رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات مع السيرة النبوية 13 ـ الهجرة النبوية
التأريخ:14/5/1425هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) [آل عمران: 102]
((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)) [النساء: 1]
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً)) [الأحزاب: 70 و71]. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله تركنا رسول الله وصاحبه الصديق على أعتاب مكة ورسول الله غ ينظر بعين باكية وقلب حزين إلى مرابع الصبا وبلاد الآباء والأجداد التي أجبره أهلها على مفارقتها، وكان من فطنة رسول الله أن أتجه إلى عكس ما يتجه الناس في السفر وعمد إلى غار ثور وهو عكس طريق المدينة والحرب خدعة، وكان الناس يعمدون إلى سرف، وأثناء رحلتهم إلى الغار يظهر حرص أبي بكر"على حبيبه وصاحبه فتجده حزين على صاحب الدعوة أن يصل إلى الكفار فيسبقه إذا شعر بمن يرصدهم تقدم عليه ليكون نحره دون نحر رسول الله ص وإلى شعر بالطلب من خلفه تأخر حتى يكون خلف رسول الله ليكون ظهره دون ظهر رسول الله صفتعجب رسول الله من هذا الصنيع فسأله: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال يا رسول الله: أذكر الطلب فأكون خلفك وأذكر الرصد فأكون بين يديك.
ودخل أبو بكر للغار قبل رسول الله غ يتفقده فقد خشي أن يكون فيه شيء من هوام الأرض كالعقارب أو الثعابين، ونفسه فداء رسول الله، وأثناء البحث جرح أصبعه فقال يرتجز:
إن أنت إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ
فلما أطمئن إلى خلو المكان طلب من رسول الله ص أن يدخل. ومما صنعه أبو بكر الصديق"أنه أمر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، فكان عبد الله إذا أمسى يأتيهما فيخبرهما الخبر وكان غلامه عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة فاذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فاذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة اثره بالغنم يعفى عليه،وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما، ودخلا الغار واختباءا فيه طوال ثلاثة أيام. النور والإيمان يختبأ والكفر والطغيان يعيث في الأرض فسادا، والجبال عند العربي - بصفة خاصة - ملجأ وملاذ، وأنيس وصاحب، ومشهدها يوحي إلى النفس الإنسانية - بصفة عامة - جلالا واستهوالا. حيث يتضاءل الإنسان إلى جوارها ويستكين، ويخشع للجلال السامق الرزين. والنفس في أحضان الجبل تتجه بطبيعتها إلى الله وتشعر أنها إليه أقرب، وتبعد عن واغش الأرض وضجيجها وحقاراتها الصغيرة. ولم يكن عبثا ولا مصادفة أن يلتجأ محمد غ في غار ثور. () ولعل رسول الله تذكر أيام خوالي كان يتحنث فيها في غار حراء قبل تكليف النبوية الثقيل.
ولما علمت قريش بما صنع بهم رسول الله ص أرسلوا خلفه من يتتبع الأثر،وكان الذي يقتص الاثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم،حتى بلغوا غار ثور، وهنا يرسل الله عنكبوت فينسج خيطه على الغار في آية إلاهية، مصداقا لقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) [محمد:7] فبعد أن اتخذ رسول الله الأسباب وتوكل على الله جاء الثبيت والحفظ من الله.
، فلما بلغ المشركون هذا المكان قالوا: لو دخل الغار لما يكن نسج العنكبوت على بابه، وأثناء البحث يشتد حزن أبو بكر على سيده وإمامه وحبيبه ويصف الله سبحانه وتعالى ذلك الحزن في قوله: ((إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [التوبة:40]، ويأس الكفار من وجوده في ذلك المكان فيرجعون خائبين، وأراد المشركون الانتقام من هذه الهزيمة، انتقاما يليق بحقارة الطواغيت وأذناب الشيطان الرجيم، قالت أسماء بنت أبي بكر ب: ولما خرج رسول الله وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت اليهم،فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبي بكر؟، فقلت: لا أدري والله أين أبي، قالت فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا.
وبعد مضي الليالي الثلاث جاءهم عبدالله بن أريقط على الموعد بالإبل فحملهم إلى المدينة عن طريق الساحل وكان يتجنب الطريق المعتاد للناس.
وكان بداية الخروج من الغار وقت الظهيرة، وقد أخرج البخاري وابن أبي شيبة عن أبي بكر أنه قال: رحلنا من مكة فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوي إليه فإذا أنا بصخرة فانتهينا إليها فإذا بقية ظل فسويته ثم فرشت لرسول الله غ فيه فروة ثم قلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع ثم ذهبت أنقض ما حولي هل أرى من الطلب أحدا فإذا انا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أريد فسألته فقلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من قريش قال فسماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت هل أنت حالب لي قال نعم قال فأمرته فاعتقل شاة من غنمه فأمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحدى يديه بالأخرى فحلب كثبة من لبن ومعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ فقلت اشرب يا رسول الله فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت ثم قلت أنى الرحيل يا رسول الله فارتحلنا
ويقص سراقة ابن مالك خبر قريش فيقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره مئة من الإبل فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس،فقال يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم،فقلت له إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها حتى دنوت منهم، فلما رآه أبو بكر قال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكى، فقال رسول الله: لم تبكِ؟ فقال أبو بكر: (اما والله ما على نفسي أبكي ولكن ابكي عليك) فدعا عليه رسول الله فقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت ـ أي غاصت ـ قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ـ أي صلبه ـ قال سراقة: فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت بها فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصبت الازلام فجعل فرسي يقرب بي حتى اذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الارض حتى بلغتا الركبتين، ثم قال: فجئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه سيظهر أمر رسول الله فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرداني ولم يسألاني إلا أن قالا اخف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر ابن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ثم مضى رسول الله.
ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده وقال كفيتم هذا الوجه فلما ظهر أن رسول الله قد وصل إلى المدينة جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي وما كان من قضية جواده واشتهر هذا بين الناس.
فكتب أبو جهل إلى قوم سراقة:
بني مدلجٍ إني أخافُ سفيهَكمْ سُراقةَ مستغوٍ لنصرِ محمدِ
عليكم به ألّا يفرِّق جَمْعَكم فيُصْبحَ شتَّى بعدَ عِزٍّ وسؤددِ
قال فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا:
أبا حكمٍ والله لو كنتَ شاهدا ً لأمر جوادي إذ تسوخُ قوائِمهْ
عجبتَ ولم تشكك بأن محمدا رسولٌ وبرهانٌ فمن ذا يقاومهْ
عليك بكفِّ القوم ِعنه فإنني أخال لنا يوما ستبدو معالمهْ
بأمرٍ تودُ النصرَ فيه فإنهم وإن جميع الناس طرا مسالمه ْ
وقد صدق ظن سراقة وخاب ظن التعيس أبو جهل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أعز دينه وما زال له معز وناصر، والصلاة والسلام على حبيب الله ورسوله وآله وسلم تسليماً كثيراً:
لما خرج أبو بكر للهجرة خرج بكل ما يملك فهذه أسماء"تحدثنا الخبر فتقول: لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه قالت فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه قالت قلت كلا يا أبة إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا قالت وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت يا أبة ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن اسكن الشيخ بذلك.
فما أحسن صنع أبي بكر، وقد عوضه الله خيرا مما صنع. وفيه نزل قوله تعالى: ((وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17، 21].
وقفات مع السيرة النبوية 13 ـ الهجرة النبوية
التأريخ:14/5/1425هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) [آل عمران: 102]
((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)) [النساء: 1]
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً)) [الأحزاب: 70 و71]. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله تركنا رسول الله وصاحبه الصديق على أعتاب مكة ورسول الله غ ينظر بعين باكية وقلب حزين إلى مرابع الصبا وبلاد الآباء والأجداد التي أجبره أهلها على مفارقتها، وكان من فطنة رسول الله أن أتجه إلى عكس ما يتجه الناس في السفر وعمد إلى غار ثور وهو عكس طريق المدينة والحرب خدعة، وكان الناس يعمدون إلى سرف، وأثناء رحلتهم إلى الغار يظهر حرص أبي بكر"على حبيبه وصاحبه فتجده حزين على صاحب الدعوة أن يصل إلى الكفار فيسبقه إذا شعر بمن يرصدهم تقدم عليه ليكون نحره دون نحر رسول الله ص وإلى شعر بالطلب من خلفه تأخر حتى يكون خلف رسول الله ليكون ظهره دون ظهر رسول الله صفتعجب رسول الله من هذا الصنيع فسأله: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال يا رسول الله: أذكر الطلب فأكون خلفك وأذكر الرصد فأكون بين يديك.
ودخل أبو بكر للغار قبل رسول الله غ يتفقده فقد خشي أن يكون فيه شيء من هوام الأرض كالعقارب أو الثعابين، ونفسه فداء رسول الله، وأثناء البحث جرح أصبعه فقال يرتجز:
إن أنت إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ
فلما أطمئن إلى خلو المكان طلب من رسول الله ص أن يدخل. ومما صنعه أبو بكر الصديق"أنه أمر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، فكان عبد الله إذا أمسى يأتيهما فيخبرهما الخبر وكان غلامه عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة فاذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فاذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة اثره بالغنم يعفى عليه،وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما، ودخلا الغار واختباءا فيه طوال ثلاثة أيام. النور والإيمان يختبأ والكفر والطغيان يعيث في الأرض فسادا، والجبال عند العربي - بصفة خاصة - ملجأ وملاذ، وأنيس وصاحب، ومشهدها يوحي إلى النفس الإنسانية - بصفة عامة - جلالا واستهوالا. حيث يتضاءل الإنسان إلى جوارها ويستكين، ويخشع للجلال السامق الرزين. والنفس في أحضان الجبل تتجه بطبيعتها إلى الله وتشعر أنها إليه أقرب، وتبعد عن واغش الأرض وضجيجها وحقاراتها الصغيرة. ولم يكن عبثا ولا مصادفة أن يلتجأ محمد غ في غار ثور. () ولعل رسول الله تذكر أيام خوالي كان يتحنث فيها في غار حراء قبل تكليف النبوية الثقيل.
ولما علمت قريش بما صنع بهم رسول الله ص أرسلوا خلفه من يتتبع الأثر،وكان الذي يقتص الاثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم،حتى بلغوا غار ثور، وهنا يرسل الله عنكبوت فينسج خيطه على الغار في آية إلاهية، مصداقا لقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) [محمد:7] فبعد أن اتخذ رسول الله الأسباب وتوكل على الله جاء الثبيت والحفظ من الله.
، فلما بلغ المشركون هذا المكان قالوا: لو دخل الغار لما يكن نسج العنكبوت على بابه، وأثناء البحث يشتد حزن أبو بكر على سيده وإمامه وحبيبه ويصف الله سبحانه وتعالى ذلك الحزن في قوله: ((إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [التوبة:40]، ويأس الكفار من وجوده في ذلك المكان فيرجعون خائبين، وأراد المشركون الانتقام من هذه الهزيمة، انتقاما يليق بحقارة الطواغيت وأذناب الشيطان الرجيم، قالت أسماء بنت أبي بكر ب: ولما خرج رسول الله وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت اليهم،فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبي بكر؟، فقلت: لا أدري والله أين أبي، قالت فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا.
وبعد مضي الليالي الثلاث جاءهم عبدالله بن أريقط على الموعد بالإبل فحملهم إلى المدينة عن طريق الساحل وكان يتجنب الطريق المعتاد للناس.
وكان بداية الخروج من الغار وقت الظهيرة، وقد أخرج البخاري وابن أبي شيبة عن أبي بكر أنه قال: رحلنا من مكة فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوي إليه فإذا أنا بصخرة فانتهينا إليها فإذا بقية ظل فسويته ثم فرشت لرسول الله غ فيه فروة ثم قلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع ثم ذهبت أنقض ما حولي هل أرى من الطلب أحدا فإذا انا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أريد فسألته فقلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من قريش قال فسماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت هل أنت حالب لي قال نعم قال فأمرته فاعتقل شاة من غنمه فأمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحدى يديه بالأخرى فحلب كثبة من لبن ومعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ فقلت اشرب يا رسول الله فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت ثم قلت أنى الرحيل يا رسول الله فارتحلنا
ويقص سراقة ابن مالك خبر قريش فيقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره مئة من الإبل فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس،فقال يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم،فقلت له إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها حتى دنوت منهم، فلما رآه أبو بكر قال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكى، فقال رسول الله: لم تبكِ؟ فقال أبو بكر: (اما والله ما على نفسي أبكي ولكن ابكي عليك) فدعا عليه رسول الله فقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت ـ أي غاصت ـ قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ـ أي صلبه ـ قال سراقة: فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت بها فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصبت الازلام فجعل فرسي يقرب بي حتى اذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الارض حتى بلغتا الركبتين، ثم قال: فجئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه سيظهر أمر رسول الله فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرداني ولم يسألاني إلا أن قالا اخف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر ابن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ثم مضى رسول الله.
ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده وقال كفيتم هذا الوجه فلما ظهر أن رسول الله قد وصل إلى المدينة جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي وما كان من قضية جواده واشتهر هذا بين الناس.
فكتب أبو جهل إلى قوم سراقة:
بني مدلجٍ إني أخافُ سفيهَكمْ سُراقةَ مستغوٍ لنصرِ محمدِ
عليكم به ألّا يفرِّق جَمْعَكم فيُصْبحَ شتَّى بعدَ عِزٍّ وسؤددِ
قال فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا:
أبا حكمٍ والله لو كنتَ شاهدا ً لأمر جوادي إذ تسوخُ قوائِمهْ
عجبتَ ولم تشكك بأن محمدا رسولٌ وبرهانٌ فمن ذا يقاومهْ
عليك بكفِّ القوم ِعنه فإنني أخال لنا يوما ستبدو معالمهْ
بأمرٍ تودُ النصرَ فيه فإنهم وإن جميع الناس طرا مسالمه ْ
وقد صدق ظن سراقة وخاب ظن التعيس أبو جهل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أعز دينه وما زال له معز وناصر، والصلاة والسلام على حبيب الله ورسوله وآله وسلم تسليماً كثيراً:
لما خرج أبو بكر للهجرة خرج بكل ما يملك فهذه أسماء"تحدثنا الخبر فتقول: لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه قالت فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه قالت قلت كلا يا أبة إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا قالت وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت يا أبة ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن اسكن الشيخ بذلك.
فما أحسن صنع أبي بكر، وقد عوضه الله خيرا مما صنع. وفيه نزل قوله تعالى: ((وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17، 21].
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى