صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
الفصل الثاني : في فضل عشر ذي الحجة على غيره من أعشار الشهور
قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ ما من أيام أعظم عند الله و لا أحب إليه
العمل فيهن من هذه الأيام العشر ] و في صحيح ابن حيان [ عن جابر عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة
] و قد تقدم و رويناه من وجه آخر بزيادة و هي : [ و لا ليالي أفضل من
ليالهين قيل : يا رسول الله هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله ؟ قال :
هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله إلا من عفر وجهه تعفيرا و ما من يوم
أفضل من يوم عرفة ] خرجه الحافظ أبو موسى المديني من جهة أبي نعيم الحافظ
بالإسناد الذي خرجه به ابن حبان و خرج البزار و غيره [ من حديث جابر أيضا
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل أيام الدنيا أيم العشر قالوا :
يا رسول الله و لا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : و لا مثلهن في سبيل الله
إلا من عفر وجهه بالتراب ] و روي مرسلا و قيل : إنه أصح و قد سبق ما روي
عن ابن عمر قال : ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ليس العشر و يدل
على أن أيام العشر أفضل من أيام الجمعة الذي هو أفضل الأيام و قال سهيل بن
أبي صالح عن أبيه عن كعب قال : اختار الله الزمان و أحب الزمان إلى الله
الأشهر الحرم و أحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة و أحب ذي الحجة إلى
الله العشر الأول و رواه بعضهم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة و رفعه و لا
يصح ذلك و قال مسروق في قوله تعالى : { و ليال عشر } هي أفضل أيام السنة
خرجه عبد الرزاق و غيره و أيضا فأيام هذا العشر يشتمل على يوم عرفة و قد
روي أنه أفضل أيام الدنيا كما جاء في حديث جابر الذي ذكرناه و فيه يوم
النحر و في حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ] خرجه الإمام أحمد و أبو
دواد و غيرهما و هذا كله يدل على أن عشر ذي الحجة أفضل من غيره من الأيام
من غير استثناء هذا في أيامه فأما لياليه فمن المتأخرين من زعم أن ليالي
عشر رمضان أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر و هذا بعيد جدا و احتج
بعضهم بحديث عائشة فيمن أرسل بهديه مع غيره و أقام في بلده و كان ابن عمر
إذا ضحى يوم النحر حلق رأسه و نص أحمد على ذلك و اختلف العلماء في التعريف
بالأمصار عشية عرفة و كان الإمام أحمد لا يفعله و لا ينكر على من فعله
لأنه روي عن ابن عباس و غيره من الصحابة و أما مشاركتهم لهم في الذاكرة في
الأيام المعلومات فإنه يشرع للناس كلهم الإكثار من ذكر الله في أيام العشر
خصوصا و قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ فأكثروا فيهن من التهليل و
التكبير و التحميد ] و اختلف العلماء هل يشرع إظهار التكبير و الجهر به في
الأسواق في العشر ؟ فأنكره طائفة و استحبه أحمد و الشافعي لكن الشافعي خصه
بحال رؤية بهيمة الأنعام و أحمد يستحبه مطلقا و قد ذكر البخاري في صحيحه
عن ابن عمر و أبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران و
يكبر الناس بتكبيرهما و رواه أبو داود حدثنا سلام أبو المنذر عن حميد
الأعرج عن مجاهد قال كان أبي هريرة و ابن عمر يأتيان السوق أيام العشر
فيكبران و يكبر الناس معهما و لا يأتيان لشيء إلا لذلك و روى جعفر
الفريابي في كتاب العيدين : حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن يزيد بن
أبي زياد قال رأيت سعيد بن جبير و مجاهدا و عبد الرحمن بن أبي ليلى أو
اثنين من هؤلاء الثلاثة و ما رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر :
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر و
لله الحمد لما كان الله سبحانه و تعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى
مشاهدة بيته الحرام و ليس كل أحد قادرا على مشاهدته في كل عام فرض على
المستطيع الحج مرة واحدة في عمره و جعل موسم العشر مشتركا بين السائرين و
القاعدين فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون
أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج
( ليالي العشر أوقات الإجابة ... فبادر رغبة تلحق ثوابه )
( ألا لا وقت للعمال فيه ... ثواب الخير أقرب للإصابة )
( من أوقات الليالي العشر حقا ... فشمر واطلبن فيها الإنابة )
احذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة وروى المروذي في كتاب
الورع بإسناده عن عبد الملك بن عمير عن رجل ـ إما من الصحابة أو من
التابعين ـ : أن آتيا أتاه في منامه في العشر من ذي الحجة فقال : ما من
مسلم إلا يغفر له في هذه الأيام كل يوم خمس مرارا إلا أصحاب الشاء يقولون
: مات ما موته يعني أصحاب الشطرنج فإذا كان اللعب بالشطرنج مانعا من
المغفرة فما الظن بالإصرار على الكبائر المجمع عليها
( طاعة الله خير ما لزم العبـ ... د فكن طائعا و لا تعصينه )
( ما هلاك النفوس إلا المعاصي ... فاجتنب ما نهاك لا تقربنه )
( إن شيئا هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه )
المعاصي سبب البعد و الطرد كما أن الطاعات أسباب القرب و الود
( أيضمن لي فتى ترك المعاصي ... و أرهنه الكفالة بالخلاص )
( أطاع الله قوم فاستراحوا ... و لم يتجرعوا غصص المعاصي )
إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام و قصدوا البيت الحرام و ملؤا
الفضاء بالتلبية و التكبير و التهليل و التحميد و الإعظام لقد ساروا و
قعدنا و قربوا و بعدنا فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا
( أتراكم في النقا و المنحنى ... أهل سلع تذكرونا ذكرنا )
( انقطعنا و وصلتم فاعلموا ... و اشكروا المنعم يا أهل منى )
( قد خسرنا و ربحتم فصلوا ... بفضول الريح من قد غبنا )
( سار قلبي خلف أحمالكم ... غير أن العذر عاق البدنا )
( ما قطعتم واديا إلا وقد ... جئته أسعى بأقدام المنى )
( أنا مذ غبتم على تذكاركم ... أترى عندكمو ما عندنا )
القاعد لعذر شريك للسائر و ربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم رأى
بعضهم في المنام عشية عرفة في الموقف قائلا يقول له : أترى هذا الزحام على
هذا الموقف فإنه لم يحج منهم أحد إلا رجل تخلف عن الموقف فحج بهمته فوهب
له أهل الموقف
( يا سائرين إلى البيت العتيق ... لقد سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة فما منها عوض و لا
لها قيمة المبادرة المبادرة بالعمل و العجل العجل قبل هجوم الأجل قبل أن
يندم المفرط على ما فعل قبل أن يسأل الرجعة فيعمل صالحا فلا يجاب إلى ما
سأل قبل أن يحول الموت بين المؤمل و بلوغ الأمل قبل أن يصير المرء مرتهنا
في حفرته بما قدم من عمل
( ليس للميت في قبره ... فطر و لا أضحى و لا عشر )
( ناء عن الأهل على قربه ... كذاك من مسكنه القبر )
يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر
سنين حتى بلغ الخمسين يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين و السبعين
ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين يا من ذنوبه بعدد الشفع و
الوتر أما تستحي من الكرام الكاتبين ؟ أم أنت ممن يكذب بيوم الدين ؟ يا من
ظلمة قلبه كالليل إذا يسري أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين تعرض لنفحات
مولاك في هذا العشر فإن فيه لله نفحات يصيب بها من يشاء فمن أصابته سعد
بها آخر الدهر
المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر
في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود له : يا
أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا اليهود
نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا فقال : أي آية : قال : { اليوم أكملت لكم
دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا } فقال عمر : إني
لأعلم اليوم الذي نزلت فيه و المكان الذي نزلت فيه : نزلت و رسول الله صلى
الله عليه و سلم قائم بعرفة يوم الجمعة و خرج الترمذي عن ابن عباس نحوه و
قال فيه : نزلت في يوم عيد من يوم جمعة و يوم عرفة و العيد هو موسم الفرح
و السرور و أفراح المؤمنين و سرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا
بإكمال طاعته و حازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله و
مغفرته كما قال تعالى : { قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير
مما يجمعون } قال بعض العارفين : ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله
فالغافل يفرح بلهوه و هواه و العاقل يفرح بمولاه و أنشد سمنون في هذا
المعنى :
( و كان فؤادي خاليا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو و يمرح )
( فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح )
( رميت ببعد منك إن كنت كاذبا ... و إن كنت في الدنيا بغيرك أفراح )
( و إن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني لعيني يملح )
( فإن شئت و اصلني و إن شئت لا تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح )
لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما
فقال : [ إن الله قد أبدلكم يومين خيرا منهما يوم الفطر و الأضحى ] فأبدل
الله هذه الأمة بيومي اللعب و اللهو يومي الذكر و الشكر و المغفرة و العفو
ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد عيد يتكرر فهو يوم الجمعة و هو عيد
الأسبوع و هو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات فإن الله عز و جل فرض على
المؤمنين في كل يوم و ليلة خمس صلوات و أيام الدنيا تدور على سبعة أيام
فكلما دور أسبوع من أيام الدنيا و استكمل المسلمون صلواتهم فيه شرع لهم في
يوم استكمالهم و هو اليوم الذي كمل فيه الخلق و فيه خلق آدم و أدخل الجنة
و أخرج منها و فيه ينتهي أمد الدنيا فتزول و تقوم الساعة فالجمعة من
الإجتماع على سماع الذكر و الموعظة و صلاة الجمعة و جعل ذلك لهم عيدا و
لهذا نهى عن إفراده بالصيام و في شهود الجمعة شبه من الحج و روي : أنها حج
المساكين و قال سعيد بن المسيب : شهود الجمعة أحب إلي من حجة نافلة و
التبكير إليها يقوم مقام الهدي على قدر السبق فأولهم كالمهدي بدنة ثم بقرة
ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة
الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أن الحج المبرور يكفر ذنوب
تلك السنة إلى الحجة الأخرى و قد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام و روي
أن الله تعالى يغفر يوم الجمعة لكل مسلم و في الحديث الصحيح عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال : [ ما طلعت الشمس و لا غربت على يوم أفضل من يوم
الجمعة ] و في المسند [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في يوم الجمعة :
هو أفضل عند الله من يوم الفطر و يوم الأضحى ] فهذا عيد الأسبوع و هو
متعلق بإكمال الصلوات المكتوبة و هي أعظم أركان الإسلام و مبانيه بعد
الشهادتين
و أما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام و إنما يأتي
قال واحد منهما في العام مرة و احدة فأحدهما : عيد الفطر من صوم رمضان و
هو مترتب على إكمال صيام رمضان و هو الركن الثالث من أركان الإسلام و
مبانيه فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم و استوجبوا من الله
والمغفر و العتق من النار فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب و آخره
عتق من النار يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه فشرع الله تعالى لهم
عقب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله و ذكره و تكبيره على
ما هداهم له و شرع لهم في ذلك العيد الصلاة و الصدقة و هو يوم الجوائز
يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم و يرجعون من عيدهم بالمغفرة و العيد
الثاني : عيد النحر و هو أكبر العيدين و أفضلهما و هو مترتب على إكمال
الحج و هو الركن الرابع من أركان الإسلام و مبانيه فإذا أكمل المسلمون
حجهم غفر لهم و إنما يكمل الحج بيوم عرفة و الوقوف بعرفة فإنه ركن الحج
الأعظم كما قال صلى الله عليه و سلم : [ الحج عرفة و يوم عرفة هو يوم
العتق من النار ] فيعتق الله من النار من وقف بعرفة و من لم يقف بها من
أهل الأمصار من المسلمين فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين
في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم و من لم يشهده لا شتراكهم في العتق و
المغفرة يوم عرفة و إنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام رحمة من
الله و تخفيفا على عباده فإنه جعل الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام و
إنما هو في كل عام فرض كفاية بخلاف الصيام فإنه فريضة كل عام على كل مسلم
فإذا كمل يوم عرفة و أعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون
كلهم في العيد عقب ذلك و شرع للجميع التقرب إليه بالنسك و هو إراقة دماء
القرابين فأهل الموسم يرمون الجمرة فيشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج و
يقضون تفثهم و يوفون نذورهم و يقربون قرابينهم من الهدايا ثم يطوفون
بالبيت العتيق و أهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله و تكبيره و الصلاة له
قال مخنف بن سليم و هو معدود من الصحابة : الخروج يوم الفطر يعدل عمرة و
الخروج يوم الأضحى يعدل حجة ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم و يقربون قرابينهم
بإراقة دماء ضحاياهم فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم و الصلاة و النحر
الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة و الصدقة الذي في عيد الفطر لهذا
أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر
أن يصلي لربه و ينحر و قيل له قل : { إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله
رب العالمين } و لهذا ورد الأمر بتلاوة هذه الآية عند ذبح الأضاحي و
الأضاحي سنة إبراهيم عليه السلام و محمد صلى الله عليه و سلم فإن الله
شرعها لإبراهيم حين فدى ولده الذي أمره بذبحه بذبح عظيم و في حديث زيد بن
أرقم قيل : يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال : [ سنة إبراهيم قيل له : فما
لنا بها ؟ قال : بكل شعرة حسنة قيل : فالصوف ؟ قال : بكل شعرة من الصوف
حسنة ] خرجه ابن ماجه و غيره فهذه أعياد المسلمين في الدنيا و كلها عند
إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب و حيازتهم لما وعدهم من الأجر و الثواب مر
قوم براهب في دير فقالوا له : متى عيد أهل هذا الدير ؟ قال : يوم يغفر
لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن
تجمل باللباس و الركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق
خلق العتق و المغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد و إلا فهو
مطرود بعيد كان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات :
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف علي ألا تجود )
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد )
( فإن كنت اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود )
و أنشد غيره :
( للناس عشر وعيد ... ونا فقير وحيد )
( يا غايتي و مناي ... قد لذ لي ما تريد )
و أنشد الشبلي :
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان )
( إنما العيد أن تكون لدى الحـ ... ب كريما مقربا في أمان )
و أنشد :
( إذا ما كنت لي عيدا ... فما أصنع بالعيد )
( جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود )
و أنشد :
( قالوا غدا العيد أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حسنة برعا )
( صبر رهقرقهما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفه الأعياد و الجمعا )
( أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزوار في الثواب الذي خلعا )
( الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... و العيد ما كنت لي أمرا و مستمعا )
و أما أعياد المؤمنين في الحنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز و جل فيزورونه و
يكرمهم غاية الكرامة و يتجلى لهم و ينظرون إليه فما أعطاهم شيئا هو أحب
إليهم من ذلك و هو الزيادة التي قال الله تعالى فيها : { للذين أحسنوا
الحسنى و زيادة } ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيد ليس لي عيد سواه )
كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه
على زيارة ربهم و يتجلى لهم فيه و يوم الجمعة يدعى في الجنة : يوم المزيد
و يوم الفطر و الأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة و روي أنه يشارك
النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة فهذا
لعموم أهل الجنة فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين
بكرة و عشيا الخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعيادا فصارت أيامهم في
الآخرة كلها أعيادا قال الحسن : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد كل يوم
يقطعه المؤمن في طاعة مولاه و ذكره و شكره فهو له عيد أركان الإسلام التي
بني الإسلام عليها خمسة : الشهادتان و الصلاة و الزكاة و صيام رمضان و
الحج فأعياد عموم المسلمين في الدنيا عند إكمال دور الصلاة و إكمال الصيام
و الحج يجتمعون عند ذلك اجتماعا عاما فأما الزكاة فليس لها وقت معين ليتخذ
عيدا بل كل من ملم نصابا فحوله بحسب ملكه و أما الشهادتان فإكمالها يحصل
بتحقيقهما و القيام بحقوقها و خواص المؤمنين يجتهدون على ذلك في كل وقت
فلذلك كانت أوقاتهم كلها أعيادا لهم في الدنيا و الآخرة كما أنشد الشبلي :
( عيدي مقيم و عيد الناس منصرف ... و القلب مني عن اللذات منحرف )
( و لي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين و عين دمعها يكف )
و لما كان عيد النحر أكبر العيدين و أفضلهما و يجتمع فيه شرف المكان و
الزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله و بعده فقبله و بعده
فقبله يوم عرفة و بعده أيام التشريق و كل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم
كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يوم عرفة
و يوم النحر و أيام التشريق عيدنا أهل الإسلام و هي أيام أكل و شرب ] خرجه
أهل السنن و صححه الترمذي و لهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة لأنه
أول أعيادهم و أكبر مجامعهم و قد أفطره النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة و
الناس ينظرون إليه و روي أنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفة و روي عن سفيان بن
عيينة : أنه سئل عن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة ؟ فقال : لأنهم زوار
الله و أضيافه و لا ينبغي للكريم أن يجوع أضيافه و هذا المعنى يوجد في
العيدين و أيام التشريق أيضا فإن الناس كلهم في ضيافه الله عز و جل لا
سيما عيد النحر فإن الناس يأكلون من لحوم نسكهم أهل الموقف و غيرهم و أيام
التشريق الثلاثة هي أيام عيد أيضا و لهذا بعث النبي صلى الله عليه و سلم
من ينادي بمكة : [ أنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل فلا يصومن أحد
] و قد يجتمع في يوم واحد عيدان كما إذا اجتمع يوم الجمعة مع يوم عرفة أو
يوم النحر فيزداد ذلك اليوم حرمة و فضلا لإجتماع عيدين فيه و قد كان ذلك
اجتمع للنبي صلى الله عليه و سلم في حجته يوم عرفة فكان يوم الجمعة و فيه
نزلت هذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم
الإسلام دينا }
و إكمال الدين في ذلك اليوم حصل من وجوه : منها : أن
المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك و لا أحد منهم
هذا قول أكثر العلماء أو كثير منهم فيكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان
الإسلام كلها و منها : أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه
السلام و نفى الشرك و أهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد
قال الشعبي : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف
بعرفة حين وقف موقف إبراهيم و اضمحل الشرك و هدمت منار الجاهلية و لم يطف
بالبيت عريان و كذا قال قتادة و غيره و قد قيل : إنه لم ينزل بعدها تحليل
و لا ترحيم قاله أبو بكر بن عياش و أما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة
فلا تتم النعمة بدونها كما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ليغفر لك
الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما }
و قال تعالى في آية الوضوء : { و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم } و
من هنا استنبط محمد بن كعب القرظي بأن الوضوء يكفر الذنوب كما وردت السنة
بذلك صريحا و يشهد له أيضا : أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يدعو
و يقول : أسألك تمام النعمة فقال له : [ تمام النعمة النجاة من النار و
دخول الجنة ] فهذه الآية تشهد لما روي في يوم عرفة أنه يوم المغفرة و
العتق من النار فيوم عرفة له فضائل متعددة منها : أنه يوم إكمال الدين و
إتمام النعمة و منها : أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب و ابن
عباس فإن ابن عباس قال : نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة و يوم عرفة و روي
عن عمر أنه قال : و كلاهما بحمد الله لنا عيد خرجه ابن جرير في تفسيره و
يشهد له حديث عقبة بن عامر المتقدم لكنه عيد لأهل الموقف خاصة و يشرع
صيامه لأهل الأمصار عند جمهور العلماء و إن خالف فيه بعض السلف و منها :
أنها قد قيل : إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه و أن الوتر يوم النحر
و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث جابر خرجه الإمام أحمد
و النسائي في تفسيره و قيل : إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه فقال
تعالى : { و شاهد و مشهود } و في المسند [ عن أبي هريرة مرفوعا و موقوفا :
الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم الجمعة ] و خرجه الترمذي مرفوعا و روي ذلك
عن علي من قوله و خرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا : [
الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة ] و على هذا فإذا وقع يوم عرفة في
يوم الجمعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهد و مشهود و منها : أنه روي أنه
أفضل الأيام خرجه ابن حبان في صحيحه من [ حديث جابر عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : أفضل الأيام يوم عرفة ] و ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء
و منهم من قال : يوم النحر أفضل الأيام لحديث عبد الله بن قرط [ عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ]
خرجه الإمام أحمد و أبو دواد و النسائي و ابن حبان في صحيحه و لفظه : [
أفضل الأيام ] و منها : أنه روي عن أنس بن مالك أنه قال : كان يقال : يوم
عرفة بعشرة آلاف يوم يعني في الفضل و قد ذكرناه في فضل العشر و روي عن
عطاء قال : من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم و منها : أنه يوم الحج
الأكبر عند جماعة من السلف منهم عمر و غيره و خالفهم آخرون و قالوا : يوم
الحج الأكبر يوم النحر و روي ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم و منها :
أن صيامه كفارة سنتين و سنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
و منها : أنه يوم مغفرة الذنوب و التجاوز عنها و العتق من النار و
المباهاة بأهل الموقف كما في صحيح مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من
النار من يوم عرفة و إنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد
هؤلاء ؟ ] و في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول : انظروا إلى
عبادي أتوني شعثا غبرا ] و فيه [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : إن الله يباهي بأهل عرفات يقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا
غبرا ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و خرج فيه أيضا من حديث جابر [ عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله
تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول :
انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي و لم
يروا عذابي فلم ير أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و خرجه ابن منده في
كتاب التوحيد و لفظه : [ إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى سماء الدنيا
فيباهي بهم الملائكة فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج
عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة : يا رب فلان مرهق فيقول : قد
غفرت لهم فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و قال : إسناد حسن
متصل انتهى و رويناه من وجه آخر بزيادة فيه و هي : [ أشهدكم يا عبادي أني
قد غفرت لمحسنهم و تجاوزت عن مسيئهم ] و رويناه من رواية إسماعيل بن رافع
ـ و فيه مقال ـ [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يهبط الله
إلى السماء الدنيا عشية عرفة ثم يباهي بكم الملائكة فيقول : هؤلاء عبادي
جاؤوني شعثا من كل فج عميق يرجون رحمتي و مغفرتي فلو كانت ذنوبهم كعدد
الرمل لغفرتها أفيضوا عبادي مغفورا لكم و لمن شفعتم فيه ] و خرجه البزار
في مسنده بمعناه من حديث مجاهد [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم
و قال : لا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق ] و خرجه الطبراني و غيره من
حديث عبد الله بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم مختصرا و رويناه من
طريق الوليد بن مسلم قال : أخبرني أبو بكر بن أبي مريم [ عن الأشياخ أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يدنو إلى السماء الدنيا
عشية فيقبل على ملائكته فيقول : ألا إن لكل وفد جائزةو هؤلاء وفدي شعثا
غبرا أعطوهم ما سألوا و اخلفوا لهم ما أنفقوا حتى إذا كان عند غروب الشمس
أقبل عليهم فقال : ألا إني قد وهبت مسيئكم لمحسنكم و أعطيت محسنكم ما سأل
أفيضوا بسم الله ] و روى إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي حدثنا فرقد
قال : إن أبواب السماء تفتح كل ليلة ثلاث مرات و في ليلة الجمعة سبع مرات
و في ليلة عرفة تسع مرات و روينا من طريق نفيع أبي دواد [ عن ابن عمر
مرفوعا و موقوفا : إذا كان يوم عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال ذرة من
إيمان إلا غفر له قيل له : أللمعروف خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل للناس
عامة ] و خرج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر و لا
أدحر و لا أحقر و لا أغيظ منه يوم عرفة و ما ذاك إلا لما يرى من تنزل
الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر ]
قيل : و
ما رأى يوم بدر [ قال : رأى جبريل عليه السلام و هو يزع الملائكة ] و روى
أبو عثمان الصابوني بإسناد له عن رجل كان أسيرا ببلاد الروم فهرب من بعض
الحصون قال : فكنت أسير بالليل و أكمن بالنهار فبينا أنا ذات ليلة أمشي
بين جبال و أشجار إذا أنا بحس فراعني ذلك فنظرت فإذا راكب بعير فازددت
رعبا و ذلك لأنه لا يكون ببلاد الروم بعير فقلت : سبحان الله في بلاد
الروم راكب بعير إن هذا لعجب فلما انته إلي قلت : يا عبد الله من أنت ؟
قال : لا تسأل قلت : إني أرى عجبا ! فأخبرني ؟ فقال : لا تسأل فأبيت عليه
فقال : أنا إبليس و هذا وجهي من عرفات رافقتهم عشية اليوم اطلع عليهم
فنزلت عليهم المغفرة و وهب بعضهم لبعض فداخلني اللهم و الحزن و الكآبة و
هذا وجهي إلى قسطنطينية انفرج بما
أسمع من الشرك بالله وادعاء أن له
ولدا فقلت : أعوذ بالله منك فلما قلت : هذا الكلمات لم أر أحدا و يشهد
لهذه الحكاية حديث عباس بن مرداس الذي خرجه أحمد و ابن ماجه في دعاء النبي
صلى الله عليه و سلم لأمته عشية عرفة ثم بالمزدلفة فأجيب فضحك صلى الله
عليه و سلم و قال : [ إن إبليس حين علم أن الله قد غفر لأمتي و استجاب
دعائي أهوى يحثي التراب على رأسه و يدعو بالويل و الثبور فضحكت من الخبيث
من جزعه ] و يروى عن علي بن موفق أنه وقف بعرفة في بعض حجاته فرأى كثرة
الناس فقال : اللهم إن كنت لم تتقبل منهم أحدا فقد وهبته حجي فرأى رب
العزة في منامه و قال له : يا ابن الموفق أتسخى علي قد غفرت لأهل الموقف و
لأمثالهم و شفعت كل واحد منهم في أهل بيته و ذريته و عشيرته و أنا أهل
التقوى و أنا أهل المغفرة و يروى نحوه عن غيره أيضا من الشيوخ
فمن
طمع في العتق من النار و مغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب
التى يرجى بها العتق و المغفرة فمنها : صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم [ عن
أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام يوم عرفة أحتسب على
الله أن يكفر السنة التي قبله و التي بعده ] و منها : حفظ جوراحه عن
المحرمات في ذاك اليوم ففي مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال : يوم عرفة هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره و
لسانه غفر له ] و منها : الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص و صدق فإنها أصل
دين الإسلام الذي أكلمه الله تعالى في ذلك اليوم و أساسه و في المسند [ عن
عبد الله بن عمر قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة
: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد بيده الخير و هو
على كل شيء قدير ] و خرجه الترمذي و لفظه : [ خير الدعاء دعاء يوم عرفة و
خير ما قلت أنا و النبيون من قلبي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير ] و خرجه الطبراني من حديث علي و
ابن عمر مرفوعا أيضا و خرج الإمام أحمد من حديث الزبير بن العوام قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بعرفة يقرأ هذه الآية : { شهد الله
أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم } الآية و يقول : [ و أنا على
ذلك من الشاهدين يا رب ] و يروى من حديث عبادة قال شهدت النبي صلى الله
عليه و سلم يوم عرفة فكان أكثر قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو }
الآية ثم قال : [ أي رب و أنا أشهد ] فتحقيق كلمة التوحيد يوجب عتق الرقاب
و عتق الرقاب يوجب العتق من النار كما ثبت في الصحيح : [ أن من قالها مائة
مرة كان له عدل عشر رقاب ] و ثبت أيضا : [ أن من قالها عشر مرات كان كمن
اعتق أربعة من ولد إسماعيل ] و في سنن أبي دواد و غيره [ عن أنس عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : من قال حين يصبح أو يمسي : اللهم أني أصبحت
أشهدك و أشهد حملة عرشك و ملائكتك و جميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا
أنت و أن محمدا عبدك و رسولك أعتق الله ربعه من النار و من قالها مرتين
أعتق الله نصفه من النار و من قالها ثلاث مرات أعتق ثلاثة أرباعه و من
قالها أربع مرار أعتقه الله من النار ] و يروى من مراسيل الزهري : [ من
قال في يوم : عشرة آلاف مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعتقه الله
من النار كما أنه لو جاء بدية من قتله عشرة آلاف قبلت منه ] و منها : أن
يعتق رقبة إن أمكنه فإن من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا
منه من النار كان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة و معه مائة بدنة
مقلدة و مائة رقبة فيعتق رقيقه فيضج الناس بالبكاء و الدعاء و يقولون :
ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده و نحن عبيدك فاعتقنا و جرى للناس مرة مع
الرشيد نحو هذا و كان أبو قلابة يعتق جارية في عيد الفطر يرجو أن يعتق
بذلك من النار و منها : كثرة الدعاء بالمغفرة و العتق فإنه يرجى إجابة
الدعاء فيه روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال : ليس في الأرض يوم إلا
لله فيه عتقاء من النار و ليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة فأكثر
فيه أن تقول : اللهم أعتق رقبتي من النار و أوسع لي من الرزق الحلال و
اصرف عني فسقة الجن و الإنس فإنه عامة دعائي اليوم
و ليحذر من
الذنوب التي تمنع المغفرة فيه و العتق : فمنها : الإختيال روينا [ من حديث
جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما يري يوم أكثر عتيقا و لا
عتيقة من يوم عرفة لا يغفر الله فيه لمختال ] و خرجه البزار و الطبراني و
غيرهما و المختال هو المتعاظم في نفسه المتكبر قال الله تعالى : { و الله
لا يحب كل مختال فخور } و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا
ينظر إلى جر ثوبه خيلاء ] و منها : الإصرار على الكبائر روى جعفر السراج
بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى أنه حج سنة فرأى أمير الحاج في منامه : أن
الله قد غفر لأهل الموسم سوى رجل فسق بغلام فأمر بالنداء بذلك في الموسم و
روى ابن أبي الدنيا و غيره أن رجلا رأى في منامه أن الله قد غفر لأهل
الموقف كلهم إلا رجلا من أهل بلخ فسأل عنه حتى وقع عليه فسأله عن حاله
فذكر أنه كان مدمنا لشرب الخمر ليلة و هو سكران فعاتبته أمه و هي تسجر
تنور فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت يا من يطمع في العتق من النار ثم
يمنع نفسه الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم و الأوزار تالله نصحت نفسك و
لا وقف في طريقك غيرك توبق نفسك بالمعاصي فإذا حرمت المغفرة قلت : إني هذا
: { قل هو من عند أنفسكم }
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار )
إن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله { إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل
في افتكاكها من النار اشترى بعض السلف نفسه من الله ثلاث مرار أو أربعا
يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضة و اشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من
الله بدية ست مرات تصدق بها و اشترى حبيب نفسه من الله بأربعين ألف درهم
تصدق بها و كان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يفتك
بذلك نفسه
( بدم الحبيب يباع وصلهم ... فمن الذي يبتاع في الثمن )
من عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل ويحك قد رضينا منك في فكاك نفسك
بالندم و قنعنا منك في ثمنها بالتوبة و الحزن و في هذا الموسم قد رخص
السعر من ملك سمعه و بصره و لسانه غفر له مد إليه يد الإعتذار و قم على
بابه بالذل و الإنكسار و ارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع
و الغزار و قل : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من
الخاسرين } قال يحيى بن معاذ : العبد يوحش ما بينه و بين سيده بالمخالفات
و لا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم و أنشأ يقول :
( قرة عيني لا بد لي منك و إن ... أوحش بيني و بينك الزلل )
( قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل )
الفصل الثاني : في فضل عشر ذي الحجة على غيره من أعشار الشهور
قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ ما من أيام أعظم عند الله و لا أحب إليه
العمل فيهن من هذه الأيام العشر ] و في صحيح ابن حيان [ عن جابر عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة
] و قد تقدم و رويناه من وجه آخر بزيادة و هي : [ و لا ليالي أفضل من
ليالهين قيل : يا رسول الله هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله ؟ قال :
هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله إلا من عفر وجهه تعفيرا و ما من يوم
أفضل من يوم عرفة ] خرجه الحافظ أبو موسى المديني من جهة أبي نعيم الحافظ
بالإسناد الذي خرجه به ابن حبان و خرج البزار و غيره [ من حديث جابر أيضا
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل أيام الدنيا أيم العشر قالوا :
يا رسول الله و لا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : و لا مثلهن في سبيل الله
إلا من عفر وجهه بالتراب ] و روي مرسلا و قيل : إنه أصح و قد سبق ما روي
عن ابن عمر قال : ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ليس العشر و يدل
على أن أيام العشر أفضل من أيام الجمعة الذي هو أفضل الأيام و قال سهيل بن
أبي صالح عن أبيه عن كعب قال : اختار الله الزمان و أحب الزمان إلى الله
الأشهر الحرم و أحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة و أحب ذي الحجة إلى
الله العشر الأول و رواه بعضهم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة و رفعه و لا
يصح ذلك و قال مسروق في قوله تعالى : { و ليال عشر } هي أفضل أيام السنة
خرجه عبد الرزاق و غيره و أيضا فأيام هذا العشر يشتمل على يوم عرفة و قد
روي أنه أفضل أيام الدنيا كما جاء في حديث جابر الذي ذكرناه و فيه يوم
النحر و في حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ] خرجه الإمام أحمد و أبو
دواد و غيرهما و هذا كله يدل على أن عشر ذي الحجة أفضل من غيره من الأيام
من غير استثناء هذا في أيامه فأما لياليه فمن المتأخرين من زعم أن ليالي
عشر رمضان أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر و هذا بعيد جدا و احتج
بعضهم بحديث عائشة فيمن أرسل بهديه مع غيره و أقام في بلده و كان ابن عمر
إذا ضحى يوم النحر حلق رأسه و نص أحمد على ذلك و اختلف العلماء في التعريف
بالأمصار عشية عرفة و كان الإمام أحمد لا يفعله و لا ينكر على من فعله
لأنه روي عن ابن عباس و غيره من الصحابة و أما مشاركتهم لهم في الذاكرة في
الأيام المعلومات فإنه يشرع للناس كلهم الإكثار من ذكر الله في أيام العشر
خصوصا و قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ فأكثروا فيهن من التهليل و
التكبير و التحميد ] و اختلف العلماء هل يشرع إظهار التكبير و الجهر به في
الأسواق في العشر ؟ فأنكره طائفة و استحبه أحمد و الشافعي لكن الشافعي خصه
بحال رؤية بهيمة الأنعام و أحمد يستحبه مطلقا و قد ذكر البخاري في صحيحه
عن ابن عمر و أبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران و
يكبر الناس بتكبيرهما و رواه أبو داود حدثنا سلام أبو المنذر عن حميد
الأعرج عن مجاهد قال كان أبي هريرة و ابن عمر يأتيان السوق أيام العشر
فيكبران و يكبر الناس معهما و لا يأتيان لشيء إلا لذلك و روى جعفر
الفريابي في كتاب العيدين : حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن يزيد بن
أبي زياد قال رأيت سعيد بن جبير و مجاهدا و عبد الرحمن بن أبي ليلى أو
اثنين من هؤلاء الثلاثة و ما رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر :
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر و
لله الحمد لما كان الله سبحانه و تعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى
مشاهدة بيته الحرام و ليس كل أحد قادرا على مشاهدته في كل عام فرض على
المستطيع الحج مرة واحدة في عمره و جعل موسم العشر مشتركا بين السائرين و
القاعدين فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون
أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج
( ليالي العشر أوقات الإجابة ... فبادر رغبة تلحق ثوابه )
( ألا لا وقت للعمال فيه ... ثواب الخير أقرب للإصابة )
( من أوقات الليالي العشر حقا ... فشمر واطلبن فيها الإنابة )
احذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة وروى المروذي في كتاب
الورع بإسناده عن عبد الملك بن عمير عن رجل ـ إما من الصحابة أو من
التابعين ـ : أن آتيا أتاه في منامه في العشر من ذي الحجة فقال : ما من
مسلم إلا يغفر له في هذه الأيام كل يوم خمس مرارا إلا أصحاب الشاء يقولون
: مات ما موته يعني أصحاب الشطرنج فإذا كان اللعب بالشطرنج مانعا من
المغفرة فما الظن بالإصرار على الكبائر المجمع عليها
( طاعة الله خير ما لزم العبـ ... د فكن طائعا و لا تعصينه )
( ما هلاك النفوس إلا المعاصي ... فاجتنب ما نهاك لا تقربنه )
( إن شيئا هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه )
المعاصي سبب البعد و الطرد كما أن الطاعات أسباب القرب و الود
( أيضمن لي فتى ترك المعاصي ... و أرهنه الكفالة بالخلاص )
( أطاع الله قوم فاستراحوا ... و لم يتجرعوا غصص المعاصي )
إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام و قصدوا البيت الحرام و ملؤا
الفضاء بالتلبية و التكبير و التهليل و التحميد و الإعظام لقد ساروا و
قعدنا و قربوا و بعدنا فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا
( أتراكم في النقا و المنحنى ... أهل سلع تذكرونا ذكرنا )
( انقطعنا و وصلتم فاعلموا ... و اشكروا المنعم يا أهل منى )
( قد خسرنا و ربحتم فصلوا ... بفضول الريح من قد غبنا )
( سار قلبي خلف أحمالكم ... غير أن العذر عاق البدنا )
( ما قطعتم واديا إلا وقد ... جئته أسعى بأقدام المنى )
( أنا مذ غبتم على تذكاركم ... أترى عندكمو ما عندنا )
القاعد لعذر شريك للسائر و ربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم رأى
بعضهم في المنام عشية عرفة في الموقف قائلا يقول له : أترى هذا الزحام على
هذا الموقف فإنه لم يحج منهم أحد إلا رجل تخلف عن الموقف فحج بهمته فوهب
له أهل الموقف
( يا سائرين إلى البيت العتيق ... لقد سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة فما منها عوض و لا
لها قيمة المبادرة المبادرة بالعمل و العجل العجل قبل هجوم الأجل قبل أن
يندم المفرط على ما فعل قبل أن يسأل الرجعة فيعمل صالحا فلا يجاب إلى ما
سأل قبل أن يحول الموت بين المؤمل و بلوغ الأمل قبل أن يصير المرء مرتهنا
في حفرته بما قدم من عمل
( ليس للميت في قبره ... فطر و لا أضحى و لا عشر )
( ناء عن الأهل على قربه ... كذاك من مسكنه القبر )
يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر
سنين حتى بلغ الخمسين يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين و السبعين
ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين يا من ذنوبه بعدد الشفع و
الوتر أما تستحي من الكرام الكاتبين ؟ أم أنت ممن يكذب بيوم الدين ؟ يا من
ظلمة قلبه كالليل إذا يسري أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين تعرض لنفحات
مولاك في هذا العشر فإن فيه لله نفحات يصيب بها من يشاء فمن أصابته سعد
بها آخر الدهر
في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود له : يا
أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا اليهود
نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا فقال : أي آية : قال : { اليوم أكملت لكم
دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا } فقال عمر : إني
لأعلم اليوم الذي نزلت فيه و المكان الذي نزلت فيه : نزلت و رسول الله صلى
الله عليه و سلم قائم بعرفة يوم الجمعة و خرج الترمذي عن ابن عباس نحوه و
قال فيه : نزلت في يوم عيد من يوم جمعة و يوم عرفة و العيد هو موسم الفرح
و السرور و أفراح المؤمنين و سرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا
بإكمال طاعته و حازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله و
مغفرته كما قال تعالى : { قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير
مما يجمعون } قال بعض العارفين : ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله
فالغافل يفرح بلهوه و هواه و العاقل يفرح بمولاه و أنشد سمنون في هذا
المعنى :
( و كان فؤادي خاليا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو و يمرح )
( فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح )
( رميت ببعد منك إن كنت كاذبا ... و إن كنت في الدنيا بغيرك أفراح )
( و إن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني لعيني يملح )
( فإن شئت و اصلني و إن شئت لا تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح )
لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما
فقال : [ إن الله قد أبدلكم يومين خيرا منهما يوم الفطر و الأضحى ] فأبدل
الله هذه الأمة بيومي اللعب و اللهو يومي الذكر و الشكر و المغفرة و العفو
ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد عيد يتكرر فهو يوم الجمعة و هو عيد
الأسبوع و هو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات فإن الله عز و جل فرض على
المؤمنين في كل يوم و ليلة خمس صلوات و أيام الدنيا تدور على سبعة أيام
فكلما دور أسبوع من أيام الدنيا و استكمل المسلمون صلواتهم فيه شرع لهم في
يوم استكمالهم و هو اليوم الذي كمل فيه الخلق و فيه خلق آدم و أدخل الجنة
و أخرج منها و فيه ينتهي أمد الدنيا فتزول و تقوم الساعة فالجمعة من
الإجتماع على سماع الذكر و الموعظة و صلاة الجمعة و جعل ذلك لهم عيدا و
لهذا نهى عن إفراده بالصيام و في شهود الجمعة شبه من الحج و روي : أنها حج
المساكين و قال سعيد بن المسيب : شهود الجمعة أحب إلي من حجة نافلة و
التبكير إليها يقوم مقام الهدي على قدر السبق فأولهم كالمهدي بدنة ثم بقرة
ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة
الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أن الحج المبرور يكفر ذنوب
تلك السنة إلى الحجة الأخرى و قد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام و روي
أن الله تعالى يغفر يوم الجمعة لكل مسلم و في الحديث الصحيح عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال : [ ما طلعت الشمس و لا غربت على يوم أفضل من يوم
الجمعة ] و في المسند [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في يوم الجمعة :
هو أفضل عند الله من يوم الفطر و يوم الأضحى ] فهذا عيد الأسبوع و هو
متعلق بإكمال الصلوات المكتوبة و هي أعظم أركان الإسلام و مبانيه بعد
الشهادتين
و أما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام و إنما يأتي
قال واحد منهما في العام مرة و احدة فأحدهما : عيد الفطر من صوم رمضان و
هو مترتب على إكمال صيام رمضان و هو الركن الثالث من أركان الإسلام و
مبانيه فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم و استوجبوا من الله
والمغفر و العتق من النار فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب و آخره
عتق من النار يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه فشرع الله تعالى لهم
عقب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله و ذكره و تكبيره على
ما هداهم له و شرع لهم في ذلك العيد الصلاة و الصدقة و هو يوم الجوائز
يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم و يرجعون من عيدهم بالمغفرة و العيد
الثاني : عيد النحر و هو أكبر العيدين و أفضلهما و هو مترتب على إكمال
الحج و هو الركن الرابع من أركان الإسلام و مبانيه فإذا أكمل المسلمون
حجهم غفر لهم و إنما يكمل الحج بيوم عرفة و الوقوف بعرفة فإنه ركن الحج
الأعظم كما قال صلى الله عليه و سلم : [ الحج عرفة و يوم عرفة هو يوم
العتق من النار ] فيعتق الله من النار من وقف بعرفة و من لم يقف بها من
أهل الأمصار من المسلمين فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين
في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم و من لم يشهده لا شتراكهم في العتق و
المغفرة يوم عرفة و إنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام رحمة من
الله و تخفيفا على عباده فإنه جعل الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام و
إنما هو في كل عام فرض كفاية بخلاف الصيام فإنه فريضة كل عام على كل مسلم
فإذا كمل يوم عرفة و أعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون
كلهم في العيد عقب ذلك و شرع للجميع التقرب إليه بالنسك و هو إراقة دماء
القرابين فأهل الموسم يرمون الجمرة فيشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج و
يقضون تفثهم و يوفون نذورهم و يقربون قرابينهم من الهدايا ثم يطوفون
بالبيت العتيق و أهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله و تكبيره و الصلاة له
قال مخنف بن سليم و هو معدود من الصحابة : الخروج يوم الفطر يعدل عمرة و
الخروج يوم الأضحى يعدل حجة ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم و يقربون قرابينهم
بإراقة دماء ضحاياهم فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم و الصلاة و النحر
الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة و الصدقة الذي في عيد الفطر لهذا
أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر
أن يصلي لربه و ينحر و قيل له قل : { إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله
رب العالمين } و لهذا ورد الأمر بتلاوة هذه الآية عند ذبح الأضاحي و
الأضاحي سنة إبراهيم عليه السلام و محمد صلى الله عليه و سلم فإن الله
شرعها لإبراهيم حين فدى ولده الذي أمره بذبحه بذبح عظيم و في حديث زيد بن
أرقم قيل : يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال : [ سنة إبراهيم قيل له : فما
لنا بها ؟ قال : بكل شعرة حسنة قيل : فالصوف ؟ قال : بكل شعرة من الصوف
حسنة ] خرجه ابن ماجه و غيره فهذه أعياد المسلمين في الدنيا و كلها عند
إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب و حيازتهم لما وعدهم من الأجر و الثواب مر
قوم براهب في دير فقالوا له : متى عيد أهل هذا الدير ؟ قال : يوم يغفر
لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن
تجمل باللباس و الركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق
خلق العتق و المغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد و إلا فهو
مطرود بعيد كان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات :
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف علي ألا تجود )
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد )
( فإن كنت اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود )
و أنشد غيره :
( للناس عشر وعيد ... ونا فقير وحيد )
( يا غايتي و مناي ... قد لذ لي ما تريد )
و أنشد الشبلي :
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان )
( إنما العيد أن تكون لدى الحـ ... ب كريما مقربا في أمان )
و أنشد :
( إذا ما كنت لي عيدا ... فما أصنع بالعيد )
( جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود )
و أنشد :
( قالوا غدا العيد أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حسنة برعا )
( صبر رهقرقهما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفه الأعياد و الجمعا )
( أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزوار في الثواب الذي خلعا )
( الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... و العيد ما كنت لي أمرا و مستمعا )
و أما أعياد المؤمنين في الحنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز و جل فيزورونه و
يكرمهم غاية الكرامة و يتجلى لهم و ينظرون إليه فما أعطاهم شيئا هو أحب
إليهم من ذلك و هو الزيادة التي قال الله تعالى فيها : { للذين أحسنوا
الحسنى و زيادة } ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيد ليس لي عيد سواه )
كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه
على زيارة ربهم و يتجلى لهم فيه و يوم الجمعة يدعى في الجنة : يوم المزيد
و يوم الفطر و الأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة و روي أنه يشارك
النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة فهذا
لعموم أهل الجنة فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين
بكرة و عشيا الخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعيادا فصارت أيامهم في
الآخرة كلها أعيادا قال الحسن : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد كل يوم
يقطعه المؤمن في طاعة مولاه و ذكره و شكره فهو له عيد أركان الإسلام التي
بني الإسلام عليها خمسة : الشهادتان و الصلاة و الزكاة و صيام رمضان و
الحج فأعياد عموم المسلمين في الدنيا عند إكمال دور الصلاة و إكمال الصيام
و الحج يجتمعون عند ذلك اجتماعا عاما فأما الزكاة فليس لها وقت معين ليتخذ
عيدا بل كل من ملم نصابا فحوله بحسب ملكه و أما الشهادتان فإكمالها يحصل
بتحقيقهما و القيام بحقوقها و خواص المؤمنين يجتهدون على ذلك في كل وقت
فلذلك كانت أوقاتهم كلها أعيادا لهم في الدنيا و الآخرة كما أنشد الشبلي :
( عيدي مقيم و عيد الناس منصرف ... و القلب مني عن اللذات منحرف )
( و لي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين و عين دمعها يكف )
و لما كان عيد النحر أكبر العيدين و أفضلهما و يجتمع فيه شرف المكان و
الزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله و بعده فقبله و بعده
فقبله يوم عرفة و بعده أيام التشريق و كل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم
كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يوم عرفة
و يوم النحر و أيام التشريق عيدنا أهل الإسلام و هي أيام أكل و شرب ] خرجه
أهل السنن و صححه الترمذي و لهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة لأنه
أول أعيادهم و أكبر مجامعهم و قد أفطره النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة و
الناس ينظرون إليه و روي أنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفة و روي عن سفيان بن
عيينة : أنه سئل عن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة ؟ فقال : لأنهم زوار
الله و أضيافه و لا ينبغي للكريم أن يجوع أضيافه و هذا المعنى يوجد في
العيدين و أيام التشريق أيضا فإن الناس كلهم في ضيافه الله عز و جل لا
سيما عيد النحر فإن الناس يأكلون من لحوم نسكهم أهل الموقف و غيرهم و أيام
التشريق الثلاثة هي أيام عيد أيضا و لهذا بعث النبي صلى الله عليه و سلم
من ينادي بمكة : [ أنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل فلا يصومن أحد
] و قد يجتمع في يوم واحد عيدان كما إذا اجتمع يوم الجمعة مع يوم عرفة أو
يوم النحر فيزداد ذلك اليوم حرمة و فضلا لإجتماع عيدين فيه و قد كان ذلك
اجتمع للنبي صلى الله عليه و سلم في حجته يوم عرفة فكان يوم الجمعة و فيه
نزلت هذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم
الإسلام دينا }
و إكمال الدين في ذلك اليوم حصل من وجوه : منها : أن
المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك و لا أحد منهم
هذا قول أكثر العلماء أو كثير منهم فيكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان
الإسلام كلها و منها : أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه
السلام و نفى الشرك و أهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد
قال الشعبي : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف
بعرفة حين وقف موقف إبراهيم و اضمحل الشرك و هدمت منار الجاهلية و لم يطف
بالبيت عريان و كذا قال قتادة و غيره و قد قيل : إنه لم ينزل بعدها تحليل
و لا ترحيم قاله أبو بكر بن عياش و أما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة
فلا تتم النعمة بدونها كما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ليغفر لك
الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما }
و قال تعالى في آية الوضوء : { و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم } و
من هنا استنبط محمد بن كعب القرظي بأن الوضوء يكفر الذنوب كما وردت السنة
بذلك صريحا و يشهد له أيضا : أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يدعو
و يقول : أسألك تمام النعمة فقال له : [ تمام النعمة النجاة من النار و
دخول الجنة ] فهذه الآية تشهد لما روي في يوم عرفة أنه يوم المغفرة و
العتق من النار فيوم عرفة له فضائل متعددة منها : أنه يوم إكمال الدين و
إتمام النعمة و منها : أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب و ابن
عباس فإن ابن عباس قال : نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة و يوم عرفة و روي
عن عمر أنه قال : و كلاهما بحمد الله لنا عيد خرجه ابن جرير في تفسيره و
يشهد له حديث عقبة بن عامر المتقدم لكنه عيد لأهل الموقف خاصة و يشرع
صيامه لأهل الأمصار عند جمهور العلماء و إن خالف فيه بعض السلف و منها :
أنها قد قيل : إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه و أن الوتر يوم النحر
و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث جابر خرجه الإمام أحمد
و النسائي في تفسيره و قيل : إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه فقال
تعالى : { و شاهد و مشهود } و في المسند [ عن أبي هريرة مرفوعا و موقوفا :
الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم الجمعة ] و خرجه الترمذي مرفوعا و روي ذلك
عن علي من قوله و خرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا : [
الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة ] و على هذا فإذا وقع يوم عرفة في
يوم الجمعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهد و مشهود و منها : أنه روي أنه
أفضل الأيام خرجه ابن حبان في صحيحه من [ حديث جابر عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : أفضل الأيام يوم عرفة ] و ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء
و منهم من قال : يوم النحر أفضل الأيام لحديث عبد الله بن قرط [ عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ]
خرجه الإمام أحمد و أبو دواد و النسائي و ابن حبان في صحيحه و لفظه : [
أفضل الأيام ] و منها : أنه روي عن أنس بن مالك أنه قال : كان يقال : يوم
عرفة بعشرة آلاف يوم يعني في الفضل و قد ذكرناه في فضل العشر و روي عن
عطاء قال : من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم و منها : أنه يوم الحج
الأكبر عند جماعة من السلف منهم عمر و غيره و خالفهم آخرون و قالوا : يوم
الحج الأكبر يوم النحر و روي ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم و منها :
أن صيامه كفارة سنتين و سنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
و منها : أنه يوم مغفرة الذنوب و التجاوز عنها و العتق من النار و
المباهاة بأهل الموقف كما في صحيح مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من
النار من يوم عرفة و إنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد
هؤلاء ؟ ] و في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول : انظروا إلى
عبادي أتوني شعثا غبرا ] و فيه [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : إن الله يباهي بأهل عرفات يقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا
غبرا ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و خرج فيه أيضا من حديث جابر [ عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله
تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول :
انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي و لم
يروا عذابي فلم ير أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و خرجه ابن منده في
كتاب التوحيد و لفظه : [ إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى سماء الدنيا
فيباهي بهم الملائكة فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج
عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة : يا رب فلان مرهق فيقول : قد
غفرت لهم فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و قال : إسناد حسن
متصل انتهى و رويناه من وجه آخر بزيادة فيه و هي : [ أشهدكم يا عبادي أني
قد غفرت لمحسنهم و تجاوزت عن مسيئهم ] و رويناه من رواية إسماعيل بن رافع
ـ و فيه مقال ـ [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يهبط الله
إلى السماء الدنيا عشية عرفة ثم يباهي بكم الملائكة فيقول : هؤلاء عبادي
جاؤوني شعثا من كل فج عميق يرجون رحمتي و مغفرتي فلو كانت ذنوبهم كعدد
الرمل لغفرتها أفيضوا عبادي مغفورا لكم و لمن شفعتم فيه ] و خرجه البزار
في مسنده بمعناه من حديث مجاهد [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم
و قال : لا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق ] و خرجه الطبراني و غيره من
حديث عبد الله بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم مختصرا و رويناه من
طريق الوليد بن مسلم قال : أخبرني أبو بكر بن أبي مريم [ عن الأشياخ أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يدنو إلى السماء الدنيا
عشية فيقبل على ملائكته فيقول : ألا إن لكل وفد جائزةو هؤلاء وفدي شعثا
غبرا أعطوهم ما سألوا و اخلفوا لهم ما أنفقوا حتى إذا كان عند غروب الشمس
أقبل عليهم فقال : ألا إني قد وهبت مسيئكم لمحسنكم و أعطيت محسنكم ما سأل
أفيضوا بسم الله ] و روى إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي حدثنا فرقد
قال : إن أبواب السماء تفتح كل ليلة ثلاث مرات و في ليلة الجمعة سبع مرات
و في ليلة عرفة تسع مرات و روينا من طريق نفيع أبي دواد [ عن ابن عمر
مرفوعا و موقوفا : إذا كان يوم عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال ذرة من
إيمان إلا غفر له قيل له : أللمعروف خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل للناس
عامة ] و خرج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز [ أن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر و لا
أدحر و لا أحقر و لا أغيظ منه يوم عرفة و ما ذاك إلا لما يرى من تنزل
الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر ]
قيل : و
ما رأى يوم بدر [ قال : رأى جبريل عليه السلام و هو يزع الملائكة ] و روى
أبو عثمان الصابوني بإسناد له عن رجل كان أسيرا ببلاد الروم فهرب من بعض
الحصون قال : فكنت أسير بالليل و أكمن بالنهار فبينا أنا ذات ليلة أمشي
بين جبال و أشجار إذا أنا بحس فراعني ذلك فنظرت فإذا راكب بعير فازددت
رعبا و ذلك لأنه لا يكون ببلاد الروم بعير فقلت : سبحان الله في بلاد
الروم راكب بعير إن هذا لعجب فلما انته إلي قلت : يا عبد الله من أنت ؟
قال : لا تسأل قلت : إني أرى عجبا ! فأخبرني ؟ فقال : لا تسأل فأبيت عليه
فقال : أنا إبليس و هذا وجهي من عرفات رافقتهم عشية اليوم اطلع عليهم
فنزلت عليهم المغفرة و وهب بعضهم لبعض فداخلني اللهم و الحزن و الكآبة و
هذا وجهي إلى قسطنطينية انفرج بما
أسمع من الشرك بالله وادعاء أن له
ولدا فقلت : أعوذ بالله منك فلما قلت : هذا الكلمات لم أر أحدا و يشهد
لهذه الحكاية حديث عباس بن مرداس الذي خرجه أحمد و ابن ماجه في دعاء النبي
صلى الله عليه و سلم لأمته عشية عرفة ثم بالمزدلفة فأجيب فضحك صلى الله
عليه و سلم و قال : [ إن إبليس حين علم أن الله قد غفر لأمتي و استجاب
دعائي أهوى يحثي التراب على رأسه و يدعو بالويل و الثبور فضحكت من الخبيث
من جزعه ] و يروى عن علي بن موفق أنه وقف بعرفة في بعض حجاته فرأى كثرة
الناس فقال : اللهم إن كنت لم تتقبل منهم أحدا فقد وهبته حجي فرأى رب
العزة في منامه و قال له : يا ابن الموفق أتسخى علي قد غفرت لأهل الموقف و
لأمثالهم و شفعت كل واحد منهم في أهل بيته و ذريته و عشيرته و أنا أهل
التقوى و أنا أهل المغفرة و يروى نحوه عن غيره أيضا من الشيوخ
فمن
طمع في العتق من النار و مغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب
التى يرجى بها العتق و المغفرة فمنها : صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم [ عن
أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام يوم عرفة أحتسب على
الله أن يكفر السنة التي قبله و التي بعده ] و منها : حفظ جوراحه عن
المحرمات في ذاك اليوم ففي مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال : يوم عرفة هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره و
لسانه غفر له ] و منها : الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص و صدق فإنها أصل
دين الإسلام الذي أكلمه الله تعالى في ذلك اليوم و أساسه و في المسند [ عن
عبد الله بن عمر قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة
: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد بيده الخير و هو
على كل شيء قدير ] و خرجه الترمذي و لفظه : [ خير الدعاء دعاء يوم عرفة و
خير ما قلت أنا و النبيون من قلبي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير ] و خرجه الطبراني من حديث علي و
ابن عمر مرفوعا أيضا و خرج الإمام أحمد من حديث الزبير بن العوام قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بعرفة يقرأ هذه الآية : { شهد الله
أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم } الآية و يقول : [ و أنا على
ذلك من الشاهدين يا رب ] و يروى من حديث عبادة قال شهدت النبي صلى الله
عليه و سلم يوم عرفة فكان أكثر قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو }
الآية ثم قال : [ أي رب و أنا أشهد ] فتحقيق كلمة التوحيد يوجب عتق الرقاب
و عتق الرقاب يوجب العتق من النار كما ثبت في الصحيح : [ أن من قالها مائة
مرة كان له عدل عشر رقاب ] و ثبت أيضا : [ أن من قالها عشر مرات كان كمن
اعتق أربعة من ولد إسماعيل ] و في سنن أبي دواد و غيره [ عن أنس عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال : من قال حين يصبح أو يمسي : اللهم أني أصبحت
أشهدك و أشهد حملة عرشك و ملائكتك و جميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا
أنت و أن محمدا عبدك و رسولك أعتق الله ربعه من النار و من قالها مرتين
أعتق الله نصفه من النار و من قالها ثلاث مرات أعتق ثلاثة أرباعه و من
قالها أربع مرار أعتقه الله من النار ] و يروى من مراسيل الزهري : [ من
قال في يوم : عشرة آلاف مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعتقه الله
من النار كما أنه لو جاء بدية من قتله عشرة آلاف قبلت منه ] و منها : أن
يعتق رقبة إن أمكنه فإن من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا
منه من النار كان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة و معه مائة بدنة
مقلدة و مائة رقبة فيعتق رقيقه فيضج الناس بالبكاء و الدعاء و يقولون :
ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده و نحن عبيدك فاعتقنا و جرى للناس مرة مع
الرشيد نحو هذا و كان أبو قلابة يعتق جارية في عيد الفطر يرجو أن يعتق
بذلك من النار و منها : كثرة الدعاء بالمغفرة و العتق فإنه يرجى إجابة
الدعاء فيه روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال : ليس في الأرض يوم إلا
لله فيه عتقاء من النار و ليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة فأكثر
فيه أن تقول : اللهم أعتق رقبتي من النار و أوسع لي من الرزق الحلال و
اصرف عني فسقة الجن و الإنس فإنه عامة دعائي اليوم
و ليحذر من
الذنوب التي تمنع المغفرة فيه و العتق : فمنها : الإختيال روينا [ من حديث
جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما يري يوم أكثر عتيقا و لا
عتيقة من يوم عرفة لا يغفر الله فيه لمختال ] و خرجه البزار و الطبراني و
غيرهما و المختال هو المتعاظم في نفسه المتكبر قال الله تعالى : { و الله
لا يحب كل مختال فخور } و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا
ينظر إلى جر ثوبه خيلاء ] و منها : الإصرار على الكبائر روى جعفر السراج
بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى أنه حج سنة فرأى أمير الحاج في منامه : أن
الله قد غفر لأهل الموسم سوى رجل فسق بغلام فأمر بالنداء بذلك في الموسم و
روى ابن أبي الدنيا و غيره أن رجلا رأى في منامه أن الله قد غفر لأهل
الموقف كلهم إلا رجلا من أهل بلخ فسأل عنه حتى وقع عليه فسأله عن حاله
فذكر أنه كان مدمنا لشرب الخمر ليلة و هو سكران فعاتبته أمه و هي تسجر
تنور فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت يا من يطمع في العتق من النار ثم
يمنع نفسه الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم و الأوزار تالله نصحت نفسك و
لا وقف في طريقك غيرك توبق نفسك بالمعاصي فإذا حرمت المغفرة قلت : إني هذا
: { قل هو من عند أنفسكم }
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار )
إن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله { إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل
في افتكاكها من النار اشترى بعض السلف نفسه من الله ثلاث مرار أو أربعا
يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضة و اشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من
الله بدية ست مرات تصدق بها و اشترى حبيب نفسه من الله بأربعين ألف درهم
تصدق بها و كان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يفتك
بذلك نفسه
( بدم الحبيب يباع وصلهم ... فمن الذي يبتاع في الثمن )
من عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل ويحك قد رضينا منك في فكاك نفسك
بالندم و قنعنا منك في ثمنها بالتوبة و الحزن و في هذا الموسم قد رخص
السعر من ملك سمعه و بصره و لسانه غفر له مد إليه يد الإعتذار و قم على
بابه بالذل و الإنكسار و ارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع
و الغزار و قل : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من
الخاسرين } قال يحيى بن معاذ : العبد يوحش ما بينه و بين سيده بالمخالفات
و لا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم و أنشأ يقول :
( قرة عيني لا بد لي منك و إن ... أوحش بيني و بينك الزلل )
( قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل )
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
المجلس الثالث في ذكر فصل الشتاء
خرج الإمام أحمد [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : الشتاء ربيع المؤمن ] و خرجه البيهقي و غيره و زاد
فيه : [ طال ليله فقامه و قصر نهاره فصامه ] إنما كان الشتاء ربيع المؤمن
لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات و يسرح في ميادين العبادات و ينزه قلبه
في رياض الأعمال الميسرة فيه كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن و
تصلح أجسادها فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من
الطاعات فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة و لا كلفة
تحصل له من جوع و لا عطش فإن نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام و
في المسند و الترمذي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الصيام في
الشتاء الغنيمة الباردة ] و كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : أدلكم على
الغنيمة الباردة ؟ قالوا : بلى فيقول : الصيام في الشتاء و معنى كونها
غنيمة باردة أنها غنيمة حصلت بغير قتال و لا تعب و لا مشقة فصاحبها يحوز
هذه الغنيمة عفوا صفوا بغير كلفة و أما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن
تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده
كله من القرآن و قد أخذت نفسه حظها من النوم فيجتمع له فيه نومه المحتاج
إليه مع إدراك ورده من القرآن فيكمل له مصلحة دينه و راحة بدنه و من كلام
يحيى بن معاذ الليل طويل فلا تقصره بمنامك و الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك
بخلاف ليل الصيف فإنه لقصره و حره يغلب النوم فيه فلا تكاد تأخذ النفس
حظها بدون نومه كله فيحتاج القيام فيه إلى مجاهدة و قد لا يتمكن فيه لقصره
من الفراغ من ورده من القرآن و يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :
مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة و يطول فيه الليل للقيام و يقصر فيه النهار
للصيام و روي عنه مرفوعا و لا يصح رفعه و عن الحسن قال : نعم زمان المؤمن
الشتاء ليله طويل يقومه و نهاره قصير يصومه و عن عبيد بن عمير أنه كان إذا
جاء الشتاء قال : يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرأوا و قصر النهار
لصيامكم فصوموا قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف و لهذا بكى معاذ عند
موته و قال : إنما أبكي على ظمأ الهواجر و قيام ليل الشتاء و مزاحمة
العلماء بالركب عند حلق الذكر و قال معضد : لولا ثلاث ظمأ الهواجر و قيام
ليل الشتاء و لذاذة التهجد بكتاب الله ما بليت أن أكون يعسوبا القيام في
ليل الشتاء يشق على النفوس من وجهين : أحدهما من جهة تألم النفس بالقيام
من الفراش في شدة البرد قال داود بن رشيد : قام بعض إخواني إلى ورده
بالليل في ليلة شديدة البرد فكان عليه خلقان فضربه البرد فبكى فهتف به
هاتف أقمناك و أنمناهم و تبكي علينا خرجه أبو نعيم و الثاني : بما يحصل
بإسباغ الوضوء في شدة البرد من التألم و إسباغ الوضوء في شدة البرد من
أفضل الأعمال و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا و يرفع به
الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على الكاره و كثرة
الخطا إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط ] و في [ حديث
معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رأى ربه عز و
جل يعني في المنام فقال له : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال : في
الدرجات و الكفارات ؟ قال : و الكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات و نقل
الأقدام إلى الجمعات ] و في رواية : [ الجماعات و انتظار الصلاة بعد
الصلاة من فعل ذلك عاش بخير و مات بخير و كان من خطيئته كيوم ولدته أمه ]
و الدرجات : [ إطعام الطعام و إفشاء السلام و الصلاة بالليل و الناس نيام
] و ذكر الحديث خرجه الإمام أحمد و الترمذي و في بعض الروايات : [ إسباغ
الوضوء في السبرات ] و السبرة : شدة البرد إسباغ الوضوء في شدة البرد من
أعلى خصال الإيمان روى ابن سعد بإسناده : أن عمر رضي الله عنه وصى ابنه
عند موته فقال له : يا بني عليك بخصال الإيمان قال : و ما هي ؟ قال :
الصوم في شدة الحر أيام الصيف و قتل الأعداء بالسيف و الصبر على المصيبة و
إسباغ الوضوء في اليوم الشاتي و تعجيل الصلاة في يوم الغيم و ترك ردغة
الخبال فقال : ما ردغة الخبال ؟ قال : شرب الخمر و روى الأوزاعي عن يحيى
بن أبي كثير قال : ست من كن فيه فقد استكمل الإيمان : قتال أعداء الله
بالسيف و الصيام في الصيف و إسباغ الوضوء في اليوم الشاتي و التبكير
بالصلاة في يوم الغيم و ترك الجدال و المراء و أنت تعلم أنك صادق و الصبر
على المصيبة و قد روي هذا مرفوعا خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة
له بإسناد فيه ضعف [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : ست من كن فيه بلغ
حقيقة الإيمان : ضرب أعداء الله بالسيف و ابتدار الصلاة في اليوم الدجن و
إسباغ الوضوء عند المكاره و صيام الحر و صبر عند المصائب و ترك المراء و
أنت صادق ] و في كتاب الزهد للإمام أحمد عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال
: قال موسى عليه السلام : يا رب من هم أهلك الذين هم أهلك تظلهم في ظل
عرشك ؟ قال : هم البرية أيديهم الطاهرة قلوبهم الذين يتحابون لجلالي الذين
إذا ذكرت ذكروني و إذا ذكرت ذكرت بذكرهم الذين يسبغون الوضوء في المكاره و
ينيبون إلى ذكرى كما تنيب النسور إلى أوكارها و يكلفون بحبي كما يكلف
الصبي بحب الناس و يغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حرب و قد
روي عن داود بن رشيد قال : قام رجل ليلة باردة ليتوضأ للصلاة فأصاب الماء
باردا فبكى فنودي : أما ترضى أنا أنمناهم و أقمناك حتى تبكي علينا خرجه
ابن السمعاني معالجة الوضوء في جوف الليل للتهجد موجب لرضا الرب و مباهات
الملائكة ففي شدة البرد يتأكد ذلك ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن عقبة
بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رجلان من أمتي
يقوم أحدهما من الليل فيعالج نفسه إلى الطهور و عليه عقد فيتوضأ فإذا وضأ
يديه انحلت عقدة و إذا وضأ وجهه انحلت عقدة و إذا مسح رأسه انحلت عقدة و
إذا وضأ رجليه انحلت عقدة فيقول الرب عز و جل للذين وراء الحجاب : انظروا
إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا فهو له ] و في حديث عطية [ عن
أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر :
رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور ثم صلى و رجل نام و هو ساجد و رجل في
كتيبة منهزمة على فرس جواد لو شاء أن يذهب لذهب ] قال أبو سليمان الداراني
: كنت ليلة باردة في المحراب فأقلتني البرد فخبأت إحدى يدي من البرد و
بقيت الأخرى ممدودة فغلبتني عيني فهتف بي هاتف : يا أبا سليمان قد وضعنا
في هذه ما أصابها و لو كانت الأخرى لوضعنا فيها قال : فآليت أن لا أعود
إلا و يداي خارجتان حرا كان أو بردا قال مالك رحمه الله : كان صفوان بن
سليم يصلي يعني بالليل في الشتاء في السطح و في الصيف في بطن البيت يتيقظ
بالحر و البرد حتى يصبح ثم يقول : هذا الجهد من صفوان و أنت أعلم و إنه
لترم رجلاه حتى يعود مثل السقط من قيام الليل ثم يظهر فيها عروق خضر و كان
صفوان و غيره من العباد يصلون في الشتاء بالليل في ثوب واحد ليمنعهم البرد
من النوم و منهم من كان إذا نعس ألقى نفسه في الماء و يقول : هذا أهون من
صديد جهنم كان عطاء الخرساني ينادي أصحابه بالليل يا فلان و يا فلان و يا
فلان قوموا فتوضئوا و صلوا فقيام هذا الليل و صيام هذا النهار أهون من شرب
الصديد و مقطعات الحديد غدا في النار الوحا الوحا النجا النجا كان قوم من
العباد يبيتون في مسجد و كانوا يتهجدون في الليل فاستيقظ واحد منهم ليلة
فوجد إخوانه نياما فسمع هاتفا يهتف من جانب المسجد :
( أيا عجبا للناس من قرت عيونهم ... مطاعم غمض بعدها الموت منتصب )
( و طول قيام الليل أيسر مؤنة ... و أهون من نار تفور و تلتهب )
وفي الحديث الصحيح [ أن ابن عمر رأى في منامه كأن آتيا فانطلق به إلى
النار حتى رآها و رأى فيها رجالا يعرفهم معلقين بالسلاسل فأتاه ملك فقال
له : لن تراع لست من أهلها فقص ذلك على أخته حفصة فقصته حفصة على رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال : نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل
] فكان ابن عمر لا ينام من الليل إلا قليلا قال الحسن : أفضل العبادة
الصلاة في جوف الليل و قال : هو أقرب ما يتقرب به إلى الله عز و جل و قال
: ما وجدت في العبادة أشد منها و رؤي سلمة بن كهيل في المنام فقال : وجدت
أفضل الأعمال قيام الليل ما عندهم أشرف منه و رأى بعض السلف خياما ضربت
فسأل لمن هي فقيل للمتهجدين بالقرآن فكان بعد ذلك لا ينام
( فما لي بعيد الدار لم أقرب الحمى ... و قد نصبت مسافرين خيام )
( علامة طردي طول ليلي نائم ... و غيري يرى أن المنام حرام )
و من الصالحين من كان يلطف به في الحر و البرد كما دعا النبي صلى الله
عليه و سلم لعلي :
[ أن يذهب الله عنه الحر و البرد ] فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف و في
الصيف ثياب الشتاء و لا يجد حرا و لا بردا كان بعض التابعين يشتد عليه
الطهور في الشتاء فدعا الله عز و جل فكان يؤتى بالماء في الشتاء و له بخار
من حره رأى أبو سليمان في طريق الحج في شدة البرد شيخا عليه خلقان و هو
يرشح عرقا فعجب منه و سأله عن حاله فقال : إنما الحر و البرد خلقان لله عز
و جل فإن أمرهما أن يغشياني أصاباني و إن أمرهما أن يتركاني تركاني و قال
: أنا في هذه البرية من ثلاثين سنة يلبسني في البرد فيحا من محبته و
يلبسني في الصيف بردا من محبته و قيل لآخر و عليه خرقتان في يوم برد شديد
: لو استترت في موضع يكنك من البرد فأنشد :
( و محسن ظني أنني في فنائه ... و هل أحد في كنه يجد البردا )
و أما من يجد البرد و هم عامة الخلق فإنه يشرع لهم دفع أذاه بما يدفعه
لباس و غيره
و قد امتن الله على عباده بأن خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام و أوبارها و
أشعارها ما فيه دفء لهم قال الله تعالى : { و الأنعام خلقها لكم فيها دفء
و منافع و منها تأكلون } و قال الله تعالى : { و من أصوافها و أوبارها و
أشعارها أثاثا و متاعا إلى حين } و روى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن
سليم بن عامر قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء
تعاهدهم و كتب لهم بالوصية إن الشتاء قد حضر و هو عدو فتأهبوا له أهبته من
الصوف و الخفاف و الجوارب و اتخذوا الصوف شعارا و دثارا فإن البرد عدو
سريع دخوله بعيد خروجه و إنما كان يكتب عمر إلى أهل الشام لما فتحت في
زمنه فكان يخشى على من بها من الصحابة و غيرهم ممن لم يكن له عهد بالبرد
أن يتأذى ببرد الشام و ذلك من تمام نصيحته و حسن نظره و شفقته و حياطته
لرعيته رضي الله عنه و روي عن كعب قال : أوحى الله تعالى إلى داود عليه
السلام أن تأهب لعدو قد أظلك قال : يا رب من عدوي و ليس بحضرتي عدو ؟ قال
: بلى الشتاء و ليس المأمور به أن يتقي البرد حتى لا يصيبه منه شيء
بالكلية فإن ذلك يضر أيضا و قد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر و البرد
بالكلية حتى لا يحس بهما بدنه فتلف باطنه و تعجل موته فإن الله بحكمته جعل
الحر و البرد في الدنيا لمصالح عباده فالحر لتحلل الأخلاط و البرد لجمودها
فمتى لم يصب الأبدان شيء من الحر و البرد تعجل فسادها و لكن المأمور به
اتقاء ما يؤذي البدن من الحر المؤذي و البرد المؤذي المعدودان من جملة
أعداء ابن آدم قيل لأبي حازم الزاهد : إنك لتشدد يعني في العبادة ؟ فقال :
و كيف لا أشدد و قد ترصد لي أربعة عشر عدوا قيل له : لك خاصة ؟ قال بل
لجميع من يعقل قيل له : و ما هذه الأعداء قال : أما أربعة : فمؤمن يحسدني
و منافق يبغضني و كافر يقاتلني و شيطان يغويني و يضلني و أما العشرة :
فالجوع و العطش و الحر والبرد و العري و المرض و الفاقة و الهرم و الموت و
النار و لا أطيقهن إلا بسلاح تام و لا أجد لهن سلاحا أفضل من التقوى فعد
الحر و لبرد من جملة أعدائه و قال الأصمعي : كانت العرب تسمي الشتاء :
الفاضح فقيل لامرأة منهم أيما أشد عليكم القيظ أم القر ؟ قالت : سبحان
الله من جعل البؤس كالأذى فجعلت الشتاء بؤسا و القيظ أذى قال بعض السلف :
إن الله وصف الجنة بصفة الصيف لا بصفة الشتاء فقال : { في سدر مخضود * و
طلح منضود * و ظل ممدود * و ماء مسكوب * و فاكهة كثيرة } و قد قال الله
تعالى في صفة أهل الجنة : { متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و
لا زمهريرا } فنفى عنهم شدة الحر و البرد قال قتادة : علم الله أن شدة
الحر تؤذي و شدة البرد تؤذي فوقاهم أذاهما جميعا قال أبو عمرو بن العلاء :
إني لأبغض الشتاء لنقص الفروض و ذهاب الحقوق و زيادة الكلفة على الفقراء و
قد روي في حديث مرفوع : [ إن الملائكة تفرح بذهاب الشتاء ] لما يدخل فيه
على فقراء المؤمنين من الشدة و لكن لا يصح إسناده و روي أيضا مرفوعا : [
خير صيفكم أشده حرا و خير شتائكم أشده بردا و إن الملائكة لتبكي في الشتاء
رحمة لبني آدم ] و إسناده أيضا باطل و قال بعض السلف : البرد عدو الدين
يشير إلى أنه يفتر عن كثير من الأعمال و يثبط عنها فتكسل النفوس بذلك و
قال بعضهم : خلقت القلوب من طين فهي تلين في الشتاء كما يلين الطين فيه
قال الحسن : الشتاء ذكر فيه اللقاح و الصيف انثى فيه النتاج يشير إلى أن
الصيف تنتج فيه المواشي و الشجر و الصيف عند العرب هو الربيع و أما الذي
تسميه الناس : الصيف فالعرب يسمونه القيظ ففي الشتاء تفور الحرارة إلى
باطن الشجر فتنعقد مواد الثمر فتظهر في الربيع مباديها فتزهر الشجر ثم
تورق ثم إذا ظهرت الثمار قوي حر الشمس لإنضاجها الإيثار في الشتاء للفقراء
بما يدفع عنهم البرد له فضل عظيم خرج صفوان بن سليم في ليلة باردة
بالمدينة من المسجد فرأى رجلا عاريا فنزع ثوبه و كساه إياه فرأى بعض أهل
الشام في منامه أن صفوان بن سليم دخل الجنة بقميص كساه فقدم المدينة فقال
: دلوني على صفوان فأتاه فقص عليه ما رأى رأى مسعر أعرابيا يتشرق في الشمس
و هو يقول :
( جاء الشتاء و ليس عندي درهم ... و لقد يخص بمثل ذاك المسلم )
( قد قطع الناس الجباب و غيرها ... و كأنني بفناء مكة محرم )
فنزع مسعر جبته فألبسه إياها رفع إلى بعض الوزراء الصالحين أن امرأة معها
أربعة أطفال أيتام و هم عراة جياع فأمر رجلا أن يمضي إليهم و حمل معه ما
يصلحهم من كسوة و طعام ثم نزع ثيابه و حلف : لا لبستها و لا دفئت حتى تعود
و تخبرني أنك كسوتهم و أشبعتهم فمضى و عاد فأخبره : أنهم اكتسوا و شبعوا و
هو يرعد من البرد فلبس حينئذ ثيابه خرج الترمذي [ من حديث أبي سعيد مرفوعا
: من أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة و من سقاه
على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم و من كساه على عري كساه الله من خضر
الجنة ] و روى ابن أبي الدنيا بإسناده [ عن ابن مسعود قال : يحشر الناس
يوم القيامة أعرى ما كانوا قط و أجوع ما كانوا قط و أظمأ ما كانوا قط فمن
كسا لله عز و جل كساه الله و من أطعم لله أطعمه الله و من سقا لله سقاه
الله و من عفا لله أعفاه الله ]
و من فضائل الشتاء : أنه يذكر
بزمهرير جهنم و يوجب الإستعاذة منها و في [ حديث أبي هريرة و أبي سعيد عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد :
لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم : اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال
الله تعالى لجهنم : إن عبدا من عبادي استجار بي من زمهريرك و إني أشهدك
أني قد أجرته قالوا ما زمهرير جهنم قال : بيت يلقى فيه الكفر فيتميز من
شدة البرد ] قام زبيد اليامي ذات ليلة للتهجد فعمد إلى مطهرة له كان يتوضأ
منها فغمس يده في المطهرة فوجد الماء باردا شديدا كاد أن يجمد من شدة برده
فذكر الزمهرير و يده في المطهرة فلم يخرجها حتى أصبح فجاءته جاريته و هو
على تلك الحال فقالت : ما شأنك يا سيدي لم لا تصلي الليلة كما كنت تصلي و
أنت قاعد هنا على هذه الحالة ؟ فقال : ويحك إني أدخلت يدي في هذه المطهرة
فاشتد علي برد الماء فذكرت به الزمهرير فوالله ما شعرت بشدة برده حتى وقفت
علي فانطوي لا تحدثي بهذا أحدا ما دمت حيا فما علم بذلك أحد حتى مات رحمه
الله في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن لجهنم نفسين
في الشتاء و نفسا في الصيف فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها و أشد ما
تجدون من الحر من سمومها ] و روي عن ابن عباس قال : يستغيث أهل النار من
الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر و عن مجاهد قال :
يهربون إلى الزمهرير فإذا وقعوا فيه حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض و عن
كعب قال : إن في جهنم بردا هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم
و عن عبد الملك بن عمير قال بلغني : أن أهل النار سألوا خازنها أن يخرجهم
إلى جانبها فأخرجوا فقتلهم البرد و الزمهرير حتى رجعوا إليها فدخلوها مما
وجدوه من البرد و قد قال الله عز و جل : { لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا
* إلا حميما و غساقا * جزاء وفاقا } و قال الله تعالى : { هذا فليذوقوه
حميم و غساق } قال ابن عباس : الغساق : الزمهرير البارد الذي يحرق من برده
و قال مجاهد : هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده و قيل : إن الغساق :
البارد المنتن أجارنا الله تعالى من جهنم بفضله و كرمه يا من تتلى عليه
أوصاف جهنم و يشاهد تنفسها كل عام حتى يحس به و يتألم و هو مصر على ما
يقتضي دخولها مع أنه يعلم ستعلم إذا جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام من يندم
ألك صبر على سعيرها و زمهريرها ؟ قل و تكلم ما كان صلاحك يرجى و الله أعلم
( كم يكون الشتاء ثم المصيف ... و ربيع يمضي و يأتي الخريف )
( و ارتحال من الحرور إلى البرد ... و سيف الردى عليك منيف )
( يا قليل المقام في هذه الدنيا ... إلى كم يغرك التسويف )
( يا طالب الزائل حتى متى ... قلبك بالزائل مشغوف )
( عجبا لامرىء يذل لذي الدنـ ... يا و يكفيه كل يوم رغيف )
خرج الإمام أحمد [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : الشتاء ربيع المؤمن ] و خرجه البيهقي و غيره و زاد
فيه : [ طال ليله فقامه و قصر نهاره فصامه ] إنما كان الشتاء ربيع المؤمن
لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات و يسرح في ميادين العبادات و ينزه قلبه
في رياض الأعمال الميسرة فيه كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن و
تصلح أجسادها فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من
الطاعات فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة و لا كلفة
تحصل له من جوع و لا عطش فإن نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام و
في المسند و الترمذي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الصيام في
الشتاء الغنيمة الباردة ] و كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : أدلكم على
الغنيمة الباردة ؟ قالوا : بلى فيقول : الصيام في الشتاء و معنى كونها
غنيمة باردة أنها غنيمة حصلت بغير قتال و لا تعب و لا مشقة فصاحبها يحوز
هذه الغنيمة عفوا صفوا بغير كلفة و أما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن
تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده
كله من القرآن و قد أخذت نفسه حظها من النوم فيجتمع له فيه نومه المحتاج
إليه مع إدراك ورده من القرآن فيكمل له مصلحة دينه و راحة بدنه و من كلام
يحيى بن معاذ الليل طويل فلا تقصره بمنامك و الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك
بخلاف ليل الصيف فإنه لقصره و حره يغلب النوم فيه فلا تكاد تأخذ النفس
حظها بدون نومه كله فيحتاج القيام فيه إلى مجاهدة و قد لا يتمكن فيه لقصره
من الفراغ من ورده من القرآن و يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :
مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة و يطول فيه الليل للقيام و يقصر فيه النهار
للصيام و روي عنه مرفوعا و لا يصح رفعه و عن الحسن قال : نعم زمان المؤمن
الشتاء ليله طويل يقومه و نهاره قصير يصومه و عن عبيد بن عمير أنه كان إذا
جاء الشتاء قال : يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرأوا و قصر النهار
لصيامكم فصوموا قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف و لهذا بكى معاذ عند
موته و قال : إنما أبكي على ظمأ الهواجر و قيام ليل الشتاء و مزاحمة
العلماء بالركب عند حلق الذكر و قال معضد : لولا ثلاث ظمأ الهواجر و قيام
ليل الشتاء و لذاذة التهجد بكتاب الله ما بليت أن أكون يعسوبا القيام في
ليل الشتاء يشق على النفوس من وجهين : أحدهما من جهة تألم النفس بالقيام
من الفراش في شدة البرد قال داود بن رشيد : قام بعض إخواني إلى ورده
بالليل في ليلة شديدة البرد فكان عليه خلقان فضربه البرد فبكى فهتف به
هاتف أقمناك و أنمناهم و تبكي علينا خرجه أبو نعيم و الثاني : بما يحصل
بإسباغ الوضوء في شدة البرد من التألم و إسباغ الوضوء في شدة البرد من
أفضل الأعمال و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا و يرفع به
الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على الكاره و كثرة
الخطا إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط ] و في [ حديث
معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رأى ربه عز و
جل يعني في المنام فقال له : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال : في
الدرجات و الكفارات ؟ قال : و الكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات و نقل
الأقدام إلى الجمعات ] و في رواية : [ الجماعات و انتظار الصلاة بعد
الصلاة من فعل ذلك عاش بخير و مات بخير و كان من خطيئته كيوم ولدته أمه ]
و الدرجات : [ إطعام الطعام و إفشاء السلام و الصلاة بالليل و الناس نيام
] و ذكر الحديث خرجه الإمام أحمد و الترمذي و في بعض الروايات : [ إسباغ
الوضوء في السبرات ] و السبرة : شدة البرد إسباغ الوضوء في شدة البرد من
أعلى خصال الإيمان روى ابن سعد بإسناده : أن عمر رضي الله عنه وصى ابنه
عند موته فقال له : يا بني عليك بخصال الإيمان قال : و ما هي ؟ قال :
الصوم في شدة الحر أيام الصيف و قتل الأعداء بالسيف و الصبر على المصيبة و
إسباغ الوضوء في اليوم الشاتي و تعجيل الصلاة في يوم الغيم و ترك ردغة
الخبال فقال : ما ردغة الخبال ؟ قال : شرب الخمر و روى الأوزاعي عن يحيى
بن أبي كثير قال : ست من كن فيه فقد استكمل الإيمان : قتال أعداء الله
بالسيف و الصيام في الصيف و إسباغ الوضوء في اليوم الشاتي و التبكير
بالصلاة في يوم الغيم و ترك الجدال و المراء و أنت تعلم أنك صادق و الصبر
على المصيبة و قد روي هذا مرفوعا خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة
له بإسناد فيه ضعف [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : ست من كن فيه بلغ
حقيقة الإيمان : ضرب أعداء الله بالسيف و ابتدار الصلاة في اليوم الدجن و
إسباغ الوضوء عند المكاره و صيام الحر و صبر عند المصائب و ترك المراء و
أنت صادق ] و في كتاب الزهد للإمام أحمد عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال
: قال موسى عليه السلام : يا رب من هم أهلك الذين هم أهلك تظلهم في ظل
عرشك ؟ قال : هم البرية أيديهم الطاهرة قلوبهم الذين يتحابون لجلالي الذين
إذا ذكرت ذكروني و إذا ذكرت ذكرت بذكرهم الذين يسبغون الوضوء في المكاره و
ينيبون إلى ذكرى كما تنيب النسور إلى أوكارها و يكلفون بحبي كما يكلف
الصبي بحب الناس و يغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حرب و قد
روي عن داود بن رشيد قال : قام رجل ليلة باردة ليتوضأ للصلاة فأصاب الماء
باردا فبكى فنودي : أما ترضى أنا أنمناهم و أقمناك حتى تبكي علينا خرجه
ابن السمعاني معالجة الوضوء في جوف الليل للتهجد موجب لرضا الرب و مباهات
الملائكة ففي شدة البرد يتأكد ذلك ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن عقبة
بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رجلان من أمتي
يقوم أحدهما من الليل فيعالج نفسه إلى الطهور و عليه عقد فيتوضأ فإذا وضأ
يديه انحلت عقدة و إذا وضأ وجهه انحلت عقدة و إذا مسح رأسه انحلت عقدة و
إذا وضأ رجليه انحلت عقدة فيقول الرب عز و جل للذين وراء الحجاب : انظروا
إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا فهو له ] و في حديث عطية [ عن
أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر :
رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور ثم صلى و رجل نام و هو ساجد و رجل في
كتيبة منهزمة على فرس جواد لو شاء أن يذهب لذهب ] قال أبو سليمان الداراني
: كنت ليلة باردة في المحراب فأقلتني البرد فخبأت إحدى يدي من البرد و
بقيت الأخرى ممدودة فغلبتني عيني فهتف بي هاتف : يا أبا سليمان قد وضعنا
في هذه ما أصابها و لو كانت الأخرى لوضعنا فيها قال : فآليت أن لا أعود
إلا و يداي خارجتان حرا كان أو بردا قال مالك رحمه الله : كان صفوان بن
سليم يصلي يعني بالليل في الشتاء في السطح و في الصيف في بطن البيت يتيقظ
بالحر و البرد حتى يصبح ثم يقول : هذا الجهد من صفوان و أنت أعلم و إنه
لترم رجلاه حتى يعود مثل السقط من قيام الليل ثم يظهر فيها عروق خضر و كان
صفوان و غيره من العباد يصلون في الشتاء بالليل في ثوب واحد ليمنعهم البرد
من النوم و منهم من كان إذا نعس ألقى نفسه في الماء و يقول : هذا أهون من
صديد جهنم كان عطاء الخرساني ينادي أصحابه بالليل يا فلان و يا فلان و يا
فلان قوموا فتوضئوا و صلوا فقيام هذا الليل و صيام هذا النهار أهون من شرب
الصديد و مقطعات الحديد غدا في النار الوحا الوحا النجا النجا كان قوم من
العباد يبيتون في مسجد و كانوا يتهجدون في الليل فاستيقظ واحد منهم ليلة
فوجد إخوانه نياما فسمع هاتفا يهتف من جانب المسجد :
( أيا عجبا للناس من قرت عيونهم ... مطاعم غمض بعدها الموت منتصب )
( و طول قيام الليل أيسر مؤنة ... و أهون من نار تفور و تلتهب )
وفي الحديث الصحيح [ أن ابن عمر رأى في منامه كأن آتيا فانطلق به إلى
النار حتى رآها و رأى فيها رجالا يعرفهم معلقين بالسلاسل فأتاه ملك فقال
له : لن تراع لست من أهلها فقص ذلك على أخته حفصة فقصته حفصة على رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال : نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل
] فكان ابن عمر لا ينام من الليل إلا قليلا قال الحسن : أفضل العبادة
الصلاة في جوف الليل و قال : هو أقرب ما يتقرب به إلى الله عز و جل و قال
: ما وجدت في العبادة أشد منها و رؤي سلمة بن كهيل في المنام فقال : وجدت
أفضل الأعمال قيام الليل ما عندهم أشرف منه و رأى بعض السلف خياما ضربت
فسأل لمن هي فقيل للمتهجدين بالقرآن فكان بعد ذلك لا ينام
( فما لي بعيد الدار لم أقرب الحمى ... و قد نصبت مسافرين خيام )
( علامة طردي طول ليلي نائم ... و غيري يرى أن المنام حرام )
و من الصالحين من كان يلطف به في الحر و البرد كما دعا النبي صلى الله
عليه و سلم لعلي :
[ أن يذهب الله عنه الحر و البرد ] فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف و في
الصيف ثياب الشتاء و لا يجد حرا و لا بردا كان بعض التابعين يشتد عليه
الطهور في الشتاء فدعا الله عز و جل فكان يؤتى بالماء في الشتاء و له بخار
من حره رأى أبو سليمان في طريق الحج في شدة البرد شيخا عليه خلقان و هو
يرشح عرقا فعجب منه و سأله عن حاله فقال : إنما الحر و البرد خلقان لله عز
و جل فإن أمرهما أن يغشياني أصاباني و إن أمرهما أن يتركاني تركاني و قال
: أنا في هذه البرية من ثلاثين سنة يلبسني في البرد فيحا من محبته و
يلبسني في الصيف بردا من محبته و قيل لآخر و عليه خرقتان في يوم برد شديد
: لو استترت في موضع يكنك من البرد فأنشد :
( و محسن ظني أنني في فنائه ... و هل أحد في كنه يجد البردا )
و أما من يجد البرد و هم عامة الخلق فإنه يشرع لهم دفع أذاه بما يدفعه
لباس و غيره
و قد امتن الله على عباده بأن خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام و أوبارها و
أشعارها ما فيه دفء لهم قال الله تعالى : { و الأنعام خلقها لكم فيها دفء
و منافع و منها تأكلون } و قال الله تعالى : { و من أصوافها و أوبارها و
أشعارها أثاثا و متاعا إلى حين } و روى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن
سليم بن عامر قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء
تعاهدهم و كتب لهم بالوصية إن الشتاء قد حضر و هو عدو فتأهبوا له أهبته من
الصوف و الخفاف و الجوارب و اتخذوا الصوف شعارا و دثارا فإن البرد عدو
سريع دخوله بعيد خروجه و إنما كان يكتب عمر إلى أهل الشام لما فتحت في
زمنه فكان يخشى على من بها من الصحابة و غيرهم ممن لم يكن له عهد بالبرد
أن يتأذى ببرد الشام و ذلك من تمام نصيحته و حسن نظره و شفقته و حياطته
لرعيته رضي الله عنه و روي عن كعب قال : أوحى الله تعالى إلى داود عليه
السلام أن تأهب لعدو قد أظلك قال : يا رب من عدوي و ليس بحضرتي عدو ؟ قال
: بلى الشتاء و ليس المأمور به أن يتقي البرد حتى لا يصيبه منه شيء
بالكلية فإن ذلك يضر أيضا و قد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر و البرد
بالكلية حتى لا يحس بهما بدنه فتلف باطنه و تعجل موته فإن الله بحكمته جعل
الحر و البرد في الدنيا لمصالح عباده فالحر لتحلل الأخلاط و البرد لجمودها
فمتى لم يصب الأبدان شيء من الحر و البرد تعجل فسادها و لكن المأمور به
اتقاء ما يؤذي البدن من الحر المؤذي و البرد المؤذي المعدودان من جملة
أعداء ابن آدم قيل لأبي حازم الزاهد : إنك لتشدد يعني في العبادة ؟ فقال :
و كيف لا أشدد و قد ترصد لي أربعة عشر عدوا قيل له : لك خاصة ؟ قال بل
لجميع من يعقل قيل له : و ما هذه الأعداء قال : أما أربعة : فمؤمن يحسدني
و منافق يبغضني و كافر يقاتلني و شيطان يغويني و يضلني و أما العشرة :
فالجوع و العطش و الحر والبرد و العري و المرض و الفاقة و الهرم و الموت و
النار و لا أطيقهن إلا بسلاح تام و لا أجد لهن سلاحا أفضل من التقوى فعد
الحر و لبرد من جملة أعدائه و قال الأصمعي : كانت العرب تسمي الشتاء :
الفاضح فقيل لامرأة منهم أيما أشد عليكم القيظ أم القر ؟ قالت : سبحان
الله من جعل البؤس كالأذى فجعلت الشتاء بؤسا و القيظ أذى قال بعض السلف :
إن الله وصف الجنة بصفة الصيف لا بصفة الشتاء فقال : { في سدر مخضود * و
طلح منضود * و ظل ممدود * و ماء مسكوب * و فاكهة كثيرة } و قد قال الله
تعالى في صفة أهل الجنة : { متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و
لا زمهريرا } فنفى عنهم شدة الحر و البرد قال قتادة : علم الله أن شدة
الحر تؤذي و شدة البرد تؤذي فوقاهم أذاهما جميعا قال أبو عمرو بن العلاء :
إني لأبغض الشتاء لنقص الفروض و ذهاب الحقوق و زيادة الكلفة على الفقراء و
قد روي في حديث مرفوع : [ إن الملائكة تفرح بذهاب الشتاء ] لما يدخل فيه
على فقراء المؤمنين من الشدة و لكن لا يصح إسناده و روي أيضا مرفوعا : [
خير صيفكم أشده حرا و خير شتائكم أشده بردا و إن الملائكة لتبكي في الشتاء
رحمة لبني آدم ] و إسناده أيضا باطل و قال بعض السلف : البرد عدو الدين
يشير إلى أنه يفتر عن كثير من الأعمال و يثبط عنها فتكسل النفوس بذلك و
قال بعضهم : خلقت القلوب من طين فهي تلين في الشتاء كما يلين الطين فيه
قال الحسن : الشتاء ذكر فيه اللقاح و الصيف انثى فيه النتاج يشير إلى أن
الصيف تنتج فيه المواشي و الشجر و الصيف عند العرب هو الربيع و أما الذي
تسميه الناس : الصيف فالعرب يسمونه القيظ ففي الشتاء تفور الحرارة إلى
باطن الشجر فتنعقد مواد الثمر فتظهر في الربيع مباديها فتزهر الشجر ثم
تورق ثم إذا ظهرت الثمار قوي حر الشمس لإنضاجها الإيثار في الشتاء للفقراء
بما يدفع عنهم البرد له فضل عظيم خرج صفوان بن سليم في ليلة باردة
بالمدينة من المسجد فرأى رجلا عاريا فنزع ثوبه و كساه إياه فرأى بعض أهل
الشام في منامه أن صفوان بن سليم دخل الجنة بقميص كساه فقدم المدينة فقال
: دلوني على صفوان فأتاه فقص عليه ما رأى رأى مسعر أعرابيا يتشرق في الشمس
و هو يقول :
( جاء الشتاء و ليس عندي درهم ... و لقد يخص بمثل ذاك المسلم )
( قد قطع الناس الجباب و غيرها ... و كأنني بفناء مكة محرم )
فنزع مسعر جبته فألبسه إياها رفع إلى بعض الوزراء الصالحين أن امرأة معها
أربعة أطفال أيتام و هم عراة جياع فأمر رجلا أن يمضي إليهم و حمل معه ما
يصلحهم من كسوة و طعام ثم نزع ثيابه و حلف : لا لبستها و لا دفئت حتى تعود
و تخبرني أنك كسوتهم و أشبعتهم فمضى و عاد فأخبره : أنهم اكتسوا و شبعوا و
هو يرعد من البرد فلبس حينئذ ثيابه خرج الترمذي [ من حديث أبي سعيد مرفوعا
: من أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة و من سقاه
على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم و من كساه على عري كساه الله من خضر
الجنة ] و روى ابن أبي الدنيا بإسناده [ عن ابن مسعود قال : يحشر الناس
يوم القيامة أعرى ما كانوا قط و أجوع ما كانوا قط و أظمأ ما كانوا قط فمن
كسا لله عز و جل كساه الله و من أطعم لله أطعمه الله و من سقا لله سقاه
الله و من عفا لله أعفاه الله ]
و من فضائل الشتاء : أنه يذكر
بزمهرير جهنم و يوجب الإستعاذة منها و في [ حديث أبي هريرة و أبي سعيد عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد :
لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم : اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال
الله تعالى لجهنم : إن عبدا من عبادي استجار بي من زمهريرك و إني أشهدك
أني قد أجرته قالوا ما زمهرير جهنم قال : بيت يلقى فيه الكفر فيتميز من
شدة البرد ] قام زبيد اليامي ذات ليلة للتهجد فعمد إلى مطهرة له كان يتوضأ
منها فغمس يده في المطهرة فوجد الماء باردا شديدا كاد أن يجمد من شدة برده
فذكر الزمهرير و يده في المطهرة فلم يخرجها حتى أصبح فجاءته جاريته و هو
على تلك الحال فقالت : ما شأنك يا سيدي لم لا تصلي الليلة كما كنت تصلي و
أنت قاعد هنا على هذه الحالة ؟ فقال : ويحك إني أدخلت يدي في هذه المطهرة
فاشتد علي برد الماء فذكرت به الزمهرير فوالله ما شعرت بشدة برده حتى وقفت
علي فانطوي لا تحدثي بهذا أحدا ما دمت حيا فما علم بذلك أحد حتى مات رحمه
الله في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن لجهنم نفسين
في الشتاء و نفسا في الصيف فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها و أشد ما
تجدون من الحر من سمومها ] و روي عن ابن عباس قال : يستغيث أهل النار من
الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر و عن مجاهد قال :
يهربون إلى الزمهرير فإذا وقعوا فيه حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض و عن
كعب قال : إن في جهنم بردا هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم
و عن عبد الملك بن عمير قال بلغني : أن أهل النار سألوا خازنها أن يخرجهم
إلى جانبها فأخرجوا فقتلهم البرد و الزمهرير حتى رجعوا إليها فدخلوها مما
وجدوه من البرد و قد قال الله عز و جل : { لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا
* إلا حميما و غساقا * جزاء وفاقا } و قال الله تعالى : { هذا فليذوقوه
حميم و غساق } قال ابن عباس : الغساق : الزمهرير البارد الذي يحرق من برده
و قال مجاهد : هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده و قيل : إن الغساق :
البارد المنتن أجارنا الله تعالى من جهنم بفضله و كرمه يا من تتلى عليه
أوصاف جهنم و يشاهد تنفسها كل عام حتى يحس به و يتألم و هو مصر على ما
يقتضي دخولها مع أنه يعلم ستعلم إذا جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام من يندم
ألك صبر على سعيرها و زمهريرها ؟ قل و تكلم ما كان صلاحك يرجى و الله أعلم
( كم يكون الشتاء ثم المصيف ... و ربيع يمضي و يأتي الخريف )
( و ارتحال من الحرور إلى البرد ... و سيف الردى عليك منيف )
( يا قليل المقام في هذه الدنيا ... إلى كم يغرك التسويف )
( يا طالب الزائل حتى متى ... قلبك بالزائل مشغوف )
( عجبا لامرىء يذل لذي الدنـ ... يا و يكفيه كل يوم رغيف )
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى