرجه الطبراني من حديث علي و
ابن عمر مرفوعا أيضا و خرج الإمام أحمد من حديث الزبير بن العوام قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بعرفة يقرأ هذه الآية : { شهد الله
أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم } الآية و يقول : [ و أنا على
ذلك من الشاهدين يا رب ] و يروى من حديث عبادة قال شهدت النبي صلى الله
عليه و سلم يوم عرفة فكان أكثر قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو }
الآية ثم قال : [ أي رب و أنا أشهد ] فتحقيق كلمة التوحيد يوجب عتق الرقاب
و عتق الرقاب يوجب العتق من النار كما ثبت في الصحيح : [ أن من قالها مائة
مرة كان له عدل عشر رقاب ] و ثبت أيضا : [ أن من قالها عشر مرات كان كمن
اعتق أربعة من ولد إسماعيل ] و في سنن أبي دواد و غيره [ عن أنس عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : من قال حين يصبح أو يمسي : اللهم أني أصبحت
أشهدك و أشهد حملة عرشك و ملائكتك و جميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا
أنت و أن محمدا عبدك و رسولك أعتق الله ربعه من النار و من قالها مرتين
أعتق الله نصفه من النار و من قالها ثلاث مرات أعتق ثلاثة أرباعه و من
قالها أربع مرار أعتقه الله من النار ] و يروى من مراسيل الزهري : [ من
قال في يوم : عشرة آلاف مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعتقه الله
من النار كما أنه لو جاء بدية من قتله عشرة آلاف قبلت منه ] و منها : أن
يعتق رقبة إن أمكنه فإن من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا
منه من النار كان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة و معه مائة بدنة
مقلدة و مائة رقبة فيعتق رقيقه فيضج الناس بالبكاء و الدعاء و يقولون :
ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده و نحن عبيدك فاعتقنا و جرى للناس مرة مع
الرشيد نحو هذا و كان أبو قلابة يعتق جارية في عيد الفطر يرجو أن يعتق
بذلك من النار و منها : كثرة الدعاء بالمغفرة و العتق فإنه يرجى إجابة
الدعاء فيه روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال : ليس في الأرض يوم إلا
لله فيه عتقاء من النار و ليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة فأكثر
فيه أن تقول : اللهم أعتق رقبتي من النار و أوسع لي من الرزق الحلال و
اصرف عني فسقة الجن و الإنس فإنه عامة دعائي اليوم
و ليحذر من
الذنوب التي تمنع المغفرة فيه و العتق : فمنها : الإختيال روينا [ من حديث
جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما يري يوم أكثر عتيقا و لا
عتيقة من يوم عرفة لا يغفر الله فيه لمختال ] و خرجه البزار و الطبراني و
غيرهما و المختال هو المتعاظم في نفسه المتكبر قال الله تعالى : { و الله
لا يحب كل مختال فخور } و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا
ينظر إلى جر ثوبه خيلاء ] و منها : الإصرار على الكبائر روى جعفر السراج
بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى أنه حج سنة فرأى أمير الحاج في منامه : أن
الله قد غفر لأهل الموسم سوى رجل فسق بغلام فأمر بالنداء بذلك في الموسم و
روى ابن أبي الدنيا و غيره أن رجلا رأى في منامه أن الله قد غفر لأهل
الموقف كلهم إلا رجلا من أهل بلخ فسأل عنه حتى وقع عليه فسأله عن حاله
فذكر أنه كان مدمنا لشرب الخمر ليلة و هو سكران فعاتبته أمه و هي تسجر
تنور فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت يا من يطمع في العتق من النار ثم
يمنع نفسه الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم و الأوزار تالله نصحت نفسك و
لا وقف في طريقك غيرك توبق نفسك بالمعاصي فإذا حرمت المغفرة قلت : إني هذا
: { قل هو من عند أنفسكم }
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار )
إن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله { إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل
في افتكاكها من النار اشترى بعض السلف نفسه من الله ثلاث مرار أو أربعا
يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضة و اشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من
الله بدية ست مرات تصدق بها و اشترى حبيب نفسه من الله بأربعين ألف درهم
تصدق بها و كان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يفتك
بذلك نفسه
( بدم الحبيب يباع وصلهم ... فمن الذي يبتاع في الثمن )
من عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل ويحك قد رضينا منك في فكاك نفسك
بالندم و قنعنا منك في ثمنها بالتوبة و الحزن و في هذا الموسم قد رخص
السعر من ملك سمعه و بصره و لسانه غفر له مد إليه يد الإعتذار و قم على
بابه بالذل و الإنكسار و ارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع
و الغزار و قل : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من
الخاسرين } قال يحيى بن معاذ : العبد يوحش ما بينه و بين سيده بالمخالفات
و لا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم و أنشأ يقول :
( قرة عيني لا بد لي منك و إن ... أوحش بيني و بينك الزلل )
( قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أحوال الصادقين في عرفة
كانت أحوال الصادقين في الموقف بعرفة تتنوع : فمنهم : من كان يغلب عليه
الخوف أو الحياء وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير و بكر المزني بعرفة فقال
أحدهم : اللهم لا ترد أهل
الموقف من أجلي و قال الآخر : ما أشرفه من
موقف و أرجاه لأهله لولا أني فيهم وقف الفضيل بعرفة و الناس يدعون و هو
يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه و بين الدعاء فلما كادت
الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء و قال : و اسوأتاه منك و إن عفوت و قال
الفضيل أيضا لشعيب بن حرب بالموسم : إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحد شرا
مني و منك فبئس ما ظننت دعا بعض العارفين بعرفة فقال : اللهم إن كنت لم
تقبل حجي و تعبي و نصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني وقف
بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس فنادى الأمان فقد دنا الإنصراف
فليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين
( و إني من خوفكم و الرجا ... أرى الموت و العيش منكم عيانا )
( فمنوا على تائب خائف ... أتاكم ينادي الأمان الأمانا )
إذا طلب الأسير من الملك الكريم أمنه أمنه
( الأمان الأمان وزري ثقيل ... و ذنوبي إذا عددن تطول )
( أوبقتني و أوثقتني ذنوبي ... فترى لي إلى الخلاص سبيل )
وقف بعض الخائفين بعرفة فمنعه الحياء من الدعاء فقيل له : لم لا تدعو ؟
فقال : ثم وحشة فقيل له : هذا يوم العفو عن الذنوب فبسط يديه و وقع ميتا
( جز أيها الحادي إلى نعمان ... فاستذكرت عهدا لها بالبان )
( فسألت الروح من الأجفان ... تشوقا إلى الزمان الفاني )
غيره :
( قد لج من الغرام حتى قالوا ... قد جن فيهم و هكذا البلبال )
( الموت إذا رضيته سلسال ... في مثل هواك ترخص الآجال )
وقف بعض الخائفين بعرفات و قال : إلهي الناس يتقربون إليك بالبدن و أنا
أتقرب إليك بنفسي ثم خر ميتا
( للناس حج و لي حج إلى سكني ... تهدي الأضاحي و أهدي مهجتي و دم )
ما يرضى المحبون لمحبوبهم بإراقة دماء الهديا و إنما يهدون له الأرواحا
( أرى موسم الأعياد أنس الحبائب ... و ما العبد عندي غير قرب الحبائب )
( إذا قربوا بدنا فقرباني الهوى ... فإن قبلوا قلبي و إلا فقالبي )
( و ما بدم الأنعام أقضي حقوقهم ... و لكن بما بين الحشا و الترائب )
كان أبو عبيدة الخواص قد غلب عليه الشوق و القلق حتى يضرب على صدره في
الطريق و يقول : واشوقاه إلى من يراني و لا أراه و كان بعد ما كبر يأخذ
بلحيته و يقول : يا رب قد كبرت فاعتقني و رؤي بعرفة و قد ولع به الوله و
هو يقول :
( سبحان من لو سجدنا بالعيون له ... على حمى الشوك و المحمى من الإبر )
( لم نبلغ العشر من معاشر نعمته ... و لا العشير و لا عشرا من العشر )
( هو الرفيع فلا الأبصار تدركه ... سبحنه من مليك نافذ القدر )
( سبحان من هو أنسى إذا خلوت به ... في جوف ليلي و في الظلماء و السحر )
( أنت الحبيب و أنت الحب يا أملي ... من لي سواك و من أرجوه يا ذخر )
و من العارفين من إن بالموقف يتعلق بأذيال الرجاء قال ابن المبارك :
جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة و هو جاث على ركبتيه و عيناه تهملان فقلت
له : من أسوأ هذا الجمع حالا ؟ قال : الذي يطن أن الله لا يغفر لهم و روي
عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس و بكائهم عشية عرفة فقال : أرأيتم لو
أن هؤلاء ساروا إلى رجل فسألوا دانقا ـ يعني سدس درهم ـ أكان يردهم قالوا
: لا قال : و الله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق
( و إني لأدعو الله أطلب عفوه ... و اعلم أن الله يعفو و يغفر )
( لئن أعظم الناس الذنوب فإنها ... و إن عظمت في رحمة الله تصغر )
و عما قليل تقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف فهنيئا لمن رزقه يجاورن إلى
الله بقلوب محترقة و دموع مستبقة فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف و أقلقه و
محب ألهبه الشوق و أحرقه و راج أحسن الظن بوعد الله و صدقه و تائب نصح لله
في التوبة و صدقه و هارب لجأ إلى باب الله و طرقه فكم هنالك من مستوجب
للنار أنقذه الله و أعتقه و من أسير للأوزار فكه و أطلقه و حينئذ يطلع
عليهم أرحم الرحماء و يباهي بجمعهم أهل السماء و يدنو ثم يقول : ما أراد
هؤلاء ؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان و أعطاهم نهاية سؤلهم الرحمن و هو
الذي أعطى و منع و وصل وقطع
( ما أصنع هكذا جرى المقدور ... الجبر لغيري و أنا المكسور )
( أسير ذنب مقيد مأسور ... هل يمكن أن يبدل المسطور )
من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه من عجز عن
المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله و قد قربه و أزلفه من لم يمكنه
القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء و الخوف من لم يقدر على نحر
هديه بمنا فليذبح هواه هنا و قد بلغ المنا من لم يصل إلى البيت لأنه منه
بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه و رجاه من حبل الوريد نفحت في
هذه اليام نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس على كل قلب أجاب إلى ما دعى
يا همم العارفين بغير الله لا تقنعي يا عزائم الناسكين لجمع أنساك
السالكين اجمعي لحب مولاك أفردي و بين خوفه و رجائه اقرني و بذكره تمتعي
يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي و اركعي و بين صفاء الصفا و مروة المروى
اسعي و اسرعي و في عرفات الغرفات قفي و تضرعي ثم إلى مزدلفة الزلفى فادفعي
ثم إلى منى نيل المنى فارجعي فإذا قرب القرابين فقربي الأرواح و لا تمنعي
لقد وضح الطريق و لكن قل السالك على التحقيق و كثر المدعي
( لئن لم أحج البيت أوشط ربعه ... حججت إلى من لا يغيب عن الذكر )
( فأحرمت من وقتي بخلع نقائصي ... أطوف و أسعى في اللطائف و البر )
( صفاي صفائي عن صفاتي و مروتي ... مروءة قلبي عن سوى حبه فقر )
( و في عرفات الأنس بالله موقفي ... و مزدلفى الزلفى لديه إلى الحشر )
( و بت المنى مني مبيتي في منا ... و رمي جماري جمر شوقي في صدري )
( و أشعار هدي ذبح نفسي بقهرها ... و خلعي بمحو الكائنات عن السر )
( و من رام نفرا بعد نسك فإنني ... مقيم على نسكي بلا نفر )
المجلس الثالث في أيام التشريق
خرج مسلم في صحيحه [ من حديث نبيشة الهذلي أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : أيام منى أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل ] و خرجه أهل السنن و
المسانيد من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه و سلم و في بعضها : [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم بعث في أيام منى مناديا ينادي : لا تصوموا هذه
الأيام فإنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل ] و في رواية للنسائي : [
أيام أكل و شرب و صلاة ] و في رواية للدارقطني بإسناد فيه ضعف : [ أيام
أكل و شرب و بعال ] و في رواية للإمام أحمد : [ من كان صائما فليفطر فإنها
أيام أكل و شرب ] و في رواية : أنها ليست أيام صيام أيام منى هي الأيام
المعدودات التي قال الله عز و جل فيها : { و اذكروا الله في أيام معدودات
} و هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر و هي أيام التشريق هذا قول ابن عمر و
اكثر العلماء و روي عن ابن عباس و عطاء أنها أربعة أيام : يوم النحر و
ثلاثة أيام بعده و سماها عطاء أيام التشريق و الأول أظهر و قد قال النبي
صلى الله عليه و سلم [ أيام منى ثلاثة : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه
و من تأخر فلا إثم عليه } ] خرجه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الرحمن بن
يعمر عن النبي صلى الله عليه و سلم و هذا صريح في أنها أيام التشريق و
أفضلها أولها يوم القر لأن أهل منى يستقرون فيه و لا يجوز فيه النفر و في
[ حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم : أعظم الأيام عند
الله يوم النحر ثم يوم القر ] و قد روي عن سعيد بن المسيب : أن يوم الحج
الأكبر هو يوم القر و هو غريب ثم يوم النفر الأول و هو أوسطها ثم يوم
النفر الثاني و هو آخرها قال الله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه و من تأخر فلا إثم عليه } قال كثير من السلف : يريد أن المتعجل و
المتأخر يغفر له و يذهب عنه الإثم الذي كان عليه قبل حجه إذا حج فلم يرفث
و لم يفسق و رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه و لهذا قال تعالى : { لمن اتقى }
فتكون التقوى شرطا لذهاب الإثم على هذا التقدير و تصير الآية دالة على ما
صرح به قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حج فلم يرفث و لم يفسق رجع
من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] و قد أمر الله تعالى بذكره في هذه الأيام
المعدودات كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنها أيام أكل و شرب و
ذكر الله عز و جل ] و ذكر الله عز و جل المأمور به في أيامك التشريق أنواع
متعددة : منها : ذكر الله عز و جل عقب الصلوات المكتوبات بالتكبير في
أدبارها و هو مشروع إلى آخر أيام التشريق عند جمهور العلماء و قد روي عن
عمر و علي و ابن عباس و فيه حديث مرفوع في إسناده ضعف و منها : ذكره
بالتسمية و التكبير عند ذبح النسك فإن وقت ذبح الهدايا و الأضاحي يمتد إلى
آخر أيام التشريق عند جماعة من العلماء و هو قول الشافعي و رواية عن
الإمام أحمد و فيه حديث مرفوع : [ كل أيام منى ذبح ] و في إسناده مقال و
أكثر الصحابة على أن الذبح يختص بيومين من أيام التشريق مع يوم النحر و هو
المشهور عن أحمد و قول مالك و أبي حنيفة و الأكثرين و منها : ذكر الله عز
و جل على الأكل و الشرب فإن المشروع في الأكل و الشرب أن يسمي الله في
أوله و يحمده في آخره و في الحديث عن النبي الله : [ أن الله عز و جل يرضى
عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب الشربة فيحمده عليها ] و قد
روي : أن من سمى على أول طعامه و حمد الله على آخره فقد أدى ثمنه و لم
يسأل بعد عن شكره و منها : ذكره بالتكبير عند رمي الجمار في أيام التشريق
و هذا يختص به أهل الموسم و منها : ذكر الله تعالى المطلق فإنه يستحب
الإكثار منه في أيام التشريق و قد كان عمر يكبر بمنى في قبته فيسمعه الناس
فيكبرون فترتج منى تكبيرا و قد قال الله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم
فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } إلى آخر الآية و قد استحب كثير
من السلف كثرة الدعاء بهذا في أيام التشريق قال عكرمة : كان يستحب أن يقال
في أيام التشريق : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا
عذاب النار } و عن عطاء قال : ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجها
إلى أهله : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار
} خرجهما عبد بن حميد في تفسيره و هذا الدعاء من أجمع الأدعية للخير و كان
النبي صلى الله عليه و سلم يكثر منه و روي : أنه كان أكثر دعائه و كان إذا
دعا بدعاء جعله معه فإنه يجمع خير الدنيا و الآخرة قال الحسن : الحسنة في
الدنيا : العلم و العبادة و في الآخرة : الجنة و قال سفيان : الحسنة في
الدنيا : العلم و الرزق الطيب و في الآخرة : الجنة و الدعاء من أفضل أنواع
ذكر الله عز و جل و قد روى زياد الجصاص عن أبي كنانة القرشي أنه سمع أبا
موسى الأشعري يقول في خطبته يوم النحر بعد يوم النحر ثلاثة أيام التي ذكر
الله الأيام المعدودات لا يرد فيهن الدعاء فارفعوا رغبتكم إلى الله عز و
جل و في الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنى و هو أن سائر العبادات تنقضي
و يفرغ منها و ذكر الله باق لا ينقضي و لا يفرغ منه بل هو مستمر للمؤمنين
في الدنيا و الآخرة و قد أمر الله تعالى بذكره عند انقضاء الصلاة قال الله
تعالى : { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما و قعودا و على جنوبكم } و
قال في صلاة الجمعة : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من
فضل الله و اذكروا الله كثيرا } و قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب * و إلى
ربك فارغب } روي عن ابن مسعود قال كان فإذا فرغت من الفرائض فانصب و عنه
قوله : { و إلى ربك فارغب } قال : في المسألة و أنت جالس و قال الحسن :
أمره إذا فرغ من غزوة أن يجتهد في الدعاء و العبادة فالأعمال كلها يفرغ
منها و الذكر لا فراغ له و لا انقضاء و الأعمال تنقطع بانقطاع الدنيا و لا
يبقى منها شيء في الآخرة و الذكر لا ينقطع المؤمن يعيش على الذكر و يموت
عليه و عليه يبعث
( أحسبتموا أن الليالي غيرت ... عهد الهوى لا كان من يتغير )
( يفنى الزمان و ليس يفنى ذكركم ... و على محبتكم أموت و أحشر )
قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره و لا الآخرة إلا بعفوه و لا
الجنة إلا برؤيته
( بذكر الله ترتاح القلوب ... و دنيانا بذكراه تطيب )
( إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ... ترنح نشوان و حن طروب )
فأيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل و الشرب و نعيم
قلوبهم بالذكر و الشكر و بذلك تتم النعم و كلما أحدثوا شكرا على النعمة
كان شكرهم نعمة أخرى إلى شكر آخر و لا ينتهي الشكر أبدا
( إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر )
( فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... و إن طالت الأيام و اتصل العمر )
في قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز
و جل ] إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد و الشرب إنما يستعان به على
ذكر الله تعالى و طاعته و ذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على
الطاعات و قد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيبات و الشكر له فمن
استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله و بدلها كفرا و هو جدير أن
يسلبها كما قيل :
( إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم )
( و داوم عليها بشكر الإله ... فشكر الإله يزيل النقم )
و خصوصا نعمة الأكل من لحوم بهيمة الأنعام كما في أيام التشريق فإن هذه
البهائم مطيعة و هي مسبحة له قانتة كما قال تعالى : { و إن من شيء إلا
يسبح بحمده } و إنها تسجد له كما أخبر بذلك في سورة النحل و سورة الحج و
ربما كانت أكثر ذكرا لله من بعض بني آدم و في المسند مرفوعا : [ رب بهيمة
خير من راكبها و اكثر له منه ذكرا ] و قد أخبر الله تعالى في كتابه أن
كثيرا من الجن و الإنس كالأنعام بل هم أضل فأباح الله عز و جل ذبح هذه
البهائم المطيعة الذاكرة له لعباده المؤمنين حتى تتقوى بها أبدانهم و تكمل
لذاتهم في أكلهم اللحوم فإنها من أجل الأغذية وألذها مع أن الأبدان تقوم
بغير اللحم من النباتات و غيرها لكن لا تكمل القوة و العقل و اللذة إلا
باللحم فأباح للمؤمنين قتل هذه البهائم و الأكل من لحومها ليكمل بذلك قوة
عباده و عقولهم فيكون ذلك عونا لهم على علوم نافعة و أعمال صالحة يمتاز
بها بنو آدم على البهائم و على ذكر الله عز و جل و هو أكثر من ذكر البهائم
فلا يليق بالمؤمن مع هذا إلا مقابلة هذه النعم بالشكر عليها و الإستعانة
بها على طاعة الله عز و جل و ذكره حيث فضل الله ابن آدم على كثير من
المخلوقات و سخر له هذه الحيوانات قال الله تعالى : { فكلوا منها و أطعموا
القانع و المعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } فأما من قتل هذه البهيمة
المطيعة الذاكرة لله عز و جل ثم استعان بأكل لحومها على معاصي الله عز و
جل و نسي ذكر الله عز و جل فقد قلب الأمر و كفر النعمة فلا كان من كانت
البهائم خيرا منه و أطوع
( نهارك يا مغرور سهو و غفلة ... و ليلك نوم و الردى لك لازم )
( و تتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم )
و إنما نهى عن صيام أيام التشريق لأنها أعياد للمسلمين مع يوم النحر فلا
تصام بمنى و لا غيرها عند جمهور العلماء خلافا لعطاء في قوله : إن النهي
يختص بأهل منى و إنما نهي عن التطوع بصيامها سواء وافق عادة أو لم يوافق
فأما صيامها عن قضاء فرض أو نذر أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدي
ففيه اختلاف مشهور بين العلماء و لا فرق بين يوم منها و يوم عند الأكثرين
إلا عند مالك فإنه قال في اليوم الثالث منها : يجوز صيامه عن نذر خاصة و
في النهي عن صيام هذه الأيام و الأمر بالأكل فيها و الشرب سر حسن و هو لله
تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السفر و تعب الإحرام و
جهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الإستراحة عقب ذلك بالإقامة بمنى
يوم النحر و ثلاثة أيام بعده و أمرهم بالأكل فيها من لحوم نسكهم فهم في
ضيافة الله عز و جل فيها لطفا من الله بهم ورأفة و رحمة و شاركهم أيضا أهل
الأمصار في ذلك لأن أهل الأمصار شاركوهم في حصول المغفرة و النصب لله و
الإجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم و الذكر و الإجتهاد في العبادات و
شاركوهم في حصول المغفرة و في التقرب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحي
فشاركوهم في أعيادهم و اشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكل و
الشرب كما اشتركوا جميعا في أيام العشر في الإجتهاد في الطاعة و النصب و
صار المسلمون كلهم في ضيافة الله عز و جل في هذه الأيام يأكلون من رزقه و
يشكرونه على فضله و نهوا عن صيامهم لأن الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه
فكأنه قيل للمؤمنين في هذه الأيام قد فرغ عملكم الذي عملتموه فما بقي لكم
إلا الراحة فهذه الراحة بهذا كالتعب كما أريح الصائمون لله شهر رمضان
بأمرهم بإفطار يوم عيد الفطر و يؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمنين في
الدنيا فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج و هو زمان إحرام المؤمن عما
حرم عليه من الشهوات فمن صبر في مدة سفره على إحرامه و كف عن الهوى فإذا
انتهى سفر عمره و وصل إلى منى المنى فقد قضى تفثه و وفى نذره فصارت أيامه
كلها كأيام منى أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل و صار في ضيافة الله عز
و جل في جواره أبد الأبد و لهذا يقال لأهل الجنة : { كلوا و اشربوا هنيئا
بما أسلفتم في الأيام الخالية }
{ كلوا و اشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } و قد قيل : إنها نزلت في الصوام
في الدنيا
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
قال بعض السلف : صم عن الدنيا و ليكن فطرك الموت
( فصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز الفطر و الناس صوم )
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها غدا بعد وفاته و من تعجل ما حرم عليه
من لذاته عوقب بحرمان نصيبه من الجنة و فواته شاهد ذلك من شرب الخمر في
الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس الحرير لم يلبسه في الآخرة
( أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك )
( و اجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك )
( و ليكن فطرك عند اللـ ... ه في يوم وفاتك )
قال الله تعالى : { و الله يدعو إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم } الجنة ضيافة الله أعدها للمؤمنين نزلا فيها ما لا عين رأت و لا
أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو
إليها بالإيمان و الإسلام و الإحسان فمن أجابه دخل الجنة و أكل من تلك
الضيافة و من لم يجب حرم خرج الترمذي [ عن جابر قال : خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه و سلم يوما فقال : رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي و
ميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا فقال : اسمع سمعت
أذناك و اعقل عقل قلبك : إنما مثلك و مثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى
فيها بناء و جعل فيها مائدة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من
أجاب الرسول و منهم من تركه فالله تعالى هو الملك و الدار هي الإسلام و
البيت الجنة و أنت يا محمد رسول الله من أجابك دخل الإسلام و من دخل
الإسلام دخل الجنة و من دخل الجنة أكل فيها ] و خرجه البخاري بمعناه و
لفظه : [ مثله كمثل رجل بنى دارا و جعل فيها مأدبة و بعث داعيا فمن أجاب
الداعي دخل الدار و أكل من المأدبة و من لم يجب الداعي لم يدخل الدار و لم
يأكل من المأدبة و الدار الجنة و الداعي محمد صلى الله عليه و سلم ] في
بعض الآثار الإسرائلية يقول الله تعالى : [ ابن آدم ما أنصفتني أذكرك و
تنساني أدعوك إلى إلي فتفر مني إلى غيري و أذهب عنك البلايا و أنت منعكف
على الخطايا ابن آدم ما يكون اعتذارك غدا إذا جئتني ] طوبى لمن أجاب مولاه
: { يا قومنا أجيبوا داعي الله }
( يا نفس ويحك قد أتاك هواكي ... أجيبي فداعي الحق قد ناداكي )
( كم قد دعيت إلى الرشاد فتعرضي ... و تجيبي داعي الغي حين دعاكي )
كل ما في الدنيا يذكر بالآخرة فمواسمها و أعيادها و أفراحها تذكر بمواسم
الآخرة و أعيادها و أفراحها صنع عبد الواحد بن زيد طعاما لإخوانه فقام
عتبة الغلام على رؤوس الجماعة يخدمهم و هو صائم فجعل عبد الواحد ينظر إليه
و يسارقه النظر و دموع عتبة تجري فسأله بعد ذلك عن بكائه حينئذ فقال :
ذكرت موائد الجنة و الولدان قائمون على رؤوسهم فصعق عبد الواحد : أبدان
العارفين في الدنيا و قلوبهم في الآخرة
( جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة و الروح في وطن )
أعياد الناس تنقضي فأما أعياد العارفين فدائمة قال الحسن : كل يوم لا تعصي
الله فهو لك عيد جاء بعضهم إلى بعض العارفين فسلم عليه و قال له : أريد أن
أكلمك فقال : اليوم لنا عيد فتركه ثم جاء يوما آخر فقال له مثل ذلك ثم جاء
يوما آخر فقال له مثل ذلك فقال له : ما أكثر أعيادك قال : يا بطال أما
علمت أن كل يوم لا تعصي الله فيه فهو لنا عيد أوقات العارفين كلها فرح و
سرور بمناجاة مولا هم و ذكره فهي أعياد و كان الشبلي ينشد :
( إذا ما كنت لي عيدا ... فما أصنع بالعيد )
( جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود )
و أنشد أيضا :
( عيدي مقيم و عيد الناس منصرف ... و القلب مني عن اللذات منحرف )
( و لي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين و عين دمعها يكف )
كانت أحوال الصادقين في الموقف بعرفة تتنوع : فمنهم : من كان يغلب عليه
الخوف أو الحياء وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير و بكر المزني بعرفة فقال
أحدهم : اللهم لا ترد أهل
الموقف من أجلي و قال الآخر : ما أشرفه من
موقف و أرجاه لأهله لولا أني فيهم وقف الفضيل بعرفة و الناس يدعون و هو
يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه و بين الدعاء فلما كادت
الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء و قال : و اسوأتاه منك و إن عفوت و قال
الفضيل أيضا لشعيب بن حرب بالموسم : إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحد شرا
مني و منك فبئس ما ظننت دعا بعض العارفين بعرفة فقال : اللهم إن كنت لم
تقبل حجي و تعبي و نصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني وقف
بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس فنادى الأمان فقد دنا الإنصراف
فليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين
( و إني من خوفكم و الرجا ... أرى الموت و العيش منكم عيانا )
( فمنوا على تائب خائف ... أتاكم ينادي الأمان الأمانا )
إذا طلب الأسير من الملك الكريم أمنه أمنه
( الأمان الأمان وزري ثقيل ... و ذنوبي إذا عددن تطول )
( أوبقتني و أوثقتني ذنوبي ... فترى لي إلى الخلاص سبيل )
وقف بعض الخائفين بعرفة فمنعه الحياء من الدعاء فقيل له : لم لا تدعو ؟
فقال : ثم وحشة فقيل له : هذا يوم العفو عن الذنوب فبسط يديه و وقع ميتا
( جز أيها الحادي إلى نعمان ... فاستذكرت عهدا لها بالبان )
( فسألت الروح من الأجفان ... تشوقا إلى الزمان الفاني )
غيره :
( قد لج من الغرام حتى قالوا ... قد جن فيهم و هكذا البلبال )
( الموت إذا رضيته سلسال ... في مثل هواك ترخص الآجال )
وقف بعض الخائفين بعرفات و قال : إلهي الناس يتقربون إليك بالبدن و أنا
أتقرب إليك بنفسي ثم خر ميتا
( للناس حج و لي حج إلى سكني ... تهدي الأضاحي و أهدي مهجتي و دم )
ما يرضى المحبون لمحبوبهم بإراقة دماء الهديا و إنما يهدون له الأرواحا
( أرى موسم الأعياد أنس الحبائب ... و ما العبد عندي غير قرب الحبائب )
( إذا قربوا بدنا فقرباني الهوى ... فإن قبلوا قلبي و إلا فقالبي )
( و ما بدم الأنعام أقضي حقوقهم ... و لكن بما بين الحشا و الترائب )
كان أبو عبيدة الخواص قد غلب عليه الشوق و القلق حتى يضرب على صدره في
الطريق و يقول : واشوقاه إلى من يراني و لا أراه و كان بعد ما كبر يأخذ
بلحيته و يقول : يا رب قد كبرت فاعتقني و رؤي بعرفة و قد ولع به الوله و
هو يقول :
( سبحان من لو سجدنا بالعيون له ... على حمى الشوك و المحمى من الإبر )
( لم نبلغ العشر من معاشر نعمته ... و لا العشير و لا عشرا من العشر )
( هو الرفيع فلا الأبصار تدركه ... سبحنه من مليك نافذ القدر )
( سبحان من هو أنسى إذا خلوت به ... في جوف ليلي و في الظلماء و السحر )
( أنت الحبيب و أنت الحب يا أملي ... من لي سواك و من أرجوه يا ذخر )
و من العارفين من إن بالموقف يتعلق بأذيال الرجاء قال ابن المبارك :
جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة و هو جاث على ركبتيه و عيناه تهملان فقلت
له : من أسوأ هذا الجمع حالا ؟ قال : الذي يطن أن الله لا يغفر لهم و روي
عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس و بكائهم عشية عرفة فقال : أرأيتم لو
أن هؤلاء ساروا إلى رجل فسألوا دانقا ـ يعني سدس درهم ـ أكان يردهم قالوا
: لا قال : و الله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق
( و إني لأدعو الله أطلب عفوه ... و اعلم أن الله يعفو و يغفر )
( لئن أعظم الناس الذنوب فإنها ... و إن عظمت في رحمة الله تصغر )
و عما قليل تقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف فهنيئا لمن رزقه يجاورن إلى
الله بقلوب محترقة و دموع مستبقة فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف و أقلقه و
محب ألهبه الشوق و أحرقه و راج أحسن الظن بوعد الله و صدقه و تائب نصح لله
في التوبة و صدقه و هارب لجأ إلى باب الله و طرقه فكم هنالك من مستوجب
للنار أنقذه الله و أعتقه و من أسير للأوزار فكه و أطلقه و حينئذ يطلع
عليهم أرحم الرحماء و يباهي بجمعهم أهل السماء و يدنو ثم يقول : ما أراد
هؤلاء ؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان و أعطاهم نهاية سؤلهم الرحمن و هو
الذي أعطى و منع و وصل وقطع
( ما أصنع هكذا جرى المقدور ... الجبر لغيري و أنا المكسور )
( أسير ذنب مقيد مأسور ... هل يمكن أن يبدل المسطور )
من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه من عجز عن
المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله و قد قربه و أزلفه من لم يمكنه
القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء و الخوف من لم يقدر على نحر
هديه بمنا فليذبح هواه هنا و قد بلغ المنا من لم يصل إلى البيت لأنه منه
بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه و رجاه من حبل الوريد نفحت في
هذه اليام نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس على كل قلب أجاب إلى ما دعى
يا همم العارفين بغير الله لا تقنعي يا عزائم الناسكين لجمع أنساك
السالكين اجمعي لحب مولاك أفردي و بين خوفه و رجائه اقرني و بذكره تمتعي
يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي و اركعي و بين صفاء الصفا و مروة المروى
اسعي و اسرعي و في عرفات الغرفات قفي و تضرعي ثم إلى مزدلفة الزلفى فادفعي
ثم إلى منى نيل المنى فارجعي فإذا قرب القرابين فقربي الأرواح و لا تمنعي
لقد وضح الطريق و لكن قل السالك على التحقيق و كثر المدعي
( لئن لم أحج البيت أوشط ربعه ... حججت إلى من لا يغيب عن الذكر )
( فأحرمت من وقتي بخلع نقائصي ... أطوف و أسعى في اللطائف و البر )
( صفاي صفائي عن صفاتي و مروتي ... مروءة قلبي عن سوى حبه فقر )
( و في عرفات الأنس بالله موقفي ... و مزدلفى الزلفى لديه إلى الحشر )
( و بت المنى مني مبيتي في منا ... و رمي جماري جمر شوقي في صدري )
( و أشعار هدي ذبح نفسي بقهرها ... و خلعي بمحو الكائنات عن السر )
( و من رام نفرا بعد نسك فإنني ... مقيم على نسكي بلا نفر )
خرج مسلم في صحيحه [ من حديث نبيشة الهذلي أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال : أيام منى أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل ] و خرجه أهل السنن و
المسانيد من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه و سلم و في بعضها : [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم بعث في أيام منى مناديا ينادي : لا تصوموا هذه
الأيام فإنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل ] و في رواية للنسائي : [
أيام أكل و شرب و صلاة ] و في رواية للدارقطني بإسناد فيه ضعف : [ أيام
أكل و شرب و بعال ] و في رواية للإمام أحمد : [ من كان صائما فليفطر فإنها
أيام أكل و شرب ] و في رواية : أنها ليست أيام صيام أيام منى هي الأيام
المعدودات التي قال الله عز و جل فيها : { و اذكروا الله في أيام معدودات
} و هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر و هي أيام التشريق هذا قول ابن عمر و
اكثر العلماء و روي عن ابن عباس و عطاء أنها أربعة أيام : يوم النحر و
ثلاثة أيام بعده و سماها عطاء أيام التشريق و الأول أظهر و قد قال النبي
صلى الله عليه و سلم [ أيام منى ثلاثة : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه
و من تأخر فلا إثم عليه } ] خرجه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الرحمن بن
يعمر عن النبي صلى الله عليه و سلم و هذا صريح في أنها أيام التشريق و
أفضلها أولها يوم القر لأن أهل منى يستقرون فيه و لا يجوز فيه النفر و في
[ حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم : أعظم الأيام عند
الله يوم النحر ثم يوم القر ] و قد روي عن سعيد بن المسيب : أن يوم الحج
الأكبر هو يوم القر و هو غريب ثم يوم النفر الأول و هو أوسطها ثم يوم
النفر الثاني و هو آخرها قال الله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه و من تأخر فلا إثم عليه } قال كثير من السلف : يريد أن المتعجل و
المتأخر يغفر له و يذهب عنه الإثم الذي كان عليه قبل حجه إذا حج فلم يرفث
و لم يفسق و رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه و لهذا قال تعالى : { لمن اتقى }
فتكون التقوى شرطا لذهاب الإثم على هذا التقدير و تصير الآية دالة على ما
صرح به قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حج فلم يرفث و لم يفسق رجع
من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] و قد أمر الله تعالى بذكره في هذه الأيام
المعدودات كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنها أيام أكل و شرب و
ذكر الله عز و جل ] و ذكر الله عز و جل المأمور به في أيامك التشريق أنواع
متعددة : منها : ذكر الله عز و جل عقب الصلوات المكتوبات بالتكبير في
أدبارها و هو مشروع إلى آخر أيام التشريق عند جمهور العلماء و قد روي عن
عمر و علي و ابن عباس و فيه حديث مرفوع في إسناده ضعف و منها : ذكره
بالتسمية و التكبير عند ذبح النسك فإن وقت ذبح الهدايا و الأضاحي يمتد إلى
آخر أيام التشريق عند جماعة من العلماء و هو قول الشافعي و رواية عن
الإمام أحمد و فيه حديث مرفوع : [ كل أيام منى ذبح ] و في إسناده مقال و
أكثر الصحابة على أن الذبح يختص بيومين من أيام التشريق مع يوم النحر و هو
المشهور عن أحمد و قول مالك و أبي حنيفة و الأكثرين و منها : ذكر الله عز
و جل على الأكل و الشرب فإن المشروع في الأكل و الشرب أن يسمي الله في
أوله و يحمده في آخره و في الحديث عن النبي الله : [ أن الله عز و جل يرضى
عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب الشربة فيحمده عليها ] و قد
روي : أن من سمى على أول طعامه و حمد الله على آخره فقد أدى ثمنه و لم
يسأل بعد عن شكره و منها : ذكره بالتكبير عند رمي الجمار في أيام التشريق
و هذا يختص به أهل الموسم و منها : ذكر الله تعالى المطلق فإنه يستحب
الإكثار منه في أيام التشريق و قد كان عمر يكبر بمنى في قبته فيسمعه الناس
فيكبرون فترتج منى تكبيرا و قد قال الله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم
فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } إلى آخر الآية و قد استحب كثير
من السلف كثرة الدعاء بهذا في أيام التشريق قال عكرمة : كان يستحب أن يقال
في أيام التشريق : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا
عذاب النار } و عن عطاء قال : ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجها
إلى أهله : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار
} خرجهما عبد بن حميد في تفسيره و هذا الدعاء من أجمع الأدعية للخير و كان
النبي صلى الله عليه و سلم يكثر منه و روي : أنه كان أكثر دعائه و كان إذا
دعا بدعاء جعله معه فإنه يجمع خير الدنيا و الآخرة قال الحسن : الحسنة في
الدنيا : العلم و العبادة و في الآخرة : الجنة و قال سفيان : الحسنة في
الدنيا : العلم و الرزق الطيب و في الآخرة : الجنة و الدعاء من أفضل أنواع
ذكر الله عز و جل و قد روى زياد الجصاص عن أبي كنانة القرشي أنه سمع أبا
موسى الأشعري يقول في خطبته يوم النحر بعد يوم النحر ثلاثة أيام التي ذكر
الله الأيام المعدودات لا يرد فيهن الدعاء فارفعوا رغبتكم إلى الله عز و
جل و في الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنى و هو أن سائر العبادات تنقضي
و يفرغ منها و ذكر الله باق لا ينقضي و لا يفرغ منه بل هو مستمر للمؤمنين
في الدنيا و الآخرة و قد أمر الله تعالى بذكره عند انقضاء الصلاة قال الله
تعالى : { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما و قعودا و على جنوبكم } و
قال في صلاة الجمعة : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من
فضل الله و اذكروا الله كثيرا } و قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب * و إلى
ربك فارغب } روي عن ابن مسعود قال كان فإذا فرغت من الفرائض فانصب و عنه
قوله : { و إلى ربك فارغب } قال : في المسألة و أنت جالس و قال الحسن :
أمره إذا فرغ من غزوة أن يجتهد في الدعاء و العبادة فالأعمال كلها يفرغ
منها و الذكر لا فراغ له و لا انقضاء و الأعمال تنقطع بانقطاع الدنيا و لا
يبقى منها شيء في الآخرة و الذكر لا ينقطع المؤمن يعيش على الذكر و يموت
عليه و عليه يبعث
( أحسبتموا أن الليالي غيرت ... عهد الهوى لا كان من يتغير )
( يفنى الزمان و ليس يفنى ذكركم ... و على محبتكم أموت و أحشر )
قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره و لا الآخرة إلا بعفوه و لا
الجنة إلا برؤيته
( بذكر الله ترتاح القلوب ... و دنيانا بذكراه تطيب )
( إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ... ترنح نشوان و حن طروب )
فأيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل و الشرب و نعيم
قلوبهم بالذكر و الشكر و بذلك تتم النعم و كلما أحدثوا شكرا على النعمة
كان شكرهم نعمة أخرى إلى شكر آخر و لا ينتهي الشكر أبدا
( إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر )
( فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... و إن طالت الأيام و اتصل العمر )
في قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز
و جل ] إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد و الشرب إنما يستعان به على
ذكر الله تعالى و طاعته و ذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على
الطاعات و قد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيبات و الشكر له فمن
استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله و بدلها كفرا و هو جدير أن
يسلبها كما قيل :
( إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم )
( و داوم عليها بشكر الإله ... فشكر الإله يزيل النقم )
و خصوصا نعمة الأكل من لحوم بهيمة الأنعام كما في أيام التشريق فإن هذه
البهائم مطيعة و هي مسبحة له قانتة كما قال تعالى : { و إن من شيء إلا
يسبح بحمده } و إنها تسجد له كما أخبر بذلك في سورة النحل و سورة الحج و
ربما كانت أكثر ذكرا لله من بعض بني آدم و في المسند مرفوعا : [ رب بهيمة
خير من راكبها و اكثر له منه ذكرا ] و قد أخبر الله تعالى في كتابه أن
كثيرا من الجن و الإنس كالأنعام بل هم أضل فأباح الله عز و جل ذبح هذه
البهائم المطيعة الذاكرة له لعباده المؤمنين حتى تتقوى بها أبدانهم و تكمل
لذاتهم في أكلهم اللحوم فإنها من أجل الأغذية وألذها مع أن الأبدان تقوم
بغير اللحم من النباتات و غيرها لكن لا تكمل القوة و العقل و اللذة إلا
باللحم فأباح للمؤمنين قتل هذه البهائم و الأكل من لحومها ليكمل بذلك قوة
عباده و عقولهم فيكون ذلك عونا لهم على علوم نافعة و أعمال صالحة يمتاز
بها بنو آدم على البهائم و على ذكر الله عز و جل و هو أكثر من ذكر البهائم
فلا يليق بالمؤمن مع هذا إلا مقابلة هذه النعم بالشكر عليها و الإستعانة
بها على طاعة الله عز و جل و ذكره حيث فضل الله ابن آدم على كثير من
المخلوقات و سخر له هذه الحيوانات قال الله تعالى : { فكلوا منها و أطعموا
القانع و المعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } فأما من قتل هذه البهيمة
المطيعة الذاكرة لله عز و جل ثم استعان بأكل لحومها على معاصي الله عز و
جل و نسي ذكر الله عز و جل فقد قلب الأمر و كفر النعمة فلا كان من كانت
البهائم خيرا منه و أطوع
( نهارك يا مغرور سهو و غفلة ... و ليلك نوم و الردى لك لازم )
( و تتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم )
و إنما نهى عن صيام أيام التشريق لأنها أعياد للمسلمين مع يوم النحر فلا
تصام بمنى و لا غيرها عند جمهور العلماء خلافا لعطاء في قوله : إن النهي
يختص بأهل منى و إنما نهي عن التطوع بصيامها سواء وافق عادة أو لم يوافق
فأما صيامها عن قضاء فرض أو نذر أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدي
ففيه اختلاف مشهور بين العلماء و لا فرق بين يوم منها و يوم عند الأكثرين
إلا عند مالك فإنه قال في اليوم الثالث منها : يجوز صيامه عن نذر خاصة و
في النهي عن صيام هذه الأيام و الأمر بالأكل فيها و الشرب سر حسن و هو لله
تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السفر و تعب الإحرام و
جهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الإستراحة عقب ذلك بالإقامة بمنى
يوم النحر و ثلاثة أيام بعده و أمرهم بالأكل فيها من لحوم نسكهم فهم في
ضيافة الله عز و جل فيها لطفا من الله بهم ورأفة و رحمة و شاركهم أيضا أهل
الأمصار في ذلك لأن أهل الأمصار شاركوهم في حصول المغفرة و النصب لله و
الإجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم و الذكر و الإجتهاد في العبادات و
شاركوهم في حصول المغفرة و في التقرب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحي
فشاركوهم في أعيادهم و اشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكل و
الشرب كما اشتركوا جميعا في أيام العشر في الإجتهاد في الطاعة و النصب و
صار المسلمون كلهم في ضيافة الله عز و جل في هذه الأيام يأكلون من رزقه و
يشكرونه على فضله و نهوا عن صيامهم لأن الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه
فكأنه قيل للمؤمنين في هذه الأيام قد فرغ عملكم الذي عملتموه فما بقي لكم
إلا الراحة فهذه الراحة بهذا كالتعب كما أريح الصائمون لله شهر رمضان
بأمرهم بإفطار يوم عيد الفطر و يؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمنين في
الدنيا فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج و هو زمان إحرام المؤمن عما
حرم عليه من الشهوات فمن صبر في مدة سفره على إحرامه و كف عن الهوى فإذا
انتهى سفر عمره و وصل إلى منى المنى فقد قضى تفثه و وفى نذره فصارت أيامه
كلها كأيام منى أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل و صار في ضيافة الله عز
و جل في جواره أبد الأبد و لهذا يقال لأهل الجنة : { كلوا و اشربوا هنيئا
بما أسلفتم في الأيام الخالية }
{ كلوا و اشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } و قد قيل : إنها نزلت في الصوام
في الدنيا
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
قال بعض السلف : صم عن الدنيا و ليكن فطرك الموت
( فصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز الفطر و الناس صوم )
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها غدا بعد وفاته و من تعجل ما حرم عليه
من لذاته عوقب بحرمان نصيبه من الجنة و فواته شاهد ذلك من شرب الخمر في
الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس الحرير لم يلبسه في الآخرة
( أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك )
( و اجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك )
( و ليكن فطرك عند اللـ ... ه في يوم وفاتك )
قال الله تعالى : { و الله يدعو إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم } الجنة ضيافة الله أعدها للمؤمنين نزلا فيها ما لا عين رأت و لا
أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو
إليها بالإيمان و الإسلام و الإحسان فمن أجابه دخل الجنة و أكل من تلك
الضيافة و من لم يجب حرم خرج الترمذي [ عن جابر قال : خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه و سلم يوما فقال : رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي و
ميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا فقال : اسمع سمعت
أذناك و اعقل عقل قلبك : إنما مثلك و مثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى
فيها بناء و جعل فيها مائدة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من
أجاب الرسول و منهم من تركه فالله تعالى هو الملك و الدار هي الإسلام و
البيت الجنة و أنت يا محمد رسول الله من أجابك دخل الإسلام و من دخل
الإسلام دخل الجنة و من دخل الجنة أكل فيها ] و خرجه البخاري بمعناه و
لفظه : [ مثله كمثل رجل بنى دارا و جعل فيها مأدبة و بعث داعيا فمن أجاب
الداعي دخل الدار و أكل من المأدبة و من لم يجب الداعي لم يدخل الدار و لم
يأكل من المأدبة و الدار الجنة و الداعي محمد صلى الله عليه و سلم ] في
بعض الآثار الإسرائلية يقول الله تعالى : [ ابن آدم ما أنصفتني أذكرك و
تنساني أدعوك إلى إلي فتفر مني إلى غيري و أذهب عنك البلايا و أنت منعكف
على الخطايا ابن آدم ما يكون اعتذارك غدا إذا جئتني ] طوبى لمن أجاب مولاه
: { يا قومنا أجيبوا داعي الله }
( يا نفس ويحك قد أتاك هواكي ... أجيبي فداعي الحق قد ناداكي )
( كم قد دعيت إلى الرشاد فتعرضي ... و تجيبي داعي الغي حين دعاكي )
كل ما في الدنيا يذكر بالآخرة فمواسمها و أعيادها و أفراحها تذكر بمواسم
الآخرة و أعيادها و أفراحها صنع عبد الواحد بن زيد طعاما لإخوانه فقام
عتبة الغلام على رؤوس الجماعة يخدمهم و هو صائم فجعل عبد الواحد ينظر إليه
و يسارقه النظر و دموع عتبة تجري فسأله بعد ذلك عن بكائه حينئذ فقال :
ذكرت موائد الجنة و الولدان قائمون على رؤوسهم فصعق عبد الواحد : أبدان
العارفين في الدنيا و قلوبهم في الآخرة
( جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة و الروح في وطن )
أعياد الناس تنقضي فأما أعياد العارفين فدائمة قال الحسن : كل يوم لا تعصي
الله فهو لك عيد جاء بعضهم إلى بعض العارفين فسلم عليه و قال له : أريد أن
أكلمك فقال : اليوم لنا عيد فتركه ثم جاء يوما آخر فقال له مثل ذلك ثم جاء
يوما آخر فقال له مثل ذلك فقال له : ما أكثر أعيادك قال : يا بطال أما
علمت أن كل يوم لا تعصي الله فيه فهو لنا عيد أوقات العارفين كلها فرح و
سرور بمناجاة مولا هم و ذكره فهي أعياد و كان الشبلي ينشد :
( إذا ما كنت لي عيدا ... فما أصنع بالعيد )
( جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود )
و أنشد أيضا :
( عيدي مقيم و عيد الناس منصرف ... و القلب مني عن اللذات منحرف )
( و لي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين و عين دمعها يكف )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الرابع في ختام العام
خرج الإمام أحمد [ من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا
تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد و إن من السعادة أن يطول عمر العبد و
يرزقه الله الإنابة ] فتمني الموت يقع على وجوه : منها : تمنيه لضر دنيوي
ينزل بالعبد فينهى حينئذ عن تمني الموت و في الصحيحين [ عن أنس عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا
بد فاعلا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي و توفني إذا كانت
الوفاة خيرا لي ] و وجه كراهيته في هذا الحال أن المتمني للموت لضر نزل به
إنما يتمناه تعجيلا للإستراحة من ضره و هو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت
فلعله يصير إلى ضر أعظم من ضره فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار و في
الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما يستريح من غفر له ]
فلهذا لا ينبغي له أن يدعو بالموت إلا أن يشترط أن يكون خيرا له عند الله
عز و جل فكذلك كل ما يعلم العبد فيه الخيرة له كالغنى و الفقر و غيرهما
كما يشرع له استخارة الله تعالى فيما يريد أن يعمله مما لا يعلم وجه
الخيرة فيه و إنما يسأل الله عز و جل على وجه الجزم و القطع مما يعلم أنه
خير محض كالمغفرة و الرحمة و العفو و العافية و التقى و الهدى و نحو ذلك و
منها : تمنيه خوف الفتنة في الدين فيجوز حينئذ و قد تمناه و دعا به خشية
فتنة الدين خلق من الصحابة و أئمة الإسلام و في حديث المنام : [ و إذا
أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ] و منها : تمني الموت عند حضور
أسباب الشهادة اغتناما لحضورها فيجوز ذلك أيضا و سؤال الصحابة الشهادة و
تعرضهم لها عند حضور الجهاد كثير مشهور و كذلك سؤال معاذ لنفسه و أهل بيته
الطاعون لما وقع بالشام و منها : تمني الموت لمن وثق بعمله شوقا إلى لقاء
الله عز و جل فهذا يجوز أيضا و قد فعله كثير من السلف قال أبو الدرداء :
أحب الموت اشتياقا إلى ربي و قال أبو عنبسة الخولاني : كان من قبلكم لقاء
الله أحب إليه من الشهد
و قال بعضهم : طال شوقي إليك فعجل قدومي
عليك و قال بعضهم : لا تطيب نفسي بالموت إلا إذا ذكرت لقاء الله عز و جل
فإنني حينئذ أشتاق إلى الموت كشوق الظمآن الشديد ظمؤه في اليوم الحار
الشديد حره إلى الماء البارد الشديد برده و في هذا يقول بعضهم :
( أشتاق إليك يا قريبا نائي ... شوق ظأم إلى الزلال الماء )
و قد دل على جواز ذلك قول الله عز و جل : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة
عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت } و قوله : { قل يا أيها الذين
هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت } فدل ذلك على
أن أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنوه ثم أخبر أنهم : { و لن يتمنوه
أبدا بما قدمت أيديهم } فدل على : أنه يكره الموت من له ذنوب يخاف القدوم
عليها كما قال بعض السلف : ما يكره الموت إلا مريب و في [ حديث عمار بن
ياسر عن النبي صلى الله عليه و سلم أسألك لذة النظر إلى وجهك و شوقا إلى
لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة ] فالشوق إلى لقاء الله تعالى إنما
يكون بمحبة الموت و ذلك لا يقع غالبا إلا عند خوف ضراء مضرة في الدنيا أو
فتنة مضلة في الدين فأما إذا خلا عن ذلك كان شوقا إلى لقاء الله عز و جل و
هو المسؤول في هذا الحديث و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : لا يتمنين الموت إلا من وثق بعمله ] فالمطيع لله مستأنس
بربه فهو يحب لقاء الله و الله يحب لقاءه و العاصي مستوحش بينه و بين
مولاه وحشة الذنوب فهو يكره لقاء ربه و لا بد له منه قال ذو النون : كل
مطيع مستأنس و كل عاص مستوحش و في هذا يقول بعضهم :
( أمستوحش أنت مما جنيت ... فاحسن إذا شئت و استأنس )
قال أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما في وصيته له عند الموت : أن حفظت
وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت و لا بد لك منه و إن ضيعتها لم يكن
غائب أكره إليك من الموت و لن تعجزه قال أبو حازم : كل عمل تكره الموت من
أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مت العاصي يفر من الموت لكراهية لقاء الله و
أين يفر من هو في قبضة من يطلبه
( أين المفر و الإله الطالب ... و المجرم المغلوب ليس الغالب )
سئل أبو حازم : كيف القدوم على الله ؟ قال : أما المطيع فقدوم الغائب على
أهله المشتاقين إليه و أما العاصي فكقدوم الآبق على سيده الغضبان
رؤي بعض الصالحين في النوم فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : خيرا لم ير
مثل الكريم إذا حل به مطيع الدنيا كلها شهر صيام المتقين و عيد فطرهم يوم
لقاء ربهم كما قيل :
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقائكم ذاك فطر صيامي )
و منها : تمني الموت على غير الوجوه المتقدمة فقد اختلف العلماء في
كراهيته و استحبابه و قد رخص فيه جماعة من السلف و كرهه آخرون و حكى بعض
أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين و لا يصح فإن أحمد إنما نص على كراهة تمني
الموت لضرر الدنيا و على جواز تمنيه خشية الفتنة في الدين و ربما أدخل
بعضهم في هذا الإختلاف القسم الذي قبله و في ذلك نظر و استدل من كرهه
بعموم النهي عنه كما في حديث جابر الذي ذكرناه و في معناه أحاديث أخر يأتي
بعضها إن شاء الله تعالى و قد علل النهي عن تمني الموت في حديث جابر
بعلتين : إحداهما : أن هول المطلع شديد و هول المطلع : هو ما يكشف للميت
عند حضور الموت من الأهوال التي عهد له بشيء منها في الدنيا من رؤية
الملائكة و رؤية أعماله من خير أو شر و ما يبشر به عند ذلك من الجنة و
النار هذا مع ما يلقاه من شدة الموت و كربه و غصصه و في الحديث الصحيح : [
إذا حملت الجنازة و كانت صالحة قالت : قدموني قدموني و إن كانت غير ذلك
قالت : يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان و لو سمعها
الإنسان لصعق ] قال الحسن : لو أعلم ابن آدم أن له في الموت راحة و فرحا
لشق عليه أن يأتيه الموت لما يعلم من فظاعته و شدته و هوله فكيف و هو لا
يعلم ما له في الموت نعيم دائم أو عذب مقيم بكى النخعي عند احتضاره و قال
: انتظر ملك الموت لا أدري يبشرني بالجنة أو النار فالمتمني للموت كأنه
يستعجل حلول البلاء و إنما أمرنا بسؤال العافية و سمع ابن عمر رجلا يتمنى
الموت فقال : لا تتمنى الموت فإنك ميت و لكن سل الله العافية قال إبراهيم
بن أدهم : إن للموت كأسا لا يقوى عليها إلا خائف وجل مطيع لله كان يتوقعها
و قال أبو العتاهية :
( ألا للموت كأس أي كأس ... و أنت لكأسه لا بد حاسي )
( إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي )
جزع الحسن بن علي رضي الله عنهما عند موته و قال : إني أريد أن أشرف على
ما لم أشرف عليه قط و بكى الحسن البصري عند موته و قال : نفيسة ضعيفة و
أمر مهول عظيم و إنا لله و إنا إليه راجعون و كان حبيب العجمي عند موته
يبكي و يقول : أريد أن أسافر سفرا ما سافرته قط و أسلك طريقا ما سلكته قط
و أزور سيدي و مولاي و ما رأيته قط و أشرف على أهوال ما شاهدتها قط فهذا
كله من هول المطلع الذي قطع قلوب الخائفين حتى قال عمر عند موته : لو أن
لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطلع و من هول المطلع ما يكشف للميت
عند نزوله قبره من فينة القبر فإن الموتى يفتنون بالمسألة في قبورهم مثل
أو قريبا من فتنة المسيح الدجال و ما يكشف لهم في قبورهم عن منازلهم من
الجنة و النار و ما يلقون من ضمة القبر و ضيقته و هوله و عذابه إن لم يعاف
الله من ذلك رؤي بعض الصالحين في المنام بعد موته فسئل عن حاله فأنشد :
( و ليس يعلم ما في القبر داخله ... إلا الإله و ساكن الأجداث )
و العلة الثانية : أن المؤمن لا يزيد عمره إلا خيرا فمن سعادته أن يطول
عمره و يرزقه الله الإنابة إليه و التوبة من ذنوبه السالفة و الإجتهاد في
العمل الصالح فإذا تمنى الموت فقد تمنى إقطاع عمله الصالح فلا ينبغي له
ذلك و [ روى إبراهيم الحربي من رواية ابن لهيعة عن ابن الهاد عن ابن
المطلب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : السعادة طول العمر في
طاعة الله عز و جل ] و قد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه و سلم من
وجوه متعددة ففي صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت أما محسنا فلعله أن يزداد
خيرا و إما مسيئا فلعله أن يستعتب ] و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من
قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا
خيرا ] و في مسند الإمام أحمد [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه
إلا أن يكون قد وثق بعمله فإنه إن مات أحدكم انقطع عنه عمله و إنه لا يزيد
المؤمن عمره إلا خيرا ] و فيه [ عن أم الفضل رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه و سلم سمع العباس و هو يشتكي فتمنى الموت فقال : لا تتمنى الموت
فإنك إن كنت محسنا تزداد إحسانا و إن كنت مسيئا فإن تؤخر تستعب من إساءتك
خير لك ] و فيه أيضا [ عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : جلسنا إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم فذكرنا و رققنا فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر
البكاء و قال : يا ليتني مت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يا سعد إن
كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك و حسن من عملك فهو خير لك ] و في المعنى
أحاديث أخر كثيرة و كلها تدل على النهي عن تمني الموت بكل حال و أن طول
عمر المؤمن خير له فإنه يزداد فيه خيرا و هذا قد قيل إنه يدخل فيه تمنيه
للشوق إلى لقاء الله و فيه نظر فإن النبي صلى الله عليه و سلم قد تمناه في
تلك الحال و اختلف السالكون أيما أفضل من تمنى الموت شوقا إلى لقاء الله
أو من تمنى الحياة رغبة في طاعة الله أو من فوض الأمر إلى الله و رضي
باختياره له و لم يختر لنفسه شيئا و استدل طائفة من الصحابة على تفضيل
الموت على الحياة بقول الله عز و جل : { و ما عند الله خير للأبرار } و
لكن الأحاديث الصحيحة تدل على أن عمر المؤمن كلما طال ازداد بذلك ما له
عند الله من الخير فلا ينبغي له أن يتمنى انقطاع ذلك اللهم إلا أن يخشى
الفتنة على دينه فإنه إذا خشي الفتنة على دينه فقد خشي أن يفوته ما عند
الله من خير و يتبدل ذلك بالشر عياذا بالله من ذلك و الموت خير من الحياة
على هذه الحال قال ميمون بن مهران : لا خير في الحياة إلا لتائب أو رجل
يعمل في الدرجات يعني أن التائب يمحو بالتوبة ما سلف من السيئات و العامل
يجتهد في علو الدرجات و من عداهما فهو خاسر كما قال تعالى : { و العصر *
إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و
تواصوا بالصبر } فأقسم الله تعالى أن كل إنسان خاسر إلا من اتصف بهذه
الأوصاف الأربعة : الإيمان و العمل الصالح و التواصي بالحق و التواصي
بالصبر على الحق فهذه السورة ميزان للأعمال يزين المؤمن بها نفسه فيبين له
بها ربحه من خسرانه و لهذا قال الشافعي رضي الله عنه : لو فكر الناس كلهم
فيها لكفتهم رأى بعض المتقدمين النبي صلى الله عليه و سلم في منامه فقال
له أوصني ؟ فقال له : من استوى يوماه فهو مغبون و كان يومه شرا من أمسه
فهو ملعون و من لم يتفقد الزيادة في عمله فهو في نقصان و من كان في نقصان
فالموت خير له قال بعضهم : كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم
على مثل حالهم بالأمس يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة
من عمل الخير و يستحيون من فقد ذلك و يعدونه خسرانا كما قيل :
( أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا نفع و تحسب من عمري )
فالمؤمن القائم بشروط الإيمان لا يزداد بطول عمره إلا خيرا و من كان كذلك
فالحياة خير له من الموت و في دعاء النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم
اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و الموت راحة لي من كل شر ] خرجه مسلم و
في الترمذي [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه سئل : أي الناس خير ؟ قال : من
طال عمره و حسن عمله قيل : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره و ساء عمله ]
و في المسند و غيره : [ أن نفرا ثلاثة قدموا النبي صلى الله عليه و سلم
فأسلموا فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه و سلم بعثا فخرج فيهم
أحدهم فاستشهد ثم بعث بعثا آخر فخرج منهم فاستشهد ثم مات الثالث على فراشه
قال طلحة : فرأيتهم في الجنة فرأيت الميت على فراشه أمامهم و رأيت الذي
استشهد آخرا يليه ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم فأتيت النبي صلى الله
عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : و ما أنكرت من ذلك ليس أفضل عند الله عز و
جل من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه و تكبيره و تهليله ] و في رواية قال [
أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ قالوا : بلى قال : و أدرك رمضان فصامه ؟ قالوا
: بلى قال : و صلى كذا و كذا سجدة في السنة ؟ قالوا : بلى قال : فلما
بينهما أبعد ما بين السماء و الأرض ] قيل لبعض السلف طاب الموت قل : لا
تفعل لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدهر و قيل لشيخ كبير
منه : تحب الموت ؟ قال : لا قيل : و لم ؟ قال : ذهب الشباب و شره و جاء
الكبر و خيره فإذا قمت قلت : بسم الله و إذا قعدت قلت : الحمد لله فأنا
أحب أن يبقى لي هذا و قيل لشيخ آخر منهم : ما بقي مما تحب له الحياة قال :
البكاء على الذنوب و لهذا كان السلف الصالح يتأسفون عند موتهم على انقطاع
أعمالهم عنهم بالموت و بكى معاذ عند موته و قال : إنما أبكي على ظمأ
الهواجر و قيام ليل الشتاء و مزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر و بكى
عبد لرحمن بن الأسود عند موته و قال : وا أسفاه على الصوم و الصلاة و لم
يزل يتلو القرآن حتى مات و بكى يزيد الرقاشي عند موته و قال : أبكي على ما
يفوتني من قيام الليل و صيام النهار ثم بكى و قال : من يصلي لك يا يزيد
بعدك و من يصوم و من يتقرب لك بالأعمال الصالحة و من يتوب لك من الذنوب
السالفة و جزع بعضهم عند موته و قال : إنما أبكي على أن يصوم الصائمون لله
و لست فيهم و يصلي المصلون و لست فيهم و يذكر الذاكرون و لست فيهم فذلك
الذي أبكاني
( تحمل أصحابي و لم يجدوا وجدي ... و للناس أشجان و لي شجن وحدي )
( أحبكم ما دمت حيا فإن أمت ... فوا أسفى ممن يحبكم بعدي )
في الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : ما من ميت مات إلا ندم :
إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد و إن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب
] إذا كان المحسن يندم على ترك الزيادة فكيف يكون حال المسيء رأى بعض
المتقدمين في المنام قائلا يقول له :
( يا خد إنك إن توسد لينا ... وسدت بعد الموت صم الجندل )
( فاعمل لنفسك في حياتك صالحا ... فلتقدمن غدا إذا لم تفعل )
و رأى آخر في المنام قائلا يقول له :
( إن كنت لا ترتاب أنك ميت ... و لست لبعد الموت ما أنت تعمل )
( فعمرك ما يفنى و أنت مفرط ... و اسمك في الموتى معد محصل )
رؤي بعض الموتى في المنام فقال : ما عندنا أكثر من الندامة و لا عندكم
أكثر من الغفلة وجد على قبر مكتوب :
( ندمت على ما كان مني ندامة ... و من يتبع ما تشتهي النفس يندم )
( ألم تعلم أن الحساب أمامكم ... و أن وراءكم طالبا ليس يسأم )
( فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم ... ستلقون ربا عادلا ليس يظلم )
( فليس لمغرور بدنياه راحة ... سيندم إن زلت له النعل فاعلموا )
الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم بتسبيحة و بركعة و مهم من
يسأل الرجعة إلى الدنيا لذلك فلا يقدرون على ذلك قد حيل بينهم و بين العمل
غلقت منهم الرهون و رؤي بعضهم في المنام فقال : ندمنا على أمر عظيم نعلم و
لا نعمل و أنتم تعملون و لا تعلمون و الله لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو
ركعتان في صحيفة أحدنا أحب إليه من الدنيا و ما فيها قال بعض السلف : كل
يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة و قال بعضهم بقية عمر المؤمن لا قيمة له يعني
أنه يمكنه أن يمحو فيه ما سلف منه من الذنوب بالتوبة و أن يجتهد فيه في
بلوغ الدرجات العالية بالعمل الصالح فأما من فرط في بقية عمره فإنه خاسر
فإن ازداد فيه من الذنوب فذلك هو الخسران المبين الأعمال بالخواتيم من
أصلح فيما بقي غفر له ما مضى و من أساء فيما بقي أخذ بما بقي و ما مضى
( يا بائع عمره مطيعا أمله ... في معصية الله كفعل الجهلة )
( إن ساومك الجهل باقيه فقل ... باقي عمر المؤمن لا قيمة له )
ما مضى من العمر و إن طالت أوقاته فقد ذهب لذاته و بقيت تبعاته و كأنه لم
يكن إذا جاء الموت و ميقاته قال الله عز و جل : { أفرأيت إن متعناهم سنين
* ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } تلا بعض
السلف هذه الآية و بكى و قال : إذا جاء الموت لم يغن عن المرء ما كان فيه
من اللذة و النعيم و في هذا المعنى ما أنشده أبو العتاهية للرشيد حين بنى
قصره و استدعى إليه ندماءه
( عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور )
( يسعى عليك بما اشتهيـ ... ت لدى الرواح و في البكور )
( فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور )
( فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور )
و في صحيح البخاري [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر الله إلى من
بلغه ستين من عمره ] و في الترمذي [ أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين
و أقلهم من يجوز ذلك ] و في رواية : [ حصاد أمتي من بلغ الخمسين فقد تنصف
المائة فماذا ينتظر ]
( لهفي على خمسين عاما قد مضت ... كانت أمامي ثم خلفتها )
( لو كان عمر بمائة هدني ... تذكري أني تنصفتها )
في بعض الكتب السالفة : إن لله مناديا ينادي كل يوم : أبناء الخمسين زرع
دنا حصاده أبناء الستين هلموا إلى الحساب أبناء السبعين ماذا قدمتم و ماذا
أخرتم أبناء الثمانين لا عذر لكم ليت الخلق لم يخلقوا و ليتهم إذ خلقوا
علموا لماذا خلقوا و تجالسوا بيهم فتذاكروا ما عملوا ألا أتتكم الساعة
فخذوا حذركم و قال وهب : إن لله مناديا ينادي في السماء الرابعة كل صباح :
أبناء الأربعين زرع دنا حصاده أبناء الخمسين ماذا قدمتم و ما أخرتم أبناء
الستين لا عذر لكم و في حديث : [ إن الله يقول للحفظة ارفقوا بالعبد ما
دامت حداثته فإذا بلغ الأربعين حققا و تحفظا ] فكان بعض رواته يبكي عند
روايته و يقول : حين كبرت السن و رق العظم وقع التحفظ قال مسروق : إذا
أتتك الأربعون فخذ حذرك و قال النخعي : كان يقال لصاحب الأربعين احتفظ
بنفسك و كان كثير من السلف إذا بلغ الأربعين تفرغ للعبادة و قال عمر بن
عبد العزيز : تمت حجة الله على ابن الأربعين فمات لها و رأى في منامه
قائلا يقول له :
( إذا ما أتتك الأربعون فعندها ... فاخش الإله و كن للموت حذارا )
يا أبناء العشرين كم مات من أقرانكم و تخلفتم يا أبناء الثلاثين أصبتم
بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم يا أبناء الأربعين ذهب الصبا و أنتم
على اللهو قد عكفتم يا أبناء الخمسين تنصفتم المائة و ما أنصفتم يا أبناء
الستين أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم أتلهون و تلعبون لقد أسرفتم
( و إذا تكامل للفتى من عمره ... خمسون و هو إلى التقى لم يجنح )
( عكفت عليه المخزيات فما له ... متأخر عنها و لا متزحزح )
( و إذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حيا و قال فديت من لا يفلح )
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت منذ ستين
سنة تسير إلى ربك يوشك أن تصل
( و إن امرءا قد سار ستين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب )
يا من يفرح بكثرة مرور السنين عليه إنما تفرح بنقص عمرك قال أبو الدرداء و
الحسن رضي الله عنهما : إنما أنت أيام كلما مضى منك يوم مضى بعضك
( إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... و كل يوم مضى يدني من الأجل )
( فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا ... فإنما الربح و الخسران في العمل )
قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره و شهره يهدم سنته و
سنته تهدم عمره ؟ كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله و حياته إلى موته ؟
( نجد سرورا بالهلال إذا بدا ... و ما هو إلا السيف للحتف ينتضى )
( إذا قيل تم الشهر فهو كناية ... و ترجمة عن شطر عمر قد انقضى )
قال الحسن : الموت معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى من ورائكم و هي مراحل
( نسير إلى الآجال في كل لحظة ... و أعمارنا تطوى و هن مراحل )
( ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام و هن قلائل )
قال بعض الحكماء : من كانت الليالي و الأيام مطاياه سارتا به و إن لم يسر
( و ما هذه الأيام إلا مراحل ... يحث بها حاد إلى الموت قاصد )
( و أعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوى و المسافر قاعد )
يا من كلما طال عمره زاد ذنبه يا من كلما ابيض شعره بمرور الأيام اسود
بالآثام قلبه
( شيخ كبير له ذنوب ... تعجز عن حملها المطايا )
( قد بيضت شعره الليالي ... و سودت قلبه الخطايا )
يا من تمر عليه سنة بعد سنة و هو مستثقل في نوم الغفلة و السنة يا من يأتي
عليه عام بعد عام و قد غرق في بحر الخطايا فعام يا من يشاهد الآيات و
العبر كلما توالت عليه الأعوام و الهور و يسمع الآيات و السور و لا ينتفع
بما يسمع و لا بما يرى من عظائم الأمور ما الحيلة فيمن سبق عليه الشقاء في
الكتاب المسطور : { فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في
الصدور } ـ { و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور }
( خليلي كم من ميت قد حضرته ... و لكنني لم أنتفع بحضوري )
( و كم من ليالي قد أرتني عجائبا ... لهن و أيام خلت و شهور )
( و كم من سنين قد طوتني كثيرة ... و كم من أمور قد جرت و أمور )
( و من لم يزده السن ما عاش عبرة ... فذاك الذي لا يستنير بنور )
خرج الإمام أحمد [ من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا
تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد و إن من السعادة أن يطول عمر العبد و
يرزقه الله الإنابة ] فتمني الموت يقع على وجوه : منها : تمنيه لضر دنيوي
ينزل بالعبد فينهى حينئذ عن تمني الموت و في الصحيحين [ عن أنس عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا
بد فاعلا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي و توفني إذا كانت
الوفاة خيرا لي ] و وجه كراهيته في هذا الحال أن المتمني للموت لضر نزل به
إنما يتمناه تعجيلا للإستراحة من ضره و هو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت
فلعله يصير إلى ضر أعظم من ضره فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار و في
الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما يستريح من غفر له ]
فلهذا لا ينبغي له أن يدعو بالموت إلا أن يشترط أن يكون خيرا له عند الله
عز و جل فكذلك كل ما يعلم العبد فيه الخيرة له كالغنى و الفقر و غيرهما
كما يشرع له استخارة الله تعالى فيما يريد أن يعمله مما لا يعلم وجه
الخيرة فيه و إنما يسأل الله عز و جل على وجه الجزم و القطع مما يعلم أنه
خير محض كالمغفرة و الرحمة و العفو و العافية و التقى و الهدى و نحو ذلك و
منها : تمنيه خوف الفتنة في الدين فيجوز حينئذ و قد تمناه و دعا به خشية
فتنة الدين خلق من الصحابة و أئمة الإسلام و في حديث المنام : [ و إذا
أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ] و منها : تمني الموت عند حضور
أسباب الشهادة اغتناما لحضورها فيجوز ذلك أيضا و سؤال الصحابة الشهادة و
تعرضهم لها عند حضور الجهاد كثير مشهور و كذلك سؤال معاذ لنفسه و أهل بيته
الطاعون لما وقع بالشام و منها : تمني الموت لمن وثق بعمله شوقا إلى لقاء
الله عز و جل فهذا يجوز أيضا و قد فعله كثير من السلف قال أبو الدرداء :
أحب الموت اشتياقا إلى ربي و قال أبو عنبسة الخولاني : كان من قبلكم لقاء
الله أحب إليه من الشهد
و قال بعضهم : طال شوقي إليك فعجل قدومي
عليك و قال بعضهم : لا تطيب نفسي بالموت إلا إذا ذكرت لقاء الله عز و جل
فإنني حينئذ أشتاق إلى الموت كشوق الظمآن الشديد ظمؤه في اليوم الحار
الشديد حره إلى الماء البارد الشديد برده و في هذا يقول بعضهم :
( أشتاق إليك يا قريبا نائي ... شوق ظأم إلى الزلال الماء )
و قد دل على جواز ذلك قول الله عز و جل : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة
عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت } و قوله : { قل يا أيها الذين
هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت } فدل ذلك على
أن أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنوه ثم أخبر أنهم : { و لن يتمنوه
أبدا بما قدمت أيديهم } فدل على : أنه يكره الموت من له ذنوب يخاف القدوم
عليها كما قال بعض السلف : ما يكره الموت إلا مريب و في [ حديث عمار بن
ياسر عن النبي صلى الله عليه و سلم أسألك لذة النظر إلى وجهك و شوقا إلى
لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة ] فالشوق إلى لقاء الله تعالى إنما
يكون بمحبة الموت و ذلك لا يقع غالبا إلا عند خوف ضراء مضرة في الدنيا أو
فتنة مضلة في الدين فأما إذا خلا عن ذلك كان شوقا إلى لقاء الله عز و جل و
هو المسؤول في هذا الحديث و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : لا يتمنين الموت إلا من وثق بعمله ] فالمطيع لله مستأنس
بربه فهو يحب لقاء الله و الله يحب لقاءه و العاصي مستوحش بينه و بين
مولاه وحشة الذنوب فهو يكره لقاء ربه و لا بد له منه قال ذو النون : كل
مطيع مستأنس و كل عاص مستوحش و في هذا يقول بعضهم :
( أمستوحش أنت مما جنيت ... فاحسن إذا شئت و استأنس )
قال أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما في وصيته له عند الموت : أن حفظت
وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت و لا بد لك منه و إن ضيعتها لم يكن
غائب أكره إليك من الموت و لن تعجزه قال أبو حازم : كل عمل تكره الموت من
أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مت العاصي يفر من الموت لكراهية لقاء الله و
أين يفر من هو في قبضة من يطلبه
( أين المفر و الإله الطالب ... و المجرم المغلوب ليس الغالب )
سئل أبو حازم : كيف القدوم على الله ؟ قال : أما المطيع فقدوم الغائب على
أهله المشتاقين إليه و أما العاصي فكقدوم الآبق على سيده الغضبان
رؤي بعض الصالحين في النوم فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : خيرا لم ير
مثل الكريم إذا حل به مطيع الدنيا كلها شهر صيام المتقين و عيد فطرهم يوم
لقاء ربهم كما قيل :
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقائكم ذاك فطر صيامي )
و منها : تمني الموت على غير الوجوه المتقدمة فقد اختلف العلماء في
كراهيته و استحبابه و قد رخص فيه جماعة من السلف و كرهه آخرون و حكى بعض
أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين و لا يصح فإن أحمد إنما نص على كراهة تمني
الموت لضرر الدنيا و على جواز تمنيه خشية الفتنة في الدين و ربما أدخل
بعضهم في هذا الإختلاف القسم الذي قبله و في ذلك نظر و استدل من كرهه
بعموم النهي عنه كما في حديث جابر الذي ذكرناه و في معناه أحاديث أخر يأتي
بعضها إن شاء الله تعالى و قد علل النهي عن تمني الموت في حديث جابر
بعلتين : إحداهما : أن هول المطلع شديد و هول المطلع : هو ما يكشف للميت
عند حضور الموت من الأهوال التي عهد له بشيء منها في الدنيا من رؤية
الملائكة و رؤية أعماله من خير أو شر و ما يبشر به عند ذلك من الجنة و
النار هذا مع ما يلقاه من شدة الموت و كربه و غصصه و في الحديث الصحيح : [
إذا حملت الجنازة و كانت صالحة قالت : قدموني قدموني و إن كانت غير ذلك
قالت : يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان و لو سمعها
الإنسان لصعق ] قال الحسن : لو أعلم ابن آدم أن له في الموت راحة و فرحا
لشق عليه أن يأتيه الموت لما يعلم من فظاعته و شدته و هوله فكيف و هو لا
يعلم ما له في الموت نعيم دائم أو عذب مقيم بكى النخعي عند احتضاره و قال
: انتظر ملك الموت لا أدري يبشرني بالجنة أو النار فالمتمني للموت كأنه
يستعجل حلول البلاء و إنما أمرنا بسؤال العافية و سمع ابن عمر رجلا يتمنى
الموت فقال : لا تتمنى الموت فإنك ميت و لكن سل الله العافية قال إبراهيم
بن أدهم : إن للموت كأسا لا يقوى عليها إلا خائف وجل مطيع لله كان يتوقعها
و قال أبو العتاهية :
( ألا للموت كأس أي كأس ... و أنت لكأسه لا بد حاسي )
( إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي )
جزع الحسن بن علي رضي الله عنهما عند موته و قال : إني أريد أن أشرف على
ما لم أشرف عليه قط و بكى الحسن البصري عند موته و قال : نفيسة ضعيفة و
أمر مهول عظيم و إنا لله و إنا إليه راجعون و كان حبيب العجمي عند موته
يبكي و يقول : أريد أن أسافر سفرا ما سافرته قط و أسلك طريقا ما سلكته قط
و أزور سيدي و مولاي و ما رأيته قط و أشرف على أهوال ما شاهدتها قط فهذا
كله من هول المطلع الذي قطع قلوب الخائفين حتى قال عمر عند موته : لو أن
لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطلع و من هول المطلع ما يكشف للميت
عند نزوله قبره من فينة القبر فإن الموتى يفتنون بالمسألة في قبورهم مثل
أو قريبا من فتنة المسيح الدجال و ما يكشف لهم في قبورهم عن منازلهم من
الجنة و النار و ما يلقون من ضمة القبر و ضيقته و هوله و عذابه إن لم يعاف
الله من ذلك رؤي بعض الصالحين في المنام بعد موته فسئل عن حاله فأنشد :
( و ليس يعلم ما في القبر داخله ... إلا الإله و ساكن الأجداث )
و العلة الثانية : أن المؤمن لا يزيد عمره إلا خيرا فمن سعادته أن يطول
عمره و يرزقه الله الإنابة إليه و التوبة من ذنوبه السالفة و الإجتهاد في
العمل الصالح فإذا تمنى الموت فقد تمنى إقطاع عمله الصالح فلا ينبغي له
ذلك و [ روى إبراهيم الحربي من رواية ابن لهيعة عن ابن الهاد عن ابن
المطلب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : السعادة طول العمر في
طاعة الله عز و جل ] و قد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه و سلم من
وجوه متعددة ففي صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت أما محسنا فلعله أن يزداد
خيرا و إما مسيئا فلعله أن يستعتب ] و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من
قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا
خيرا ] و في مسند الإمام أحمد [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه
إلا أن يكون قد وثق بعمله فإنه إن مات أحدكم انقطع عنه عمله و إنه لا يزيد
المؤمن عمره إلا خيرا ] و فيه [ عن أم الفضل رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه و سلم سمع العباس و هو يشتكي فتمنى الموت فقال : لا تتمنى الموت
فإنك إن كنت محسنا تزداد إحسانا و إن كنت مسيئا فإن تؤخر تستعب من إساءتك
خير لك ] و فيه أيضا [ عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : جلسنا إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم فذكرنا و رققنا فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر
البكاء و قال : يا ليتني مت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يا سعد إن
كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك و حسن من عملك فهو خير لك ] و في المعنى
أحاديث أخر كثيرة و كلها تدل على النهي عن تمني الموت بكل حال و أن طول
عمر المؤمن خير له فإنه يزداد فيه خيرا و هذا قد قيل إنه يدخل فيه تمنيه
للشوق إلى لقاء الله و فيه نظر فإن النبي صلى الله عليه و سلم قد تمناه في
تلك الحال و اختلف السالكون أيما أفضل من تمنى الموت شوقا إلى لقاء الله
أو من تمنى الحياة رغبة في طاعة الله أو من فوض الأمر إلى الله و رضي
باختياره له و لم يختر لنفسه شيئا و استدل طائفة من الصحابة على تفضيل
الموت على الحياة بقول الله عز و جل : { و ما عند الله خير للأبرار } و
لكن الأحاديث الصحيحة تدل على أن عمر المؤمن كلما طال ازداد بذلك ما له
عند الله من الخير فلا ينبغي له أن يتمنى انقطاع ذلك اللهم إلا أن يخشى
الفتنة على دينه فإنه إذا خشي الفتنة على دينه فقد خشي أن يفوته ما عند
الله من خير و يتبدل ذلك بالشر عياذا بالله من ذلك و الموت خير من الحياة
على هذه الحال قال ميمون بن مهران : لا خير في الحياة إلا لتائب أو رجل
يعمل في الدرجات يعني أن التائب يمحو بالتوبة ما سلف من السيئات و العامل
يجتهد في علو الدرجات و من عداهما فهو خاسر كما قال تعالى : { و العصر *
إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و
تواصوا بالصبر } فأقسم الله تعالى أن كل إنسان خاسر إلا من اتصف بهذه
الأوصاف الأربعة : الإيمان و العمل الصالح و التواصي بالحق و التواصي
بالصبر على الحق فهذه السورة ميزان للأعمال يزين المؤمن بها نفسه فيبين له
بها ربحه من خسرانه و لهذا قال الشافعي رضي الله عنه : لو فكر الناس كلهم
فيها لكفتهم رأى بعض المتقدمين النبي صلى الله عليه و سلم في منامه فقال
له أوصني ؟ فقال له : من استوى يوماه فهو مغبون و كان يومه شرا من أمسه
فهو ملعون و من لم يتفقد الزيادة في عمله فهو في نقصان و من كان في نقصان
فالموت خير له قال بعضهم : كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم
على مثل حالهم بالأمس يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة
من عمل الخير و يستحيون من فقد ذلك و يعدونه خسرانا كما قيل :
( أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا نفع و تحسب من عمري )
فالمؤمن القائم بشروط الإيمان لا يزداد بطول عمره إلا خيرا و من كان كذلك
فالحياة خير له من الموت و في دعاء النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم
اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و الموت راحة لي من كل شر ] خرجه مسلم و
في الترمذي [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه سئل : أي الناس خير ؟ قال : من
طال عمره و حسن عمله قيل : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره و ساء عمله ]
و في المسند و غيره : [ أن نفرا ثلاثة قدموا النبي صلى الله عليه و سلم
فأسلموا فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه و سلم بعثا فخرج فيهم
أحدهم فاستشهد ثم بعث بعثا آخر فخرج منهم فاستشهد ثم مات الثالث على فراشه
قال طلحة : فرأيتهم في الجنة فرأيت الميت على فراشه أمامهم و رأيت الذي
استشهد آخرا يليه ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم فأتيت النبي صلى الله
عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : و ما أنكرت من ذلك ليس أفضل عند الله عز و
جل من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه و تكبيره و تهليله ] و في رواية قال [
أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ قالوا : بلى قال : و أدرك رمضان فصامه ؟ قالوا
: بلى قال : و صلى كذا و كذا سجدة في السنة ؟ قالوا : بلى قال : فلما
بينهما أبعد ما بين السماء و الأرض ] قيل لبعض السلف طاب الموت قل : لا
تفعل لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدهر و قيل لشيخ كبير
منه : تحب الموت ؟ قال : لا قيل : و لم ؟ قال : ذهب الشباب و شره و جاء
الكبر و خيره فإذا قمت قلت : بسم الله و إذا قعدت قلت : الحمد لله فأنا
أحب أن يبقى لي هذا و قيل لشيخ آخر منهم : ما بقي مما تحب له الحياة قال :
البكاء على الذنوب و لهذا كان السلف الصالح يتأسفون عند موتهم على انقطاع
أعمالهم عنهم بالموت و بكى معاذ عند موته و قال : إنما أبكي على ظمأ
الهواجر و قيام ليل الشتاء و مزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر و بكى
عبد لرحمن بن الأسود عند موته و قال : وا أسفاه على الصوم و الصلاة و لم
يزل يتلو القرآن حتى مات و بكى يزيد الرقاشي عند موته و قال : أبكي على ما
يفوتني من قيام الليل و صيام النهار ثم بكى و قال : من يصلي لك يا يزيد
بعدك و من يصوم و من يتقرب لك بالأعمال الصالحة و من يتوب لك من الذنوب
السالفة و جزع بعضهم عند موته و قال : إنما أبكي على أن يصوم الصائمون لله
و لست فيهم و يصلي المصلون و لست فيهم و يذكر الذاكرون و لست فيهم فذلك
الذي أبكاني
( تحمل أصحابي و لم يجدوا وجدي ... و للناس أشجان و لي شجن وحدي )
( أحبكم ما دمت حيا فإن أمت ... فوا أسفى ممن يحبكم بعدي )
في الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : ما من ميت مات إلا ندم :
إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد و إن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب
] إذا كان المحسن يندم على ترك الزيادة فكيف يكون حال المسيء رأى بعض
المتقدمين في المنام قائلا يقول له :
( يا خد إنك إن توسد لينا ... وسدت بعد الموت صم الجندل )
( فاعمل لنفسك في حياتك صالحا ... فلتقدمن غدا إذا لم تفعل )
و رأى آخر في المنام قائلا يقول له :
( إن كنت لا ترتاب أنك ميت ... و لست لبعد الموت ما أنت تعمل )
( فعمرك ما يفنى و أنت مفرط ... و اسمك في الموتى معد محصل )
رؤي بعض الموتى في المنام فقال : ما عندنا أكثر من الندامة و لا عندكم
أكثر من الغفلة وجد على قبر مكتوب :
( ندمت على ما كان مني ندامة ... و من يتبع ما تشتهي النفس يندم )
( ألم تعلم أن الحساب أمامكم ... و أن وراءكم طالبا ليس يسأم )
( فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم ... ستلقون ربا عادلا ليس يظلم )
( فليس لمغرور بدنياه راحة ... سيندم إن زلت له النعل فاعلموا )
الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم بتسبيحة و بركعة و مهم من
يسأل الرجعة إلى الدنيا لذلك فلا يقدرون على ذلك قد حيل بينهم و بين العمل
غلقت منهم الرهون و رؤي بعضهم في المنام فقال : ندمنا على أمر عظيم نعلم و
لا نعمل و أنتم تعملون و لا تعلمون و الله لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو
ركعتان في صحيفة أحدنا أحب إليه من الدنيا و ما فيها قال بعض السلف : كل
يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة و قال بعضهم بقية عمر المؤمن لا قيمة له يعني
أنه يمكنه أن يمحو فيه ما سلف منه من الذنوب بالتوبة و أن يجتهد فيه في
بلوغ الدرجات العالية بالعمل الصالح فأما من فرط في بقية عمره فإنه خاسر
فإن ازداد فيه من الذنوب فذلك هو الخسران المبين الأعمال بالخواتيم من
أصلح فيما بقي غفر له ما مضى و من أساء فيما بقي أخذ بما بقي و ما مضى
( يا بائع عمره مطيعا أمله ... في معصية الله كفعل الجهلة )
( إن ساومك الجهل باقيه فقل ... باقي عمر المؤمن لا قيمة له )
ما مضى من العمر و إن طالت أوقاته فقد ذهب لذاته و بقيت تبعاته و كأنه لم
يكن إذا جاء الموت و ميقاته قال الله عز و جل : { أفرأيت إن متعناهم سنين
* ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } تلا بعض
السلف هذه الآية و بكى و قال : إذا جاء الموت لم يغن عن المرء ما كان فيه
من اللذة و النعيم و في هذا المعنى ما أنشده أبو العتاهية للرشيد حين بنى
قصره و استدعى إليه ندماءه
( عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور )
( يسعى عليك بما اشتهيـ ... ت لدى الرواح و في البكور )
( فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور )
( فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور )
و في صحيح البخاري [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر الله إلى من
بلغه ستين من عمره ] و في الترمذي [ أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين
و أقلهم من يجوز ذلك ] و في رواية : [ حصاد أمتي من بلغ الخمسين فقد تنصف
المائة فماذا ينتظر ]
( لهفي على خمسين عاما قد مضت ... كانت أمامي ثم خلفتها )
( لو كان عمر بمائة هدني ... تذكري أني تنصفتها )
في بعض الكتب السالفة : إن لله مناديا ينادي كل يوم : أبناء الخمسين زرع
دنا حصاده أبناء الستين هلموا إلى الحساب أبناء السبعين ماذا قدمتم و ماذا
أخرتم أبناء الثمانين لا عذر لكم ليت الخلق لم يخلقوا و ليتهم إذ خلقوا
علموا لماذا خلقوا و تجالسوا بيهم فتذاكروا ما عملوا ألا أتتكم الساعة
فخذوا حذركم و قال وهب : إن لله مناديا ينادي في السماء الرابعة كل صباح :
أبناء الأربعين زرع دنا حصاده أبناء الخمسين ماذا قدمتم و ما أخرتم أبناء
الستين لا عذر لكم و في حديث : [ إن الله يقول للحفظة ارفقوا بالعبد ما
دامت حداثته فإذا بلغ الأربعين حققا و تحفظا ] فكان بعض رواته يبكي عند
روايته و يقول : حين كبرت السن و رق العظم وقع التحفظ قال مسروق : إذا
أتتك الأربعون فخذ حذرك و قال النخعي : كان يقال لصاحب الأربعين احتفظ
بنفسك و كان كثير من السلف إذا بلغ الأربعين تفرغ للعبادة و قال عمر بن
عبد العزيز : تمت حجة الله على ابن الأربعين فمات لها و رأى في منامه
قائلا يقول له :
( إذا ما أتتك الأربعون فعندها ... فاخش الإله و كن للموت حذارا )
يا أبناء العشرين كم مات من أقرانكم و تخلفتم يا أبناء الثلاثين أصبتم
بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم يا أبناء الأربعين ذهب الصبا و أنتم
على اللهو قد عكفتم يا أبناء الخمسين تنصفتم المائة و ما أنصفتم يا أبناء
الستين أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم أتلهون و تلعبون لقد أسرفتم
( و إذا تكامل للفتى من عمره ... خمسون و هو إلى التقى لم يجنح )
( عكفت عليه المخزيات فما له ... متأخر عنها و لا متزحزح )
( و إذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حيا و قال فديت من لا يفلح )
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت منذ ستين
سنة تسير إلى ربك يوشك أن تصل
( و إن امرءا قد سار ستين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب )
يا من يفرح بكثرة مرور السنين عليه إنما تفرح بنقص عمرك قال أبو الدرداء و
الحسن رضي الله عنهما : إنما أنت أيام كلما مضى منك يوم مضى بعضك
( إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... و كل يوم مضى يدني من الأجل )
( فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا ... فإنما الربح و الخسران في العمل )
قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره و شهره يهدم سنته و
سنته تهدم عمره ؟ كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله و حياته إلى موته ؟
( نجد سرورا بالهلال إذا بدا ... و ما هو إلا السيف للحتف ينتضى )
( إذا قيل تم الشهر فهو كناية ... و ترجمة عن شطر عمر قد انقضى )
قال الحسن : الموت معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى من ورائكم و هي مراحل
( نسير إلى الآجال في كل لحظة ... و أعمارنا تطوى و هن مراحل )
( ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام و هن قلائل )
قال بعض الحكماء : من كانت الليالي و الأيام مطاياه سارتا به و إن لم يسر
( و ما هذه الأيام إلا مراحل ... يحث بها حاد إلى الموت قاصد )
( و أعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوى و المسافر قاعد )
يا من كلما طال عمره زاد ذنبه يا من كلما ابيض شعره بمرور الأيام اسود
بالآثام قلبه
( شيخ كبير له ذنوب ... تعجز عن حملها المطايا )
( قد بيضت شعره الليالي ... و سودت قلبه الخطايا )
يا من تمر عليه سنة بعد سنة و هو مستثقل في نوم الغفلة و السنة يا من يأتي
عليه عام بعد عام و قد غرق في بحر الخطايا فعام يا من يشاهد الآيات و
العبر كلما توالت عليه الأعوام و الهور و يسمع الآيات و السور و لا ينتفع
بما يسمع و لا بما يرى من عظائم الأمور ما الحيلة فيمن سبق عليه الشقاء في
الكتاب المسطور : { فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في
الصدور } ـ { و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور }
( خليلي كم من ميت قد حضرته ... و لكنني لم أنتفع بحضوري )
( و كم من ليالي قد أرتني عجائبا ... لهن و أيام خلت و شهور )
( و كم من سنين قد طوتني كثيرة ... و كم من أمور قد جرت و أمور )
( و من لم يزده السن ما عاش عبرة ... فذاك الذي لا يستنير بنور )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل ـ و يلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية ـ وظائف فصول السنة
الشمسية و
فيه ثلاث مجالس ـ المجلس الأول في ذكر فصل الربيع
خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات
الأرض قيل : ما بركات الأرض ؟ قال : زهرة الدنيا فقال له رجل : هل يأتي
الخير بالشر ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ظننت أنه سينزل
عليه ثم جعل يمسح عن جبينه قال : أين السائل ؟ قال : أنا قال : لا يأتي
الخير إلا بالخير إن هذا المال خضرة حلوة و إن كل ما أنبت الربيع يقتل
حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس
فاجترت و ثلطت و بالت ثم عادت فأكلت و إن هذا المال خضرة حلوة من أخذه
بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و إن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل و
لا يشبع ] كان النبي صلى الله عليه و سلم يتخوف على أمته من فتح الدنيا
عليهم فيخاف عليهم الإفتتان بها
ففي الصحيحين [ عن عمرو بن عوف أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال للأنصار لما جاءه مال من البحرين : أبشروا
و أملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم و لكن أخشى عليكم أن تبسط
الدنيا عليكم ما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم
كما أهلكتهم ] و كان آخر خطبة خطبها على المنبر حذر فيها من زهرة الدنيا
ففي الصحيحين [ عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و سلم صعد المنبر
فقال : إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي و لكن أخشى عليكم الدنيا أن
تنافسوا فيها فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم ] قال قال عقبة :
فكان آخر ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر و في صحيح
مسلم [ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا
افتتحت عليكم خزائن فارس و الروم أي قوم أنتم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف :
نقول كما أمرنا الله عز و جل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو غير
ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ] و في المسند [ عن عمر
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله
بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة ] قال عمرو : أنا أشفق من ذلك و
فيه أيضا [ عن أبي ذر : أن أعرابيا قال : يا رسول الله أكلتنا الضبع يعني
السنة و الجدب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : غير ذلك أخوف مني عليكم
حين تصب عليكم الدنيا صبا فليت أمتي لا يلبسون الذهب ] و في رواية الديباج
و فيه أيضا [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما أخشى
عليكم الفقر و لكني أخشى عليكم التكاثر ]
و يروى [ من حديث عوف بن
مالك و أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الفقر تخافون و
الذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه
إلا هي ] و في رواية عوف : [ فإن الله فاتح عليكم فارس و الروم ] و في
المعنى أحاديث أخر و في الترمذي أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ لكل أمة
فتنة و إن فتنة أمتي المال ]
فقوله صلى الله عليه و سلم في حديث أبي
سعيد الخدري : [ إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض ]
ثم فسره بزهرة الدنيا و مراده : ما يفتح على أمته منها من ملك فارس و
الروم و غيرهم من الكفار الذين ورثت هذه الأمة ديارهم و أموالهم و أراضيهم
التي تخرج منها زروعهم و ثمارهم و أنهارهم و معادنهم و غير ذلك مما يخرج
من بركات الأرض و هذا من أعظم المعجزات و هو إخباره بظهور أمته على كنوز
فارس و الروم و أموالهم و ديارهم و وقع على ما أخبر به و لكنه لما سمى ذلك
ببركات الأرض و أخبر أنه أخوف ما يخافه عليهم أشكل ذلك على بعض من سمعه
حيث سماه بركة ثم خاف منه أشد الخوف فإن البركة إنما هي خير و رحمة و قد
سمى الله تعالى المال خيرا في مواضع كثيرة من القرآن فقال تعالى : { و إنه
لحب الخير لشديد } و قال : { إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين } و
قال تعالى عن سليمان عليه السلام : { إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي }
فلما سأله السائل : هل يأتي الخير بالشر صمت النبي صلى الله عليه و سلم
حتى ظنوا أنه أوحي إليه و الظاهر أن الأمر كان كذلك و يدل عليه أنه ورد في
رواية لمسلم في هذا الحديث : [ فأفاق يمسح عنه الرحضاء ] ـ و هو العرق ـ و
كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أوحي إليه يتحدر منه مثل الجمان من
العرق من شدة الوحي و ثقله عليه و في هذا دليل على أنه صلى الله عليه و
سلم كان إذا سئل عن شيء لم يكن أوحي إليه فيه شيء انتظر الوحي فيه و لم
يتكلم فيه بشيء حتى يوحى إليه فيه فلما نزل عليه جواب ما سئل عنه قال :
أين السائل ؟ قال : ها أنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الخير
لا يأتي إلا بالخير ] و في رواية لمسلم فقال : [ أو خير هو ؟ ] و في ذلك
دليل على : أن المال ليس بخير على الإطلاق بل منه خير و منه شر ثم ضرب مثل
المال و مثل من يأخذه بحقه و يصرفه في حقه و من يأخذه من غير حقه و يصرفه
في غير حقه فالمال في حق الأول خير و في حق الثاني شر فتبين بهذا أن المال
ليس بخير مطلق بل هو خير مقيد فإن استعان به المؤمن على ما ينفعه في آخرته
كان خيرا له و إلا كان شرا له فأما المال فقال : [ إنه خضرة حلوة ]
و قد وصف المال و الدنيا بهذا الوصف في أحاديث كثيرة : ففي الصحيحين [ عن
حكيم بن حزام أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاه ثم سأله فأعطاه ثم
سأله فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة
فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه و من أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه و
كان كالذي يأكل و لا يشبع ] و في صحيح مسلم [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن الله
مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء فإن أول
فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ] و استخلافهم فيها هو ما أورثهم الله
منها مما كان في أيدي الأمم من قبلهم كفارس و الروم و حذرهم من فتنة
الدنيا و فتنة النساء خصوصا فإن النساء أول ما ذكره الله من شهوات الدنيا
و متاعها في قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و
القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث
ذلك متاع الحياة الدنيا } و في المسند و الترمذي [ عن خولة بنت قيس عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن هذا المال خضرة حلوة فمن أصابه بحقه
بورك له فيه و رب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله و رسوله ليس له يوم
القيامة إلا النار ] و في المسند أيضا [ عن خولة بنت ثامر الأنصارية عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن رجالا سيخوضون
في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة ] و خرج البخاري من قوله : [
إن رجالا ] إلى آخره و في المسند أيضا [ عن عائشة عن النبي صلى الله عليه
و سلم قال : إن هذه الدنيا خضرة حلوة فمن آتيناه منها شيئا بطيب نفس أو
طيب طعمة و لا إسراف بورك له فيه و من آتيناه منها شيئا بغير طيب نفس منا
و غير طعمة و إسراف منه لم يبارك له فيه ] و في المعنى أحاديث أخر
و
قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا
أكلة الخضر ] مثل آخر ضربه صلى الله عليه و سلم لزهرة الدنيا و بهجة
منظرها و طيب نعيمها و حلاوته في النفوس فمثله كمثل نبات الربيع و هو
المرعى الخضر الذي ينبت في زمان الربيع فإنه يعجب الدواب التي ترعى فيه و
تستطيبه و تكثر من الأكل منه أكثر من قدر حاجتها لاستحلائها له فأما أن
يقتلها فتهلك و تموت حبطا و الحبط : انتفاخ البطن من كثرة الأكل أو يقارب
قتلها و يلم به فتمرض منه مرضا مخوفا مقاربا للموت فهذا مثل من يأخذ من
الدنيا بشره و جوع نفس من حيث لاحت له لا بقليل يقنع و لا بكثير يشبع و لا
يحلل و لا يحرم بل الحلال عنده ما حل بيده و قدر عليه و الحرام عنده ما
منع منه و عجز عنه فهذا هو المتخوض في مال الله و رسوله فيما شاءت نفسه و
ليس له إلا النار يوم القيامة كما في حديث خولة المتقدم و المراد بمال
الله و مال رسوله : الأموال التي يجب على ولاة الأمور حفظها و صرفها في
طاعة الله و رسوله من أموال الفيء و الغنائم و يتبع ذلك مال الخراج و
الجزية و كذا أموال الصدقات التي تصرف للفقراء و المساكين كمال الزكاة و
الوقف و نحو ذلك و في هذا تنبيه على أن من تخوض من الدنيا في الأموال
المحرم أكلها كمال الربا و مال الأيتام الذي من أكله أكل نارا و المغضوب و
السرقة و الغش في البيوع و الخداع و المكر و جحد الأمانات و الدعاوى
الباطلة و نحوها من الحيل المحرمة أولى أن يتخوض صاحبها في نار جهنم غدا
فكل هذه الأموال و ما أشبهها يتوسع بها أهلها في الدنيا و يتلذذون بها و
يتوصلون بها إلى لذات الدنيا و شهواتها ثم ينقلب ذلك بعد موتهم فيصير جمرا
من جمر جهنم في بطونهم فما تفي لذتها بتبعها كما قيل :
( تفنى اللذاذة ممن نال لذاتها ... من الحرام و يبقى الإثم و العار )
( تبقى عواقب سوء من مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار )
فلهذا شبه النبي صلى الله عليه و سلم من يأخذها بغير حقها و يضعها في غير
حقها بالبهائم الراعية من خضراء الربيع حتى تنتفخ بطونها من أكله فإما أن
يقتلها و إما أن يقارب قتلها فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقها و وضعها في
غير وجهها إما أن يقتله ذلك فيموت به قلبه و دينه و هو من مات على ذلك من
غير توبة منه و إصلاح حال فيستحق النار بعمله قال الله تعالى : { و الذين
كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم } و هذا هو
الميت حقيقة فإن الميت من مات قلبه كما قيل :
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء )
و أما أن يقارب موته ثم يعافى و هو من أفاق من هذه السكرة و تاب قبل موته
و قد قال علي رضي الله عنه في كلامه المشهور في أقسام جملة العلم : أو
منهوم باللذات سلس القياد للشهوات أو مغرى بجمع الأموال و الإدخار و ليسوا
من رعاة الدين أقرب شبابهم الأنعام السارحة و في الأبيات المشهورة التي
كان عمر بن عبد العزيز ينشدها كثيرا :
( نهارك يا مغرور سهو و غفلة ... و ليلك نوم و الردى لك لازم )
( و تتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم )
و إما استثناؤه صلى الله عليه و سلم من ذلك : [ آكلة الخضر ] فمراده بذلك
مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقها مقدار حاجته فإذا نفذ و احتاج عاد
إلى الأخذ منها قدر الحاجة بحقه و آكلة الخضر : دويبة تأكل من الخضر بقدر
حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل ثم تصرفه عنها فتستقبل عين الشمس فتصرف بذلك
ما في بطنها و تخرج منه ما يؤذيها من الفضلات و قد قيل : إن الخضر ليس من
نبات الربيع عند العرب إنما هو من كلاء الصيف بعد يبس العشب و هيجه و
اصفراره و الماشية من الإبل لا تستكثر منه بل تأخذ منه قليلا قليلا و لا
تحبط بطونها منه فهذا مثل المؤمن المقتصد من الدنيا يأخذ من حلالها و هو
قليل بالنسبة إلى حرامها قدر بلغته و حاجته و يجتزي من متاعها بأدونه و
أخشنه ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفذ ما عنده و خرجت فضلاته فلا
يوجب له هذا الأخذ ضررا و لا مرضا و لا هلاكا بل يكون ذلك بلاغا له و
يتبلغ به مدة حياته و يعينه على التزود لآخرته و في هذا إشارة إلى مدح من
أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته و قنع بذلك كما قال صلى الله عليه و سلم :
[ قد أفلح من هداه الله إلى الإسلام و كان عيشه كفافا فقنع به ] و قال صلى
الله عليه و سلم : [ خير الرزق ما يكفي ] و قال : [ اللهم اجعل رزق آل
محمد قوتا ]
( خذ من الرزق ما كفا ... و من العيش ما صفا )
( كل هذا سينقضي ... كسراج إذا انطفا )
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ إن هذا المال خضرة حلوة ] فأعاده مرة
ثانية تحذيرا من الإغترار به فخضرته منظرة و حلاوته طيب طعمه فلذلك تشتهيه
النفوس و تسارع إلى طلبه و لكن لو فكرت في عواقب لهربت منه الدنيا في
الحال حلوة خضره و في المآل مرة كدرة نعمت المرضعة و بئست الفاطمة
( إنما الدنيا نهار ... ضوءه ضوء معار )
( بينما عيشك غض ... ناعم فيه اخضرار )
( إذ رماه زمناه ... فإذا فيه اصفرار )
( و كذلك الليل يأتي ... ثم يمحوه النهار )
مثل حرام الدنيا كشجرة الدفلى تعجب من رآها و تقتل من آكلها
( نرى الدنيا و زهرتها فنصبوا ... و ما يخلو من الشهوات قلب )
( فضول العيش أكثره هموم ... و أكثر ما يضرك ما تحب )
( إذا اتفق القليل و فيه سلم ... فلا ترد الكثير و فيه حرب )
الذي بشر أمته بفتح الدنيا عليهم حذرهم من الإغترار بزهرتها و خوفهم من
خضرتها و حلاوتها و أخبرهم بخبرابها و فنائها و أن بين أيديهم دارا لا
تنقطع خضرتها و حلاوتها فمن وقف مع زهرة هذه العاجلة انقطع و هلك و من لم
يقف معها و سار إلى تلك وصل و نجا في المسند [ عن ابن عباس : أن النبي صلى
الله عليه و سلم أتاه فيما يرى النائم ملكان فقعد أحدهما عند رأسه و الآخر
عند رجليه فقال أحدهما للآخر : اضرب له مثلا فقال : إن مثله و مثل أمته
كمثل قوم سفر انتهو إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به
المفازة و لا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذا أتاهم رجل في حلة حبرة فقال
: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة و حياضا رواء أتتبعوني ؟ قالوا : نعم
قال : فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة و حياضا رواء فأكلوا و شربوا و
سمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا
معشبة و حياضا رواء أن تتبعوني ؟ قالوا : بلى قال : فإن بين أيديكم رياضا
هي أعشب من هذه و حياضا هي أروى من هذه فاتبعوني قال : فقالت طائفة : صدق
و الله لتتبعنه و قالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عله ] و قد خرجه ابن
أبي الدنيا و غيره من الحسن مرسلا بسياق أبسط من هذا و فيه : [ إنهم لما
رتعوا و سمنوا و أعجبهم المنزل صاح بهم فقال : ارتحلوا فإن هذه الروضة
ذاهبة و إن هذا الماء غائر ذاهب و إن أمامكم روضة أعشب من هذه و ماء أروى
من هذا الماء فكره ذلك عامة الناس و قالوا : ما نريد بهذه بدلا و هم أكثر
الناس و قال آخرون : و الله إن آخر قوله كأوله ارتحلوا فأبوا فارتحل قوم
فنجوا و لم يشعر الذين أقاموا حتى طرقهم العدو ليلا فأصبحوا بين أسير و
قتيل ] الدنيا : خضراء الدمن و معنى ذلك أن خضرتها نابتة على مزبلة منتنة
يا دني الهمة قنعت بروضة على مزبلة و الملك يدعوك إلى فردوسه الأعلى : {
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا
قليل } أرضيتم بخرابات البلى في الفردوس الأعلى يا لها صفقة غبن أتقنع
بخسائس الحشائش و الرياض معشبة بين يديك
و قوله صلى الله عليه و سلم
: [ من أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و من أخذه بغير حقه كان
كالذي يأكل و لا يشبع ] تقسيم لمن يأخذ المال على قسمين : فأحدهما : يشبه
حال آكلة الخضر و هو من أخذه بحقه و وضعه في حقه و ذكر أنه نعم المعونة هو
فإنه نعم العون لمن هذه صفته على الآخرة كما في [ حديث عمرو بن العاص عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : نعم المال الصالح للرجل الصالح ] و هو
الذي يأخذ بحقه و يضعه في حقه فهذا يوصله ماله إلى الله عز و جل فمن أخذ
من المال بحقه ما يقويه على طاعة الله و يستعين به عليها كان أخذه طاعة و
نفقته طاعة و في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنك
لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في
امرأتك ] و في حديث آخر : [ ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة و ما أطعمت أهلك
فهو لك صدقة و ما أطعمت ولدك فهو لك صدقة و ما أطعمت خادمك فهو لك صدقة ]
فما أخذ من الدنيا بنية التقوى على طلب الآخرة فهو داخل في قسم إرادة
الآخرة و السعي لها لا في إرادة الدنيا و السعي لها قال الحسن : ليس من حب
الدنيا طلبك ما يصلحك فيها و من زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها و
من أحب الدنيا و سرته ذهب خوف الآخرة من قلبه و قال سعيد بن جبير : متاع
الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة و ما لم يلهك فليس متاع الغرور و لكنه بلاغ
إلى ما هو خير منه و قال بعض العارفين : كل ما أصبت من الدنيا تريد به
الدنيا فهو مذموم و كل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا و قال
أبو سليمان : الدنيا حجاب عن الله لأعدائه و مطية موصلة إليه لأوليائه
فسبحان من جعل شيئا واحدا سببا للإتصال به و الإنقطاع عنه
و القسم
الثاني : يشبه حاله حال البهائم التي ترعى مما ينبت الربيع [ فيقتلها حبطا
أو يلم ] و هو من يأخذ المال بغير حقه فيأخذه من الوجوه المحرمة فلا يقنع
منه بقليل و لا بكثير و لا يشبع نفسه منه و لهذا قال : [ و كان كالذي يأكل
و لا يشبع ] [ و كان النبي صلى الله عليه و سلم يتعوذ من نفس لا تشبع ] و
حديث [ زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كانت الدنيا
همه فرق الله عليه أمره و جعل فقره بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما
كتب له ] فمن كان فقره بين عينيه لم يزل خائفا من الفقر لا يستغنى قلبه
بشيء و لا يشبع من الدنيا فإن الغنى غنى القلب و الفقر فقر النفس و في
حديث خرجه الطبراني مرفوعا : [ الغنى غنى القلب و الفقر في القلب و من كان
الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا و من كان الفقر في قلبه فلا
يغنيه ما أكثر له منها و إنما يضر نفسه ] و عن عيسى عليه السلام قال : [
مثل طالب الدنيا كشارب البحر كلما زاد شربا منه زاد عطشا حتى يقتله ] قال
يحيى بن معاذ : من كان غناه في قلبه لم يزل غنيا و من كان غناه في كبسه لم
يزل فقيرا و من قصد المخلوقين لحوائجه لم يزل محروما و يشهد لذلك كله
الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو كان لابن آدم واديان
من ذهب لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب و يتوب الله
على من تاب ] لو فكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع و لو تذكر الجائع إلى
فضول مآلها لشبع
( هب أنك قد ملكت الأرض طرا ... ودان لك العباد فكان ماذا )
( أليس إذا مصيرك جوف قبر ... و يحثي التراب هذا ثم هذا )
و قد ضرب الله في كتابه مثل الدنيا و خضرتها و نضرتها و بهجتها و سرعة
تقلبها و زوالها و جعل مثلها كمثل نبات الأرض النابت من مطر السماء في
تقلب أحواله و مآله قال الله تعالى : { و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء
أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان
الله على كل شيء مقتدرا } و قال تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء
أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا
أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا
أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون
} و قال تعالى : { أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و
تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه
مصفرا ثم يكون حطاما و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان و ما
الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } و قال تعالى : { ألم تر أن الله أنزل من
السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج
فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } فالدنيا و
جميع ما فيها من الخضرة و البهجة و النضرة تتقلب أحواله و تتبدل ثم تصير
حطاما يابسا و قد عدد الله سبحانه زينة الدنيا و متاعها المبهج في قوله
تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة
من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة
الدنيا و الله عنده حسن المآب } و هذا كله يصير ترابا ما خلا الذهب و
الفضة و لا ينتفع بأعيانهما بل هما قيم الأشياء فلا ينتفع صاحبهما
بإمساكهما و إنما ينتفع بإنفاقهما و لهذا قال الحسن : بئس الرفيق الدرهم و
الدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك و أجسام بني آدم بل و سائر الحيوانات
كنبات الأرض تنقلب من حال إلى حال ثم تجف و تصير ترابا قال الله تعالى : {
و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا }
( و ما المرء إلا كالنبات و زهره ... يعود رفاتا بعد ما هو ساطع )
فينتقل ابن آدم من الشباب إلى الهرم و من الصحة إلى السقم و من الوجود إلى
العدم كما قيل :
( و ما حالتنا إلا ثلاث ... شباب ثم شيب ثم موت )
( و آخر ما يسمى المرء شيخا ... و يتلوه من الأسماء ميت )
مدة الشباب قصيرة كمدة زهر الربيع و بهجته و نضارته فإذا يبس و ابيض فقد
آن ارتحاله كما أن الزرع إذا ابيض فقد آن حصاده و أجمل زهور الربيع الورد
و متى كثر فيه البياض فقد قرب زمان انتقاله قال وهيب بن الورد : إن لله
ملكا ينادي في السماء كل يوم : أبناء الخمسين زرع دنا حصاده و في حديث
مرفوع : [ إن لكل شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ]
( قد يبلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد )
و قد يدرك الزرع آفة قبل بلوغ حصاده فيهلك كما أشير إليه في قوله تعالى :
{ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها
أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } قال ميمون بن
مهران لجلسائه : يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا ابيض قالوا الحصاد
فنظر إلى الشباب فقال : يا معشر الشباب إن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن
يستحصد و قال بعضهم : أكثر من يموت الشباب و آية ذلك أن الشيوخ في الناس
قليل
( أيا ابن آدم لا يغررك عافية ... عليك صافية فالعمر معدود )
( ما أنت إلا كزرع عند خضرته ... بكل شيء من الآفات مقصود )
( فإن سلمت من الآفات أجمعها ... فأنت عند كمال الأمر محصود )
كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة و دليل عليه فنبات الأرض و اخضرارها في
الربيع بعد محولها و يبسها في الشتاء و إيناع الأشجار و اخضرارها بعد
كونها خشبا يابسا يدل على بعث الموتى من الأرض و قد ذكر الله تعالى ذلك في
كتابه في مواضع كثيرة قال الله تعالى : { و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا
عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق و
أنه يحيي الموتى و أنه على كل شيء قدير * و أن الساعة آتية لا ريب فيها و
أن الله يبعث من في القبور } و قال الله تعالى : { و نزلنا من السماء ماء
مباركا فأنبتنا به جنات و حب الحصيد * و النخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا
للعباد و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج } و قال الله تعالى : { و هو
الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد
ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم
تذكرون } قال أبو رزين للنبي صلى الله عليه و سلم : كيف يحي الله الموتى و
ما آية ذلك في خلقه ؟ قال : [ هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز
خضرا ؟ قال : نعم قال : كذلك يخرج الله الموتى و ذلك آيته في خلقه ] خرجه
الإمام أحمد و قصر مدة الزرع و الثمار و عود الأرض بعد ذلك إلى يبسها و
الشجر إلى حالها الأول كعود ابن آدم بعد كونه حيا إلى التراب الذي خلق منه
و فصول السنة تذكر بالآخرة : فشدة حر الصيف يذكر بحر جهنم و هو من سمومها
و شدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم و هو من زمهريرها و الخريف يكمل فيه
اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة و أما الربيع فهو أطيب فصول السنة و هو
يذكر بنعيم الجنة و طيب عيشها و ينبغي أن يحث المؤمن على الإستعداد لطلب
الجنة بالأعمال الصالحة كان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين و الفواكه
إلى السوق فيقف و ينظر و يعتبر و يسأل الله الجنة و مر سعيد بن جبير بشباب
من أبناء الملوك جلوس في مجالسهم في زينتهم فسلموا عليه فلما بعد عنهم بكى
و اشتد بكاؤه و قال : ذكرني هؤلاء بشباب أهل الجنة يا هذا تزوج صلة بن
أشيم بمعاذة العدوية و كانا من كبار الصالحين فأدخله ابن أخيه الحمام ثم
أدخله على زوجته في بيت مطيب منجد فقاما يصليان إلى الصباح فسأله ابن أخيه
عن حاله فقال : أدخلتني بالأمس بيتا أذكرتني به النار يعني الحمام و
أدخلتني الليلة بيتا أذكرتني به الجنة فلم يزل فكري في الجنة و النار إلى
الصباح دعا عبد الواحد بن زيد إخوانه إلى طعام صنعه إليهم فقام على رؤوسهم
عتبة الغلام يخدمهم و هو صائم و هم يأكلون فجعلت عيناه تهملان فسأله عبد
الواحد عن سبب بكائه ؟ فقال : ذكرت مواد أهل الجنة إذا أكلوا و قام
الولدان على رؤوسهم إنما خلقت الدنيا مرآة لننظر بها إلى الآخرة لا لننظر
إليها و نوقف معها
( كفى حزنا أن لا أعاين بقعة ... من الأرض إلا ازددت شوقا إليكم )
( و إني متى ما طاب لي خفض عيشة ... تذكرت أياما مضت لي لديكم )
تدقيق النظر و الفكر في حال النبات يستدل به المؤمن على عظمة خالقه وكمال
قدرته و رحمته فتزداد القلوب هيمانا في محبته و إلى ذلك الإشارة بقوله : {
و هو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا
نخرج منه حبا متراكبا و من النخل من طلعها قنوان دانية و جنات من أعناب و
الزيتون و الرمان مشتبها و غير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر و ينعه إن
في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } زمان الربيع كله واعظ يذكر بعظمة موجده و
كمال قدرته و يشوق إلى طيب مجاورته في دار كرامته كما قال ابن سمعون في
وصف الربيع : أرضه حرير و أنفاسه عبير و أوقاته كلها وعظ و تذكير
( يا قومنا فاح الربيع ... و لاح للأحباب يحدو )
( الزهر مسك و الريا ... ض أريضة و الماء جعد )
( و الظل منثور و في ... جيد الشقائق منه عقد )
( هذا النسيم و عنبر ... و ضباب هذا اللؤلؤ )
( و الغصن يرقص و الغديـ ... ر مصفق و الورق تشدو )
( و الجو بعض منه يا ... قوت و بعض لا زرود )
( و الكل يشهد أن صـ ... انعه قدير و هو فرد )
و لبعضهم في وصف زمان الربيع :
( الطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط )
( و الطير يقرأ و الغدير صحيفة ... و الريح يكتب و الغمام ينقط )
رؤي بعض الشعراء المتقدمين في المنام بعد موته فسئل عن حاله ؟ فقال :
غفر لي بأبيات قلتها في النرجس :
( تفكر في نبات الأرض و انظر ... إلى آثار ما صنع المليك )
( عيون من لجين ناظرات ... بأحداق هي الذهب السبيك )
( على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك )
سبحان من سبحت المخلوقات بحمده فملأ الأكوان تحميده و أفصحت الكائنات
بالشهادة بوحدانيته فوضح توحيده يسبحه النبات جمعه و فريده و الشجر عتيقه
و جديده و يمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار فيطرب السامع تمجيده كلما
درس الهزار درس شكره فالبلبل بالحمد معيده و كلما أقام خطيب الحمام النوح
على الدوح هيج المستهام نوحه و تغريده : { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق
ثم يعيده } عجبا للمتقلب بين مشاهدة حكمه و تناول نعمه ثم لا يشكر نعمه و
لا يبصر حكمه و أعجب من ذلك أن يعصي المنعم بنعمه هذا عود شجر الكرم يكون
يابسا طول الشتاء ثم إذا جاء الربيع دب فيه الماء و اخضر ثم يخرج الحصرم
فينتفع الناس به حامضا و يتناولون منه طبغا و اعتصارا ثم ينقلب حلوا
فينتفع الناس به حلوا رطبا و يابسا و يستخرجون منه ما ينتفعون بحلاوته طول
العام و ما يأتدمون بحمضه و هو نعم الإدام فهذه التنقلات توجب للعاقل
الدهش و التعجب من صنع صانعه و قدرة خالقه فينبغي له أن يفرغ عقله للتفكر
في هذه النعم و الشكر عليها و أما الجاهل فيأخذ العنب فيجعله خمرا فيغطي
به العقل الذي ينبغي أن يستعمل في الفكر و الشكر حتى ينسى خالقه المنعم
عليه بهذه النعم كلها فلا يستطيع بعد الشرب أن يذكره أو يشكره بل ينسى من
خلقه ورزقه فلا يعرفه في شكره بالكلية و هذه نهاية كفر النعم
( فواعجبا كيف يعصي الإلـ ... ه أم كيف يجحده الجاحد )
( و لله في كل تحريكة ... و تسكينة أبدا شاهد )
( و في كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد )
و من وجوه الإعتبار في النظر إلى الأرض التي أحياها الله بعد موتها في فصل
الربيع بما ساق إليها من قطر السماء أنه يرجى من كرمه أن يحي القلوب
الميتة بالذنوب و طول الغفلة بسماع الذكر النازل من السماء و إلى ذلك
الإشارة بقوله تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و
ما نزل من الحق } إلى قوله : { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها }
ففيه إشارة إلى أن من قدر على إحياء الأرض بعد موتها بوابل القطر فهو قادر
على إحياء القلوب الميتة القاسية بالذكر عسى لمحة من لمحات عطفه و نفحة من
نفحات لطفه و قد صلح من القلوب كل ما فسد
( عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر )
( إذا اشتد عسر فأرج يسرا فإنه ... قضى الله إن العسر يتبعه يسر )
عسى من أحيا الأرض الميتة بالقطر أن يحي القلوب الميتة بالذكر عسى نفحة من
نفحات رحمته تهب فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا
( إذا ما تجدد فصل الربيع ... تجدد للقلب فضل الرجاء )
( عسى الحال يصلح بعد الذنوب ... كما الأرض تهتز بعد الشتاء )
( و من ذا الذي ليس يرجوك ربي ... و ربع عطائك رحب الفناء )
الشمسية و
فيه ثلاث مجالس ـ المجلس الأول في ذكر فصل الربيع
خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات
الأرض قيل : ما بركات الأرض ؟ قال : زهرة الدنيا فقال له رجل : هل يأتي
الخير بالشر ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ظننت أنه سينزل
عليه ثم جعل يمسح عن جبينه قال : أين السائل ؟ قال : أنا قال : لا يأتي
الخير إلا بالخير إن هذا المال خضرة حلوة و إن كل ما أنبت الربيع يقتل
حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس
فاجترت و ثلطت و بالت ثم عادت فأكلت و إن هذا المال خضرة حلوة من أخذه
بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و إن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل و
لا يشبع ] كان النبي صلى الله عليه و سلم يتخوف على أمته من فتح الدنيا
عليهم فيخاف عليهم الإفتتان بها
ففي الصحيحين [ عن عمرو بن عوف أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال للأنصار لما جاءه مال من البحرين : أبشروا
و أملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم و لكن أخشى عليكم أن تبسط
الدنيا عليكم ما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم
كما أهلكتهم ] و كان آخر خطبة خطبها على المنبر حذر فيها من زهرة الدنيا
ففي الصحيحين [ عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و سلم صعد المنبر
فقال : إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي و لكن أخشى عليكم الدنيا أن
تنافسوا فيها فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم ] قال قال عقبة :
فكان آخر ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر و في صحيح
مسلم [ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا
افتتحت عليكم خزائن فارس و الروم أي قوم أنتم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف :
نقول كما أمرنا الله عز و جل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو غير
ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ] و في المسند [ عن عمر
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله
بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة ] قال عمرو : أنا أشفق من ذلك و
فيه أيضا [ عن أبي ذر : أن أعرابيا قال : يا رسول الله أكلتنا الضبع يعني
السنة و الجدب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : غير ذلك أخوف مني عليكم
حين تصب عليكم الدنيا صبا فليت أمتي لا يلبسون الذهب ] و في رواية الديباج
و فيه أيضا [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما أخشى
عليكم الفقر و لكني أخشى عليكم التكاثر ]
و يروى [ من حديث عوف بن
مالك و أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الفقر تخافون و
الذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه
إلا هي ] و في رواية عوف : [ فإن الله فاتح عليكم فارس و الروم ] و في
المعنى أحاديث أخر و في الترمذي أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ لكل أمة
فتنة و إن فتنة أمتي المال ]
فقوله صلى الله عليه و سلم في حديث أبي
سعيد الخدري : [ إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض ]
ثم فسره بزهرة الدنيا و مراده : ما يفتح على أمته منها من ملك فارس و
الروم و غيرهم من الكفار الذين ورثت هذه الأمة ديارهم و أموالهم و أراضيهم
التي تخرج منها زروعهم و ثمارهم و أنهارهم و معادنهم و غير ذلك مما يخرج
من بركات الأرض و هذا من أعظم المعجزات و هو إخباره بظهور أمته على كنوز
فارس و الروم و أموالهم و ديارهم و وقع على ما أخبر به و لكنه لما سمى ذلك
ببركات الأرض و أخبر أنه أخوف ما يخافه عليهم أشكل ذلك على بعض من سمعه
حيث سماه بركة ثم خاف منه أشد الخوف فإن البركة إنما هي خير و رحمة و قد
سمى الله تعالى المال خيرا في مواضع كثيرة من القرآن فقال تعالى : { و إنه
لحب الخير لشديد } و قال : { إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين } و
قال تعالى عن سليمان عليه السلام : { إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي }
فلما سأله السائل : هل يأتي الخير بالشر صمت النبي صلى الله عليه و سلم
حتى ظنوا أنه أوحي إليه و الظاهر أن الأمر كان كذلك و يدل عليه أنه ورد في
رواية لمسلم في هذا الحديث : [ فأفاق يمسح عنه الرحضاء ] ـ و هو العرق ـ و
كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أوحي إليه يتحدر منه مثل الجمان من
العرق من شدة الوحي و ثقله عليه و في هذا دليل على أنه صلى الله عليه و
سلم كان إذا سئل عن شيء لم يكن أوحي إليه فيه شيء انتظر الوحي فيه و لم
يتكلم فيه بشيء حتى يوحى إليه فيه فلما نزل عليه جواب ما سئل عنه قال :
أين السائل ؟ قال : ها أنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الخير
لا يأتي إلا بالخير ] و في رواية لمسلم فقال : [ أو خير هو ؟ ] و في ذلك
دليل على : أن المال ليس بخير على الإطلاق بل منه خير و منه شر ثم ضرب مثل
المال و مثل من يأخذه بحقه و يصرفه في حقه و من يأخذه من غير حقه و يصرفه
في غير حقه فالمال في حق الأول خير و في حق الثاني شر فتبين بهذا أن المال
ليس بخير مطلق بل هو خير مقيد فإن استعان به المؤمن على ما ينفعه في آخرته
كان خيرا له و إلا كان شرا له فأما المال فقال : [ إنه خضرة حلوة ]
و قد وصف المال و الدنيا بهذا الوصف في أحاديث كثيرة : ففي الصحيحين [ عن
حكيم بن حزام أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاه ثم سأله فأعطاه ثم
سأله فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة
فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه و من أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه و
كان كالذي يأكل و لا يشبع ] و في صحيح مسلم [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن الله
مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء فإن أول
فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ] و استخلافهم فيها هو ما أورثهم الله
منها مما كان في أيدي الأمم من قبلهم كفارس و الروم و حذرهم من فتنة
الدنيا و فتنة النساء خصوصا فإن النساء أول ما ذكره الله من شهوات الدنيا
و متاعها في قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و
القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث
ذلك متاع الحياة الدنيا } و في المسند و الترمذي [ عن خولة بنت قيس عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن هذا المال خضرة حلوة فمن أصابه بحقه
بورك له فيه و رب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله و رسوله ليس له يوم
القيامة إلا النار ] و في المسند أيضا [ عن خولة بنت ثامر الأنصارية عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن رجالا سيخوضون
في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة ] و خرج البخاري من قوله : [
إن رجالا ] إلى آخره و في المسند أيضا [ عن عائشة عن النبي صلى الله عليه
و سلم قال : إن هذه الدنيا خضرة حلوة فمن آتيناه منها شيئا بطيب نفس أو
طيب طعمة و لا إسراف بورك له فيه و من آتيناه منها شيئا بغير طيب نفس منا
و غير طعمة و إسراف منه لم يبارك له فيه ] و في المعنى أحاديث أخر
و
قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا
أكلة الخضر ] مثل آخر ضربه صلى الله عليه و سلم لزهرة الدنيا و بهجة
منظرها و طيب نعيمها و حلاوته في النفوس فمثله كمثل نبات الربيع و هو
المرعى الخضر الذي ينبت في زمان الربيع فإنه يعجب الدواب التي ترعى فيه و
تستطيبه و تكثر من الأكل منه أكثر من قدر حاجتها لاستحلائها له فأما أن
يقتلها فتهلك و تموت حبطا و الحبط : انتفاخ البطن من كثرة الأكل أو يقارب
قتلها و يلم به فتمرض منه مرضا مخوفا مقاربا للموت فهذا مثل من يأخذ من
الدنيا بشره و جوع نفس من حيث لاحت له لا بقليل يقنع و لا بكثير يشبع و لا
يحلل و لا يحرم بل الحلال عنده ما حل بيده و قدر عليه و الحرام عنده ما
منع منه و عجز عنه فهذا هو المتخوض في مال الله و رسوله فيما شاءت نفسه و
ليس له إلا النار يوم القيامة كما في حديث خولة المتقدم و المراد بمال
الله و مال رسوله : الأموال التي يجب على ولاة الأمور حفظها و صرفها في
طاعة الله و رسوله من أموال الفيء و الغنائم و يتبع ذلك مال الخراج و
الجزية و كذا أموال الصدقات التي تصرف للفقراء و المساكين كمال الزكاة و
الوقف و نحو ذلك و في هذا تنبيه على أن من تخوض من الدنيا في الأموال
المحرم أكلها كمال الربا و مال الأيتام الذي من أكله أكل نارا و المغضوب و
السرقة و الغش في البيوع و الخداع و المكر و جحد الأمانات و الدعاوى
الباطلة و نحوها من الحيل المحرمة أولى أن يتخوض صاحبها في نار جهنم غدا
فكل هذه الأموال و ما أشبهها يتوسع بها أهلها في الدنيا و يتلذذون بها و
يتوصلون بها إلى لذات الدنيا و شهواتها ثم ينقلب ذلك بعد موتهم فيصير جمرا
من جمر جهنم في بطونهم فما تفي لذتها بتبعها كما قيل :
( تفنى اللذاذة ممن نال لذاتها ... من الحرام و يبقى الإثم و العار )
( تبقى عواقب سوء من مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار )
فلهذا شبه النبي صلى الله عليه و سلم من يأخذها بغير حقها و يضعها في غير
حقها بالبهائم الراعية من خضراء الربيع حتى تنتفخ بطونها من أكله فإما أن
يقتلها و إما أن يقارب قتلها فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقها و وضعها في
غير وجهها إما أن يقتله ذلك فيموت به قلبه و دينه و هو من مات على ذلك من
غير توبة منه و إصلاح حال فيستحق النار بعمله قال الله تعالى : { و الذين
كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم } و هذا هو
الميت حقيقة فإن الميت من مات قلبه كما قيل :
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء )
و أما أن يقارب موته ثم يعافى و هو من أفاق من هذه السكرة و تاب قبل موته
و قد قال علي رضي الله عنه في كلامه المشهور في أقسام جملة العلم : أو
منهوم باللذات سلس القياد للشهوات أو مغرى بجمع الأموال و الإدخار و ليسوا
من رعاة الدين أقرب شبابهم الأنعام السارحة و في الأبيات المشهورة التي
كان عمر بن عبد العزيز ينشدها كثيرا :
( نهارك يا مغرور سهو و غفلة ... و ليلك نوم و الردى لك لازم )
( و تتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم )
و إما استثناؤه صلى الله عليه و سلم من ذلك : [ آكلة الخضر ] فمراده بذلك
مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقها مقدار حاجته فإذا نفذ و احتاج عاد
إلى الأخذ منها قدر الحاجة بحقه و آكلة الخضر : دويبة تأكل من الخضر بقدر
حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل ثم تصرفه عنها فتستقبل عين الشمس فتصرف بذلك
ما في بطنها و تخرج منه ما يؤذيها من الفضلات و قد قيل : إن الخضر ليس من
نبات الربيع عند العرب إنما هو من كلاء الصيف بعد يبس العشب و هيجه و
اصفراره و الماشية من الإبل لا تستكثر منه بل تأخذ منه قليلا قليلا و لا
تحبط بطونها منه فهذا مثل المؤمن المقتصد من الدنيا يأخذ من حلالها و هو
قليل بالنسبة إلى حرامها قدر بلغته و حاجته و يجتزي من متاعها بأدونه و
أخشنه ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفذ ما عنده و خرجت فضلاته فلا
يوجب له هذا الأخذ ضررا و لا مرضا و لا هلاكا بل يكون ذلك بلاغا له و
يتبلغ به مدة حياته و يعينه على التزود لآخرته و في هذا إشارة إلى مدح من
أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته و قنع بذلك كما قال صلى الله عليه و سلم :
[ قد أفلح من هداه الله إلى الإسلام و كان عيشه كفافا فقنع به ] و قال صلى
الله عليه و سلم : [ خير الرزق ما يكفي ] و قال : [ اللهم اجعل رزق آل
محمد قوتا ]
( خذ من الرزق ما كفا ... و من العيش ما صفا )
( كل هذا سينقضي ... كسراج إذا انطفا )
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ إن هذا المال خضرة حلوة ] فأعاده مرة
ثانية تحذيرا من الإغترار به فخضرته منظرة و حلاوته طيب طعمه فلذلك تشتهيه
النفوس و تسارع إلى طلبه و لكن لو فكرت في عواقب لهربت منه الدنيا في
الحال حلوة خضره و في المآل مرة كدرة نعمت المرضعة و بئست الفاطمة
( إنما الدنيا نهار ... ضوءه ضوء معار )
( بينما عيشك غض ... ناعم فيه اخضرار )
( إذ رماه زمناه ... فإذا فيه اصفرار )
( و كذلك الليل يأتي ... ثم يمحوه النهار )
مثل حرام الدنيا كشجرة الدفلى تعجب من رآها و تقتل من آكلها
( نرى الدنيا و زهرتها فنصبوا ... و ما يخلو من الشهوات قلب )
( فضول العيش أكثره هموم ... و أكثر ما يضرك ما تحب )
( إذا اتفق القليل و فيه سلم ... فلا ترد الكثير و فيه حرب )
الذي بشر أمته بفتح الدنيا عليهم حذرهم من الإغترار بزهرتها و خوفهم من
خضرتها و حلاوتها و أخبرهم بخبرابها و فنائها و أن بين أيديهم دارا لا
تنقطع خضرتها و حلاوتها فمن وقف مع زهرة هذه العاجلة انقطع و هلك و من لم
يقف معها و سار إلى تلك وصل و نجا في المسند [ عن ابن عباس : أن النبي صلى
الله عليه و سلم أتاه فيما يرى النائم ملكان فقعد أحدهما عند رأسه و الآخر
عند رجليه فقال أحدهما للآخر : اضرب له مثلا فقال : إن مثله و مثل أمته
كمثل قوم سفر انتهو إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به
المفازة و لا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذا أتاهم رجل في حلة حبرة فقال
: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة و حياضا رواء أتتبعوني ؟ قالوا : نعم
قال : فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة و حياضا رواء فأكلوا و شربوا و
سمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا
معشبة و حياضا رواء أن تتبعوني ؟ قالوا : بلى قال : فإن بين أيديكم رياضا
هي أعشب من هذه و حياضا هي أروى من هذه فاتبعوني قال : فقالت طائفة : صدق
و الله لتتبعنه و قالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عله ] و قد خرجه ابن
أبي الدنيا و غيره من الحسن مرسلا بسياق أبسط من هذا و فيه : [ إنهم لما
رتعوا و سمنوا و أعجبهم المنزل صاح بهم فقال : ارتحلوا فإن هذه الروضة
ذاهبة و إن هذا الماء غائر ذاهب و إن أمامكم روضة أعشب من هذه و ماء أروى
من هذا الماء فكره ذلك عامة الناس و قالوا : ما نريد بهذه بدلا و هم أكثر
الناس و قال آخرون : و الله إن آخر قوله كأوله ارتحلوا فأبوا فارتحل قوم
فنجوا و لم يشعر الذين أقاموا حتى طرقهم العدو ليلا فأصبحوا بين أسير و
قتيل ] الدنيا : خضراء الدمن و معنى ذلك أن خضرتها نابتة على مزبلة منتنة
يا دني الهمة قنعت بروضة على مزبلة و الملك يدعوك إلى فردوسه الأعلى : {
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا
قليل } أرضيتم بخرابات البلى في الفردوس الأعلى يا لها صفقة غبن أتقنع
بخسائس الحشائش و الرياض معشبة بين يديك
و قوله صلى الله عليه و سلم
: [ من أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و من أخذه بغير حقه كان
كالذي يأكل و لا يشبع ] تقسيم لمن يأخذ المال على قسمين : فأحدهما : يشبه
حال آكلة الخضر و هو من أخذه بحقه و وضعه في حقه و ذكر أنه نعم المعونة هو
فإنه نعم العون لمن هذه صفته على الآخرة كما في [ حديث عمرو بن العاص عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : نعم المال الصالح للرجل الصالح ] و هو
الذي يأخذ بحقه و يضعه في حقه فهذا يوصله ماله إلى الله عز و جل فمن أخذ
من المال بحقه ما يقويه على طاعة الله و يستعين به عليها كان أخذه طاعة و
نفقته طاعة و في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنك
لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في
امرأتك ] و في حديث آخر : [ ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة و ما أطعمت أهلك
فهو لك صدقة و ما أطعمت ولدك فهو لك صدقة و ما أطعمت خادمك فهو لك صدقة ]
فما أخذ من الدنيا بنية التقوى على طلب الآخرة فهو داخل في قسم إرادة
الآخرة و السعي لها لا في إرادة الدنيا و السعي لها قال الحسن : ليس من حب
الدنيا طلبك ما يصلحك فيها و من زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها و
من أحب الدنيا و سرته ذهب خوف الآخرة من قلبه و قال سعيد بن جبير : متاع
الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة و ما لم يلهك فليس متاع الغرور و لكنه بلاغ
إلى ما هو خير منه و قال بعض العارفين : كل ما أصبت من الدنيا تريد به
الدنيا فهو مذموم و كل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا و قال
أبو سليمان : الدنيا حجاب عن الله لأعدائه و مطية موصلة إليه لأوليائه
فسبحان من جعل شيئا واحدا سببا للإتصال به و الإنقطاع عنه
و القسم
الثاني : يشبه حاله حال البهائم التي ترعى مما ينبت الربيع [ فيقتلها حبطا
أو يلم ] و هو من يأخذ المال بغير حقه فيأخذه من الوجوه المحرمة فلا يقنع
منه بقليل و لا بكثير و لا يشبع نفسه منه و لهذا قال : [ و كان كالذي يأكل
و لا يشبع ] [ و كان النبي صلى الله عليه و سلم يتعوذ من نفس لا تشبع ] و
حديث [ زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كانت الدنيا
همه فرق الله عليه أمره و جعل فقره بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما
كتب له ] فمن كان فقره بين عينيه لم يزل خائفا من الفقر لا يستغنى قلبه
بشيء و لا يشبع من الدنيا فإن الغنى غنى القلب و الفقر فقر النفس و في
حديث خرجه الطبراني مرفوعا : [ الغنى غنى القلب و الفقر في القلب و من كان
الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا و من كان الفقر في قلبه فلا
يغنيه ما أكثر له منها و إنما يضر نفسه ] و عن عيسى عليه السلام قال : [
مثل طالب الدنيا كشارب البحر كلما زاد شربا منه زاد عطشا حتى يقتله ] قال
يحيى بن معاذ : من كان غناه في قلبه لم يزل غنيا و من كان غناه في كبسه لم
يزل فقيرا و من قصد المخلوقين لحوائجه لم يزل محروما و يشهد لذلك كله
الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو كان لابن آدم واديان
من ذهب لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب و يتوب الله
على من تاب ] لو فكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع و لو تذكر الجائع إلى
فضول مآلها لشبع
( هب أنك قد ملكت الأرض طرا ... ودان لك العباد فكان ماذا )
( أليس إذا مصيرك جوف قبر ... و يحثي التراب هذا ثم هذا )
و قد ضرب الله في كتابه مثل الدنيا و خضرتها و نضرتها و بهجتها و سرعة
تقلبها و زوالها و جعل مثلها كمثل نبات الأرض النابت من مطر السماء في
تقلب أحواله و مآله قال الله تعالى : { و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء
أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان
الله على كل شيء مقتدرا } و قال تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء
أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا
أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا
أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون
} و قال تعالى : { أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و
تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه
مصفرا ثم يكون حطاما و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان و ما
الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } و قال تعالى : { ألم تر أن الله أنزل من
السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج
فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } فالدنيا و
جميع ما فيها من الخضرة و البهجة و النضرة تتقلب أحواله و تتبدل ثم تصير
حطاما يابسا و قد عدد الله سبحانه زينة الدنيا و متاعها المبهج في قوله
تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة
من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة
الدنيا و الله عنده حسن المآب } و هذا كله يصير ترابا ما خلا الذهب و
الفضة و لا ينتفع بأعيانهما بل هما قيم الأشياء فلا ينتفع صاحبهما
بإمساكهما و إنما ينتفع بإنفاقهما و لهذا قال الحسن : بئس الرفيق الدرهم و
الدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك و أجسام بني آدم بل و سائر الحيوانات
كنبات الأرض تنقلب من حال إلى حال ثم تجف و تصير ترابا قال الله تعالى : {
و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا }
( و ما المرء إلا كالنبات و زهره ... يعود رفاتا بعد ما هو ساطع )
فينتقل ابن آدم من الشباب إلى الهرم و من الصحة إلى السقم و من الوجود إلى
العدم كما قيل :
( و ما حالتنا إلا ثلاث ... شباب ثم شيب ثم موت )
( و آخر ما يسمى المرء شيخا ... و يتلوه من الأسماء ميت )
مدة الشباب قصيرة كمدة زهر الربيع و بهجته و نضارته فإذا يبس و ابيض فقد
آن ارتحاله كما أن الزرع إذا ابيض فقد آن حصاده و أجمل زهور الربيع الورد
و متى كثر فيه البياض فقد قرب زمان انتقاله قال وهيب بن الورد : إن لله
ملكا ينادي في السماء كل يوم : أبناء الخمسين زرع دنا حصاده و في حديث
مرفوع : [ إن لكل شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ]
( قد يبلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد )
و قد يدرك الزرع آفة قبل بلوغ حصاده فيهلك كما أشير إليه في قوله تعالى :
{ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها
أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } قال ميمون بن
مهران لجلسائه : يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا ابيض قالوا الحصاد
فنظر إلى الشباب فقال : يا معشر الشباب إن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن
يستحصد و قال بعضهم : أكثر من يموت الشباب و آية ذلك أن الشيوخ في الناس
قليل
( أيا ابن آدم لا يغررك عافية ... عليك صافية فالعمر معدود )
( ما أنت إلا كزرع عند خضرته ... بكل شيء من الآفات مقصود )
( فإن سلمت من الآفات أجمعها ... فأنت عند كمال الأمر محصود )
كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة و دليل عليه فنبات الأرض و اخضرارها في
الربيع بعد محولها و يبسها في الشتاء و إيناع الأشجار و اخضرارها بعد
كونها خشبا يابسا يدل على بعث الموتى من الأرض و قد ذكر الله تعالى ذلك في
كتابه في مواضع كثيرة قال الله تعالى : { و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا
عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق و
أنه يحيي الموتى و أنه على كل شيء قدير * و أن الساعة آتية لا ريب فيها و
أن الله يبعث من في القبور } و قال الله تعالى : { و نزلنا من السماء ماء
مباركا فأنبتنا به جنات و حب الحصيد * و النخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا
للعباد و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج } و قال الله تعالى : { و هو
الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد
ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم
تذكرون } قال أبو رزين للنبي صلى الله عليه و سلم : كيف يحي الله الموتى و
ما آية ذلك في خلقه ؟ قال : [ هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز
خضرا ؟ قال : نعم قال : كذلك يخرج الله الموتى و ذلك آيته في خلقه ] خرجه
الإمام أحمد و قصر مدة الزرع و الثمار و عود الأرض بعد ذلك إلى يبسها و
الشجر إلى حالها الأول كعود ابن آدم بعد كونه حيا إلى التراب الذي خلق منه
و فصول السنة تذكر بالآخرة : فشدة حر الصيف يذكر بحر جهنم و هو من سمومها
و شدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم و هو من زمهريرها و الخريف يكمل فيه
اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة و أما الربيع فهو أطيب فصول السنة و هو
يذكر بنعيم الجنة و طيب عيشها و ينبغي أن يحث المؤمن على الإستعداد لطلب
الجنة بالأعمال الصالحة كان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين و الفواكه
إلى السوق فيقف و ينظر و يعتبر و يسأل الله الجنة و مر سعيد بن جبير بشباب
من أبناء الملوك جلوس في مجالسهم في زينتهم فسلموا عليه فلما بعد عنهم بكى
و اشتد بكاؤه و قال : ذكرني هؤلاء بشباب أهل الجنة يا هذا تزوج صلة بن
أشيم بمعاذة العدوية و كانا من كبار الصالحين فأدخله ابن أخيه الحمام ثم
أدخله على زوجته في بيت مطيب منجد فقاما يصليان إلى الصباح فسأله ابن أخيه
عن حاله فقال : أدخلتني بالأمس بيتا أذكرتني به النار يعني الحمام و
أدخلتني الليلة بيتا أذكرتني به الجنة فلم يزل فكري في الجنة و النار إلى
الصباح دعا عبد الواحد بن زيد إخوانه إلى طعام صنعه إليهم فقام على رؤوسهم
عتبة الغلام يخدمهم و هو صائم و هم يأكلون فجعلت عيناه تهملان فسأله عبد
الواحد عن سبب بكائه ؟ فقال : ذكرت مواد أهل الجنة إذا أكلوا و قام
الولدان على رؤوسهم إنما خلقت الدنيا مرآة لننظر بها إلى الآخرة لا لننظر
إليها و نوقف معها
( كفى حزنا أن لا أعاين بقعة ... من الأرض إلا ازددت شوقا إليكم )
( و إني متى ما طاب لي خفض عيشة ... تذكرت أياما مضت لي لديكم )
تدقيق النظر و الفكر في حال النبات يستدل به المؤمن على عظمة خالقه وكمال
قدرته و رحمته فتزداد القلوب هيمانا في محبته و إلى ذلك الإشارة بقوله : {
و هو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا
نخرج منه حبا متراكبا و من النخل من طلعها قنوان دانية و جنات من أعناب و
الزيتون و الرمان مشتبها و غير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر و ينعه إن
في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } زمان الربيع كله واعظ يذكر بعظمة موجده و
كمال قدرته و يشوق إلى طيب مجاورته في دار كرامته كما قال ابن سمعون في
وصف الربيع : أرضه حرير و أنفاسه عبير و أوقاته كلها وعظ و تذكير
( يا قومنا فاح الربيع ... و لاح للأحباب يحدو )
( الزهر مسك و الريا ... ض أريضة و الماء جعد )
( و الظل منثور و في ... جيد الشقائق منه عقد )
( هذا النسيم و عنبر ... و ضباب هذا اللؤلؤ )
( و الغصن يرقص و الغديـ ... ر مصفق و الورق تشدو )
( و الجو بعض منه يا ... قوت و بعض لا زرود )
( و الكل يشهد أن صـ ... انعه قدير و هو فرد )
و لبعضهم في وصف زمان الربيع :
( الطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط )
( و الطير يقرأ و الغدير صحيفة ... و الريح يكتب و الغمام ينقط )
رؤي بعض الشعراء المتقدمين في المنام بعد موته فسئل عن حاله ؟ فقال :
غفر لي بأبيات قلتها في النرجس :
( تفكر في نبات الأرض و انظر ... إلى آثار ما صنع المليك )
( عيون من لجين ناظرات ... بأحداق هي الذهب السبيك )
( على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك )
سبحان من سبحت المخلوقات بحمده فملأ الأكوان تحميده و أفصحت الكائنات
بالشهادة بوحدانيته فوضح توحيده يسبحه النبات جمعه و فريده و الشجر عتيقه
و جديده و يمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار فيطرب السامع تمجيده كلما
درس الهزار درس شكره فالبلبل بالحمد معيده و كلما أقام خطيب الحمام النوح
على الدوح هيج المستهام نوحه و تغريده : { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق
ثم يعيده } عجبا للمتقلب بين مشاهدة حكمه و تناول نعمه ثم لا يشكر نعمه و
لا يبصر حكمه و أعجب من ذلك أن يعصي المنعم بنعمه هذا عود شجر الكرم يكون
يابسا طول الشتاء ثم إذا جاء الربيع دب فيه الماء و اخضر ثم يخرج الحصرم
فينتفع الناس به حامضا و يتناولون منه طبغا و اعتصارا ثم ينقلب حلوا
فينتفع الناس به حلوا رطبا و يابسا و يستخرجون منه ما ينتفعون بحلاوته طول
العام و ما يأتدمون بحمضه و هو نعم الإدام فهذه التنقلات توجب للعاقل
الدهش و التعجب من صنع صانعه و قدرة خالقه فينبغي له أن يفرغ عقله للتفكر
في هذه النعم و الشكر عليها و أما الجاهل فيأخذ العنب فيجعله خمرا فيغطي
به العقل الذي ينبغي أن يستعمل في الفكر و الشكر حتى ينسى خالقه المنعم
عليه بهذه النعم كلها فلا يستطيع بعد الشرب أن يذكره أو يشكره بل ينسى من
خلقه ورزقه فلا يعرفه في شكره بالكلية و هذه نهاية كفر النعم
( فواعجبا كيف يعصي الإلـ ... ه أم كيف يجحده الجاحد )
( و لله في كل تحريكة ... و تسكينة أبدا شاهد )
( و في كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد )
و من وجوه الإعتبار في النظر إلى الأرض التي أحياها الله بعد موتها في فصل
الربيع بما ساق إليها من قطر السماء أنه يرجى من كرمه أن يحي القلوب
الميتة بالذنوب و طول الغفلة بسماع الذكر النازل من السماء و إلى ذلك
الإشارة بقوله تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و
ما نزل من الحق } إلى قوله : { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها }
ففيه إشارة إلى أن من قدر على إحياء الأرض بعد موتها بوابل القطر فهو قادر
على إحياء القلوب الميتة القاسية بالذكر عسى لمحة من لمحات عطفه و نفحة من
نفحات لطفه و قد صلح من القلوب كل ما فسد
( عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر )
( إذا اشتد عسر فأرج يسرا فإنه ... قضى الله إن العسر يتبعه يسر )
عسى من أحيا الأرض الميتة بالقطر أن يحي القلوب الميتة بالذكر عسى نفحة من
نفحات رحمته تهب فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا
( إذا ما تجدد فصل الربيع ... تجدد للقلب فضل الرجاء )
( عسى الحال يصلح بعد الذنوب ... كما الأرض تهتز بعد الشتاء )
( و من ذا الذي ليس يرجوك ربي ... و ربع عطائك رحب الفناء )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف
خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فأذن
لها بنفسين نفس في الشتاء و نفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سموم
جهنم و أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم ] لا شك أن الله تعالى خلق
لعباده دارين يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء في الدارين من غير موت و خلق
دارا معجلة للأعمال و جعل فيها موتا و حياة و ابتلى عباده فيها بما أمرهم
به و نهاهم عنه و كلفهم فيها الإيمان بالغيب و منه : الإيمان بالجزاء و
الدارين المخلوقتين له و أنزل بذلك الكتب و أرسل به الرسل و أقام الأدلة
الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به و أقام علامات و أمارات تدل على
وجود داري الجزاء فإن إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا
يشوبه ألم و الأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة و هذه الدار الفانية
ممزوجة بالنعيم و الألم فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة و ما فيها من
الألم يذكر بألم النار و جعل الله تعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر
بدار الغيب المؤجلة الباقية فمنها ما يذكر بالجنة من زمان و مكان أما
الأماكن فخلق الله بعض البلدان كالشام و غيرها فيها من المطاعم و المشارب
و الملابس و غير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة و أما الأزمان :
فكزمن الربيع فإنه يذكر طيبه بنعيم الجنة و طيبها و كأوقات الأسحار فإن
بردها يذكر ببرد الجنة و في الحديث الذي خرجه الطبراني : [ إن الجنة تفتح
في كل ليلة في السحر فينظر الله إليها فيقول لها : ازدادي طيبا لأهلك
فتزداد طيبا فذلك برد السحر الذي يجده الناس ] و روى سعيد الجريري عن سعيد
بن أبي الحسن أن داود عليه السلام قال : يا جبريل أي الليل أفضل ؟ قال :
ما أدري غير أن العرش يهتز إذا كان من السحر ألا ترى أنه يفوح ريح كل
الشجر و منها ما يذكر بالنار فإن الله تعالى جعل في الدنيا أشياء كثيرة
تذكر بالنار المعدة لمن عصاه و ما فيها من الآلام و العقوبات من أماكن و
أزمان و أجسام و غير ذلك أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحر أو
البرد فبردها يذكر بزمهرير جهنم و حرها يذكر بحر جهنم و سمومها و بعض
البقاع يذكر بالنار كالحمام قال أبو هريرة : نعم البيت الحمام يدخله
المؤمن فيزيل به الدرن و يستعيذ بالله فيه من النار كان السلف يذكرون
النار بدخول الحمام فيحدث لهم ذلك عبادة دخل ابن وهب الحمام فسمع تاليا
يتلو : { و إذ يتحاجون في النار } فغشي عليه و تزوج صلة بن أشيم فدخل
الحمام ثم دخل على زوجته تلك الليلة فقام يصلي حتى أصبح و قال : دخلت
بالأمس بيتا أذكرني النار و دخلت الليلة بيتا ذكرت به الجنة فلم يزل فكري
فيهما حتى أصبحت كان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمام يقول : يا بر يا رحيم
من علينا و قنا عذاب السموم صب بعض الصالحين على رأسه ماء من الحمام فوجده
شديد الحر فبكى و قال : ذكرت قوله تعالى : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم }
كل ما في الدنيا يدل على صانعه و يذكر به و يدل على صفاته فما فيها من
نعيم و راحة يدل على كرم خالقه و فضله و إحسانه و جوده و لطفه و ما فيها
من نقمة و شدة و عذاب يدل على شدة بأسه و بطشه و قهره و انتقامه و اختلاف
أحوال الدنيا من حر و برد و ليل و نهار و غير ذلك يدل على انقضائها و
زوالها قال الحسن : كانوا يعني الصحابة يقولون : الحمد لله الرفيق الذي لو
جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف لقال الشاك في الله : لو كان لهذا
الخلق رب لحادثه و إن الله قد حادث بما ترون من الآيات أنه جاء بضوء طبق
ما بين الخافقين و جعل فيها معاشا و { سراجا وهاجا } ثم إذا شاء ذهب بذلك
الخلق و جاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين و جعل فيها سكنا و نجوما و قمرا
منيرا و إذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر و الرعد و البرق و الصواعق ما شاء
و إن شاء صرف ذلك الخلق و إذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس و إذا شاء ذهب
بذلك و جاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه
بما ترون من الآيات كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا و جاء بالآخرة و قال خليفة
العبدي : لو أن الله لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد و لكن المؤمنين
تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبق كل شيء و ملأ كل شيء و محا سلطان
النهار و تفكروا في مجيء هذا النهار إذا جاء فملأ كل شيء و طبق كل شيء و
محا سلطان الليل و تفكروا في { السحاب المسخر بين السماء و الأرض } و
تفكروا في { الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } و تفكروا في مجيء
الشتاء و الصيف فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربهم حتى
أيقنت قلوبهم و حتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته ما رأى العارفون شيئا من
الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة من كل خير و عافية
( قلوب العارفين لها عيون ... ترى ما لا يراه الناظرونا )
و أما
الأزمان فشدة الحر و البرد يذكر بما في جهنم من الحر و الزمهرير و قد دل
هذا الحديث الصحيح على : أن ذلك من تنفس النار في ذلك الوقت قال الحسن :
كل برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنم و كل حر أهلك شيئا فهو من نفس جهنم و في
الحديث الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا اشتد الحر
فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ]
و في حديث مرفوع خرجه
عثمان الدارمي و غيره : [ إذا كان يوم شديد الحر فقال العبد : لا إله إلا
الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر جهنم قال الله لجهنم : إن
عبدا من عبادي قد استجار بي منك و قد أجرته و إذا كان يوم شديد البرد فقال
العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم
قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي قد استجار بي من زمهريرك و إني أشهدك
أني قد أجرته قالوا و ما زمهرير جهنم قال : بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من
شدة برده ] أبواب النار مغلقة و تفتح أحيانا فتفتح أبوابها كلها عند
الظهيرة و لذلك يشتد الحر حينئذ فيكون في ذلك تذكرة بنار جهنم و أما
الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة منها الشمس عند اشتداد
حرها و قد روي أنها خلقت من النار و تعود إليها و خرج الطبراني [ بإسناده
أن رجلا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم نزع ثيابه ثم تمرغ في الرمضاء و
هو يقول لنفسه : ذوقي نار جهنم أشد حرا جيفة بالليل يطال بالنهار فرآه
النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله غلبتني نفسي فقال النبي
صلى الله عليه و سلم : لقد فتحت لك أبواب السماء و باهى الله بك الملائكة
] و أما البروز للشمس تعبدا بذلك فغير مشروع [ فإن النبي صلى الله عليه و
سلم قال لأبي اسرائيل لما رآه قائما في الشمس : فأمره أن يجلس و يستظل و
كان نذر أن يقوم في الشمس مع الصوم فأمره أن يتم صومه فقط ] و إنما يشرع
البروز للشمس للمحرم كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمحرم رآه قد استظل :
اضح لمن أحرمت له أي ابرز إلى الضحاء و هو حر الشمس كان بعضهم إذا أحرم لم
يستظل فقيل له لو أخذت بالرخصة فأنشد :
( ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا )
( فوا أسفا إن كان سعيك خائبا ... و وا أسفا إن كان حظك ناقصا )
و مما يؤمر بالصب فيه على حر الشمس النفر للجهاد في الصيف كما قال تعالى
عن المنافقين : { و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا
يفقهون } و كذلك في المشي إلى المساجد للجمع و الجماعات و شهود الجنائز و
نحوها من الطاعات و الجلوس في الشمس لانتظار ذلك حيث لا يوجد ظل خرج رجل
من السلف إلى الجمعة فوجد الناس قد سبقوه إلى الظل فقعد في الشمس فناداه
رجل من الظل أن يدخل إليه فأبى أن يتخطى الناس لذلك ثم تلا : { و اصبر على
ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر
الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار فإن الساعة
تقوم في يوم الجمعة و لا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة و
أهل النار في النار قاله ابن مسعود و تلا قوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير
مستقرا و أحسن مقيلا } و ينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في
الموقف فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة و يزاد في حرها و ينبغي
لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه
به دخول النار فإنه لا قوة لأحد عليها و لا صبر قال قتادة : و قد ذكر شراب
أهل جهنم و هو ماء يسيل من صديدهم من الجلد و اللحم فقال : هل لكم بهذا
يدان أم لكم عليه صبر طاعة الله أهون عليكم يا قوم فأطيعوا الله و رسوله
( نسيت لظى عند ارتكانك للهوى ... و أنت توقى حر شمس الهواجر )
( كأنك لم تدفن حميما و لم تكن ... له في سياق الموت يوما بحاضر )
رأى عمر بن عبد العزيز قزما في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل و توقوا
الغبار فبكى ثم أنشد :
( من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين و الشعثا )
( و يألف الظل كي يبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوما راغما جدثا )
( في ظل مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا )
( تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا )
و مما يضاعف ثوابه في شدة الحر من الطاعات : الصيام لما فيه من ظمأ
الهواجر و لهذا كان معاذ بن جبل يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ
الهواجر و كذلك غيره من السلف و روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه
كان يصوم في الصيف و يفطر في الشتاء و وصى عمر رضي الله عنه عند موته ابنه
عبد الله فقال له : عليك بخصال الإيمان و سمى أولها : الصوم في شدة الحر
في الصيف قال القاسم بن محمد : كانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحر
الشديد قيل له : ما حملها على ذلك ؟ قال : كانت تبادر الموت و كان مجمع
التيمي يصوم في الصيف حتى يسقط كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرا
فتصومه فيقال لها في ذلك فتقول : إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد تشير إلى
أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم
و هذا من علو الهمة كان أبو موسى الأشعري في سفينة فسمع هاتفا يهتف : يا
أهل المركب قفوا يقولها ثلاثا فقال أبو موسى : يا هذا كيف نقف ألا ترى ما
نحن فيه كيف نستطيع وقوفا فقال الهاتف : ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على
نفسه ؟ قال : بلى أخبرنا قال : فإن الله قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله
في يوم حار كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة فكان أبو موسى يتوخى
ذلك اليوم الحار الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ منه فيصومه قال كعب
: إن الله تعالى قال لموسى : إني آليت على نفسي أنه من عطش نفسه لي أن
أرويه يوم القيامة و قال غيره : مكتوب في التوراة طوبى لمن جوع نفسه ليوم
الشبع الأكبر طوبى لمن عطش نفسه ليوم الري الأكبر قال الحسن : تقول
الحوراء لولي الله و هو متكىء معها على نهر الخمر في الجنة تعاطيه الكأس
في أنعم عيشه أتدري أي يوم زوجنيك الله إنه نظر إليك في يوم صائف بعيد ما
بين الطرفين و أنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة و قال
انظروا إلى عبدي ترك زوجته و لذته و طعامه و شرابه من أجلي رغبة فيما عندي
اشهدوا أني قد غفرت له فغفر لك يومئذ و زوجنيك لما سار عامر بن عبد قيس من
البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى فلما أكثر
عليه قال : حاجتي أن ترد على من حر البصرة لعل الصوم أن يشتد علي شيئا
فإنه يخف علي في بلادكم نزل الحجاج في بعض أسفاره بماء بين مكة و المدينة
فدعا بغدائه و رأى أعرابيا فدعاه إلى الغداء معه فقال : دعاني من هو خير
منك فأجبته قال : و من هو ؟ قال : الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت قال :
في هذا الحر الشديد ؟ قال : نعم صمت ليوم أشد منه حرا قال : فافطر و صم
غدا قال : إن ضمنت لي البقاء إلى غد قال : ليس ذلك إلي قال : فكيف تسألني
عاجلا بآجل لا تقدر عليه خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم
فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم قال : إني صائم فقال ابن عمر : في مثل
هذا اليوم الشديد حره و أنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم و أنت صائم
؟ فقال : أبادر أيامي هذه الخالية فعجب منه ابن عمر فقال له ابن عمر : هل
لك أن تبيعنا شاة من غنمك و نطعمك من لحمها ما تفطر عليه و نعطيك ثمنها
قال : إنها ليست لي إنها لمولاي قال : فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت
أكلها الذئب فمضى الراعي و هو رافع اصبعه إلى السماء و هو يقول : فأين
الله فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه فلما قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي
فاشترى منه الراعي و الغنم فأعتق الراعي و وهب له الغنم نزل روح بن زنباع
منزلا بين مكة و المدينة في حر شديد فانقض عليه راع من جبل فقال له : يا
راع هلم إلى الغداء قال : إني صائم قال : أفتصوم في هذا الحر ؟ قال :
أفأدع أيامي تذهب باطلا فقال روح : لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ جاد بها
روح بن زنباع كان ابن عمر يصوم تطوعا فيغشى عليه فلا يفطر و كان الإمام
أحمد يصوم حتى يكاد يغمى عليه فيمسح على وجهه الماء و سئل عن من يصوم
فيشتد عليه الحر قال : لا بأس أن يبل ثوبا يتبرد به و يصب عليه الماء [
كان النبي صلى الله عليه و سلم بالعرج يصب على رأسه الماء و هو صائم ] و
كان أبو الدرداء يقول : صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور و صلوا
ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور و في الصحيحين [ عن أبي الدرداء رضي
الله عنه قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض
أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر و إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة
الحر و ما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد
الله بن رواحة ] و في [ رواية أن ذلك كان في شهر رمضان لما صبر الصائمون
لله في الحر على شدة العطش و الظمأ أفرد لهم بابا من أبواب الجنة و هو باب
الريان من دخل شرب و من شرب لم يظمأ بعدها أبدا فإذا دخلوا أغلق على من
بعدهم فلا يدخل منه غيرهم ]
و قد تحدث أحيانا حوادث غير معتادة تذكر
بالنار كالصواعق و الريح الحارة المحرقة للزرع قال الله تعالى : { و يرسل
الصواعق فيصيب بها من يشاء } و قد روي أن الصواعق قطعة من نار تطير من في
الملك الذي يزجر السحاب عند اشتداد غضبه و قال الله تعالى : { فأصابها
إعصار فيه نار فاحترقت } والإعصار : الريح الشديدة العاصف التي فيها نار و
الصر : الريح الشديدة البرد و قد عذب الله تعالى قوم شعيب بالظلة و روي
أنه أصابهم حر أخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت إلى الصحراء فأظلتهم سحابة
فوجدوا لها بردا فاجتمعوا تحتها كلهم فأمطرت عليهم نارا فأحرقوا كلهم فكل
هذه العقوبات بسبب المعاصي و هي من مقدمات عقوبات جهنم و أنموذجها و مما
يدل على الجنة و النار أيضا ما يعجله الله في الدنيا لأهل طاعته و أهل
معصيته فإن الله تعالى يعجل لأوليائه وأهل طاعته من نفحات نعيم الجنة و
روحها ما يجدونه و يشهدونه بقلوبهم مما لا يحيط به عبارة و لا تحصره إشارة
حتى قال بعضهم : إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا
فيه فإنهم في عيش طيب قال أبو سليمان : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل
اللهو في لهوهم و قال بعضهم : الرضا باب الله الأعظم و جنة الدنيا و
مستراح العابدين قال الله تعالى : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو
مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } قال الحسن : نرزقه طاعة يجد لذتها في قلبه أهل
التقوى في نعيم حيث كانوا في الدنيا و البرزخ و في الآخرة
( العيش عيشهم و الملك ملكهم ... ما الناس إلا همو بانوا أو اقتربوا )
و أما أهل المعاصي و الإعراض عن الله فإن الله يعجل لهم في الدنيا من
أنموذج عقوبات جهنم ما يعرف أيضا بالتجربة و الذوق فلا تسأل عما هم فيه من
ضيق الصدر و حرجه و نكده و عما يعجل لهم من عقوبات المعاصي في الدنيا و لو
بعد حين من زمن العصيان و هذا من نفحات الجحيم المعجلة لهم ثم ينتقلون بعد
هذه الدار إلى أشد من ذلك و أضيق و لذلك يضيق على أحدهم قبره حتى تختلف
فيه أضلاعه و يفتح له باب إلى النار فيأتيه من سمومها قال الله تعالى : {
و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } و ورد في الحديث المرفوع تفسيرها
بعذاب القبر ثم بعد ذلك يصيرون إلى جهنم و ضيقها قال الله تعالى : { وإذا
ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا
واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا } و مما يدل أيضا في الدنيا على وجود النار
الحمى التي تصيب بني آدم و هي نار باطنة فمنها نفحة من نفحات سموم جهنم و
منها نفحة من نفحات زمهريرها و قد روي في حديث خرجه الإمام أحمد و ابن
ماجه : [ أنها جظ المؤمن من النار ] و المدار أن الحمى تكفر ذنوب المؤمن و
تنقيه منها كما ينقي الكير خبث الحديد و إذا طهر المؤمن من ذنوبه في
الدنيا لم يجد حر النار إذا مر عليها يوم القيامة لأن وجدان الناس لحرها
عند المرور عليها بحسب ذنوبهم فمن طهر من الذنوب و نقي منها في الدنيا جاز
على الصراط كالبرق الخاطف و الريح و لم يجد شيئا من حر النار و لم يحس بها
فتقول النار للمؤمن : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي و [ في حديث جابر
المرفوع في مسند الإمام أحمد : إنهم يدخلونها فتكون عليهم بردا و سلاما
كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار ضجيجا من بردهم ] و من أعظم ما يذكر
بنار جهنم النار التي في الدنيا قال الله تعالى : { نحن جعلناها تذكرة و
متاعا للمقوين } يعني : أن نار الدنيا جعلها الله تذكرة تذكر بنار جهنم مر
ابن مسعود بالحدادين و قد أخرجوا حديدا من النار فوقف ينظر إليه و يبكي و
روي عنه أنه مر على الذين ينفخون الكير فسقط و كان أويس يقف على الحدادين
فينظر إليهم كيف ينفخون الكير و يسمع صوت النار فيصرخ ثم يسقط و كذلك
الربيع بن خيثم و كان كثير من السلف يخرجون إلى الحدادين ينظرون إلى ما
يصنعون بالحديد فيبكون و يتعوذون بالله من النار و رأى عطاء السليمي امرأة
قد سجرت تنورها فغشي عليه قال الحسن : كان عمر ربما توقد له النار ثم يدني
يده منها ثم يقول : يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر كان الأخنف بن قيس
يجيء إلى المصباح فيضع اصبعيه فيه و يقول حس ثم يعاتب نفسه على ذنوبه أحج
بعض العباد نارا بين يديه و عاتب نفسه فلم يزل يعاتبها حتى مات نار الدنيا
جزء من سبعين جزءا من نار جهنم و غسلت بالبحر مرتين حتى أشرقت و خف حرها و
لولا ذلك ما انتفع بها أهل الدنيا و هي تدعو إلى الله أن لا يعيدها إليها
قال بعض السلف : لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لقالوا فيها ألفي
عام يعني أنهم كانوا ينامون فيها و يرونها بردا كان عمر يقول : أكثروا ذكر
النار فإن حرها شديد و إن قعرها بعيد و إن مقامعها حديد كان ابن عمر و
غيره من السلف إذا شربوا ماء باردا بكوا و ذكروا أمنية أهل النار و أنهم
يشتهون الماء البارد و قد حيل بينهم و بين ما يشتهون و يقولون لأهل الجنة
: { أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } فيقولون لهم : { إن الله
حرمهما على الكافرين } و المصيبة العظمى حين تطبق النار على أهلها و
ييأسون من الفرج و هو الفزع الأكبر الذي يأمنه أهل الجنة : { الذين سبقت
لهم منا الحسنى }
( لو أبصرت عيناك أهل الشقا ... سيقوا إلى النار و قد أحرقوا )
( شرابهم المهل في قعرها ... إذ خالفوا الرسل و ما صدقوا )
( تقول أخراهم لأولاهم ... في لجج المهل و قد أغرقوا )
( قد كنتموا خوفتمو حرها ... لكن من النيران لم تفرقوا )
( و جيء بالنيران مذمومة ... شرارها من حولها محدق )
( و قيل للنيران أن أحرقي ... و قيل للخزان أن أطبقوا )
خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فأذن
لها بنفسين نفس في الشتاء و نفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سموم
جهنم و أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم ] لا شك أن الله تعالى خلق
لعباده دارين يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء في الدارين من غير موت و خلق
دارا معجلة للأعمال و جعل فيها موتا و حياة و ابتلى عباده فيها بما أمرهم
به و نهاهم عنه و كلفهم فيها الإيمان بالغيب و منه : الإيمان بالجزاء و
الدارين المخلوقتين له و أنزل بذلك الكتب و أرسل به الرسل و أقام الأدلة
الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به و أقام علامات و أمارات تدل على
وجود داري الجزاء فإن إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا
يشوبه ألم و الأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة و هذه الدار الفانية
ممزوجة بالنعيم و الألم فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة و ما فيها من
الألم يذكر بألم النار و جعل الله تعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر
بدار الغيب المؤجلة الباقية فمنها ما يذكر بالجنة من زمان و مكان أما
الأماكن فخلق الله بعض البلدان كالشام و غيرها فيها من المطاعم و المشارب
و الملابس و غير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة و أما الأزمان :
فكزمن الربيع فإنه يذكر طيبه بنعيم الجنة و طيبها و كأوقات الأسحار فإن
بردها يذكر ببرد الجنة و في الحديث الذي خرجه الطبراني : [ إن الجنة تفتح
في كل ليلة في السحر فينظر الله إليها فيقول لها : ازدادي طيبا لأهلك
فتزداد طيبا فذلك برد السحر الذي يجده الناس ] و روى سعيد الجريري عن سعيد
بن أبي الحسن أن داود عليه السلام قال : يا جبريل أي الليل أفضل ؟ قال :
ما أدري غير أن العرش يهتز إذا كان من السحر ألا ترى أنه يفوح ريح كل
الشجر و منها ما يذكر بالنار فإن الله تعالى جعل في الدنيا أشياء كثيرة
تذكر بالنار المعدة لمن عصاه و ما فيها من الآلام و العقوبات من أماكن و
أزمان و أجسام و غير ذلك أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحر أو
البرد فبردها يذكر بزمهرير جهنم و حرها يذكر بحر جهنم و سمومها و بعض
البقاع يذكر بالنار كالحمام قال أبو هريرة : نعم البيت الحمام يدخله
المؤمن فيزيل به الدرن و يستعيذ بالله فيه من النار كان السلف يذكرون
النار بدخول الحمام فيحدث لهم ذلك عبادة دخل ابن وهب الحمام فسمع تاليا
يتلو : { و إذ يتحاجون في النار } فغشي عليه و تزوج صلة بن أشيم فدخل
الحمام ثم دخل على زوجته تلك الليلة فقام يصلي حتى أصبح و قال : دخلت
بالأمس بيتا أذكرني النار و دخلت الليلة بيتا ذكرت به الجنة فلم يزل فكري
فيهما حتى أصبحت كان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمام يقول : يا بر يا رحيم
من علينا و قنا عذاب السموم صب بعض الصالحين على رأسه ماء من الحمام فوجده
شديد الحر فبكى و قال : ذكرت قوله تعالى : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم }
كل ما في الدنيا يدل على صانعه و يذكر به و يدل على صفاته فما فيها من
نعيم و راحة يدل على كرم خالقه و فضله و إحسانه و جوده و لطفه و ما فيها
من نقمة و شدة و عذاب يدل على شدة بأسه و بطشه و قهره و انتقامه و اختلاف
أحوال الدنيا من حر و برد و ليل و نهار و غير ذلك يدل على انقضائها و
زوالها قال الحسن : كانوا يعني الصحابة يقولون : الحمد لله الرفيق الذي لو
جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف لقال الشاك في الله : لو كان لهذا
الخلق رب لحادثه و إن الله قد حادث بما ترون من الآيات أنه جاء بضوء طبق
ما بين الخافقين و جعل فيها معاشا و { سراجا وهاجا } ثم إذا شاء ذهب بذلك
الخلق و جاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين و جعل فيها سكنا و نجوما و قمرا
منيرا و إذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر و الرعد و البرق و الصواعق ما شاء
و إن شاء صرف ذلك الخلق و إذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس و إذا شاء ذهب
بذلك و جاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه
بما ترون من الآيات كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا و جاء بالآخرة و قال خليفة
العبدي : لو أن الله لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد و لكن المؤمنين
تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبق كل شيء و ملأ كل شيء و محا سلطان
النهار و تفكروا في مجيء هذا النهار إذا جاء فملأ كل شيء و طبق كل شيء و
محا سلطان الليل و تفكروا في { السحاب المسخر بين السماء و الأرض } و
تفكروا في { الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } و تفكروا في مجيء
الشتاء و الصيف فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربهم حتى
أيقنت قلوبهم و حتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته ما رأى العارفون شيئا من
الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة من كل خير و عافية
( قلوب العارفين لها عيون ... ترى ما لا يراه الناظرونا )
و أما
الأزمان فشدة الحر و البرد يذكر بما في جهنم من الحر و الزمهرير و قد دل
هذا الحديث الصحيح على : أن ذلك من تنفس النار في ذلك الوقت قال الحسن :
كل برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنم و كل حر أهلك شيئا فهو من نفس جهنم و في
الحديث الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا اشتد الحر
فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ]
و في حديث مرفوع خرجه
عثمان الدارمي و غيره : [ إذا كان يوم شديد الحر فقال العبد : لا إله إلا
الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر جهنم قال الله لجهنم : إن
عبدا من عبادي قد استجار بي منك و قد أجرته و إذا كان يوم شديد البرد فقال
العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم
قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي قد استجار بي من زمهريرك و إني أشهدك
أني قد أجرته قالوا و ما زمهرير جهنم قال : بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من
شدة برده ] أبواب النار مغلقة و تفتح أحيانا فتفتح أبوابها كلها عند
الظهيرة و لذلك يشتد الحر حينئذ فيكون في ذلك تذكرة بنار جهنم و أما
الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة منها الشمس عند اشتداد
حرها و قد روي أنها خلقت من النار و تعود إليها و خرج الطبراني [ بإسناده
أن رجلا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم نزع ثيابه ثم تمرغ في الرمضاء و
هو يقول لنفسه : ذوقي نار جهنم أشد حرا جيفة بالليل يطال بالنهار فرآه
النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله غلبتني نفسي فقال النبي
صلى الله عليه و سلم : لقد فتحت لك أبواب السماء و باهى الله بك الملائكة
] و أما البروز للشمس تعبدا بذلك فغير مشروع [ فإن النبي صلى الله عليه و
سلم قال لأبي اسرائيل لما رآه قائما في الشمس : فأمره أن يجلس و يستظل و
كان نذر أن يقوم في الشمس مع الصوم فأمره أن يتم صومه فقط ] و إنما يشرع
البروز للشمس للمحرم كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمحرم رآه قد استظل :
اضح لمن أحرمت له أي ابرز إلى الضحاء و هو حر الشمس كان بعضهم إذا أحرم لم
يستظل فقيل له لو أخذت بالرخصة فأنشد :
( ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا )
( فوا أسفا إن كان سعيك خائبا ... و وا أسفا إن كان حظك ناقصا )
و مما يؤمر بالصب فيه على حر الشمس النفر للجهاد في الصيف كما قال تعالى
عن المنافقين : { و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا
يفقهون } و كذلك في المشي إلى المساجد للجمع و الجماعات و شهود الجنائز و
نحوها من الطاعات و الجلوس في الشمس لانتظار ذلك حيث لا يوجد ظل خرج رجل
من السلف إلى الجمعة فوجد الناس قد سبقوه إلى الظل فقعد في الشمس فناداه
رجل من الظل أن يدخل إليه فأبى أن يتخطى الناس لذلك ثم تلا : { و اصبر على
ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر
الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار فإن الساعة
تقوم في يوم الجمعة و لا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة و
أهل النار في النار قاله ابن مسعود و تلا قوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير
مستقرا و أحسن مقيلا } و ينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في
الموقف فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة و يزاد في حرها و ينبغي
لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه
به دخول النار فإنه لا قوة لأحد عليها و لا صبر قال قتادة : و قد ذكر شراب
أهل جهنم و هو ماء يسيل من صديدهم من الجلد و اللحم فقال : هل لكم بهذا
يدان أم لكم عليه صبر طاعة الله أهون عليكم يا قوم فأطيعوا الله و رسوله
( نسيت لظى عند ارتكانك للهوى ... و أنت توقى حر شمس الهواجر )
( كأنك لم تدفن حميما و لم تكن ... له في سياق الموت يوما بحاضر )
رأى عمر بن عبد العزيز قزما في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل و توقوا
الغبار فبكى ثم أنشد :
( من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين و الشعثا )
( و يألف الظل كي يبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوما راغما جدثا )
( في ظل مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا )
( تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا )
و مما يضاعف ثوابه في شدة الحر من الطاعات : الصيام لما فيه من ظمأ
الهواجر و لهذا كان معاذ بن جبل يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ
الهواجر و كذلك غيره من السلف و روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه
كان يصوم في الصيف و يفطر في الشتاء و وصى عمر رضي الله عنه عند موته ابنه
عبد الله فقال له : عليك بخصال الإيمان و سمى أولها : الصوم في شدة الحر
في الصيف قال القاسم بن محمد : كانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحر
الشديد قيل له : ما حملها على ذلك ؟ قال : كانت تبادر الموت و كان مجمع
التيمي يصوم في الصيف حتى يسقط كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرا
فتصومه فيقال لها في ذلك فتقول : إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد تشير إلى
أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم
و هذا من علو الهمة كان أبو موسى الأشعري في سفينة فسمع هاتفا يهتف : يا
أهل المركب قفوا يقولها ثلاثا فقال أبو موسى : يا هذا كيف نقف ألا ترى ما
نحن فيه كيف نستطيع وقوفا فقال الهاتف : ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على
نفسه ؟ قال : بلى أخبرنا قال : فإن الله قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله
في يوم حار كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة فكان أبو موسى يتوخى
ذلك اليوم الحار الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ منه فيصومه قال كعب
: إن الله تعالى قال لموسى : إني آليت على نفسي أنه من عطش نفسه لي أن
أرويه يوم القيامة و قال غيره : مكتوب في التوراة طوبى لمن جوع نفسه ليوم
الشبع الأكبر طوبى لمن عطش نفسه ليوم الري الأكبر قال الحسن : تقول
الحوراء لولي الله و هو متكىء معها على نهر الخمر في الجنة تعاطيه الكأس
في أنعم عيشه أتدري أي يوم زوجنيك الله إنه نظر إليك في يوم صائف بعيد ما
بين الطرفين و أنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة و قال
انظروا إلى عبدي ترك زوجته و لذته و طعامه و شرابه من أجلي رغبة فيما عندي
اشهدوا أني قد غفرت له فغفر لك يومئذ و زوجنيك لما سار عامر بن عبد قيس من
البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى فلما أكثر
عليه قال : حاجتي أن ترد على من حر البصرة لعل الصوم أن يشتد علي شيئا
فإنه يخف علي في بلادكم نزل الحجاج في بعض أسفاره بماء بين مكة و المدينة
فدعا بغدائه و رأى أعرابيا فدعاه إلى الغداء معه فقال : دعاني من هو خير
منك فأجبته قال : و من هو ؟ قال : الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت قال :
في هذا الحر الشديد ؟ قال : نعم صمت ليوم أشد منه حرا قال : فافطر و صم
غدا قال : إن ضمنت لي البقاء إلى غد قال : ليس ذلك إلي قال : فكيف تسألني
عاجلا بآجل لا تقدر عليه خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم
فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم قال : إني صائم فقال ابن عمر : في مثل
هذا اليوم الشديد حره و أنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم و أنت صائم
؟ فقال : أبادر أيامي هذه الخالية فعجب منه ابن عمر فقال له ابن عمر : هل
لك أن تبيعنا شاة من غنمك و نطعمك من لحمها ما تفطر عليه و نعطيك ثمنها
قال : إنها ليست لي إنها لمولاي قال : فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت
أكلها الذئب فمضى الراعي و هو رافع اصبعه إلى السماء و هو يقول : فأين
الله فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه فلما قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي
فاشترى منه الراعي و الغنم فأعتق الراعي و وهب له الغنم نزل روح بن زنباع
منزلا بين مكة و المدينة في حر شديد فانقض عليه راع من جبل فقال له : يا
راع هلم إلى الغداء قال : إني صائم قال : أفتصوم في هذا الحر ؟ قال :
أفأدع أيامي تذهب باطلا فقال روح : لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ جاد بها
روح بن زنباع كان ابن عمر يصوم تطوعا فيغشى عليه فلا يفطر و كان الإمام
أحمد يصوم حتى يكاد يغمى عليه فيمسح على وجهه الماء و سئل عن من يصوم
فيشتد عليه الحر قال : لا بأس أن يبل ثوبا يتبرد به و يصب عليه الماء [
كان النبي صلى الله عليه و سلم بالعرج يصب على رأسه الماء و هو صائم ] و
كان أبو الدرداء يقول : صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور و صلوا
ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور و في الصحيحين [ عن أبي الدرداء رضي
الله عنه قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض
أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر و إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة
الحر و ما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد
الله بن رواحة ] و في [ رواية أن ذلك كان في شهر رمضان لما صبر الصائمون
لله في الحر على شدة العطش و الظمأ أفرد لهم بابا من أبواب الجنة و هو باب
الريان من دخل شرب و من شرب لم يظمأ بعدها أبدا فإذا دخلوا أغلق على من
بعدهم فلا يدخل منه غيرهم ]
و قد تحدث أحيانا حوادث غير معتادة تذكر
بالنار كالصواعق و الريح الحارة المحرقة للزرع قال الله تعالى : { و يرسل
الصواعق فيصيب بها من يشاء } و قد روي أن الصواعق قطعة من نار تطير من في
الملك الذي يزجر السحاب عند اشتداد غضبه و قال الله تعالى : { فأصابها
إعصار فيه نار فاحترقت } والإعصار : الريح الشديدة العاصف التي فيها نار و
الصر : الريح الشديدة البرد و قد عذب الله تعالى قوم شعيب بالظلة و روي
أنه أصابهم حر أخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت إلى الصحراء فأظلتهم سحابة
فوجدوا لها بردا فاجتمعوا تحتها كلهم فأمطرت عليهم نارا فأحرقوا كلهم فكل
هذه العقوبات بسبب المعاصي و هي من مقدمات عقوبات جهنم و أنموذجها و مما
يدل على الجنة و النار أيضا ما يعجله الله في الدنيا لأهل طاعته و أهل
معصيته فإن الله تعالى يعجل لأوليائه وأهل طاعته من نفحات نعيم الجنة و
روحها ما يجدونه و يشهدونه بقلوبهم مما لا يحيط به عبارة و لا تحصره إشارة
حتى قال بعضهم : إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا
فيه فإنهم في عيش طيب قال أبو سليمان : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل
اللهو في لهوهم و قال بعضهم : الرضا باب الله الأعظم و جنة الدنيا و
مستراح العابدين قال الله تعالى : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو
مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } قال الحسن : نرزقه طاعة يجد لذتها في قلبه أهل
التقوى في نعيم حيث كانوا في الدنيا و البرزخ و في الآخرة
( العيش عيشهم و الملك ملكهم ... ما الناس إلا همو بانوا أو اقتربوا )
و أما أهل المعاصي و الإعراض عن الله فإن الله يعجل لهم في الدنيا من
أنموذج عقوبات جهنم ما يعرف أيضا بالتجربة و الذوق فلا تسأل عما هم فيه من
ضيق الصدر و حرجه و نكده و عما يعجل لهم من عقوبات المعاصي في الدنيا و لو
بعد حين من زمن العصيان و هذا من نفحات الجحيم المعجلة لهم ثم ينتقلون بعد
هذه الدار إلى أشد من ذلك و أضيق و لذلك يضيق على أحدهم قبره حتى تختلف
فيه أضلاعه و يفتح له باب إلى النار فيأتيه من سمومها قال الله تعالى : {
و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } و ورد في الحديث المرفوع تفسيرها
بعذاب القبر ثم بعد ذلك يصيرون إلى جهنم و ضيقها قال الله تعالى : { وإذا
ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا
واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا } و مما يدل أيضا في الدنيا على وجود النار
الحمى التي تصيب بني آدم و هي نار باطنة فمنها نفحة من نفحات سموم جهنم و
منها نفحة من نفحات زمهريرها و قد روي في حديث خرجه الإمام أحمد و ابن
ماجه : [ أنها جظ المؤمن من النار ] و المدار أن الحمى تكفر ذنوب المؤمن و
تنقيه منها كما ينقي الكير خبث الحديد و إذا طهر المؤمن من ذنوبه في
الدنيا لم يجد حر النار إذا مر عليها يوم القيامة لأن وجدان الناس لحرها
عند المرور عليها بحسب ذنوبهم فمن طهر من الذنوب و نقي منها في الدنيا جاز
على الصراط كالبرق الخاطف و الريح و لم يجد شيئا من حر النار و لم يحس بها
فتقول النار للمؤمن : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي و [ في حديث جابر
المرفوع في مسند الإمام أحمد : إنهم يدخلونها فتكون عليهم بردا و سلاما
كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار ضجيجا من بردهم ] و من أعظم ما يذكر
بنار جهنم النار التي في الدنيا قال الله تعالى : { نحن جعلناها تذكرة و
متاعا للمقوين } يعني : أن نار الدنيا جعلها الله تذكرة تذكر بنار جهنم مر
ابن مسعود بالحدادين و قد أخرجوا حديدا من النار فوقف ينظر إليه و يبكي و
روي عنه أنه مر على الذين ينفخون الكير فسقط و كان أويس يقف على الحدادين
فينظر إليهم كيف ينفخون الكير و يسمع صوت النار فيصرخ ثم يسقط و كذلك
الربيع بن خيثم و كان كثير من السلف يخرجون إلى الحدادين ينظرون إلى ما
يصنعون بالحديد فيبكون و يتعوذون بالله من النار و رأى عطاء السليمي امرأة
قد سجرت تنورها فغشي عليه قال الحسن : كان عمر ربما توقد له النار ثم يدني
يده منها ثم يقول : يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر كان الأخنف بن قيس
يجيء إلى المصباح فيضع اصبعيه فيه و يقول حس ثم يعاتب نفسه على ذنوبه أحج
بعض العباد نارا بين يديه و عاتب نفسه فلم يزل يعاتبها حتى مات نار الدنيا
جزء من سبعين جزءا من نار جهنم و غسلت بالبحر مرتين حتى أشرقت و خف حرها و
لولا ذلك ما انتفع بها أهل الدنيا و هي تدعو إلى الله أن لا يعيدها إليها
قال بعض السلف : لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لقالوا فيها ألفي
عام يعني أنهم كانوا ينامون فيها و يرونها بردا كان عمر يقول : أكثروا ذكر
النار فإن حرها شديد و إن قعرها بعيد و إن مقامعها حديد كان ابن عمر و
غيره من السلف إذا شربوا ماء باردا بكوا و ذكروا أمنية أهل النار و أنهم
يشتهون الماء البارد و قد حيل بينهم و بين ما يشتهون و يقولون لأهل الجنة
: { أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } فيقولون لهم : { إن الله
حرمهما على الكافرين } و المصيبة العظمى حين تطبق النار على أهلها و
ييأسون من الفرج و هو الفزع الأكبر الذي يأمنه أهل الجنة : { الذين سبقت
لهم منا الحسنى }
( لو أبصرت عيناك أهل الشقا ... سيقوا إلى النار و قد أحرقوا )
( شرابهم المهل في قعرها ... إذ خالفوا الرسل و ما صدقوا )
( تقول أخراهم لأولاهم ... في لجج المهل و قد أغرقوا )
( قد كنتموا خوفتمو حرها ... لكن من النيران لم تفرقوا )
( و جيء بالنيران مذمومة ... شرارها من حولها محدق )
( و قيل للنيران أن أحرقي ... و قيل للخزان أن أطبقوا )
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى