صفحة 2 من اصل 3 • 1, 2, 3
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
دون الموت ايذانا بأنهم غير مستوطنين ولا مستقرين فى القبور
وأنهم فيها بمنزلة الزائرين يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها كما كانوا فى
الدنيا زائرين لها غير مستقرين فيها ودار القرار هى الجنة أو النار ولم
يعين سبحانه المتكاثر به بل ترك ذكره اما لأن المذموم هو نفس التكاثر
بالشئ لا المتكاثر به كما يقال شغلك اللعب واللهو ولم يذكر ما يلعب ويلهو
به واما ارادة الاطلاق وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا من
مال أو جاه أو عبيد أو اماء أو
ص -184- بناء أو غراس أو علم لا ينبغى به وجه الله أو عمل لا
يقربه الى الله فكل هذا من التكاثر الملهى عن الله والدار الآخرة
وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه قال: "انتهيت الى النبى وهو
يقرأ ألهاكم التكاثر قال يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك الا ما
تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت"، ثم أوعد سبحانه من ألهاه
التكاثر وعيدا مؤكدا اذا عاين تكاثره هباء منثورا وعلم دنياه التى كاثر
بها انما كانت خدعا وغرورا فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له وخسر هنالك
تكاثره كما خسر أمثاله وبدا له من الله ما لم يكن فى حسابه وصار تكاثره
الذى شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه فعذب بتكاثره فى
دنياه ثم عذب به فى البرزخ ثم يعذب به يوم القيامة فكان أشقى بتكاثره اذ
أفاد منه العطب دون الغنيمة والسلامة فلم يفز من تكاثره الا بأن صار من
الأقلين ولم يحفظ به من علوه به فى الدنيا بأن حصل مع الاسفلين فيا له
تكاثرا ما أقله ورزءا ما أجله ومن غنى جالبا لكل فقر وخيرا توصل به الى كل
شر يقول صاحبه اذا انكشف عنه غطاؤه يا ليتنى قدمت لحياتى وعملت فيه بطاعة
الله قبل وفاتى رب ارجعونى لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا انها كلمة هو
قائلها تلك كلمة يقولها فلا يعول عليها ورجعة يسألها فلا يجاب إليها
وتأمل قوله أولا { رَبّ } استغاث بربه ثم التفت الى الملائكة الذين أمروا
بإحضاره بين يدى ربه تبارك وتعالى فقال أرجعونى ثم ذكر سبب سؤال الرجعة
وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته
وأسبابه فيقال له كلا لا سبيل لك الى الرجعى وقد عمرت ما يتذكر فيه من تذكر
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استغاث وأن يفسح له فى المهلة
لتيذكر مافاته أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو
ص -185- قائلها لا حقيقة تحتها وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل
صالحا لو أجيب وانما ذلك شئ يقوله بلسانه وأنه لو رد لعاد لما نهى عنه
وأنه من الكاذبين فحكمه أحكم الحاكمين وعزته وعلمه وحمده يأبى اجابته الى
ما سأل فإنه لا فائدة فى ذلك ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الاولى
كما قال تعالى ولو ترى اذ وقفوا على النار قالوا ياليتنا نرد ولا نكذب
بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها
لا تشفى عليلا ولا تروى غليلا ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به ولم
يتفطنوا لوجه الاضراب ببل ولا للأمر الذى بدا لهم وكانوا يخفونه وطنوا أن
الذى بدا لهم العذاب فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله {مَا كَانُوا
يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قد روا مضافا محذوفا وهو خبر ما كانوا يخفون من
قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو أن القوم لم يكونوا يخفون
شركهم وكفرهم بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه ولما علموا أن
هذا وارد عليهم قالوا ان القوم فى بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم
وجحدوه وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فلما وقفوا على النار بدا لهم
جزاء ذلك الذى أخفوه قال الواحدى وعلى هذا أهل التفسير ولم يصنع أرباب هذا
القول شيئا فإن السياق والاضراب ببل والاخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا
لما نهوا عنه وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذى ذكروه
فتأمله
وقالت طائفة منهم الزجاج بل بدا للاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر
البعث وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير وفيه من التكلف ما ليس بخاف واجود من
هذا ما فهمه المبرد من الآية قال كأن كفرهم لم يكن باديا لهم اذ خفيت
عليهم مضرته ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله فكأنه
كان خفيا عنهم لم تظهر لهم حقيقته
فلما عاينوا
ص -186- العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره قال وهذا كما تقول لمن كنت حدثته فى
أمر قبل وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك وقد كان ظاهرا له قبل هذا ولا يسهل
أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذى كانوا ينادون به على رءوس الاشهاد ويدعون
اليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ولا يقال لمن
أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعى فى الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك
لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه
فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا
على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون الى الدنيا
فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك
وأنهم ليس فى طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب
وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون فى زعمهم
أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذى بدا
لهم والذى كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب
بآيات ربنا فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا فى الدنيا على باطل وأن الرسل
صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه
بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والايمان
معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه
وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن
الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا
لما سمحت نفوسهم بالايمان ولعادوا الى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا
الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا
العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته
وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد فى عدوله عنه فقيل له ان اطلع
عليه وليه عاقبك وهو يعلم
ص -187- ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هى الصواب فلما أخذه وليه
ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به
بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاوده بعد
معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى
من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه
وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا
وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أى ليس كذلك بل كنتم
تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شئ لتكونوا عالمين به
لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله
أعلم
ولا تستطل هذا الفضل المعترض فى أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع
وبالله التوفيق فلنرجع الى تمام الكلام فيها
وقوله {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} جوابه محذوف دل عليه
ما تقدم أى لما ألهاكم التكاثر وانما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى
بكم لما فقد منكم علم اليقين وهو العلم الذى يصل به صاحبه الى حد
الضروريات التى لا يشك ولا يمارى فى صحتها وثبوتها ولو وصلت حقيقة هذا
العلم الى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه ويرتب أثره عليه فإن مجرد
العلم بقبح الشئ وسوء عواقبه قد لا يكفى فى تركه فإذا صار له علم اليقين
كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد فاذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان
تخلف موجبه عنه من أندر شئ وفى هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضى الله عنه
فى أهل بدر:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
وقوله {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قيل
تأكيد لحصول العلم كقوله {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ
سَيَعْلَمُونَ} وقيل ليس
ص -188- تأكيدا بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم
الثانى فى القبر هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس ويدل على
صحة هذا القول عدة أوجه أحدها أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل وقد
أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الاخلال بالفصاحة الثانى توسط
ثم بين العلمين وهى مؤذنة بتراخى ما بين المرتبتين زمانا وخطرا الثالث ان
هذا القول مطابق للواقع فإن المحتصر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه
ثم يعلم فى القبر وما بعده ذلك علما هو فوق الأول الرابع أن عليا بن أبى
طالب رضى الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر قال الترمذى
حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازى عن عمرو بن أبى قيس عن الحجاج
بن المنهال بن عمر عن زر عن على رضى الله عنه قال ما زلنا نشك فى عذاب
القبر حتى نزلت الهاكم التكاثر
قال الواحدى: يعنى أن معنى قوله {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فى القبر
الخامس: ان هذا مطابق لما بعده من قوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ
لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من
وجهين إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين وتقدم الأولى وتراخى
الثانية عنها ثم ختم السورة بالاخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد
والنون الثقيلة عن سؤال النعيم فكل أحد يسأل عن نعيمه الذى كان فيه فى
الدنيا هل ناله من حلاله ووجهه أم لا فاذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالا
آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا فالأول سؤال عن
سبب استخراجه والثانى عن محل صرفه كما فى جامع الترمذى من حديث عطاء بن
أبى رباح عن ابن عمر عن النبى قال: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من
عند ربه حتى يسئل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن
ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن ماذا عمل فيما علم
ص -183- صالحا وعلى كل حال لا يلقى ذلك إلا الصابرون على الفقر وعن الدنيا
وشهواتها وما أترف فيه الاغنياء وقد شهد الله سبحانه لهم أنهم من أهل
العلم دون الذين تمنوا الدنيا وزينتها
الوجه الثامن: انه سبحانه أنكر على من ظن أن التفضيل يكون بالمال الذى
يحتاج اليه لاقامة الملك فكيف بما هو زيادة وفضلة فقال تعالى {وَقَالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ} فرد الله سبحانه قولهم وأخبر سبحانه أن الفضل ليس بالمال كما
توهموه وأن الفضل بالعلم لا بالمال وقال سبحانه قال بفضل الله وبرحمته
فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضله ورحمته العلم والايمان والقرآن
والذى يجمعونه هو المال وأسبابه ومثله قوله تعالى أهم يقسمون رحمة ربك الى
قوله ورحمة ربك خير مما يجمعون
الوجه التاسع: انه سبحانه أخبر أن التكاثر فى جمع المال وغيره ألهى الناس
وشغلهم عن الآخرة والاستعداد لها وتوعدهم على ذلك فقال تعالى {أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فأخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا
وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت فزاروا المقابر ولم يفيقوا
من رقدة من ألهاهم التكاثر وجعل الغاية زيارة المقابر
وشهواتها وما أترف فيه الاغنياء وقد شهد الله سبحانه لهم أنهم من أهل
العلم دون الذين تمنوا الدنيا وزينتها
الوجه الثامن: انه سبحانه أنكر على من ظن أن التفضيل يكون بالمال الذى
يحتاج اليه لاقامة الملك فكيف بما هو زيادة وفضلة فقال تعالى {وَقَالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ} فرد الله سبحانه قولهم وأخبر سبحانه أن الفضل ليس بالمال كما
توهموه وأن الفضل بالعلم لا بالمال وقال سبحانه قال بفضل الله وبرحمته
فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضله ورحمته العلم والايمان والقرآن
والذى يجمعونه هو المال وأسبابه ومثله قوله تعالى أهم يقسمون رحمة ربك الى
قوله ورحمة ربك خير مما يجمعون
الوجه التاسع: انه سبحانه أخبر أن التكاثر فى جمع المال وغيره ألهى الناس
وشغلهم عن الآخرة والاستعداد لها وتوعدهم على ذلك فقال تعالى {أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فأخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا
وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت فزاروا المقابر ولم يفيقوا
من رقدة من ألهاهم التكاثر وجعل الغاية زيارة المقابر
دون الموت ايذانا بأنهم غير مستوطنين ولا مستقرين فى القبور
وأنهم فيها بمنزلة الزائرين يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها كما كانوا فى
الدنيا زائرين لها غير مستقرين فيها ودار القرار هى الجنة أو النار ولم
يعين سبحانه المتكاثر به بل ترك ذكره اما لأن المذموم هو نفس التكاثر
بالشئ لا المتكاثر به كما يقال شغلك اللعب واللهو ولم يذكر ما يلعب ويلهو
به واما ارادة الاطلاق وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا من
مال أو جاه أو عبيد أو اماء أو
ص -184- بناء أو غراس أو علم لا ينبغى به وجه الله أو عمل لا
يقربه الى الله فكل هذا من التكاثر الملهى عن الله والدار الآخرة
وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه قال: "انتهيت الى النبى وهو
يقرأ ألهاكم التكاثر قال يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك الا ما
تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت"، ثم أوعد سبحانه من ألهاه
التكاثر وعيدا مؤكدا اذا عاين تكاثره هباء منثورا وعلم دنياه التى كاثر
بها انما كانت خدعا وغرورا فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له وخسر هنالك
تكاثره كما خسر أمثاله وبدا له من الله ما لم يكن فى حسابه وصار تكاثره
الذى شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه فعذب بتكاثره فى
دنياه ثم عذب به فى البرزخ ثم يعذب به يوم القيامة فكان أشقى بتكاثره اذ
أفاد منه العطب دون الغنيمة والسلامة فلم يفز من تكاثره الا بأن صار من
الأقلين ولم يحفظ به من علوه به فى الدنيا بأن حصل مع الاسفلين فيا له
تكاثرا ما أقله ورزءا ما أجله ومن غنى جالبا لكل فقر وخيرا توصل به الى كل
شر يقول صاحبه اذا انكشف عنه غطاؤه يا ليتنى قدمت لحياتى وعملت فيه بطاعة
الله قبل وفاتى رب ارجعونى لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا انها كلمة هو
قائلها تلك كلمة يقولها فلا يعول عليها ورجعة يسألها فلا يجاب إليها
وتأمل قوله أولا { رَبّ } استغاث بربه ثم التفت الى الملائكة الذين أمروا
بإحضاره بين يدى ربه تبارك وتعالى فقال أرجعونى ثم ذكر سبب سؤال الرجعة
وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته
وأسبابه فيقال له كلا لا سبيل لك الى الرجعى وقد عمرت ما يتذكر فيه من تذكر
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استغاث وأن يفسح له فى المهلة
لتيذكر مافاته أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو
ص -185- قائلها لا حقيقة تحتها وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل
صالحا لو أجيب وانما ذلك شئ يقوله بلسانه وأنه لو رد لعاد لما نهى عنه
وأنه من الكاذبين فحكمه أحكم الحاكمين وعزته وعلمه وحمده يأبى اجابته الى
ما سأل فإنه لا فائدة فى ذلك ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الاولى
كما قال تعالى ولو ترى اذ وقفوا على النار قالوا ياليتنا نرد ولا نكذب
بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها
لا تشفى عليلا ولا تروى غليلا ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به ولم
يتفطنوا لوجه الاضراب ببل ولا للأمر الذى بدا لهم وكانوا يخفونه وطنوا أن
الذى بدا لهم العذاب فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله {مَا كَانُوا
يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قد روا مضافا محذوفا وهو خبر ما كانوا يخفون من
قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو أن القوم لم يكونوا يخفون
شركهم وكفرهم بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه ولما علموا أن
هذا وارد عليهم قالوا ان القوم فى بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم
وجحدوه وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فلما وقفوا على النار بدا لهم
جزاء ذلك الذى أخفوه قال الواحدى وعلى هذا أهل التفسير ولم يصنع أرباب هذا
القول شيئا فإن السياق والاضراب ببل والاخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا
لما نهوا عنه وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذى ذكروه
فتأمله
وقالت طائفة منهم الزجاج بل بدا للاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر
البعث وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير وفيه من التكلف ما ليس بخاف واجود من
هذا ما فهمه المبرد من الآية قال كأن كفرهم لم يكن باديا لهم اذ خفيت
عليهم مضرته ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله فكأنه
كان خفيا عنهم لم تظهر لهم حقيقته
فلما عاينوا
ص -186- العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره قال وهذا كما تقول لمن كنت حدثته فى
أمر قبل وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك وقد كان ظاهرا له قبل هذا ولا يسهل
أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذى كانوا ينادون به على رءوس الاشهاد ويدعون
اليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ولا يقال لمن
أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعى فى الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك
لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه
فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا
على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون الى الدنيا
فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك
وأنهم ليس فى طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب
وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون فى زعمهم
أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذى بدا
لهم والذى كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب
بآيات ربنا فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا فى الدنيا على باطل وأن الرسل
صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه
بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والايمان
معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه
وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن
الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا
لما سمحت نفوسهم بالايمان ولعادوا الى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا
الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا
العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته
وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد فى عدوله عنه فقيل له ان اطلع
عليه وليه عاقبك وهو يعلم
ص -187- ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هى الصواب فلما أخذه وليه
ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به
بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاوده بعد
معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى
من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه
وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا
وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أى ليس كذلك بل كنتم
تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شئ لتكونوا عالمين به
لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله
أعلم
ولا تستطل هذا الفضل المعترض فى أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع
وبالله التوفيق فلنرجع الى تمام الكلام فيها
وقوله {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} جوابه محذوف دل عليه
ما تقدم أى لما ألهاكم التكاثر وانما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى
بكم لما فقد منكم علم اليقين وهو العلم الذى يصل به صاحبه الى حد
الضروريات التى لا يشك ولا يمارى فى صحتها وثبوتها ولو وصلت حقيقة هذا
العلم الى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه ويرتب أثره عليه فإن مجرد
العلم بقبح الشئ وسوء عواقبه قد لا يكفى فى تركه فإذا صار له علم اليقين
كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد فاذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان
تخلف موجبه عنه من أندر شئ وفى هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضى الله عنه
فى أهل بدر:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
وقوله {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قيل
تأكيد لحصول العلم كقوله {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ
سَيَعْلَمُونَ} وقيل ليس
ص -188- تأكيدا بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم
الثانى فى القبر هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس ويدل على
صحة هذا القول عدة أوجه أحدها أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل وقد
أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الاخلال بالفصاحة الثانى توسط
ثم بين العلمين وهى مؤذنة بتراخى ما بين المرتبتين زمانا وخطرا الثالث ان
هذا القول مطابق للواقع فإن المحتصر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه
ثم يعلم فى القبر وما بعده ذلك علما هو فوق الأول الرابع أن عليا بن أبى
طالب رضى الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر قال الترمذى
حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازى عن عمرو بن أبى قيس عن الحجاج
بن المنهال بن عمر عن زر عن على رضى الله عنه قال ما زلنا نشك فى عذاب
القبر حتى نزلت الهاكم التكاثر
قال الواحدى: يعنى أن معنى قوله {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فى القبر
الخامس: ان هذا مطابق لما بعده من قوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ
لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من
وجهين إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين وتقدم الأولى وتراخى
الثانية عنها ثم ختم السورة بالاخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد
والنون الثقيلة عن سؤال النعيم فكل أحد يسأل عن نعيمه الذى كان فيه فى
الدنيا هل ناله من حلاله ووجهه أم لا فاذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالا
آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا فالأول سؤال عن
سبب استخراجه والثانى عن محل صرفه كما فى جامع الترمذى من حديث عطاء بن
أبى رباح عن ابن عمر عن النبى قال: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من
عند ربه حتى يسئل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن
ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن ماذا عمل فيما علم
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -210- فنظرت فاذا رجل ضعيف عليه أخلاق قال فقلت هذا قال فقال
رسول الله والذى نفسى بيده لهذا أفضل عند الله يوم القيامة من قراب الارض
من هذا".
قال حدثنا وكيع ووافقه زائد حدثنا الاعمش عن سليمان بن يسار عن خرشة ابن
الحر عن أبى ذر فذكره وقال لهذا خير عند الله يوم القيامة من ملء الارض
مثل هذا قال الامام أحمد وحدثنا أبو معاوية ووافقه يعلى قال حدثنا الاعمش
عن زيد بن وهب عن أبى ذر فذكره
قالوا والذى يفصل بيننا فى هذه المسألة ويشفى العليل أن الفقر يوفر أجر
صاحبه ومنزلته عند الله والغنى ولو شكر فإن ما ناله فى الدنيا بغناه يحسب
عليه من ثوابه يوم القيامة وان تناوله بأحل وجه فقليل الفضل فى الدنيا
ناقص من كثير الآخرة وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله
قال: "ما من غازية تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثى
أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وان لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم".
وفى الصحيحين عن خباب بن الارت رضى الله عنه قال: "هاجرنا مع رسول الله
نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا
منهم مصعب بن عمير رضى الله عنه قتل يوم أحد وترك بردة فكنا اذا غطينا بها
رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه فأمرنا رسول الله أن نغطى رأسه
ونجعل على رجليه شيئا من الاذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها" وفى
الصحيحين عن قيس بن أبى حازم قال دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيات
فقال ان أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا وذكر الحديث وقال
سعيد بن منصور حدثنا معاوية عن الاعمش عن مجاهد عن ابن عمر رضى الله عنهما
قال: "ما أوتى عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وان كان
عليه كريما".
ص -211- وفى صحيح البخارى عن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال:
"أوتى عبد الرحمن رضى الله عنه بطعام وكان صائما فقال قتل مصعب بن عمير
وهو خير منى وكفن فى بردة ان غطى رأسه بدت رجلاه وان غطى رجلاه بدا رأسه
وقتل حمزة رضى الله عنه وهو خير منى فلم يوجد له كفن إلا بردة ثم بسط لنا
من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشيت أن تكون
عجلت لنا طيباتنا فى حياتنا الدنيا ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام".
قال أبو سعيد بن الاعرابى وليس عبد الرحمن بن عوف وخباب قالا ذلك دون
غيرهما لقد قاله الأكابر من أصحاب رسول الله وكرهوا ما فتح الله عليهم من
الدنيا وأشفقوا منه وعلموا أن ما اختاره الله لنبيه كان أفضل وأن ما أخروا
له كان أنقص منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأبو عبيدة وعمار بن ياسر
وسلمان وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وأبو هاشم بن عتبة وجماعة
لم نذكرهم للاختصار رضى الله عنهم
فأما أبو بكر رضى الله عنه فحدثنا ابن ابى الدنيا حدثنا عبد الرحمن بن
ابان الطائى حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد الواحد بن زيد حدثنى
سلمان عن مرة عن زيد بن أرقم رضى الله عنه قال كنا مع أبى بكر الصديق رضى
الله عنه فدعا بشراب فأتى بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى وبكى حتى أبكى
أصحابه فسكتوا وما سكت ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لم يقدروا على مسألته
قال ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك فقال كنت مع رسول
الله فرأيته يدفع عن نفسه شيئا ولم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذى
تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لى فقلت لها اليك عنى ثم رجعت فقالت انك
ان أفلت منى فلن يفلت منى من بعدك
وذكر ليث عن ابن سعد عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن
أبيه أن أبا بكر رضى الله عنه قال فى مرضه الذى
ص -212- مات فيه إنى وليت أمركم وانى لست بخيركم وكلكم ورم أنفه
من ذلك أن يكون هذا الامر له وذلك لما رأيت الدنيا قد أقبلت وأقبلت ولم
تقبل حتى يتخذوا نضائد الحرير وستور الديباج وحتى يألم أحدكم من الاضطجاع
على الصوف كما يألم من الاضطجاع على الحسك والسعدان ثم أنتم أول ضال
بالناس تصفقون يمينا وشمالا ما هذا الطريق أخطأت انما هو البحر أو الفجر
والله لئن يقدم أحدكم فتضرب عنقه فى غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا
وذكر محمد بن عطاء بن خباب قال كنت جالسا مع أبى بكر فرأى طائرا فقال طوبى
لك يا طائر تأكل من هذا الشجر ثم تبعر ثم لا تكون شيئا وليس عليك حساب
وددت أنى مكانك فقلت له أتقول هذا وأنت صديق رسول الله
وأما عمر رضى الله عنه فإنه لما اتى بكنوز كسرى بكى فقال له عبد الرحمن
ابن عوف ما الذى يبكيك يا أمير المؤمنين فوالله ان هذا ليوم شكر ويوم سرور
ويوم فرح فقال عمر ان هذا لم يعطه قوم الا ألقى الله بينهم العداوة
والبغضاء ودخل عليه أبو سنان الدؤلى وعنده نفر من المهاجرين فأرسل عمر الى
سفط أتى به من قلعة بالعراق وكان فيه خاتم فأخذه بعض ولده فأدخله فى فيه
فانتزعه عمر منه ثم بكى فقال له من عنده لم تبكى وقد فتح الله لك وأظهرك
وأقر عينك فقال سمعت رسول الله يقول: "لا تفتح الدنيا على أحد الا ألقى
الله بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة وأنا مشفق من ذلك".
قال أبو سعيد وجدت فى كتاب بخط يدى عن أبى داود قال حدثنا محمد بن عبيد
حدثنا حماد حدثنا يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أتى
بقلنسوة بغزوة كسرى بين يديه وفى القوم سراقة بن مالك فألقى اليه سوارى
كسرى فجعلهما فى يديه فبلغا منكبيه فلما رآهما فى يد سراقة قال الحمد لله
سوارا كسرى بن هرمز فى يد سراقة بن مالك بن جعشم
ص -213- أعرابى من بنى مدلج ثم قال اللهم قد علمت أن رسولك قد
كان يحب أن يصيب مالا فينفقه فى سبيلك وعلى عبادك فزويت ذلك عنه نظرا منك
له واختيارا اللهم انى أعوذ بك أن يكون هذا مكر منك بعمر ثم قال
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ
لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}
والمقصود أن سعة الدنيا وبسطها تعجيل من أجل الآخرة وتضييق من سعتها قال
عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهرى عن ابن أبى صغيرة عن جابر بن عبدالله
رضى الله عنهما: "قال لما كان يوم أحد أشرف النبى على الشهداء الذين قتلوا
يومئذ فقال انى شهيد على هؤلاء فزملوهم بدمائهم" قال معمر وأخبره فيمن سمع
الحسن يقول قال النبى: "هؤلاء قد مضوا وقد شهدت عليهم لم يأكلوا من أجورهم
شيئا وانكم قد أكلتم من أجوركم وانى لا أدرى ما تحدثون بعدى".
وقال ابن المبارك أخبرنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول: "خرج رسول
الله بأصحابه الى بقيع الغرقد فقال السلام عليكم يا أهل القبور لو تعلمون
ما نجاكم الله منه مما هو كائن بعدكم ثم أقبل على أصحابه فقال هؤلاء خير
منكم فقالوا يا رسول الله اخواننا أسلمنا كما أسلموا وهاجرنا كما هاجروا
وجاهدنا كما جاهدوا وأتوا على آجالهم فمضوا فيها وبقينا فى آجالنا فما
يجعلهم خيرا منا فقال ان هؤلاء خرجوا من الدنيا ولم يأكلوا من أجورهم شيئا
وخرجوا وأنا شهيد عليهم وأنتم قد أكلتم من أجوركم ولا أدرى ما تحدثون بعدى
قال فلما سمعها القوم والله عقلوها وانتفعوا بها فقالوا وانا لمحاسبون بما
أصبنا من الدنيا بعدهم وانه لمنتقص به من أجورنا فأكلوا طيبا وأنفقوا قصدا
وقدموا فضلا".
وقال عبد الله بن أحمد قرأت على ابى هذا الحديث حدثنا اسود بن
ص -214- عامر حدثنا اسرائيل عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قال:
"ما أعطى رجل من الدنيا الا نقص من درجته".
قالوا وقد صرح سادات الاغنياء بأنهم ابتلو بالضراء فصبروا وابتلوا بالسراء
فلم يبصروا قال ذلك عبد الرحمن وغيره وكان هذا مصداقا لما رواه مصعب بن
سعد عن ابيه قال قال رسول الله: "لأنا من فتنة السراء أخوف عليكم من فتنة
الضراء أنكم ابتليتم بالضراء فصبرتم وان الدنيا حلوة خضرة".
قالوا وها هنا قضيتان صادقتان بهما يتبين الفضل احداهما أن الاكثرين هم
الاقلون وقد تقدم الدليل عليها بما فيه الكفاية
وأما الثانية ففى الصحيحين من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال: "خرجت ليلة
من الليالى فإذا رسول الله يمشى وحده ليس معه انسان قال فظننت أنه يكره أن
يمشى معه أحد فجعلت أمشى فى ظل القمر فالتفت فرآنى فقال من هذا قلت أبو ذر
جعلنى الله فداك قال يا أبا ذر تعال فمشيت معه ساعة فقال ان المكثرين هم
المقلون يوم القيامة الا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين
يديه ووراءه وعمل فيه خيرا" وذكر الحديث
قالوا ولو كان الغنى افضل من الفقر لما حض الله رسوله على الزهد فى الدنيا
والاعراض عنها وذم الحرص عليها والرغبة فيها بل كان ينبغى أن يحض عليها
وعلى اكتسابها والاكثار منها كما حض على اكتساب الفضائل التى بها كمال
العبد من العلم والعمل فلما حض على الزهد فيها والتقلل دل على أن الزاهدين
فيها المتقللين منها أفضل الطائفتين وقد أخبر أنها لو ساوت عند الله جناح
بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء وأنها أهون على الله من السخلة الميتة
على أهلها وان مثلها فى الآخرة كمثل ما يعلق بأصبع من أدخل أصبعه فى البحر
وأنها ملعونة ملعون ما فيها الا
ص -215- ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم وأنها سجن المؤمنين
وجنة الكافرين وأمر العبد أن يكون فيها كأنه غريب أو عابر سبيل ويعد نفسه
من أهل القبور واذا أصبح فلا ينتظر المساء واذا أمسى فلا ينتظر الصباح
ونهى عن اتخاذ ما يرغب فيها ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم ودعا عليه
بالتعس والانتكاس وعدم اقالة العثرة بالانتقاش
وأخبر أنها خضرة حلوة أى تأخذ العيون بخضرتها والقلوب بحلاوتها وأمر
باتقائها والحذر منها كما يتقى النساء ويحذر منهن وأخبر أن الحرص عليها
وعلى الرياسة والشرف يفسد الدين كإفساد الذئبين الضاربين اذا ارسلا فى
زريبة غنم أو أشد افسادا وأخبر أنه فى الدنيا كراكب استظل تحت شجرة فى يوم
صائف ثم راح وتركها
وهذه في الحقيقة حال سكان الدنيا كلهم ولكن هو شهد هذه الحال وعمى عنها
بنو الدنيا ومر بهم وهم يعالجون خصا لهم قد وهى فقال: "ما أرى الأمر ألا
أعجل من ذلك" وأمر بستر على بابه فنزع وقال انه يذكرنى الدنيا وأعلم الناس
أنه ليس لأحد منهم حق فى سوى بيت يسكنه وثوب يوارى عورته وقوت يقيم صلبه
وأخبر أن الميت يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله وأخبر
أن للمتخوض فيما شاءت نفسه من مال الله بغير حق النار يوم القيامة وأقسم
أنه لا يخاف الفقر على أصحابه وانما يخاف عليهم الدنيا وتنافسهم فيها
وإلهائها لهم وأخبر أنه ليس لابن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى أو لبس
فأبلى أو تصدق فأمضى وأخبر أن حسب ابن آدم من الدنيا لقيمات يقمن صلبه فإن
لم يقتصر عليها فثلث بطنه لطعامه وثلثه لشرابه وثلثه لنفسه وفى هذا الحديث
الارشاد إلى صحة القلب والبدن والدين والدنيا
وأخبر أن غنى العبد فيها غنى نفسه لا كثرة عرضه وسأل الله أن يجعل رزقه
فيها قوتا وغبط من كان رزقه فيها كفافا بعد أن هدى للاسلام وأخبر أن من
كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وشتت
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -216- عليه شمله ولم يأته منها إلا ما كتب له وعرض عليه ربه أن
يجعل له بطحاء مكة ذهبا فقال لا يارب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت
تضرعت اليك وذكرتك واذا شبعت حمدتك وشكرتك وأعلمهم أن من أصبح منهم آمنا
فى سربه معافى فى جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا
وأخبر أن بذل العبد ما فضل عن حاجته خير له وإمساكه شر له وأنه لا يلام
على الكفاف ونهى أمته أن ينظر أحدهم الى من هو فوقه فى الدنيا وأمره أن
ينظر الى من هو دونه فى الدنيا وأخبر أنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة
وضر مثلها مثل ما يخرج من ابن آدم عند خلائه وان كان أوله طيبا لذيذا فهذا
آخره وأخبر أن عباد الله ليسوا بالمتنعمين فيها فإن أمامهم دار النعيم فهم
لا يرضون بنعيمهم فى الدنيا عوضا من ذلك النعيم
وأخبر أن نجاة أول هذه الأمة بالزهد واليقين وهلكة آخرها بالبخل وطول
الأمل وكان يقول لبيك لا عيش الا عيش الآخرة وأخبر أنه تعالى اذا أحب عبدا
حماه الدنيا كما يحمى الانسان مريضه من الطعام والشراب ودخل على عثمان ابن
مظعون وهو فى الموت فاكب عليه يقبله ويقول رحمك الله يا عثمان ما أصبت من
الدنيا ولا أصابت منك فغبطه بذلك وكان يقول الزهد فى الدنيا يريح القلب
والبدن والرغبة فى الدنيا تطيل الهموم والحزن وكان يقول من جعل الهموم
كلها هما واحدا كفاه الله سائر همومه ومن تشعبت به الهموم فى أحوال الدنيا
لم يبال الله فى أى أوديتها هلك
وأخبر أنه يؤتى يوم القيامة بأنعم الناس كان فى الدنيا فيقول الله عز وجل
اصبغوه فى النار صبغة ثم يؤتى به فيقول يا ابن آدم هل أصبت نعيما قط هل
رأيت قرة عين قط هل أصبت سرورا قط فيقول لا وعزتك ثم يقول ردوه الى النار
ثم يؤتى بأشد الناس كان بلاء فى الدنيا
ص -217- وأجهده جهدا فيقول تبارك وتعالى اصبغوه فى الجنة صبغة
فيصبغ فيها ثم يؤتى به فيقول يا ابن آدم هل رأيت ما تكره قط فيقول لا
وعزتك ما رأيت شيئا قط اكرهه
وفى حديث مناجاة موسى الذى رواه الامام أحمد فى كتاب الزهد حدثنا اسماعيل
بن عبد الكريم بن معقل حدثنا عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهب ابن منبه
فذكره وفيه ولا تعجبكما زينته ولا ما متع به ولا تمدان الى ذلك أعينكما
فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين وانى لو شئت أن أزينكما من
الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر اليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما
فعلت ولكنى أرغب بكما عن نعيمها ذلك وازويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائى
وقديما ما خرت لهم فى ذلك فإنى لاذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعى
الشفيق غنمه عن مراعى الهلكة وانى لأجنبهم سلوتها وعيشها كما يجنب الراعى
الشفيق ابله عن مبارك الغرة وما ذلك لهوانهم على ولكن ليستكملوا نصيبهم من
كرامتى سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطغه الهوى
واعلم انه لم يتزين لى العباد بزينة هى أبلغ من الزهد فى الدنيا فإنها
زينة المتقين عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع سماهم فى
وجههم من أثر السجود أولئك أوليائى حقا فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل
لهم قلبك ولسانك وذكر الحديث
وقال أحمد حدثنا عون بن جابر قال سمعت محمد بن داود عن أبيه عن وهب قال
قال الحواريون يا عيسى من أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون
قال الذين نظروا الى باطن الدنيا حين نظر الناس الى عاجلها فأماتوا منها
ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار استكثارهم منها
استقلالا وذكرهم إياها فواتا وفرحهم
ص -218- بما اصابوا منها حزنا فما عارضهم من نائلها رفضوه وما
عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها
وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت فى صدورهم فليسوا يحيونها يهدمونها
فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم رفضوها فكانوا بها
هم الفرحين ونظروا الى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات فأحيوا ذكر الموت
وأماتوا ذكر الحياة يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره ويضيئون به
لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق
الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه عملوا ليسوا يرون نائلا مع ما نالوا
ولا أمانا دون ما يرجون ولا خوفا دون ما يحذرون
وحدثنا روح حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال قيل لعيسى بن مريم يا
رسول الله لو اتخذت حمارا تركبه لحاجتك قال أنا أكرم على الله من أن يجعل
لى شيئا يشغلنى به وقال اجعلوا كنوزكم فى السماء فإن قلب المرء عند كنزه
وقال اتقوا فضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز وقال يا بنى اسرائيل
اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف فما لكم فى العالم من منزل ان أنتم إلا
عابرى سبيل وقال يا معشر الحواريين ايكم يستطيع أن يبنى على موج البحر
دارا قالوا ياروح الله من يقدر على ذلك قال اياكم والدنيا فلا تتخذوها
قرارا وقال أكل الخبز البر وشرب ماء عذب ونوم على المزابل مع الكلاب كثير
لمن يريد أن يرث الفردوس
قال أحمد وحدثنا بهز عن الاعمش عن خيثمة قال قال المسيح بشدة ما يدخل
الغنى الجنة وقال المسيح حلاوة الدنيا مرارة الاخرة ومرارة الدنيا حلاوة
الاخرة وقال يا بنى اسرائيل تهاونوا بالدنيا تهن عليكم وأهينوا الدنيا
تكرم عليكم الاخرة ولا تكرموا الدنيا تهن عليكم
ص -219- الاخرة فإن الدنيا ليست بأهل الكرامة وكل يوم تدعو الى
الفتنة والخسارة
وقال اسحق بن هانئ فى مسائلة قال أبو عبد الله وأنا أخرج من داره قال
الحسن أهينوا الدنيا فوالله لأهنأ ما تكون حين تهان وقال الحسن والله ما
أبالى شرقت أم غربت قال وقال لى أبو عبد الله يا اسحق ما أهون الدنيا على
الله عز وجل وقال الدنيا قليلها يجزى وكثيرها لا يجزى
قالوا وقد تواتر عن السلف أن حب الدنيا رأس الخطايا وأصلها وقد روى فيه
حديث مرفوع لا يثبت ولكنه يروى عن المسيح قال عبد الله بن احمد حدثنا عبيد
الله بن عمر القواريرى حدثنا معاذ بن هشام حدثنى ابى عن بديل بن ميسرة قال
حدثنى جعفر بن خرفاش أن عيسى بن مريم عليه السلام قال رأس الخطيئة حب
الدنيا والنساء حبالة الشيطان والخمر جماع كل شر
وقال الامام أحمد حدثنا عمر بن سعد أبو داود الحفرى عن سفيان قال كان عيسى
بن مريم يقول حب الدنيا أصل كل خطيئة والمال فيه داء كثير قالوا وما داؤه
قال لا يسلم من الفخر والخيلاء قالوا فان سلم قال يشغله اصلاحه عن ذكر
الله عزوجل قالوا وذلك معلوم بالتجربة والمشاهدة فان حبها يدعو الى خطيئة
ظاهرة وباطنة ولا سيما خطيئة يتوقف تحصيلها عليها فيسكر عاشقها حبها عن
علمه بتلك الخطيئة وقبحها وعن كراهتها واجتنابها وحبها يوقع فى الشبهات ثم
فى المكروهات ثم فى المحرمات وطالما أوقع فى الكفر بل جميع الأمم المكذبة
لأنبيائهم انما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا فان الرسل لما نهوهم عن
الشرك والمعاصى التى كانوا يكسبون بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم
وتكذيبهم فكل خطيئة فى العالم أصلها حب الدنيا ولا تنس خطيئة الأبوين
قديما فإنما كان سببها حب الخلود فى الدنيا ولا تنس ذنب ابليس وسببه حب
الرياسة التي محبتها شر من محبة الدنيا وبسببها كفر
ص -220- فرعون وهامان وجنودهما وأبو جهل وقومه واليهود فحب
الدنيا والرياسة هو الذى عمر النار بأهلها والزهد فى الدنيا والرياسة هو
الذى عمر الجنة بأهلها والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير
وصاحب هذا السكر لا يفيق منه الا فى ظلمة اللحد ولو انكشف عنه غطاؤه فى
الدنيا لعلم ما كان فيه من السكر وانه اشد من سكر الخمر والدنيا تسحر
العقول أعظم سحر
قال الإمام أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر قال سمعت مالك بن دينار يقول اتقوا
السحارة اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء
وقال يحيى بن معاذ الرازى الدنيا خمر الشيطان من سكر منها فلا يفيق إلا فى
عسكر الموتى نادما بين الخاسرين وأقل ما فى حبها أنه يلهى عن حب الله
وذكره ومن الهاه ماله عن ذكر الله فهو من الخاسرين وإذا لها القلب عن ذكر
الله سكنه الشيطان وصرفه حيث اراد ومن فقهه فى الشر أنه يرضيه ببعض أعمال
الخير ليريه أنه يفعل فيها الخير وقد تعبد لها قلبه فأين يقع ما يفعله من
البر مع تعبده لها وقد لعنه رسول الله ودعا عليه فقال لعن عبد الدينار
والدرهم وقال تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم ان أعطى رضى وإن منع سخط
وهذا تفسير منه وبيان لعبوديتها وقد عرضت الدنيا على النبى بحذافيرها
وتعرضت له فدفع فى صدرها باليدين وردها على عقبيها ثم عرضت بعده على
أصحابه وتعرضت لهم فمنهم من سلك سبيله ودفعها عنه وهم القليل ومنهم من
استعرضها وقال ما فيك قالت فى الحلال والشبهة والمكروه والحرام فقالوا
هاتى حلالك ولا حاجة لنا فيما عداه فأخذوا حلالها ثم تعرضت لمن بعدهم
فطلبوا حلالها فلم يجدوه فطلبوا مكروهها وشبهها فقالت قد أخذه من قبلكم
فقالوا هاتى حرامك فأخذوه فطلبه من بعدهم فقالت هو فى أيدى الظلمة قد
استأثروا به عليكم فتحيلوا على تحصيله منهم بالرغبة والرهبة فلا يمد فاجر
يده الى شئ من الحرام إلا وجد أفجر منه وأقوى
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -221- قد سبقه اليه هذا وكلهم ضيوف وما بأيديهم عارية كما قال
ابن مسعود رضى الله عنه ما أصبح أحد فى الدنيا إلا ضيف وماله عارية فالضيف
مرتحل والعارية مؤادة
قالوا وانما كان حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين من وجوه أحدها أن
حبها يقتضى تعظيمها وهى حقيرة عند الله ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله
وثانيها أن الله لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها ومن أحب ما لعنه
الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه وثالثها انه اذا أحبها
صيرها غايته وتوسل اليها بالأعمال التى جعلها الله وسائل اليه والى الدار
الآخرة فعكس الأمر وقلب الحكمة فانعكس قلبه وانعكس سيره الى وراء فها هنا
أمران أحدهما جعل الوسيلة غاية والثانى التوسل بأعمال الآخرة إلى الدنيا
وهذا شر معكوس من كل وجه وقلب منكوس غاية الانتكاس وهذا هو الذى انطبق
عليه حذو القذة بالقذة قوله تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ
فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} وقوله تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا
لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} وقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد
له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب
فهذه ثلاث آيات يشبه بعضها بعضا وتدل على معنى واحد وهو أن من أراد بعمله
الدنيا وزينتها دون الله والدار الآخرة فحظه ما اراد وهو نصيبه ليس له
نصيب غيره
والاحاديث عن رسول الله مطابقة لذلك مفسرة له كحديث أبى هريرة رضى الله
عنه فى الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: "الغازى والمتصدق والقارئ
الذين أرادوا بذلك الدنيا والنصيب"
وهو فى صحيح مسلم.
ص -222- وفى سنن النسائى عن أبى أمامة رضى الله عنه قال: "جاء رجل الى
النبى فقال يا رسول الله رجل غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال رسول الله
لا شئ له فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله لا شئ له ثم قال إن الله
تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا" وابتغى به وجهه فهذا قد بطل أجره وحبط
عمله مع أنه قصد حصول الأجر لما ضم اليه قصد الذكر بين الناس فلم يخلص
عمله لله فبطل كله
وفى مسند الامام أحمد عن أبى هريرة أن رجلا قال: "يارسول الله الرجل يريد
الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرض الدنيا فقال له رسول الله لا أجر له
فأعظم الناس ذلك وقالوا للرجل عد لرسول الله لعله لم يفهم فعاد فقال يا
رسول الله الرجل يريد الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرض الدنيا فقال رسول
الله لا أجر له ثم أعاد الثالثة فقال رسول الله لا أجر له".
وفى المسند ايضا وسنن النسائى عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال ان
رسول الله قال: "من غزا فى سبيل الله عزوجل وهو لا ينوى فى غزاته إلا
عقالا فله ما نوى".
وفى المسند والسنن عن يعلى بن منبه قال: "كان رسول الله يبعثنى فى سرايا
فبعثنى ذات يوم فى سرية وكان رجلا يركب بغلا فقلت له ارحل فإن النبى قد
بعثنى فى سرية فقال ما أنا بخارج معك حتى تجعل لى ثلاثة دنانير ففعلت فلما
رجعت من غزاتى ذكرت ذلك لرسول الله فقال النبى ليس له من غزاته هذه ومن
دنياه وآخرته الا ثلاثة دنانير".
وفى سنن أبى داود أن عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال: "يا رسول الله
أخبرنى عن الجهاد والغزو فقال يا عبد الله بن عمر ان قاتلت صابرا محتسبا
بعثك الله صابرا محتسبا وان قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا
يا عبد الله بن عمر على أى حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال".
ص -223- وفى المسند والسنن عن ابى ايوب رضى الله عنه قال سمعت
رسول الله يقول: "انها ستفتح عليكم الامصار وتضربون فيها بعوثا فيكره
الرجل منكم البعث فيخلص من قومه ويعرض نفسه على القبائل يقول من أكفيه بعث
كذا وكذا إلا وذلك الأجير الى آخر قطرة من دمه" فانظر محبة الدنيا ماذا
حرمت هذا المجاهد من المجاهدين من الأجر وأفسدت عليه عمله وجعلته أول
الداخلين إلى النار
فصل: ورابعها أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه فى
الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه والناس ها هنا مراتب فمنهم من يشغله محبوبه
عن الايمان وشرائعه ومنهم من يشغله عن الواجبات التى تجب عليه لله ولخلقه
فلا يقوم بها ظاهرا ولا باطنا ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات
ومنهم من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها وان قام بغيره ومنهم من يشغله عن
القيام بالواجب فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى فيفرط فى وقته
وفى حقوقه ومنهم من يشغله عن عبودية قلبه فى الواجب وتفريغه لله عند أدائه
فيؤديه ظاهر الا باطنا وأين هذا من عشاق الدنيا ومحبيها هذا من أندرهم
وأقل درجات حبها ان يشغل عن سعادة العبد وهو تفريغ القلب لحب الله ولسانه
لذكره وجمع قلبه على لسانه وجمع لسانه وقلبه على ربه فعشقها ومحبتها تضر
بالآخرة ولا بد كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا وفى هذا الحديث قد روى
مرفوعا من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته اضر بدنياه فآثروا ما يبقى
على ما يفنى
فصل: وخامسها أن محبتها تجعلها أكثر هم العبد وقد روى الترمذى من حديث أنس
بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله: "من كانت الآخرة أكبر همه جعل
الله غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت الدنيا
أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا
ما قدر له".
ص -224- فصل: وسادسها أن محبها أشد الناس عذابا بها وهو معذب فى
دوره الثلاث يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها وفى دار
البرزخ بفواتها والحسرة عليها وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا
يرجوا اجتماعه به ابدا ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه فهذا اشد الناس
عذابا فى قبره يعمل الهم والغم والحزن والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان
وهوام الأرض فى جسمه كما قال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن عبد الكريم
حدثنا عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه أن حزقبل كان فيمن سبى بختنصر
فذكر عنه حديثا طويلا وفى آخره قال فبينا أنا نائم على شط الفرات إذ أتانى
ملك فاخذ براسى فاحتملنى حتى وضعنى بقاع من الأرض قد كانت معركة قال واذا
فيه عشرة آلاف قتيل قد بددت الطير والسباع لحومهم وفرقت أوصالهم قال لى إن
قوما يزعمون أن من مات منهم أو قتل فقد انفلت منى وذهبت عنه قدرتى فادعهم
قال حزقبل فدعوتهم فإذا كل عظم قد أقبل الى مفصله الذى انقطع منه ما الرجل
بصاحبه بأعرف من العظم بمفصله الذى فارق حتى أم بعضها بعظائم نبت عليها
اللحم ثم نبتت عليها العروق ثم انبسطت الجلود وأنا أنظر الى ذلك ثم قال
ادع أرواحهم قال فدعوتها فاذا كل روح قد أقبل الى جسده الذى فارق فلما
جلسوا سألتهم فيم كنتم قالوا إنا لما متنا وفارقنا الحياة لقينا ملك فقال
هلموا أعمالكم وخذوا أجوركم كذلك سنتنا فيكم وفيمن كان قبلكم وفيمن هو
كائن بعدكم قال فنظر فى أعمالنا فوجدنا نعبد الأوثان فسلط الدود على
أجسادنا وجعلت الأرواح تألمه وسلط الغم على أرواحنا وجعلت أجسادنا تألمه
فلم نزل كذلك نعذب حتى دعوتنا ولا يستريح عاشق الدنيا فقولهم كنا نعبد
الأوثان فسيان عبادة الاثمان وعبادة الأوثان تعس عبد الدينار تعس عبد
الدرهم
والمقصود أن محب الدنيا يعذب فى قبره ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى {فَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -225- الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ} قال بعض السلف يعذبهم بجمعها وتزهق أنفسهم بحبها وهم كافرون
بمنع حق الله فيها
فصل: وسابعها أن عاشقها ومحبها الذى يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق
وأقلهم عقلا اذ آثر الخيال على الحقيقة والمنام على اليقظة والظل الزائل
على النعيم الدائم والدار الفانية على الدار الباقية وباع حياة الأبد فى
ارغد عيش بحياة انما هى أحلام نوم أو كظل زائل ان اللبيب بمثلها لا يخدع
كما نزل أعرابى بقوم فقدموا له طعاما فأكل ثم قام الى ظل خيمة فنام
فاقتلعوا الخيمة فاصابته فانتبه وهو يقول:
وان امرؤ دنياه أكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور
وكان بعض السلف يتمثل بهذا البيت:
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها ان اغترارا بظل زائل حمق
قال يونس بن عبد الأعلى ما شبهت الدنيا الا كرجل نام فرأى فى منامه ما
يكره وما يحب فبينما هو كذلك انتبه وقال ابن أبى الدنيا حدثنى أبو على
الطائى حدثنا عبد الرحمن البخارى عن ليث قال رأى عيسى بن مريم الدنيا فى
صورة عجوز عليها من كل زينة فقال كم تزوجتى قالت لا أحصيهم قال فكلهم مات
عنك أو كلهم طلقك قالت بل كلهم قتلته فقال عيسى بؤسا لأزواجك الباقين كيف
لا يعتبرون بأزواجك الماضين تهلكينهم واحدا واحدا ولا يكونوا منك على حذر
أرى اشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوع
اراها وان كانت تحب فإنها سحابة صيف عن قليل تقشع
أشبه الأشياء بالدنيا الظل تحسب له حقيقة ثابتة وهو فى تقلص وانقباض
فتتبعه لتدركه فلا تلحقه وأشبه الأشياء بها السراب يحسبه الظمآن ماء حتى
إذا جاءه لم يجد شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وأشبه
الأشياء بها المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره فإذا
كَافِرُونَ} قال بعض السلف يعذبهم بجمعها وتزهق أنفسهم بحبها وهم كافرون
بمنع حق الله فيها
فصل: وسابعها أن عاشقها ومحبها الذى يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق
وأقلهم عقلا اذ آثر الخيال على الحقيقة والمنام على اليقظة والظل الزائل
على النعيم الدائم والدار الفانية على الدار الباقية وباع حياة الأبد فى
ارغد عيش بحياة انما هى أحلام نوم أو كظل زائل ان اللبيب بمثلها لا يخدع
كما نزل أعرابى بقوم فقدموا له طعاما فأكل ثم قام الى ظل خيمة فنام
فاقتلعوا الخيمة فاصابته فانتبه وهو يقول:
وان امرؤ دنياه أكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور
وكان بعض السلف يتمثل بهذا البيت:
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها ان اغترارا بظل زائل حمق
قال يونس بن عبد الأعلى ما شبهت الدنيا الا كرجل نام فرأى فى منامه ما
يكره وما يحب فبينما هو كذلك انتبه وقال ابن أبى الدنيا حدثنى أبو على
الطائى حدثنا عبد الرحمن البخارى عن ليث قال رأى عيسى بن مريم الدنيا فى
صورة عجوز عليها من كل زينة فقال كم تزوجتى قالت لا أحصيهم قال فكلهم مات
عنك أو كلهم طلقك قالت بل كلهم قتلته فقال عيسى بؤسا لأزواجك الباقين كيف
لا يعتبرون بأزواجك الماضين تهلكينهم واحدا واحدا ولا يكونوا منك على حذر
أرى اشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوع
اراها وان كانت تحب فإنها سحابة صيف عن قليل تقشع
أشبه الأشياء بالدنيا الظل تحسب له حقيقة ثابتة وهو فى تقلص وانقباض
فتتبعه لتدركه فلا تلحقه وأشبه الأشياء بها السراب يحسبه الظمآن ماء حتى
إذا جاءه لم يجد شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وأشبه
الأشياء بها المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره فإذا
ص -226- استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له وأشبه الأشياء بها عجوز
شوهاء قبيحة المنظر والمخبر غدارة بالأزواج تزينت للخطاب بكل زينة وسترت
كل قبيح فاغتر بها من لم يجاوز بصره ظاهرها فطلب النكاح فقالت لا مهر إلا
نقد الآخرة فإننا ضرتان واجتماعنا غير مأذون فيه ولا مستباح فآثر الخطاب
العاجلة وقالوا ما على من واصل حبيبته من جناح فلما كشف قناعها وحل إزارها
إذا كل آفة وبلية فمنهم من طلق واستراح ومنهم من اختار المقام فما استتمت
ليلة عرسه إلا بالعويل والصياح
تالله لقد اذن مؤذنها على رءوس الخلائق يحي على غير الفلاح فقام المجتهدون
والمسلمون لها فواصلوا فى طلبها الغدو بالرواح وسروا ليلهم فلم يحمد القوم
السرى عند الصباح طاروا فى صيدها فما رجع أحد منهم إلا وهو مكسور الجناح
فوقعوا فى شبكتها فأسلمتهم للذباح
قال ابن أبى الدنيا حدثنا محمد بن على بن شقيق حدثنا ابراهيم بن الأشعث
قال سمعت الفضيل بن عياض قال قال ابن عباس رضى الله عنهما يؤتى بالدنيا
يوم القيامة فى صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوه خلقها فتشرف على
الخلائق فيقال أتعرفون هذه فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه فيقال هذه
الدنيا التى تشاجرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم
واغتررتم ثم يقذف بها فى جهنم فتنادى يا رب أين أتباعى وأشياعى فيقول الله
عزوجل ألحقوا بها أتباعها وأشياعها
قال ابن أبى الدنيا وحدثنا اسحق بن اسماعيل حدثنا روح بن عبادة حدثنا عوف
عن أبى العلاء قال رأيت فى النوم عجوزا كبيرة عليها من كل زينة الدنيا
والناس عكوف عليها متعجبون ينظرون اليها فجئت فنظرت فتعجبت من نظرهم اليها
وإقبالهم عليها فقلت لها ويلك من أنت قالت أما تعرفنى قلت لا قالت أنا
الدنيا قال قلت أعوذ بالله من شرك قالت فان أحببت أن تعاذ من شرى فابغض
الدرهم.
ص -227- قال ابن أبي الدنيا وحدثنى ابراهيم بن سعيد الجوهرى
حدثنا سفيان بن عيينة قال قال لى أبو بكر بن عياش رأيت الدنيا فى النوم
عجوزا مشوها شمطاء تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون فلما
كانت بحذائى أقبلت على فقالت لو ظفرت بك صنعت بك ما صنعت بهؤلاء ثم بكى
أبو بكر قال وحدثنا محمد بن على حدثنا ابراهيم بن الاشعث قال سمعت الفضيل
قال بلغنى أن رجلا عرج بروحه قال فاذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل
زينة الحلى والثياب واذا هى لا يمر بها أحد إلا جرحته وإذا هى أدبرت كانت
أحسن شيء رآه الناس واذا أقبلت أقبح شئ عجوز شمطاء زرقاء عمشاء فقلت أعوذ
بالله قالت لا والله لا يعيذك الله حتى تبغض الدرهم قال قلت من أنت قالت
أنا الدنيا
ووصف على رضى الله عنه الدنيا فقال دار من صح فيها هرم ومن سقم فيها ندم
ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن فى حلالها الحساب وفى حرامها
النار وقال ابن مسعود رضى الله عنه الدنيا دارت من لا دار له ومال من لا
مال له ولها يجمع من لا عقل له
وذكر ابن أبى الدنيا أن الحسن كتب الى عمر بن عبد العزيز أما بعد فان
الدنيا دار ظعن ليست بدار اقامة وانما أنزل آدم اليها عقوبة فاحذرها يا
أمير المؤمنين فان الزاد منها تركها والغناء فيها فقرها لها فى كل حال
قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هى كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه
فكن فيها كمداو جرحاته يحتمى قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة
الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغرارة الخيالة الخداعة التى قد
تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وخيلت بآمالها وشوقت لخطابها فأصبحت كالعروس
المجلوة فالعيون اليها ناظرة والقلوب عليها والهه والنفوس لها عاشقة وهى
لأزواجها كلهم قاتله فلا الباقى بالماضى معتبر ولا الآخر بالاول مزدجر
والعارف بالله حين أخبره عنها مذكر
ص -228- فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد
فشغل فيها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت ندامته وكبرت حسرته واجتمع عليه
سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت ونغصه فذهب منها فى كمد ولم يدرك منها ما
طلب ولم يرح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد فاحذرها يا
أمير المؤمنين وأسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما
اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه السار فيها غذاء ضار وقد وصل الرخاء
منها بالبلاء وجعل البقاء فيها الى فناء فسرورها مشوب بالحزن ما يرجع منها
ما ولى فأدبر ولا يدرى ما هو آت فينتظر أمانيها كاذبة وآمالها باطلة
وصفوها كدر وعيشها نكد فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها
مثلا لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله عز وجل
عنها زاجر وفيها واعظ فما لها عند الله عزوجل قدر ولا وزن وما نظر اليها
منذ خلقها ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا تنقصه عند الله جناح
بعوضة فأبى أن يقبلها وكره أن يحب ما ابغض الله خالقه أو يرفع ماوضع مليكه
فزواها عن الصالحين اختيارا وبسطها لأعدائه اغترارا فيظن المغرور بها
القادر عليها أنه أكرم بها ونسى ما صنع الله بمحمد حين شد الحجر على بطنه
وقال الحسن أيضا ابن آدم لا تعلق قلبك فى الدنيا فتعلقه بشر معلق اقطع
حبالها وغلق أبوابها حسبك يا أبن آدم منها ما يبلغك المحل وكان يقول إن
قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنا ما تكون إذا
أهنتموها هيهات هيهات ذهبت الدنيا وبقيت الأعمال قلائد فى الاعناق
وقال المسيح عليه السلام لا تتخذوا الدنيا ربا فتخذكم عبيدا واعبروها ولا
تعمروها واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا ورب شهوة أورثت أهلها حزنا
طويلا ما سكنت الدنيا فى قلب عبد إلا التاط
ص -229- قلبه منها بثلاثة شغل لا ينفك عناؤه وفقر لا يدرك غناؤه
وأمل لا يدرك منتهاه الدنيا طالبه مطلوبه فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى
يستكمل فيها رزقه وطالب الدنيا تطلبه الاخرة حتى يجئ الموت فيأخذ بعنقه يا
معشر الحواريين ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنئ
الدين مع سلامة الدنيا
وقال ابن ابى الدنيا حدثنا هرون بن عبد الله حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا
مالك ابن دينار قال قال ابو هريرة رضى الله عنه الدنيا موقوفه بين السماء
والارض منذ خلقها الله تعالى الى يوم يفنيها تنادى ربها يا رب لم تبغضنى
فيقول اسكتى يا لا شئ اسكتى يا لا شئ وقال الفضيل تجئ الدنيا يوم القيامة
فتتبختر فى زينتها ونضرتها فتقول يا رب اجعلنى لأحسن عبادك دارا فيقول لا
أرضاك له أنت لا شئ فكونى هباء منثورا
فصل: فى ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا
المثال الاول: للعبد ثلاثة أحوال حالة لم يكن فيها شيئا وهى ما قبل أن
يوجد وحالة أخرى وهى من ساعة موته الى مالا نهايه له فى البقاء السرمدى
فلنفسه وجود بعد خروجها من البدن إما فى الجنة واما فى النار ثم تعاد الى
بدنه فيجازى بعمله ويسكن احدى الدارين فى خلود دائم ثم بين هاتين الحالتين
وهى ما بعد وجوده وما قبل موته حالة متوسطه وهى أيام حياته فلينظر الى
مقدار زمانها وأنسبه الى الحالتين يعلم أنه أقل من طرفة عين فى مقدار عمر
الدنيا ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن اليها ولم يبال كيف تقضت أيامه
فيها فى ضر وضيق أو فى سعه ورفاهية ولهذا لم يضع رسول الله لبنه على لبنه
ولا قصبه على قصبه وقال: "مالى وللدنيا انما مثلى ومثل الدنيا الا كراكب
قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها" وقال: "ما الدنيا فى الآخرة الا كما يجعل
أحدكم اصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع" والى هذا أشار المسيح عليه السلام
بقوله: "الدنيا
ص -230- قنطرة فاعبروها ولا تعمروها" وهذا مثل صحيح فإن الحياة
معبر الى الاخرة والمهد هو الركن الاول على أول القنطرة واللحد هو الركن
الثانى على آخرها ومن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثيها ومنهم
من لم يبق له الا خطوة واحدة وهو غافل عنها وكيفما كان فلا بد من العبور
فمن وقف يبنى على القنطرة ويزينها بأصناف الزينة وهو يستحث العبور فهو فى
غاية الجهل والحمق
فصل: المثال الثانى شهوات الدنيا فى القلب كشهوات الاطعمه فى المعدة وسوف
يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا فى قلبه من الكراهه والنتن والقبح ما
يجده للأطعمه اللذيذة إذا انتهت فى المعدة غايتها وكما أن الأطعمة كلما
كانت ألذ طعما وأكثر دسما وأكثر حلاوة كان رجيعها أقذر فكذلك كل شهوة كانت
فى النفس ألذ واقوى فالتأذى بها عند الموت أشد كما أن تفجع الإنسان
بمحبوبه إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب
وفى المسند أن النبى قال للضحاك بن سفيان: "ألست تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح
ثم تشرب عليه الماء واللبن قال بلى قال فإلى م يصير قال إلى ما قد علمت
قال فإن الله عزوجل ضرب مثل الدنيا لما يصير اليه طعام ابن آدم" كان بعض
السلف يقول لأصحابه انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم الى مزبلة فيقول
انظروا الى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم
المثال الثالث: لها ولأهلها فى اشتغالهم بنعيمها عن الآخرة وما يعقبهم من
الحسرات مثل أهلها فى غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم الى جزيرة
فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم الابطاء وخوفهم مرور السفينة
فتفرقوا فى نواحى الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر الى السفينة فصادف
المكان خاليا فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده ووقف بعضهم فى
الجزيرة ينظر الى أزهارها وأنوارها العجيبة ويسمع نغمات طيورها ويعجبه حسن
أحجارها ثم حدثته نفسه بفوت
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -231- السفينة وسرعة مرورها وخطر ذهابها فلم يصادف إلا مكانا
ضيقا فجلس فيه وأكب بعضهم على تلك الحجارة المستحسنة والأزهار الفائقة
فحمل منها حمله فلما جاء لم يجد فى السفينة الا مكانا ضعيفا وزاده حمله
ضيقا فصار محموله ثقلا عليه ووبالا ولم يقدر على نبذه بل لم يجد من حمله
بدا ولم يجد له فى السفينة موضعا فحمله على عتقه وندم على أخذه فلم تنفعه
الندامة ثم ذبلت الأزهار وتغيرت اراييجها وآذاه نتنها وتولج بعضهم فى تلك
الغياض ونسى السفينة وأبعد فى نزهته حتى أن الملاح نادى بالناس عند دفع
السفينة فلم يبلغه صوته لاشتغاله بملاهيه فهو تارة يتناول من الثمر وتارة
يشم تلك الانوار وتارة يعجب من حسن الأشجار وهو على ذلك خائف من سبع يخرج
عليه غير منفك من شوك يتشبث فى ثيابه ويدخل فى قدميه أو غصن يجرح بدنه أو
عوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته أو صوت هائل يفزعه ثم من هؤلاء من لحق
السفينة ولم يبق فيها موضع فمات على الساحل ومنهم من شغله لهوه فافترسته
السباع ونهشته الحيات ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك فهذا مثال أهل
الدنيا فى اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم وما
أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هشيما قد شغل باله وعوقه عن نجاته
ولم يصحبه
المثال الرابع: لاغترار الناس بالدينا وضعف ايمانهم بالآخرة قال ابن أبى
الدنيا حدثنا اسحق بن اسماعيل حدثنا روح بن عباده حدثنا هشام بن حسان عن
الحسن قال بلغنى أن رسول الله قال لاصحابه انما مثلى ومثلكم ومثل الدنيا
كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى اذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما
بقى أنفدوا الزاد وحسروا الظهر وبقوا بين ظهرانى المفازة لا زاد ولا حمولة
فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك اذ خرج عليهم رجل فى حلة يقطن رأسه فقالوا
ان هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا الامن قريب فلما انتهى اليهم قال يا
هؤلاء علام أنتم قالوا على
ص -232- ما ترى قال أرأيتم ان هديتكم على ماء رواه ورياض خضر ما
تجعلون لى قالوا لا نعصيك شيئا قال عهودكم ومواثيقكم بالله قال فأعطوه
عهودهم ومواثيقهم بالله لا يحصونه شيئا قال فأوردهم ماء ورياضا خضراء قال
فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال يا هؤلاء الرحيل قالوا الى أين قال الى ماء
ليس كمائكم ورياض ليست كرياضكم قال فقال جل القوم وهم أكثرهم والله ما
وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده وما نصنع بعيش هو خير من هذا قال وقالت
طائفة وهم أقلهم ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه
شيئا وقد صدقكم فى أول حديثه فو الله ليصدقنكم فى آخره فراح بمن اتبعه
وتخلف بقيتهم فبادرهم عدوهم فأصبحوا بين أسير وقتيل
المثال الخامس: للدنيا وأهلها ما مثلها به النبى كظل شجرة والمرء مسافر
فيها الى الله فاستظل فى ظل تلك الشجرة فى يوم صائف ثم راح وتركها فتأمل
حسن هذا المثال ومطابقته للواقع سواء فانها فى خضرتها كشجرة وفى سرعة
انقضائها وقبضها شيئا فشيئا كالظل والعبد مسافرا الى ربه والمسافر اذا رأى
شجرة فى يوم صائف لا يحسن به أن يبنى تحتها دارا ولا يتخذها قرارا بل
يستظل بها بقدر الحاجة ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق
المثال السادس: تمثيله لها بمدخل أصبعه فى اليم فالذى يرجع به أصبعه من
البحر هو مثل الدنيا بالنسبة الى الآخرة وهذا أيضا من أحسن الامثال فإن
الدنيا منقطعة فانية ولو كانت مدتها أكثر مما هى والاخرة أبدية لا انقطاع
لها ولا نسبة للمحصور الى غير المحصور بل لو فرض أن السموات والارض
مملوءتان خردلا وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة لفنى الخردل والاخرة لا
تفنى فنسبة الدنيا الى الآخرة فى التمثيل كنسبة خردلة واحدة الى ذلك
الخردل ولهذا لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر وأشجار الارض كلها أقلام
يكتب بها كلام الله لنفذت الابحر
ص -233- والاقلام ولم تنفد كلمات الله لأنها لا بداية لها ولا
نهايه لها والابحر والاقلام متناهيه
قال الإمام أحمد وغيره لم يزل الله متكلما إذا شاء وكماله المقدس مقتض
لكلامه وكماله من لوازم ذاته فلا يكون الا كاملا والمتكلم أكمل ممن لا
يتكلم وهو سبحانه لم يلحقه كلل ولا تعب ولا سآمه من الكلام وهو يخلق ويدبر
خلقه بكلماته فكلماته هى التى أوجد بها خلقه وأمره وذلك حقيقة ملكه
وربوبيته وإلهيته وهو لا يكون الا ربا ملكا إلها لا إله الا هو والمقصود
أن الدنيا نفس من أنفاس الآخرة وساعة من ساعاتها
المثال السابع: ما مثلها به فى الحديث المتفق على صحته من حديث أبى سعيد
الخدرى رضى الله عنه قال: "قام رسول الله فخطب الناس فقال لا والله ما
أخشى عليكم الا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا فقال رجل يا رسول الله أو
يأتى الخير بالشر فصمت رسول الله ثم قال كيف قلت قال يا رسول الله أو يأتى
الخير بالشر فقال رسول الله ان الخير لا يأتى الا بالخير وان مما ينبت
الربيع ما يقتل حبطا أو يلم الا آكله الخضر أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها
استقبلت الشمس فتطلت وبالت ثم اجترت فعادت فأكلت قمن أخذ مالا بحقه بورك
له فيه ومن أخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذى يأكل ولا يشبع" فأخبر أنه
انما يخاف عليهم الدنيا وسماها زهرة فشبهها بالزهر فى طيب رائحته وحسن
منظره وقله بقائه وأن وراءه ثمرا خيرا وابقى منه
وقوله ان مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم هذا من أحسن التمثيل
المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها وذلك أن الماشيه
يروقها نبت الربيع فتأكل منها بأعينها فربما هلكت حبطا والحبط
ص -234- انتفاخ بطن الدابه من الامتلاء أو من المرض يقال حبط
الرجل والدابه تحبط حبطا اذا أصابه ذلك
ولما أصاب الحارث بن مازن بن عمرو بن تميم ذلك فى سفره فمات حبطا فنسب
الحبطى كما يقال السلمى فكذلك الشرهه فى المال يقتله شرهه وحرصه فإن لم
يقتله قارب أن يقتله وهو قوله أو يلم وكثير من ارباب الأموال انما قتلتهم
أموالهم فانهم شرهوا فى جمعها واحتاج اليها غيرهم فلم يصلوا اليها إلا
بقتلهم أو ما يقاربه من اذلالهم وقهرهم
وقوله: الا آكلة الخضر هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته مثله بالشاة
الآكلة من الخضر بقدر حاجتها أكلت حتى اذا امتلأت خاصرتاها وفى لفظ آخر
امتدت خاصرتاها وانما تمتد من امتلائها من الطعام وثنى الخاصرتين لأنهما
جانبا البطن وفى قوله استقبلت عين الشمس فتلطت وبالت ثلاث فوائد احداها
انها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبله الشمس لتستمرئ بذلك
ما أكلته الثانية انها أعرضت عما يضرها من الشره فى المرعى وأقبلت على ما
ينفعها من استقبال الشمس التى يحصل لها بحرارتها انضاج ما أكلته واخراجه
الثالثة انها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى فى بطنها فاستراحت
بإخراجه ولو بقى فيها لقتلها فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت
هذه الشاة
وأول الحديث: مثل الشره فى جمع الدنيا الحريص على تحصيلها فمثاله مثال
الدابة التى حملها شره الأكل على أن يقتلها حبطا أو يلم إذا لم يقتلها فإن
الشره الحريص إما هالك وإما قريب من الهلاك فإن الربيع ينبت أنواع البقول
والعشب فتستكثر منه الدابة حتى ينتفخ بطنها لما جاوزت حد الاحتمال فتنشق
أمعاؤها وتهلك كذلك الذى يجمع الدنيا من غير حلها ويحبسها أو يصرفها فى
غير حقها وآخر الحديث مثل للمقتصد بآكلة الخضر الذى تنتفع الدابة بأكله
ولم يحملها شرهها وحرصها على تناولها منه
ص -235- فوق ما تحتمله بل أكلت بقدر حاجتها وهكذا هذا أخذ ما
يحتاج اليه ثم أقبل على ما ينفعه وضرب بول الدابة وثلطها مثلا لإخراجه
المال فى حقه حيث يكون حبسه وإمساكه مضرا به فنجا من وبال جمعه بأخذ قدر
حاجته منه ونجا من وبال إمساكه بإخراجه كما نجت الدابة من الهلاك بالبول
الثلط
وفى هذا الحديث اشارة الى الاعتدال والتوسط بين الشره فى المرعى القاتل
بكثرته وبين الاعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعا وتضمن الخبر أيضا إرشاد
المكثر من المال الى ما يحفظ عليه قوته وصحته فى بدنه وقلبه وهو الاخراج
منه وانفاقه ولا يحبسه فيضره حبسه وبالله التوفيق
المثال الثامن: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن سليمان بن يسار عن ميمونة
قالت قال رسول الله لعمرو بن العاص: "الدنيا خضرة حلوة فمن اتقى الله فيها
وأصلح والا فهو كالآكل ولا يشبع وبين الناس فى ذلك كبعد الكوكبين أحدهما
يطلع فى المشرق والآخر يغيب فى المغرب" فنبه بخضرتها على استحسان العيون
لها وبحلاوتها على استجلاء الصدور لها وبتلك الخضرة والحلاوة زينت لأهلها
وحببت اليهم لا سيما وهم مخلوقون منها وفيها كما قيل:
ونحن بنو الدنيا ومنها نباتنا وما أنت منه فهو شئ محبب
وجعل الناس فيها قسمين أحدهما مصلح متقى فهذا تقواه وإصلاحه لا يدعانه
ينهمك عليها ويشره فيها ويأخذها من غير حلها ويضعها فى غير حقها فان لم
يتق ويصلح صرف نهمته وقواه وحرصه الى تحصيلها فكان كالذى يأكل ولا يشبع
وهذا من أحسن الأمثلة فان المقصود من الأكل حفظ الصحة والقوة وذلك تابع
لقدر الحاجة وليس المقصود منه ذاته ونفسه فمن جعل نهمته فوق مقصوده لم
يشبع ولهذا قال الامام أحمد الدنيا قليلها يجزى وكثيرها لا يجزى وأخبر عن
تفاوت الناس فى المنزلتين أعنى منزلة التقوى والاصلاح ومنزلة الاكل
ص -236- والشره وأن بين الرجلين فى ذلك كما بين الكوكبين الغارب
فى الأفق والطالع منه وبين ذلك منازل متفاوتة
المثال التاسع: ما تقدم من حديث المستورد بن شداد قال كنت مع الركب الذين
وقفوا مع رسول الله على السخلة الميتة فقال رسول الله: "أترون هذه هانت
على أهلها حتى ألقوها قالوا ومن هوانها ألقوها يا رسول الله قال فو الذى
نفس محمد بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" قال الترمذى حديث
حسن صحيح فلم يقتصر على تمثيلها بالسخلة الميتة بل جعلها أهون على الله
منها
وفى مسند الامام أحمد فى هذا الحديث فو الذى نفسى بيده للدنيا عند الله
أهون عليه من تلك السخلة على أهلها فأكد ذلك بالقسم الصادق فإذا كان مثلها
عند الله أهون وأحقر من سخله ميته على أهلها فمحبها وعاشقها أهون على الله
من تلك السخلة وكونها سخله أهون عليهم من كونها شاة كبيرة لأن تلك ربما
انتفعوا بصوفها أو دبغوا جلدها وأما ولد شاة صغيرة ميت ففى غاية الهوان
والله المستعان
المثال العاشر: مثلها مثل البحر الذى لا بدل للخلق كلهم من ركوبه ليقطعوه
الى الساحل الذى فيه دورهم وأوطانهم ومستقرهم ولا يمكن قطعه الا فى سفينة
النجاة فارسل الله رسله لتعرف الأمم اتخاذ سفن النجاة وتأمرهم بعملها
وركوبها وهى طاعته وطاعة رسله وعبادته وحده واخلاص العمل له والتشمير
للآخرة وارادتها والسعى لها سعيها فنهض الموفقون وركبوا السفينه ورغبوا عن
خوض البحر لما علموا أنه لا يقطع خوضا ولا سباحه وأما الحمقاء فاستصعبوا
عمل السفينه وآلاتها والركوب فيها وقالوا نخوض البحر فاذا عجزنا تطباه
سباحة وهم أكثر أهل الدنيا فخاضوه فلما عجزوا عن الخوض أخذوا فى السباحه
حتى أدركهم الغرق ونجا أصحاب السفينة كما نجوا مع نوح عليه السلام وغرق
أهل الارض فتأمل هذا المثل وحال أهل الدنيا فيها يتبين لك مطابقته للواقع
ص -237- وقد ضرب هذا المثل للدنيا والآخرة والقدر والأمر فإن
القدر بحر والأمر فيه سفينة لا ينجو إلا من ركبها
المثال الحادي عشر: مثالها مثال اناء مملوء عسلا رآه الذباب فاقبل نحوه
فبعضه قعد على حافة الاناء وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته ثم طار
وبعضه حمله الشره على أن رمى بنفسه فى لجة الاناء ووسطه فلم يدعه انغماسه
فيه أن يتهنأ به الا قليلا حتى هلك فى وسطه
المثال الثانى عشر: مثال حب قد نثر على وجه الارض وجعلت كل حبة فى فخ وجعل
حول ذلك الحب حب ليس فى فخاخ فجاءت الطير فمنها من قنع بالجوانب ولم يرم
نفسه فى وسط الحب فأخذ حاجته ومضى ومنها من حمله الشره على اقتحام معظم
الحب فما استتم اللقاط الا وهو يصيح من أخذة الفخ له
المثال الثالث عشر: كمثل رجل أوقد نارا عظيمة فجعلت الفراش والجنادب يرون
ضوءها فيقصدونها ويتهافتون فيها ومن له علم بحالها جعل يستضىء ويستدفئ بها
من بعيد وقد أشار النبى الى هذا المثل بعينه فى الحديث الذى رواه مالك بن
اسماعيل عن حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما عن عمر رضى
الله عنه عن النبى قال: "انى ممسك بحجزكم عن النار وتتقاحمون فيها تقاحم
الفراش والجنادب ويوشك أن أرسل بحجزكم" وفى لفظ آخر: "مثلى ومثلكم كمثل
رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعلت الفراش والجنادب يتقاحمن فيها
فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تغلبونى وتتقاحمون فيها" وهذا المثال مطبق
على أهل الدنيا المنهمكين فيها فالرسل تدعوهم الى الاخرة وهم يتقاحمون فى
الدنيا تقاحم الفراش
المثال الرابع عشر: مثل قوم خرجوا فى سفر بأموالهم وأهليهم فمروا بواد
مشعب كثير المياه والفواكه فنزلوا به وضربوا خيمهم وبنوا هنالك الدور
والقصور فمر بهم رجل يعرفون نصحه وصدقه وأمانته فقال انى
صفحة 2 من اصل 3 • 1, 2, 3
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى